...

📥 للتعريف بالكتاب وتحميله

📥 للبحث في الآيات القرآنية وعناوينها

اختر جزءا من الكتاب:

اختر عنوانا من الكتاب:

27. المسيح وآياته

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈27⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 48 ـ 49]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

عمار:

روي عن عمار بن ياسر (ت 37 هـ) أنّه قال: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ﴾ من المائدة، ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾ منها، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا، فادخروا وخانوا، فجعلوا قردة وخنازير(1).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/١٢١.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ الطعام، والشيء يدخرونه في بيوتهم غيبا علمه الله إياه(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٢٧.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الْأَكْمَهَ﴾ الأعمى الممسوح العين(1).

2. روي أنّه قال: ﴿الْأَكْمَهَ﴾ الذي يولد وهو أعمى(2).

3. روي أنّه قال: إنما خلق عيسى طيرا واحدا، وهو الخفاش(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٥٥.

(2) ابن المنذر: ١/٢٠٩.

(3) الدرّ المنثور: أبي الشيخ.

ابن العاص:

روي عن ابن عمرو بن العاص (ت 77 هـ) أنّه قال: كان عيسى ابن مريم ـ وهو غلام ـ يلعب مع الصبيان، فكان يقول لأحدهم: تريد أن أخبرك بما خبأت لك أمك؟ فيقول: نعم، فيقول: خبأت لك كذا وكذا، فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها: أطعميني ما خبأت لي، قالت: وأي شيء خبأت لك؟ فيقول: كذا وكذا، فتقول: من أخبرك؟ فيقول: عيسى ابن مريم، فقالوا: والله، لئن تركتم هؤلاء الصبيان مع عيسى ليفسدنهم، فجمعوهم في بيت، وأغلقوا عليهم، فخرج عيسى يلتمسهم، فلم يجدهم، حتى سمع ضوضاءهم في بيت، فسأل عنهم، فقال: يا هؤلاء، كأن هؤلاء الصبيان، قالوا: لا، إنما هؤلاء قردة وخنازير، قال اللهم، اجعلهم قردة وخنازير، فكانوا كذلك(1).

__________

(1) ابن عساكر: ٤٧/٣٧٣.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: عندما ترعرع عيسى جاءت به أمه إلى الكتاب، فدفعته إليه، فقال: قل: باسم الله، فقال عيسى: باسم الله، فقال المعلم: قل: الرحمن، قال عيسى: الرحمن الرحيم، فقال المعلم: قل: أبو جاد، قال هو في كتاب، فقال عيسى: أتدري ما ألف؟ قال لا، قال آلاء الله، أتدري ما باء؟ قال لا، قال بهاء الله، أتدري ما جيم؟ قال لا، قال جلال الله، أتدري ما اللام؟ قال لا، قال آلاء الله، فجعل يفسر على هذا النحو، فقال المعلم: كيف أعلم من هو أعلم مني!؟ قالت: فدعه يقعد مع الصبيان، فكان يخبر الصبيان بما يأكلون، وما تدخر لهم أمهاتهم في بيوتهم(1).

2. روي أنّه قال: كان عيسى يقول للغلام في الكتاب: إن أهلك قد خبئوا لك كذا وكذا، فذلك قوله: ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾(2).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يعني: مصدقين(3).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٢٠٤.

(2) سعيد بن منصور: ٤٩٩.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٦٥٧.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿الْأَكْمَهَ﴾ هو الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٧١.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الْأَكْمَهَ﴾ الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ﴾ بما أكلتم البارحة من طعام، ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾ يعني: ما خبأتم منه، عيسى يقوله(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها، وما أعطاه ربه(3).

__________

(1) الفريابي كما في التغليق: ٤/٣٥.

(2) تفسير مجاهد: ص٢٥٣.

(3) ابن جرير: ٥/٤٣٣.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿الْأَكْمَهَ﴾ الأعمش(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٢٣.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ ما تخبئون مخافة الذي يمسك أن لا يخلفه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا﴾: يعني: حماما(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٢٨.

(2) ابن المنذر: ١/٢٠٨.

ابن قرة:

روي عن معاوية بن قرة (ت 113 هـ) أنّه قال: سألت بنو إسرائيل عيسى، فقالوا: إن سام بن نوح دفن ههنا قريبا، فادع الله أن يبعثه لنا، فهتف نبي الله، فلم ير شيئا، وهتف، فلم ير شيئا، فقالوا: لقد دفن ههنا قريبا، فهتف نبي الله، فخرج أشمط، قالوا: إنه قد مات وهو شاب، فما هذا البياض؟ قال ظننت أنها الصيحة؛ ففزعت(1).

__________

(1) ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت: ٥٨.

منبه:

روي عن وهب بن منبه (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر ـ وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر ـ: أن اطلعي به إلى الشام، ففعلت، فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين، ثم رفعه الله إليه، وزعم وهب: أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى يمشى إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله تعالى(1).

2. روي أنّه قال: كان دعاء عيسى الذي يدعو به للمرضى والزمنى والعميان والمجانين وغيرهم: اللهم، أنت إله من في السماء، وإله من في الأرض، لا إله فيهما غيرك، وأنت جبار من في السماء، وجبار من في الأرض، لا جبار فيهما غيرك، وأنت ملك من في السماء، وملك من في الأرض، لا ملك فيهما غيرك، قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء، وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء، أسألك باسمك الكريم، ووجهك المنير، وملكك القديم، إنك على كل شيء قدير، قال وهب: هذا للفزع والمجنون، يقرأ عليه، ويكتب له، ويسقى ماءه ـ إن شاء الله تعالى ـ(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٢٤.

(2) ابن عساكر: ٤٧/٣٩٠.

ابن الزبير:

روي عن محمد بن جعفر بن الزبير (ت 115 هـ) أنّه قال: أخبرها ـ يعني: أخبر الله مريم ـ ما يريد به، فقال: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ﴾ التي كانت فيهم من عهد موسى، ﴿وَالْإِنْجِيلِ﴾ كتابا آخر أحدثه إليه، لم يكن عندهم علمه إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء قبله(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤١٧.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان عيسى يقرأ التوراة والإنجيل(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ﴾ الأكمه: الذي تلده أمه وهو مضموم العينين(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾، قال أنبئكم بما تأكلون من المائدة، وما تدخرون منها، قال وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا، فادخروا وخانوا، فجعلوا خنازير حين ادخروا، فذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: ١١٥] (3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾، فكان القوم لما سألوا المائدة، فكانت خوانا ينزل عليه أينما كانوا ثمرا من ثمار الجنة، فأمر القوم أن لا يخونوا فيه، ولا يخبئوا، ولا يدخروا لغد، بلاء ابتلاهم الله به، فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئا أنبأهم به عيسى ابن مريم، فقال: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾(4).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤١٧.

(2) ابن جرير: ٥/٤٢١.

(3) عبد الرزاق في تفسيره: ١/١٢٢.

(4) ابن جرير: ٥/٤٢٩.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ﴾ فالأكمه: الذي تلده أمّه أعمى، والجمع الكمه(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 110.

البناني:

روي عن ثابت البناني (ت 127 هـ) أنّه قال: انطلق عيسى عليه السلام يزور أخا له، فاستقبله إنسان، فقال: إن أخاك قد مات، فرجع، فسمع بنات أخيه برجوعه عنهن، فأتينه، فقلن: يا رسول الله، رجوعك عنا أشد علينا من موت أبينا، قال فانطلقن، فأرينني قبره، فانطلقن حتى أرينه قبره، قال فصوت به، فخرج وهو أشيب، فقال: ألست فلانا؟ قال بلى، قال فما الذي أرى بك؟ قال سمعت صوتك فحسبته الصيحة(1).

__________

(1) أحمد في الزهد: ص٩١.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: كان ـ يعني: عيسى ابن مريم ـ يحدث الغلمان وهو معهم في الكتاب بما يصنع آباؤهم، وبما يرفعون لهم، وبما يأكلون، ويقول للغلام: انطلق، فقد رفع لك أهلك كذا وكذا، وهم يأكلون كذا وكذا، فينطلق الصبي فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء، فيقولون له: من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى، فذلك قول الله تعالى: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾، فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم، فقالوا: ليس هم هاهنا، فقال: ما في هذا البيت؟ فقالوا: خنازير، قال عيسى: كذلك يكونون، ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير، فذلك قوله: ﴿على لسان داوود وعيسى ابن مريم﴾ [المائدة: ٧٨] (1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٢٦.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾: العقل في الدين(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٥٤.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿بِمَا تَأْكُلُونَ﴾: ما أكلتم البارحة من طعام، وما خبأتم منه(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٢٨.

الحذّاء:

روي عن خالد الحذاء (ت 142 هـ)، قال: كان عيسى ابن مريم إذا سرح رسله يحيون الموتى يقول لهم: قولوا كذا، قولوا كذا، فإذا وجدتم قشعريرة ودمعة فادعوا عند ذلك(1).

__________

(1) أحمد في الزهد: ص٥٩.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما أبرأ عيسى الأكمه والأبرص، وأحيا الموتى؛ قالوا: هذا سحر، ولكن أخبرنا بما نأكل، وما ندخر، فكان يخبر الرجل بما أكل من غدائه، وبما يأكل في عشائه(1).

2. روي أنّه قال: كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات بـ: يا حي، يا قيوم(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٧٣.

ليث:

روي عن ليث بن أبي سليم (ت 148 هـ) أنّه قال: صحب رجل عيسى ابن مريم، فانطلقا، فانتهيا إلى شط نهر، فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة، فأكلا رغيفين، وبقي رغيف، فقام عيسى إلى النهر يشرب، ثم رجع فلم يجد الرغيف، فقال للرجل: من أكل الرغيف؟ قال لا أدري، فانطلق معه، فرأى ظبية معها خشفان، فدعا أحدهما، فأتاه، فذبحه، واشتوى، وأكلا، ثم قال للخشف: قم بإذن الله، فقام، فقال للرجل: أسألك بالذي أراك هذه الآية، من أكل الرغيف؟ قال لا أدري، ثم انتهيا إلى البحر، فأخذ عيسى بيد الرجل فمشى على الماء، ثم قال أنشدك بالذي أراك هذه الآية، من أخذ الرغيف؟ قال لا أدري، ثم انتهيا إلى مغارة، وأخذ عيسى ترابا وطينا، فقال: كن ذهبا بإذن الله، فصار ذهبا، فقسمه ثلاثة أثلاث، فقال: ثلث لك، وثلث لي، وثلث لمن أخذ الرغيف، قال أنا أخذته، قال فكله لك، وفارقه عيسى، فانتهى إليه رجلان، فأرادا أن يأخذاه ويقتلاه، قال هو بيننا أثلاثا، فابعثوا أحدكم إلى القرية يشتري لنا طعاما، فبعثوا أحدهم، فقال الذي بعث: لأي شيء أقاسم هؤلاء المال؟ ولكن أضع في الطعام سما، فأقتلهم، وقال ذانك: لأي شيء نعطي هذا ثلث المال؟ ولكن إذا رجع قتلناه، فلما رجع إليهم قتلوه، وأكلا الطعام فماتا، فبقي ذلك المال في المغارة، وأولئك الثلاثة قتلى عنده(1).

__________

(1) ابن عساكر: ٤٧/٣٩٤.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه سئل: هل كان عيسى بن مريم أحيى أحدا بعد موته حتى كان له أكل ورزق ومدة وولد؟ فقال: نعم، إنه كان له صديق مؤاخ له في الله، وكان عيسى يمر به فينزل عليه، وإن عيسى غاب عنه حينا ثم مر به ليسلم عليه، فخرجت إليه أمه لتسلم عليه، فسألها عنه، فقالت أمه: مات، يا رسول الله، فقال لها: أتحبين أن تريه، قالت: نعم، قال لها: إذا كان غدا أتيتك حتى أحييه لك بإذن الله تعالى، فلما كان من الغد أتاها، فقال لها: انطلقي معي إلى قبره، فانطلقا حتى أتيا قبره، فوقف عيسى ثم دعا الله فانفرج القبر، وخرج ابنها حيا، فلما رأته امه ورآها بكيا فرحمهما عيسى فقال له: أتحب أن تبقى مع أمك في الدنيا؟ قال يا رسول الله، بأكل وبرزق ومدة، أو بغير مدة ولا رزق ولا أكل؟ فقال له عيسى: بل برزق وأكل ومدة، تعمر عشرين سنة، وتزوج ويولد لك قال فنعم إذن، فدفعه عيسى إلى أمه، فعاش عشرين سنة وولد له(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/174.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ﴾، قالوا: أي شيء يطير أشد خلقا؟ ليخلق عليه عيسى، قالوا: الخفاش، وهو الوطواط(1).

2. روي أنّه قال: أن عيسى قال أي الطير أشد خلقا؟ قالوا: الخفاش؛ إنما هو لحم، ففعل(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٢٠.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿و﴾ يجعله ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، يعني: بعلامة، ثم بين الآية: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ﴾ الذي ولدته أمه أعمى، الذي لم ير النور قط، فيرد الله بصره، ﴿و﴾ أبرئ: ﴿الأبرص﴾ فيبرأ بإذن الله(2).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ يعني: لعلامة ﴿لَكُمْ﴾ فيما أخبرتكم به، ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يعني: مصدقين بعيسى؛ بأنه رسول(2).

4. روي أنّه قال: وقال عيسى عليه السلام: أرأيتم إن أنا أخبرتكم: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ﴾ في بيوتكم من الطعام، فيها تقديم، ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ يعني: وما ترفعون في غد، تعلمون أني صادق؟ قالوا: نعم، قال عيسى عليه السلام: فلان، أكلت كذا وكذا، وشربت كذا وكذا، وأنت ـ يا فلان ـ أكلت كذا وكذا، وأنت يا فلان، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(2).

5. روي أنّه قال: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ﴾ يعني: أجعل لكم ﴿مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا﴾ فخلق الخفاش ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾؛ لأنه أشد الخلق؛ إنما هو لحم وشيء يطير بغير ريش، فطار بإذن الله(1).

6. روي أنّه قال: ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾ فتعيش، ففعل ذلك وهم ينظرون، وكان صنيعه هذا آية من الله تعالى بأنه نبي ورسول إلى بني إسرائيل، فأحيا سام بن نوح بن لمك من الموت بإذن الله، فقالوا له: إن هذا سحر، فأرنا آية نعلم أنك صادق(2).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٦.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٧.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما بلغ عيسى تسع سنين أو عشرا أو نحو ذلك؛ أدخلته أمه الكتاب فيما يزعمون، فكان عند رجل من المكتبين يعلمه كما يعلم الغلمان، فلا يذهب يعلمه شيئا مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه، فيقول: ألا تعجبون لابن هذه الأرملة! ما أذهب أعلمه شيئا إلا وجدته أعلم به مني(1).

2. روي أنّه قال: أن عيسى جلس يوما مع غلمان من الكتاب، فأخذ طينا، ثم قال أجعل لكم من هذا الطين طائرا؟ قالوا: وتستطيع ذلك؟ قال نعم، بإذن ربي، ثم هيأه، حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال كن طائرا بإذن الله، فخرج يطير من بين كفيه، وخرج الغلمان بذلك من أمره، فذكروه لمعلمهم، فأفشوه في الناس، وترعرع، فهمت به بنو إسرائيل، فلما خافت أمه عليه حملته على حمير لها، ثم خرجت به هاربة(2).

3. روي أنّه قال في ذكر عيسى: وترعرع، وهمت به بنو إسرائيل، فلما خافت عليه أمه احتملته على حمار لها، ثم خرجت به هاربة منهم، حتى انتهت به إلى مصر، فأقامت به اثنتي عشرة سنة ـ فيما يذكرون ـ حتى بلغ، فأحدث الله إليه الإنجيل، وعلمه التوراة مع الإنجيل، وأعطاه إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والعلم بالغيوب مما يخفون في بيوتهم(3).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٢٦.

(2) ابن جرير: ٥/٤١٩.

(3) ابن المنذر: ١/٢١٢.

الجواد:

روي عن الامام الجواد (ت 220 هـ)، في قوله تعالى: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾: إن عيسى كان يقول لبني إسرائيل: إني رسول الله إليكم ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ﴾ الأكمه هو الأعمى، قالوا: ما نرى الذي تصنع إلا سحرا فأرنا آية نعلم أنك صادق؟ قال أرأيتم إن أخبرتكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، يقول: ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا، وما ادخرتم إلى الليل، تعلمون أني صادق؟ قالوا: نعم، فكان يقول للرجل: أكلت كذا وكذا، وشربت كذا وكذا، ورفعت كذا وكذا، فمنهم من يقبل منه فيؤمن، ومنهم من ينكر فيكفر، وكان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين(1).

__________

(1) تفسير القمّي: 1/102.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾ بشارة منه لها ـ أيضا ـ: أنه يعلمه الكتاب، ثم اختلف في‏ ﴿الْكِتَابِ﴾ قيل: ﴿الْكِتَابِ﴾ الخط هاهنا يخط بيده‏، ويحتمل‏ ﴿الْكِتَابِ﴾ الكتاب نفسه: التوراة والإنجيل‏، ويحتمل‏ ﴿الْكِتَابِ﴾ كتب النبيين‏.

2. ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ قيل: الحكم بين الخلق، وقيل: الفقه، وقيل: الحلال والحرام‏، وقيل: السنة، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ هي الإصابة، وقد ذكرناه فيما تقدم‏.

3. ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي: جعله رسولا إلى بنى إسرائيل، وهذا ـ أيضا ـ بشارة لها منه، وكان عيسى عليه السلام من أوّل أمره إلى آخره آية؛ لأنه ولد من غير أب، على خلاف ما كان سائر البشر، يكلم الناس في المهد، وأقرّ بالعبودية له، ولم يكن لأحد من البشر ذلك، وإبراء الأكمه والأبرص‏، وإحياء الموتى‏، وأنباء ما كانوا يأكلون ويدّخرون‏، وما ذلك، ثم ألقى شبهه على غيره؛ فقتل به، ورفع هو إلى السماء؛ وذلك كله آية، وكانت آياته كلها حسّية يعلمها كل أحد، وآيات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أكمل التحيات ـ كانت حسّية وعقلية:

أ. أمّا الحسّية: فهو انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه‏، وكلام الشاة المسمومة، وقطع مسيرة شهر في ليلة، وغير ذلك من الآيات مما يكثر عددها؛ هذه كلها كانت حسّية.

ب. وأما العقلية: فهذا القرآن الذي نزل عليه، وهو بين أظهرهم، وهم فصحاء وبلغاء وحكماء، يتلى عليهم: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: 23]، وقوله: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88]، فلو كان بهم طاقة أو قدرة أن يأتوا بمثله، لجهدوا كل جهد، وتكلفوا كل تكلف؛ حتى يطفئوا هذا النور؛ ليتخلصوا عن قتلهم، وسبي ذراريهم، واستحياء نسائهم، فلمّا لم يفعلوا ذلك ـ دلّ أنه كان آية معجزة، عجزوا جميعا عن إتيان مثله، فأيّ‏ الأنبياء، ولكن تظهر على أيديهم.

4. إنما لم يجز إضافة التخليق إلى الخلق:

أ. لما ذكرنا: أنه إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وذلك ليس إلى الخلق.

ب. الثاني: أن التخليق هو إخراج الفعل على التقدير، وفعل العبد إنما يخرج على تقدير الله، لا يخرج على تقديره؛ لذلك لم يجز إضافة ذلك إلى الخلق، إلا على المجاز.

5. الخلق: اسم المجاز والحقيقة، والتخليق: فعل حقيقة خاصّة، وآيات الأنبياء ـ عليهم السلام ـ هي التي تخرج على خلاف الأمر المعتاد فيما بينهم، يجريها الله ـ سبحانه وتعالى ـ على أيديهم؛ ليعلموا أن ذلك لم يكن بهم، إنما كان ذلك بالمرسل الذي أرسلهم؛ ليدل على صدقهم، ولا قوة إلا بالله.

6. إبراء الأكمه والأبرص: هو من آيات النبوة؛ لخروجها عن الأمر المعتاد فيما بينهم.

7. سؤال وإشكال: إن إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص من آيات النبوة؛ لعجزهم عن إتيان مثله، وخروجه عن المعتاد فيما بينهم، ولكن أنباء ما يأكلون وما يدّخرون لم كان من آيات النبوة، ويجوز أن يكون ذلك من منجّم‏؟ والجواب: له جوابان ـ إن كان يكون مثل ذلك بالنجوم ـ:

أ. أحدهما: أنه مضموم إلى الآيات؛ فصار آية بما ضم إليها.

ب. الثاني: أن هذا ـ وإن كان يعلم بالنجوم ـ فعيسى ـ عليه السلام‏ ـ لما علم قومه أنه لم يختلف إلى أحد في تعلم علم النجوم، ثم عرف ذلك وأنبأهم بذلك ـ دل أنه إنما علم ذلك بالله؛ فكان آية، وبالله التوفيق‏.

8. مع ما كان في قومه أطباء وحكماء وبصراء ـ لم يدّع أحد شيئا من هذه الآيات التي جاء بها عيسى عليه السلام دل ترك اشتغالهم في ذلك على إقرارهم بأنها آية سماوية، لكنهم تعاندوا وكابروا فلم يؤمنوا به.

‏9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾:

أ. قيل: بأمر الله.

ب. وقيل: بمشيئة الله.

10. اختلف في ﴿الْأَكْمَهَ﴾:

أ. عن مجاهد، قال (الأكمه: الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل)

ب. وعن ابن عباس: (الأكمه: الأعمى الممسوح العين)

ج. وقيل: هو الذي ولد من أمّه أعمى‏ لا يتكلف أحد من] الأطباء إبراء مثله، ولا اشتغل بدوائه، دل أنه عرف ذلك بالله تعالى، والأطباء يتكلفون في دفع العلل العارضة الحادثة، وأما ما كان خلقة من جبلّة ـ فلا.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾:

أ. قيل: قال إن هذا آية لكم؛ إن كنتم صدقتم أني رسول الله إليكم.

ب. وقيل: قال إن في ذلك لآية لكم في رسالتي؛ إن كنتم مؤمنين بالمرسل.

ج. ويحتمل‏ ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ﴾ أي: بالآيات أنها تعرّف ما جعلن له.

12. ﴿جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ الآية: ما ذكر، ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ يحتمل: فاتقوا الله في تكذيبي في الآيات، و﴿وَأَطِيعُونِ﴾ في تصديقي، ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ ظاهر، قد ذكرنا فيما تقدم.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/374.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾، أي كمثل صورة الطائر.. ومعنى قوله: ﴿تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ أي وما تخبون في منازلكم.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 259.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ قرأ أهل المدينة، وعاصم، ويعقوب (ويعلمه) بالياء الباقون بالنون، فمن قرأ بالياء حمله على (يخلق ما يشاء) ويعلمه، ومن قرأ بالنون حمله على قوله: ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾، والنون أفخم في الاخبار، لأن الياء حكاية عن الملك.

2. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾ قال ابن جريج: الكتابة بيده، وقال أبو علي: كتاب آخر غير التوراة، والإنجيل نحو الزبور أو غيره.

3. سؤال وإشكال: لم أفرد التوراة والإنجيل بالذكر مع دخولهما في الحكمة؟ والجواب: إنما أفردهما بالذكر تنبيهاً على فضلهما مع جلالة موقعهما كما قال: ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾

4. موضع ﴿وَيُعَلِّمُهُ﴾ من الاعراب يحتمل أن يكون نصباً بالعطف على وجيهاً، ويحتمل أن يكون لا موضع له من الاعراب، لأنه عطف على جملة لا موضع لها، وهي قوله: ﴿كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾، وقال بعضهم: هو عطف على‏ ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ قال الرماني: هذا لا يجوز، لأنه يخرجه من معنى البشارة به لمريم، وإنما هو محمول على مشاكلته لا على جهة العطف عليه، وعد أهل الكوفة التوراة والإنجيل، ولم يعدوا رسولا إلى بني إسرائيل لتنكب الاستئناف بأن المفتوحة، والاستئناف بذكر المنصوب كثير في الكلام، وأما أهل المدينة فإنما طلبوا تمام صفة المسيح، لأن تقديره ومعلماً كذا ورسولا إلى كذا.

5. ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قرأ أهل المدينة ويعقوب (طائراً بإذن الله) الباقون، (طيراً) وهو الأجود، لأنه اسم جنس وطائر صفة، وقرأ نافع وحده (إني أخلق) بكسر الهمزة، الباقون بفتحها.

6. يحتمل نصب قوله: ﴿وَرَسُولًا﴾ وجهين:

أ. أحدهما: بتقدير ويجعله رسولا فحذف لدلالة الاشارة عليه.

ب. الثاني: أن يكون نصباً على الحال عطفاً على وجيهاً، لا أنه في ذلك الوقت يكون رسولا بمعنى أنه يرسل رسولا، وقال الزجاج وجهاً.

ج. ثالثاً بمعنى يكلمهم رسولا في المهد.

7. ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ولو قرئت (إني) بالكسر (قد جئتكم) كان صواباً، والمعنى يقول‏ ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي بعلامة تدل على ثبوت رسالتي.

8. موضع ﴿أَنِّي أَخْلُقُ﴾ يحتمل أن يكون خفضاً ورفعاً، فمن قرأ بالخفض فعلى البدل من آية بمعنى جئتكم بأني أخلق لكم من الطين، والرفع أريد به الآية إني أخلق من الطين، وجائز أن يكون‏ ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ﴾ مخبرهم بهذه الآية ما هي أي أقول لكم.

9. ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ المراد بالخلق التقدير دون الأحداث، يقال في التفسير أنه صنع من الطين كهيئة الخفاش، ونفخ فيه فصار طائراً، وجاز أن يقول فيه للفظ الطين، وقال في‏ موضع آخر، ﴿فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي﴾ للفظ الهيئة.

10. الطين معروف، ومنه طنت الكتاب طيناً أي جعلت عليه طيناً، لأختمه، وطينت البيت تطييناً، والطيانة: حرفة الطيان والطينة: قطعة من طين يختم بها الصك ونحوه.

11. الهيأة: الحال الظاهرة هاء فلان يهاء هيئة، ومن قرأ (هيئت) معناه تهيأت لك فأما ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ فهلم لك والهيئ: الحسن الهيئة من كل شيء، والمهاياة: أمر يتهايا عليه القوم فيتراضون به.

12. ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ النفخ معروف تقول نفخ ينفخ نفخاً، وانتفخ انتفاخاً، ونفخه نفخاً، والنفاخة للماء، والنفخة نحو الورم في البطن، والنفخة: نفخة الصور يوم القيامة، والمنفاخ كير الحداد، وأصل الباب نفخ الريح التي تخرج من الفم.

13. معنى‏ ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ يعني أنفخ فيه الروح وهو جسم رقيق كالريح، وهو غير الحياة، لأن الجسم إنما يحيا بما يفعله الله تعالى فيه من الحياة، لأن الأجسام كلها متماثلة يحيي الله منها ما يشاء.

14. إنما قيد قوله: ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾ ولم يقيد قوله: ﴿أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ بذكر إذن الله لينبه بذكر الاذن أنه من فعل الله دون عيسى، وأما التصوير والنفخ، ففعله، لأنه مما يدخل تحت مقدور القدر، وليس كذلك انقلاب الجماد حيواناً فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه تعالى.

15. {وَأُحْيِ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِ اللهِ} على وجه المجاز إضافة إلى نفسه وحقيقته ادعوا الله باحياء الموتى فيحييهم الله فيحيون بإذنه.

16. ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ﴾ فالبرء والشفاء والعافية نظائر في اللغة، والأكمه الذي يولد أعمى في قول قتادة، وأبي علي وقال الحسن، والسدي: هو الأعمى، والكمه عند العرب العمى كمه يكمه كمهاً قال سويد بن أبي كاهل:

çكمهت عيناه حتى ابيضتا...فهو يلحي نفسه لما نزع‏é

17. ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ أي أخبركم وأعلمكم بالذي تأكلونه، فتكون (ما) بمعنى الذي ويحتمل أن تكون (ما) مع ما بعدها بمنزلة المصدر، ويكون تقديره أخبركم بأكلكم، والأول أجود لقوله: ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾ ويحتمل أن يكون المراد أيضاً وادخاركم.

18. الاذخار الافتعال من الذخر ذخرت أذخر ذخراً وأذخرت اذخاراً، وأصل الباب الذخر، وهو خب‏ء الشيء لتأتيه، وإنما أبدلت الدال من الذال في (تدخرون) لتعديل الحروف أو أبدلت الدال من الذال بوجهين الجهر واختلاف المخرج، فبدل ذلك بالدال، لأنها موافقة للتاء بالمخرج والدال بالجهر، فلذلك كان الاختيار، وكان يجوز تذخرون بالذال على الأصل ونظير ذلك في التعديل بين الحروف وازدجر، فمن اضطر، واصطبر، لموافقة الطاء للضاد والضاد بالاستعلاء والاطباق، ولم يجز إدغام الزاي في الدال، لأنها من حروف الصفير، ولكن يجوز مزجر، ولم يدغم الضاد في الطاء لأن فيها استطالة، والمجهور من الحروف: كل حرف أشبع الاعتماد عليه في موضعه ومنع النفس أن يجري معه، والمهموس: كل حرف أضعف الاعتماد عليه في موضعه وجرى معه النفس.

19. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وإن كانت آية للجميع، لأن معناه‏ ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بالله إذ كان لا يصح العلم بمدلول المعجزة إلا لمن آمن بالله، لأن العلم بالمرسل قبل العلم بالرسول، وإنما يقال هي آية للجميع بأن يقدموا قبل ذلك الاستدلال على التوحيد، وأيضاً بأن من استحق وصفه بأنه مؤمن علم أن ذلك من آيات الله عز وجل.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/466.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الطين معروف، يقال: طَيَّنتُ الكتاب جعلت عليه طينًا.

ب. الهيئة: الحال الظاهرة هَاءَ فلان يَهَاءُ هيئة، فالهيِّئُ بالتشديد الحسن الهيئة.

ج. النفخ: ريح يخرج من الفم، نفخ ينفخ نفخًا.

د. الطير جمع، واحده: طائر نحو: زائر وزَوْرٍ، وسافر وسَفْر.

هـ. البُرْءُ: الشفاء.

و. الأكمه في اللغة الأعمى يقال: كَمِهَ يَكْمَهُ كَمَهًا.

ز. البَرَصُ: الداء المعروف، وكان يتطير منه العرب، وإذا استحكم فلا برء له.

ح. الادخار: افتعال من الدخر، دَخَرْتُ أَدْخَرُ دَخَرًا، وادخرت ادخارًا، وادَّخَرَ: خبأ الشيء لنائبة، ووزن يدخرون يَذْتخرُونَ يفتعلون، فأبدلت مكان التاء دالاً؛ لأن ما قبلها ذال، ثم قلبت الذال دالاً، وأدغمتْ، فصارت يَدَّخرون.

2. لما ذكر تعالى بقية بشارة مريم، وصفة المسيح فقال: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾:

أ. قيل: الكتابة بيده، عن ابن جريج.

ب. وقيل: إنه تعالى قسم الخط عشرة أجزاء فجعل للخلق جزءًا ولعيسى تسعة أجزاء.

ج. وقيل: كتابًا آخر سوى التوراة والإنجيل نحو الزبور أو غيره، عن أبي علي، وهو أليق بالظاهر، وأشبه بالنبوة.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾:

أ. قيل: العلم.

ب. وقيل: الإصابة من القول والعمل.

4. ﴿وَرَسُولًا﴾ قطع ههنا قصة ولادة مريم، وقصه في سورة مريم، وابتدأ بقصة عيسى فقال: ﴿وَرَسُولًا﴾ أي ويجعله رسولاً ﴿إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وكان (أول أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى) عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

5. ﴿إِنِّي﴾ أي قال لهم لما بعث بأني ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ أي حجة وعلامة دالة على نبوتي فقالوا: ما هي؟ فقال: ﴿إِنِّي﴾ بالكسر على الاستئناف، وبالفتح أي بأني أخلق أقدر ﴿مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ كصورة الطير ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ أي في الطير الريح ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا﴾ حيًّا يطير، روي أنه قيل: أي الطير أعجب؟ قالوا: الخفاش يحيض ولا يبيض ويطير، مع عجيب خلقته، فأخذ طينًا، وهيأ صورة خفاش ونفخ فيه وطار والناس ينظرون إليه، فلما غاب عن أعينهم سقط ميتًا.

6. ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ تعالى يعني أنه يصير حيًّا بفعله؛ لأن الحياة وآلات الطيران لا يقدر عليها غير الله تعالى، وإنما أحياه عند نفخ عيسى معجزة له، فالنفخ والتصوير فِعْلُ عيسى فقط، وأما الحياة وآلات الطيران والطين فمن فعل الله تعالى، وأما الطيران فمن فعل الطير، وإنما قال: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ ليعلم أنه فعله، وليس بفعل لعيسى.

7. ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ﴾ يقال: أبرأت الرجل من الداء فبرئ، أي بلَّ، والأكمه:

أ. قيل: الذي ولد أعمى، عن ابن عباس وقتادة.

ب. وقيل: هو الأعمى، عن الحسن والسدي.

ج. وقيل: الأعمش، عن عكرمة.

د. وقيل: الذي يبصر بالنهار دون الليل، عن مجاهد والضحاك.

8. ﴿وَالْأَبْرَصَ﴾ الذي به برص ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى﴾ وكل ذلك توسع ومجاز؛ لأن الإبراء والإحياء فعل الله تعالى، وحقيقة الكلام أدعو الله بإحياء الموتى فيحييهم ويحيون بأمره، وأدعو الله بالبرء فيبرئهم، وقيل: إنه أحيا أربعة أنفس: عازر بعد ما مات وقُبِرَ بثلاثة أيام، وسام بن نوح، وابن العجوز، وابنه العاشر.

9. إنما خص عيسى عليه السلام بهذه الأشياء؛ لأن الغالب على الناس في زمانه كان الطب والمعالجات، فأراهم المعجزة من جنس ذلك، ويعلم الإعجاز كما أن الغالب في زمن موسى كان السحر، فأتاهم من جنسه بما أعجزهم، وكان الغالب في زمن نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم الفصاحة والبيان، فأتاهم بمعجزة من جنس صناعتهم، ومثل هذا يكون غاية الإعجاز: أن يأتي بمثل ما هم عليه ثم يعجزون؛ إذ لو أتاهم بشيء لا يعرفونه لكان يجوز أن يظن أنه مقدور البشر، غير أنهم لا يهتدون إليه، وقيل: كانوا ربما يجتمع على عيسى في يوم واحد من المرضى خمسون ألفًا، ويداويهم بالدواء على شرط الإيمان، عن وهب، وقيل: كان يدعو عند إحياء الميت بـ (ياحي يا قيوم)

10. ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ﴾ أخبركم ﴿بِمَا تَأْكُلُونَ﴾ من غدائكم وعشائكم، ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾

أ. قيل: لما أبرأ الأكَمه والأبرص وأحيا الموتى قالوا: هذا سحر، فأنبئنا عما في بيوتنا، فأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.

ب. وقيل: هذا كان في المائدة، كان ينزل عليهم أينما كانوا، وأمر القوم ألا يدخروا بعد ابتلاء ولا يخونوا، فخانوا وادخروا، فكان عيسى يخبرهم بذلك، عن قتادة.

ج. وقيل: لما خالفوه مسخوا خنازير على اختلاف في الرواية.

11. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي فيما ذكرت لكم ﴿لَآيَةً﴾ أي لحجة وعلامة ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فاقبلوها.

وقيل: من شرط الإيمان قبول ذلك.

12. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أن عيسى عليه السلام عُلِّمَ التوراة والإنجيل والعلم الذي يتعلق بالنبوة وهو الحكمة.

ب. أنه كان متعبدًا بشريعة موسى إلا ما وقع فيه نسخ؛ لذلك علمه التوراة.

ج. أنه كان مبعوثًا إلى جميع بني إسرائيل، خلاف ما قاله بعضهم أنه بعث إلى قوم منهم.

د. معجزات لعيسى.

هـ. جواز وصف العبد بأنه يخلق، وإن كان لا يطلق عليه ذلك، بل الخالق على الإطلاق هو الله تعالى.

و. أن العبد يحدث ويفعل؛ لأن في الخلق زيادة على الإحداث، فيبطل في ذلك قول الْمُجْبِرَةِ في خلق الأفعال.

ز. أنه قبل وجود الحياة في الطير لا يسمى طيرًا لفصله تعالى بين الحالين، فقال في أحدهما ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾، ثم قال: ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا﴾؛ وذلك يصحح قول أبي هاشم: إنه اسم له إذا كان لحمًا ودمًا، وكذلك في الإنسان، خلاف قول أبي علي.

ح. الفصل بين فعله تعالى وفعل عيسى؛ لأن عند النفخ، وهو فعله أطلق، وعند الإحياء وهو فعل الله قال: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ وإنما أضاف الحياة إلى نفسه؛ لأنه كان عند دعائه ونفخه.

ط. أن الروح جسم رقيق؛ لذلك وصف بالنفخ.

ي. أن النفخ فعل العبد؛ لأنه أضافه إليه.

ك. أن علم الغيب من المعجزات، يختص بها الأنبياء؛ لذلك قال: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾

13. قراءات ووجوه:

أ. قرأ أبو جعفر ونافع وعاصم ويعقوب ﴿يَعْلَمَهُ﴾ بالياء والباقون بالنون، فأما الياء فعطف على قوله: ﴿وَيَخْلُقُ﴾ حكاية عن الملك، وقيل: عطفًا على ﴿يُبَشِّرُكِ﴾ عن المبرد، وأما النون فعطف على ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ ويكون كلام الله تعالى ابتداء، أو هو أولى؛ لأنه أفخم.

ب. قرأ نافع ﴿أَنِّي أَخْلُقُ﴾ بكسر الألف من ﴿أَنْ﴾ والباقون بالفتح، فمن فتح فلوقوع الرسالة عليه، وقيل: بنزع حرف الصفة أي بأني أو لأني، ومن كسر فعلى الاستئناف.

ج. قرأ أبو جعفر (كهيَّة) بتشديد الياء والآخرون بالهمز.

د. قرأ أبو جعفر ونافع ويعقوب (فيكون طائرا) بالألف على الواحد، وقرأ الباقون ﴿طَيْرًا﴾ على الجمع، وكذلك في المائدة.

هـ. قراءة العامة ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾ بالتاء، وعن مجاهد بالياء.

14. مسائل نحوية:

أ. موضع ﴿يَعْلَمَهُ﴾ من الإعراب:

قيل: نصب بالعطف على ﴿وَجِيهًا﴾ تقديره: وجيهًا ومعلمًا.

وقيل: لا موضع له؛ لأنه عطف على جملة لا موضع لها، وهو قوله: ﴿كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾

وقيل: هو معطوف على ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ وليس بصحيح؛ لأنه يخرجه من معنى البشارة لمريم.

ب. ﴿وَرَسُولًا﴾ نصب على تقدير:

قيل: ويجعله رسولاً فحذف لدلالة الكلام عليه وهو البشارة المتصلة.

وقيل: نصب على الحال عطفًا إلا أنه في ذلك الوقت رسول بالحكم أنه سيرسل.

وقيل: عطف على (كهلا) بتقدير: يكلمهم كهلاً ورسولاً.

ج. موضع ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ﴾ من الإعراب: فيه الخفض على البدل من ﴿آيَةً﴾، ويجوز الرفع على تقدير الآية أَّني أخلق.

د. ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ يحتمل في الطين، ويحتمل في الطير، و﴿طَيْرًا﴾ نصب لأنه خبر ﴿كَانَ﴾ تقديره: فيكون الطير طيرًا.

هـ. عدّ الكوفيون عند قوله: ﴿الْإِنْجِيلَ﴾ آية، ولم يعدوا عند ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؛ لئلا يكون استئنافًا وهناك أن المفتوحة، وأما المدنيون فلم يعدوا ذلك آية، طلبوا تمام صفة المسيح، وتقديره: ومعلمًا كذا ورسولاً ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ مستأنف.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/243.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الحكمة والحكم بمعنى، ونظيره الذلة والذل.

ب. الطين: معروف، وطنت الكتاب: جعلت عليه طينا لأختمه به، وطينت البيت تطيينا.

ج. الهيئة: الحال الظاهرة، هاء فلان بهاء هيئة.

د. النفخ: معروف، نفخ ينفخ نفخا، والنفاخة للماء.

هـ. الكمه العمى، قال سويد بن أبي كاهل:

çكمهت عيناه حتى ابيضتا... فهو يلحى نفسه لما نزعé

و. الإدخار: الافتعال من الدخر، وجوز النحويون تذخرون بالذال.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾:

أ. قيل: أراد الكتابة، عن ابن جريج، قال: أعطى الله عيسى تسعة أجزاء من الخط، وسائر الناس جزء.

ب. وقيل: أراد به بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، سوى التوراة والإنجيل، مثل الزبور وغيره، عن أبي علي الجبائي، وهو أليق بالظاهر.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾:

أ. قيل: أي: الفقه، وعلم الحلال والحرام، عن ابن عباس، كما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: أوتيت القرآن ومثليه، قالوا: أراد به السنن.

ب. وقيل: أراد بذلك جميع ما علمه من أصول الدين.

4. سؤال وإشكال: ﴿وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ لم أفردهما بالذكر مع دخولهما في الحكمة؟ والجواب: تنبيها عن جلالة موقعهما، كقوله: ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾

5. قطع هاهنا قصة مريم وولادتها، ويأتي تمام قصتها في سورة مريم، وابتدأ بقصة عيسى عليه السلام فقال: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وقد ذكرنا تقديره ومعناه يدور عليه.

6. ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ أي: قال لهم وكلمهم لما بعث إليهم بأني قد جئتكم ﴿بِآيَةٍ﴾ أي: بدلالة وحجة ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ دالة على نبوتي، ثم حذف الباء فوصل الفعل ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ معناه: وهذه الآية أني أقدر لكم، وأصور لكم من الطين مثل صورة الطير، ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ أي: في الطير المقدر من الطين، وقال في موضع آخر ﴿فِيهَا﴾ أي: في الهيئة المقدرة ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾ وقدرته، وقيل: بأمر الله تعالى.

7. إنما وصل قوله ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ بقوله ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا﴾ دون ما قبله، لأن تصور الطين على هيئة الطير، والنفخ فيه، مما يدخل تحت مقدور العباد، فأما جعل الطين طيرا حتى يكون لحما ودما، وخلق الحياة فيه، فمما لا يقدر عليه غير الله، فقال ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ ليعلم أنه من فعله تعالى، وليس بفعل عيسى، وفي التفسير أنه صنع من الطين كهيئة الخفاش، ونفخ فيه فصار طائرا.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ﴾:

أ. قيل: أي: الذي ولد أعمى، عن ابن عباس وقتادة.

ب. وقيل: هو الأعمى، عن الحسن والسدي.

9. ﴿وَالْأَبْرَصَ﴾ الذي به وضح، وقال وهب: وربما اجتمع على عيسى من المرض في اليوم خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق أتاه عيسى يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان.

10. ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾ إنما أضاف الإحياء إلى نفسه، على وجه المجاز والتوسع، ولأن الله تعالى كان يحيي الموتى عند دعائه، وقيل: إنه أحيى أربعة أنفس:

أ. عازر وكان صديقا له، وكان قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، ثم قال: اللهم رب السماوات السبع، ورب الأرضين السبع، إنك أرسلتني إلى بني إسرائيل، أدعوهم إلى دينك، وأخبرهم بأني أحيي الموتى، فأحي عازر! فخرج من قبره، وبقي وولد له.

ب. وابن العجوز مر به ميتا على سريره، فدعا الله عيسى عليه السلام، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، ورجع إلى أهله، وبقي وولد له.

ج. وابنة العاشر قيل له: أتحييها وقد ماتت أمس؟ فدعا الله فعاشت، وبقيت، وولدت.

د. وسام بن نوح: دعا عليه باسم الله الأعظم، فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه، فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا، ولكني دعوتك باسم الله الأعظم، قال: ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان، لأن سام بن نوح قد عاش خمس مائة سنة، وهو شاب، ثم قال له: مت، قال: بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل، قال الكلبي: كان يحيي الأموات بيا حي يا قوم.

11. إنما خص عيسى عليه السلام بهذه المعجزات، لأن الغالب كان في زمانه الطب، فأراهم الله الآيات من جنس ما هم عليه، لتكون المعجزة أظهر، كما أن الغالب لما كان في زمن موسى السحر، أتاهم من جنس ذلك بما أعجزهم عن الإتيان بمثله، وكان الغالب في زمان نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم البيان والبلاغة والفصاحة، فأراهم الله تعالى المعجزة بالقرآن الذي بهرهم ما فيه من عجائب النظم، وغرائب البيان، ليكون أبلغ في باب الإعجاز بان يأتي كلا من أمم الأنبياء بمثل ما هم عليه، ويعجزون عن الإتيان بمثله، إذ لو أتاهم بما لا يعرفونه، لكان يجوز أن يخطر ببالهم أن ذلك مقدور للبشر، غير أنهم لا يهتدون إليه.

12. ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ أي: أخبركم بالذي تأكلونه وتدخرونه، كأن يقول للرجل تغديت بكذا وكذا، ورفعت إلى الليل كذا وكذا.

13. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي: فيما ذكرت لكم ﴿لَآيَةً﴾ أي: حجة، ومعجزة، ودلالة ﴿لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بالله إذ كان لا يصح العلم بمدلول المعجزة، إلا لمن آمن بالله، لأن العلم بالمرسل لا بد أن يكون قبل العلم بالرسول.

14. في الآية دلالة على أن عيسى عليه السلام كان مبعوثا إلى جميع بني إسرائيل، وقوله: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ﴾ يدل على أن العبد يحدث ويفعل ويخلق، خلافا لقول المجبرة، لكن الخالق على الإطلاق، هو الله تعالى.

15. قراءات ووجوه:

أ. قرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب وسهل ﴿وَيُعَلِّمُهُ﴾ بالياء، والباقون بالنون.. من قرأ ﴿وَيُعَلِّمُهُ﴾: عطفه على قوله ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾، ومن قرأ (ونعلمه): جعله على نحو ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾

ب. قرأ نافع ﴿أَنِّي أَخْلُقُ﴾ بكسر الألف، والباقون ﴿إِنِّي﴾ بالفتح.. ومن فتح ﴿أَنِّي أَخْلُقُ﴾: جعلها بدلا من آية كأنه قال وجئتكم بأني أخلق لكم، ومن كسر احتمل وجهين أحدهما: الاستئناف، وقطع الكلام مما قبله والآخر أنه فسر الآية بقوله: إني أخلق، كما فسر الوعد في قوله ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بقوله ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾، وفسر المثل في قوله ﴿كَمَثَلِ آدَمَ﴾ بقوله ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾، وهذا الوجه أحسن لأنه في المعنى كمن فتح وأبدل من آية.

ج. قرأ أهل المدينة ويعقوب: (طائرا) ومثله في المائدة، وأبو جعفر: (كهيئة الطائر) فيهما، والباقون ﴿طَيْرًا﴾ بغير ألف.. من قرأ (طائرا): أراد فيكون ما أنفخ فيه، أو ما أخلقه طائرا فأفرد لذلك فسر أو أراد يكون كل واحد من ذلك طائرا، كما قال ﴿فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ أي: اجلدوا كل واحد منهم.

16. مسائل نحوية:

أ. موضع ﴿يَعْلَمَهُ﴾: يحتمل أن يكون نصبا بالعطف على ﴿وَجِيهًا﴾، ويحتمل أن يكون لا موضع له من الإعراب، لأنه عطف على جملة لا موضع لها من الإعراب، وهي قوله ﴿كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾، وقيل: هو عطف على نوحيه إليك، وهذا لا يجوز لأنها تخرج من معنى البشارة لمريم.

ب. ﴿وَرَسُولًا﴾ نصب على تقدير ونجعله رسولا، فحذف لدلالة البشارة عليه، ويجوز أن يكون نصبا على الحال عطفا على ﴿وَجِيهًا﴾، لا إنه في ذلك الوقت يكون رسولا، بل بمعنى أنه يرسل رسولا، وقال الزجاج: المعنى يكلمهم رسولا بأني قد جئتكم، ولو قرأت بالكسر: إني قد جئتكم، لكان صوابا، يقول إني قد جئتكم.

ج. موضع ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ﴾: يحتمل أن يكون خفضا ورفعا، فالخفض على البدل من ﴿آيَةً﴾، والرفع على ما ذكرناه قبل.

د. ﴿بِمَا تَأْكُلُونَ﴾: جائز أن يكون ﴿مَا﴾ هنا بمعنى الذي أي: بما تأكلونه وتدخرونه، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر أي: أنبئكم بأكلكم وادخاركم، وا لأول أجود.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/752.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾ قرأ الأكثرون (ونعلمه) بالنون، وقرأ نافع، وعاصم بالياء، فعطفاه على قوله (يبشرك)، وفي الكتاب قولان:

أ. أحدهما: أنه كتب النّبيين وعلمهم، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: الكتابة، قاله ابن جريج ومقاتل.

2. قال ابن عباس: والحكمة الفقه وقضاء النّبيين.

3. ﴿وَرَسُولًا﴾ قال الزجّاج: ينتصب على وجهين: أحدهما: ونجعله رسولا، والاختيار عندي: ويكلّم النّاس رسولا.

4. ﴿أَنِّي أَخْلُقُ﴾ قرأ الأكثرون (أنّي) بالفتح، فجعلوها بدلا من آية، فكأنه قال قد جئتكم بأنّي أخلق، وقرأ نافع بالكسر، قال أبو عليّ‏: يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: أن يكون مستأنفا.

ب. الثاني: أنه فسّر الآية بقوله: إني أخلق، أي: أصوّر وأقدر.

5. قال ابن عباس: أخذ طينا، وصنع منه خفّاشا، ونفخ فيه، فإذا هو يطير، ويقال: لم يصنع غير الخفّاش، ويقال: إنّ بني إسرائيل نعتوه بذلك؛ لأنّ الخفّاش عجيبة الخلق، وروي عن أبي سعيد الخدريّ أنه قال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا: الخفّاش، فسألوه أشدّ الطير خلقا، لأنه يطير من غير ريش، وقال وهب: كان الذي صنعه يطير ما دام النّاس ينظرونه، فإذا غاب عن أعينهم، سقط ميتا، ليتميّز فعل الخلق من فعل الخالق، والأكثرون قرؤوا ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا﴾ وقرأ نافع هاهنا وفي (المائدة) (طائرا) قال أبو عليّ: حجّة الجمهور قوله تعالى: ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ ولم يقل: كهيئة الطائر، ووجهة قراءة نافع، أنه أراد: يكون ما أنفخ فيه، أو ما أخلقه، طائرا.

6. في ﴿الْأَكْمَهَ﴾ أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنه الذي يولد أعمى، رواه الضّحّاك عن ابن عباس، وسعيد عن قتادة، وبه قال اليزيديّ، وابن قتيبة، والزجّاج.

ب. الثاني: أنه الأعمى، ذكره ابن جريج عن ابن عباس، ومعمر عن قتادة، وبه قال الحسن، والسّدّيّ، وحكى الزجّاج عن الخليل أن الأكمه: هو الذي يولد أعمى، وهو الذي يعمى، وإن كان بصيرا.

ج. الثالث: أنه الأعمش، قاله عكرمة.

د. الرابع: أنه الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل، قاله مجاهد والضّحّاك.

7. الأبرص: الذي به وضح، وكان الغالب على زمان عيسى عليه السلام، علم الطّب، فأراهم المعجزة من جنس ذلك، إلا أنه ليس في الطب إبراء الأكمه والأبرص، وكان ذلك دليلا على صدقه، قال وهب: ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا، وإنما كان يداويهم بالدّعاء، وذكر المفسرون أنه أحيا أربعة أنفس من الموتى، وعن ابن عباس: أن الأربعة كلّهم بقي حتى ولد له، إلا سام بن نوح.

8. ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ﴾ قال سعيد بن جبير: كان عيسى إذا كان في المكتب يخبرهم بما يأكلون، ويقول للغلام: يا غلام إن أهلك قد هيّئوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه؟ وقال مجاهد: بما أكلتم البارحة، وبما خبّأتم منه، وعلى هذا المفسرون، إلا أن قتادة كان يقول: وأنبّئكم بما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم، وما تدّخرون منها، وكان أخذ عليهم أن يأكلوا منها، ولا يدّخروا، فلما خانوا، مسخوا خنازير.

__________

(1) زاد المسير: 1/285.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ في هذه الآية أمور أربعة معطوف بعضها على بعض بواو العطف، والأقرب عندي أن يقال:

أ. المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة.

ب. ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومجموعهما هو المسمى بالحكمة.

ج. ثم بعد أن صار عالماً بالخط والكتابة، ومحيطاً بالعلوم العقلية والشرعية، يعلمه التوراة، وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة، لأن التوراة كتاب إلهي، وفيه أسرار عظيمة، والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث على أسرار الكتب الإلهية.

د. ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل، وإنما أخر ذكر الإنجيل عن ذكر التوراة لأن من تعلم الخط، ثم تعلم علوم الحق، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي أنزله الله تعالى على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله تعالى عليه بعد ذلك كتاباً آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى، والمرتبة العليا في العلم، والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية، فهذا ما عندي في ترتيب هذه الألفاظ الأربعة.

2. ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ في هذه الآية وجوه:

أ. الأول: تقدير الآية: ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ونبعثه رسولًا إلى بني إسرائيل، قائلًا ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ والحذف حسن إذا لم يفض إلى الاشتباه.

ب. الثاني: قال الزجاج: الاختيار عندي أن تقديره: ويكلم الناس رسولًا، وإنما أضمرنا ذلك لقوله‏ ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ والمعنى: ويكلمهم رسولا بأني قد جئتكم.

ج. الثالث: قال الأخفش: إن شئت جعلت الواو زائدة، والتقدير: ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة، والإنجيل رسولًا إلى بني إسرائيل، قائلًا: أني قد جئتكم بآية.

3. هذه الآية تدل على أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان رسولًا إلى كل بني إسرائيل بخلاف قول بعض اليهود إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين منهم، والمراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه تعالى عدد هاهنا أنواعاً من الآيات، وهي إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عن المغيبات فكان المراد من قوله‏ ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ الجنس لا الفرد.

4. حكى الله تعالى هاهنا خمسة أنواع من معجزات عيسى عليه السلام:

أ. النوع الأول: ما عبر عنه المسيح عليه السلام بقوله: ﴿إِنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ﴾، قرأ حمزة ﴿إِنِّي﴾ بفتح الهمزة، وقرأ نافع بكسر الهمزة فمن فتح‏ ﴿إِنِّي﴾ فقد جعلها بدلًا من آية كأنه قال وجئتكم بأني أخلق لكم من الطين، ومن كسر فله وجهان:

أحدهما: الاستئناف وقطع الكلام مما قبله.

الثاني: أنه فسر الآية بقوله: ‏ ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ﴾ ويجوز أن يفسر الجملة المتقدمة بما يكون على وجه الابتداء قال الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [الفتح: 29] ثم فسّر الموعود بقوله‏ ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ وقال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: 59] ثم فسّر المثل بقوله، ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ [آل عمران: 59] وهذا الوجه أحسن لأنه في المعنى كقراءة من فتح‏ ﴿إِنِّي﴾ على جعله بدلًا من آية.

ب. النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات هو ما عبر عنه المسيح عليه السلام بقوله: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِ اللهِ}، وذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي ولد أعمى، وقال الخليل وغيره: هو الذي عمي بعد أن كان بصيراً، وعن مجاهد هو الذي لا يبصر بالليل، ويقال: إنه لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب (التفسير)، وروي أنه عليه السلام ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى من أطاق منهم أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام، وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده، قال الكلبي: كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات بيا حي يا قيوم وأحيا عاذر، وكان صديقاً له، ودعا سام بن نوح من قبره، فخرج حياً، ومرّ على ابن ميت لعجوز فدعا الله، فنزل عن سريره حياً، ورجع إلى أهله وولد له، وقوله بِإِذْنِ اللهِ رفع لتوهم من اعتقد فيه الإلهية.

ج. النوع الخامس من المعجزات إخباره عن الغيوب، فهو قوله تعالى حكاية عنه: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾، والإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة، وذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخير لا يمكنهم ذلك إلا عن سؤال يتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآلة ويتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب، ثم‏ يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة، ولا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من الله تعالى، وفي هذه الآية قولان:

أحدهما: أنه عليه السلام كان من أول مرة يخبر عن الغيوب، روى السدي: أنه كان يلعب مع الصبيان، ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم، وكان يخبر الصبي بأن أمك قد خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء ثم قالوا لصبيانهم: لا تلعبوا مع هذا الساحر، وجمعوهم في بيت، فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم، فقالوا له، ليسوا في البيت، فقال: فمن في هذا البيت، قالوا: خنازير قال عيسى عليه السلام كذلك يكونون فإذا هم خنازير.

الثاني: إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر وقت نزول المائدة، وذلك لأن القوم نهوا عن الادخار، فكانوا يخزنون ويدخرون، فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بذلك.

5. ﴿أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ﴾ أي أقدر وأصور وقد بينا في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: 21] إن الخلق هو التقدير ولا بأس بأن نذكره هاهنا أيضاً فنقول الذي يدل عليه القرآن والشعر والاستشهاد:

أ. أما القرآن فآيات:

أ. أحدها: قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14] أي المقدرين، وذلك لأنه ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع فوجب تفسير كونه خالقاً بالتقدير والتسوية.

ب. ثانيها: أن لفظ الخلق يطلق على الكذب قال تعالى في سورة الشعراء ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء: 137] وفي العنكبوت‏ ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت: 17] وفي سورة ص‏ ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص: 7] والكاذب إنما سمي خالقاً لأنه يقدر الكذب في خاطره ويصوره.

ج. ثالثها: هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله‏ ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ﴾ أي أصور وأقدر وقال تعالى في المائدة ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ [المائدة: 110] وكل ذلك يدل على أن الخلق هو التصوير والتقدير.

د. رابعها: قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29] وقوله‏ ﴿خَلَقَ﴾ إشارة إلى الماضي، فلو حملنا قوله‏ ﴿خَلَقَ﴾ على الإيجاد والإبداع، لكان المعنى: أن كل ما في الأرض فهو تعالى قد أوجده في الزمان الماضي، وذلك باطل بالاتفاق، فإذن وجب حمل الخلق على التقدير حتى يصح الكلام وهو أنه تعالى قدر في الماضي كل ما وجد الآن في الأرض.

ب. وأما الشعر فقوله:

çولأنت تفري ما خلقت وبعض‏...القوم يخلق ثم لا يفري‏é

وقوله:

çولا يعطي بأيدي الخالقين ولا...أيدي الخوالق إلا جيد الأدم‏é

ج. أما الاستشهاد: فهو أنه يقال: خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس والخلاق المقدار من الخير، وفلان خليق بكذا، أي له هذا المقدار من الاستحقاق، والصخرة الخلقاء الملساء، لأن الملاسة استواء، وفي الخشونة اختلاف، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية.

6. اختلف الناس في لفظ ﴿الْخَالِقُ﴾:

أ. قال أبو عبد الله البصري: إنه لا يجوز إطلاقه على الله في الحقيقة، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والحسبان وذلك على الله محال.

ب. وقال أصحابنا(2): الخالق، ليس إلا الله، واحتجوا عليه بقوله تعالى: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: 16] ومنهم من احتج بقوله: ‏ ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ﴾ [فاطر: 3]، وهذا ضعيف، لأنه تعالى قال: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [فاطر: 3] فالمعنى هل من خالق غير الله موصوف بوصف كونه رازقاً من السماء ولا يلزم من صدق قولنا الخالق الذي يكون هذا شأنه، ليس إلا الله، صدق قولنا أنه لا خالق إلا الله، وأجابوا عن كلام أبي عبد الله بأن التقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن لكن الظن وإن كان محالًا في حق الله تعالى فالعلم ثابت.

7. ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ﴾ معناه: أصور وأقدر وقوله‏ ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ فالهيئة الصورة المهيئة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته، وقوله: ‏ ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ أي في ذلك الطين المصور.

8. ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾ قرأ نافع فيكون طائراً بالألف على الواحد، والباقون‏ ﴿طَيْرًا﴾ على الجمع، وكذلك في المائدة والطير اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع، يروى أن عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة، وأظهر المعجزات أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بخلق خفاش، فأخذ طيناً وصوره، ثم نفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً، ثم اختلف الناس فقال قوم: إنه لم يخلق غير الخفاش، وكانت قراءة نافع عليه، وقال آخرون: إنه خلق أنواعاً من الطير وكانت قراءة الباقين عليه.

9. ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ قال بعض المتكلمين: الآية تدل على أن الروح جسم رقيق كالريح، ولذلك وصفها بالفتح، سؤال وإشكال: هل يجوز أن يقال: إنه تعالى أودع في نفس عيسى عليه السلام خاصية، بحيث متى نفخ في شيء كان نفخه فيه موجباً لصيرورة ذلك الشيء حياً، أو يقال: ليس الأمر كذلك بل الله تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخة عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات؟ والجواب: هذا الثاني هو الحق لقوله‏ تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ [الملك: 2] وحكي عن إبراهيم عليه السلام إنه قال في مناظرته مع الملك: ‏ ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: 258] فلو حصل لغيره، هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال.

10. القرآن دلّ على أنه عليه السلام إنما تولد من نفخ جبريل عليه السلام في مريم وجبريل عليه السلام روح محض وروحاني محض فلا جرم كانت نفخة عيسى عليه السلام للحياة والروح.

11. ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ معناه بتكوين الله تعالى وتخليقه لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 154] أي إلا بأن يوجد الله الموت، وإنما ذكر عيسى عليه السلام هذا القيد إزالة للشبهة، وتنبيهاً على إني أعمل هذا التصوير، فأما خلق الحياة فهو من الله تعالى على سبيل إظهار المعجزات على يد الرسل.

12. ثم إنه عليه السلام ختم كلامه بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ والمعنى إن في هذه الخمسة لمعجزة قاهرة قوية دالة على صدق المدعي لكل من آمن بدلائل المعجزة في الحمل على الصدق، بلى من أنكر دلالة أصل المعجز على صدق المدعي، وهم البراهمة، فإنه لا يكفيه ظهور هذه الآيات، أما من آمن بدلالة المعجز على الصدق لا يبقى له في هذه المعجزات كلام ألبتة.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/227.

(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

‌1. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ قال ابن جريج: الكتاب الكتابة والخط، وقيل: هو كتاب غير التوراة والإنجيل علمه الله عيسى عليه السلام، ﴿وَرَسُولًا﴾ أي ونجعله رسولا، أو يكلمهم رسولا، وقيل: هو معطوف على قوله ﴿وَجِيهًا﴾، وقال الأخفش: وإن شئت جعلت الواو في قوله ﴿وَرَسُولًا﴾ مقحمة والرسول حالا للهاء، تقديره ويعلمه الكتاب رسولا، وفي حديث أبي ذر الطويل وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى عليه السلام.

2. ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ﴾ أي أصور وأقدر لكم، من الطين ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ قرأ الأعرج وأبو جعفر (كهية) بالتشديد، الباقون بالهمز، والطير يذكر ويؤنث.

3. ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ أي في الواحد منه أو منها أو في الطين فيكون طائرا، وطائر وطير مثل تاجر وتجر، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الله تعالى، وقيل: لم يخلق غير الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثديا وأسنانا وأذنا، وهي تحيض وتطهر وتلد، ويقال: إنما طلبوا خلق خفاش لأنه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور، فيكون له الضرع يخرج منه اللبن، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويحيض كما تحيض المرأة، ويقال: إن سؤالهم كان له على وجه التعنت فقالوا: اخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالتك، فأخذ طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض، وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى والخلق من الله، كما أن النفخ من جبريل والخلق من الله.

4. ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ﴾

أ. الأكمه: الذي يولد أعمى، عن ابن عباس، وكذا قال أبو عبيدة قال: هو الذي يولد أعمى، وأنشد لرؤبة: فارتد ارتداد الأكمه وقال ابن فارس: الكمه العمى يولد به الإنسان وقد يعرض، قال سويد: كمهت عيناه حتى ابيضتا مجاهد: هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، عكرمة: هو الأعمش، ولكنه في اللغة العمى، يقال كمه يكمه كمها وكمهتها أنا إذا أعميتها.

ب. البرص معروف وهو بياض يعتري الجلد، والأبرص القمر، وسام أبرص معروف، ويجمع على الأبارص، وخص هذان بالذكر لأنهما عياءان، وكان الغالب على زمن عيسى عليه السلام الطب فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك.

5. ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾ قيل: أحيا أربعة أنفس: العاذر: وكان صديقا له، وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح:

أ. فأما العاذر فإنه كان قد توفي قبل ذلك بأيام فدعا الله فقام بإذن الله وودكه يقطر فعاش وولد له.

ب. وأما ابن العجوز فإنه مر به يحمل على سريره فدعا الله فقام ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله.

ج. وأما بنت العاشر فكان أتى عليها ليلة فدعا الله فعاشت بعد ذلك وولد لها.

د. فلما رأوا ذلك قالوا: إنك تحيي من كان موته قريبا فلعلهم لم يموتوا فأصابتهم سكتة فأحى لنا سام بن نوح، فقال لهم: دلوني على قبره، فخرج وخرج القوم معه حتى انتهى إلى قبره فدعا الله فخرج من قبره وقد شاب رأسه، فقال له عيسى: كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانكم شيب؟ فقال: يا روح الله، إنك دعوتني فسمعت صوتا يقول: أجب روح الله، فظننت أن القيامة قد قامت، فمن هول ذلك شاب رأسي، فسأله عن النزع فقال: يا روح الله إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي، وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقال للقوم: صدقوه فإنه نبي، فآمن به بعضهم وكذبه بعضهم وقالوا: هذا سحر.

6. روي من حديث إسماعيل ابن عياش قال: حدثني محمد بن طلحة عن رجل أن عيسى ابن مريم كان إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين يقرأ في الاولى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الملك]، وفي الثانية (تنزيل السجدة) فإذا فرغ حمد الله وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء: يا قديم يا خفي يا دائم يا فرد يا وتر يا أحد يا صمد، ذكره البيهقي، وقال: ليس إسناده بالقوي.

7. ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي بالذي تأكلونه وما تدخرون، وذلك أنهم لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا: أخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد، فأخبرهم فقال: يا فلان أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا، فذلك قوله ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ﴾ الآية، وقرأ مجاهد والزهري والسختياني ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾ بالذال المعجمة مخففا، وقال سعيد بن جبير وغيره: كان يخبر الصبيان في الكتاب بما يدخرون حتى منعهم آباؤهم من الجلوس معه، قتادة: أخبرهم بما أكلوه من المائدة وما ادخروه منها خفية.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/94.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾ قيل: هو معطوف على‏ ﴿يُبَشِّرُكِ﴾، أي: إن الله يبشرك؛ وإنّ الله يعلمه؛ وقيل: على‏ ﴿يُخْلَقْ﴾: أي: وكذلك يعلمه الله، أو كلام مبتدأ سيق تطييبا لقلبها، والكتاب: الكتابة، والحكمة: العلم؛ وقيل: تهذيب الأخلاق، وانتصاب: رسولا، على تقدير: ويجعله‏ رسولا، أو ويكلمهم رسولا، أو وأرسلت رسولا؛ وقيل: هو معطوف على قوله: ﴿وَجِيهًا﴾ فيكون حالا، لأن فيه معنى النطق، أي: وناطقا، قال الأخفش: وإن شئت جعلت الواو في قوله: ورسولا، مقحمة، والرسول: حالا.

2. ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ معمول لرسول، لأن فيه معنى النطق كما مر؛ وقيل: أصله: بأني قد جئتكم، فحذف الجار، وقيل: منصوب بمضمر، أي: تقول: أني قد جئتكم؛ وقيل: معطوف على الأحوال السابقة، وقوله: ﴿بِآيَةٍ﴾ في محل نصب على الحال، أي: متلبسا بعلامة كائنة ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾

3. ﴿أَنِّي أَخْلُقُ﴾ أي: أصوّر، وأقدّر ﴿لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ وهذه الجملة بدل من الجملة الأولى، وهي: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ أو بدل من آية، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هي أني، وقرئ: بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرأ الأعرج، وأبو جعفر: كهيئة الطير بالتشديد، والكاف في قوله: ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾: نعت مصدر محذوف، أي: أخلق لكم خلقا أو شيئا مثل هيئة الطير.

4. ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ أي: في ذلك الخلق، أو ذلك الشيء، فالضمير راجع إلى الكاف في قوله كهيئة الطير؛ وقيل: الضمير راجع إلى الطير، أي: الواحد منه؛ وقيل: إلى الطين، وقرئ: فيكون طائرا وطيرا، مثل تاجر وتجر، وقيل: إنه لم يخلق غير الخفاش لما فيه من عجائب الصنعة، فإن له ثديا وأسنانا وأذنا ويحيض ويطهر؛ وقيل: إنهم طلبوا خلق الخفاش لما فيه من العجائب المذكورة، ولكونه يطير بغير ريش، ويلد كما يلد سائر الحيوانات مع كونه من الطير، ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة، وهو يضحك كما يضحك الإنسان؛ وقيل: إن سؤالهم له كان على وجه التعنت، قيل: كان يطير ما دام الناس ينظرونه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا، ليتميز فعل الله من فعل غيره.

5. ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ فيه دليل: على أنه لولا الإذن من الله عزّ وجلّ لم يقدر على ذلك، وأن خلق ذلك كان بفعل الله سبحانه، أجراه على يد عيسى عليه السلام؛ قيل: كانت تسوية الطين والنفخ من عيسى، والخلق من الله عزّ وجلّ.

6. ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ﴾ الأكمه: الذي يولد أعمى، كذا قال أبو عبيدة، وقال ابن فارس: الكمه: العمى يولد به الإنسان وقد يعرض، يقال: كمه، يكمه، كمها: إذا عمي، وكمهت عينه: إذا أعميتها؛ وقيل: الأكمه: الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل؛ وقيل: هو الممسوح العين، والبرص معروف، وهو: بياض يظهر في الجلد، وقد كان عيسى عليه السلام يبرئ من أمراض عدّة كما اشتمل عليه الإنجيل، وإنما خص الله سبحانه هذين المرضين بالذكر لأنهما لا يبرءان في الغالب بالمداواة، وكذلك إحياء الموتى، قد اشتمل الإنجيل على قصص من ذلك.

7. ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ﴾ أي: أخبركم بالذي تأكلونه، وبالذي تدّخرونه.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/393.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾ أي الكتابة أو جنس الكتب الإلهية ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ أي تهذيب الأخلاق‏ ﴿وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ إفرادهما بالذكر على تقدير كون المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة، لزيادة فضلهما وإنافتهما على غيرهما.

2. ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ منصوب بمضمر يقود إليه المعنى، معطوف على (يعلّمه) أي ويجعله رسولا إلى جميع الإسرائيليين، وقيل: معطوف على الأحوال السابقة ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ معمول لـ (رسولا) لما فيه من معنى النطق، أي رسولا ناطقا بأني قد جئتكم‏ ﴿بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ التنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور تعددها، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا أي متلبسا ومحتجا بآية.

3. ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا﴾ حقيقيا ذا حياة ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ أي أمره، لا باستقلال مني.

4. ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ﴾ الذي ولد أعمى‏ ﴿وَالْأَبْرَصَ﴾ المبتلى بالبرص وهو بياض يظهر في البشرة لفساد مزاج، وفي (الإكليل): هذه الآية أصل لما يقوله الأطباء: إن الأكمه الذي ولد أعمى، والأبرص لا يمكن برؤهما كإحياء الموتى.

5. ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾ لا باستقلال مني، نفيا لتوهم الألوهية، فهذه معجزات قاهرة فعلية ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ﴾ أي أخبركم‏ ﴿بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ مما لم أعاينه.

6. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ أي دلالة ﴿لَكُمْ﴾ على صدقي في دعوى الرسالة ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ مصدقين بآيات الله.

7. ذكر في الإنجيل أنه عليه السلام ردّ بصر أعميين في كفر ناحوم، وأعمى في بيت صيدا، ورجل ولد أعمى في أورشليم، وشفى عشرة مصابين بالبرص في السامرة، وأبرأ أبرص في كفر ناحوم، وأقام ابن الأرملة من الموت في بلدة نايين، وأحيا ابنة جيروس في كفر ناحوم، والعازر في بيت عينا.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/321.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾ مصدر بمعنى الخطِّ، فهو أحسن الناس خطًّا، وقراءة المكتوب، فهو يقرأ التوراة والزبور وغيرهما نظرا، أو الكتاب جنس كتب الله حفظا، وذلك بعلم ضروريٍّ، أو بإلقائه ذلك في قلبه؛ أو باكتساب للخطِّ والحفظ، قيل: كان يحفظ التوراة والإنجيل والزبور، ويقال: أعطى الله عيسى تسعة أجزاء من الخطِّ، وأعطى الناس كلَّهم جزءا عاشرا، وقال أبو عليٍّ الجبَّائيُّ: المراد غير التوراة والإنجيل لذكرهما بعدُ، على قاعدته في تعميمٍ معقَّبٍ بتخصيص.

2. ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ العلمَ والعملَ وتهذيبَ الأخلاق، وقيل: الحكمة العلوم العقليَّة، ﴿وَالتَّوْرَاةَ وَالاِنجِيلَ﴾ وكذا غيرهما كالزبور، إِلَّا أنَّهما خُصَّا بالذكر لفضلهما بالأحكام.

3. ﴿وَرَسُولاً﴾ ويجعله رسولا، والجملة معطوفة على (يُعَلِّمُهُ)، أو (وَجِيهًا... وَرَسُولاً)، فهو معطوف على (وَجِيهًا)، أو يقول الله في شأنه: أرسلت رسولاً، ﴿اِلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾ وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، وَأَوَّل نبيء من ذرِّية بنيه موسى، وأمَّا يوسف فنبيء من صلبه لا من ذرِّيته.

4. يروى أنَّه أوتي النبوءة وهو ابن ثلاث سنين كما قال في يحيى: ﴿وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مريم: 12]، أي: ابن ثلاث سنين؛ وقيل: ابن ثلاثين سنة، ورفع إلى السماء ابن ثلاث وثلاثين، وهو المشهور؛ وقيل: وثلاثة أشهر وثلاثة أيَّام، والأقوال في يحيى أيضًا إِلَّا أنَّه لم يرفع، والمعتمد عند الجمهور أنَّهما نبِّئا على رأس أربعين، وأنَّ عيسى عاش في الأرض قبل رفعه مائة وعشرين سنة، وبه ورد الحديث، وقد رجع إليه السيوطي في (مرقاة الصعود) بعد أن أثبت في (تكملة المحلِّي) و(شرح النقاية) أنَّه رفع ابن ثلاث وثلاثين سنة؛ وإنَّما هذا قول النصارى.

5. عيسى رسول إلى الناس كلِّهم، وخَصَّ بني إسرائيل لأنَّه منهم، وللردِّ عَلَى من قال: مبعوث إلى غيرهم لا إليهم، وقيل: مبعوث إليهم خاصَّة.

6. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾ إلى هنا تهوين للهمِّ على مريم؛ لأنَّها تهتمُّ وتخاف أن تُقذف مع ما تقدَّم من قوله: ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾ إلى هنا خمسة عشر أمرا مبشَّرا به قبل وجود عيسى عليه السلام .

7. ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم﴾ متعلِّق بـ (رَسُولاً)، أي: أرسلني بأنِّي قد جئتكم، وفي (رَسُولاً) معنَى ناطق، فكأنَّه أيضًا قيل: ناطقا بأنِّي، أو يقدَّر: ناطقا نعتًا لـ (رَسُولاً) يتعلَّق به (بأنِّي قد جئتكم)؛ أخبرها الله أنَّه يولد ويكبر، ويقول لبني إسرائيل: إنِّي قد جئتكم، وهذا أولى من أن يقال: التقدير: فجاءهم عيسى بأنِّي قد جئتكم، أو التقدير: لَمَّا بعثه الله إليهم قال لهم: إنِّي رسول الله إليكم بأنِّي قد جئتكم، وزعم بعض أنَّ هذا أولى، ﴿بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ إِنِّيَ أَخْلُقُ﴾ بكسر (إِنَّ) مستأنف بيان للآية، وعلى الفتح يكون مصدرَ (أَخلُقُ) بدلٌ من (ءَايَةٍ)، أو هي: إنِّي أخلق، وجعل آيات آية لأنَّهنَّ كلَّهنَّ حجَّة على رسالته فكأنَّهنَّ آية واحدة، فالبدل بدل مطابق، إِلَّا أنَّه باعتبار النفخ، لا بدل اشتمال، لأنَّ إبراء الأكمه والأبرص والإحياء والتنبئة نفس الآية، لا لوازمها، ومعنى (أَخْلُقُ): أصوِّر، والمصدر مقدَّر.

8. ﴿لَكُم﴾ أي: لصلاحكم، بأن تؤمنوا بي، ﴿مِنَ الطِّينِ﴾ كما صوِّر آدم منه وأُحيِيَ، ﴿كَهَيْئَةِ﴾ الكاف مفعول (أَخلُقُ) مضاف لـ (هَيئَةِ)، أو يقدَّر: أخلق لكم شيئًا ثابتا كهيئة ﴿الطَّيْرِ﴾ على الإطلاق، وقيل: الخفاش؛ لأنَّه أعجب من سائر الطير؛ لأنَّ له نابا وأسنانًا وضحكا وطيرانا بلا ريش وآذانا، وإبصارا في ساعة بعد طلوع الفجر وساعة بعد الغروب لا في ظلمة اللَّيل وضوء النهار، ولأنثاه حيضا وطهرا، وثديا وضرعا، وولادة بلا بيض، ولبنا كالمنيِّ، ويروى أنَّهم طلبوا منه الخفاش، ﴿فَأَنفُخُ﴾ بفمي ﴿فِيهِ﴾ في هيئة الطير، أو في شيء كهيئة الطير، ﴿فَيَكُونُ طَآئِرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾ بإرادته أن يخلق فيه لي الروحَ، يطير وهم ينظرون، وإذا غاب عن أعينهم سقط ميِّتًا، ويرونه على حاله قبل الموت لا طينا، وإنَّما يسقط ميِّتًا ليتميَّز عمَّا خلق الله لا على يد عيسى، وهكذا قيل، ولا حجَّة له، وظاهر القرآن يأباه ولو ثبت لقدحوا فيه.

9. ﴿وَأُبْرِئُ الَاكْمَهَ﴾ الأعمى من البطن، وقد يقال لحادث العمى ولمن لا عين له ولا موضعهما بل موضعهما كجبهته، كقتادة مفسِّر القرآن، وكلُّهم يردُّهم إلى العينين الباصرتين، ﴿وَالَابْرَصَ﴾ بإذن الله، ولم يذكره لظهوره ولذكره قبل، وقد ذُكر في المائدة بلفظ: ﴿بِإِذْنِي﴾ [الآية: 110]، ولأنَّه لا غرابة فيهما؛ لأنَّه بُعث في زمان تمهَّر الناس في الطبِّ، فقد يعالجون ذلك إِلَّا من لا عين له، أو مَن سَقَط له داخِلُها فلا يتعاطون علاجه، فكان يبرئ الناس منهما بدعاء لا بدواء، فذلك معجزة، كما بعث صلّى الله عليه وآله وسلّم في زمان تنافس العرب في البلاغة فغلبهم بكلامه وبالقرآن، وكما بعث موسى بالعصا ونحوها لَمَّا كانوا في زمانه مولعين بالسحر، وكانوا في زمانه في غاية الجذام وأنواع المضرَّة وكثرة ذلك حتَّى إنَّه أبرأ في يوم واحدٍ خمسين ألفا بالدعاء، بشرط أن يؤمنوا إذا بَرَؤُوا وكانوا يأتونه، ومن لم يقدر أن يأتي أتاه عيسى عليه السلام ، ودعاؤه في ذلك: (اللَّهم أنت إله من في السماء، وإله من في الأرض، لا إله فيهما غيرك، وجبَّار من في السماء، وجبَّار من في الأرض، لا جبَّار فيهما غيرك، قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء، وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء، أسألك باسمك الكريم، ووجهك المنير، وملكك القديم، إنَّك على كلِّ شيء قدير)، وإذا قُرِئ هذا على المجنون وكُتِبَ وسُقِيَ له بَرِئَ بإذن الله تعالى ، وخصَّ الكمه والبرص لأنَّهما يعييان الأطبَّاء، وكان يجتمع عليه ألوف من المرضى.

10. ﴿وَأُحْيِ الْمَوْتَىٰ﴾ كعازَر ـ بفتح الزاي ـ صاحبِه، أرسلَت إليه أخت عازر أنَّه في الاحتضار وبينهما ثلاثة أيَّام، فمضى عيسى مع أصحابه فوجدوه مات منذ ثلاثة أيَّام، فقال: لأخته انطلقي بنا إلى قبره فدعا الله فقام حيًّا بإذن الله ووُلِد له، وكولد العجوز مرَّت به في النعش على عيسى فدعا الله له فحَيِي، فنزل ولبس ثيابه وحمل السرير لداره ووُلِد له، وكابنة العاشر، أي: آخذ العُشر من الناس، ماتت أمس وأحياها ووَلَدت، وكسام، قالوا: تحيي قريبي العهد بالحياة فلعلَّ فيهم بقيَّتها فَأَحيِ سامًا مات منذ أربعة آلاف سنة وأكثر، فأحياه بعد أن دلُّوه على قبره، وسمع قائلا: (أجب روح الله) فقام خائفا قيام الساعة، وشائبا نصف رأسه من خوفها، وآمن بعيسى، وأمرهم بالإيمان به، فقال عيسى: ليرجع ميِّتا، وسأل عيسى أن يدعو له أن لا يجد مرارة الموت ففعل، وَأَوَّل من شاب إبراهيمُ، وَلَمَّا حيي سامٌ قال: أقامت الساعة؟ قال: لا، وهؤلاء أربعة، وأَحيَى خشفا وشاة وبقرة، ولفظ الموتى يعمُّ، ويقول في دعائه لإحياء الموتى: (يا حيُّ يا قيُّوم)، ولا يصحُّ ما قيل: إنَّه يصلِّي ركعتين: الأولى بـ (تبارك الملك)، والثانية بتنزيل السجدة، ويدعو بعدهما: (يا قديم يا خفيُّ يا دائم يا فرد يا وتر يا أحد يا صمد)، ويقال: يضرب الميِّت أو القبر بعصاه فيحييه الله تعالى ويموت سريعا، وقد يطول، وأحيى حزقيل [بعد] ثمانية آلاف.

11. ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ ذكره هنا لدفع توهُّم الألوهيَّة لعيسى، بخلاف إبراء الأكمه والأبرص فلا تُتَوَهَّمُ بها؛ أو يرجع قوله: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ إلى الثلاثة، جمعهنَّ بذلك لأنَّهنَّ عملٌ في موجود كان قبلُ على حال رجع إليها، بخلاف صورة طين فإنَّ الحياة لم تسبق فيها، فقال فيها على حدَة: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾، ويدلُّ لهذا أنَّه ذكره لهما في المائدة.

12. ﴿وَأُنَـبِّـئُكُم بِمَا تَاكُلُونَ﴾ أي: بما تأكلون في عادتكم، أو ما تأكلون اليوم أو غدًا، أو ما أكلتم، ويناسب هذا قوله: ﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُم﴾ لقريب أو بعيد من الزمان، كان يخبر الرجل بما أكل في غدائه ولم يعاينه، يقول للغلام في المكتب: انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ورفعوا لك كذا، فينطلق فيبكي عليهم حتَّى يعطوه، فيقولون: من أخبرك؟ فيقول: عيسى، فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تجالسوا هذا الساحر، وجمعوهم في بيت، وجاء عيسى يطلبهم فقالوا: ليسوا هنا، قال: فما في البيت؟ فقالوا: خنازير، قال: هكذا يكونون، ففتحوا فإذا هم كذلك، فهمَّ به بنو إسرائيل فهربت به أمُّه على حمار إلى مصر، ومسخُهم ليس عقابا لهم لأنَّهم أطفال غير مكلَّفين، ويبعثهم على صورهم الآدميَّة بل عقاب لآبائهم، وقال قتادة: لَمَّا نزلت المائدة كانوا يدَّخرون منها، وقد نهوا عن الادِّخار وأمروا بالأكل، فكان يخبرهم بما أكلوا وما ادَّخروا، فمسخوا خنازير، وكلُّ ذلك واقع، فدلَّ ذلك على رسالته؛ لأنَّه يفعل ذلك بدعاء الله تعالى باسمه الأعظم: (يا حيُّ يا قيُّوم) لا بواسطة جنِّيٍّ يخبره أو بكواكب أو بحساب رمل.

13. ﴿إِنَّ فِي ذَالِكَ﴾ ما ذكر من المعجزات ﴿لَآيَةً﴾ على رسالتي، والجملة من كلام عيسى، أو على رسالته، والجملة من كلام الله تعالى ، ﴿لَكُمْ إِن كُنتُم مُّومِنِينَ﴾ مصدِّقين بها انتفعتم بها، وكلُّ واحدة معجزة، لكن لَمَّا كان مدلولها واحدا وهو رسالته سمَّاها آية، والمراد إن كنتم موفَّقين للإيمان عند الله، أو مستعدِّين بإعمال عقولكم في النظر.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/272.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ قرأ نافع وعاصم ويعلمه بالياء والباقون (ونعلمه) بالنون. والكتاب هنا: الكتابة بالخط، والحكمة: العلم الصحيح الذي يبعث الإرادة إلى العمل النافع، ويقف بالعامل على الصراط المستقيم لما فيه من البصيرة وفقه الأحكام وأسرار المسائل. (والتوراة): كتاب موسى فقد كان المسيح عالما به يبين أسراره لقومه، ويقيم عليهم الحجج بنصوصه، (والإنجيل): هو ما أوحي إليه نفسه وقد تقدم في تفسير أول السورة الكلام فيهما والكلام معطوف على قوله: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ﴾ وآية ﴿قَالَتْ رَبِّ﴾ معترضة بينهما.

2. ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي ويرسله أو يجعله بالياء أو النون رسولا إلى بني إسرائيل، فحذف لفظ يرسله أو يجعله لدلالة الكلام عليه كما قال الشاعر:

çورأيت روحك في الوغى... متقلدا سيفا ورمحاé

وقال محمد عبده: إن الرسول هنا بمعنى الرسالة، والتقدير: ويعلمه الرسالة إلى بني إسرائيل، واستعمال لفظ الرسول بمعنى الرسالة شائع. قال كثير:

çلقد كذب الواشون ما بحت عندهم... بسر ولا أرسلتهم برسولé

وفي رواية (برسيل) قال: وبعض المفسرين يجعل الرسول بمعنى الناطق؛ أي ناطقا إلى بني إسرائيل.

3. ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ المعنى على التقدير الأول: أنه يرسله محتجا على صدق رسالته بأني قد جئتكم بآية من ربكم، وفسر الآية بقوله: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قال محمد عبده: الخلق: التقدير والترتيب لا الإنشاء والاختراع، ويقرب أن يكون هذا إجماع من المفسرين وفسره الجلال هنا بالتصوير لأنه من التقدير.

4. ذكر الجلال كغيره أنه كان يتخذ من الطين صورة خفاش فينفخ فيها فتحلها الحياة وتتحرك في يده، وقال بعضهم: بل تطير قليلا ثم تسقط، قال محمد عبده: ولا حاجة إلى هذه التفصيلات، بل نقف عند لفظ الآية، وغاية ما يفهم منها أن الله تعالى جعل فيه هذا السر، ولكن لم يقل إنه خلق بالفعل، ولم يرد عن المعصوم أن شيئا من ذلك وقع وقد جرت سنة الله تعالى أن تجرى الآيات على أيدي الأنبياء عند طلب قومهم لها وجعل الإيمان موقوفا عليها، فإن كانوا سألوه شيئا من ذلك فقد جاء به، وكذلك يقال في قوله: وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فإن قصارى ما تدل عليه العبارة أنه خص بذلك وأمر بأن يحتج به، والحكمة في إخبار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك إقامة الحجة على منكري نبوته كما تقدم، وأما وقوع ذلك كله أو بعضه بالفعل فهو يتوقف على نقل يحتج به في مثل ذلك.

5. هذا ما قاله محمد عبده. ومن الغريب أن ابن جرير يروي عن ابن إسحاق (أن عيسى صلوات الله عليه جلس يوما مع غلمان من الكتاب فأخذ طينا ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرا، قالوا: وتستطيع ذلك؟ قال: نعم بإذن ربي، ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر فنفخ فيه، ثم قال: كن طائرا بإذن الله، فخرج يطير بين كفيه)، فكأنه اتخذ آية الله على رسالته ألعوبة للصبيان.

6. الحاصل أنه ليس عندنا نقل صحيح بوقوع خلق الطير بل ولا عند النصارى الذين يتناقلون وقوع سائر الآيات المذكورة في الآية إلا ما في إنجيل الصبا أو الطفولة من نحو ما قال ابن إسحاق، وهو من الأناجيل غير القانونية عندهم ولعل آية سورة المائدة أدنى إلى الدلالة على الوقوع من هذه الآية وهي: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: 110]، فإن جعل ذلك كله متعلق النعمة يؤذن بوقوعه، إلا أن يقال: إن جعل هذه الآيات مما يجري على يديه عند طلبه منه والحاجة إلى تحديه به من أجل النعم وأعظمها، ولكن هذا خلاف الظاهر.

7. مقتضى مذهب الصوفية أن روحانية عيسى كانت غالبة على جثمانيته أكثر من سائر الروحانيين؛ لأن أمه حملت به من الروح الذي تمثل لها بشرا سويا، فكان تجرده من المادة الكثيفة للتصرف بسلطان الروح من قبيل الملكة الراسخة فيه، وبذلك كان إذا نفخ من روحه في صورة رطبة من الطين تحلها الحياة حتى تهتز وتتحرك، وإذا توجه بروحانيته إلى روح فارقت جسدها أمكنه أن يستحضرها ويعيد اتصالها ببدنها زمنا ما، ولكن روحانيته البشرية لا تصل إلى درجة إحياء من مات فصار رميما.

8. يؤيد ذلك ما ينقله النصارى من إحياء المسيح للموتى؛ فإنهم قالوا إنه أحيا بنتا قبل أن تدفن، وأحيا اليعازر قبل أن يبلى، ولم ينقل أنه أحيا ميتا كان رميما، وأما إبراء الأكمه والأبرص بالقوة الروحانية فهو أقرب إلى ما يعهد الناس لا سيما مع اعتقاد المريض، ويقول مجاهد: إن الأكمه من لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار، والمشهور أنه من ولد أعمى، وأما الإخبار ببعض المغيبات فقد أوتيه كثيرون من الأنبياء وممن دون الأنبياء ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي إن فيما ذكر لحجة لكم على صدق رسالتي إن كنتم مؤمنين بالله مصدقين بقدرته الكاملة.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/311.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ أي ويعلمه الكتابة والخط، والعلم الصحيح الباعث للإرادة إلى الأعمال النافعة ويفقّهه في التوراة، ويعلمه أسرار أحكامها، وقد كان المسيح عليما بها يرشد قومه إلى أسرارها ومغازيها، وكذلك يعلمه الإنجيل الذي أوحى به إليه.

2. ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي ويرسله رسولا إلى بنى إسرائيل، روى أن الوحى أتاه وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين ثم رفع إلى السماء.

3. ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي يرسله محتجا على صدق رسالته قائلا (أني قد جئتكم بآية من ربكم) ثم فسرها بقوله: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾ أي أنى أصور لكم من الطين صورة على مقدار معين كصورة الطير فأنفخ فيها فتكون طيرا حيا كسائر الطيور بأمره تعالى، لأنه هو الذي يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى فيه معجزة له والخلاصة ـ إن من علامات نبوتى إن كنتم فيها تمترن، أنى أقتطع من الطين جزءا مصورا بصورة طير من الطيور التي تريدون، ثم أنفخ فيه فيصير طيرا حيّا يحلّق في جو السماء كما تفعل بقية الطيور، وقد روى‏ أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات طالبوه بخلق خفّاش فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز من خلق الله، وقد جرت سنة الله أن تجرى الآيات على أيدى الأنبياء عند طلب قومهم لها وجعل الإيمان موقوفا عليها، فإن كانوا سألوه شيئا من ذلك فقد فعل، ولا حاجة بنا إلى تعيين نوع الطير، إذ لم يرد عندنا نص من كتاب أو سنة يعينه فنقف حينئذ عند لفظ الآية.

4. ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾ وإنما خصا بالذكر، لأن مداواتهما أعيت نطس الأطباء، وقد كان الطب متقدما جدا زمن عيسى فأراهم الله المعجزة من ذلك الجنس، وقد جرت السنة الإلهية أن تكون معجزة كل نبيّ من جنس ما اشتهر في زمنه؛ فأعطى موسى العصا وابتلعت ما كانوا يأفكون، لأن المصريين في ذلك العصر كانوا مشهورين بالسحر، وأعطي عيسى من المعجزات ما هو من جنس الطب الذي حذقه أطباء عصره، وأعطى محمدا معجزة القرآن، لأن التفاخر في ذلك العصر كان بالفصاحة والبيان.

5. روي عن إحياء عيسى للموتى روايات كثيرة؛ فمن ذلك أنه أحيا بنتا قبل أن تدفن، وأحيا اليعازر قبل أن يبلى ولم ينقل أنه أحيا ميتا رميما، قال صاحب (الإسلام والطب الحديث) في تفسير هذه الآية: إن بعضهم قد اعترض على عمل الطين بشكل الطير، لأنه لا لزوم لذلك ما دام الله قادرا على إحيائه إلى آخر ما قالوا.. والحقيقة أن في ذلك حكمة عالية، لأن الإنسان خلق محدود الإدراك والحواس، ولا يفهم ولا يرى ولا يسمع إلا ما كان في متناول إدراكه، فإن رأى شيئا فوق طاقته اجتهد في أن يرده إلى شيء يعرفه، فإن لم يمكنه بقي متحيرا، وإن تكرر ذلك أدى إلى اضطراب في الأعصاب قد يكون خطرا، وهنا يلحظ لطف الله في أنه لا يظهر قدرته للإنسان إلا بطريق التدرج، وهذا يلاحظ في كل المعجزات على الإطلاق، لأن الله تعالى يخلق الطير من الطين ومن غير الطين، سواء أكان في شكل الطير أم لم يكن، وكذلك لا داعى للنفخ لأن طريق الإرادة الإلهية هي (كن فيكون)، ولكن الله يقرب فهم الإرادة بهذه الطريقة، لأن الطين إذا كان بشكل الطير يشتبه فيه الإنسان بالطير الحقيقي، ولا يكون هناك فرق بينهما إلا الحياة مع أن ذلك كل الفرق وبعدها ينفخ فيه، وعملية النفخ تجعله ينتظر تغييرا كما يحدث في أشياء كثيرة مثل الكرة إذا نفخ فيها وغير ذلك، فعند وجود الروح في هذا الهيكل الطيني تكون الصدمة قد انكسرت حدتها بانتظار حدوث شيء مهمّ، مع أن كل هذه المقدمات لا دخل لها مطلقا في وجود الحياة والروح، وهذا هو بنفسه ما يحدث عند إبراء الأكمه إلخ، لأن ذلك قد يحدث من نفسه أو بواسطة طبيب في حالات عصبية مخصوصة (غير عضوية) ولهذا يشتبه فيها الناظر.

6. ثم قال: للمعارضين أن يقولوا إنها ليست معجزة، لأننا نراها على أيدى أشخاص كثيرين، مع أن الفرق بين إبراء الأعمى الذي فقد بصره بفقد العين نهائيا، وبين إبراء الأعمى المصاب بالهستريا.. مثلا يشبه الفرق بين الطين الذي في شكل الطير والطير الحقيقي ولكن الله تعالى أراد أن يفهم الإنسان بذلك قدرته تدريجا؛ فالإنسان أوّلا يشك ويقول: ربما كان كل هذا من الأشياء العادية التي ليست فوق قدرة الإنسان وربما كانت شيئا غير عادى، ولكن الله يقول بعد ذلك: وأحيا الموتى لكى لا يدع مجالا للشك مطلقا.

7. ثم قال: إننا نجد هذه الطريقة نفسها في تاريخ سيدنا عيسى عليه السلام، لأنه خلق من نطفة الأم فقط، وفي العالم المادي لا يمكن أن يخلق الحيوان إلا من نطفتي الأب والأم، ولكن الطريقة التي ولد بها سيدنا عيسى كانت بحيث لا تكون صدمة لعقول المعاصرين؛ فقد اتهم هؤلاء السيدة مريم مدة من الزمن، لأنهم بطبيعتهم فسروا ولادته أو اعتبروها كولادة الناس عامة، ولكنهم أخذوا يفهمون الحقيقة تدريجيا عندما اقتنعوا بصحة المعجزات الأخرى التي أتى بها المسيح، وقد وصلوا إلى هذا الفهم على الرغم من أن عيسى خلق من أم فقط، ولكن خلقه على هذه الصورة لا يقل عن خلق آدم من طين، لأن نظام الكائنات يجرى على سنة واحدة لا تتخلف أبدا إلا حيث يريد الله، ومتى أراد الله فلا معنى لطريقة خاصة، ولا حاجة إلى واسطة إلا بقدر الإقلال من تأثير الصدمة على الإنسان كما بينا.

8. ثم قال: المعجزات كلها من صنع الله مباشرة، ومعناها سنة جديدة بخلاف كل ما نراه يوميا من عظة وعظمة كالولادة ونمو الحيوان والنبات، فإنه مع إعجازه يأتي مطابقا لقواعد ونظم وضعها الله لا تتغير، وأظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس، فإن ذلك مع عظمته لا يحدث صدمة لعقولنا لتعودنا إياه، ولكن إن أتى الله بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان، مع أن الحركتين من صنع الله ولا فرق بينهما.

9. ثم قال: ولا تحصل المعجزات إلا على أيدى الأنبياء، وذلك لأن صدمتها إن كانت‏ شديدة على الحاضرين، فهي أشد على من يكون واسطة فيها، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم، ولمنع الصدمة الشديدة وقت حدوثها يهيئ الله الظروف لتحملها، ويهيئ النبي نفسه لقبولها، ويهيئ الحاضرين لمشاهدتها، فأمر الله لسيدنا موسى بإدخال يده في جيبه وإخراجها فتكون بيضاء ليس إلا لتهيئته للمعجزات الأخرى.. وهنا يلاحظ أن كل المعجزات لا يمكن أن يصل إلى صنعها الإنسان مهما ارتقى، وأغلبها ينتهى إلى شيء واحد وهو خلق الحياة والروح مهما ظهرت صغيرة لأول نظرة: فمثلا إبراء عيسى للأعمى يظهر لأول وهلة أنه أقل من إحياء الموتى، والحقيقة أن المقصود بالأعمى هنا هو الأعمى الذي فقد شيئا عضويا حيا لا يمكن استعاضته، ومن أمكنه استعاضة شيء مهما صغر حجمه أمكنه أن يستعيض الكل، وأما إبراء الأعمى الذي يشاهد يوميا فهذا يحدث في الأحوال العصبية غير العضوية، وبواسطة أطباء العيون، وهو يحدث بإزالة أشياء تكون سبب العمى، ولكن لا يمكن الأطباء أن يحدثوا مثلا إبراء الأعمى بإعادة عصب للعين من جديد إلخ، وكذلك صنع أرجل جديدة، فالجرّاح يصنع رجلا صناعية، وبواسطة العضلات الباقية يستطيع الإنسان أن يمشى عليها، ولكن هذا الجراح لا يمكنه أن يصنع رجلا من لحم ودم.

10. ثم قال: صفوة القول ـ إنه لا يمكنه أن يصنع جزءا حيا مهما صغر حجمه، لأن الجسم مجموع ملايين من الخلايا، وصنع واحدة كصنع الكل، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ ولذلك ستبقى المعجزات دائما فوق قدرة الإنسان ويظهر لنا عظمها أو عدم عظمها بالنسبة لعقولنا فقط، ولكنها كلها من نوع واحد، وما كان صنعه فوق إدراكنا لا يمكننا الحكم عليه.

11. ثم قال: قد يقول البعض: إن العلوم تتقدم، وإنه لو كان بعض الاختراعات الموجودة الآن موجودة في مدة الأنبياء لعدّ معجزة ـ وهذا القول دليل على أن الروح الحقيقي‏ للمعجزات لم يفهم، لأن كل الاختراعات العلمية تبنى على السنن الطبيعية، وكلها مبنية على قواعد علمية لا تتغير، فإذا ظهر لها استثناء فإن سببه هو قاعدة علمية أخرى يبحث العالم عنها حتى يجدها، فإن وجدها لا تنطبق على كل الاستثناءات وجد الخوارج عن هذه الاستثناءات محكومة بسنة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية؛ فالسنن الإلهية أو القواعد العلمية أو قواعد الطبيعة ـ كما يسميها الطبيعيون ـ لا حدّ لها ولا تتغير أبدا وما لا ينطبق على القاعدة الأصلية ينطبق حتما على قاعدة أخرى وعلى قواعد لا تتغير أبدا، وكل ما يظهر مدهشا في نتيجته من المخترعات مثل الكهرباء والتليفون والراديو وما سيظهر ـ هو من الاستعانة بهذه القواعد؛ فالذي يتكلم في أوربا ويسمعه آخر في مصر بواسطة الراديو استطاع ذلك، لأن الهواء بطبيعته يحمل الصوت بصفة أمواج إلى العالم كله، فاستعان العلماء بهذه السنة الطبيعية وسحروها لأغراضهم، ولذلك مهما عظمت النتائج في المخترعات، فإن طريق الوصول إليها سنة ثابتة، ومثلها مثل من يحفر الأرض ويستعين بماء المطر ويحوّله نهرا يجرى، فإنه لم يخلق نهرا ولكنه استعان بالقوى الطبيعية، بعكس المعجزات فإنها من طراز آخر، وهى مهما صغرت نتائجها خلق سنة جديدة، وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم.

12. ثم قال: لزيادة الإيضاح أضرب مثلا قصة سيدنا إبراهيم وعدم احتراقه بالنار، فإن العلم بتقدمه يستطيع أن يغطى الإنسان بشيء غير قابل للاحتراق ويضعه في النار فلا يحترق، وهذا يشبه المعجزة ولكنه اختراع استعان صاحبه فيه بالنواميس الطبيعية، أما المعجزة فهي أن تضع الإنسان كما هو جسما ولحما في النار فلا يحترق، فيكون عدم احتراقه حينئذ هو المعجزة، وهى خرق للسنة الطبيعية التي تقضى باحتراق الجسم متى وضع في النار، وأما تغطية الجسم لمنع اتصال النار به، فإنه يظهر أن المخترع أمكنه منع النار من إحراقه، ولكنه في الحقيقة منع النار من إحراق الجسم الخارجي الذي لا يقبل الاحتراق بطبيعته لأن جسم الإنسان المغطى بمادة لا تحترق لم يتعرض للنار، والفرق‏ بين الاثنين ظاهر، والقرق بين المخترع وصانع المعجزة مثل الفرق بين الحاوي والمخترع، والطبيب الذي يعيد للقلب ضرباته ليس كمن يحيي الموتى لأنه استعان بالسنن الطبيعية، وأما إحياء الموتى فهو خرق لهذه السنن.

13. ثم قال: ويتساءل كثير من الناس هل المعجزات ضرورية؟ والجواب أنها ضرورية لإيمان الإنسان بقدرة الله، ولولاها لساد مذهب الطبيعيين، لأن سنن الله لا تتغير أبدا وهذا ما يسمى (بالطبيعة) وثبات هذه القوانين ما ظهر منها وما خفى للآن شيء مدهش، حتى إن الإنسان قد ينسى واضع هذه القوانين، ويقول ما الحاجة بي لأن أقول إن هناك صانعا أزليا ما دامت هذه القواعد ثابتة على وتيرة واحدة ملايين السنين؟ وهنا كانت حكمة الله في أن يخرق هذه السنن ليظهر للناس أن الصانع الأول موجود، ومثل ذلك مثل آلة الميزان تزن الإنسان إذا وقف عليها ووضع قطعة معدنية في ثقب فيها، فتخرج ورقة عليها رقم وزنه، فإذا فرضنا أنها محكمة الصنع لا تتغير أبدا آلاف السنين، فإن الإنسان يشك في صانعها الأول، ولكنه إن رأى أنها قد تخرج ورقة الوزن بدون أن يقف عليها أحد، وبدون وضع القطعة المعدنية فيها يقول من يفعل ذلك ربما أمكنه صنعها، وإذا رأى يوما أن قطعة معدن صغيرة أصبحت أمام عينيه آلة صغيرة تزن الأشخاص، أيقن أن للأولى صانعا، وهذا هو معنى صنع الطير من الطين لأن هذا تمثيل لخلق سيدنا آدم الذي منه خلق العالم الإنساني كله بالسنن (الطبيعية) الإلهية التي لا تبديل فيها.

14. ثم قال: صفوة القول ـ أن أساس المعجزة وعظمتها ليس في نتائجها وغرابتها، فالدهشة من سماع الأبكم يتكلم ربما كانت أقل من سماع الراديو لأول وهلة، ولكن أهمية المعجزة في طريق صنعها بدون السنن العادية، وهى لذلك لا تتكرر أبدا إلا بإذن الله؛ لأن الإنسان لا يعرف قاعدتها، ولا يدرك طريقة صنعها، أما الاختراع فإنه اكتشاف لناموس إلهى (طبيعي) ولذلك هو يتكرر دائما في الظروف نفسها على يد كل إنسان.

15. ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ أي وأخبركم بما تأكلونه من أنواع المآكل، وما تخبئونه للغد في بيوتكم، وقد كان يخبر الرجل بما أكل، وبما سيأكل، والفرق بين إخباره بالغيوب، وإخبار المتنجمة والمتكهنة التي كثيرا ما تخبر بالشيء وتصيب، أن المتنجم والمتكهن إنما ينبئ عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه، ومن سائر أنبيائه ورسله، بل كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن بإعلام الله ابتداء من غير أصل تقدم ذلك احتذاه أو بنى عليه، أو فزع إليه كما يفزع المتنجم إلى حسابه، والمتكهن إلى رئيّه، فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها، وبين علم سائر المتكذبة على الله، أو المدّعية علم ذلك.

16. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي إن في ذلك لحجة على صدق رسالتى، وموضعا للعبرة تتفكرون فيه فتعتبرون به أنى محق في قولي لكم إني رسول من ربكم إليكم، وتعلمون به أنى فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق، إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته، مقرين بتوحيده وبنبيه موسى وبالتوراة التي جاءكم بها.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/158.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم يتابع الملك البشارة لمريم عن هذا الخلق الذي اختارها الله لإنجابه على غير مثال؛ وكيف ستمضي سيرته في بني إسرائيل.. وهنا تمتزج البشارة لمريم بمقبل تاريخ المسيح، ويلتقيان في سياق واحد، كأنما يقعان اللحظة، على طريقة القرآن: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾، والكتاب قد يكون المراد به الكتابة؛ وقد يكون هو التوراة والإنجيل، ويكون عطفهما على الكتاب هو عطف بيان، والحكمة حالة في النفس يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها، وإدراك الصواب واتباعه، وهي خير كثير، والتوراة كانت كتاب عيسى كالإنجيل، فهي أساس الدين الذي جاء به، والإنجيل تكملة وإحياء لروح التوراة، ولروح الدين التي طمست في قلوب بني إسرائيل، وهذا ما يخطئ الكثيرون من المتحدثين عن المسيحية فيه فيغفلون التوراة، وهي قاعدة دين المسيح عليه السلام وفيها الشريعة التي يقوم عليها نظام المجتمع؛ ولم يعدل فيها الإنجيل إلا القليل، أما الإنجيل فهو نفخة إحياء وتجديد لروح الدين، وتهذيب لضمير الإنسان بوصله مباشرة بالله من وراء النصوص، هذا الإحياء وهذا التهذيب اللذان جاء المسيح وجاهد لهما حتى مكروا به كما سيجيء.

2. ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ويفيد هذا النص أن رسالة عيسى عليه السلام كانت لبني إسرائيل، فهو أحد أنبيائهم، ومن ثم كانت التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام وفيها الشريعة المنظمة لحياة الجماعة الإسرائيلية، والمتضمنة لقوانين التعامل والتنظيم، هي كتاب عيسى كذلك، مضافا إليها الإنجيل الذي يتضمن إحياء الروح وتهذيب القلب وإيقاظ الضمير.

3. الآية التي بشر الله أمه مريم أنها ستكون معه، والتي واجه بها بالفعل بني إسرائيل هي معجزة النفخ في الموات فيدخله سر الحياة، وإحياء الموتى من الناس، وإبراء المولود أعمى، وشفاء الأبرص، والإخبار بالغيب ـ بالنسبة له ـ وهو المدخر من الطعام وغيره في بيوت بني إسرائيل، وهو بعيد عن رؤيته بعينه.

4. حرص النص على أن يذكر على لسان المسيح عليه السلام كما هو مقدر في غيب الله عند البشارة لمريم، وكما تحقق بعد ذلك على لسان عيسى ـ أن كل خارقة من هذه الخوارق التي جاءهم بها، إنما جاءهم بها من عند الله، وذكر إذن الله بعد كل واحدة منها تفصيلا وتحديدا؛ ولم يدع القول يتم ليذكر في نهايته إذن الله زيادة في الاحتياط!

5. هذه المعجزات في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أو ردها، أو رد العافية وهي فرع عن الحياة، ورؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية.. وهي في صميمها تتسق مع مولد عيسى؛ ومنحه الوجود والحياة على غير مثال إلا مثال آدم عليه السلام وإذا كان الله قادرا أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه، فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال.. ولا حاجة إذن لكل الشبهات والأساطير التي نشأت عن هذا المولد الخاص متى رد الأمر إلى مشيئة الله الطليقة ولم يقيد الإنسان الله ـ سبحانه ـ بمألوف الإنسان!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/400.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: لقد منّ الله على عيسى بأن علمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.. والتوراة والإنجيل معروف أمرهما، إذ كانت التوراة كتاب موسى وشريعته، وبالكتاب وبالشريعة دان عيسى، ثم كان له كتابه وهو الإنجيل.. يبشر به وبكتاب موسى وشريعته.. فما الكتاب والحكمة اللذان تعلمها من الله قبل أن يتعلم التوراة والإنجيل؟ والجواب:

أ. في القرآن الكريم جاء ذكر الكتاب مقترنا بالحكمة في كثير من المواضع، مثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ}، وقوله: {رَبَّنا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ ويُزَكِّيهِمْ}، وقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾، وقوله: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾، وقوله: ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾، وقد جاءت كلمة الحكمة مفردة في قوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، وفي قوله سبحانه عن داوود عليه السّلام: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ والحكمة هي إصابة مواقع الحق في القول والعمل، فهي بهذا ضرب من الهداية والتوفيق، يرزقهما الله من يشاء من عباده.

ب. والكتاب المقترنة به الحكمة هنا يسبق الحكمة، أي أن الحكمة ثمرة من ثمراته، إذ كان طريق الوصول إلى الكتاب هو معرفة القراءة والكتابة، حتى يمكن الإفادة مما كتب الكاتبون ودرس الدارسون.. وقد تعلّم المسيح القراءة والكتابة، وقرأ ما كتب من كتب، وفتح الله بصيرته وأنار قلبه بالعلم والحكمة، قبل أن يقيمه قيّما على شريعة التوراة والإنجيل.

2. ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي ويجعله رسولا إلى بنى إسرائيل.. فالمسيح أحد الرسل الذين أرسلهم الله إلى بنى إسرائيل، ورسالته خاصة بهم، مكملة لرسالة موسى عليه السّلام فيهم، كما جاء ذلك على لسان المسيح، فيما روت الأناجيل عنه، ففي إنجيل (متى): (ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد يا ابن داوود، ابنتي مجنونة جدا، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين، اصرفها، لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: لم أرسل إلّا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة) (متى: الإصحاح الخامس عشر)، وفي متى أيضا يوصى المسيح تلاميذه، وقد بعث بهم ليبشروا، قائلا: (إلى طريق أمم لا تمضوا، ولا مدينة للسّامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحرىّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالّة) (متى: الإصحاح العاشر)

3. ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي يتحدث إلى بنى إسرائيل ويخبرهم بما أرسله الله به إليهم، ويقول لهم: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، تشهد لي بأنى رسول من عنده، وتلك الآية هي ميلاده على الصورة الفريدة، إذ ولد من عذراء لم يمسسها بشر، وإذ كان ميلاده وظهوره في بنى إسرائيل آية، فإن تلك الآية تتولد منها آيات ومعجزات.

4. ومن تلك الآيات ما ذكره القرآن على لسانه: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾ فمادة الطين التي منها تخلّقت الكائنات الحية من إنسان وحيوان ـ هي التي ينشئ منها نماذج لكائنات حية من الطير، ثم ينفخ فيها فإذا هي في عالم الطير ترفّ بأجنحتها، وتسبح في السماء، شأنها في ذلك شأن بنات جنسها من هذا العالم.

5. سؤال وإشكال: لم لم تكن معجزته أن يصوّر من الطين إنسانا، فينفخ فيه فيكون إنسانا من الناس، فإن الذي يبعث الحياة في الطين بنفخة منه، لا يعجزه أن يكون الإنسان أحد مخلوقاته، كما يفعل ذلك في عالم الطير؟ وإنه لو فعل ذلك لكان أظهر لآياته، وأبلغ في معجزته وإعجازه؟ والجواب: لو وقع هذا لكان فتنة للناس.. إذ كيف يعيش مثل هذا الإنسان في الناس؟ وكيف تطيب له الحياة بينهم؟ وبأية صلة يتصل بهم ولا نسب له فيهم؟ ثم ما شأنه بعد أن تتحقق المعجزة فيه؟ أيظل هكذا معجزة متحركة بين الناس يدورون معه حيث دار، ويتحركون معه حيث يتحرك؟ إنها الفتنة الممسكة بالناس إذن؟

6. إن شأن المعجزات المادية أن تكون بنت ساعتها، ثم تختفى فلا يرى الناس لها وجها بعد هذا.. إنها أشبه بإشارة ضوئية، تلمع ثم تختفى ليكون للناس نظر فيها، وتقدير لها، وليخلف عليها نظرهم وتقديرهم، وبهذا يكون البلاء والامتحان.. ولو أن تلك المعجزات المحسوسة ظلت هكذا قائمة تحت بصر الناس لما كان هناك مكان للابتلاء، ولما كان لأحد فضل على أحد في الإيمان بها، أو الشك فيها، أو الإنكار لها، ولاستقام أمرهم فيها على طريق واحد.. هو طريق الإيمان والتسليم، وعندها لا يكون للإنسان اختيار، ولا يكون إيمانه محسوبا له، إذ كان عن قهر، تحت ضغط هذه المعجزة القاهرة، التي تأخذ عليه كل سبيل إلى الفرار والزيغ! وانظر في هذا الطائر، الذي كان تحت أعين الناس صورة من الطين، ثم أصبح بتلك النفخة طائرا ينطلق في سبحات الجوّ.. ثم لا يلبث حتى يتوارى عن الأنظار، كما يلمع البرق ثم يختفى!.. هنا معجزة، ولكنها تحمل في ثناياها امتحانا وابتلاء، فيؤمن بها من يؤمن، ويشك فيها من يشك، وينكرها ويكفر بها من ينكر ويكفر، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾ فهكذا تكون المعجزات، لمحة خاطفة، وإشارة عابرة.. فيها نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.

7. ومن معجزات المسيح عليه السلام التي يلقى بها بنى إسرائيل، ما عرضه عليهم في قول الله سبحانه على لسانه: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ وأُحْيِ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِ اللهِ}، والأكمه من ولد أعمى، وهذا النوع من العمى ليس للطب قديما وحديثا بصر به، ولا عمل فيه، بل هو العجز المطلق حياله.. ومن هنا كان شفاؤه لا يتم إلا بمعجزة متحدية! والبرص مرض خبيث يصيب الجلد، فيذهب بلونه، ويأكل أديمه، كما تأكل‏ الأرضة لحاء الشجر.. وشأنه شأن الكمه، لا علاج له، ولا شفاء منه إلا بمعجزة متحدية! فكان من معجزات السيد المسيح إبراء الكمه والبرص، وإحياء الموتى! وتلك معجزات قاهرة متحدّية تقف أمامها قوى البشر عاجزة مستخزية.

8. ومن معجزاته التي أجراها الله على يديه أنه يخبر عما غاب من شؤون الناس، فيخبرهم بما أكلوا في يومهم أو أمسهم، وما ادخروا في بيوتهم من مال ومتاع، ولكنها مع ذلك معجزات، يمكن أن يكون فيها للسفهاء قول، وللمتمارين والمجادلين مماحكات وتعليلات.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/465.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جملة ﴿وَيُعَلِّمُهُ﴾ معطوفة على جملة ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ [آل عمران: 46] بعد انتهاء الاعتراض، والكتاب مراد به الكتاب المعهود، وعطف التوراة تمهيد لعطف الإنجيل ـ ويجوز أن يكون الكتاب بمعنى الكتابة ـ وتقدم الكلام على التوراة والإنجيل في أول السورة.

2. ﴿وَرَسُولًا﴾ عطف على جملة (يعلّمه) لأنّ جملة الحال، لكونها ذات محل من الإعراب، هي في قوة المفرد فنصب رسولا على الحال، وصاحب الحال هو قوله بكلمة، فهو من بقية كلام الملائكة.

3. فتح همزة أنّ في قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ لتقدير باء الجر بعد رسولا، أي رسولا بهذا المقال لما تضمنه وصف رسولا من كونه مبعوثا بكلام، فهذا مبدأ كلام بعد انتهاء كلام الملائكة.

4. معنى‏ ﴿جِئْتُكُمْ﴾ أرسلت إليكم من جانب الله ونظيرة قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ﴾ [الزخرف: 63]

5. ﴿بِآيَةٍ﴾ حال من ضمير ﴿جِئْتُكُمْ﴾ لأنّ المقصود الإخبار بأنه رسول لا بأنه جاء بآية، شبه أمر الله إياه بأن يبلّغ رسالة بمجيء المرسل من قوم إلى آخرين ولذلك سمّي النبي رسولا، والباء في قوله‏ ﴿بِآيَةٍ﴾ للملابسة أي مقارنا للآيات الدالة على صدقي في هذه الرسالة المعبّر عنها بفعل المجيء، والمجرور متعلق بجئتكم على أنه ظرف لغو، ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا في موضع الحال من‏ ﴿جِئْتُكُمْ﴾ لأن معنى جئتكم: أرسلت إليكم، فلا يحتاج إلى ما يتعلق به.

6. ﴿أَنِّي أَخْلُقُ﴾ ـ بكسر الهمزة ـ استئناف لبيان آية وهي قراءة نافع، وأبي جعفر، وقرأه الباقون بفتح همزة ﴿إِنِّي﴾ على أنه بدل من‏ ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾، والخلق: حقيقته تقدير شيء بقدر، ومنه خلق الأديم تقديره بحسب ما يراد من قطعه قبل قطع القطعة منه قال زهير:

çولأنت تفري ما خلقت... وبعض القوم يخلق ثم لا يفريé

يريد تقدير الأديم قبل قطعه والقطع هو الفري، ويستعمل مجازا مشهورا أو مشتركا في الإنشاء، والإبداع على غير مثال ولا احتذاء، وفي الإنشاء على مثال يبدع ويقدّر، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: 11] فهو إبداع الشيء وإبرازه للوجود والخلق هنا مستعمل في حقيقته أي: أقدّر لكم من الطين كهيئة الطير، وليس المراد به خلق الحيوان، بدليل قوله فأنفخ فيه.

7. تقدم الكلام على لفظ الطّير في قوله تعالى: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾ في سورة البقرة [360]، والكاف في قوله: ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ بمعنى مثل، وهي صفة لموصوف محذوف دل عليه أخلق، أي شيئا مقدّرا مثل هيئة الطير، وقرأ الجمهور (الطّير) وهو اسم يقع على الجمع غالبا وقد يقع على الواحد، وقرأه أبو جعفر (الطائر)

8. الضمير المجرور بفي من قوله: ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ عائد إلى ذلك الموصوف المحذوف الذي دلت عليه الكاف، وقرأ نافع ـ وحده ـ فيكون طائرا بالإفراد وقرأ الباقون فيكون طيرا بصيغة اسم الجمع فقراءة نافع على مراعاة انفراد الضمير، وقراءة الباقين على اعتبار المعنى، جعل لنفسه التقدير، وأسند لله تكوين الحياة فيه.

9. الهيئة: الصورة والكيفية أي أصوّر من الطين صورة كصورة الطير، وقرأ الجميع كهيئة بتحتية ساكنة بعدها همزة مفتوحة، وزاد قوله: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ لإظهار العبودية، ونفي توهم المشاركة في خلق الكائنات.

10. الأكمه: الأعمى، أو الذي ولد أعمى، والأبرص: المصاب بداء البرص وهو داء جلدي له مظاهر متنوّعة منها الخفيف ومنها القوي وأعراضه بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد فإن كانت غائرة في الجلد فهو البرص وإن كانت مساوية لسطح الجلد فهو البهق ثم تنتشر على الجلد فربما عمّت الجلد كله حتى يصير أبيض، وربما بقيت متميزة عن لون الجلد، وأسبابه مجهولة، ويأتي بالوراثة، وهو غير معد، وشوهد أنّ الإصابة به تكثر في الذين يقللون من النظافة أو يسكنون الأماكن القذرة، والعرب والعبرانيون واليونان يطلقون البرص على مرض آخر هو من مبادئ الجذام فكانوا يتشاءمون بالبرص إذا بدت أعراضه على واحد منهم، فأما العرب فكان ملوكهم لا يكلمون الأبرص إلّا من وراء حجاب، كما وقع في قصّة الحارث بن حلزة الشاعر مع الملك عمرو بن هند، وأما العبرانيون فهم أشدّ في ذلك، وقد اهتمت التوراة بأحكام الأبرص، وأطالت في بيانها، وكرّرته مرارا، ويظهر منها أنه مرض ينزل في الهواء ويلتصق بجدران المنازل، وقد وصفه الوحي لموسى ليعلّمه‏ الكهنة من بني إسرائيل ويعلمهم طريقة علاجه، ومن أحكامهم أنّ المصاب يعزل عن القوم ويجعل في محل خاص وأحكامه مفصّلة في سفر اللاويين، ولهذا كان إعجاز المسيح بإبراء الأبرص أهمّ المعجزات فائدة عندهم دينا ودنيا، وقد ذكر فقهاء الإسلام البرص في عيوب الزوجين الموجبة للخيار وفصّلوا بين أنواعه التي توجب الخيار والتي لا توجبه ولم يضبطوا أوصافه واقتصروا على تحديد أجل برئه.

11. إحياء الموتى معجزة للمسيح أيضا، كنفخ الروح في الطير المصوّر من الطين، فكان إذا أحيا ميتا كلّمه ثم رجع ميّتا، وورد في الأناجيل أنّه أحيا بنتا كانت ماتت فأحياها عقب موتها، ووقع في إنجيل متّى في الإصحاح 17 أنّ عيسى صعد الجبل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا أخوه وأظهر لهم موسى وإيلياء يتكلمان معهم، وكلّ ذلك بإذن الله له أن يفعل ذلك.

12. ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ أنّه يخبرهم عن أحوالهم التي لا يطّلع عليها أحد فيخبرهم بما أكلوه في بيوتهم، وما عندهم مدّخر فيها، لتكون هاته المتعاطفات كلّها من قبيل المعجزات بقرينة قوله أنبّئكم لأنّ الإنباء يكون في الأمور الخفية.

13. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ جعل هذه الأشياء كلّها آيات تدعو إلى الإيمان به، أي إن كنتم تريدون الإيمان، بخلاف ما إذا كان دأبكم المكابرة، والخطاب موجّه منه إلى بني إسرائيل فإنهم بادروا دعوته بالتكذيب والشتم.

14. تعرّض القرآن لذكر هذه المعجزات تعريض بالنصارى الذين جعلوا منها دليلا على ألوهية عيسى، بعلة أنّ هذه الأعمال لا تدخل تحت مقدرة البشر، فمن قدر عليها فهو الإله، وهذا دليل سفسطائي أشار الله إلى كشفه بقوله: ﴿بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وقوله: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ مرتين، وقد روى أهل السّير أنّ نصارى نجران استدلوا بهذه الأعمال لدى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/100.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذا القصص القرآني الصادق تستمر الآيات الكريمة متممة قصة البشارة بعيسى عليه السلام؛ بشرت به أمه قبل أن يكون في بطنها، وقد أوحى إليها أنه ستكون له تلك المنزلة في الدنيا والآخرة التي اصطفاه الله تعالى لها، وإن من سنة الله تعالى في كلامه المعجز أن يشتمل الكلام على الإيجاز، الذي هو من أسرار الإعجاز، ففي أثناء البشارة قبل الحمل كان بيان رسالته وما هيأه الله به لأداء الرسالة، والمعجزات الكبرى التي أجراها الله سبحانه وتعالى على يديه، وماهية الرسالة التي جاء بها، ومقام رسالته من الرسالات قبلها، ثم بيان تلقى الذين أرسل إليهم هذه الرسالة مؤيدة بهذه المعجزات الباهرة القاهرة، ثم بيان النهاية التي انته بها، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.

2. ابتدأ سبحانه ببيان علم الرسالة الذي تكون به قوة الرسول الذي يدعو قوما معاندين من أمثال اليهود والمشركين من الرومان، فقال: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ في هذه الآية الكريمة يبين الله سبحانه وتعالى علم الرسالة التي أرسله بها، وهو علم بأربعة أمور: علمه بالكتاب، وعلمه بالحكمة، وعلمه بالتوراة، وعلمه بالإنجيل:

أ. أما علمه بالكتاب، فقد قال بعض مفسري السلف: إنه العلم بالخط والكتابة، وتوجيه ذلك التفسير أن عيسى بعث في أمة اشتهرت بالعلم والمعرفة، فلا بد أن يكون فيه ما هو سبيل العلم والمعرفة وهو الكتابة، وقد كانت آيته في إثبات رسالته فوق علم العلماء، وقدرة الناس قاطبة، وقال بعض مفسري السلف أيضا: إن علم عيسى بالكتاب هو علمه بما نزل على النبيين السابقين، وإنا نختار الأول؛ فإنه على التفسير الثاني يكون تكرار؛ لأن علم الرسالات السابقة، في التوراة التي ذكر أنها من علمه، والتأسيس أولى من التأكيد.

ب. أما العلم الثاني، وهو الحكمة، فهو العلم الذي يحكم صاحبه في القول والعمل، وسياسة الناس في القول والعمل، ولذا يقول العلماء: إن الحكمة هي العلم النافع؛ فهي العلم الذي تظهر ثمرته في القول والعمل وهداية الناس، وقيادة نفوسهم؛ ولذلك قال الله تعالى آمرا نبيه الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل‏] وإن هذا النوع من العلم هو ألزم العلوم لمن يقود الناس إلى الإيمان، ويدعوهم بدعاية الرحمن.

ج. وأما العلم الثالث والرابع: فهما علم التوراة وعلم الإنجيل، والتوراة تومئ إلى علم الرسالات التي كانت قبلها، وعلم الإنجيل هو العلم برسالته التي بعث بها في وسط تلك المادية التي استولت على بنى إسرائيل، وهذا يدل على اتصال رسالته بالرسالات التي سبقته، وكل رسول مبعوث لا تكون رسالته مقطوعة عما قبلها، بل هي موصولة بها متممة لها، وهى لبنة في صرح الرسالات الإلهية

3. بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى علم الرسالة التي هيأه الله تعالى لها، أشار إلى من أرسل إليهم، فقال تبارك وتعالى: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، أي بعثه سبحانه وتعالى رسولا إلى بنى إسرائيل، ومعنى الكلام: ويجعله أو يبعثه رسولا إلى بنى إسرائيل، وذكر بنو إسرائيل خاصة مع أن دعوته كانت تعم كل الذين علموها من اليهود والرومان وغيرهم حتى يجيء من السماء ما ينسخها أو يكملها، وهى الرسالة العامة الخالدة، رسالة محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ والسبب في اختصاص بنى إسرائيل بالذكر أنهم هم الذين خرج عيسى من بينهم، فهو منهم، وقد كانوا يدعون أنهم أولى الناس بعلم الرسائل الإلهية، وكانت دعوته بينهم، وانبعثت منهم إلى غيرهم، فكان تخصيصهم بالذكر، فيه إشارة إلى حقيقة واقعة وتوبيخ لهم؛ لأنهم أوتوا العلم برسالات الأنبياء، مع ذلك كفروا برسول مبعوث منهم، أوتى بمعجزات لا تجعل للعقل مساغا لإنكار.

4. ذكر سبحانه في هذه الآيات معجزات عيسى التي أرسله الله بها لإثبات رسالته، فقال سبحانه: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وهذا النص الكريم فيه معنى هذه الرسالة التي كان بها رسولا، أي أنه يتبين معنى أنه رسول بقوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ فالجملة عطف بيان لمعنى الرسالة المنطوى في الكلام، وفي الكلام التفات وانتقال من خطاب الله لمريم، إلى بيان رسالة بشارة الله إليها، وجاء بيان الرسالة على لسانه هو، وابتدأ بيان الرسالة ببيان إثباتها، وهو المعجزة، وكأن المعجزة جزء من الرسالة؛ لأنها ركنها ودعامتها التي قامت عليها، ولأن معجزة عيسى كانت‏ تومئ إلى معان من رسالته؛ ذلك بأن عصره كان عصرا ماديا، لا يؤمن بالإرادة المختارة لله تعالى، ويؤمنون بالأسباب التي تجرى في الحياة على أنها المؤثرات في إيجاد الأشياء، فكانت معجزاته عليه السلام إعلانا لبطلان تأثير الأسباب، بدليل خرق هذه الأسباب، بإحياء الموتى؛ وقد جرت الأسباب المادية التي ترى على أن من مات لا يحيا في هذه الدنيا، وأن الأكمه الذي ولد أعمى لا يرتد بصيرا، وأن إخراج الحىّ من الطين مباشرة لا يكون، فجاء عيسى بكل هذا، فكان إعلانا قويا بأن الله فاعل مختار، وذلك جزء من رسالته.

5. الآية هنا هي المعجزة، وهى في أصلها العلامة، والمراد بها هنا العلامة الدالة على الرسالة، وأطلق على الجزء من القرآن آية؛ لأن كل آية في كتاب الله تعالى معجزة في ذاتها، دالة بوحدتها على رسالة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولقد ذكر بعد ذلك سبحانه آيات، وكانت الآيات المذكورة في هذا المقام أربعا؛ وعبر عنها بآية؛ لأن مجموعها دال على رسالته، وإن كانت كل واحدة منها تصلح حجة قائمة بذاتها؛ فذكرها بلفظ المفرد للإشارة إلى أنها جميعا كانت آيته، والآيات الأربع: هي أنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص، وأنه يحيى الموتى، وأنه ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم؛ فهذه آيات أربع.

6. والآيات الأربع ذكرت مضافة إلى السيد المسيح عليه السلام؛ لأنها كانت تجرى على يديه، ولأنها هي التي كان يقيم بها الدليل على رسالته؛ وقد خاطب بها بنى إسرائيل، ومن استمع إليه من الرومان وغيرهم.

7. أول هذه الآيات تصوير الطين ثم النفخ فيه فيكون طيرا، وقد ذكرها سبحانه وتعالى بقوله: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾، والخلق المراد به هنا التصوير، أي أنه صور من الطين كهيئة الطير، أي بشكله، فينفخ فيه، فكان طيرا بإذن الله تعالى، فهنا أعمال ثلاثة اثنان منها لعيسى عليه السلام، والثالث لله تعالى جل جلاله وعظمت قدرته، أما اللذان لعيسى فهما: تصوير الطين كهيئة الطير، والنفخ فيه، وأما الثالث الذي هو من عمل الله تعالى وحده، فهو خلق الحياة في هذه الصورة التي صورها عيسى عليه السلام؛ ولذلك قال ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ أي بأمره وإعلامه، والكون كله بأمره سبحانه‏ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وهذا يدل على أنه لم يكن في عيسى ألوهية، ولا أي معنى من معانيها.

8. قال محمد عبده: إن الصيغة التي ذكرت بها هذه الآية وهو قوله: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾ تدل على استطاعته ذلك، ولكنها لا تدل على الوقوع، وعندى أنها تومئ إلى الوقوع لأن ذكر الكيفية وهو أنه يتخذ من الطين صورة الطير، ثم النفخ ثم الكون طيرا يدل على الوقوع لا على مجرد الاستطاعة وفوق هذا فإن آية المائدة تدل على الوقوع بشكل أوضح من هذا؛ فإنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾ فهذا النص الكريم دليل على الوقوع، لا على إمكان الوقوع؛ لأن الله تعالى لا يمن عليه إلا بالذي وقع فعلا.

9. الآية الثانية والثالثة: بينهما سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾ الأكمه هو الأعمى الذي يولد أعمى، أي الذي لم يؤت حاسة الإبصار؛ أجرى الله تعالى على يد عيسى عليه السلام إبراءه، والأبرص هو الذي يكون في جلده بياض مشوب بحمرة، وهو مرض لا يبرأ منه من يصاب به؛ فهذان مرضان لا يتصور بمقتضى العادة، والأسباب الجارية بين الناس أنه يمكن أن يكون منهما شفاء؛ لأن الأول يولد به الشخص ناقصا حاسة الإبصار، والثاني لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منه، فإذا كان الله قد أجرى على يدى عيسى عليه السلام الشفاء بهما فإن هذا يقنع الماديين بأن وراء هذه الأسباب فاعلا مختارا، وليست الأسباب مؤثرة في الإيجاد، إنما المؤثر هو الله سبحانه وتعالى.

10. إحياء الموتى وحده برهان قاطع على أن الأسباب العادية ليست هي المؤثرة وإنما الخالق المكون هو المؤثر، وأن الأشياء لم تخلق بالعلّية، إنما خلقت بالإرادة المختارة المبدعة المنشئة المكونة.

11. عبر بقوله: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ في كل هذا للإشارة إلى أن المبدع المنشئ هو الله سبحانه وتعالى، وأنه ليس ما يجرى على يدى عيسى لمعنى الألوهية فيه، إنما هو لله العلى القدير.

12. والآية الرابعة بينها سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾، والإنباء والتنبي‏ء: الإخبار بالخبر العظيم، إما لموضوعه، وإما لعظم شأن الإخبار نفسه، والإخبار عن شيء من غير رؤيته، إخبار عظيم في ذات شأنه؛ ولقد كان عيسى لفرط روحانيته، ولما أكرمه الله به من إجراء الخارق للعادة على يديه تأييدا لرسالته، يخبر من بعث إليهم بما يأكلون، أي ما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم، وهذا نوع من الكشف النفسي أعطاه الله لنبيه عيسى عليه السلام، وهو ليس من قبيل الإخبار عن المستقبل، وإنما هو من قبيل الإخبار عن الحاضر الواقع ممن لا يراه، وقد كان النبيّ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يخبر عن بعض الأمور المستقبلة، كما أعلمه الله تعالى، مثل قوله تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ وكإخباره صلّى الله عليه وآله وسلّم عما يحدث لأمته في الأزمان المستقبلة، وكإخباره صلّى الله عليه وآله وسلّم عن فشو الربا في أمته، مثل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا) قيل: الناس كلهم يا رسول الله!؟ قال (من لم يأكله ناله غباره)

13. هذه المعجزات الأربع وغيرها، هي آية الله تعالى لإثبات رسالة السيد المسيح صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ولذا قال تعالى بعد ذكرها: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي إن في هذه الأمور التي أجراها الله على يد السيد المسيح عليه السلام لآية، أي لعلامة واضحة بيّنة تدل على صدق رسالته، وتثبت دعوته، ويقتنع بها من يريد الاقتناع.

14. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إيماء إلى أن الذين يقتنعون بالحجج والآيات هم الذين من شأنهم أن يذعنوا للحق، ويخضعوا له؛ فالناس قسمان: قسم يذعن للحق ويؤمن به إن قام الدليل عليه، وأولئك هم الذين من شأنهم الإيمان والإذعان للحق؛ وقسم لا يزيده الدليل إلا عنادا واستكبارا، وأولئك هم الذين من شأنهم أن يجحدوا ولا يذعنوا للحق إذا دعوا إليه؛ ولذلك عبر بالوصف في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي إن كان الإيمان والإذعان للحق شأنا من شؤونكم، ووصفا ذاتيا لكم.

15. إن هذه المعجزات الباهرة القاهرة التي خضع لها من خضع، وكفر بعدها من كفر، دليل على أن الدليل مهما يكن قويا لا يكفى للإيمان، بل لا بد من اتجاه نفسي لطلب الحق من أن يتأشب بالنفس أي داع من دواعي الهوى، أو أي غرض من أغراض الدنيا؛ وأي دليل حسى أقوى في الدلالة على الرسالة الإلهية من إحياء الموتى، وأن يصور من الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله، ومع ذلك آمن من آمن، وكفر من كفر، وكان الذين عاندوا أكثر عددا من الذين أذعنوا وآمنوا، والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1227.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾، الكتاب مصدر بمعنى الخط، كالقتال بمعنى الضرب، ثم كثر استعماله في اسم المفعول، أي المكتوب، وبصورة أخص في هذا المعلوم الذي له طرفان، وما بينهما أبواب ومسائل.

2. المراد بالكتاب هنا المعنى المصدري، أي الخط، لأن ذكر التوراة والإنجيل بعد ذكر الكتاب يرجح حمله على الخط والكتابة.. وقيل: بل المراد به المعنى الظاهر، وإنما ذكر التوراة والإنجيل بعد الكتاب الشامل لهما للاهتمام بهما، تماما كقوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾

3. الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وهذه الآية دليل قاطع على ان التوراة هي الركيزة الأولى لدين المسيح، وان الإنجيل امتداد لها، مع بعض التعديلات، كتحليل بعض ما جاء فيها من المحرمات المشار اليه بقوله: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾

4. ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، أرسل الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم للناس كافة، كما نصت الآية 28 من سورة سبأ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، أما عيسى عليه السلام، وهو اسرائيلي، فإنه أرسل إلى قومه بمقتضى ظاهر هذه الآية.. وتعميم رسالته للناس كافة يحتاج إلى دليل.

5. ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، هذا خطاب من عيسى لقومه الاسرائيليين، محتجا على صدق نبوته بأن لديه معجزة تدل على انه مرسل اليهم من الله، وهذه المعجزة هي قوله: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، هذه أربع معجزات:

أ. الأولى إنشاء الحياة في الطين، وجعله طيرا.

ب. الثانية: إبراء الأكمه، وهو الذي يخلق أعمى، والأبرص، وهو الذي في جلده بياض منفر.. وقيل: ان الطب كان متقدما في عهد عيسى، ولكن برغم تقدمه فقد عجز أمهر الأطباء عن هذين الداءين: العمى والبرص، فجعل الله الشفاء منهما على يد عيسى من غير علاج معجزة تدل على نبوته.

ج. الثالثة: رد الحياة إلى الميت.

د. الرابعة: الإخبار بالغيب عما يأكلون وما يدخرون.

6. ليس من شأننا البحث عن السر لهذه المعجزات وكيفية إنشاء الحياة، أو ردها إلى الأموات، ولا عن ازالة الأمراض المستعصية من غير علاج، وإذا تصدينا للبحث عن شيء من ذلك فلا ننتهي إلا إلى الشبهات والظلمات، فلم يبق لدينا إلا التسليم لحكمة الله وأمره الذي صرح به السيد المسيح عليه السلام مكررا أنه قد فعله بإذن الله، ليسد الباب على كل مقتول ومتوهم الربوبية لعيسى أو الشعوذة، أو غيرها.. وسبقت الإشارة عند تفسير الآية 255 من سورة البقرة إلى أن نظام الكائنات يجريه الله سبحانه على السنن الطبيعية إلا إذا اقتصت حكمته أن يتدخل على عكسها بإرادته التكوينية التي هي عبارة عن كلمة (كن).. وعندها فلا يبقى مجال لأية واسطة وسنة.

7. أما إخبار عيسى بالغيب فقد كان بواسطة الوحي من الله تعالى، ولا يختص وحده بذلك فقد أخبر جميع الأنبياء بالغيب، فنوح صنع السفينة قبل أن يقع الطوفان، وشعيب أخبر عن مصير قومه في هذه الحياة، وكذلك غيره من الأنبياء، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبر عن انتصار الروم على الفرس، وانتصار قومه عليهما معا.. والإمام علي أخبر عن ثورة الزنج وغيرها، حتى قال له قائل: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فقال له الإمام: ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلّم من ذي علم، يشير إلى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبره به، والنبي أخذه من الوحي.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/64.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ اللام في الكتاب والحكمة للجنس، وقد مر أن الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس، والحكمة هي المعرفة النافعة المتعلقة بالاعتقاد أو العمل، وعلى هذا فعطف التوراة والإنجيل على الكتاب والحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد بعد الجنس لأهمية في اختصاصه بالذكر، وليست لام الكتاب للاستغراق لقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾، وقد مر بيانه.

2. أما التوراة فالذي يريده القرآن منها هو الذي نزله الله على موسى عليه السلام في الميقات في ألواح على ما يقصه الله سبحانه في سورة الأعراف، وأما الذي عند اليهود من الأسفار فهم معترفون بانقطاع اتصال السند ما بين بخت نصر من ملوك بابل وكورش‏ من ملوك الفرس، غير أن القرآن يصدق أن التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم غير مخالفة للتوراة الأصل بالكلية وإن لعبت بها يد التحريف، ودلالة آيات القرآن على ذلك واضحة.

3. أما الإنجيل‏ ومعناه البشارة فالقرآن يدل على أنه كان كتابا واحدا نازلا على عيسى فهو الوحي المختص به، قال تعالى‏: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾، وأما هذه الأناجيل المنسوبة إلى متى ومرقس ولوقا ويوحنا فهي كتب مؤلفة بعده عليه السلام.

4. يدل أيضا على أن الأحكام إنما هي في التوراة، وأن الإنجيل لا تشتمل إلا على بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات: {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ‏} الآية، وقوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ﴾، ولا يبعد أن يستفاد من الآية أن فيه بعض الأحكام الإثباتية، ويدل أيضا على أن الإنجيل مشتمل على البشارة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كالتوراة قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾

5. ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، ظاهره أنه عليه السلام كان مبعوثا إلى بني إسرائيل خاصة كما هو اللائح من الآيات في حق موسى عليه السلام، وقد مر في الكلام على النبوة في ذيل قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ﴾ الآية، أن عيسى عليه السلام كموسى من أولي العزم وهم مبعوثون إلى أهل الدنيا كافة، لكن العقدة تنحل بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول والنبي أن‏ النبوة هي منصب البعث والتبليغ، والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحق بين الناس، إما بالبقاء والنعمة، أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾، وبعبارة أخرى‏ النبي‏ هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للناس، والرسول‏ هو المبعوث لأداء بيان خاص يستتبع رده الهلاك وقبوله البقاء والسعادة كما يؤيده بل‏ يدل عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لأممهم كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم عليه السلام.

6. إذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاص البعثة إليهم، وكان من الممكن أن يكون الرسول إلى قوم خاص نبيا مبعوثا إليهم وإلى غيرهم كموسى وعيسى عليه السلام، وعلى ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون، قال تعالى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾، وإيمان السحرة لموسى وظهور قبول إيمانهم ولم يكونوا من بني إسرائيل، قال تعالى: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾، ودعوة قوم فرعون، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾، ونظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد آمن به عليه السلام قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الروم وأمم عظيمة من الغربيين كالإفرنج والنمسا والبروس وإنجلترا وأمم من الشرقيين كنجران وهم جميعهم ليسوا من بني إسرائيل، والقرآن لم يخص ـ فيما يذكر فيه النصارى ـ نصارى بني إسرائيل خاصة بالذكر بل يعمم مدحه أو ذمه الجميع.

7. ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ﴾ الخلق‏ جمع أجزاء الشيء، وفيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى كما يشعر به أيضا قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾

8. الأكمه‏ هو الذي يولد مطموس العين، وقد يقال لمن تذهب عينه: كمهت عيناه حتى ابيضتا، قاله الراغب، والأبرص‏ من كان به برص وهو مرض جلدي معروف.

9. في قوله تعالى: ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى﴾ حيث علق الإحياء بالموتى وهو جمع دلالة ولا أقل من الإشعار بالكثرة والتعدد.

10. قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾، سيق للدلالة على أن صدور هذه الآيات المعجزة منه عليه السلام مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى عليه السلام بشيء من ذلك، وإنما كرر تكرارا يشعر بالإصرار لما كان من المترقب أن يضل فيه الناس فيعتقدوا بألوهيته‏ استدلالا بالآيات المعجزة الصادرة عنه عليه السلام، ولذا كان يقيد كل آية يخبر بها عن نفسه مما يمكن أن يضلوا به كالخلق وإحياء الموتى بإذن الله ثم ختم الكلام بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾

11. ظاهر قوله: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ﴾ الآية أن هذه الآيات كانت تصدر عنه صدورا خارجيا لا أن الكلام مسوق لمجرد الاحتجاج والتحدي، ولو كان مجرد قول لقطع العذر وإتمام الحجة لكان من حق الكلام أن يقيد بقيد يفيد ذلك كقولنا: إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك، على أن ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدل على وقوع هذه الآيات أتم الدلالة، قال: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ﴾ إلى أن قال: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى﴾ الآية، ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن قصارى ما تدل عليه الآية أن الله سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السر، وأنه احتج على الناس بذلك، وأتم الحجة عليهم بحيث لو سألوه شيئا من ذلك لأتى به، أما أن كلها أو بعضها وقع فلا دلالة فيها على ذلك.

12. ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾، وهذا إخبار بالغيب المختص بالله تعالى، ومن خصه من رسله بالوحي، وهو آية أخرى وإخبار بغيب صريح التحقق لا يتطرق إليه الشك والريب فإن الإنسان لا يشك عادة فيما أكله ولا فيما ادخره في بيته.

13. لم يقيد هذه الآية بإذن الله مع أن الآية لا تتحقق إلا بإذن منه تعالى كما قال: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾، لأن هذه الآية عبر عنها بالإنباء وهو كلام قائم بعيسى عليه السلام يعد فعلا له فلا يليق أن يسند إلى ساحة القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق والإحياء فإنها فعل الله بالحقيقة ولا ينسبان إلى غيره إلا بإذنه، على أن الآيتين المذكورتين ليستا كالإنباء فإن الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه‏ في الإنباء فإن القلوب الساذجة تقبل ألوهية خالق الطير ومحيي الموتى بأدنى وسوسة ومغلطة بخلاف ألوهية من يخبر بالمغيبات فإنها لا تذعن باختصاص الغيب بالله سبحانه بل تعتقده أمرا مبتذلا جائز النيل لكل مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان من الواجب عند مخاطبتهم أن يقيد الآيتين المذكورتين بالإذن دون الأخيرة، وكذا الإبراء فيكفي فيها مجرد ذكر أنها آية من الله، وخاصة إذا ألقي الخطاب إلى قوم يدعون أنهم مؤمنون، ولذلك ذيل الكلام بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/198.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الْكِتَابِ﴾ إما مصدر بمعنى يعلمه الكتابة، وإما بمعنى الكتب ﴿وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ من عطف الخاص على العام، وهذا أظهر، فمعناه: أنه يعلمه الكتب النافعة من كتب الله وكتب العلماء الأولين.

2. ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ علم وصلاح ورجاحة عقل، وحسن رأي وتدبير، بحيث يضع الأمور مواضعها اللائقة بها، ويدل على الخير وما يكون أحسن عاقبة ويحذر مما تكون عاقبته شراً بمعرفته لعواقب كثير من الأمور التي تستفاد بالتجربة وحسن النظر والوحي.

3. ﴿وَالتَّوْرَاةَ﴾ كتاب الله الذي أنزله على موسى بقي حكمه في وقت عيسى عليه السلام لم ينسخه (الإنجيل) إلا بعض الأحكام.

4. ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ عطف على ﴿وَجِيهًا﴾ وأُخّر ليتصل به الكلام في الرسالة ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لعل رسولاً إلى بني إسرائيل ضُمِّن معنى مكلماً لبني إسرائيل؛ لأنه أرسل إليهم ليكلمهم بهذا الكلام إلى آخره الذي يأتي.

5. ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ أي شيئاً ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ في (لسان العرب): (الهيئة: صورة الشيء وشكله وحالته)، ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾ الذي جعل ذلك النفخ سبباً لحياته، كما جعل حضانة الدجاجة للبيضة سبباً لحياة الفرخ فيها.

6. ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾ ﴿الْأَكْمَهَ﴾ الأعمى الذي لم يكن بصيراً فعمي بعد إبصار ﴿وَالْأَبْرَصَ﴾ المصاب بالبرص، وهو: بياض شديد في الجلد يصير به الجلد خشناً، وإبرائه: إزالة العمى والبرص بالتسبيب كالدعاء، ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾ كالأول.

﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ أخبركم بهذه المغيبات عنى، وظاهره: الاستقبال؛ لأنه لو كان المراد الماضي لقيل: بما أكلتم وما ادخرتم، ولأن دلالته على الوحي من الله علام الغيوب أوضح، وقد يجاب عن الاستقبال: بأنه لا يلزم أن يكون مستقبلاً إلا في حال قوله: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ﴾ لا في حال إنبائه لهم بذلك على التفصيل، فيصح أن ينبئهم في الحال أي في حال أكلهم وادخارهم وقبله وبعده، مع أن ذلك كله مستقبل بالنسبة إلى حال قول عيسى عليه السلام: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾

7. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آية) أي دليلاً على صدقي في قولي: إني رسول الله جئتكم بآية من ربكم، وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بها دليلاً عن صدقي، فإن كنتم مؤمنين إذا جاءتكم آية فما جئتكم به آية لكم، والمعنى: أنها تكفي من كان شأنه الإيمان؛ لأنه منصف يريد الحق، ولا يجحد بها إلا الظالم المتمرد في الباطل.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/466.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يستمر الحديث عن خصائص هذا الإنسان ـ الكلمة: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ فإن الله سيعلّمه الكتاب المتمثل بالوحي الذي ينزله على رسله في ما يمثله من التقاء الرسل على صعيد واحد في قضايا الإيمان والعقيدة والحياة.

2. ربّما كان يعني الكلمة المكتوبة في ما تمثله من وعي للكتابة والحكمة، ويعلّمه الحكمة التي تصنع للشخصية قوّة الميزان الصحيح الذي يزن به الفكرة والكلمة والخطوة، فلا يضع الفكرة إلّا في الإطار المناسب، ولا يحرّك الكلمة والخطوة إلّا في الموقع الملائم؛ فلا اهتزاز في الموقف ولا انحراف عن الخطّ.

3. قيل: إن الحكمة هي المعرفة النافعة المتعلقة بالاعتقاد والعمل، وقيل: إنها الفقه وعلم الحلال والحرام عن ابن عباس‏، والظاهر أنها تمثل المصاديق أو الوسائل التي يملك الإنسان من خلالها القوّة الذهنية واللباقة العملية التي يستطيع من خلالها وضع الأشياء في مواضعها، وتقدير الأمور بمقاديرها.

4. وينتقل الحديث من التعميم إلى التخصيص.. ﴿وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ من خلال ما يخططان له من شريعة الله، وما يرسمانه من حدود لمفاهيم الحياة في تصوراتها وتطلعاتها وأهدافها، مما يجعل من قضية العلم لديه أمرا لا يرتبط بالترف الفكري الذي يعيش مع الإنسان في نطاق التجريد، بل يتصل بالحياة في شمولها وامتدادها وحركتها وعمقها في الفكر والأسلوب والعمل.. فيجعل منها رسالة تنتظر في فاعليتها حركة الرسول وموقفه؛ فيبدأ بالحديث عن نفسه ليقدّم رسوليته التي تبتعد به عن فكر البشر لتقترب به إلى وحي الخالق‏ ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾

5. وتنتقل العجائبيّة من ذات الإنسان في ولادته، إلى طبيعة الممارسات في حياته، فقد أرسله الله إلى بني إسرائيل الذين تمرّدوا على الله، وكذّبوا رسله‏ وقتلوهم وواجهوهم بمختلف التحديات الصعبة، فلا بدّ من مواجهتهم بأسلوب حاسم يقهر تمرّدهم، ويفضح أساليبهم ويوقفهم عند حدّهم، تماما كما فعل موسى عليه السّلام مع السحرة فوقعوا له ساجدين، وأيّ أسلوب أعظم من المعجزة التي تتحدى قدرات المجتمع في ثقافته وفعاليّته: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾

6. ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾ وكان الطب هو الغالب عليهم ـ في ما يقال ـ وماذا يستطيع الطب أن يصنع للإنسان إلّا أن يعالج حركة الحياة لتتوازن، ويخفّف الآلام لتهدأ، ويبلسم الجراح لتلتئم، ولكنه لن يستطيع أن يعطي الحياة للجماد، أو يمنح البصر لمن يولد بلا بصر ـ وها هو معنى الأكمه ـ أو يشفي الأبرص بمجرّد اللمس، أو يعيد الحياة إلى الموتى من جديد.. ولكن المسيح عليه السّلام يستطيع ذلك بإذن الله الذي أعطاه من قدرته التي تمثل الإذن التكويني في حركة القدرة بالأسلوب غير المألوف.

7. ولا يقف عند ذلك، بل يتقدم في المعجزة ليخبرهم عما يأكلون ويدّخرون في بيوتهم مما لا يحيط به الإنسان من وراء الغيب الذي يختفي خلف الصدور والجدران: ‏ ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾

8. ومن المعروف لديهم أن عيسى عليه السّلام لم يستند إلى أيّة ثقافة خاصة أو عامّة في ذلك، أو في بعض ذلك، لا سيما في الأمور التي لا تصل إليها القدرات الإنسانية مهما ارتفعت، ولذلك أكّد لهم أن في هذه الظواهر الخارقة للعادة آية لهم‏ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بالآيات التي تقدم إليكم، من أجل أن تركّز لكم قناعاتكم على أساس البراهين الواضحة التي لا يملك الإنسان معها إلّا أن يرضخ للإيمان في كل مفاهيمه وحقائقه ومتطلّباته.. وتلك هي قصّة النبوّات، فهي تقود الإنسان نحو الإيمان بالمعجزة التي لا تقبل الشكّ من قريب أو من بعيد.

9. سؤال وإشكال: هل كان عيسى عليه السّلام رسولا لبني إسرائيل دون غيرهم؟ والجواب: ربما توحي فقرة: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ بالخصوصية، وربما ينافي ذلك ما هو المشهور من أن عيسى عليه السّلام من أنبياء أولي العزم الذين يتميزون بأن رسالتهم تمثل دينا جديدا ينتهي إليه الدين الذي جاء قبله، مما يعني بالصفة العالمية لهم، لأن الدين الجديد لا يأتي لجماعة خاصة من الناس، وربما يجاب بأن هناك فرقا بين الرسول والنبي، فإن (النبوّة هي منصب البعث والتبليغ، والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحق بين الناس، إمّا بالبقاء والنعمة، أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ [يونس: 47]، وبعبارة أخرى، النبي هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للناس، والرسول هو المبعوث لأداء بيان خاص يستتبع ردّه الهلاك وقبوله البقاء والسعادة)، وخلاصة الفكرة أن لعيسى عليه السّلام صفتين، النبوة العامة من حيث هو صاحب دين، والرسالة من حيث هو حاكم وقاض بين الناس، وربما كان المراد من كونه رسولا إلى بني إسرائيل، أنهم الجماعة الذين يواجههم بالرسالة في حركته الأولى، باعتبار أن لكل دين منطلقا من الموقع والأشخاص الذين تبدأ الرسالة من ساحتهم، وتتحرك في قضاياهم، لترتكز على قاعدة متينة ثابتة يجمع فيها النبي المؤمنين به، ويلتقي بحواريّيه ويثقف الدعاة إلى دينه والمجاهدين في سبيله، ليكون دوره فيهم دور التجربة الأولى التي يبدأ بها خط تجاربه الأخرى في المستقبل، وفي ضوء ذلك لا يكون الحديث عن رسالته إلى بني إسرائيل‏ حديثا عن الدائرة المحدودة التي يتحرك فيها عيسى عليه السّلام في حركته الدينية الرسالية، بل يكون حديثا عن المنطلق الذي تبدأ به المهمة الرسالية حركيتها في الحياة، والله العالم.

10. سؤال وإشكال: هل قام عيسى عليه السّلام بالمعجزات في حياته بطريقة فعلية، أم أنه كان يتحدث عن قدرته على ذلك في دائرة الشأنية من دون أن يمارس ذلك فعلا؟ والجواب: ذكر بعض المفسرين ـ ومنهم صاحب المنار ـ أن المسيح اكتفى بمجرد الادعاء بأنه يفعل كذا وكذا بإذن الله، ولكنه لم يفعل منها شيئا أبدا، وربما كان الأساس في هذا الرأي، هو استبعاد حدوث المعجزات في طبيعتها العجائبية الخارقة للعادة، مما يفرض على الباحث تأويلها بالطريقة التي تتوافق مع القوانين الطّبيعية بشكل وبآخر، وهذا ما درجت عليه بعض المدارس الإسلامية الفكرية أو التفسيرية التي حاولت أن تقدم المضمون القرآني أو الديني بشكل عام بطريقة عقلية لا تتنافى مع التصور العام الذي ينفتح على الأمور بطريقة الحسابات المادية، لكننا نلاحظ:

أ. أن بعض هذه المعجزات، كما في عصا موسى عليه السّلام، لا مجال لتأويلها وتفسيرها طبيعيا.

ب. ثم إنّ إطلاق السؤال عن السبب الذي يفرض مثل ذلك، أيعني استبعادا لخرق قوانين الطبيعة من قبل الأنبياء؟ ولكن المسألة تتصل بإذن الله وقدرته التي تحوّل العصا ثعبانا والنار بردا وسلاما، وتحيي الموتى وتبرئ الأكمه والأبرص، وتمنح الإنسان القدرة على اختراق حواجز الأسرار الذاتية الراقدة في عالم الخفاء، أليس الدين بذاته حالة غيبية تنطلق من الأسلوب غير العادي في إنزال الوحي على النبي؟

ج. وما المشكلة في أن يحرّك الله قدرته ليهيّئ السبل لرسله في الوقوف أمام التحديات بقوة، ليكونوا في الموقع الأعلى لا الأسفل، من أجل أن تكون كلمة الله العليا وكلمة الكافرين السفلى، كما قال الله سبحانه لموسى عليه السّلام: ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ [طه: 68] فكانت المعجزة خلقا جديدا للأسباب الخفية في مواجهة الأسباب الأخرى الظاهرة، إن الغيب من أمر الله كما هو الشهود من أمره، والله يحرّك غيبه في مواقع إرادته كما يحرك الشهود، لأنه يتساوى لديه عالم الغيب وعالم الحسّ، ولهذا فلا بد لنا من أن نتقبل المعجزة في عنوانها الغيبي الإلهي بإيمان وتسليم، كما نتقبل الأمور الطبيعية الأخرى، وإذا كان الآخرون لا يقبلون التسليم بالأمور الغيبية في الدنيا من خلال المعجزة التي يجريها الله على أيدي رسله، أو الكرامة التي يكرم الله بها أولياءه؛ فيحاولون إنكارها لننطلق إلى إقناعهم بها بطريقة مادية، فكيف يمكن إقناعهم بالغيب في عالم الألوهية، أو في عالم الآخرة!؟

د. هذا من الناحية العامة، وفي الجانب الخاص فإن النص القرآني يؤكد حدوث هذه الأمور من النبي عيسى عليه السّلام وذلك هو قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ﴾، إلى أن قال ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾ [المائدة: 110]

هـ. والقضية ـ كما أشرنا ـ لا تمثل أيّ انحراف عن خط العقيدة التوحيدية التي تجعل الله ـ وحده ـ مصدر كل خلق، والفاعل لكل شيء، لأن النبي لا يملك شيئا من كل ما يصدر عنه من معاجز وكرامات بنفسه، لأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا إلا بالله، بل إن الله هو الفاعل لذلك كله، الذي أجرى الأمور على يد نبيه أو وليه من خلال المصلحة التي يحدّدها بحكمة ويؤكدها بقدرته.

11. ربما يتصور بعض العلماء أن هذه الآية تدل على أن الله جعل لأنبيائه ورسله ولاية تكوينية، يتصرفون من خلالها بالكون، فيغيرون الأشياء وينقلونها من حال إلى حال، ويجمدون الأسباب ويصنعون أسبابا جديدة للأشياء بإذن الله من خلال ما أعطاهم الله من السلطة على الكون في حركة التكوين، كما أعطاهم السلطة الشرعية في إدارة شؤون الناس وحكمهم وبثّ قوانين الشريعة بينهم وهدايتهم إلى دينه، وقد أخذت نظرية (الولاية التكوينية) بعدا عقائديا حاسما متنوعا في تضييق المسألة لتبقى في دائرة المعجزة، وفي توسيعها لتشمل كل الكون، حتى أن البعض يرى أن الله فوّض للأنبياء وللأئمة عليهم السّلام أمر التصرف في الكون في حركته الخفية والظاهرة، بحيث إنهم يملكون القدرة على تغيير ما يريدونه في الكون وفي الإنسان، من دون أية قدرة ذاتية مستقلة، بل من خلال القدرة التي مكّنهم الله منها وأعطاهم إياها؛ فهم القادرون بقدرة الله، الأولياء على الكون بولايته، وهذا ما يبعد المسألة عن الشرك والغلوّ والانحراف عن خط العقيدة المستقيم، ونحن نريد أن نناقش المسألة من ناحيتين:

أ. الناحية الأولى، وتنقسم إلى نقطتين:

الأولى: جانب الإمكان، ولا إشكال في إمكان هذا الجعل من ناحية المبدأ، لأن الله القادر على الوجود كله والكون كله، يملك ـ في مضمون ألوهيته المطلقة ـ أن يمكّن بعض خلقه من بعض مواقع القدرة ووسائلها، فهو الذي جعل لهم القدرة في دائرة إنسانيتهم في أوضاعهم الخاصة والعامة، من خلال ما أوكل الله إليهم من مهمّات تتصل بالمسؤوليات الملقاة على عواتقهم، والحوافز المرتبطة بتطلعاتهم وحاجاتهم، ولا بد من أن يكون له القدرة على توسيع هذه الإمكانات لأكثر من مهمة جديدة في الكون، ويبقى الله مسيطرا ومهيمنا على الأمر كله، فله أن يبقيها لهم في مدى حكمته، وله أن يسلبها عنهم في مدى قدرته، وليس في ذلك أيّة منافاة أو انحراف عن العقيدة التوحيدية التي ترتكز على أن الخلق والأمر له في كل شيء، فلا يملك أحد من أيّ شيء إلا ما ملّكه الله، لأن القضية قضية عطاء إلهي يتحرك في الدائرة الخاصة التي يحددها الله لعباده من خلال إرادته المطلقة التي لا يعجزها شيء.

الثانية: جانب الحاجة أو الضرورة لذلك، والسؤال: لماذا يجعل الله لهم هذه الولاية التكوينية؟ هل هناك مهمة تتوقف على ذلك، بحيث تكون المسألة هي أن يملكوا القدرة الفعلية الشخصية بحيث يصدر الفعل منهم فلا يتحقق الهدف إلا من خلال ذلك، أم هي قضية تشريف إلهيّ لهم حيث يمنحهم هذا الموقع الكبير الذي لا يملكه أحد في الوجود غيرهم؟ هذه علامات استفهام تطوف في الذهن، فلا نجد لها جوابا إيجابيا يؤكد النظرية، فنحن نعلم أن دور الأنبياء هو دور تبشير وإنذار وتبليغ، وإذا كان لهم دور تنفيذي فإنهم يتحركون فيه من خلال الوسائل العادية المطروحة بين أيديهم في الحالات العادية، فإذا جاء التحدي الكبير الذي يحوّل الموقف إلى خطر كبير على الرسالة والرسول، بحيث كانت الوسائل العادية ذات مردود سلبيّ على الموقف والموقع، لأنها تجعل القضية في حالة الضعف الشديد، فإن المعجزة عندئذ تتحرك لتحفظ توازن الرسالة في موقع الرسول، وتصدم واقع الكافرين بالصدمة القوية القاهرة التي تردّ كيدهم وتهدم كيانهم وتؤدي بهم إلى الضعف والهزيمة، كما في طوفان نوح عليه السّلام، ونار إبراهيم عليه السّلام، وعصا موسى عليه السّلام، أو يده البيضاء وفلق البحر له، وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لدى عيسى عليه السّلام، وقرآن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتنتهي المسألة عند هذا الحد، فتكون بمثابة قضية في واقعة، وتعود الرسالة إلى مجراها الطبيعي، ويعود الرسول إلى الوسائل العادية، ويتحرك الصراع من جديد ليعيش النبي هنا وهناك أكثر من مشكله وهمّ وبلاء؛ فيتحمل الألم القاسي، ويواجه التحديات الصعبة كأيّ إنسان آخر من دون أن يبادر إلى أية وسيلة غير عادية للتخلص من ذلك كله، أمّا التشريف، فإنّه لا يتمثل في إعطاء القدرة من دون قضية، أو توسيع السلطة من دون مسئولية، والله يشرف أنبياءه من خلال رفع درجتهم عنده من خلال تقريبهم إليه ومحبته لهم وعلوّ مقامهم في الآخرة، أما الدنيا فلا قيمة لها عنده، ولذلك لم يجعلها أجرا لأوليائه بل أتاح الفرصة الكبرى فيها لأعدائه.. إنّنا لا نجد أية ضرورة أو حاجة تفرض إعطاء الولاية التكوينية المطلقة لهم إلّا بالمقدار الذي تحتاجه الرسالة في أصعب أوقات التحدي مع احتمال أنها ليست من قدرتهم، ولكنّها قدرة الله بصورة مباشرة، ثم ما معنى هذه الولاية التي لا أثر لها في حياتهم من قريب أو من بعيد، ولا دخل لها في حماية رسالتهم، فلم يستعملوها في إذهاب الخطر عنهم، ولم يتحركوا بها في الانتصار لرسالاتهم، وذلك من خلال قراءة تاريخهم الصحيح كله؟

ب. الناحية الثانية ناحية الدليل على ثبوتها من خلال النص القرآني في نطاق المعاجز الخارقة في حياة الأنبياء:

فنلتقي في البداية بالنبي نوح في قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: 9 ـ 12] وهي واضحة الدلالة على أن المسألة كانت دعاء نوح‏ واستجابة ربه له بإغراق الكافرين بالطوفان، من دون أن يكون لنوح أيّ دور عملي فيه.

فإذا انتقلنا إلى إبراهيم عليه السّلام فنجد قوله تعالى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: 68 ـ 70] إنه اللطف الإلهي بنبيه إذ أرادوا إحراقه، فأنجاه الله من النار فحوّلها إلى عنصر بارد، فإذا انتقلنا إلى الطلب الذي قدمه النبي إبراهيم عليه السّلام إلى ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260]، فإننا نرى أن دور إبراهيم في المسألة هو أن يأتي بالطيور ويذبحها ويقسمها إلى أجزاء ثم يدعوهن لتأتينه سعيا، لنشاهد الصورة الواضحة في كيفية إحياء الله الموتى، فإن الله هو الذي أحياها بطريقة مباشرة ولم يكن لإبراهيم دور في ذلك.

ونصل إلى موسى عليه السّلام الذي تمثلت المعجرة لديه أولا في مجلس فرعون الذي قال كما جاء به قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ [الأعراف: 106 ـ 108] ثم في ذروة التحدي الذي واجهه في صراعه مع السحرة، وذلك قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ [الأعراف: 117]، ونحن لا نرى أي جهد لموسى في الموضوع، فإنه كان يعيش دور المنفعل الذي يحولّ الله يده السمراء إلى بيضاء، ويحوّل العصا التي يمسكها إلى ثعبان، وكان خاضعا للخوف من تجربة السحرة، وللحيرة في ما يمكن أن يقوموا به ردّا للتحدي، لأنه كان ينتظر تدخل الله غير العادي في المسألة، وذلك هو قوله تعالى: (﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه: 67 ـ 69]

ثم نلتقي بالنبي سليمان عليه السّلام الذي قال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [ص: 35] واستجاب الله دعاءه: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [ص: 36 ـ 39]، فليس في القصة إلا دعاء واستجابة ربانية أعطته ما يريد من دون أن يكون له أيّ دور عملي أو قدرة واقعية في تحقيق ذلك.

ونصل ـ بعد هذه الجولة الطويلة ـ إلى عيسى عليه السّلام الذي قد يدّعى ظهور الآية في صدور المعجزة عنه من خلال جهده الذاتي الذي اكتسبه بإذن الله، وهذا هو ما جاء في الآية الكريمة: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ فنلاحظ أنه ينسب الخلق إلى نفسه، كما يتحدث عن عملية إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والإخبار بالغيب في أوضاع الناس الخاصة إلى جهده وفعله الشخصيّ، ولكن بإذن الله، وربما يجد القائلون بالولاية التكوينية الحجة الدامغة في هذه الآية الكريمة، ولكننا نستوحي من كلمة: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ في هذه الآية، أو كلمة: ﴿بِإِذْنِي﴾ [المائدة: 110] أن دور عيسى كان دور الآلة التي تتحرك لتصنع شيئا كهيئة الطير وتنفخ فيه، فيبعث الله فيه الحياة، وهكذا يضع يده على الأكمه والأبرص وعلى الميت، فتحدث العافية في الأولين، وتنطلق الحياة في الثالث من خلال إرادة الله، من هنا، فإنّ كلمة ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ لا تعني معناها الحرفي اللغوي، بل تعني معنى القوة التي تنطلق لتحقق النتائج الحاسمة التي لا يملك عيسى عليه السّلام أيّة طاقة خاصة به فيها.

12. وهكذا نرى أنه لا دليل في كل هذه المواقع على الولاية التكوينية في‏ النص القرآني، بل ربما نجد الدليل على خلافها من خلال الآيات التي تدل على أن النبي لا يملك شيئا من ذلك كله، وأن مهمّته الأولى والأخيرة هي الرسالة في حركتها في الإبلاغ والتبشير والإنذار وهداية الناس إلى سبل السّلام في الطريق إلى الله، بل إن القرآن يؤكد وجود عناصر الضعف البشري في ذات الرسول، ولكن في المستوى الذي لا ينافي العصمة، فنقرأ في سورة الإسراء قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 90 ـ 93]، فنحن نلاحظ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يتحدث عن رفضه للمعجزات الاقتراحية التي يوجهها الناس الكافرون للأنبياء كوسيلة للتحدي والتعجيز مما يرفضه الأنبياء، لأن مهمة النبي ليست هي إشغال نفسه بتنفيذ هذه الطلبات التي لا معنى لها بعد إقامة الحجة عليهم من قبله، بل تحدّث عن أن ذلك لا يدخل في مهمته الرسالية، كما أنه لا يملك هذه القدرة باعتبار بشريته التي تختزن في داخلها الضعف البشري.

13. إذا كان بعض الناس يتحدثون عن أن القائلين بالولاية التكوينية يؤكدون أن النبي لا يختزن في مضمون بشريته أية قدرة ذاتية، بل إن الله هو الذي يمنحه ذلك، فإننا نجيب أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما كان يتحدث عن الواقع الفعلي الذي تمثله طاقته في دوره، فإن الله أعطاه الطاقة المرتبطة بحركية الرسالة في الناس، ولم يعطه الطاقة ـ حتى بإذنه ـ لمثل هذه الطلبات الصعبة:

أ. قد نستوحي من هذه الآيات ومن غيرها أن المعجزة الوحيدة للنبي هي القرآن الكريم، فلم يقم النبي بمعجزة أخرى كانشقاق القمر، بحيث لو كانت منه لكانت أكثر استجابة للتحدي الذي واجهه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من قبل المشركين، كما أنها أكثر صعوبة من هذه الاقتراحات، وقد تحدث المشركون عن هذه المسألة ـ وهي عدم قيام النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمعجزة المماثلة لما قام به الأنبياء السابقون ـ وذلك في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 37] وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7] فقد يظهر من هذه الآية، أنّ إنزال الآيات ليس أمرا ضروريا للنّبوّة إلّا في حالات التحدّي الكبير الذي يهدّد حركتها في ساحة الصراع والمواجهة، ولذلك لم ينزل الله على النبي آية، لأن التحدي لم يصل إلى هذه المرتبة الحاسمة، وقوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: 59]، وظاهرها نفي الإرسال بالآيات بالرغم من أنها كانت مطلبا ملحّا للمشركين، كما جاء في آية أخرى في قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 109]، فإن المسألة لم تكن في مستوى الضرورة، ولم تكن في واقع الحاجة للمهمة الرسالية.

ب. ونلتقي في آيات أخرى ببعض مظاهر الضعف البشري الفعلي للأنبياء، وذلك كما في قصة موسى الذي خرج من المدينة خائفا يترقب، وكان يعيش الخوف من قتل فرعون وقومه له: ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ [الشعراء: 14] والخوف في ساحة التحدي مع السحرة: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ [طه: 68]

ج. ونجد ذلك في قصة إبراهيم عندما دخل عليه الملائكة: ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ﴾ [الذاريات: 28]

د. ونلاحظ ذلك في خطاب الله للنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كيف يقدم نفسه للناس: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام: 50]، وقد ورد هذا المضمون في سورة هود في آية: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا﴾ [هود: 31]، فإن هذه الآية ظاهرة في تأكيد بشرية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبأن كل ما لديه إنما هو من الله سبحانه وتعالى، يمنحه إياه‏ بقدر حاجة الرسالة إليه في حركتها في الحياة، وثمة اشارة في الآية إلى أن الغيب الذي قد يعلمه الله للنبي إنما ينزل عليه بطريق الوحي كما جاء التصريح به في آية أخرى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ [آل عمران: 44] وقد جاء في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 188]، وهذه الآية تدل على نفي الفعلية في وجود الطاقة التي تدفع عن الإنسان الشر وتجلب له الخير، بحيث إنها تأتي تدريجا بمشيئة الله لا بنحو خلق الطاقة في الكيان النبوي ليتحرك من خلالها إراديا، ويؤكد ذلك أنه يتحدث عن الواقع الذي كان يصيبه بالسوء بمختلف ألوانه، أو يمنع منه الكثير من الخير، فكأنه يريد الإيحاء بأن ذلك لا يتصل بدوره لأن دوره البشارة والإنذار لقوم يؤمنون مما لا يحتاج فيه إلى علم الغيب إلا بما يرتبط بحركة الرسالة في تاريخ الرسالات في الأمم السابقة، وهذا مما يوحيه الله إليه في القرآن الكريم من أنباء الغيب، في التاريخ الذي لا يعلمه هو ولا قومه.

14. ورد في بعض الآيات الحديث عن أن الله يظهر رسله على الغيب، وذلك هو قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن: 26 ـ 28]، فقد استند إليها القائلون بأن الله قد أعطى رسوله وأولياءه العلم بالغيب إما بطريق الفعلية الاستحضارية وإما بطريق القوة، بمعنى أنه لو شاء أن يعلم لعلم، وذكروا أن ظاهر الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ هو الإطلاق الذي لم يتقيد بشيء مما يوحي بأن المسألة تشمل كل شيء يريد الرسول أن يعلمه من الغيب، ويفسرون ما حكي من كلامه تعالى من أنّ إنكارهم العلم بالغيب أريد به نفي الأصالة والاستقلال دون ما كان يوحى، ولكننا نحتمل أن يكون قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ إشارة إلى الغيب الذي يظهر عليه من ارتضى من رسله، وهو الجو الملائكي الذي يحميه من الشياطين، فيطردهم عنه ويعصمه من وساوسهم وتخاليطهم، حتى يبلغ ما أوحي به إليه؛ فليست الآية في مقام الحديث عن علم الرسول للغيب بل عن حمايته بطريق الغيب، فكأنه بداية كلام جديد في الحديث عن مهمة الرسل في إبلاغهم رسالات ربهم واطلاعه عليهم وحمايته لهم، وذلك على أسلوب الاستثناء المنقطع، لأن مثل هذا الاستثناء ـ على حسب ما يرى هؤلاء ـ يتنافى مع الأسلوب القرآني الذي يؤكد نفي علم الأنبياء بالغيب، الذي لم يكن واردا على سبيل نفي الاستقلال ـ كما ذكر ـ بل على نفي الفعلية بحسب الواقع الفعلي الذي يعيشه في حياته وفي مهمته الرسالية.

15. خلاصة الفكرة أن هناك فرقا بين علم الغيب كملكة تدخل في نطاق التكوين الذاتي للنبي ـ في خصوصية نبوّته ـ وهذا ما ينفيه الظاهر القرآني، سواء ذاك المتصل بأخبار الماضين، والذي يمكن إدراجه تحت عنوان علم الغيب، حيث ثمة إشارة واضحة في القرآن الكريم أن أنباءه هي من وحي الله تعالى، أو ذاك المتصل ببعض موارد الحاجة إليه في موارد معينة، فيلهمه الله تعالى إياه إلهاما، فهذا ما لا ينفيه النص القرآني، بل قد تؤكده بعض الآيات، وقد وردت أحاديث متنوعة في علم الأنبياء والأئمة بالغيب، وهي موضع جدل علميّ، وربما نتعرض لها في ما يأتي في حديث الغيب في آيات القرآن.

16. من خلال هذا الحديث الطويل نستطيع أن نخرج بالفكرة التي تنفي الولاية التكوينية بمعناها التكويني الذي منحه الله للأنبياء وللأئمة، لأن الدليل لم يدل عليه ـ حسب فهمنا القاصر ـ ولكن يبقى ـ في المسألة ـ أن الله يمنح الأنبياء الفرصة التي يواجهون فيها تحديات الكفر بالمعجزات عند الحاجة إليها؛ والله العالم.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/21.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكرت الآيات السابقة أربع صفات للمسيح عليه السّلام (وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد، ومن الصالحين) شرعت هاتان الآيتان بذكر صفتين أخريين من صفات هذا النبي العظيم، فالأولى تقول: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ ففي البداية تشير إلى تعليمه الحكمة والعلم بشكل عام، ثمّ تبيّن مصداقين من مصاديق الكتاب والحكمة، وهما التوراة والإنجيل.

2. إنّ الذين يختارهم الله لقيادة الناس وهدايتهم، لا بدّ أن يكونوا في أعلى درجة من العلم والمعرفة وأن يقدّموا أسمى التعاليم والقوانين البنّاءة، ثمّ بعد ذلك عليهم أن يظهروا أدلّة واضحة على علاقتهم بالله، لتوكيد مهمّتهم، وبهذين الوسيلتين تكتمل عملية هداية الناس، وفي الآيات أعلاه تمت الإشارة إلى هذين الأمرين، ففي الأولى كان الكلام عن علم المسيح وكتبه السماوية، وفي الآية الثانية إشارة إلى معجزاته العديدة، ثمّ تبيّن الهدف من كلّ ذلك وهو هداية بني إسرائيل المنحرفين‏ ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾

3. من الجدير بالذكر أنّ الآية تفيد أنّ رسالة عيسى كانت موجّهة إلى بني إسرائيل فقط، وهذا لا يتنافى مع كونه من أولي العزم، لأنّ أولي العزم هم الأنبياء الذين جاؤوا بدين جديد، حتّى وإن لم يكن عالميّ الرسالة، وقد جاء في تفسير (نور الثقلين) حديث عن اقتصار رسالة عيسى على بني إسرائيل‏، إلّا أنّ بعض المفسّرين يرون احتمال عالمية رسالة المسيح، وأنّها لم تكن محصورة ببني إسرائيل، على الرغم من أنّ بني إسرائيل كانوا على رأس الذين أرسل إليهم لهدايتهم، يورد المرحوم العلّامة المجلسي في (بحار الأنوار) أخبارا عن أولي العزم من الأنبياء تؤيّد أنّها كانت رسالات عالمية.

4. ثمّ تضيف الآية ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وليست آية واحدة، بل آيات عديدة (لأنّ التنوين جاء هنا لبيان عظمة هذه الآية، لا لبيان وحدتها)، ولمّا كانت دعوة الأنبياء في الحقيقة دعوة إلى حياة حقيقية، فإنّ هذه الآية ـ عند بيان معجزات السيّد المسيح عليه السّلام ـ تبدأ بذكر بثّ الحياة في الأموات بإذن الله، وتقول على لسان المسيح عليه السّلام: ‏ ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾

5. إنّ قضية إحياء الموتى التدريجي بإذن الله ليست عويصة، لأنّنا نعلم أنّ جميع الكائنات الحيّة مخلوقة من التراب والماء، إلّا أنّ المعجزة في أن هذا الخلق الذي تحقّق على امتداد سنوات طويلة، فما الذي يمنع من أن يكثّف الله تلك العوامل والأسباب بحيث تتمّ مراحل الخلق بسرعة فائقة، ويتحوّل الطين إلى كائن حي؟ بديهيّ أنّ تحقّق هذا الأمر في ذلك المحيط، وفي أي محيط آخر، سند حيّ ودليل واضح على علاقة صاحب المعجزة بعالم ما وراء الطبيعية، وعلى قدرة الله اللامتناهية.

6. ثمّ تشير إلى معالجة الأمراض الصعبة العلاج أو التي لا علاج لها، وتقول على لسانه: ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾، لا شكّ أنّ القيام بكلّ هذه الأعمال وخاصّة لدى علماء الطبّ في ذلك الزمان كان من المعجزات التي لا يمكن إنكارها.

7. بعد ذلك تشير إلى إخباره عن أسرار الناس الخافية، فلكلّ امرئ في حياته بعض الأسرار التي لا يعرف الآخرون شيئا عنها، فإذا جاء من يخبرهم بما أكلوه، أو ما ادّخروه، فهذا يعني أنّه يستقي معلوماته من مصدر غيبي: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ وأخيرا يقول إنّ هذه كلّها دلائل صادقة للذين يؤمنون منكم: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾

8. سؤال وإشكال: أكانت معجزات المسيح عجيبة؟ والجواب: يصرّ بعض المفسّرين ـ مثل صاحب المنار ـ على تأويل المعجزات التي ذكرها القرآن للمسيح بشكل من الأشكال، من ذلك قولهم إنّ المسيح اكتفى بمجرّد الادّعاء بأنّه يفعل كذا وكذا بإذن الله، ولكنّه لم يفعل منها شيئا أبدا! فإذا كان هذا الرأي قابلا للنقاش هنا، فإنّ ما جاء في الآية 110 من سورة المائدة لا مجال فيه لأيّ نقاش: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ لأنّ الآية تقول صراحة إنّ واحدة من نعم الله عليك أنّك كنت تصنع من الطين طيرا حيّا بإذن الله.. إنّ الإصرار على أمثال هذه التأويلات لا موجب له أبدا، لأنّه إذا كان الهدف إنكار أعمال الأنبياء الخارقة للعادة، فإنّ القرآن يصرّح بها في كثير من المواضع، فإذا استطعنا ـ فرضا ـ أن نؤوّل المعجزات فكيف بسائر المعجزات التي لا يمكن تأويلها؟ ثمّ إنّنا إذا كنا نقول إنّ الله هو الذي يحكم قوانين الطبيعة، وليست هي التي تحكمه، فما الذي يمنع هذه القوانين لطبيعية أن تتغيّر بأمر منه في ظروف استثنائية فتظهر حوادث بطرق غير طبيعية، أمّا إذا تصوّر هؤلاء أن ذلك يتعارض مع وحدة أفعال الله وخالقيّته وكونه لا شريك له، فإنّ القرآن قد أجاب على هذا، فوقوع هذه الحوادث أينما وقعت مشروط بأمر الله، أي أنّ أحدا بقواه الخاصّة غير قادر على القيام بأمثال هذه الأعمال إلّا إذا شاء، وبإمداد من قدرته اللامتناهية وهذا هو التوحيد عينه، لا الشرك.

9. تفيد هذه الآية وآيات أخرى سوف نتطرّق إليها ـ إن شاء الله ـ أنّ رسل الله وأولياءه يستطيعون بإذن منه وبأمره ـ إذا اقتضى الأمر ـ أن يتدخّلوا في عالم الخلق والتكوين، وأن يحدثوا ما يعتبر خارقا للقوانين الطبيعية، فاستعمال أفعال مثل ﴿وَأُبْرِئُ﴾ و{أحيي الموتى} وبضمير المتكلّم تدلّ على أنّ هذه الأفعال من عمل الأنبياء أنفسهم، وأنّ القول بأنّ هذه الأفعال كانت تقع بسبب دعائهم فقط هو قول لا يقوم عليه دليل، بل أنّ ظاهر الآيات يدلّ على أنّهم كانوا يتصرفون بعالم التكوين ويقومون بتلك الأفعال، ولكن لكي لا يتصوّر أحد أنّ الأنبياء والأولياء كان لهم استقلال في العمل، وأنّهم أقاموا جهازا للخلق في مقابل جهاز خلق الله، وكذلك لكي لا يكون هناك أيّ احتمال للشرك وللعبادة المزدوجة، تكرّر قول ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، (تكرّر في هذه الآية مرّتين، وفي الآية 110 من سورة المائدة أربع مرّات)

10. ما الولاية التكوينيّة إلّا القول بأنّ الأنبياء والأئمّة يستطيعون ـ إذا لزم الأمر ـ أن يتصرّفوا في عالم الخلق بإذن الله، وهذا مقام أرفع من مقام الولاية التشريعية، أي إدارة الناس وحكمهم ونشر قوانين الشريعة بينهم ودعوتهم إلى الله وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.

11. بذلك يتضح جواب الذين ينكرون ولاية أهل الله التكوينية يعتبرونها ضربا من الشرك، فما من أحد يقول بأنّ للأنبياء والأئمّة جهازا للخلق مستقلا في قبال الله، إنّما هم يفعلون ما يفعلون بإذن الله وبأمر منه، غير أنّ منكري الولاية التكوينية يقولون إنّ مهمّة الأنبياء تنحصر في الدعوة إلى الله وإبلاغ رسالته وأحكامه، وقد يتوسّلون أحيانا بالدعاء إلى الله في بعض الأمور التكوينية، وأنّ هذا هو كلّ ما يقدرون عليه، مع أنّ هذه الآية والآيات الأخرى تفيد غير ذلك.

12. كما يستنتج من هذه الآية أنّ كثيرا من معجزاتهم ـ على الأقل ـ قد فعلوها بأنفسهم، وإن كان ذلك بإذن الله وبعون من القدرة الإلهية، في الواقع يمكن القول بأنّ المعجزة من عمل الأنبياء ـ لأنّهم هم الذين يقومون بها ـ كما هي من عمل الله لأنّها تتمّ بإذنه وبالاستعانة بقدرته.

13. الجدير بالالتفات هنا إن تكرار القول ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ والاعتماد على مشيئته في هذه الآية من أجل أن لا يبقى عذر لمدعي الوهية المسيح، ولكيلا يعتبره الناس ربّا، أما عدم تكرارها في الأخبار بالغيب لوضوح الأمر.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/504.

28. المسيح ورسالته

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈28⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [آل عمران: 50 ـ 51]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾، أي: وحدوا(1).

2. روي أنّه قال: كانت اليهود يجتمعون إلى عيسى، ويستهزئون به، ويقولون له: يا عيسى، ما أكل فلان البارحة، وما ادخر في بيته لغد؟ فيخبرهم، فيسخرون منه، حتى طال ذلك به وبهم، وكان عيسى ليس له قرار ولا موضع يعرف، إنما هو سائح في الأرض، فمر ذات يوم بامرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي، فسألها، فقالت: ماتت ابنة لي، لم يكن لي ولد غيرها، فصلى عيسى ركعتين، ثم نادى: يا فلانة، قومي بإذن الرحمن، فاخرجي، فتحرك القبر، ثم نادى الثانية، فانصدع القبر، ثم نادى الثالثة، فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، فقالت: يا أماه، ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين، يا أماه، اصبري واحتسبي، فلا حاجة لي في الدنيا، يا روح الله، سل ربي أن يردني إلى الآخرة، وأن يهون علي كرب الموت، فدعا ربه، فقبضها إليه، فاستوت عليها الأرض، فبلغ ذلك اليهود، فازدادوا عليه غضبا، وكان ملك منهم في ناحية في مدينة يقال لها: نصيبين، جبارا عاتيا، وأمر عيسى بالمسير إليه ليدعوه وأهل تلك المدينة إلى المراجعة، فمضى حتى شارف المدينة ومعه الحواريون، فقال لأصحابه: ألا رجل منكم ينطلق إلى المدينة، فينادي فيها، فيقول: إن عيسى عبد الله ورسوله، فقام رجل من الحواريين يقال له: يعقوب، فقال: أنا، يا روح الله، قال فاذهب، فأنت أول من يتبرأ مني، فقام آخر يقال له: توصار، قال له: أنا معه، قال وأنت معه، ومشيا، فقام شمعون، فقال: يا روح الله، أكون ثالثهم، فأذن لي أن أنال منك إن اضطررت إلى ذلك، قال نعم، فانطلقوا، حتى إذا كانوا قريبا من المدينة قال لهما شمعون: ادخلا المدينة، فبلغا ما أمرتما، وأنا مقيم مكاني، فإن ابتليتما احتلت لكما، فانطلقا حتى دخلا المدينة، وقد تحدث الناس بأمر عيسى، وهم يقولون فيه أقبح القول وفي أمه، فنادى أحدهما: وهو الأول:: ألا إن عيسى عبد الله ورسوله، فوثبوا إليهما: من القائل: إن عيسى عبد الله ورسوله؟ فتبرأ الذي نادى، فقال: ما قلت شيئا، فقال الآخر: قد قلت، وأنا أقول: إن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، فآمنوا به ـ يا معشر بني إسرائيل ـ خيرا لكم، فانطلقوا إلى ملكهم، وكان جبارا طاغيا، فقال له: ويلك، ما تقول!؟ قال أقول: إن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، قال كذبت، فقذفوا عيسى وأمه بالبهتان، ثم قال له: تبرأ ـ ويلك ـ من عيسى، وقل فيه مقالتنا، قال لا أفعل، قال إن لم تفعل قطعت يديك، ورجليك، وسمرت عينيك، فقال: افعل ما أنت فاعل، ففعل به ذلك، فألقاه على مزبلة في وسط مدينتهم، ثم إن الملك هم أن يقطع لسانه إذ دخل شمعون وقد اجتمع الناس، فقال لهم: ما قال هذا المسكين؟ قالوا: يزعم أن عيسى عبد الله ورسوله، فقال شمعون: أيها الملك، أتأذن لي فأدنو منه فأسأله، قال نعم، قال له شمعون: أيها المبتلى، ما تقول؟ قال أقول: إن عيسى عبد الله ورسوله، قال فما آيته؟ تعرفه؟ قال يبرئ الأكمه والأبرص والسقيم، قال هذا يفعله الأطباء، فهل غيره؟ قال نعم، يخبركم بما تأكلون وما تدخرون، قال هذا تعرفه الكهنة، فهل غير هذا؟ قال نعم، يخلق من الطين كهيئة الطير، قال هذا قد تفعله السحرة، يكون أخذه منهم، فجعل الملك يتعجب منه وسؤاله، فقال: هل غير هذا؟ قال نعم، يحيي الموتى، قال أيها الملك، إنه ذكر أمرا عظيما، وما أظن خلقا يقدر على ذلك إلا بإذن الله، ولا يقضي الله ذلك على يد ساحر كذاب، فإن لم يكن عيسى رسولا فلا يقدر على ذلك، وما فعل الله ذلك لأحد إلا بإبراهيم حين سأله: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾ [البقرة: ٢٦٠]، ومن مثل إبراهيم خليل الرحمن!؟(2).

3. روي أنّه قال: لما بعث الله عيسى عليه السلام، وأمره بالدعوة؛ لقيه بنو إسرائيل، فأخرجوه، فخرج هو وأمه يسيحون في الأرض، فنزلوا في قرية على رجل، فأضافهم، وأحسن إليهم، وكان لتلك المدينة ملك جبار، فجاء ذلك الرجل يوما حزينا، فدخل منزله ومريم عند امرأته، فقالت لها: ما شأن زوجك؟ أراه حزينا! قالت: إن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يوما يطعمه هو وجنوده، ويسقيهم الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، وإنه قد بلغت نوبته اليوم، وليس عندنا سعة، قالت: قولي له: فلا يهتم، فإني آمر ابني فيدعو له؛ فيكفى ذلك، قالت مريم لعيسى في ذلك، فقال عيسى: يا أمه، إني إن فعلت كان في ذلك شر، قالت: لا تبال؛ فإنه قد أحسن إلينا، وأكرمنا، قال عيسى: قولي له: املأ قدورك وخوابيك ماء، فملأهن، فدعا الله، فتحول ما في القدور لحما ومرقا وخبزا، وما في الخوابي خمرا لم ير الناس مثله قط، فلما جاء الملك أكل منه، فلما شرب الخمر سأل: من أين لك هذا الخمر؟ قال هو من أرض كذا وكذا، قال الملك: فإن خمري أوتى به من تلك الأرض، فليس هو مثل هذا، قال هو من أرض أخرى، فلما خلط على الملك اشتد عليه، فقال: أنا أخبرك، عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه، وإنه دعا الله تعالى فجعل الماء خمرا، فقال له الملك ـ وكان له ابن يريد أن يستخلفه، فمات قبل ذلك بأيام، وكان أحب الخلق إليه ـ فقال: إن رجلا دعا الله تعالى فجعل الماء خمرا؛ ليستجابن له حتى يحيي ابني، فدعا عيسى، فكلمه، وسأله أن يدعو الله أن يحيي ابنه، فقال عيسى: لا تفعل؛ فإنه إن عاش كان شرا، قال الملك: لا أبالي، أليس أراه؟ فلا أبالي ما كان، قال عيسى عليه السلام: فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب حيث نشاء؟ قال الملك: نعم، فدعا الله، فعاش الغلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح، وقالوا: أكلنا هذا، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه!؟ فاقتتلوا، وذهب عيسى وأمه، وصحبهما يهودي، وكان مع اليهودي رغيفان، ومع عيسى رغيف، فقال له عيسى: تشاركني؟ فقال اليهودي: نعم، فلما رأى أنه ليس مع عيسى عليه السلام إلا رغيف ندم، فلما ناما جعل اليهودي يريد أن يأكل الرغيف، فيأكل لقمة، فيقول له عيسى: ما تصنع؟ فيقول: لا شيء، حتى فرغ من الرغيف، فلما أصبحا قال له عيسى: هلم طعامك، فجاء برغيف، فقال له عيسى: أين الرغيف الآخر؟ قال ما كان معي إلا واحد، فسكت عنه، وانطلقوا، فمروا براعي غنم، فنادى عيسى: يا صاحب الغنم، أجزرنا شاة من غنمك، قال نعم، فأعطاه شاة، فذبحها، وشواها، ثم قال لليهودي: كل، ولا تكسر عظما، فأكلا، فلما شبعوا قذف عيسى العظام في الجلد، ثم ضربها بعصاه، وقال: قومي بإذن الله، فقامت الشاة تثغو، فقال: يا صاحب الغنم، خذ شاتك، فقال له الراعي: من أنت؟ قال أنا عيسى ابن مريم، قال أنت الساحر!؟ وفر منه، قال عيسى لليهودي: بالذي أحيا هذه الشاة بعد ما أكلناها، كم كان معك من رغيف؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد، فمر بصاحب بقر، فقال: يا صاحب البقر، أجزرنا من بقرك هذه عجلا، فأعطاه، فذبحه، وشواه، وصاحب البقر ينظر، فقال له عيسى: كل، ولا تكسر عظما، فلما فرغوا قذف العظام في الجلد، ثم ضربه بعصاه، وقال: قم بإذن الله، فقام له خوار، فقال: يا صاحب البقر، خذ عجلك، قال ومن أنت؟ قال أنا عيسى، قال أنت عيسى الساحر!؟ ثم فر منه، قال عيسى لليهودي: بالذي أحيا هذه الشاة بعد ما أكلناها، والعجل بعدما أكلناه، كم رغيفا كان معك؟ فحلف بذلك ما كان معه إلا رغيف واحد، فانطلقا، حتى نزلا قرية، فنزل اليهودي في أعلاها وعيسى في أسفلها، وأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى، وقال: أنا الآن أحيي الموتى، وكان ملك تلك القرية مريضا شديد المرض، فانطلق اليهودي ينادي: من يبغي طبيبا؟ فأخبر بالملك وبوجعه، فقال: أدخلوني عليه؛ فأنا أبرئه، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه، فقيل له: إن وجع الملك قد أعيا الأطباء قبلك، قال أدخلوني عليه، فأدخل عليه، فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات، فجعل يضربه وهو ميت، ويقول: قم بإذن الله، فأخذوه ليصلبوه، فبلغ عيسى، فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة، فقال: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركون لي صاحبي؟ فقالوا: نعم، فأحيا عيسى الملك، فقام وأنزل اليهودي، فقال: يا عيسى، أنت أعظم الناس علي منة، والله، لا أفارقك أبدا، قال عيسى: أنشدك بالذي أحيا الشاة والعجل بعد ما أكلناهما، وأحيا هذا بعد ما مات، وأنزلك من الجذع بعد رفعك عليه لتصلب، كم كان معك رغيف؟ فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد، فانطلقا، فمرا بثلاث لبنات، فدعا الله عيسى فصيرهن من ذهب، قال يا يهودي، لبنة لي، ولبنة لك، ولبنة لمن أكل الرغيف، قال أنا أكلت الرغيف(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٥٨.

(2) ابن عساكر: ٤٧/٣٩٢.

(3) ابن جرير: ٥/٤٣٧.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ كان حرم عليهم أشياء، فجاءهم عيسى ليحل لهم الذي حرم عليهم، يبتغي بذلك شكرهم(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٣٣.

منبّه:

روي عن وهب بن منبّه (ت 114 هـ) أنّه قال: كان عيسى على شريعة موسى، وكان يسبت، ويستقبل بيت المقدس، وقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وأضع عنكم من الآصار(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٣١.

ابن الزبير:

روي عن محمد بن جعفر بن الزبير (ت 115 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾: أي: يحقق بها نبوتي، وأني رسول منه إليكم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ أي: لما سبقني منها، ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ أي: أخبركم أنه كان حراما عليكم فتركتموه، ثم أحله لكم تخفيفا عنكم، فتصيبون يسره، وتخرجون من تباعته(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ تبريا من الذي يقولون فيه ـ يعني: ما يقول فيه النصارى ـ واحتجاجا لربه عليهم؛ ﴿فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ أي: هذا الذي قد حملتكم عليه، وجئتكم به(3).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤١٨.

(2) ابن جرير: ٥/٤٣٢.

(3) ابن جرير: ٥/٤٣٤.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ والبعض في معنى الكل(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 110.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى، وحرمت عليهم الشحوم فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير ما لا صيصية له، وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٣٢.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ لحوم الإبل والشحوم، لما بعث عيسى أحلها لهم، وبعث إلى اليهود فاختلفوا وتفرقوا(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٣٢.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ من اللحوم، والشحوم، وكل ذي ظفر، والسمك، فهذا البعض الذي أحل لهم غير السبت، فإنهم يقومون عليه، فوضع عنهم في الإنجيل ذلك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ بعلامة من ربكم، يعني: العجائب التي كان يصنعها الله، ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ يعني: فوحدوا الله، ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ فيما آمركم به من النصيحة؛ فإنه لا شريك له، وقال لهم عيسى عليه السلام: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾(1).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ يعني: فوحدوه، ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ يعني: هذا التوحيد دين مستقيم، وهو الإسلام، فكفروا(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٧.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ومن عهد عيسى إليهم حين أخبرهم عن نفسه وموته: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾، يخبرهم عن نفسه وعنهم أنهم عبيد الله، ثم صمت ـ كما يذكرون ـ فلم يتكلم بعد ذلك، وهو في حجر أمه يغذى بما يغذى به بنو آدم من الطعام والشراب، حتى انتهى إلى أن كان ابن سبع سنين أو ثمان، وقد كذبوا بكل ما سمعوا منه، وما يدعونه بينهم إلا بابن الهنة؛ بما تسمى به البغي، يقول الله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ١٥٦]، حتى إذا بلغ السبع أو العشر أو نحو ذلك أدخلته الكتاب فيما يزعمون(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ﴾ أي: رسول من الله إليكم، ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(2).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٢١٤.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٥٧.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ نصب على الحال وتقديره قد جئتكم مصدقاً، لأن أول الكلام يدل عليه ونظيره جئته بما يجب ومعرفاً له، وليس عطفاً على وجيهاً ولا رسولا لقوله‏ ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ ولم يقل لما بين يديه.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾:

أ. قيل: إنما أحل لهم لحوم الإبل والثروب وأشياء من الطير والحيتان، مما كان محرماً في شرع موسى عليه السلام ولم يحل لهم جميع ما كان محرماً عليهم من الظلم، والغصب، والكذب، والعبث وغير ذلك، فلذلك قال‏: ﴿بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ وبمثل هذا قال قتادة والربيع، وابن جريج ووهب، وأكثر المفسرين.

ب. وقال أبو عبيدة أراد كل الذي حرم عليكم واستشهد على ذلك بقول لبيد:

çتراك أمكنة إذا لم أرضها...أو يعتلق بعض النفوس حمامهاé

قال: معناه أو يعتلق نفسي حمامها، وأنكر الزجاج تأويله، وقال: هو خطأ من وجهين:

أحدهما: أن البعض لا يكون بمعنى الكل.

والآخر ـ أنه لا يجوز تحليل‏ المحرمات أجمع، لأنه يدخل في ذلك الكذب، والظلم، والكفر، قال: ومعنى البيت أو يعتلق نفسي حمامها، كما يقول القائل: بعضنا يعرفك يريد أنا أعرفك، وهذا أيضاً إنما هو تبعيض صحيح.

3. وجه الآية ما ذكره أبو علي، وجماعة من المفسرين أن قوماً من اليهود حرموا على نفوسهم أشياء ما حرمها الله عليهم، فجاء بتحليل ذلك، قال الرماني: تأويل الآية على ما قالوه، لكنه لا يمتنع أن يوضع البعض في موضع الكل إذا كانت هناك قرينة تدل عليه، كما يجوز وضع الكل في موضع البعض بقرينة.

4. ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ﴾ معطوف على معنى الكلام الأول، لأن معناه جئتكم لأصدق ما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم، كما يقول القائل: جئته معتذراً ولأجتلب عطفه، والإحلال هو الإطلاق في الفعل بتحسينه، والتحريم هو حظر الفعل بتقبيحه، والفرق بين التصديق، والتقليد أن التصديق لا يكون إلا فيما يبرهن عند صاحبه، والتقليد يكون فيما لم يتبرهن، ولهذا لم نكن مقلدين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن كنا مصدقين له.

5. ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ استئناف كلام، لأنه رأس آية، وعليه جميع العلماء، وكان يجوز أن تفتح الهمزة على قوله: (وجئتكم) بـ ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾، والفرق بين قوله‏ ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ وقوله (ربنا) أن الأول آكد في إقراره بالربوبية، لأنه ذكر على التفصيل، فهو أبعد من الغلط في التأويل، لأن لقائل أن يقول الذكر قد يجوز في الجملة على التغليب كما يغلب التذكير على التأنيث في الجملة دون التفصيل.

6. الربوبية هي تنشئة الشيء حالا بعد حال حتى يبلغ حد الكمال في التربية، فلما كان الله تعالى مالكاً لانشاء العالم كان رباً، ولا تطلق هذه الصفة إلا عليه تعالى، لأن إطلاقها يقتضي الملك بجميع الخلق، فأما إجراؤها على غيره، فعلى وجه التقييد، كقولك رب الدار، ورب الضيعة، وقالوا في وصف قوم من العلماء: هم أرباب البيان يراد به شدة اقتدارهم عليه.

7. ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ الاستقامة استمرار الشيء في جهة واحدة، ونظيرها الاستواء: خلاف الاعوجاج، فلذلك قيل للطريق المؤدي إلى المراد الموصل إلى الحق: طريق الاستقامة، لأنه يفضي بصاحبه إلى غرضه، وقد استوفينا معناه في سورة الحمد، وقد يوصف الدليل بأنه طريق مستقيم، لأنه يؤدي إلى الحق اليقين، وفي الآية حجة على النصارى بما قاله المسيح مما يقرون به أنه في الإنجيل من نحو هذا الكلام، لأن فيه أذهب إلى إلهي، وإلهكم، كقوله هاهنا: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/471.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الحلال خلاف الحرام، والحلال والمباح نظيران غير أن الحلال يؤذن بِمُحِلٍّ أحله.

ب. الحرام: المحظور، ويؤذن بِمُحَرِّمٍ حرمه.

ج. الاستقامة خلاف الاعوجاج، وهي التي تجري على طريقة مستمرة.

2. لما بَيَّنَ تعالى تمام كلام عيسى لقومه، فقال تعالى: ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ يعني وجئت مصدقًا ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ أي لما أنزل قبلي ﴿مِنَ التَّوْرَاةِ﴾، وأرسل من الأنبياء، وهم يصدِّق آخرُهُم ـ أوَّلَهم، كما بشر أولُهم بآخرهم، ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾:

أ. قيل: لحوم الإبل والثُّروب وأشياء من الطير والحيتان، كان محرمًا في شريعة موسى، فأحلها عيسى، عن قتادة والربيع وابن جريج ووهب.

ب. وقيل: منها السبت، عن أبي مسلم.

ج. وقيل: معناه كل الذي حرم عليكم، وهو أن قومًا من اليهود حرموا عليهم أشياء لم يحرمها الله، فجاء عيسى بتحليل ذلك، عن أبي عبيدة، قال: ويجوز وضع البعض موضع الكل كقول الشاعر:

çأَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فاسْتَبِقِ بَعْضَنَا... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِé

يعني من الكل.

د. وقيل: كُلُّ مَا حرم عليهم بذنوبهم، نحو كل ذي ظُفُر والسبت أحله عيسى، وما حرم عليهم تعبدًا لم يحل، عن الأصم.

3. ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي بحجة وهي المعجزات التي تقدم ذكرها ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ يعني معاصيه ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ فيما آمركم به بعد إظهار البينات.

4. ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ خالقي وسيدي وخالقكم وسيدكم، يعني لا تنسبوني إليه فأنا عبد له كما أنتم عبيد له ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ يعني اعبدوا الله وحده ﴿هَذَا﴾ يعني ما بينت لكم.

5. ﴿صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي طريق قيم:

أ. قيل: طريق تؤدي إلى الجنة.

ب. وقيل: تؤدي إلى الحق.

6. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أنه بعث مصدقًا بالتوراة على وجه التعبد، ولا يكون كذلك إلا ويكون متعبدًا إلا ما نسخ.

ب. بطلان قول النصارى في المسيح، وأن ما هم عليه ليس بطريقة عيسى.

ج. أن التوحيد هو الطريق المستقيم والدين القويم، ولا يقال: إن قوله: (لأحل) يدل على أن للنبي أن يحل ويحرم؛ وذلك لأن قوله: (لأحل) يعني، بأمر الله تعالى.

د. يدل قوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ على أن التقوى والطاعة فِعْلُ العبد؛ لذلك أمرهم به.

7. مسائل نحوية:

أ. نصب ﴿مُصَدِّقًا﴾ على تقدير: وجئتكم مصدقًا، دل عليه أول الكلام، وهو قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾، وقيل: هو عطف على قوله: ﴿وَجِيهًا﴾ ﴿وَرَسُولًا﴾، وقيل: لا يصح ذلك؛ لأنه قال: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ ولم يقل لما بين يديه.

ب. ﴿إِنَّ اللهَ﴾ بكسر ﴿إِنَّ اللهَ﴾ على الاستئناف، وعليه الأئمة، ويجوز في العربية بالفتح على تقدير: وجئتكم بأن الله ربي وربكم.

ج. ﴿وَلِأُحِلَّ﴾ قيل: الواو واو عطف على ﴿مُصَدِّقٌ﴾ كأنه قال: جئتكم لأصدق ولأحل، فعطف على معنى الكلام، وقيل: هو زيادة على تقدير: جئتكم مصدقًا لأحل، والأول الوجه؛ لأنه لا يحكم بالزيادة إذا صح له معنى.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/248.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الفرق بين التصديق والتقليد أن التصديق لا يكون إلا فيما تبرهن عند صاحبه، والتقليد قد يكون فيما لا يتبرهن، ولهذا لا نكون مقلدين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن كنا مصدقين له.

ب. الإحلال: هو الإطلاق للفعل بتحسينه.

ج. التحريم: هو حظر الفعل بتقبيحه.

د. الاستقامة: خلاف الإعوجاج.

2. ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ أي: لما أنزل قبلي ﴿مِنَ التَّوْرَاةِ﴾، وما فيه البشارة بي ومن أرسل قبلي من الأنبياء ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ هذا معطوف على معنى قوله ﴿مُصَدِّقًا﴾ وتقديره: ولأصدق ما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم، كما تقول: جئته معتذرا ولأجتلب عطفه:

أ. قيل: إن الذي أحل لهم لحوم الإبل، والشروب، وبعض الطيور والحيتان، مما كان قد حرم على بني إسرائيل، عن قتادة والربيع وابن جريج ووهب.

ب. وقيل: أحل لكم السبت، عن الكلبي.

3. ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: بحجة تشهد بصدقي ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ في مخالفتي، وتكذيبي، {وأطيعوني} كما أمركم الله به.

4. ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ أي: مالكي ومالككم، وإنما قال ذلك ليكون حجة على النصارى في قولهم ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ﴾ والمعنى لا تنسبوني إليه، فأنا عبده كما أنكم عبيد له ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ وحده ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ أي: دين الله أي: عبادته دين مستقيم، وقد استوفينا الكلام في الرب، وفي الصراط المستقيم، في سورة الحمد.

5. مسائل نحوية:

أ. ﴿مُصَدِّقًا﴾: نصب على الحال وتقديره: وجئتكم مصدقا، لأن أول الكلام يدل عليه، ونظيره جئته بما يحب ومعرفا له، ولا يكون عطفا، لا على ﴿وَجِيهًا﴾ ولا ﴿رَسُولًا﴾ لقوله ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾، ولم يقل لما بين يديه.

ب. قال أبو عبيدة: أراد بقوله ﴿بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ﴾ كل الذي حرم، ويستشهد بقول لبيد:

çتراك أمكنة إذا لم أرضها... أو يعتلق بعض النفوس حمامهاé

قال: معناه أو تعتلق كل النفوس، وأنكر الزجاج ذلك، وقال: معناه أو تعتلق نفسي حمامها، وخطأ أبا عبيدة من وجهين:

أحدهما: إن البعض لا يكون بمعنى الكل

والثاني: إنه لا يجوز تحليل جميع المحرمات، لأنه يدخل الكذب والظلم والقتل في ذلك.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/755.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ قال الزجّاج: نصب (مصدقا) على الحال، أي: وجئتكم مصدّقا.

2. ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ قال قتادة: كان قد حرّم عليهم موسى الإبل والثّروب‏ وأشياء من الطّير، فأحلّها عيسى.

3. ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ أي: بآيات تعلمون بها صدقي؛ وإنما وحّد، لأنّ الكلّ من جنس واحد ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: من عند ربّكم.

__________

(1) زاد المسير: 1/285.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بيّن المسيح عليه السلام بهذه المعجزات الباهرة كونه رسولًا من عند الله تعالى، بيّن بعد ذلك أنه بما ذا أرسل وهو أمران:

أ. أحدهما: قوله ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾، وقد ذكرنا في قوله تعالى: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ [آل عمران: 49] أن تقديره وأبعثه رسولًا إلى بني إسرائيل قائلًا ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ فقوله: ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ معطوف عليه والتقدير: وأبعثه رسولًا إلى بني إسرائيل قائلًا ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾، وإني بعثت ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ وإنما حسن حذف هذه الألفاظ لدلالة الكلام عليها.. ويجب على كل نبي أن يكون مصدقاً لجميع الأنبياء عليهم السلام، لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة، فكل من حصل له المعجز، وجب الاعتراف بنبوته، فلهذا قلنا: بأن عيسى عليه السلام يجب أن يكون مصدقاً لموسى بالتوراة، ولعلّ من جملة الأغراض في بعثة عيسى عليه السلام إليهم تقرير التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات الجاهلين.

ب. الثاني: قوله: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾

2. سؤال وإشكال: هذه الآية الأخيرة مناقضة لما قبلها لأن هذه الآية الأخيرة صريحة في أنه جاء ليحل بعض الذي كان محرماً عليه في التوراة، وهذا يقتضي أن يكون حكمه بخلاف حكم التوراة، وهذا يناقض قوله: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾، والجواب: إنه لا تناقض بين الكلام، وذلك لأن التصديق بالتوراة لا معنى له إلا اعتقاد أن كل ما فيها فهو حق وصواب، وإذا لم يكن الثاني مذكوراً في التوراة لم يكن حكم عيسى بتحليل ما كان محرماً فيها، مناقضاً لكونه مصدقاً بالتوراة، وأيضاً إذا كانت البشارة بعيسى عليه السلام موجودة في التوراة لم يكن مجيء عيسى عليه السلام وشرعه مناقضاً للتوراة.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾:

أ. قال بعضهم: إنه عليه السلام ما غير شيئاً من أحكام التوراة، قال‏ وهب بن منبه: إن عيسى عليه السلام كان على شريعة موسى عليه السلام كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس، ثم إنه فسّر قوله ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ بأمرين.

أحدهما: إن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى، فجاء عيسى عليه السلام ورفعها وأبطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى عليه السلام.

الثاني: أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات كما قال الله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: 160] ثم بقي ذلك التحريم مستمراً على اليهود فجاء عيسى عليه السلام ورفع تلك التشديدات عنهم.

ب. وقال آخرون: إن عيسى عليه السلام رفع كثيراً من أحكام التوراة، ولم يكن ذلك قادحاً في كونه مصدقاً بالتوراة على ما بيناه ورفع السبت ووضع الأحد قائماً مقامه وكان محقاً في كل ما عمل لما بينا أن الناسخ والمنسوخ كلاهما حق وصدق.

4. ثم قال: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وإنما أعاده لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر فأعاد ذكر المعجزات ليصير كلامه ناجعا في قلوبهم ومؤثراً في طباعهم، ثم خوفهم، فقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله تعالى فبيّن أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم به عن ربي، ثم إنه ختم كلامه بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ ومقصوده إظهار الخضوع والاعتراف بالعبودية لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولون: إنه إليه وابن إله لأن إقراره لله بالعبودية يمنع ما تدعيه جهال النصارى عليه، ثم قال: ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ والمعنى: أنه تعالى لما كان رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه، ثم أكد ذلك بقوله ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/231.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ عطف على قوله: ﴿وَرَسُولًا﴾، وقيل: المعنى وجئتكم مصدقا، ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ لما قبلي.

2. ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ﴾ فيه حذف، أي ولا حل لكم جئتكم، ﴿بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ يعني من الأطعمة:

أ. قيل: إنما أحل لهم عيسى عليه السلام ما حرم عليهم بذنوبهم ولم يكن في التوراة، نحو أكل الشحوم وكل ذي ظفر.

ب. وقيل: إنما أحل لهم أشياء حرمتها عليهم الأحبار ولم تكن في التوراة محرمة عليهم.

ج. قال أبو عبيدة: يجوز أن يكون ﴿بَعْضَ﴾ بمعنى كل، وأنشد لبيد:

çتراك أمكنة إذا لم أرضها...أو يرتبط بعض النفوس حمامهاé

وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة، لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل في هذا الموضع، لأن عيسى عليه السلام إنما أحل لهم أشياء مما حرمها عليهم موسى من أكل الشحوم وغيرها ولم يحل لهم القتل ولا السرقة ولا فاحشة، والدليل على هذا أنه روي عن قتادة أنه قال: جاءهم عيسى بألين مما جاء به موسى صلى الله عليهما وعلى نبينا، لأن موسى جاءهم بتحريم الإبل وأشياء من الشحوم فجاءهم عيسى بتحليل بعضها، وقرأ النخعي ﴿بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ مثل كرم، أي صار حراما، وقد يوضع البعض بمعنى الكل إذا انضمت إليه قرينة تدل عليه، كما قال الشاعر:

çأبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا...حنانيك بعض الشر أهون من بعضé

يريد بعض الشر أهون من كله.

3. ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ إنما وحد وهي آيات لأنها جنس واحد في الدلالة على رسالته.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/97.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ عطف على قوله: ﴿وَرَسُولًا﴾ وقيل: المعنى وجئتكم مصدّقا، قوله: ﴿وَلِأُحِلَّ﴾ أي: ولأجل أن أحلّ، أي: جئتكم بآية من ربكم، وجئتكم لأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم من الأطعمة في التوراة، كالشحوم، وكل ذي ظفر، وقيل: إنما أحلّ لهم ما حرّمته عليهم الأحبار ولم تحرّمه التوراة، وقال أبو عبيدة: يجوز أن يكون بعض.. قال القرطبي: (وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة، لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل، ولأن عيسى لم يحلل لهم جميع ما حرّمته عليهم التوراة، فإنه لم يحلل القتل ولا السرقة ولا الفاحشة وغير ذلك من المحرّمات الثابتة في الإنجيل، مع كونها ثابتة في التوراة، وهي كثيرة يعرف ذلك من يعرف الكتابين، ولكنه قد يقع البعض موضع الكل مع القرينة)

2. ﴿بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ هي قوله: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ وإنما كان ذلك آية، لأن من قبله من الرسل كانوا يقولون ذلك، فمجيئه بما جاءت به الرسل يكون علامة على نبوته، ويحتمل أن تكون هذه الآية هي الآية المتقدّمة فتكون تكريرا لقوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ﴾ الآية.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/393.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ حال معطوفة على قوله (بآية) أي جئتكم بآية وصدقا ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ أي مقررا لهما ومثبتا ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ قال ابن كثير: (فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة، وهو الصحيح من القولين، ومن العلماء من قال لم ينسخ منها شيئا، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ، وانكشف لهم عن الغطاء في ذلك، كما قال في الآية الأخرى: ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ [الزخرف: 63])

2. من البعض الذي أحله عيسى عليه السلام لهم فعل الخير في السبوت، وقد كانوا يعتقدون تحريم مطلق عمل يوم السبت، ولذا لما اجتاز عليه السلام بالإسرائيلين مرة أبصر مريضا فسألوه: هل يحل أن يشفي في السبت؟ فقال لهم عليه السلام: أي إنسان منكم يكون له خروف، فيسقط في حفرة يوم السبت ولا يمسكه ويرفعه؟ والإنسان كم يفضل الخروف؟ فإذن يحل فعل الخير في السبوت، ثم أبرأ ذلك المريض ـ كذا في الإصحاح الثاني عشر، من الفقرة التاسعة إلى الثالثة عشرة من إنجيل متى ـ وفيه في الإصحاح الخامس الفقرة السابعة عشرة قول المسيح عليه السلام: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل.. وقد اتفقوا على أن المسيح عليه السلام أقام شرائع التوراة كلها، ثم جاء بولس ومن بعده من الرهبان فادعوا أن المسيح عليه السلام فعل ذلك كله ورفعه عنهم، إذ أكمله وأتمه بفعله إياه، وكفاهم مؤونة العمل بشيء منه، وأغناهم بشريعته الروحانية، فنقضوا الناموس الذي جاء لإكماله المسيح، فمما نقضوه إباحة كثير من الحيوانات المحرمة في الناموس الموسويّ، فنسخت حرمتها في الشريعة العيسوية، وثبتت الإباحة العامة بفتوى بولس، إذ قال لهم: لا شيء نجس العين، كما في رسالته إلى أهل رومية، ومما نقضوه تعظيم السبت، فقد كان حكما أبديا في الشريعة الموسوية، وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل، وكان من عمل فيه عملا واجب القتل، ومنه أحكام الأعياد المشروعة في التوراة، ومنه حكم الختان الذي كان أبديا في شريعة إبراهيم عليه السلام وأولاده إلى شريعة موسى، وقد ختن عيسى عليه‏ السلام، فنسخ حكمه الرهبان بعده، كما نسخوا جميع الأحكام العملية للتوراة، إلا الزنى، كما بيّن في (إظهار الحق)، في الباب الثالث في إثبات النسخ، وقد أسلفنا جملة جليلة في هذا الشأن في سورة البقرة عند قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ [البقرة: 135]، فانظرها.

3. ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ كرره تأكيدا وليبنى عليه قوله‏ ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾، ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا﴾ أي ما آمركم به‏ ﴿صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/322.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ أي: جئتكم مصاحَبا بآية من ربِّكم ومصدِّقا، أو ويقول: أُرسِلت مصدِّقا، أو ناطقا بأنِّي قد جئتكم ومصدِّقا، أو جئتكم مصدِّقا، أو يقدَّر: جئتكم محتجًّا بالآية ومصدِّقا، وهو حال في جميع التقادير، ولو عطف على (وَجِيهًا) لقال: ومصدِّقا لِمَا بين يديه، أو على (رَسُولاً) لقال: ومصدِّقا لِمَا بين يديكِ، خطابا لمريم، أو: لِمَا بين يديه، مراعاة للاسم الظاهر، ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ وبينه وبين موسى في قولٍ ألفُ سنة وتسعمائة وخمس وسبعون.

2. ﴿وَلأُحِلَّ﴾ وجئتكم لأحلَّ، أو: جئتكم بآية من ربِّكم ولأحلَّ، كقوله: (جئت على فرس وببعير)؛ إذ لا يجب اتِّفاق معنى الحروف المعطوف ما هي فيه، أو على المعنى، أي: جئتكم بآية، أي: لأظهر آية ولأحلَّ، أو مصدِّقًا، أي: جئتكم لتصديق ما بين يديَّ ولأحلَّ، ﴿لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ في التوراة كالشحوم، أو شحوم الإبل ونحوها، وما لا صيصة له من الطيور والسمك، أو الاصطياد يوم السبت، ولحم الإبل، وبعض العمل في البيت، والعمل يوم السبت، وكلّ حيوان لا ظُفرَ لَه كالإبل والنعام والإوزِّ والبطِّ، فأحلَّ لهم جميع ذلك وهو بعض ما حرِّم، وبقي عَلَى التحريم السرقة والزنا والربا، وقيل: حرّم من الطير والسمك ما لا شوكة له يؤذي بها، وكان عليه السلام  يسبت ويصلِّي للقدس، ويوجب الختان، وغيَّرته النصارى لعنهم الله إلى قطع القلب عن الدنيا، ويحرِّم الخنزير وينهى عنه، وأغرق قطيعا من الخنازير في البحر، وزعموا أنَّ بطرس رأى في النوم صحيفة فيها صور الحيوان فقيل له: كل منها ما أحببت، وهي رؤيا من الشيطان، أو الرؤيا مكذوبة غير واقعة.

3. ﴿وَجِئْتُكُم بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ هي آية أخرى فسَّرها بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ إلخ، وليس تأكيدا لِمَا مرَّ، لأنَّ التوكيد باللَّفظ الأوَّل لا يكون بالعطف، لا تقول في التأكيد: قام زيد وزيد، بالواو بل بدونها.

4. ﴿فَاتَّقُواْ اللهَ﴾ في المخالفة، ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ ـ فيما آمركم به من التوحيد وما دونه وأنهاكم من الشرك وما دونه ـ معترِضٌ، اللَّهمَّ إن ساغ العطف، مع أنَّه تأكيد جعله مع ما بني عليه من قوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾ كشيء واحد، ووجهه كون قوله: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي ورَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا﴾ أي: الذي أتيتكم به، ﴿صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ آية أنَّه طِبْقُ ما قالت الرسل قبله، وقد هداه الله للنظر في العقليَّة حتَّى أنتج: (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكم...) إلخ، والساحر لا يقول بذلك، وليست بمعنى معجزة، وأمَّا إذا قلنا: جئتكم بآية بعد أخرى فمن العطف، روى الترمذيُّ ومسلم وغيرهما عن سفيان السقفي أنَّ رجلا قال: يا رسول الله، مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: (قل آمنت بالله ثمَّ استقم)

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/277.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ أي أنه لم يأت ناسخا للتوراة بل مصدقا لها عاملا بها، ولكنه نسخ بعض أحكامها كما قال: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ فقد كان حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بظلمهم وكثرة سؤالهم فأحلها عيسى.

2. ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ قال محمد عبده: أعاد ذكر الآية للتفرقة بين ما قبلها وما بعدها ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ أمرهم بتقوى الله وطاعته فيما جاء به عنه، وختم ذلك بالتوحيد والاعتراف بالعبودية، وقال في ذلك: ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ أي أقرب موصل إلى الله.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/313.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ أي وجئتكم مصدقا لما بين يدىّ من التوراة لا ناسخا لها ولا مخالفا شيئا من أحكامها إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل مما كان مشددا عليهم فيها، وهو الذي ذكره بقوله: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ أي بعض الطيبات التي كانت حرمت على بنى إسرائيل بظلمهم وكثرة سؤالهم، فأحلها عيسى كما قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ قالوا ومن ذلك السمك ولحوم الإبل والشحوم والعمل يوم السبت.

2. ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي وقد جئتكم بآية بعد آية من ربكم شاهدة على صدقى وصحة رسالتى بما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالخفيات إلى نحو أولئك.

3. وأعاد هذا ليترتب عليه الأمر الذي ذكره وهو: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾ أي لما جئتكم به من المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة اتقوا الله في المخالفة، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه.

ثم ختم مقاله بالإقرار بالتوحيد والاعتراف بالعبودية فقال: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ وهذا أمر لهم بالاعتقاد الحق وهو التوحيد، ثم بملازمة الطاعة بالقيام بأداء ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه، ونظيره ما جاء في الحديث (قل آمنت بالله ثم استقم)

4. ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ أي هذا الذي أمرتكم به هو الطريق السوىّ الذي أجمع عليه الرسل قاطبة، وهو الموصل إلى خيرى الدنيا والآخرة

__________

(1) تفسير المراغي: 3/165.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا الختام في دعوة عيسى عليه السلام لبني إسرائيل يتكشف عن حقائق أصيلة في طبيعة دين الله، وفي مفهوم هذا الدين في دعوة الرسل جميعا ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وهي حقائق ذات قيمة خاصة حين ترد على لسان عيسى عليه السلام بالذات، وهو الذي ثار حول مولده وحقيقته ما ثار من الشبهات، التي نشأت كلها من الانحراف عن حقيقة دين الله التي لا تتبدل بين رسول ورسول، فهو إذ يقول: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾، يكشف عن طبيعة المسيحية الحقة، فالتوراة التي تنزلت على موسى عليه السلام وهي تتضمن التشريع المنظم لحياة الجماعة وفق حاجة ذلك الزمان، وملابسات حياة بني إسرائيل (بما أنها ديانة خاصة لمجموعة من البشر في فترة من الزمان) ـ هذه التوراة معتمدة في رسالة المسيح عليه السلام؛ وجاءت رسالته مصدقة لها، مع تعديلات تتعلق بإحلال بعض ما حرم الله عليهم، وكان تحريمه في صورة عقوبات حلت بهم على معاص وانحرافات، أدبهم الله عليها بتحريم بعض ما كان حلالا لهم، ثم شاءت إرادته أن يرحمهم بالمسيح عليه السلام، فيحل لهم بعض الذي حرم عليهم.

2. من هذا يتبين أن طبيعة الدين ـ أي دين ـ أن يتضمن تنظيما لحياة الناس بالتشريع؛ وألا يقتصر على الجانب التهذيبي الأخلاقي وحده، ولا على المشاعر الوجدانية وحدها، ولا على العبادات والشعائر وحدها كذلك، فهذا لا يكون دينا، فما الدين إلا منهج الحياة الذي أراده الله للبشر؛ ونظام الحياة الذي يربط حياة الناس بمنهج الله، ولا يمكن أن ينفك عنصر العقيدة الإيمانية، عن الشعائر التعبدية، عن القيم الخلقية، عن الشرائع التنظيمية، في أي دين يريد أن يصرّف حياة الناس وفق المنهج الإلهي، وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس وفي الحياة؛ ويخالف مفهوم الدين وطبيعته كما أراده الله.

3. وهذا ما حدث للمسيحية، فإنها لعدة ملابسات تاريخية من ناحية؛ ولكونها جاءت موقوتة لزمن ـ حتى يجيء الدين الأخير ـ ثم عاشت بعد زمنها من ناحية.. قد انفصل فيها الجانب التشريعي التنظيمي عن الجانب الروحاني التعبدي الأخلاقي.. فقد حدث أن قامت العداوة المستحكمة بين اليهود والمسيح عليه السلام وأنصاره ومن اتبع دينه فيما بعد؛ فأنشأ هذا انفصالا بين التوراة المتضمنة للشريعة والإنجيل المتضمن للإحياء الروحي والتهذيب الأخلاقي.. كما أن تلك الشريعة كانت شريعة موقوتة لزمن خاص ولجماعة من الناس خاصة، وكان في تقدير الله أن الشريعة الدائمة الشاملة للبشرية كلها ستجي‏ء في موعدها المقدور.

4. على أية حال فقد انتهت المسيحية إلى أن تكون نحلة بغير شريعة، وهنا عجزت عن أن تقود الحياة الاجتماعية للأمم التي عاشت عليها، فقيادة الحياة الاجتماعية تقتضي تصورا اعتقاديا يفسر الوجود كله، ويفسر حياة الإنسان ومكانه في الوجود؛ وتقتضي نظاما تعبديا وقيما أخلاقية، ثم تقتضي ـ حتما ـ تشريعات منظمة لحياة الجماعة، مستمدة من ذلك التصور الاعتقادي، ومن هذا النظام التعبدي، ومن هذه القيم الأخلاقية، وهذا القوام التركيبي للدين هو الذي يضمن قيام نظام اجتماعي، له بواعثه المفهومة، وله ضماناته المكينة.. فلما وقع ذلك الانفصال في الدين المسيحي عجزت المسيحية عن أن تكون نظاما شاملا للحياة البشرية، واضطر أهلها إلى الفصل بين القيم الروحية والقيم العملية في حياتهم كلها، ومن بينهما النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه هذه الحياة.

5. وقامت الأنظمة الاجتماعية هناك على غير قاعدتها الطبيعية الوحيدة، فقامت معلقة في الهواء، أو قامت عرجاء! ولم يكن هذا أمرا عاديا في الحياة البشرية، ولا حادثا صغيرا في التاريخ البشري.. إنما كان كارثة: كارثة ضخمة، تنبع منها الشقوة والحيرة والانحلال والشذوذ والبلاء الذي تتخبط فيه الحضارة المادية اليوم، سواء في البلاد التي لا تزال تعتنق المسيحية ـ وهي خالية من النظام الاجتماعي لخلوها من التشريع ـ أو التي نفضت عنها المسيحية وهي في الحقيقة لم تبعد كثيرا عن الذين يدعون أنهم مسيحيون.. فالمسيحية كما جاء بها السيد المسيح، وكما هي طبيعة كل دين يستحق كلمة دين، هي الشريعة المنظمة للحياة، المنبثقة من التصور الاعتقادي في الله، ومن القيم الأخلاقية المستندة إلى هذا التصور.. وبدون هذا القوام الشامل المتكامل لا تكون مسيحية، ولا يكون دين على الإطلاق! وبدون هذا القوام الشامل المتكامل لا يقوم نظام اجتماعي للحياة البشرية يلبي حاجات النفس البشرية، ويلبي واقع الحياة البشرية، ويرفع النفس البشرية والحياة البشرية كلها إلى الله.. وهذه الحقيقة هي أحد المفاهيم التي يتضمنها قول المسيح عليه السلام: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾

6. وهو يستند في تبليغ هذه الحقيقة على الحقيقة الكبرى الأولى: حقيقة التوحيد الذي لا شبهة فيه: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾، فهو يعلن حقيقة التصور الاعتقادي التي قام عليها دين الله كله: المعجزات التي جاءهم بها لم يجيء بها من عند نفسه، فما له قدرة عليها وهو بشر، إنما جاءهم بها من عند الله، ودعوته تقوم ابتداء على تقوى الله وطاعة رسوله.. ثم يؤكد ربوبية الله له ولهم على السواء ـ فما هو برب وإنما هو عبد ـ وأن يتوجهوا بالعبادة إلى الرب، فلا عبودية إلا لله.. ويختم قوله بالحقيقة الشاملة.. فتوحيد الرب وعبادته، وطاعة الرسول والنظام الذي جاء به: ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾.. وما عداه عوج وانحراف، وما هو قطعا بالدين.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/400.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما جاء المسيح إلى بنى إسرائيل بتلك المعجزات، ليفتح قلوبهم إلى الله، وإلى ما يدعوهم إليه من هدى وإيمان، جاءهم مصدقا بالتوراة، وداعيا بما فيها، وهذا أدعى إلى أن يستجيبوا له، ويؤمنوا به، إذ لم يأتهم بجديد، وإنما الجديد في رسالته، أن يقيمهم على التوراة التي خرجوا عنها، وتأولوا أحكامها تأويلا فاسدا: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾

2. وأكثر من هذا، فإن المسيح جاء رحمة من رحمات الله بهم، جاء ليرفع عنهم بعض تلك الأحكام التأديبية التي أخذهم الله بها، عقابا لهم ونكالا، بما حرم عليهم من طيبات كانت أحلت لهم، كما يقول تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾، فكان من رسالة المسيح إليهم أن يخفف عنهم بعض هذه الأحكام: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾

3. ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ الآية هنا هي المعجزة التي‏ ولد بها عيسى، وجاء إلى هذا العالم بها.. فميلاده على الأسلوب الذي ولد به هو آية من آيات الله، يراها أهل زمانه قائمة بينهم، فيضلّ بها كثيرون، ويهتدى بها كثيرون.. فهو إنما جاء إلى بنى إسرائيل وولد فيهم بآية من آيات الله، وقد ضلّ بها بنو إسرائيل إلا قليلا منهم.. فشنعوا على المسيح وأمّه، ونسبوا البتول إلى الفاحشة، ونسبوا المسيح إلى غير أمه، وجعلوه ابنا غير شرعي ليوسف النجار!

4. ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾ أي اخشوا الله فيما تقولون من بهتان فيّ وفي والدتي، وأطيعون فيما أدعوكم إليه من أمر الله.

5. ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ هو التعقيب الجامع على ما جرى على يد المسيح من معجزات.. إني لست إلا عبدا من عباد الله، فأقرّوا لله بالعبودية، كما أقررت له بالعبودية، واعبدوه كما أعبده.

6. ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ من لم يستقم عليه فقد ضل وهلك، ومن استقام عليه اهتدى ونجا.. من كذب بتلك الآيات فهو في الهالكين، ومن صدّق بها ثم بالغ فيها، فجعل من المسيح إلها فهو من الهالكين!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/469.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ عطف على (بآية) بناء على أنّ قوله: (بآية) ظرف مستقرّ في موضع الحال كما تقدم أو عطف على جملة ﴿جِئْتُكُمْ﴾ فيقدّر فعل جئتكم بعد واو العطف، ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ حال من ضمير المقدّر معه، وليس عطفا على قوله: ﴿وَرَسُولًا﴾ [آل عمران: 49] لأنّ رسولا من كلام الملائكة.

2. ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ من كلام عيسى بدليل قوله: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾، والمصدّق: المخبر بصدق غيره، وأدخلت اللام على المفعول للتقوية، للدلالة على تصديق مثبت محقّق، أي مصدّقا تصديقا لا يشوبه شك ولا نسبة إلى خطأ، وجعل التصديق متعديا إلى التوراة توطئة لقوله: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾

3. معنى ما بين يديّ ما تقدم قبلي، لأنّ المتقدّم السابق يمشي بين يدي الجائي فهو هنا تمثيل لحالة السبق، وإن كان بينه وبين نزول التوراة أزمنة طويلة، لأنّها لما اتّصل العمل بها إلى مجيئه، فكأنها لم تسبقه بزمن طويل، ويستعمل بين يدي كذا في معنى المشاهد الحاضر، كما تقدم في قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ في سورة البقرة.

4. عطف قوله‏ ﴿وَلِأُحِلَّ﴾ على‏ ﴿رَسُولًا﴾ وما بعده من الأحوال: لأنّ الحال تشبه العلة؛ إذ هي قيد لعاملها، فإذا كان التقييد على معنى التعليل شابه المفعول لأجله، وشابه الجرور بلام التعليل، فصح أن يعطف عليها مجرور بلام التعليل، ويجوز أن يكون عطفا على قوله: ﴿بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ فيتعلّق بفعل جئتكم، وعقب به قوله: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ تنبيها على أنّ النسخ لا ينافي التصديق؛ لأنّ النسخ إعلام بتغيّر الحكم، وانحصرت شريعة عيسى في إحياء أحكام التوراة وما تركوه فيها وهو في هذا كغيره من أنبياء بني إسرائيل، وفي تحليل بعض ما حرمه الله عليهم رعيا لحالهم في أزمنة مختلفة، وبهذا كان رسولا، قيل أحلّ لهم الشحوم، ولحوم الإبل، وبعض السمك، وبعض الطير: الذي كان محرّما من قبل، وأحلّ لهم السبت، ولم أقف على شيء من ذلك في الإنجيل، وظاهر هذا أنّه لم يحرّم عليهم ما حلّل لهم، فما قيل: إنّه حرّم عليهم الطلاق فهو تقوّل عليه وإنّما حذّرهم منه وبيّن لهم سوء عواقبه، وحرّم تزوج المرأة المطلّقة وينضم إلى ذلك ما لا تخلو منه دعوة: من تذكير، ومواعظ، وترغيبات.

5. ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ تأكيد لقوله الأول: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: 49]، وإنما عطف بالواو لأنه أريد أن يكون من جملة الأخبار المتقدّمة ويحصل التأكيد بمجرّد تقدم مضمونه، فتكون لهذه الجملة اعتباران يجعلانها بمنزلة جملتين، وليبنى عليه التفريع بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾، وقرأ الجمهور قوله: ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ بحذف ياء المتكلم في الوصل والوقف، وقرأه يعقوب: بإثبات الياء فيهما.

6. ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ إنّ مكسورة الهمزة لا محالة، وهي واقعة موقع التعليل للأمر بالتقوى والطاعة كشأنها إذا وقعت لمجرّد الاهتمام كقول بشار.

çبكّرا صاحبيّ قبل الهجير...إنّ ذاك النجاح في التبكيرé

ولذلك قال: ﴿رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ فهو لكونه ربّهم حقيق بالتقوى، ولكونه ربّ عيسى وأرسله تقتضي تقواه طاعة رسوله.

7. ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ تفريع على الرّبوبية، فقد جعل قوله إنّ الله ربي تعليلا ثم أصلا للتفريع، وقوله: ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ الإشارة إلى ما قاله كلّه أي أنّه الحق الواضح فشبهه بصراط مستقيم لا يضلّ سالكه ولا يتحير.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/103.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن أشار سبحانه إلى الآيات الكبرى التي أجراها على يدى السيد المسيح عليه السلام، أشار إلى رسالته، وهى تتلخص في أمرين:

أ. أنها مصدقة لما جاء في التوراة مع إحلال لبعض الذي حرم على اليهود فيها.

ب. أنه يدعو إلى الإيمان بأن الله خالق كل شيء ومبدعه ومنشئه بإرادته المختارة؛ وهذا ما تضمنه قوله تعالى: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾

2. ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ حال من الفعل المحذوف الذي دل عليه العطف، أي أنّى جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق، وجئتكم مصدقا لما بين يدى؛ يقال الأمر بين يديه أي أنه حاضر ثابت موجود، وعيسى جاءت رسالته متممة لرسالة موسى ناسخة لبعض ما جاء فيها، كالشأن في كل نبيّ بالنسبة لمن سبقه.

3. بين عيسى عليه السلام لهم أنه جاء بالرفق والسماحة؛ ولذا أحل الله لهم على يديه بعض ما حرم عليهم بظلمهم وقسوتهم وجفوتهم‏: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء] ولقد قال تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام‏]، ذلك لأنهم قست قلوبهم وغلظت أكبادهم، واستناموا إلى الراحة واسترخت أجسامهم، فابتلاهم الله بهذا التحريم لينشطوا ويعملوا، ويكونوا قوة عاملة، ولا يكونوا أجساما مسترخية؛ فلما جاء عيسى عليه السلام، وقد نزل بهم من البلاء ما نزل، أحل الله لهم على لسانه ما كان قد حرم.

4. ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ذكرت الآية، لأن جزءا من الرسالة العيسوية إثبات خلق الأشياء بالإرادة المختارة، ومعجزته كلها تتجه نحو هذا الاتجاه، فهي في ذاتها جزء من دعوته؛ لإثبات قدرة الله تعالى وإرادته في الخلق والإبداع.

5. بعد أن أشار سبحانه إلى ما تضمنته الرسالة العيسوية، ذكر دعوة عيسى لقومه بهذه الرسالة، فقال سبحانه حاكيا قول عيسى لهم: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾ كانت دعوة عيسى تتجه إلى هذين الأمرين: تقوى الله تعالى، وأن يطيعوه بأن يتبعوه في منهاجه الذي رسمه لهم ووجههم إليه تبليغا لرسالة ربه، أما تقوى الله تعالى فكان لا بد أن تكون لباب الدعوة العيسوية؛ لأن اليهود كانوا قد أعرضوا عن الله تعالى إعراضا تاما، حتى لقد كان فريق منهم، وهم الصدوقيون لا يؤمنون باليوم الآخر، وحتى لقد حسب أكثرهم أن العقاب الذي هدد الله به هو العقاب الدنيوي، لا العقاب الأخروي ومن أجل ذلك سرى‏ في قلوبهم حب الدنيا والحرص عليها حرصا شديدا أيّا كانت حياتهم فيها؛ ولذا قال تعالى عنهم: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة]

6. أما الطاعة لعيسى عليه السلام فبأن يتخذوا منه قدوة حسنة في زهادته وروحانيته وسماحته، ليخففوا من غلظتهم وقسوتهم، واليهود إلى الآن في أشد الحاجة إلى مثل هذه الدعوة، وهى التقوى والعفة والسماحة، ولكنهم أجابوا في الماضي داعى الحق بمحاولة قتله، وكذلك يفعلون الآن، فهم يحاولون قتل من حموهم وآووهم.

7. قرر عيسى عليه السلام أن هذه المعجزات الباهرة لا تخرجه عن أنه عبد لله تعالى مخلوق له سبحانه؛ ولذا حكى الله تعالى عنه قوله: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ أي أن الله تعالى خلقنى وهو الذي يربنى ويكلؤنى ويحيينى، وهو أيضا الذي خلقكم وينميكم ويكلؤكم ويحييكم، وإذا كان كذلك فحق علينا أن نعبده وحده ولا نشرك به أحدا سواه، فإن العبادة تكون شكرا لهذه النعمة، وقياما بحقها، وصلاحا لأمر الناس في هذه الدنيا، وعبادة الله وحده والاعتراف بربوبيته وألوهيته وحده هي الصراط أي الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1234.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾، عطف على قوله: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، وكون المعطوف مبنيا على التكلم مع كون المعطوف عليه مبنيا على الغيبة أعني كون عيسى عليه السلام في قوله: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾، متكلما وفي قوله: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، غائبا ليس مما يضر بالعطف بعد تفسير قوله: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، بقول عيسى: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾، فإن وجه الكلام يتبدل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف.

2. تصديقه للتوراة التي بين يديه إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة على ما تفيده الآية السابقة، وهو التوراة الأصل النازلة على موسى عليه السلام فلا دلالة لكونه مصدقا للتوراة التي في زمانه على كونها غير محرفة كما لا دلالة لتصديق نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم للتوراة التي بين يديه على كونها غير محرفة.

3. ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾، فإن الله تعالى كان حرم عليهم بعض الطيبات، قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ الآية، والكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه عليه السلام لأحكام التوراة إلا ما نسخه الله تعالى بيده من الأحكام الشاقة المكتوبة على اليهود، ولذا قيل: إن الإنجيل غير مشتمل على الشريعة.

4. قوله: ﴿وَلِأُحِلَّ﴾، معطوف على قوله: ﴿بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، واللام للغاية، والمعنى: قد جئتكم لأنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة عليكم.

5. قوله تعالى: ﴿جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، الظاهر أنه لبيان أن قوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾، متفرع على إتيان الآية لا على إحلال المحرمات فهو لدفع الوهم، ويمكن أن يكون هو مراد من قال: إن إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها وما بعدها، فإن مجرد التفرقة ليست من المزايا في الكلام.

6. ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾، فيه قطع لعذر من اعتقد ألوهيته لتفرسه عليه السلام ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد قوله: ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا﴾، وقوله: ‏ ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى﴾، بقوله: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ لكن الظاهر من قوله تعالى فيما يحكي قول عيسى عليه السلام: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾، إن ذلك كان بأمر من ربه ووحي منه.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/202.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ أي جئتكم بآية من ربكم وجئتكم مصدقاً لما بين يدي فلا عذر لكم في أن تكفروا بي لتصديقكم بالتوراة ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ ﴿بَيْنَ يَدَيَّ﴾ قدّامي، أي جاء من قبلي.

2. ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ رحمة من الله أحل لكم في ديني بعض الذي حرم عليكم عقوبة لكم بظلمكم، كما قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: 160] فكان تحليلها في دين عيسى عليه السلام نسخاً لذلك التحريم أو بعضه، وهو رحمة لمن آمن بعيسى منهم.

3. ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ فقد وجب عليكم الإيمان بي؛ لأنها آية من ربكم الذي تجب عليكم طاعته، افتتح خطابه: بأنه قد جاءهم بآية من ربهم، واختتم احتجاجه بذلك لأن ذلك هو موجب الإيمان به.

4. ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ فالحكم له فينا ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ بامتثال أمره؛ لأنكم عباده، ولا تطيعوا غيره أو تتعصبوا لغيره من الرهبان أو الأحبار الذين يصدون عن سبيل الله، لأنكم عباد الله وحده، وهو ربكم وحده لا شريك له ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ طريق قيّم لا عوج فيه، واضح لا خفاء فيه، وهو أن تعبدوا الله، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله.

5. كان هذا الكلام حكاية لمريم عليها السلام من عند الله تعالى عالم ما سيكون، ولما كان وعده صدقاً لا يتخلف كان ذكره كافياً عن ذكر وقوع ما وعد به، فقد خلق الله عيسى عليه السلام كما وعد وكان من أمره ما ذكر، وقال لقومه ما حكى الله.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/467.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يتابع عيسى عليه السلام حديثه في التدليل على طبيعة مهمّته ورسالته، فيعتبرها ـ كما هي عند الله ـ حلقة في السلسلة المباركة النبويّة، ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ فإن النبوّة الجديدة لا تلغي النبوّة القديمة، لأن النبوات ليست منطلقة من شخص النبي في ذاتياته الفكرية، بل من وحي الله الذي يشرّع للحياة كلها وللإنسان كله، في الخط العام الذي تتكامل فيه الرسالات وتتوزع فيه الأدوار، إلا ما يختص بمرحلة النبي في الزمن الذي يعيش فيه الناس الذين أرسل إليهم والأوضاع التي قد يعرض عليها التغيير.

2. وهكذا كان كل نبي مصدقا لمن قبله في رسالته وفي الكتاب الذي أنزل عليه، ومنهم النبي عيسى عليه السّلام.. فهو أحد الأنبياء الذين اختصهم الله برسالاته، فقد جاء بعد موسى عليه السّلام وأقرّ الكتاب الذي أنزل عليه من التوراة وصدّق به، لأنّ أحكامه لم تنسخ ـ في الأغلب ـ ولأن مفاهيمه لم يتجاوزها الزمن فلا تحتاج إلى تجديد.. وفي ضوء ذلك، فإن موقفه الرسالي لا يمثل تحدّيا للمفاهيم والأحكام التي يؤمن بها هؤلاء الذين بعث إليهم من بني إسرائيل، لأنه تركها على حالها، ما عدا بعض الأحكام التي حرّمت عليهم كنتيجة لتمرّدهم، فأراد الله أن يؤدبهم بالتشريع الصعب الذي يثقل عليهم مسئولياتهم، حتى إذا انطلق الزمن في مدار جديد، رفع الله عنهم ذلك كلّه ببركة هذا الرسول الجديد الذي جاء رحمة لهم وبركة عليهم: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾

3. وهكذا كانت الرسالات السماوية تدفع الإنسان إلى السير مع خط الرسالة في ما أوحاه الله لرسوله من كتاب، وإلى السير مع الرسول في ما يلهمه الله من شؤون الحركة الإسلامية في قضايا الناس اليومية في ما يأمرهم الرسول به أو ينهاهم عنه، مما يحدث لهم في كل أمورهم، ويتصاعد الأسلوب ليضع قضية الإيمان بالله وعبادته في نطاقها الطبيعي، فهي ليست مجرد فكرة طارئة، تأخذ جانبا من جوانب الفكر كأيّة فكرة أخرى، بل هي خط للحياة يفرض نفسه على الفكر والممارسة والشعور.

4. ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾ وهكذا دعاهم إلى تقوى الله في الوقوف عند حدوده من خلال ما أوجبه وما حرّمه عليهم، وإلى طاعته في ما يريد أن ينظّم لهم من حياتهم في مسارها الجديد الذي يخلق لنا أوضاعا جديدة في حركة الإيمان نحو أهدافه الكبيرة في الحياة، فإن التّقوى والطاعة لله مظهر الاعتراف بالربوبية الشاملة في تأكيدها المضموني الإيحائي على العبودية الخالصة في خضوع الإنسان لربه، وهما الخطان اللذان يتحرك فيهما المبدأ العام في امتداده الحركي، كما تنطلق فيهما المفردات التفصيلية التي ترتبط بالعقيدة كلها في مضمونها العملي: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾، فإن الإيمان بربوبية الله للنبي وللناس الآخرين يمثل بداية للتصور والحركة من خلال ما يعنيه الإيمان من حركة الحياة على الصراط المستقيم، لذلك فإن الدعوة إليه هي دعوة للاستقامة على المنهج الإيماني الحق في بداية المرحلة ونهايتها.

5. هذا ما يجب أن نستوحيه في المنهج التربوي الذي يطرحه العاملون في سبيل الله، من أجل بناء الشخصية الإسلامية والقاعدة الإسلامية الواسعة الممتدة في الحياة؛ فإنّ عليهم أن لا يقعوا في الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون، الذين لا يرون في الإيمان إلّا حالة خاصّة من حالات النفس الإنسانية التي لا يستوقفها ذلك كثيرا.. فلا قيمة كبيرة له خارج هذا النطاق، بل هو الحياة كلها في حالاتها المتنوّعة وفي مواقفها المختلفة، فإن القضية بين خيارين وبدايتين؛ فإذا كانت البداية هي الاعتراف بربوبية الله الواحد، فإن حركة الحياة تتجه إلى الآخرة عبر الحياة الدنيا، في خط مستقيم تحكمه القيم الروحية، وتنطلق في تصوّر متوازن لا تتعدد فيه العبادة تبعا لتعدّد الآلهة، بل يتوحد فيه الإله وتتّحد فيه العبادة، وإذا كانت البداية هي إنكار الإله في وجوده وفي وحدانيته، فإن حركة الحياة تتثاقل إلى الأرض لتشدّها الأرض إلى شهواتها وغرائزها وأطماعها، وتدخل بها في منعطفاتها الضاربة في خطوط التّيه، وتتنوّع فيها العبادة ليعيش الإنسان فيها عبوديته لكل شيء من حوله، ويفقد بذلك حريته في الموقف وفي الإرادة والحياة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/36.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية جاءت على لسان المسيح عليه السّلام ولبيان بعض اهداف النبوّة حيث يقول: جئت أؤكّد لكم التوراة وأثبت أصولها ومبادئها ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ كما جئت لأرفع الحظر الذي فرض عليكم، بالنسبة لبعض الأشياء، في دين موسى بسبب عصيانكم ـ مثل منع لحم الأباعر، وبعض شحوم الحيوانات، وبعض الطيور، والأسماك، ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾، وسوف نجد في تفسير الآية 160 من سورة النساء أنّه بسبب عناد بعض جماعات اليهود وطغيانهم حرّم الله عليهم بعض الطيّبات من النعم: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾، إلّا أنّ هذه المحظورات أحلّت لهم مرّة أخرى ببركة ظهور المسيح عليه السّلام هذا النبيّ العظيم.

2. ثمّ مرّة أخرى تتكرّر الجملة التي قرأنا على لسان المسيح في الآية السابقة: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾

3. وفي الآية الثانية تؤكد على لسان السيد المسيح عليه السّلام عبودية المسيح لرفع كلّ إبهام وريب قد ينشأ من كيفية ولادته التي قد يتشبث بها البعض لإثبات ألوهيته وتقول: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ يتّضح من هذه الآية ومن آيات أخرى أنّ السيّد المسيح، لكي يزيل كلّ إبهام وخطأ فيما يتعلّق بولادته الخارقة للعادة، ولكي لا يتّخذونها ذريعة لتأليهه، كثيرا ما يكرّر القول: ‏ ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ و﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾، بخلاف ما نراه في الأناجيل المحرّفة الموجودة التي تنقل عن المسيح أنّه كان يستعمل (الأب) في كلامه عن الله، إنّ القرآن يذكر (الرب) بدلا من ذلك: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾، وهذا أكثر ما يمكن أن يقوم به المسيح في محاربة من يدّعي بألوهيّته بل لكي يكون التوكيد على ذلك أقوى يقول للناس‏ ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ أي اعبدوا الله ولا تعبدوني، ولذلك نجد أنه لم يكن أحد من الناس يتجرأ في حياة السيّد المسيح عليه السّلام أن يدعي ألوهيته أو أنه أحد الإلهة، وحتّى بعد عروجه بقرنين من الزمان لم تخالط تعليماته في التوحيد شوائب الشرك، إلّا أن التثليث باعتراف أرباب الكنيسة ظهر في القرن الثالث للميلاد (وسيأتي تفصيل ذلك في ذيل الآية 171 من سورة النساء)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/509.

29. المسيح والحواريون ونصرة الله

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈29⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 52 ـ 54]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الحواريون: أصفياء الأنبياء(1).

2. روي أنّه قال: إنما سموا الحواريين لبياض ثيابهم، كانوا صيادين(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ مع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته؛ إنهم شهدوا له أن قد بلغ، وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا(3).

4. روي أنّه قال: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ مع أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(3).

__________

(1) الدرّ المنثور: ابن مردويه.

(2) ابن جرير: ٢٢/٦٢١.

(3) ابن المنذر: ١/٢١٨.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الْحَوَارِيُّونَ﴾: أصفياء الأنبياء(1).

2. روي أنّه قال: سموا حواريين، لصفاء قلوبهم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿الْحَوَارِيُّونَ﴾: الغسالون، وهو بالنبطية(3).

4. روي أنّه قال: ﴿الْحَوَارِيُّونَ﴾: قصارون مر بهم عيسى، فآمنوا به، واتبعوه(4).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٦٠.

(2) تفسير الثعلبي: ٣/٧٧.

(3) النَّبَطية: لغة النَّبَط.

(4) الدرّ المنثور: عَبد بن حُمَيد.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ كفروا وأرادوا قتله، فذلك حين استنصر قومه، قال ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ [الصف: ١٤] (1).

2. روي أنّه قال: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ من يتبعني إلى الله(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٤٢.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٥٩.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ استنصرهم، فنصره الحواريون، فظهر عليهم(1).

2. روي أنّه قال: الحواريون: الأنصار، والحواري: الناصر(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٥٩.

(2) تفسير الثعلبي: ٣/٧٧.

ابن الزبير:

روي عن محمد بن جعفر بن الزبير (ت 115 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ والعدوان(1).

2. روي أنّه قال: ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ﴾ وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم، ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه، يعني: وفد نصارى نجران(1).

3. روي أنّه قال: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾: أي: هكذا كان قولهم وإيمانهم(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٤٥.

(2) ابن جرير: ٥/٤٤٦.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الْحَوَارِيُّونَ﴾: هم الذين تصلح لهم الخلافة(1).

2. روي أنّه قال: الحواري: الوزير(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٤٣.

(2) عبد الرزاق: ١/٢٠٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ معناه عرف منهم الكفر(1).

2. روي أنّه قال: ﴿الْحَوَارِيُّونَ﴾ هم صفوة الأنبياء واحدهم حواري.. والحواريات من النّساء اللاتي يسكنّ القرى.. ولا يسكنّ البوادي(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ معناه أهلك الله(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 110.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: مر عيسى ابن مريم بالحواريين وهم يصطادون السمك، فقال: ما تصنعون؟ فقالوا: نصطاد السمك، فقال: أفلا تمشون حتى نصطاد الناس؟ قالوا: ومن أنت؟ قال أنا عيسى ابن مريم، فآمنوا به، وانطلقوا معه، فذلك قول الله تعالى: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُون﴾(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٣٢ مُطَوَّلًا.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ﴾ يعني: فلما رأى ﴿عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ يعني: من بني إسرائيل، كقوله تعالى: ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ [مريم: ٩٨]، يعني: هل ترى منهم من أحد(1).

2. روي أنّه قال: مر عيسى عليه السلام على الحواريين، يعني: على القصارين غسالي الثياب، ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ يعني: من يتبعني مع الله، كقوله: ﴿فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ﴾ [الشعراء: ١٣]، يعني: معي هارون، وكقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢]، يعني: مع أموالكم(1).

3. روي أنّه قال: ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ﴾ يعني: بتوحيد الله، ﴿وَاشْهَدْ﴾ يا عيسى: ﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ يعني: مخلصين بتوحيد الله تعالى(1).

4. روي أنّه قال: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾، يعني: صدقنا بالإنجيل الذي أنزلت على عيسى، ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ يعني: عيسى على دينه(1).

5. روي أنّه قال: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ يقول: فاجعلنا مع الصادقين، نظيرها في المائدة، هذا قول الحواريين(1).

6. روي أنّه قال: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾ وذلك أن كفار بني إسرائيل عمدوا إلى رجل، فجعلوه رقيبا على عيسى ليقتلوه، فجعل الله شبه عيسى على الرقيب، فأخذوا الرقيب فقتلوه وصلبوه، وظنوا أنه عيسى، ورفع الله تعالى عيسى إلى سماء الدنيا من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان، فذلك قوله سبحانه: ﴿وَمَكَرُوا﴾ بعيسى ليقتلوه، يعني: اليهود، ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ بهم حين قتل رقيبهم وصاحبهم، ﴿والله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ يعني: أفضل مكرا منهم(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٨.

أبو روق:

روي عن أبي روق عطية بن الحارث الهمداني (ت 150 هـ) أنّه قال: الحواريون: أصفياء عيسى، وكانوا اثني عشر رجلا(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٧٧.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ كفروا، وأرادوا قتله، فذلك حين استنصر قومه، فذلك حين يقول: ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ﴾ [الصف: ١٤]، وبعث إلى يهود، واختلفوا وتفرقوا، فتنصروا واختلفوا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ مع الله(2).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٢١٤.

(2) ابن جرير: ٥/٤٣٧.

ابن المبارك:

روي عن ابن المبارك (ت 181 هـ) أنّه قال: سموا حواريين لأنهم كانوا يرى بين أعينهم أثر العبادة، ونورها، وحسنها، قال الله تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: ٢٩] (1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٧٧.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنه قيل له: لم سمي الحواريون حواريين؟ قال: أما عند الناس فإنهم سموا حواريين لأنهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل، وهو اسم مشتق من الخبز الحوارى، وأما عندنا فسمي الحواريون حواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين لغيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكر(1).

2. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾، فقال: (إن الله تبارك وتعالى لا يمكر، ولكنه عز وجل يجازيهم جزاء المكر(2).

__________

(1) علل الشرائع: 80/1 باب: 72.

(2) عيون أخبار الرّضا: 1/126.

الرسّي:

قال الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ): فلما أحس عيسى ـ صلى الله عليه ـ كفرهم، وتوجس بإصرارهم على الكفر أمرهم، كما قال الله سبحانه: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾، يريد: من المهاجر معي إلى الله، والتابعون لي سياحة في سبيل الله؟؛ ولسياحته في الله، ونصيحته بها لله، سماه الله: مسيحا، وكان لله فيها نصيحا(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/161.

الهادي إلى الحق:

سئل الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 54] فكيف المكر فيهم، وكيف المكر من الله بالماكرين؟ فقال: أما مكر العباد هو: ما يخفون ويضمرون، من إرادة المكر لمن به يمكرون، وستر ما يريدونه، من الغوائل لمن يغتالونه، فهذا المكر من الآدميين، وأما المكر من الله هو: عليه بما يضمرون، والإطلاع على ما يخفون ويعلنون، فأخبر الله أنه يعلم ذلك فيهم من قبل أن يفعلوه، ويطلع على خفي ما يخفونه في أنفسهم قبل أن يبدوه، فليس أحد يعلم علمه، ولا يطلع على شيء من إرادته، تعالى رب العالمين، الذي لا يحتاج إلى النية والضمير، في الصغير ولا في الكبير(1).

__________

(1) تفسير الإمام الهادي: 1/163.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: سألت عن قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، قلت: ما معنى ذلك؟، والجواب: سئل جدي القاسم عن هذه المسألة، فقال: أما مكر الله واستهزاؤه هو: استدراج الله وإملائه، ومكر من كفر بالله ربه فإنما هو: احتيال من الذين كذبوا وحيه، واستهزاء من كفر بالحق والمحقين، فيشبه كذبا في القول والفعال بالمحقين؛ فكل ما قيل أبدا للمبطلين: (خادعوا، ومكروا) فإنما يراد به فيهم: كذبوا وكفروا، وأظهروا خلاف ما أبطنوا وأسروا، ومتى ما قيل: (استهزأوا، وسخروا) فإنما يراد به: يلعبوا، وبطروا؛ وفي ذلك ما يقول سبحانه لنبيه: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، يقول سبحانه: وإن يريدوا أن يخدعوك، فيمكروا بالكذب فيما أعطوك، معطوك المسالمة كذبا، ويكذبونك بالمخادعة تلعبا ـ فحسبك في ذلك تأييد الله ونصره، وبما ألف بين قلوب المؤمنين على دينه وأمره، وإذا كان استهزاؤهم ومكرهم إنما هو إخفاؤهم ما يخفون، وسترهم من أمرهم ما يسترون ـ فأمور الله أستر وأبطن، وأخفى عنهم وأكن؛ وذلك فقد يكون مكرا من الله بهم؛ استهزاء واختداعا من الله لهم صاغرين؛ فلذلك كان الله سبحانه خادعا لمن خدعه، لا مخادعا ولا مخدوعا، وكان قلب من خادعه سبحانه عن العلم بمكر الله مقفلا مطبوعا، ليس لله فيه حذار، ولا لهم عن مكره ازدجار، حتى يدهاه من أخذ الله دواهيه، وهو لا يوقن بأن شيئا منها يأتيه، كما قال الله سبحانه: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/162.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾:

أ. قيل: أحسّ: علم.

ب. وقيل: أحسّ: رأي؛ وهو كقوله: ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ [مريم: 98]

ج. وقيل: أحسّ، أي: وجد، وهو قول الكيساني، وقيل: عرف؛ وهو كله واحد.

2. قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل ـ والله أعلم ـ أن قومه لما سألوه أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء؛ تكون لهم آية لرسالته وصدقه؛ ففعل الله ـ عزّ وجل ـ ذلك، وأنزل عليهم المائدة، ثم أخبر أن من كفر منهم بعد إنزال المائدة يعذبه عذابا لا يعذبه أحدا، فكفروا به؛ فعلم أن العذاب ينزل عليهم؛ فأحبّ أن يخرج بمن آمن به؛ لئلا يأخذهم العذاب، فقال: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ يؤيد ذلك قوله: ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ﴾ الآية [الصف: 14]

ب. ويحتمل أن يكونوا أظهروا الإسلام له‏، وكانوا في الحقيقة على خلاف ذلك، فلما علم ذلك منهم، وقد همّوا على قتله، قال عند ذلك: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ أحبّ أن يكون معه أنصار مع الله ينصرونه؛ فيظهر المؤمنون من غيرهم، فنصرهم الله على أعدائهم؛ ليظهر المؤمنون من غيرهم، وهو قوله: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: 14]

ج. ومن الناس من يقول: إنه لم يكن في سنّة عيسى عليه السلام الأمر بالقتال، وفي الآية إشارة إلى ذلك بقوله: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: 14] أخبر أنهم أصبحوا ظاهرين على عدوهم؛ فلا يخلو إمّا أن يكون قتالا أو غلبة بحجة أو بشيء ما يقهرهم.

3. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ اختلف في الحواريين:

أ. قال بعضهم: هم القصّارون الغسّالون للثياب‏، ومبيّضوها.

ب. وعن ابن عباس قال: إنّما سمّوا الحواريّين؛ لبياض ثيابهم)، وكانوا يصيدون السّمك‏.

ج. وقيل: الحواري: الوزير، والناصر، والخاص‏؛ على ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن لكلّ نبيّ حواريّين، وحواريّي فلان وفلان)، ذكر نفرا من الصحابة ـ [رضوان الله عليهم أجمعين‏] ـ وإنما أراد ـ والله أعلم ـ الناصر والوزير.

د. ويحتمل أن يكونوا سمّوا بذلك؛ لصفاء قلوبهم، وهم أصفياء عيسى، [عليه السلام‏]، كذلك روي عن ابن عباس‏ والله أعلم بهم.

4. ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ إن الله يتعالى عن أن ينصر، ولكن يحتمل‏ ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ أي: أنصار دين الله، أو أنصار نبيه، أو أنصار أوليائه؛ تعظيما، وكذلك قوله: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: 7]: إن الله لا ينصر؛ ولكن ينصر دينه أو رسله أو أولياؤه؛ وهو كقوله: ﴿يُخَادِعُونَ اللهَ﴾ [البقرة: 9]: إن الله لا يخادع، ولا يمكر، ولكن لما خادعوا أولياءه أو دينه، أضاف ذلك إلى نفسه؛ فعلى ذلك لما نصروا دين الله ونبيّه ووليّه، أضاف [ذلك‏] إلى نفسه.

5. قوله تعالى: ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ الآية، ينقض قول‏ من يجعل الإيمان غير الإسلام؛ لأنهم أخبروا أنهم آمنوا، وأنهم مسلمون، لم يفرقوا بينهما، وكذلك قوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات: 35 ـ 36]: لم يفصل بينهما، وجعلهما واحدا، وكذلك قول موسى لقومه: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 84] لم يجعل بين الإيمان والإسلام فرقا، وهو قولنا: إن العمل فيهما واحد؛ لأن الإيمان: بأن تصدق بأنك عبد الله، والإسلام: أن تجعل نفسك لله سالما، وقيل: الإيمان: اسم ما بطن، والإسلام: اسم ما ظهر؛ ألا ترى أنه جاز في الإسلام الشهادة، وفي الإيمان التصديق!؟

6. ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ يعنى ـ والله أعلم ـ: بما أنزلت من الكتب السماوية التي أنزلها على الرسل جميعا، فإن أرادوا بما أنزلت على عيسى عليه السلام فالإيمان بواحد من الكتب أو بواحد من الرسل: إيمان بالكتب كلها وبالرسل جميعا، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم‏.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾:

أ. قيل: مكروا بنبيّ الله عيسى عليه السلام حيث كذبوه وهمّوا بقتله، ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ أي: يجزيهم جزاء مكرهم؛ وإلا حرف المكر مذموم عند الخلق؛ فلا يجوز أن يسمّي الله به إلا في موضع الجزاء؛ على ما ذكره ـ عزّ وجل ـ في موضع الجزاء؛ كقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 194] والاعتداء منهي عنه] غير جائز؛ كقوله: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]؛ فكان قوله: ﴿فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ هو جزاء الاعتداء؛ فيجوز؛ فعلى ذلك المكر والخداع والاستهزاء: لا يجوز أن يسمّى به، فيقال: يا ماكر، ويا خادع، ويا مستهزئ؛ لأنها حروف مذمومة عند الناس؛ فيشتم بعضهم بعضا بذلك؛ لذلك لا يجوز أن يسمّى الله تعالى به إلا في موضع الجزاء، وبالله العصمة.

ب. وقيل: ﴿وَمَكَرُوا﴾ حيث كذبوه وهمّوا بقتله‏، ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ حيث رفع الله عيسى عليه السلام وألقى شبهه على رجل منهم حتى قتلوه؛ فذلك خير لعيسى عليه السلام من مكرهم‏.

ج. وقيل: ﴿وَمَكَرُوا﴾ أي: قالوا، ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ قال الله، وقولهم الشرك، وقال لهم: قولوا التوحيد.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾:

أ. قيل: أي: خير الجازين أهل الجور بالعدل، وأهل الخير بالفضل.

ب. وقيل: ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ أي: خير القائلين.

ج. وقيل: ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ بما بالحق يمكر، ويأخذ من استحق الأخذ، وهم لا.

9. المكر: هو الأخذ بالغفلة، والله يأخذهم بالحق من حيث لا يعلمون؛ فسمي مكرا لذلك؛ كما يقال: امتحنه الله وهو الاستظهار، ولكن لا يراد به هذا في حق الله.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/379.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، ليس يريد عز وجل أن الحواريين مكروا، وإنما هذا من التقديم والتأخير، والمعنى في ذلك ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾، أي رأى كفرهم، وسمع قبح لفظهم.

2. معنى قوله: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ أي من ينصرني لله ولطلب ثوابه، فنصره الحواريون رحمة الله عليهم.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 259.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ أي من أنصاري مع الله ومن ينصرني بنصرهم الله وفي سبيل الله ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ وإنما سموا حواريين لصفاء قلوبهم وصفى سرائرهم في طاعة الله عز وجل وأصل الحواري من الحور وهو شدة البياض ومنه الحواري من الطعام سمي بذلك لنقائه وبياضه.. ووجه الاستنصار بالحواريين أنه يتمكن من إظهار الحجة وإقامة الحق وليأمن على نفسه، ويحتمل أن يكون استنصاره بهم على وجه التجربة ليعرف الكافر من المؤمن.

2. ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ يعني صل ما بيننا وبينهم على التقوى والإخلاص وأثبنا معهم في الكرامة.

3. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ يحتمل تأويلين.

أ. أحدهما: في مكروا بالمسيح والحيلة عليه في قتله ومكر الله في ردهم خائبين وألقى شبه المسيح على غيره.

ب. الثاني: ومكروا بإضمار الكفر ومكر الله مجازاتهم بالعقوبة وإنما جاء قوله: ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ على مزاوجة الكلام وإن خرج عن حكمه نحو قوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]، وليس الثاني اعتداء.. وأصل المكر التفاف ولذا سمي الشجر الملتف مكراً والمكر هو الاحتيال على الناس لالتفاف المكروه به والفرق بين الحيلة والمكر أن الحيلة تكون لإظهار ما يعسر من غير قصد إلى الإضرار والمكر الترصد إلى إيقاع المكروه.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/142.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: يعني من أنصاري مع الله.

ب. الثاني: معناه من أنصاري في السبيل إلى الله، وهذا قول الحسن.

ج. الثالث: معناه من ينصرني إلى نصر الله، وواحد الأنصار نصير.

2. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ اختلف في تسميتهم بالحواريين على ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنهم سمّوا بذلك لبياض ثيابهم، وهذا قول سعيد بن جبير.

ب. الثاني: أنهم كانوا قصّارين يبيضون الثياب، وهذا قول ابن أبي نجيح.

ج. الثالث: أنهم خاصة الأنبياء، سموا بذلك لنقاء قلوبهم، وهذا قول قتادة، والضحاك.

3. أصل الحواري: الحور وهو شدة البياض، ومنه الحواري من الطعام لشدة بياضه، والحور نقاء بياض العين.

4. اختلفوا في سبب استنصار المسيح بالحواريين على ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنه استنصر بهم طلبا للحماية من الكفار الذين أرادوا قتله حين أظهر دعوته، وهذا قول الحسن، ومجاهد.

ب. الثاني: أنه استنصر بهم ليتمكن من إقامة الحجة وإظهار الحق.

ج. الثالث: لتمييز المؤمن الموافق من الكافر المخالف.

5. في قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: يعني صل ما بيننا وبينهم بالإخلاص على التقوي.

ب. الثاني: أثبت أسماءنا مع أسمائهم لننال ما نالوا من الكرامة.

6. في قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنهم مكروا بالمسيح عليه السّلام بالحيلة عليه في قتله، ومكر الله في ردهم بالخيبة لإلقاء شبه المسيح على غيره، وهو قول السدي.

ب. الثاني: مكروا بإضمار الكفر، ومكر الله بمجازاتهم بالعقوبة، وإنما جاز قوله: ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ على مزاوجة الكلام‏ وإن خرج عن حكمه، نحو قوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194] وليس الثاني اعتداء، وأصل المكر: الالتفاف، ولذلك سمي الشجر الملتف مكرا، والمكر هو الاحتيال على الإنسان لالتفاف المكروه به، والفرق بين المكر والحيلة أن الحيلة قد تكون لإظهار ما يعسر من غير قصد إلى الإضرار، والمكر: التوصل إلى إيقاع المكروه به.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/396.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الاحساس هو الوجود بالحاسة، أحس يحس إحساساً، والحس القتل، لأنه يحس بألمه، ومنه قوله: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ والحس: العطف، لاحساس الرقة على صاحبه، والأصل فيه إدراك الشيء من جهة الملابسة.

2. معنى الآية: فلما علم عيسى منهم الكفر، قال: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾، والأنصار جمع نصير مثل شريف وأشراف، وشهيد وأشهاد، وإنما لم يحمل على ناصر لأنه يجب أن يحمل على نظيره من فعيل وأفعال.

3. في قوله تعالى: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: من أعواني على هؤلاء الكفار إلى معونة الله أي مع معونة الله في قول السدي، وابن جريج، وإنما جاز أن تكون (إلى) بمعنى (مع) لما دخل الكلام من معنى الاضافة ومعنى المصاحبة، ونظيره (الذود إلى الذود إبل) أي مع الذود، ومثله‏: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ أي مع أموالكم، وقولك: قدم زيد ومعه مال، فلا يجوز فيه إلى وكذلك قدم إلى أهله، لا يجوز فيه مع، لاختلاف المعنى.

ب. الثاني: قال الحسن من أنصاري في السبيل إلى الله، لأنه دعاهم إلى سبيل الله.

ج. الثالث: قال الجبائي: من أنصاري لله، كما قال: ﴿هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ ووجه ذلك أن العرض يصلح فيه اللام على طريق العلة وإلى طريق النهاية.

4. سؤال وإشكال: عيسى عليه السلام إنما بعث بالوعظ دون الحرب لم استنصر عليهم؟ والجواب:

أ. للحماية من الكافرين الذين أرادوا قتله عند اظهار الدعوة ـ في قول الحسن ومجاهد ـ

ب. وقال آخرون: يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة وإنما قاله ليتميز الموافق من المخالف.

5. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ اختلفوا في تسميتهم حواريين على ثلاثة أقوال:

أ. قال سعيد بن جبير: سموا بذلك لنقاء ثيابهم.

ب. الثاني: قال ابن جريج عن أبي أرطاء أنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب.

ج. الثالث: قال قتادة، والضحاك: لأنهم خاصة الأنبياء يذهب إلى نقاء قلوبهم كنقاء الأبيض بالتحوير، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال الزبير ابن عمتي وحواري من أمتي.

6. أصل الحواري الحور، وهو شدة البياض، ومنه الحواري من الطعام لشدة بياضه، ومنه الأحور، والحوراء لنقاء بياض العين، ومنه الحواريات نساء الأنصار لبياضهن، قال أبو جلدة اليشكري‏:

çفقل للحواريات يبكين غيرنا...ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح‏é

وقال بعض بني كلاب:

çولكنه ألقى زمام قلوصه‏...ليحيا كريماً أو يموت حوارياé

أي ناصراً لرفاقه غير خاذل لهم، والمحور: الحديدة التي تدور عليها البكرة، لأنها تنصقل حتى تبيض وحار يحور: إذا رجع، لانقلابه في الطريق الذي جاء فيه كانقلاب المحور بالتحوير.

7. في الآية حجة على من زعم أن المسيح والذين آمنوا به، كانوا نصارى فبين الله تعالى أنهم كانوا مسلمين كما بين ذلك في قصة ابراهيم عليه السلام حيث قال‏: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾

8. ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ هذا حكاية لقول الحواريين حيث قالوا: ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، قالوا: ﴿رَبِّنَا﴾ ومعناه يا ربنا ونصبه، لأنه نداء مضاف، ﴿آمَنَّا﴾ أي صدقنا، وإنما لم يقل رب العباد آمنا للاختصاص بما أنعم به عليهم من الايمان الذي أجابوا إليه دون غيرهم ممن عدل عنه.

9. إنما قال‏ ﴿رَبَّنَا آمَنَّا﴾ على لفظ الخطاب ولم يعدل إلى لفظ الغائب، فكان أبلغ في التعظيم، كما تقول السمع والطاعة للملك، فيكون أفخم من أن يقال: لك أيها الملك، لأن المشاهدة أغنت عن التصريح بالخطاب وصار كالاستدلال له مع الغنى عنه، وليس كذلك استعماله مع الحاجة إليه، لأنه لا يدل على ابتداء له.

10. سؤال وإشكال: لم حذف (يا) من يا ﴿رَبَّنَا آمَنَّا﴾، ولم يحذف من {يا عبادي لا خوف عليكم}؟ والجواب: حذف للاستغناء عن تنبيه المدعو، وليس كذلك الثاني لأنه بشارة للعباد ينبغي أن يمد بها لأن سماعها مما يسر.

11. ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ فالاتباع سلوك طريقة الداعي على الاجابة إلى ما دعا إليه، وليس كل إجابة اتباعاً، لأن اجابة الدعاء يجوز على الله تعالى ولا يجوز عليه الاتباع.

12. في قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: اثبت أسماءنا مع اسمائهم لنفوز بمثل ما فازوا، وننال من الكرامة مثل ما نالوا، ونستمتع بالدخول في جملتهم والانضمام إليهم.

ب. الثاني: يصل ما بيننا وبينهم بالخلة على التقوى، والمودة على سلوك طريق الهدى، وتجنب طريق الردى، وعلى هذا يكونون فيه بمنزلة من كتب عليهم.

13. حقيقة الشاهد المخبر بالشيء عن مشاهدة، وقد يتصرف فيه، فيقال: البرهان شاهد بحق أي هو بمنزلة المخبر به عن مشاهدة، ويقال هذا شاهد أي معد للشهادة والمراد في الآية الشاهدين بالحق المنكرين للباطل.

14. في قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: قال السدي مكروا بالمسيح بالحيلة عليه، لقتله ومكر الله بردهم بالخيبة، لالقائه شبه المسيح على غيره.

ب. الثاني: ﴿مَكَرُوا﴾ بإضمار الكفر ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ بمجازاتهم عليه بالعقوبة، والمكر، وإن كان قبيحاً فإنما أضافه تعالى إلى نفسه لمزاوجة الكلام، كما قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، وليس باعتداء وإنما هو جزاء، وهذا أحد وجوه البلاغة، لأنه على أربعة أقسام:

أحدها: المزاوجة نحو ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾

الثاني: المجانسة نحو قوله: ﴿يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾

الثالث: المطابقة نحو قوله: ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا﴾ بالنصب على مطابقة الجواب للسؤال.

الرابع: المقابلة نحو قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ قال الشاعر:

واعلم وأيقن ان ملكك زائل‏...واعلم بأن كما تدين تدان‏

أي كما تجزي تجزى، والأول ليس بجزاء.

15. أصل المكر الالتفاف، فمنه المكر ضروب من الشجر مثل الدعل ونحوه، لالتفافه، والممكورة من النساء الملتفة والمكر طين أحمر شبيه بالمغرة، وثوب ممكور إذا صبغ بذلك الطين، والمكر الاحتيال‏ على العبد، لالتفاف المكروه عليه، وحد المكر: خب‏ء يختدع به العبد لإيقاعه في الضر، والفرق بين المكر والحيلة أن الحيلة قد تكون، لإظهار ما تعسر من الفعل من غير قصد إلى الإضرار بالعبد، والمكر حيلة على العبد توقعه في مثل الرهق.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/473.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الإحساس: الوجود بالحاسة، وهو إدراكه بها، يقال: أحس به يحس إحساسًا، والحَسُّ: القتل، ومنه ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ والحس: آلة الإدراك، والحواس خمس: العين، والأذن، والأنف، والفم، ومحل الحياة، ومنهم من لا يعد محل الحياة من الحواس.

ب. الحواري أصله من الحَوَرِ، وهو شدة البياض، ومنه قيل للطعام حُوَّارَي، ومنه الأحور، والحور التقاء بياض العين.

ج. الأنصار جمع نصير كشريف وأشراف، وإنما لا يحمل على ناصر؛ لأنه يجب أن يحمل على نظيره من فعيل وأفعال، والناصر والنصير: المعين.

د. الشاهد أصله المخبر بالشيء عن مشاهدة ثم يستعمل في الأشياء توسعًا، يقال للبرهان شاهد؛ أي هو بمنزلة المخبر به.

هـ. المكر أصله الالتفاف، ومنه سمي ضرب من الشجر مكر لالتفافه، ومنه: الممكورة من النساء الملتفة، والمكر: الاحتيال على العبد لالتفاف المكروه عليه، وحد المكر حيث يختدع به العبد لإيقاعه في المكروه.

2. ثم بَيَّنَ تعالى ما جرى بينه وبين قومه فقال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾:

أ. قيل: وجد، عن الفراء وأبي عبيدة.

ب. وقيل: عرف، عن مقاتل.

ج. وقيل: أبصر ورأى.

3. ﴿مِنْهُمْ﴾ يعني من قومه ﴿الْكُفْرَ﴾، وذلك أنهم هموا بقتله وأخرجوه، فخرج وأمه يسيحان في الأرض فمر بالحواريين ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي﴾:

أ. قيل: معيني ﴿إِلَى اللهِ﴾ يعني مع الله؛ أي يعينني مع معونة الله، عن السدي وابن جريج.

ب. وقيل: من أنصاري في سبيل الله، عن الحسن؛ لأنه دعاهم إلى سبيل الله.

ج. وقيل: من أنصاري لله كقوله: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ ووجه ذلك أن الغرض يصلح فيه اللام على طريق العلة.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾:

أ. قيل: كانوا صيادين يصطادون السمك، عن ابن عباس والسدي.

ب. وقيل: كانوا قصارين، واختلفوا لم سمي حواري؟ فقيل: لبياض ثيابهم عن سعيد بن جبير.

ج. وقيل: كانوا قصارين يُبَيِّضُون الثياب، عن ابن أبي نجيح.

د. وقيل: كانوا خاصة الأنبياء عن قتادة والضحاك.

هـ. وقيل: كانوا ملوكًا، عن الأصم، والأوجه ما حكيناه، عن قتادة؛ لأنهم سموا بذلك مدحًا لهم كأنه ذهب إلى نقاء قلوبهم كنقاء الأبيض.

و. وقيل: الحواريون: الأنصار، والحواري: الناصر، عن الحسن.

ز. وقيل: الحواري الوزير، عن قتادة، وهذا يقرب من قوله الأول.

5. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ قيل: الأعوان في دين الله وأعوان رسل الله ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾:

أ. قيل: مر بهم وهم يصطادون فقال لهم: تعالوا نصطد الناس، قالوا: كيف ذلك، ومن أنت؟ قال: أنا عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله، فآمَنوا به واتبعوه.

ب. وقيل: سلمته أمه إلى صباغ، فكان كلما يشير عليه بشيء، فإذا هو أعلم منه، وأراد الصباغ سفرًا فقال له: ههنا ثياب مختلفة قد أعلمت على كل واحد بخيط على اللون الذي يصبغ به، فيجب أن تكون فارغا وقت قدومي وذهب، فطبخ عيسى حبًا واحدًا وجعل الجميع فيه، فقال: كوني بإذن الله على ما أريد منك، فقدم الصباغ وسأله: ما فعلت؟ فأخبره بما فعل، فقال له: قد أفسدت الثياب، فقال: قم فانظر، فكان يخرج ثوبًا أخضر وثوبًا أحمر وثوبًا أصفر إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي يريد كأحسن ما يكون، فجعلوا يتعجبون منه، فآمَنوا به، فهم الحواريون.

ج. وقيل: كان الحواريون اثني عشر رجلاً، اتبعوا عيسى فكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا، فيضرب بيده إلى الأرض فيُخرج لكل واحد رغيفين، وإذا عطشوا قالوا: عطشنا يا روح الله، فيضرب بيده إلى الأرض فيخرج ما يشربون.

6. سؤال وإشكال: لماذا استنصرهم، وإنما بعث بالوعظ دون الحرب؟ والجواب:

أ. قيل: طلب ذلك للحماية من الكفار لما هموا بقتله عند إظهار الدعوة، عن الحسن ومجاهد.

ب. وقيل: طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة.

ج. وقيل: ليميز الموافق من المخالف.

د. وقيل: دعاهم لينصروه على حربهم بدليل قوله تعالى: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾

7. ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾ أي صدقنا أنه واحد لا شريك له ﴿وَاشْهَدْ﴾ يا عيسى لنا ﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ وقيل: اشهد يا رب بأنا آمنا بك، واتبعنا رسولك ﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ منقادون لأمرك ونهيك.

8. ﴿رَبِّنَا﴾ أي يا ربنا ﴿آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ من كتابك ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ اقتدينا به، وقبلنا ما جاء به من الدين، وعلمنا به، ﴿الرَّسُولَ﴾ يعني عيسى.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾:

أ. قيل: أثبت أسماءنا مع أسماء الشاهدين لنفوز كما فازوا، وننال من الكرامة ما نالوا.

ب. وقيل: صِلْ ما بيننا وبينهم بالخلة على التقوى والمودة على الهدى وتجنب الردى، و﴿الشَّاهِدِينَ﴾ قيل: الَّذِينَ شهدوا لأنبيائك بالصدق وهو الأليق بالآية.

ج. وقيل: مع النبيين، عن عطاء؛ لأن كل نبي شهد على أمته.

د. وقيل: مع محمد وأصحابه وأمته، عن ابن عباس.

10. ﴿وَمَكَرُوا﴾ يعني كفار بني إسرائيل الَّذِينَ تقدم ذكرهم بقوله: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ مكروا مكرًا.

11. ﴿وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ اختلفوا في معنى المكر المضاف إليهم، والمكر المضاف إلى الله تعالى:

أ. قيل: مكروا بأن دبروا سرًّا واحتالوا في قتل المسيح؛ لأن عيسى بعد خروجه من بينهم عاد مع الحواريين إليهم، ودعاهم فهموا بقتله، واحتالوا، ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ أي ردهم بالخيبة لإلقائه شبه المسيح على غيره، عن السدي.

ب. وقيل: مكروا بإضمار الكفر، ومكر الله مجازاتهم بالعقوبة، على ذلك سمي جزاء المكر مكرًا على مزاوجة الكلام كقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ قال الشاعر:

çأَلا لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَاé

عن الزجاج.

ج. وقيل: مكرهم خِبٌّ وخديعة وحيلة، ومن الله استدراج كقوله: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ قال ابن عباس: كلما أحدثوا خطيئة جدد عليهم نعمة، ثم يأخذهم بغتة.

د. وقيل: مكرهم احتيالهم لقتله، ومكره أن يسلط عليهم فارس تقتلهم وتسبي ذراريهم، عن الأصم.

هـ. وقيل: مكرهم همهم بقتله، ومكره رفعه إلى السماء، عن أبي مسلم، وعلى جميع الوجوه المضاف إليه تعالى حسن.

12. سؤال وإشكال: كيف ألقى شبه عيسى على غيره؟ والجواب:

أ. قال ابن عباس: لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى دخل خوخة فيها كوة فرفعه جبريل من الكوة إلى السماء، فقال الملك لرجل: ادخل عليه اقتله فدخل، وألقى الله شبه عيسى عليه، فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه، وظنوا أنه عيسى.

ب. قال وهب: حبسوه في بيت ليقتلوه، فنصبوا خشبة ليصلبوه، وأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم، وأظلمت الأرض، فأخذوا رجلاً يقال له يهوذا، وهو الذي دلهم على المسيح، فألقى الله شبهه عليه لما دخل البيت، ورفع عيسى، وأخذوا يهوذا، وصلبوه وقتلوه، وهو يصيح: أنا الذي دللتكم عليه، فلم يلتفتوا إليه، فلما كان بعد سبعة أيام أمره الله تعالى فنزل على مريم والحواريين، وبثهم في الأرض دعاة إلى دينه، ثم رفعه الله تعالى.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾:

أ. قيل: أفضل المعاقبين.

ب. وقيل: المجازين على المكر.

ج. وقيل: خير المنتقمين.

د. وقيل: هو أنصف الماكرين وأعدلهم، لأن مكرهم ظلم قبيح، ومكره عدل وإنصاف.

14. قيل: حملت مريم بعيسى، ولها ثلاث عشرة سنة، وولدت بعيسى في بيت لحم من أرض أُورشليم لمضي خمس وستين سنة من ملك الإسكندر على أرض بابل، ولإحدى وخمسين سنة من ملك الإشعانيين، وأوحى الله إليه، وله ثلاثون سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين، ثم رفع، وعاشت أمه بعد رفعه ثلاث سنين:

أ. هذا على قول من يقول: إنه بعث نبيًّا بعد أن لم يكن.

ب. وقيل: إنه كان نبيًّا من حال صغره إلى أن رفع، وهو الذي دل عليه ظاهر القرآن.

ج. وقيل: إنما حملت به في الحال، ووضعته في الحال.

15. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أن في الكفر ما يشاهد ويحس كالقول الذي هو التكذيب، وكالاستخفاف بالنبي، وذلك يبطل قول من يقول: إن الكفر لا يكون إلا بالقلب.

ب. أن الرسول قد يفزع إلى غيره لينصره على عدوه.

ج. أن اسم الإسلام يجري على من تقدم.

د. أن النبي يشهد لأمته.

16. مسائل نحوية:

أ. ﴿إِلَى اللهِ﴾ قيل: المعنى مع، كقولهم: الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود، وقيل: هو بمعنى في؛ أي في سبيل الله.

ب. اختلف في عامل الإعراب في ﴿إِذِ﴾ قيل: قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ إِذْ قَالَ﴾ وقيل: تقديره: ذاك إذ قال.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/250.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الإحساس: الإدراك بالحاسة، والحس: القتل لأنه يحس بألمه، والحس: العطف لإحساس الرقة على صاحبه.

ب. الأنصار: جمع نصير كالأشراف جمع شريف.

ج. أصل الحواري: الحور وهو شدة البياض، ومنه الحواري من الطعام لشدة بياضه، قال الحرث بن حلزة:

çفقل للحواريات يبكين غيرنا... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابحé

يعني النساء لبياضهن.

د. الشاهد: هو المخبر بالشئ عن مشاهدة هذا حقيقة، وقد يتصرف فيه فيقال: البرهان شاهد بحق أي: هو بمنزلة المخبر به عن مشاهدة، ويقال: هذا شاهد أي: معد للشهادة.

هـ. المكر: الإتلاف، ومنه قولهم لضرب من الشجر: مكر لاتلافه، والممكورة من النساء: الملتفة الخلق، وحد المكر حب يختدع به العبد لإيقاعه في الضر، والفرق بين المكر والحيلة أن الحيلة قد تكون لإظهار ما يعسر من الفعل من غير قصد إلى الإضرار بالعبد، والمكر: حيلة على العبد توقعه في مثل الوهق.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ﴾:

أ. قيل: أي: وجد.

ب. وقيل: أبصر ورأى.

ج. وقيل: علم.

3. ﴿عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ وأنهم لا يزدادون إلا إصرارا على الكفر بعد ظهور الآيات والمعجزات، امتحن المؤمنين من قومه بالسؤال والتعريف عما في اعتقادهم من نصرته فـ‌ {قال أنصاري إلى الله} وقيل: إنه لما عرف منهم العزم على قتله قال: من أنصاري إلى الله.

4. في قوله تعالى: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ أقوال:

أ. أحدها: إن معناه من أعوان على هؤلاء الكفار، مع معونة الله، عن السدي وابن جريج.

ب. الثاني: إن معناه من أنصاري في السبيل إلى الله، عن الحسن، لأنه دعاهم إلى سبيل الله.

ج. الثالث: إن معناه من أعواني على إقامة الدين المؤدي إلى الله أي: إلى نيل ثوابه، كقوله: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾

5. سؤال وإشكال: إن عيسى إنما بعث للوعظ دون الحرب، فلم استنصر عليهم؟ والجواب:

أ. قيل: للجماعة من الكافرين الذين أرادوا قتله عند إظهار الدعوة، عن الحسن ومجاهد.

ب. وقيل أيضا: يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة، ولتميز الموافق من المخالف.

6. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ اختلف في سبب تسميتهم بذلك على أقوال:

أ. أولها: إنهم سموا بذلك لنقاء ثيابهم، عن سعيد بن جبير.

ب. ثانيها: إنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب، عن ابن أبي نجيح، عن أبي أرطأة.

ج. ثالثها: إنهم كانوا صيادين يصيدون السمك، عن ابن عباس والسدي.

د. رابعها: إنهم كانوا خاصة الأنبياء، عن قتادة والضحاك، وهذا أوجه لأنهم مدحوا بهذا الاسم، كأنه ذهب إلى نقاء قلوبهم، كنقاء الثوب الأبيض بالتحوير، ويروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (الزبير ابن عمتي، وحواريي من أمتي)

هـ. وقال الحسن: الحواري الناصر، والحواريون: الأنصار.

و. وقال الكلبي وأبو روق: الحواريون أصفياء عيسى، وكانوا اثني عشر رجلا.

ز. وقال عبد الله بن المبارك: سموا حواريين لأنهم كانوا نورانيين، عليهم أثر العبادة ونورها وحسنها، كما قال تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾

7. ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ معناه: نحن أعوان الله على الكافرين من قومك، أي: أعوان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأعوان دين الله ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾ أي: صدقنا بالله أنه واحد لا شريك له ﴿وَاشْهَدْ﴾ يا عيسى ﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي: كن لنا شهيدا عند الله، أشهدوه على إسلامهم لأن الأنبياء شهداء على خلقه يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾

8. ﴿رَبِّنَا﴾ أي: يا ربنا ﴿آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ على عيسى ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ أي: اتبعناه، ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾:

أ. قيل: أي: في جملة الشاهدين بجميع ما أنزلت، لنفوز بما فازوا به، وننال ما نالوا من كرامتك.

ب. وقيل: معناه واجعلنا مع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته، عن ابن عباس، وقد سماهم الله شهداء بقوله: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أي: من الشاهدين بالحق من عندك.

9. هذا كله حكاية قول الحواريين، وروي أنهم اتبعوا عيسى، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله! جعنا، فيضرب بيده على الأرض، سهلا كان أو جبلا، فيخرج لكل انسان منهم رغيفين يأكلهما، وإذا عطشوا قالوا: يا روح الله! عطشنا، فيضرب بيده على الأرض، سهلا كان أو جبلا، فيخرج ماء فيشربون، قالوا: يا روح الله من أفضل منا، إذا شيءنا أطعمتنا، وإذا شيءنا سقيتنا، وقد آمنا بك واتبعناك؟ قال: أفضل منكم من يعمل بيده، ويأكل من كسبه، فصاروا يغسلون الثياب بالكراء.

10. ﴿وَمَكَرُوا﴾ يعني: كفار بني إسرائيل الذين عناهم الله بقوله: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ الآية ومعناه: دبروا لقتل عيسى عليه السلام ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ أي: جازاهم على مكرهم، وسمى المجازاة على المكر مكرا، كما قال الله تعالى ﴿اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾:

أ. جاء في التفسير: إن عيسى بعد اخراج قومه إياه من بين أظهرهم، عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فهموا بقتله، وتواطؤوا على الفتك به، فذلك مكرهم به، ومكر الله بهم إلقاؤه الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى، حتى قتل وصلب، ورفع عيسى إلى السماء.

ب. وقال ابن عباس: لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام، دخل خوخته، وفيها كوة، فرفعه جبرائيل من الكوة إلى السماء، وقال الملك لرجل منهم خبيث: أدخل عليه فاقتله، فدخل الخوخة فألقى الله عليه شبه عيسى، فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه، وظنوا أنه عيسى.

ج. وقال وهب: أسروه، ونصبوا له خشبة ليصلبوه، فأظلمت الأرض، وأرسل الله الملائكة، فحالوا بينه وبينهم فأخذوا رجلا يقال له يهوذا، وهو الذي دلهم على المسيح، وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة، وأوصاهم، ثم قال: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك، ويبيعني بدراهم يسيرة، فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، فأتى أحد الحواريين إليهم فقال: ما تجعلوا لي إن أدلكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها، ودلهم عليه، فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام لما دخل البيت، ورفع عيسى، فأخذ فقال: أنا الذي دللتكم عليه! فلم يلتفتوا إلى قوله، وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى، فلما صلب شبه عيسى عليه السلام وأتى على ذلك سبعة أيام، قال الله عز وجل لعيسى: اهبط على مريم لتجمع لك الحواريين، وتبثهم في الأرض دعاة، فهبط واشتعل الجبل نورا، فجمعت له الحواريين، فبثهم في الأرض دعاة، ثم رفعه الله سبحانه، وتلك الليلة هي الليلة التي تدخن فيها النصارى، فلما أصبح الحواريون، حدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى عليه السلام إليهم فذلك قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾:

أ. قيل: أي: أفضل المعاونين.

ب. وقيل: أنصف الماكرين وأعدلهم، لأن مكرهم ظلم، ومكره عدل وإنصاف.

12. إنما أضاف الله المكر إلى نفسه على مزاوجة الكلام، كما قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ والثاني ليس باعتداء، وإنما هو جزاء، وهذا أحد وجوه البلاغة كالمجانسة، والمطابقة، والمقابلة:

أ. فالمجانسة كقوله: ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾

ب. والمطابقة كقوله: ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا﴾ بالنصب على مطابقة السؤال.

ج. والمقابلة نحو قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾

13. قيل: إن إلى بمعنى مع كقولهم: الذود إلى الذود إبل أي: مع الذود، قال الزجاج: لا يجوز أن يقال إن بعض الحروف من حروف المعاني بمعنى الآخر، وإنما معنى هذا أن اللفظ لو عبر عنه بمع أفاد هذا المعنى، لا أن ﴿إِلَى﴾ بمعنى مع، لو قلت: ذهب زيد إلى عمرو، لم يجز أن يقول: ذهب زيد مع عمرو، لأن إلى: غاية، ومع: يضم الشيء إلى الشيء، والحروف قد تتقارب في الفائدة، فيظن الضعيف العلم باللغة أن معناهما واحد من ذلك قوله تعالى ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾، ولو كانت ﴿عَلَى﴾ هاهنا، لأدت هذه الفائدة، وأصل ﴿فِي﴾ إنما هو للوعاء، وأصل ﴿عَلَى﴾ لما علا الشيء، فقولك: التمر في الجواب، لو قلت على الجواب، لم يصح ذلك، ولكن جاز ﴿فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ لأن الجذع مشتمل على المصلوب، لأنه قد أخذه من أقطاره، ولو قلت: زيد على الجبل، أو في الجبل يصلح، لأن الجبل قد اشتمل على زيد، فعلى هذا مجاز هذه الحروف.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/756.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى﴾ أي: علم، قال شيخنا أبو منصور اللغويّ: يقال: أحسست بالشيء، وحسست به، وقول الناس في المعلومات (محسوسات) خطأ، إنما الصواب (المحسّات) فأما المحسوسات، فهي المقتولات، يقال: حسّه: إذا قتله، والأنصار: الأعوان، و(إلى) بمعنى (مع) في قول الجماعة، قال الزجّاج: وإنما حسنت في موضع (مع) لأنّ (إلى) غاية و(مع) تضمّ الشيء بالشيء.

2. قال ابن الأنباريّ: يجوز أن يكون المعنى: من أنصاري إلى أن أبيّن أمر الله، واختلفوا في سبب استنصاره بالحواريّين:

أ. فقال مجاهد: لما كفر به قومه، وأرادوا قتله، استنصر الحواريّين.

ب. وقال غيره: لما كفر به قومه، وأخرجوه من قريتهم، استنصر الحواريّين.

ج. وقيل: استنصرهم، لإقامة الحق، وإظهار الحجّة.

3. في معنى الحواريّين أقوال:

أ. أحدها: أنهم الخواصّ الأصفياء، قال ابن عباس: الحواريّون: أصفياء عيسى، وقال الفرّاء: كانوا خاصّة عيسى، وقال الزجّاج: الحواريّون في اللغة: الذين أخلصوا، ونقوا من كل عيب، وكذلك الدّقيق: الحوّاريّ، إنما سمّي بذلك، لأنه ينقى من لباب البرّ وخالصه، قال حذّاق اللغويين: الحواريّون: صفوة الأنبياء الذين خلصوا وأخلصوا في تصديقهم ونصرتهم، ويقال: عين حوراء: إذا اشتدّ بياضها، وخلص، واشتدّ سوادها، ولا يقال: امرأة حوراء، إلا أن تكون مع حور عينها بيضاء.

ب. الثاني: أنهم البيض الثياب، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم سمّوا بذلك، لبياض ثيابهم.

ج. الثالث: أنهم القصّارون، سمّوا بذلك، لأنهم كانوا يحوّرون الثياب، أي: يبيّضونها، قال الضّحّاك، ومقاتل: الحواريّون: هم القصّارون، قال اليزيديّ: ويقال للقصّارين: الحواريّون، لأنهم يبيّضون الثياب، ومنه سمّي الدقيق: الحوّاريّ، والعين الحوراء: النّقيّة المحاجر.

د. الرابع: الحواريّون: المجاهدون، وأنشدوا:

çونحن أناس يملأ البيض هامنا...ونحن حواريّون حين نزاحف‏

جماجمنا يوم اللقاء تراسنا...إلى الموت نمشي ليس فينا تحانف‏é

هـ. الخامس: الحواريّون: الصّيّادون.

و. السادس: الحواريّون: الملوك‏، حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباريّ.

4. في صناعتهم قولان:

أ. أحدهما: أنهم كانوا يصطادون السمك رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

ب. الثاني: أنهم كانوا يغسلون الثياب، قاله الضّحّاك، وأبو أرطأة.

5. ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ هذا قول الحواريّين، والذي أنزل: الإنجيل، والرّسول: عيسى، وفي المراد بالشّاهدين خمسة أقوال:

أ. أحدها: أنهم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأمّته، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.

ب. الثاني: أنهم من آمن قبلهم من المؤمنين، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

ج. الثالث: أنهم الأنبياء، لأن كلّ نبيّ شاهد أمّته، قاله عطاء.

د. الرابع: أن الشّاهدين: الصّادقون، قاله مقاتل.

هـ. الخامس: أنهم الذين شهدوا للأنبياء بالتّصديق، فمعنى الآية: واعترفنا فاكتبنا مع من فعل فعلنا، هذا قول الزجّاج.

6. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾ قال الزجّاج: المكر من الخلق: خبث وخداع، ومن الله عزّ وجلّ: المجازاة، فسمّي باسم ذلك، لأنه مجازاة عليه، كقوله تعالى: ﴿اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾

7. ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، لأن مكره مجازاة، ونصر للمؤمنين، قال ابن عباس: ومكرهم، أن اليهود أرادوا قتل عيسى، فدخل خوخة، فدخل رجل منهم، فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى إلى السماء، فلما خرج إليهم، ظنّوه عيسى، فقتلوه.

__________

(1) زاد المسير: 1/286.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما حكى الله تعالى بشارة مريم بولد مثل عيسى واستقصى في بيان صفاته وشرح معجزاته وترك هاهنا قصة ولادته، وقد ذكرها في سورة مريم على الاستقصاء، شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات، وأظهر لهم تلك الدلائل فهم بما ذا عاملوه.

2. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ﴾ الإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة وهاهنا وجهان:

أ. أحدهما: أن يجري اللفظ على ظاهره، وهو أنهم تكلموا بالكفر، فأحس ذلك بإذنه.

ب. الثاني: أن نحمله على التأويل، وهو أن المراد أنه عرف منهم إصرارهم على الكفر، وعزمهم على قتله، ولما كان ذلك العلم علما لا شبهة فيه، مثل العلم الحاصل من الحواس، لا جرم عبر عن ذلك العلم الإحساس.

3. اختلفوا في السبب الذي به ظهر كفرهم على وجوه:

أ. الأول: قال السدي: أنه تعالى لما بعثه رسولًا إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم إلى دين الله فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم، وكان أمر عيسى عليه السلام في قومه كأمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو بمكة فكان مستضعفاً، وكان يختفي من بني إسرائيل كما اختفى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في‏ الغار، وفي منازل من آمن به لما أرادوا قتله، ثم إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج مع أمه يسيحان في الأرض، فاتفق أنه نزل في قرية على رجل فأحسن ذلك الرجل ضيافته وكان في تلك المدينة ملك جبار فجاء ذلك الرجل يوماً حزيناً، فسأله عيسى عن السبب فقال: ملك هذه المدينة رجل جبار ومن عادته أنه جعل على كل رجل منا يوماً يطعمه ويسقيه هو وجنوده، وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر علي، فلما سمعت مريم عليها السلام ذلك، قالت: يا بني ادع الله ليكفي ذلك، فقال: يا أماه إن فعلت ذلك كان شر، فقالت: قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه، فقال عيسى عليه السلام: إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ماء، ثم أعلمني، فلما فعل ذلك دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخاً، وما في الخوابي خمراً، فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذا الخمر؟ فتعلل الرجل في الجواب فلم يزل الملك يطالبه بذلك حتى أخبره بالواقعة فقال: إن من دعا الله حتى جعل الماء خمراً إذا دعا أن يحيي الله تعالى ولدي لا بد وأن يجاب، وكان ابنه قد مات قبل ذلك بأيام، فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك، فقال عيسى: لا نفعل، فإنه إن عاش كان شرًّا، فقال: ما أبالي ما كان إذا رأيته، وإن أحييته تركتك على ما تفعل، فدعا الله عيسى، فعاش الغلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح واقتتلوا، وصار أمر عيسى عليه السلام مشهوراً في الخلق، وقصد اليهود قتله، وأظهروا الطعن فيه والكفر به.

ب. الثاني: إن اليهود كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة، وأنه ينسخ دينهم، فكانوا من أول الأمر طاعنين فيه، طالبين قتله، فلما أظهر الدعوة اشتد غضبهم، وأخذوا في إيذائه وإيحاشه وطلبوا قتله.

ج. الثالث: أن عيسى عليه السلام ظن من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به وأن دعوته لا تنجح فيهم فأحب أن يمتحنهم ليتحقق ما ظنه بهم فقال لهم‏ ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ فما أجابه إلا الحواريون، فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون مصرون على إنكار دينه وطلب قتله.

4. في قوله تعالى: ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ أقوال:

أ. الأول: أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الدين، وتمردوا عليه فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بجماعة من صيادي السمك، وكان فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا ابنا زيدي وهم من جملة الحواريين الاثني عشر فقال عيسى عليه السلام: الآن تصيد السمك، فإن تبعتني صرت بحيث تصيد الناس لحياة الأبد، فطلبوا منه المعجزة، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئاً فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق منه، واستعانوا بأهل سفينة أخرى، وملئوا السفينتين، فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام.

ب. الثاني: أن قوله‏ ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ إنما كان في آخر أمره حين اجتمع اليهود عليه طلباً لقتله، ثم هاهنا احتمالات:

الأول: أن اليهود لما طلبوه للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثني عشر من الحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم وفيما تذكره النصارى في إنجيلهم: أن اليهود لما أخذوا عيسى سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بأذنه، فقال له عيسى: حسبك ثم أخذ أذن العبد فردها إلى موضعها، فصارت كما كانت، والحاصل أن الغرض من طلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه.

الثاني: أنه دعاهم إلى القتال مع القوم لقوله تعالى في سورة أخرى‏ ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: 14]

5. في قوله تعالى: ﴿إِلَى اللهِ﴾ وجوه:

أ. الأول: التقدير: من أنصاري حال ذهابي إلى الله أو حال التجائي إلى الله.

ب. الثاني: التقدير: من أنصاري إلى أن أبين أمر الله تعالى، وإلى أن أظهر دينه ويكون إلى هاهنا غاية كأنه أراد من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي، ويظهر أمر الله تعالى.

ج. الثالث: قال الأكثرون من أهل اللغة إلى هاهنا بمعنى مع قال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: 2] أي معها، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الذود إلى الذود إبل)، أي مع الذود، قال الزجاج: كلمة ﴿إِلَى﴾ ليست بمعنى مع فإنك لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز أن تقول: ذهب زيد مع عمرو لأن (إلى) تفيد الغاية و(مع) تفيد ضم الشيء إلى الشيء، بل المراد من قولنا أن (إلى) هاهنا بمعنى (مع) هو أنه يفيد فائدتها من حيث أن المراد من يضيف نصرته إلى نصرة الله إياي وكذلك المراد من قوله‏ ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: 2] أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، وكذلك‏ قوله عليه السلام: (الذود إلى الذود إبل) معناه: الذود مضموماً إلى الذود إبل.

د. الرابع: أن يكون المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه، وفي الحديث أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول‏ إذا ضحى (اللهم منك وإليك)، أي تقرباً إليك، ويقول الرجل لغيره عند دعائه إياته (إلى) أي انضم إلى، فكذا هاهنا المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله تعالى.

هـ. الخامس: أن يكون (إلى) بمعنى اللام كأنه قال من أنصاري لله نظيره قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ [يونس: 35]

و. السادس: تقدير الآية: من أنصاري في سبيل الله، و(إلى) بمعنى (في) جائز، وهذا قول الحسن.

6. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ ذكروا في لفظ (الحواري) وجوهاً:

أ. الأول: أن الحواري اسم موضوع لخاصة الرجل، وخالصته، ومنه يقال للدقيق حواري، لأنه هو الخالص منه، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم للزبير: (إنه ابن عمتي، وحواري من أمتي)، والحواريات من النساء النفيات الألوان والجلود، فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم.

ب. الثاني: الحواري أصله من الحور، وهو شدة البياض، ومنه قيل للدقيق حواري، ومنه الأحور، والحور نقاء بياض العين، وحورت الثياب: بيضتها، وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك لم سموا بهذا الاسم:

فقال سعيد بن جبير: لبياض ثيابهم.

وقيل كانوا قصارين، يبيضون الثياب.

وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحاً لهم، وإشارة إلى نقاء قلوبهم، كالثوب الأبيض، وهذا كما يقال فلان نقي الجيب، طاهر الذيل، إذا كان بعيداً عن الأفعال الذميمة، وفلان دنس الثياب: إذا كان مقدماً على ما لا ينبغي.

ج. الثالث: قال الضحاك: مر عيسى عليه السلام بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب، فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا، والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري، وهو القصار فعربت هذه اللفظة فصارت حواري، وقال‏ مقاتل بن سليمان: الحواريون: هم القصارون، وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلًا على خواص الرجل وبطانته.

7. اختلفوا في أن هؤلاء الحواريين من كانوا:

أ. الأول: إنه عليه السلام مرّ بهم وهم يصطادون السمك فقال لهم (تعالوا نصطاد الناس) قالوا: من أنت؟ قال: أنا عيسى ابن مريم، عبد الله ورسوله) فطلبوا منه المعجز على ما قال فلما أظهر المعجز آمنوا به، فهم الحواريون.

ب. الثاني: قالوا: سلمته أمه إلى صباغ، فكان إذا أراد أن يعلمه شيئاً كان هو أعلم به منه وأراد الصباغ أن يغيب لبعض مهماته، فقال له: هاهنا ثياب مختلفة، وقد علمت على كل واحد علامة معينة، فأصبغها بتلك الألوان، بحيث يتم المقصود عند رجوعي، ثم غاب فطبخ عيسى عليه السلام جباً واحداً، وجعل الجميع فيه وقال: (كوني بإذن الله كما أريد) فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال: قد أفسدت علي الثياب، قال: قم فانظر، فكان يخرج ثوباً أحمر، وثوباً أخضر، وثوباً أصفر كما كان يريد، إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها، فتعجب الحاضرون منه، وآمنوا به فهم الحواريون.

ج. الثالث: كانوا الحواريون اثنى عشر رجلًا اتبعوا عيسى عليه السلام، وكانوا إذا قالوا: يا روح الله جعنا، فيضرب بيده إلى الأرض، فيخرج لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا قالوا يا روح الله: عطشنا، فيضرب بيده إلى الأرض، فيخرج الماء فيشربون، فقالوا: من أفضل منا إذا شيءنا أطعمتنا، وإذا شيءنا سقيتنا، وقد آمنا بك فقال: (أفضل منكم من يعمل بيده، ويأكل من كسبه) فصاروا يغسلون الثياب بالكراء، فسموا حواريين.

د. الرابع: أنهم كانوا ملوكاً قالوا وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً، وجمع الناس عليه، وكان عيسى عليه السلام على قصعة منها، فكانت القصعة لا تنقص، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك، فقال: تعرفونه، قالوا: نعم، فذهبوا بعيسى عليه السلام، قال من أنت؟ قال أنا عيسى ابن مريم، قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه، فأولئك هم الحواريون.

هـ. قال القفال: ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك، وبعضهم من صيادي السمك، وبعضهم من القصارين، والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام، وأعوانه، والمخلصين في محبته، وطاعته، وخدمته.

8. المراد من قوله‏ ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ أي نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه، لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محال، فالمراد منه ما ذكرناه.

9. ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾ هذا يجري مجرى ذكر العلة، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله، لأجل أنا آمنا بالله، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله، والذب عن أوليائه، والمحاربة مع أعدائه.

10. ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم، إشهاد لله تعالى أيضاً، ثم فيه قولان.

أ. الأول: المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك، والذب عنك، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه.

ب. الثاني: أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام، وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم.

11. ثم إنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إيمانهم، وعلى إسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى، وقالوا: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ وذلك لأن القوم آمنوا بالله حين قالوا في الآية المتقدمة: ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾، ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا: ﴿آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ وآمنوا برسول الله حيث، قالوا: ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب، فقالوا: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾، وهذا يقتضى أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين، ويفضل على درجته، لأنهم:

أ. هم المخصوصون بأداء الشهادة، قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]

ب. الثاني: وهو منقول أيضا عن ابن عباس‏ ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه قال الله تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: 6]، وقد أجاب الله دعاءهم وجعلهم أنبياء ورسلا، فأحيوا الموتى، وصنعوا كل ما صنع عيسى عليه السلام.

ج. الثالث: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق، والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلام أنفسهم، حيث قالوا: ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيدا للأمر، وتقوية له، وأيضا طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوّة.

د. الرابع: إن قوله‏ ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السموات مع الملائكة قال الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ [المطففين: 18] فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهورا في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين.

هـ. الخامس: إنه تعالى قال ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 18] فجعل أولو العلم من الشاهدين، وقرن ذكرهم بذكر نفسه، وذلك درجة عظيمة، ومرتبة عالية، فقالوا: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك.

و. السادس: أن جبريل عليه السلام لما سأل محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه)، وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية، وهو أن يكون العبد في مقام الشهود، لا في مقام الغيبة، فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال، إلى مقام الشهود والمكاشفة، فقالوا ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾

ز. السابع: إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام، فلما قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكونوا ناصرين له، ذابين عنه، قالوا: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك، حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك.

12. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ أصل المكر في اللغة:

أ. قيل: السعي بالفساد في خفية ومداجاة، قال الزجاج: يقال مكر الليل، وأمكر إذا أظلم، وقال الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال: 30] وقال: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ [يوسف: 102]

ب. وقيل أصله من اجتماع الأمر وإحكامه، ومنه امرأه ممكورة أي مجتمعة الخلق وإحكام الرأي يقال له الإجماع والجمع قال الله تعالى: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ﴾ [يونس: 71] فلما كان المكر رأيا محكماً قوياً مصوناً عن جهات النقص والفتور، لا جرم سمي مكراً.

13. مكرهم بعيسى عليه السلام هو أنهم هموا بقتله، وأما مكر الله تعالى بهم، ففيه وجوه:

أ. الأول: مكر الله تعالى بهم هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وذلك أن يهودا ملك اليهود، أراد قتل عيسى عليه السلام، وكان جبريل عليه السلام، لا يفارقه ساعة، وهو معنى قوله ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: 87] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل عليه السلام أن يدخل بيتاً فيه روزنة، فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة، وكان قد ألقى شبهه على غيره، فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق، فرقة قالت: كان الله فينا فذهب، وأخرى قالت: كان ابن الله، والأخرى قالت: كان عبد الله ورسوله، فأكرمه بأن رفعه إلى السماء، وصار لكل فرقة جمع فظهرت الكافرتان على الفرقة المؤمنة إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي الجملة، فالمراد من مكر الله بهم أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال الشر إليه.

ب. الثاني: أن الحواريين كانوا اثنى عشر، وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم، ودل اليهود عليه، فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى، فأخذوا ذلك المنافق الذي كان فيهم، وقتلوه وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام، فكان ذلك هو مكر الله بهم.

ج. الثالث: ذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه السلام، فشمسوهم وعذبوهم، فلقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلًا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله، وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فقتل، فقال: لو علمت ذلك لحلت بينه وبينهم، ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام، فأخبروه فتابعهم على دينهم، وأنزل المصلوب فغيبه، وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم، وكان اسم هذا الملك طباريس، وهو صار نصرانياً، إلا أنه ما أظهر ذلك، ثم إنه جاء بعده ملك آخر، يقال له: مطليس، وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة، فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجراً على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح وألهم بقتله.

د. الرابع: أن الله تعالى سلّط عليهم ملك فارس حتى قتلهم وسباهم، وهو قوله تعالى: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [الإسراء: 5] فهذا هو مكر الله تعالى بهم.

هـ. الخامس: يحتمل أن يكون المراد أنهم مكروا في إخفاء أمره، وإبطال دينه ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل والدناءة أعداءه وهم اليهود والله أعلم.

14. المكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر، والاحتيال على الله تعالى محال فصار لفظ المكر في حقه من المتشابهات وذكروا في تأويله وجوهاً:

أ. أحدها: أنه تعالى سمى جزاء المكر بالمكر، كقوله‏ ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40] وسمى جزاء المخادعة بالمخادعة، وجزاء الاستهزاء بالاستهزاء.

ب. الثاني: أن معاملة الله معهم كانت شبيهة بالمكر فسمي بذلك.

ج. الثالث: أن هذا اللفظ ليس من المتشابهات، لأنه عبارة عن التدبير المحكم الكامل، ثم اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير، وذلك في حق الله تعالى غير ممتنع والله أعلم.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/232.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ أي من بني إسرائيل، وأحس معناه علم ووجد قاله الزجاج، وقال أبو عبيدة: معنى ﴿أَحَسَّ﴾ عرف، وأصل ذلك وجود الشيء بالحاسة، والإحساس: العلم بالشيء، قال الله تعالى: ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ [مريم] والحس القتل، قال الله تعالى: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ [آل عمران]، ومنه الحديث في الجراد إذا حسه البرد.

2. ﴿مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ أي الكفر بالله، وقيل: سمع منهم كلمة الكفر، وقال الفراء: أرادوا قتله.

3. ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ استنصر عليهم، قال السدي والثوري وغيرهما: المعنى مع الله، فإلى بمعنى مع، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء] أي مع، والله أعلم، وقال الحسن: المعنى من أنصاري في السبيل إلى الله، لأنه دعاهم إلى الله تعالى، وقيل: المعنى من يضم نصرته إلى نصرة الله تعالى، فإلى على هذين القولين على بابها، وهو الجيد.

4. طلب النصرة ليحتمي بها من قومه ويظهر الدعوة، عن الحسن ومجاهد، وهذه سنة الله في أنبيائه وأوليائه، وقد قال لوط: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود] أي عشيرة وأصحاب ينصرونني.

5. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ أي أنصار نبيه ودينه، والحواريون أصحاب عيسى عليه السلام، وكانوا اثني عشر رجلا، قاله الكلبي وأبو روق، واختلف في تسميتهم بذلك، فقال ابن عباس: سموا بذلك لبياض ثيابهم، وكانوا صيادين، ابن أبي نجيح وابن أرطاة: كانوا قصارين فسموا بذلك لتبييضهم الثياب، قال عطاء: أسلمت مريم عيسى إلى أعمال شتى، وآخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين، فأراد معلم عيسى السفر، فقال لعيسى: عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان وقد علمتك الصبغة فاصبغها، فطبخ عيسى حبا»واحدا وأدخله جميع الثياب وقال: كوني: بإذن الله على ما أريد منك، فقدم الحواري والثياب كلها في الحب فلما رآها قال: قد أفسدتها، فأخرج عيسى ثوبا أحمر وأصفر وأخضر إلى غير ذلك مما كان على كل ثوب مكتوب عليه صبغة، فعجب الحواري، وعلم أن ذلك من الله ودعا الناس إليه فآمنوا به، فهم الحواريون، قتادة والضحاك: سموا بذلك لأنهم كانوا خاصة الأنبياء، يريدان لنقاء قلوبهم، وقيل، كانوا ملوكا، وذلك أن الملك صنع طعاما فدعا الناس إليه فكان عيسى على قصعة فكانت لا تنقص، فقال الملك له: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم، قال: إني أترك ملكي هذا وأتبعك، فانطلق بمن اتبعه معه، فهم الحواريون، قاله ابن عون.

6. أصل الحور في اللغة البياض، وحورت الثياب بيضتها، والحواري من الطعام ما حور، أي بيض، واحور ابيض والجفنة المحورة: المبيضة بالسنام، والحواري أيضا الناصر، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لكل نبي حواري وحواريي الزبير)، والحواريات: النساء لبياضهن، وقال:

çفقل للحواريات يبكين غيرنا...ولا تبكنا إلا الكلاب النوابحé ‌‌

7. ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ أي يقولون ربنا آمنا، ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ يعني في كتابك وما أظهرته من حكمك، ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ يعني عيسى، ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ يعني أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن ابن عباس، والمعنى أثبت أسماءنا مع أسمائهم واجعلنا من جملتهم، وقيل: المعنى فاكتبنا مع الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق.

8. ﴿وَمَكَرُوا﴾ يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس منهم الكفر، أي قتله، وذلك أن عيسى عليه السلام لما أخرجه قومه وأمه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطئوا على الفتك به، فذلك مكرهم، ومكر الله: استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون، عن الفراء وغيره، قال ابن عباس: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة، وقال الزجاج: مكر الله مجازاتهم على مكرهم، فسمي الجزاء باسم الابتداء، كقوله: ﴿اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة]،﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء]، وقد تقدم في البقرة.

9. أصل المكر في اللغة الاحتيال والخداع، والمكر: خدالة الساق، وامرأة ممكورة الساقين، والمكر: ضرب من الثياب، ويقال: بل هو المغرة، حكاه ابن فارس.

10. قيل: ﴿مَكْرَ اللهِ﴾ إلقاء شبه عيسى على غيره ورفع عيسى إليه، وذلك أن اليهود لما اجتمعوا على قتل عيسى دخل البيت هاربا منهم فرفعه جبريل من الكوة إلى السماء، فقال ملكهم لرجل منهم خبيث يقال له يهوذا: ادخل عليه فاقتله، فدخل الخوخة فلم يجد هناك عيسى وألقى الله عليه شبه عيسى، فلما خرج رأوه على شبه عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه، ثم قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى، وبدنه يشبه بدن صاحبنا، فإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى! وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا! فوقع بينهم قتال فقتل بعضهم بعضا، فذلك قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾، وقيل غير هذا.

11. ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ اسم فاعل من مكر يمكر مكرا، وقد عده بعض العلماء في أسماء الله تعالى فيقول إذا دعا به: يا خير الماكرين امكر لي، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول في دعائه: (اللهم امكر لي ولا تمكر علي)

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/98.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ﴾ أي: علم ووجد: قاله الزجاج، وقال أبو عبيدة: معنى: أحسّ: عرف، وأصل ذلك: وجود الشيء بالحاسة، والإحساس، قال الله تعالى: ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾، والمراد بالإحساس هنا: الإدراك القويّ الجاري مجرى المشاهدة، وبالكفر: إصرارهم عليه؛ وقيل: سمع منهم كلمة الكفر، وقال الفراء: أرادوا قتله، وعلى هذا فمعنى الآية: فلما أدرك منهم عيسى إرادة قتله التي هي كفر قال من أنصاري إلى الله، الأنصار: جمع نصير.

2. ﴿إِلَى اللهِ﴾ متعلق بمحذوف وقع حالا، أي: متوجها إلى الله، أو ملتجئا إليه، أو ذاهبا إليه، وقيل: إلى: بمعنى مع، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ وقيل المعنى: من أنصاري في السبيل إلى الله؛ وقيل المعنى: من يضم نصرته إلى نصرة الله.

3. الحواريون: جمع حواري، وحواريّ الرجل: صفوته وخلاصته، وهو مأخوذ من الحور وهو البياض عند أهل اللغة، حوّرت الثياب بيضتها، والحواري من الطعام: ما حوّر: أي بيض، والحواري أيضا: الناصر، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لكل نبيّ حواريّ وحواريي الزبير) وهو في البخاري وغيره.

4. اختلف في سبب تسميتهم بذلك، فقيل: لبياض ثيابهم؛ وقيل: لخلوص نياتهم؛ وقيل: لأنهم خاصة الأنبياء، وكانوا اثني عشر رجلا.

5. معنى أنصار الله: أنصار دينه ورسله.

6. ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾ استئناف جار مجرى العلة لما قبله، فإن الإيمان يبعث على النصرة، ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي: اشهد لنا يوم القيامة بأنا مخلصون لإيماننا منقادون لما تريد منا.

7. معنى‏ ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾: ما أنزله الله سبحانه في كتبه، والرسول: عيسى، وحذف المتعلق مشعر بالتعميم، أي: اتبعناه في كل ما يأتي به، فاكتبنا مع الشاهدين لك بالوحدانية، ولرسولك بالرسالة، أو: اكتبنا مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم، وقيل مع أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

8. ﴿وَمَكَرُوا﴾ أي: الذين أحسّ عيسى منهم الكفر، وهم كفار بني إسرائيل، ومكر الله: استدراجه للعباد من حيث لا يعلمون، قاله الفراء وغيره، وقال الزجاج: مكر الله: مجازاتهم على مكرهم، فسمى الجزاء باسم الابتداء، كقوله تعالى: ﴿اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ {وهُوَخادِعُهُمْ‏} وأصل المكر في اللغة: الاغتيال والخدع: حكاه ابن فارس، وعلى هذا فلا يسند إلى الله سبحانه إلا على طريق المشاكلة؛ وقيل: مكر الله هنا: إلقاء شبه عيسى على غيره، ورفع عيسى إليه.

9. ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ أي: أقواهم مكرا، وأنفذهم كيدا، وأقواهم على إيصال الضرر بمن يريد إيصاله به من حيث لا يحتسب.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/395.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ﴾ أي من بني إسرائيل‏ ﴿الْكُفْرَ﴾ أي علمه ووجده منهم‏ ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ جمع نصير، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا، أي من أنصاري متوجها إلى الله ملتجئا إليه‏ ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ وهم طائفة من بني إسرائيل انتدبت للإيمان بالمسيح عليه السلام فوازروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ـ جمع حواريّ ـ وهو الناصر أو المبالغ في النصرة والوزير والخليل والخالص كما في (التوشيح) ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ أي أنصار دينه ورسوله‏ ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي منقادون لرسالتك، ولما أشهدوه عليه السلام أشهدوا الله تعالى الآمر بما أنزل من الإيمان به وبأوامره فقالوا: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ فأشهدناك على ما نحن عليه من تصديقنا دعواه‏ ﴿فَاكْتُبْنَا﴾ أي جزاء على إشهادنا إياك‏ ﴿مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي مع الذين يشهدون بوحدانيتك، وهم المتقدمون في آية ﴿شَهِدَ اللهُ﴾ أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم.

2. جاء في إنجيل متى في الإصحاح العاشر ما يأتي: (ثم دعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانا على أرواح نجسة حتى يخرجوها ويشفوا كل مرض وكل ضعف، وأما أسماء الاثني عشر رسولا فهي هذه، الأول سمعان الذي يقال له بطرس وأندراوس أخوه، يعقوب بن زبدي ويوحنّا أخوه، فيلبّس وبرثو لماوس، توما ومتّى العشّار، يعقوب بن حلفي ولبّاوس الملقب تدّاوس، سمعان القانويّ ويهوذا الإسخريوطي يوطيّ الذي أسلمه)، وكانوا يسمون رسل عيسى عليه السلام، لأنه بعثهم إلى الإسرائيليين الضالين يدعونهم إلى الحق الذي جاء به، فبذلوا الجهد في بثه وانتشاره وإقامته، إلى أن جاء بولس فسلبهم، بخداعه، دين المسيح الصحيح، فلم يسمعوا له بعد من خبر، ولا وقفوا له على أثر، وطمس لهم رسوم التوراة، وحلل لهم كل محرم، كما بين ذلك في غير هذا الموضع.

3. ﴿وَمَكَرُوا﴾ أي الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر بأن هموا بالفتك به وإرادته بالسوء حيث تمالئوا عليه ووشوا به إلى ملكهم‏ ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ أي بهم بعد ذلك فانتقم منهم وأورثهم ذلة مستمرة وأباد ملكهم‏ ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ أي أقواهم مكرا، وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب، وقال البقاعيّ كغيره في قوله تعالى‏ ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾: أي بأن رفعه إليه، وشبه ذلك عليهم حتى ظنوا أنهم صلبوه، وإنما صلبوا أحدهم، ويقال إنه الذي دلهم، وأما هو عليه السلام، فصانه عنده بعد رفعه إلى محل أوليائه وموطن قدسه، لينزله في آخر الزمان لاستئصالهم بعد أن ضربت عليه الذلة بعد قصدهم له بالأذى الذي طلبوا به العز إلى آخر الدهر، فكان تدميرهم في تدبيرهم.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/323.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ﴾ حصَّلت له بعضُ حواسِّه المعرفةَ بكفرهم، أو تحقَّقها كالمحسوس المشاهد كذَّبوه وأرادوا قتله، قيل: اشتدَّ غضبهم عليه حين مرَّ بامرأة تبكي عند قبر فيه ابنتها، فقال لها: ما لكِ؟ قالت: في هذا القبر بنتي لا ولد لي سواها، فصلَّى ركعتين فدعا فنادى: يا فلانة، فتحرَّك القبر، ودعا فانشقَّ، ودعا فخرجت، وقالت: (اصبري يا أمَّاه ما دعاك إلى أن أموت مرَّتين، يا روح الله ادع الله أن يهوِّن عليَّ الموت، فدعا فاستوى عليها القبر)، وهذا من كلام الله؛ وقيل: من كلام الملائكة.

2. في الآية استعارة ما وضع للإدراك بإحدى الحواسِّ الخمس وهو الإحساس للعلم استعارة أصليَّة، واشتقَّ على الاستعارة التبعيَّة أحسَّ بمعنى عَلِم، ولا يخفى أنَّ ما أُحِسَّ بإحداهنَّ قد عُلِم ولا بدَّ، فأطلق الملزوم وأراد اللَّازم، فيكون بهذا الاعتبار مجازا مرسلا، والمعنى على كلِّ حال: (فلمَّا علم)

3. ﴿عِيسَىٰ مِنْهُم﴾ من بني إسرائيل اليهود ﴿الْكُفْرَ﴾ به حتَّى أرادوا قتله، إذ عرفوا في التوراة أنَّه المسيح المبشَّر به فيها، وأنَّه ينسخ بعض دينهم، وأظهر دعوته، فاشتدَّ عليهم، وشرعوا في إيذائه بقذف أمِّه كما قذفوها إذ ولدته، فكانوا يقولون: ابن الزانية حاشاهما!

4. ﴿قَالَ مَنَ اَنصَارِيَ إِلَى اللهِ﴾ من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصري، ينصرونني كما ينصرني الله، أو ذاهبا إلى مرتبة من إقامة دين الله، أو موضع أتجرَّد فيه لعبادة الله، أو ضامًّا نفسي إلى أولياء الله في نصرة دينه ومحاربة عدوِّه، أو ملتجئا إلى الله معتصما به، أو مَن أنصاري مع الله؟ أو في دين الله، أو لله، و(إِلَى) متعلِّق بـ (أَنصَارِي) في جميع الوجوه، إِلَّا إذا قدَّرنا: ذاهبا، أو ملتجئًا فبمحذوف جوازا؛ لأنَّه كون خاصٌّ، والمفرد نصير، كشريف وأَشراف.

5. ﴿قَالَ الْحَوَاِريُّونَ﴾ المفرد: حواريٌّ، وهو خالصة الرجل، من الحَوَر وهو البياض الخالص، والألف زائدة في النَّسب، سمُّوا لأنَّهم ملوك يلبسون البياض، أو قوم يبيِّضون الثياب للناس بالغسل أو بشيء، اثنا عشر رجلا استنصر بهم على من عاداه من اليهود، أو لصفاء قلوبهم، أو لما فيهم من نور العبادة، ﴿نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ﴾ أنصار أهل الله، أو أنصار دين الله:

أ. روي أنَّه مرَّ بجماعة فيهم شمعون ويعقوب ويوحنَّا يصطادون السمك، ويلبسون الثياب البيض، فقال: اتَّبعوني نصطد الناس للجنَّة، قالوا: من أنت؟ قال: عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، فطلبوا المعجزة، وكان شمعون قد ألقى شبكته تلك اللَّيلة فما صاد شيئًا، فأمره بإلقائها فامتلأت حتَّى كادت تتمزَّق، واستعانوا بأهل سفينة أخرى فملؤوهما فآمنوا.

ب. وروي أنَّ ملِكا صنع طعاما للناس، وكان عيسى على قصعة يأكل ولا تنقص بأكل الناس، فقال له: من أنت؟ قال: عيسى بن مريم، فترك ملكه وتبعه مع أقاربه، وقيل: تبييض الثياب للناس بعد صحبتهم عيسى، إذا جاعوا أو عطشوا أخرج لكلِّ واحد رغيفين، أو الماءَ بضرب الأرض بيده، وقالوا: مَن أفضل منَّا؟ قال: (من يأكل من كسبه)، فكانوا يغسلون الثياب بأجرة.

ج. وقيل: سلَّمته أمُّه لصبَّاغ فأراد الخروج لمهمٍّ، وعلَّم له عَلَى ثياب بألوان يصبغها بعلامتها، فجعلها في لون واحد، وقال: كوني بإذن الله كما أريد، ولَمَّا رجع أخبره أنَّه جعلها في لون واحد، فقال: أفسدت عليَّ ثيابي، قال: فانظُرْها، فإذا هي على أحسن ألوان علامتها، أحمر وأخضر وأصفر وهكذا، فآمن هو والحاضرون.

6. وعلى كلِّ قول هم اثنا عشر، ولا مانع من أن يكون بعضٌ صيَّادًا وبعض مبيِّضًا، وبعض صبَّاغا، سمُّوا مبيِّضين لصفاء قلوبهم أو لنور العبادة، وفي صحيح البخاري ومسلم عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لكلِّ نبيء حواريٌّ وحواريِّي الزبير)، أي: خالصي، وقيل: هم تسعة وعشرون، ولعلَّ الاثنا عشر أكابرهم أو الأسبقون، ونقول بجميع ما مرَّ من الأقوال، فيجمعهم بياض القلوب، القصَّارين وغير القصَّارين، الملوك وغير الملوك.

7. لم يَطلُب النصرَ للقتال بل النصرَ بالتصديق وإعانته، وردِّ من يقتله ولو بقتله، فإنَّه يجب على الإنسان الدفع عن نفسه.

8. ﴿ءَامَنَّا بِاللهِ﴾ إخبارا لا إنشاء، لتقدُّم إيمانهم على قولهم هذا، إِلَّا أنَّه لا مانع من تعدُّد الإنشاء، ويجوز أن يكون إنشاءً أوَّلاً.

9. ﴿وَاشْهَدْ﴾ لنا يوم القيامة يوم تشهد الرسل لأممهم وعلى أممهم، فإنَّ غرضنا السعادة الأخرويَّة، أو اِشهد لنا في الدنيا والآخرة، وهذا أعظم فائدة، وتأكيد للمخلص، قالوا ذلك بلا عطف في وقت واحد أو متعدِّد، وذكره الله بالعطف، وليس فيه عطف إنشاء على إخبار؛ لأنَّ المعنى: قالوا: آمنَّا، وقالوا: اشهد، ويجوز أن يكون ذلك من كلامهم والعطف لأنَّ (اِشهد) بمعنى إنشاء إيمان، و(آمنَّا) إنشاء أوَّل.

10. ﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ هذا تكرير لِمَا في المائدة [الآية: 111]، فسقطت نون تخفيفا عن أصله، والمعنى مذعنون للعمل بمقتضى الإيمان، ﴿رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أنزَلْتَ﴾ من الإنجيل، أو من التوراة والإنجيل، فإنَّ التوراة مصدِّقة للإنجيل، أو منهما ومن غيرهما، وهذا استنزال رحمة من الله، واستعطاف له، وعرضٌ لحالهم عليه، وهو عالم بها بعد عرضهم إيَّاها على عيسى.

11. ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ عيسى عليه السلام ، ﴿فَاكْتُبْنَا﴾ أي: أسماءنا ﴿مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي: مع أسماء الشاهدين الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق في التوحيد وغيره، وامتثلوا أمرك ونهيك، ولا يلزم من المعيَّة فضل ما بعد (مع) ولو كان كثيرا أصلا، ويجوز حمل ما هنا على هذا الأصل بأن نقول: المراد بـ (الشَّاهِدِينَ) محمَّد وأمَّته صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فإنَّه يشهد لأمَّته، وتشهد أمَّته للرسل بالبلاغ، وشهادتهم شهادة له لأنَّه أنزل عليه الوحي، أو المراد الأنبياء؛ لأنَّهم شاهدون لأممهم، طلبوا أن يكونوا مع الشاهدين في الجنَّة، أو في الشهادة للناس، قيل: أو الملائكة المقرَّبون، أو من العابدين الذين استغرقوا في شهود جلالك، والكَتْبُ تأكيد واستيثاق، وقيل: كناية عن التثبيت.

12. ﴿وَمَكَرُواْ﴾ حاول مَن أحسَّ عيسى منهم الكفر إهلاكَه باحتيال وخفاء، بأن وكَّلوا من يقتله كذلك، أو مكروا بقتله كذلك، وكلُّهم قصدوا قتله بأيديهم، لأنَّهم أمروا من يقتله بيده، ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ عاقبهم على مكرهم.

13. سمَّى عقابه مكرا للمشاكلة، أو لأنَّ عقابه مسبَّب مكرهم أو لازمه، أو شبَّه فعله بهم بفعل الماكرين، وأورده بطريق الاستعارة، والله تعالى منزَّه عن حقيقة المكر لأنَّه فعل العاجز، ووجه الشَّبه الخفاء، إذ آل أمرهم إلى قتال بينهم بسبب قتل قاصد قتله، وإلى قتل ذلك القاصد، فقد يستعمل المكر في حقِّ الله تعالى بلا مشاكلة، كقوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَامَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99]، عَلَى الاستعارة المفردة أو التمثيليَّة، أو المشاكلة التقديريَّة بأن لوَّح إلى مكرهم وصرَّح بمكره، كقوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنَ اَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ [البقرة: 138]، واختار بعض أنَّه جائز مجازٌ في حقِّ الله بلا مشاكلة، والأصل عدم التقدير، وقال الفخر: جائز حقيقة، على أنَّه إيصال الشرِّ إلى الغير بخفاء، أو أنَّه التدبير المحكم، ووجه التجوُّز أنَّه يفسَّر بإيصال الشرِّ إلى الغير باحتيال، والحيلة أعمُّ لأنَّها لا تختصُّ بالشرِّ، ولا يوصف الله تعالى بها لأنَّها عن عجز.

14. ﴿وَاللهُ خَيْرُ﴾ أعظم وأشدُّ إضرارا أو أقوى أو أعلم، ﴿الْمَاكِرِينَ﴾ وهذا تهديد، وهو أنسب بالمقام بخلاف ما لو قلنا: المعنى: مكر الله أحسن؛ لأنَّه وقع في محلِّه لا ظلم، وأيضا لا حُسنَ في مكرهم إِلَّا بتكلُّف اعتبار حسن اللِّياقة في المكر، من غير اعتبار حلٍّ وحرمة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/279.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. انتقل من البشارة بعيسى إلى ذكر خبره مع قومه وطوى ما بينهما من خبر ولادته ونشأته وبعثته مؤيدا الآيات وهذا من إيجاز القرآن الذي انفرد به، فقد انطوى تحت قوله: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ جميع مادلت عليه البشارة وهم بنو إسرائيل الكفر والمقاومة والقصد بالإيذاء وفي هذا من العبرة والتسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما فيه وأن أكبر ما فيه الإعلام بأن الآيات الكونية وإن كثرت وعظمت ليست ملزمة بالإيمان ولا مفضية إليه حتما، وإنما يكون الإيمان باستعداد المدعو إليه وحسن بيان الداعي، ولذلك كان من أمر عيسى عليه السلام أنه لما أحس من قومه الكفر ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ أي توجه إلى البحث عن أهل الاستعداد الذين ينصرونه في دعوته تاركين لأجلها كل ما يشغل عنها منخلعين عما كانوا فيه متحيزين ومنزوين إلى الله منصرفين إلى تأييد رسوله ونصره على خاذليه والكافرين بما جاء به(2).

2. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ أي أنصار دينه، وهذا القول يفيد الانخلاع والانفصال من التقاليد السابقة، والأخذ بالتعليم الجديد. وبذل منتهى الاستطاعة في تأييده، فإن نصر الله لا يكون إلا بذلك.

3. الحواريون أنصار المسيح. والنصر لا يستلزم القتال فالعمل بالدين والدعوة إليه نصر له. قال محمد عبده: ولا نتكلم في عددهم لأن القرآن لم يعينه. أقول ولعل لفظ الحواري مأخوذ من الحواري وهو لباب الدقيق وخالصه لأنه من خيار القوم وصفوتهم، أو من الحور وهو البياض، وفي حديث الصحيحين) لكل نبي حواري وحواري الزبير) [309] ومن هنا قيل خاص بأنصار الأنبياء.

4. ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ مخلصون له منقادون لأمره وفي هذا دليل على أن الإسلام دين الله على لسان كل نبي وإن اختلفوا في بعض صوره وأشكاله وأحكامه وأعماله.

5. من مباحث اللفظ في الآية أن ﴿أَحَسَّ﴾ يستعمل في إدراك الحسي والمعنوي ففي حقيقة الإحساس: أحسست منه مكرا وأحسست منه بمكر وما أحسسنا منه خبرا وهل تحس من فلان بخبر؟ والمكر من الأمور المعنوية وإن كان يستنبط من الأعمال الحسية ويستدل عليه بها، وقال البيضاوي في الآية: (تحقق كفرهم عنده تحقق ما يدركه بالحواس) وهو مبني على أن معنى أحس الشيء أدركه بإحدى حواسه وأن إطلاقه على إدراك الأمور المعنوية مجاز شبه فيه معقول بالمحسوس في الجلاء والوصول إلى درجة اليقين. على أن الكفر يعرف بالأقوال والأعمال المحسوسة.

6. قال محمد عبده: إن الجار في ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ متعلق بلفظ ﴿أَنْصَارِي﴾ وإن لم يعرف أن مادة نصر تعدى بإلى. ذلك بأن مجموع الكلام هنا قد أشرب الكلمة معنى اللجأ والانضمام، لأن النصر يحصل بذلك. ويصح أن يتعلق بوصف يفيد المفسرون محافظة على القواعد الموضوعة.

7. ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ معطوف على قولهم) نحن أنصار الله إلخ) أي صدقنا بما أنزلت من الإنجيل ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ عيسى ابن مريم. قال محمد عبده ذكر الاتباع بعد الإيمان لأن العلم الصحيح يستلزم العمل والعلم الذي لا أثر له في العمل يشبه أن يكون مجملا وناقصا لا يقينا وإيمانا. وكثيرا ما يظن الإنسان أنه عالم بشيء حتى إذا حاول العمل به لم يحسنه فيتبين له أنه كان مخطئا في دعوى العلم. ثم قال إن العلم بالشيء يظل مجملا مبهما في النفس حتى يعمل به صاحبه فيكون بالعمل تفصيليا فذكر الحواريين الأتباع بعد الإيمان يفيد أن إيمانهم كان في مرتبة اليقين التفصيلي الحاكم على النفس المصرف لها في العمل.

8. ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ ليعم المشهود له والمشهود عليهم. أو يقال الشاهدين على هذه الحالة أي حالة الرسول مع قومه، وهو الذي اختاره محمد عبده: قال: ومن المعروف في الفقه أن الشاهدين بمنزلة الحاكم لأن الفصل بين الخصمين يكون بشهادتهما ولا تصح الشهادة إلا من العارف بالمشهود به معرفة صحيحة وقد كان الحواريون كذلك كما علم من إقرارهم بالإيمان والاتباع.

9. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ أي ومكر أولئك الذين أحسن عيسى منهم الكفر به فحاولوا قتله وأبطل الله مكرهم فلم ينجحوا فيه وعبر عن ذلك بالمكر على طريق المشاكلة. كذا قال الجمهور وأقرهم محمد عبده. ولكن ورد في سورة الأعراف إضافة المكر إلى الله تعالى من غير مقابلة الناس قال: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99] والمكر في الأصل التدبير الخفي المفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب. ولما كان الغالب أن يكون ذلك في السوء لأن من يدبر للإنسان ما يسره وينفعه لا يكاد يحتاج إلى إخفاء تدبيره غلب استعمال المكر في التدبير السيئ وإن كان في المكر الحسن والسيئ جميعا قال تعالى: { استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله } [فاطر: 43] ووجه الحاجة إلى المكر الحسن أن من الناس من إذا علم بما يدبر له من الخير أفسد على الفاعل تدبيره لجهله فيحتاج مربيه أو متولي شؤونه إلى أن يحتال عليه ويمكر به ليوصله إلى ما لا يصح أن يعرفه قبل الوصول، إذ يوجد في الماكرين الأشرار والأخيار.

10. ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ فإن تدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه وإتمام حكمه وكلها خير في نفسها وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم. وقال محمد عبده في تفسير ﴿خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ بناء على أن المكر في نفسه شر: أي إن كان في الخير مكر فمكره سبحانه وتعالى موجه إلى الخير ومكرهم هو الموجه إلى الشر.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/314.

(2) الكلام هنا لمحمد عبده

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

كان الكلام قبل هذا في بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وكلامه الناس في المهد، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة وإرساله رسولا إلى بنى إسرائيل وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها، وهنا ذكر خبره مع قومه وما لاقاه منهم من الصدّ والإعراض ومقاساة الأهوال وهمهم بقتله وإنجاء الله إياه، ووعيد الكافرين به وعذابهم في الدنيا والآخرة، وطوى‏ ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاء بحكاية الملائكة، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى.

1. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ أي فلما شعر من قومه بنى إسرائيل بالإصرار على الكفر والعناد وقصد الإيذاء، فقد صح أنه لقى من اليهود شدائد كثيرة، فقد كانوا يجتمعون عليه ويستهزئون به ويقولون له يا عيسى: ما أكل فلان البارحة، وما ادخر في بيته لغد؟ فيخبرهم فيسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم، وهموا بقتله فخافهم واختفى عنهم، وخرج هو وأمه يسيحان في الأرض، وفي هذا عبرة وتسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبيان لأن الآيات الكونية مهما كثرت لا تفضى إلى الإيمان إلا إذا كان للمدعو استعداد للقبول، ومن الداعي حسن بيان.

2. وحين رأى منهم ذلك: ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ أي قال للحواريين كما تدل عليه آية الصف‏ ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصرى، ويكونون من أهل الاستعداد لمتابعتى، وينخلعون عما كانوا فيه، وينصرفون إلى تأييد رسوله!

3. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ أي قال خاصة أصحابه وناصروه: نحن أنصار دين الله، والباذلون كل ما في الوسع في تأييد دعوتك والآخذون بتعاليمك، والمنصرفون عن التقاليد السالفة، وهذا النصر لا يستلزم القتال، بل يكفى فيه العمل بالدين والدعوة إليه.

4. ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾ هذا جار مجرى السبب في نصره، فإن الإيمان بالله موجب لنصرة دينه والذبّ عن أوليائه، ومحاربة أعدائه.

5. ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي مخلصون منقادون لأوامره، وفي هذا دليل على أن الإسلام دين الله على لسان كل نبيّ وإن اختلف الأنبياء في بعض صوره وأشكاله، وأحكامه وأعماله، وإنما طلبوا شهادته، لأن الرسل يشهدون لأممهم يوم القيامة.

6. ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ هذا تضرع إلى الله، وعرض لحالهم عليه بعد عرضها على الرسول مبالغة في إظهار أمرهم، ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ أي وامتثلنا ما أتى به منك، وفي ذكرهم الاتباع بعد الإيمان دليل على أن إيمانهم كان بمنزلة اليقين الحاكم على النفس المصرّف لها في العمل، إذ العلم الصحيح هو الذي يستلزم العمل، أما العلم الذي لا أثر له فيه فهو محمل ناقص لا يقين فيه ولا اطمئنان، وكثيرا ما يظن الإنسان أنه عالم بالشيء، فإذا حاول العمل به لم يحسنه، ويتبين له أنه كان مخطئا في دعوى العلم به، ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي الشاهدين على حال الرسول مع قومه.

7. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾ أي ومكر أولئك القوم الذين علم عيسى كفرهم من اليهود، بأن وكلوا به من يقتله غيلة، ومكر الله فأبطل مكرهم فلم ينجحوا فيه، ورفع عليه السلام إلى السماء، وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل.

8. ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ أي أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على إيصال الضر إليهم من حيث لا يحتسبون، فتدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه، وإتمام حكمته وكلها خير في نفسها، وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/167.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من بشارة الملائكة لمريم بابنها المنتظر، وصفاته ورسالته ومعجزاته وكلماته، هذه التي ذكرت ملحقة بالبشارة.. ينتقل السياق مباشرة إلى إحساسه عليه السلام بالكفر من بني إسرائيل، وإلى طلبه الأنصار لإبلاغ دين الله:

2. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ وهنا فجوة كبيرة في السياق، فإنه لم يذكر أن عيسى قد ولد بالفعل؛ ولا أن أمه واجهت به القوم فكلمهم في المهد؛ ولا أنه دعا قومه وهو كهل؛ ولا أنه عرض عليهم هذه المعجزات التي ذكرت في البشارة لأمه (كما جاء في سورة مريم).. وهذه الفجوات ترد في القصص القرآني، لعدم التكرار في العرض من جهة، وللاقتصار على الحلقات والمشاهد المتعلقة بموضوع السورة وسياقها من جهة أخرى.

3. والآن لقد أحس عيسى الكفر من بني إسرائيل ـ بعد ما أراهم كل تلك المعجزات التي لا تتهيأ لبشر؛ والتي تشهد بأن الله وراءها، وأن قوة الله تؤيدها، وتؤيد من جاءت على يده، ثم على الرغم من أن المسيح جاء ليخفف عن بني إسرائيل بعض القيود والتكاليف، عندئذ دعا دعوته: ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ من أنصاري إلى دين الله ودعوته ومنهجه ونظامه؟ من أنصاري إلى الله لأبلغ إليه، وأودي عنه؟ ولا بد لكل صاحب عقيدة ودعوة من أنصار ينهضون معه، ويحملون دعوته، ويحامون دونها، ويلغونها إلى من يليهم، ويقومون بعده عليها.

4. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ فذكروا الإسلام بمعناه الذي هو حقيقة الدين، وأشهدوا عيسى عليه السلام على إسلامهم هذا وانتدابهم لنصرة الله.. أي نصرة رسوله ودينه ومنهجه في الحياة.

5. ثم اتجهوا إلى ربهم يتصلون مباشرة به في هذا الأمر الذي يقومون عليه: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾، وفي هذا التوجه لعقد البيعة مع الله مباشرة لفتة ذات قيمة.. إن عهد المؤمن هو ابتداء مع ربه، ومتى قام الرسول بإبلاغه فقد انتهت مهمة الرسول من ناحية الاعتقاد؛ وانعقدت البيعة مع الله، فهي باقية في عنق المؤمن بعد الرسول.. وفيه كذلك تعهد لله باتباع الرسول، فليس الأمر مجرد عقيدة في الضمير؛ ولكنه اتباع لمنهج، والاقتداء فيه بالرسول، وهو المعنى الذي يركز عليه سياق هذه السورة ـ كما رأينا ـ ويكرره بشتى الأساليب.

6. ثم عبارة أخرى تلفت النظر في قول الحواريين: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾، فأي شهادة وأي شاهدين؟ إن المسلم المؤمن بدين الله مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين، شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء؛ وتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر.. وهو لا يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين، صورة يراها الناس فيرون فيها مثلا رفيعا، يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود، وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من أنظمة وأوضاع وتشكيلات، من الحياة ذاتها وهي أعز ما يحرص عليه الأحياء! ومن ثم يدعى (شهيدا)، فهؤلاء الحواريون يدعون الله أن يكتبهم مع الشاهدين لدينه.. أي أن يوفقهم ويعينهم في أن يجعلوا من أنفسهم صورة حية لهذا الدين؛ وأن يبعثهم للجهاد في سبيل تحقيق منهجه في الحياة، وإقامة مجتمع يتمثل فيه هذا المنهج، ولو أدوا ثمن ذلك حياتهم ليكونوا من (الشهداء) على حق هذا الدين.

7. وهو دعاء جدير بأن يتأمله كل من يدعي لنفسه الإسلام.. فهذا هو الإسلام، كما فهمه الحواريون، وكما هو في ضمير المسلمين الحقيقيين! ومن لم يؤد هذه الشهادة لدينه فكتمها فهو آثم قلبه، فأما إذا ادعى الإسلام ثم سار في نفسه غير سيرة الإسلام؛ أو حاولها في نفسه، ولكنه لم يؤدها في المجال العام، ولم يجاهد لإقامة منهج الله في الحياة إيثارا للعافية، وإيثارا لحياته على حياة الدين، فقد قصر في شهادته أو أدى شهادة ضد هذا الدين، شهادة تصد الآخرين عنه، وهم يرون أهله يشهدون عليه لا له! وويل لمن يصد الناس عن دين الله‏ عن طريق ادعائه أنه مؤمن بهذا الدين، وما هو من المؤمنين!

ويمضي السياق إلى خاتمة القصة بين عيسى عليه السلام وبني إسرائيل: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ والمكر الذي مكره اليهود الذين لم يؤمنوا برسولهم ـ عيسى عليه السلام ـ مكر طويل عريض، فقد قذفوه عليه السلام وقذفوا الطاهرة أمه مع يوسف النجار خطيبها الذي لم يدخل بها كما تذكر الأناجيل.. وقد اتهموه بالكذب والشعوذة؛ ووشوا به إلى الحاكم الروماني (بيلاطس) وادعوا أنه (مهيج) يدعو الجماهير للانتقاض على الحكومة! وأنه مشعوذ يجدف ويفسد عقيدة الجماهير! حتى سلم لهم بيلاطس بأن يتولوا عقابه بأيديهم، لأنه لم يجرؤ ـ وهو وثني ـ على احتمال تبعة هذا الإثم مع رجل لم يجد عليه ريبة.. وهذا قليل من كثير.

8. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ والمشاكلة هنا في اللفظ هي وحدها التي تجمع بين تدبيرهم وتدبير الله.. والمكر التدبير.. ليسخر من مكرهم وكيدهم إذا كان الذي يواجهه هو تدبير الله، فأين هم من الله؟ وأين مكرهم من تدبير الله؟

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/402.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾، أي فلمّا استبان له من عنادهم ولجاجهم، ومكرهم بآيات الله ومعجزاته، أنهم لن ينتفعوا بتلك الآيات، ولن يجدوا فيها طريقا يهديهم إلى الحق ـ لمّا تبين له ذلك من بنى إسرائيل ولمسه لمسا واقعيا، نقض يده منهم، واعتزلهم بمن آمن به، وأخلص الإيمان في سره وعلنه.. فنادى في القوم‏: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ في الانجاء إليه، بنيّة صادقة وقلب سليم؟ فأجابه الحواريون، وهم تلاميذ المسيح وخلصاؤه الأولون، الذين سكنوا إليه، وتركوا كل ما في أيديهم من أهل ومال: ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ وكانت عدتهم اثنى عشر حواريّا، بعدد أسباط بنى إسرائيل الاثني عشر.

2. ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ هذا القول يمكن أن يكون لكل من يستمع آيات الله، وما أنزل على رسوله من كلماته، فيرى فيها نور الحق، ويستروح منها روح اليقين، فيؤمن بالله وبرسوله بالغيب، من غير أن يرى الرسول، أو يستمع إليه، ويقول مع المؤمنين: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي اجعلنا في عداد الذين شهدوا الرسول وآمنوا به، وهذا هو الوجه الأقرب إلى منطق الآية الكريمة.. كما يمكن أن يكون تتمة لمقول القول الذي نطق به الحواريون، إجابة لعيسى عليه السّلام.

3. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾ المكر الذي مكره اليهود هو ما بينوه من أمر المسيح، وتدبيرهم التّهم لمحاكمته، وصلبه، وإقامة شهود الزور عليه، بأنه مشعوذ، ومفتر على الله، ومدّع أنه المبعوث ملكا على اليهود.. وقد انتهى أمره معهم إلى أن قدموه للمحاكمة، وشهدوا عليه زورا أمام الحاكم الروماني (بيلاطس) الذي كان حاكما عليهم، فحكم عليه ـ حسب شريعتهم ـ بالصّلب، والصلب لا يحكم به في شريعة اليهود إلا على من جدّف على الله، وكفر به، وبهذا يستحق اللعنة والطرد من رحمة الله، ومن الدخول في ملكوته! والصلب هو العقاب الدنيوي المعجّل ـ عند اليهود ـ لمن كفر بالله، وهو رمز على تلك اللعنة التي حلّت بهذا الكافر بالله.. وفي التوراة: (ملعون من علّق على خشبة) (تثنية: 21) أي صلب، فالصلب في حقيقته تجريم دينيّ لمن يحكم عليه به، ولعنة تصحب المصلوب إلى العالم الأخروي وتأخذ عليه السبيل إلى ملكوت الله!

4. ذلك هو مكر اليهود بالمسيح، كانوا في شك من أمره.. إذ يرون معجزاته القاهرة تملأ عليهم الزمان والمكان اللذين يحتويانهما.. ولكنهما كانوا ـ من جهة أخرى ـ ينتظرون مسيحا مخلصا لهم ـ حسب تأويلهم لشريعتهم ـ وكان مسيحهم الذي ينتظرونه على صورة ـ في وجدانهم ـ غير صورة المسيح عيسى، الذي جاءهم.. فمسيحهم الذي ينتظرونه هو ملك يخلصهم من الحكم الأجنبي، ويعيد إليهم مملكة سليمان ومجده.. والمسيح عيسى بن مريم لم يجئهم إلّا بمملكة سماوية، وهذه المملكة لا يدخلونها إلا إذا خرجوا مما في أيديهم من هذه الدنيا، من مال وأهل وولد! فما أبعد البون بين مسيحهم الذي يؤملون، وهذا المسيح الذي يكذّبون! من أجل هذا كانت صدمتهم قاسية حين التقوا بالمسيح، وغلبت عليهم شقوتهم فأنكروه، وأنكروا ما جاء به، ورأوا في المعجزات التي حملها بين يديه شعوذة وسحرا، وأرادوا أن يقطعوا الشك باليقين في موقفهم المتردد من المسيح، فليدخلوا إذن في تجربة مع المسيح، فليصلبوه إذن، وليكن هذا الصلب هو فيصل الحكم فيما بينهم وبينه، إنه يدّعى أنه المسيح، والمسيح الحقيقي لا يصلب ولا يقع تحت اللعنة! وتمضى الأيام بهم، فيزداد عنادهم وإصرارهم كلما زاد شكهم وقوى حدسهم في أنهم لم يصلبوا المسيح، وإنما صلبوا شخصا يشبهه.

5. ويظل هذا الخاطر يزعج اليهود، ويبيتهم في هم وقلق.. حتى يجيء القرآن الكريم، واليهود أعرف الناس به وبصدقه، فيكشف لهم عن وجه الحق سافرا ويقطع الشك باليقين.. فيقول الحق جلّ وعلا: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾

6. وهنا يتجلّى لليهود سوء ما مكروا: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، لقد دبّروا هذا التدبير السيئ، فأبطل الله تدبيرهم، وردّ كيدهم في نحورهم، وإذا هم وقد أرادوا أن يخرجوا المسيح من ملكوت الله، قد أخرجهم الله من ملكوته، وصبّ عليهم لعنته، وحمّلهم دم نبيّ لم يقتلوه، وقد خيل إليهم أنهم قتلوه! وفي قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يتعلق الظرف (إذ) بقوله تعالى في الآية قبلها: ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ أي مكر الله وتدبيره هو خير من مكرهم وتدبيرهم.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/470.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ آذن شرط لما بجمل محذوفة، تقديرها: فولد عيسى، وكلم الناس في المهد بما أخبرت به الملائكة مريم، وكلم الناس بالرسالة، وأراهم الآيات الموعود بها، ودعاهم إلى التصديق به وطاعته، فكفروا به، فلما أحسّ منهم الكفر قال إلى آخره، أي أحسّ الكفر من جماعة من الذين خاطبهم بدعوته في قوله: ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ [آل عمران: 50] أي سمع تكذيبهم إياه وأخبر بتمالئهم عليه، (ومنهم) متعلق بأحسّ، وضمير منهم عائد إلى معلوم من المقام يفسره وصف الكفر.

2. طلب النصر الإظهار الدعوة لله، موقف من مواقف الرسل، فقد أخبر الله عن نوح‏ عليه السلام ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾، وقال موسى عليه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي﴾ [طه: 29] وقد عرض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نفسه على قبائل العرب لينصروه حتى يبلغ دعوة ربّه.

3. ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ لعله قاله في ملإ بني إسرائيل إبلاغا للدعوة، وقطعا للمعذرة، والنصر يشمل إعلان الدين والدعوة إليه، ووصل وصف أنصاري بإلى:

أ. إما على تضمين صفة أنصار معنى الضم أي من ضامون نصرهم إياي إلى نصر الله إياي، الذي وعدني به؛ إذ لا بدّ لحصول النصر من تحصيل سببه كما هي سنّة الله، قال تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: 7] على نحو قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: 2] أي ضامّينها فهو ظرف لغو.

ب. وإما على جعله حالا من ياء المتكلم والمعنى في حال ذهابي إلى الله، أي إلى تبليغ شريعته، فيكون المجرور ظرفا مستقرا.

4. على كلا الوجهين فالكون الذي اقتضاه المجرور هو كون من أحوال عيسى عليه السلام ولذلك لم يأت الحواريون بمثله في قولهم نحن أنصار الله.

5. الحواريون: لقب لأصحاب عيسى، عليه السلام: الذين آمنوا به ولازموه، وهو اسم معرّب من النبطية ومفرده حواري قاله في الإتقان عن ابن حاتم عن الضحّاك ولكنه ادّعى أنّ معناه الغسال أي غسّال الثياب، وفسّره علماء العربية بأنه من يكون من خاصّة من يضاف هو إليه ومن قرابته، وغلب على أصحاب عيسى وفي الحديث قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لكل نبيّ حواريّ وحواريّ الزّبير بن العوام)، وقد أكثر المفسرون وأهل اللغة في احتمالات اشتقاقه واختلاف معناه وكلّ ذلك إلصاق بالكلمات التي فيها حروف الحاء والواو والراء لا يصحّ منه شيء، والحواريون اثنا عشر رجلا وهم: سمعان بطرس، وأخوه أندراوس، ويوحنا بن زبدي، وأخوه يعقوبـ وهؤلاء كلّهم صيادو سمك ـ ومتّى العشّار وتوما وفيليبس، وبرثولماوس، ويعقوب بن حلفي، ولباوس، وسمعان القانوى، ويهوذا الأسخريوطي.

6. كان جواب الحواريين دالّا على أنهم علموا أنّ نصر عيسى ليس لذاته بل هو نصر لدين الله، وليس في قولهم: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ ما يفيد حصرا لأنّ الإضافة اللفظية لا تفيد تعريفا، فلم يحصل تعريف الجزأين، ولكنّ الحواريين بادروا إلى هذا الانتداب.

7. آمن مع الحواريّين أفراد متفرّقون من اليهود، مثل الذين شفى المسيح مرضاهم، وآمن به من النساء أمّه عليها السلام، ومريم المجدلية، وأم يوحنا، وحماة سمعان، ويوثا امرأة حوزي وكيل هيرودس، وسوسة، ونساء أخر ولكنّ النساء لا تطلب منهنّ نصره.

8. ﴿رَبَّنَا آمَنَّا﴾ من كلام الحواريين بقية قولهم، وفرّعوا على ذلك الدعاء دعاء بأن يجعلهم الله مع الشاهدين أي مع الذين شهدوا لرسل الله بالتبليغ، وبالصدق، وهذا مؤذن بأنهم تلقوا من عيسى ـ فيما علّمهم إياه ـ فضائل من يشهد للرسل بالصدق.

9. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ عطف على جملة ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ فإنّه أحس منهم الكفر وأحس منهم بالغدر والمكر، وضمير مكروا عائد إلى ما عاد إليه ضمير منهم وهم اليهود وقد بيّن ذلك قوله تعالى، في سورة الصف [14]: ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ﴾ والمكر فعل يقصد به ضر ضرّ أحد في هيئة تخفى عليه، أو تلبيس فعل الإضرار بصورة النفع، والمراد هنا: تدبير اليهود لأخذ المسيح، وسعيهم لدى ولاة الأمور ليمكّنوهم من قتله، ومكر الله بهم هو تمثيل لإخفاق الله تعالى مساعيهم في حال ظنهم أن قد نجحت مساعيهم، وهو هنا مشاكلة، وجاز إطلاق المكر على فعل الله تعالى دون مشاكلة كما في قوله: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ﴾ في سورة الأعراف وبعض أساتذتنا يسمي مثل ذلك مشاكلة تقديرية.

10. معنى: ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ أي أقواهم عند إرادة مقابلة مكرهم بخذلانه إياهم، ويجوز أن يكون معنى خير الماكرين: أنّ الإملاء والاستدراج، الذي يقدّره للفجّار والجبابرة والمنافقين، الشبيه بالمكر في أنّه حسن الظاهر سيّئ العاقبة، هو خير محض لا يترتّب عليه إلّا الصلاح العام، وإن كان يؤذي شخصا أو أشخاصا، فهو من هذه الجهة مجرّد عما في المكر من القبح، ولذلك كانت أفعاله تعالى منزّهة عن الوصف بالقبح أو الشناعة، لأنها لا تقارنها الأحوال التي بها تقبح بعض أفعال العباد؛ من دلالة على سفاهة رأي، أو سوء طوية، أو جبن، أو ضعف، أو طمع، أو نحو ذلك، أي فإن كان في المكر قبح فمكر الله خير محض، ولك على هذا الوجه أن تجعل (خير) بمعنى التفضيل وبدونه.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/105.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا القصص الحكيم مستمر في قصة عيسى، وقد انتقل في الآيات السابقة من بشارة مريم بأن تكون المختارة لتكون منها الآية الكبرى وهو أن يولد منها ولد هو إنسان حيّ يأكل ويشرب وينمو من غير أب ينجبه، إلى ملاقاة قومه له وتكذيبه؛ ولم يكن ذلك الانتقال مفاجئا من غير تمهيد بل مهد له، فأشار في البشارة إلى مقامه ورسالته وآيته الباهرة القاهرة؛ وبهذا علم القارئ الذي يتلو كتاب الله من السياق رسالته والمعجزات التي تحدى بها قومه أن يأتوا بمثلها؛ وعلى ذلك لم يبين في هذا الموضع ولادة عيسى عليه السلام، وحال مريم عند ولادته، وتكلمه في المهد صبيا، وبين ذلك في سورة مريم، ففي سورة مريم فصل خبر ولادته، وفي هذه السورة فصل الآيات التي أثبت بها نبوته، وكان هذا مناسبا لما يجيء بعد ذلك من ملاقاة قومه لدعوته إلى الله، وإقامته الآيات التي تدل على رسالته.

2. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ هذا النص الكريم كان معقبا للآيات الباهرة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وتصوير الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله، وتعقيبه لهذه الآيات، وكون الكثرة لم يكونوا مؤمنين كما يشير النص، يدل على أن الآية مهما تكن باهرة قاهرة لا تحمل‏ الجاحدين الذين غلفت قلوبهم دون نور الهداية على الإيمان، والفاء هنا كأنها فاء التعقيب على الآيات الباهرة، أي أنهم فور هذه الآيات كفروا ولم يتدبروا، وأحس منهم عيسى هذا الكفر، فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله، والإحساس هو العلم الذي يكون بالحواس، وإطلاقه على العلم المجرد بعد ذلك من قبيل تشبيه العلم اليقيني القاطع البدهى بالعلم المدرك بالحواس.

3. ولما أحس عيسى الذي أوتى هذه البينات الكفر من قومه، وعلم ذلك علما يقينيا، اتجه إلى من يدعوهم يتعرف من أصاب الإيمان قلبه ليتخذ منهم قوة للدعوة وليكونوا صورة للمهتدين الصادقين؛ ولذلك قال: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ أي من الذين رضوا أن يكونوا أنصاري لأواجه بهم الذين يحاربون دعوتى، على أن يكون أولئك الأنصار منصرفين متجهين إلى الله تعالى لا يبغون غير رضاه، وهذا التعبير الكريم فيه إشارة إلى معان ثلاثة:

أ. أولها: أن الأكثرين لم يكونوا مؤمنين؛ ولذلك عبر بقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ فنسب الكفر إليهم، وذلك لا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة، والمؤمنون هم القلة المغمورة، حتى بحث عنهم السيد المسيح عليه السلام بقوله: من أنصاري إلى الله تعالى.

ب. الثاني: الذي يشير إليه النص الكريم: أن السيد المسيح عليه السلام أحس بأنه أصبح مقصودا بالأذى، وأن الدعوة الحق أصبحت مهاجمة من تلك الكثرة الساحقة؛ ولذلك طلب أن يكون له نصراء يجعلون للحق منعة وقوة من جهة، ويكونون مدرسة الدعاية له، والخلية التي تدرس فيها حقائقه من جهة أخرى.

ج. الثالث: الذي يشير إليه النص: هو أن النصرة الحقيقية في مثل هذا المقام أساسها إخلاص النية لله تعالى، والاتجاه إليه، وتفويض الأمور إليه، فإنهم إن كانوا قليلا فهم بمعونة الله كثيرون‏ ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج‏] ولذلك كان في سؤال السيد المسيح عليه السلام إضافة النصراء إلى الله، فقال: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ وقد قال في ذلك الزمخشري: (إلى الله من صلة أنصاري مضمنا معنى الإضافة، كأنه قيل: من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله ينصروننى كما ينصرنى، أو يتعلق بمحذوف حالا من الياء، أي من أنصاري ذاهبا إلى الله أو ملتجئا) والأوضح في نظري أن يكون المحذوف حالا من الأنصار أنفسهم أي من أنصاري حالة كونهم متجهين ملتجئين إلى الله تعالى، وفي هذا طمأنة لهم بأن نصرته هي نصرة الله، وأن الذين ينصرونه يلتجئون إلى جانب الله تعالى، يعتمدون عليه، فهم إذا كانوا للحق منعة، في عزة من الله ومنعة منه، وإن دعوة الحق لا بد أن تجد نصيرا وإن طغى الباطل واشتد؛ ولذلك أجيب عيسى عليه السلام من المخلصين من قومه.

4. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ الحواريون هنا هم أنصار عيسى عليه السلام الذين أخلصوا له ولازموه، وكانوا عونه في الدعاية إلى الحق بعد الله تعالى الذي أمده بنور من عنده، وأصل مادة (حور): هي شدة البياض، أو الخالص من البياض، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق: الحوّارى، وعلى النساء البيض: الحواريات، والحوريات؛ وعلى ذلك يكون تسمية صفوة الرجل وخاصته حوارى؛ لأنهم أخلصوا له، ولأنهم لباب الناس بالنسبة له، وكذلك كان حواريو عيسى عليه السلام؛ فقد كانوا خاصته، والذين صفت نفوسهم، وخلصت من أدران الدنيا وأهوائها كما يخلص الثوب الأبيض الناصع البياض من كل ما يشوبه.

5. أجاب أولئك الحواريون عيسى عليه السلام عندما أخذ يبحث عن النصراء ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ وهم بذلك بينوا اهتداءهم لأمرين:

أ. أولهما: أنهم علموا أنه يتكلم عن الله تعالى وأنه رسول أمين؛ ولذلك اعتبروا إجابة دعوته هي من إجابة دعوة الله، وأنهم إذا كانوا نصراءه فهم نصراء الله تعالى؛ ولذا قالوا: نحن أنصار الله، ولم يقولوا نحن أنصارك.

ب. الثاني: أنهم فهموا أن نصرته تكون بإخلاص النية لله تعالى، وتصفية نفوسهم من كل أدران الهوى، حتى تكون خالصة لله تعالى، ولذلك أردفوا قولهم هذا بما حكاه سبحانه وتعالى عنهم بقوله تعالى: ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ فهذا النص الكريم يفيد مقدار إدراكهم لمعنى نصرة الله تعالى ونصرة رسوله عيسى عليه السلام؛ قالوا: ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾ أي آمنا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأنه خلق الأشياء بإرادته المختارة، وبقدرته الفعالة، ولم توجد عنه الأشياء وجود المعلول عن العلة، والمسبب عن السبب، كما كان يدعى بعض الفلاسفة في عصرهم، وأردفوا قولهم بما يدل على الإذعان المطلق لله تعالى، وإخلاص نياتهم وقلوبهم له سبحانه بقولهم: ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ الشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة، فهم يطلبون من سيدنا عيسى أن يعلم علم معاينة بأنهم مسلمون أي مخلصون قد أسلموا وجوههم لله رب العالمين، وصاروا بتفكيرهم وقلوبهم وجوارحهم لله تعالى، وإن ذلك فوق أنه إعلام لحقيقة نفوسهم هو إشهاد من قبلهم بما خلصت به أرواحهم.

6. خاطبوا بهذا الخطاب نبيّ الله تعالى مجيبين دعوته، ملبين نداءه، معلنين نصرته، ثم اتجهوا بعد ذلك إلى الله تعالى ضارعين إليه قائلين: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ وقد صدروا ضراعتهم إلى الله تعالى بالاعتراف الكامل بالربوبية، وفي الاعتراف بالربوبية إحساس صادق بجلال النعم، وتقديم شكر المنعم، ثم الاعتراف بالربوبية الحق يطوى في ثناياه الاعتراف بالألوهية الحق؛ لأن كمال الخضوع لله لا يكون إلا بالإيمان بالربوبية، ووراء هذا كله الإفراد بالعبودية.

7. ثم بعد الضراعة بلفظ الربوية أعلنوا الخضوع والإذعان الكامل، فقالوا: ﴿آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ أي صدّقنا تصديق إذعان وتسليم وهداية بما أنزلت، وما أنزل الله تعالى على عيسى عليه السلام هو تكليفات؛ فالإيمان الصادق بها يقتضى العمل؛ لأن العمل يدل على كمال الإيمان، ولأن المخالفة من غفوة الإيمان، ومن قبيل ذلك قول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن)، وقد تأكد ذلك المعنى وهو العمل بمقتضى ما أنزل لهم بعد ذلك فى‏ ضراعتهم، ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ وهو عيسى عليه السلام، واتباع الرسول يكون بالعمل بهديه، والأخذ بسنته.

8. وإذا كانوا قد ضرعوا إلى ربهم بهذا الإيمان تلك الضراعة، فقد اتجهوا مع ذلك إلى دعائه راجين بإجابته أن يقوى الله سبحانه وتعالى إيمانهم، وأن ينقلهم من الإيمان الغيبي إلى الإيمان الذي يصل إلى درجة تشبه المشاهدة؛ ولذا قالوا: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي إذا كنا قد امتلأت قلوبنا بربوبيتك، وألوهيتك وعبوديتك فارفعنا إلى مرتبة أعلى هي أن نكتب مع الشاهدين؛ ومن هم الشاهدون؟ يصح أن نقول إنهم الذين صفت نفوسهم وزكت مداركهم، حتى وصلوا إلى درجة العلم الذي يكون كعلم المشاهدة والرؤية، الذين قال في أمثالهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذه مرتبة من الإيمان، والمعرفة أعلى من مجرد الإيمان، ويصح أن تسمى هذه المرتبة مرتبة الشهود أو المشاهدة التي يقول عنها الصوفية، فالمؤمن يتعبد، ويصفى نفسه من أدران الدنيا، حتى يصبح كأنه يشاهد الله رب العالمين في أعلى ملكوته، ويحس في كل فعل يفعله كأنه في حضرته العلية كمن يعاينه، وإن النص الكريم يدل على وجود ذلك الصنف من العباد الأصفياء الأتقياء الأبرار، وأنهم في أعلى درجات اليقين، بدليل أن هؤلاء الأتقياء طلبوا أن يكونوا في هذا الصنف، وحكى العلى القدير للأجيال طلبهم الذي رشحهم له فرط ضراعتهم وتقواهم، وأولئك الشاهدون هم الأنبياء والصديقون والشهداء.

9. أحس عيسى عليه السلام بحدة كفر الكافرين، وشدة نضالهم؛ ولذلك اتجه إلى أن يكون له دعاة مناصرون أطهار، تكون منهم مدرسة الحق، وأخذ يبث تعاليمه في تلاميذه، وينتقل في أراضى بيت المقدس وجبالها وآكامها هاديا مرشدا باعثا الأرواح إلى الإيمان بالحق، ولكن جحدوا بالحق بعد أن ظهرت أماراته، وقامت بيناته، ثم أخذوا يحولون بينه وبين هدايته، ودعوة الحق التي يدعو بها، ولما رأوا أن نور الحق يزداد انتشارا، قرروا أنه لا بد أن يقطعوا حركته نهائيا بتدبير الشر لشخصه، ويستفاد من الإشارات القرآنية أنهم حاولوا قتله، ولا عجب فقد قتلوا يحيى بن زكريا عليه السلام الذي عاصره، ولا يستغرب على اليهود عمل فاجر، فهم في ماضيهم كما نراهم اليوم في حاضرهم، ولقد قال تعالى بعد أن بلغت دعوة الحق أقصاها وأعلاها.

10. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾ أي أن هؤلاء الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر، ورآه عيانا منهم بعد أن كوّن فيهم مدرسة الهداية بالحواريين، وأخذوا يدبرون التدبير للقضاء عليه أو على دعوته، والمكر، كما يظهر من عبارات القرآن: هو التدبير الذي يجتهد صاحبه في إخفائه عمن يمكر به؛ ولذا نسب المكر إلى الله تعالى، ولا يمكن أن يكون عمل الله تعالى إلا خيرا، ولذا ذكر المكر موصوفا بالسوء في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر] فدل هذا على أن مطلق المكر لا يعد سوءا، مكر الفجار لإيذاء الأبرار لا يمكن أن يكون خيرا، ومكر الله تعالى لإحباط تدبير الأشرار لا يتصور إلا أن يكون خيرا، وقد قصر بعض المفسرين المكر على التدبير السيئ، وسمى تدبير الله لإحباط تدبيرهم مكرا من قبيل المشاكلة ورد الفعل بمثله وإن لم يكن له وصفه، كتسمية رد الاعتداء اعتداء في مثل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة] وما هو إلا عمل عدل ولكن سمى به للتماثل بين الفعلين في الواقع ليتحقق الدفاع العادل.

11. دبر أولئك قتل عيسى عليه السلام كما قتلوا يحيى، فكانوا ـ لاستيلاء الفساد على قلوبهم ـ قد أصابهم شره لدماء الأطهار دبروا ذلك، والله يدبر حمايته، وقد تم ما أراد الله تعالى؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ فسرها بعض المفسرين بأن الله سبحانه لا يصدر عنه إلا الخير، فمكره خير مكر لأنه لا يتصور فيه شر قط، وفسر الزمخشري قوله: ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ بقوله: أقواهم مكرا، وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب؛ وذلك كلام مستمد من ذوق بياني رائع والله من وراء كل من يدبر الشر للأطهار، وهو الذي يحفظ بعلمه وقدرته الأبرار، ربنا هيئ لنا من أمرنا رشدا.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1235.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ما من عاقل تام الإدراك ينكر الحق، ويؤثر الباطل عليه إلا لهوى في نفسه، أو شبهة في ذهنه، أو لجهله بالدليل، أو لخلل في عرض الدليل.. وبديهة ان أدلة الأنبياء كافية وافية على نبوتهم من جميع الجهات، حتى دفع الأوهام والشبهات، بحيث لا تبقي أدلتهم أية وسيلة لإنكار الحق إلا بالعناد والمكابرة.

2. من بحث عن السبب الموجب لكيد من كاد للأنبياء، وانكار من أنكر رسالتهم بعد أن رأوا ما رأوا من الآيات والمعجزات فلا يجد أي سبب لهذا الكيد والإنكار الا المنافع الشخصية، والحرص على الجاه والمال.. والشواهد على هذه الحقيقة من الكتب السماوية والأحاديث النبوية لا تحصيها كثرة:

أ. منها ان الطغاة المترفين من قوم هود النبي قاوموه لا لشيء الا لأنه قال لهم: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾، وهدد شعيبا الأغنياء من قومه، وقالوا له: {يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نشاء ولولا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ‏}، أما ذنبه الأول والأخير فهو قوله: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾

ب. وكان قارون من أغنى قوم موسى، وأقرب الناس اليه رحما، ومع ذلك نصب العداء له، حيث وعظه بقوله: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾

ج. وكان عبد الله بن أبيّ من زعماء المدينة وأثريائها، ولما هاجر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم اليها من مكة ثارت الغيرة في نفس ابن أبي، وأسمع الرسول كلاما نابيا، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء، فقد كنّا أجمعنا على أن نملّكه علينا، وهو يرى الآن انك قد سلبته أمرا كان قد أشرف عليه‏.

د. وكفى دليلا على هذه الحقيقة قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾، وقد كذّبوا السيد المسيح، وحاولوا قتله؛ لأنه دعاهم إلى المحبة والعدالة والمساواة، وان لا يكنزوا الذهب وحولهم الجياع والمعوزون، ومن تعاليمه: (لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض.. غني يدخل باب السماء كحبل غليظ يدخل سم الخياط)

3. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾، كان اليهود قبل ميلاد عيسى يؤمنون بالمسيح المنتظر، فلما جاءهم بالبينات والمعجزات اختلفوا فيه، فآمن به المساكين والمستضعفون الذين لا يخافون على مال ولا جاه، وكفر به أكثر أهل الجاه والمال خوفا على مناصبهم ومكاسبهم، كما هو شأنهم مع كل مصلح، نبيا كان أو غير نبي، مع علمهم بأنه الصادق المحق.

4. قال بعض المفسرين: ان اليهود رفضوا الايمان بمحمد، لأنه عربي من نسل إسماعيل، ولو كان يهوديا من نسل اسحق لآمنوا به، وهذا خطأ، لأن عيسى عليه السلام من اليهود، ومع هذا حاربوه، وحاولوا قتله وصلبه.. وكذلك محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حاربه صناديد قريش، والسر هنا وهناك واحد، وهو الحرص على الدنيا والمنافع، لا العصبية القومية.

5. مهما يكن، فقد أحس عيسى من قومه الإصرار على الكفر والعناد، ولاقى منهم الشدائد، تماما كما لاقى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من قومه، وعندها قال عيسى: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾، أي من هم؟ وأين هم؟ المؤمنون الذين يناصرون دين الله، ويحامون عنه، ويبلّغونه بعدي إلى الناس.. إذ لا بد لكل صاحب رسالة من أنصار ينهضون بها، ويذبون عنها، وينشرونها بين الناس.

6. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾، المراد بالحواريين خاصة الرجل، مأخوذ من الحور، وهو شدة النقاء والبياض، وقولهم: ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ دليل على ان دين الله واحد منذ وجد إلى ما لا نهاية، وهو الإسلام، وقد جاء به جميع الأنبياء، دون استثناء، والاختلاف انما هو في بعض الأحكام وصور العبادة، وعلى هذا، فكل من آمن بالله وكتبه ورسله فهو مسلم، وان أسمى نفسه نصرانيا أو يهوديا.

7. قول الحواريين: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ دعاء منهم لله سبحانه أن يجعلهم في زمرة المؤمنين الذين شهدوا لله بالوحدانية، ولأنبيائه بالصدق والأمانة، ليفوزوا بما فاز به المخلصون المرضيون، وينالوا ما نالوه من الكرامة عند الله سبحانه.

8. جاء في الكثير من التفاسير ان عدد الحواريين كان اثني عشر، وبعض المفسرين ذكر أسماءهم ومهنهم، ونحن نسكت عن ذلك لحديث: اسكتوا عما سكت الله عنه.

9. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، لهذه الآية نظائر كثيرة، منها الآية 30 من سورة الأنفال: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، والآية 50 من سورة النمل: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، والآية 21 يونس: ﴿قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾، والآية 99 الاعراف: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، والمراد بمكر الكافرين والمنافقين الحيلة والخداع والغدر وتبييت الشر، أما مكر الله تعالى فالمراد به إبطال مكر الماكرين وتدبيرهم، كما نطقت الآية 43 من سورة فاطر: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾

10. في القرآن صفات كثيرة أطلقت عليه سبحانه، وظاهرها يوهم عدم جواز نسبتها اليه تعالى، مثل الشاكر والمؤمن والتواب والمتكبر، ومع التأمل والإمعان يجدها في محلها، فان‏:

أ. معنى الشاكر انه سبحانه يجزي الشاكرين والمطيعين بالثواب.

ب. والمؤمن انه مصدر الأمان والسلام.

ج. والتواب انه يتقبل التوبة من التائبين.

د. والمتكبر ان كل ما في الكون حقير بالنسبة اليه تعالى.

11. بهذا يتبين معنا ان المكر حرام إذا قصدت به الإضرار بالغير، وحلال إذا قصدت به دفع الضرر عن نفسك أو غيرك، ونذكر فيما يلي مثالين على إبطال الله لمكر الكافرين وكيدهم:

أ. ان اليهود مكروا بتواطئهم على قتل عيسى، ولكن الله سبحانه أبطل مكرهم، حيث ألقى شبه عيسى على يهوذا الذي حرض على قتله، ورفع عيسى إلى السماء.

ب. ان قريشا أجمعوا أمرهم أن يتخلصوا من محمد، وذلك أن يختاروا شابا من كل بطن، ويضربوه بسيوفهم، وهو نائم في فراشه، فيتفرق دمه بين الجميع.. فأبطل الله مكرهم، حيث أمر نبيه بالخروج من مكة، وأن ينام علي في فراشه، يوهم القوم ان محمدا لم يسافر، خوفا من اللحاق به، واستلقى عليّ في فراش ابن عمه، وجر عليه بردته.. ولما اقتحم المتآمرون الدار وجدوا عليا هو الذي يرقد في الفراش.. وذهب الله بكيدهم، وما كيد الكافرين إلا في ضلال.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/66.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾، لما كانت البشارة التي بشر بها مريم مشتملة على جمل قصص عيسى عليه السلام من حين حمله إلى حين رسالته ودعوته اقتصر عليها اقتصاصا إيجازا في الكلام وفرع عليها تتمة الجملة من قصته وهو انتخابه حوارييه ومكر قومه به ومكر الله بهم في تطهيره منهم وتوفيه ورفعه إليه، وهو تمام القصة.

2. اعتبر في القصة المقدار الذي يهم إلقاؤه إلى النصارى حين نزول الآيات، وهم نصارى نجران: الوفد الذين أتوا المدينة للبحث والاحتجاج، ولذلك أسقط منها بعض الخصوصيات التي تشتمل عليه قصصه المذكورة في سائر السور القرآنية كسورة النساء والمائدة والأنبياء والزخرف والصف.

3. في استعمال لفظ الإحساس في مورد الكفر مع كونه أمرا قلبيا إشعار بظهوره منهم حتى تعلق به الإحساس أو أنهم هموا بإيذائه وقتله بسبب كفرهم فأحس به فقوله: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى﴾ أي استشعر واستظهر ﴿مِنْهُمْ﴾ أي من بني إسرائيل المذكور اسمهم في البشارة ﴿الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾؟ وإنما أراد بهذا الاستفهام أن يتميز عدة من رجال قومه فيتمحضوا للحق فتستقر فيهم عدة الدين، وتتمركز فيهم قوته ثم تنتشر من عندهم دعوته، وهذا شأن كل قوة من القوى الطبيعية والاجتماعية وغيرها، أنها إذا شرعت في الفعل ونشر التأثير وبث العمل كان من اللازم أن تتخذ لنفسها كانونا تجتمع فيه وتعتمد عليه وتستمد منه ولولا ذلك لم تستقر على عمل، وذهبت سدى لا تجدي نفعا، ونظير ذلك في دعوة الإسلام بيعة العقبة وبيعة الشجرة أراد بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ركوز القدرة وتجمع القوة ليستقيم به أمر الدعوة.

4. فلما أيقن عيسى عليه السلام أن دعوته غير ناجحة في بني إسرائيل كلهم أو جلهم، وأنهم كافرون به لا محالة، وأنهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة واشتدت المحنة مهد لبقاء دعوته هذا التمهيد فاستنصر منهم للسلوك إلى الله سبحانه فأجابه الحواريون على ذلك فتميزوا من سائر القوم بالإيمان فكان ذلك أساسا لتميز الإيمان من الكفر وظهوره عليه بنشر الدعوة وإقامة الحجة كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾

5. قيد الأنصار في قوله: ﴿مَنْ أَنْصَارِي﴾ بقوله: ﴿إِلَى اللهِ﴾ ليتم به معنى التشويق والتحريص الذي سيق لأجله هذا الاستفهام نظير قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، والظرف متعلق بقوله: ﴿أَنْصَارِي﴾، بتضمين النصرة معنى السلوك والذهاب أو ما يشابههما كما حكى عن إبراهيم عليه السلام من قوله: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، وأما ما احتمله بعض المفسرين من كون إلى بمعنى مع فلا دليل عليه ولا يساعد أدب القرآن أن يجعله تعالى في عداد غيره فيعد غير الله ناصرا كما يعده ناصرا، ولا يساعد عليه أدب عيسى عليه السلام اللائح مما يحكيه القرآن من قوله، على أن قوله تعالى: ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾، أيضا لا يساعد عليه إذ كان من اللازم على ذلك أن يقولوا: نحن أنصارك مع الله فليتأمل.

6. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، حواري الإنسان‏ من اختص به من الناس، وقيل أصله من‏ الحور وهو شدة البياض، ولم يستعمل القرآن هذا اللفظ إلا في خواص عيسى عليه السلام من أصحابه.

7. قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾، بمنزل التفسير لقولهم: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ وهذا مما يؤيد كون‏ قوله: ﴿أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ جاريا مجرى التضمين كما مر فإنه يفيد معنى السلوك في الطريق إلى الله، والإيمان طريق.

8. سؤال وإشكال: هل هذا أول إيمانهم بعيسى عليه السلام؟ والجواب: ربما استفيد من قوله تعالى: ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ﴾، أنه إيمان، بعد إيمان ولا ضير فيه كما يظهر بالرجوع إلى ما أوضحناه من كون الإيمان والإسلام ذوي مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، بل ربما دل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾، أن إجابتهم إنما كانت بوحي من الله تعالى إليهم، وأنهم كانوا أنبياء فيكون الإيمان الذي أجابوه به هو الإيمان بعد الإيمان، على أن قولهم: ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾، وهذا الإسلام‏ هو التسليم المطلق لجميع ما يريده الله تعالى منهم وفيهم ـ يدل أيضا على ذلك فإن هذا الإسلام لا يتأتى إلا من خلص المؤمنين لا من كل من شهد بالتوحيد والنبوة مجرد شهادة، بيان ذلك أنه قد مر في البحث عن مراتب الإيمان والإسلام: أن كل مرتبة من الإيمان تسبقها مرتبة من مراتب الإسلام كما يدل عليه قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، حيث أتوا في الإيمان بالفعل وفي الإسلام بالصفة:

أ. فأول مراتب الإسلام هو التسليم والشهادة على أصل الدين إجمالا.

ب. ويتلوه الإذعان القلبي بهذه الشهادة الصورية في الجملة.

ج. ويتلوه (وهو المرتبة الثانية من الإسلام) التسليم القلبي لمعنى الإيمان وينقطع عنده السخط والاعتراض الباطني بالنسبة إلى جميع ما يأمر به الله ورسوله وهو الاتباع العملي في الدين.

د. ويتلوه (وهو المرتبة الثانية من الإيمان) خلوص العمل واستقرار وصف العبودية في جميع الأعمال والأفعال.

هـ. ويتلوه (وهو المرتبة الثالثة من الإسلام) التسليم لمحبة الله وإرادته تعالى فلا يحب ولا يريد شيئا إلا بالله، ولا يقع هناك إلا ما أحبه الله وأراده ولا خبر عن محبة العبد وإرادته في نفسه.

و. ويتلوه (وهو المرتبة الثالثة من الإيمان) شيوع هذا التسليم العبودي في جميع الأعمال.

9. إذا تذكرت هذا الذي ذكرناه، وتأملت في قوله عليه السلام فيما نقل من دعوته: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ الآية، وجدت أنه عليه السلام أمر أولا بتقوى الله وإطاعة نفسه، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ أي إن الله ربكم معشر الأمة ورب رسوله الذي أرسله إليكم، فيجب عليكم أن تتقوه بالإيمان، وأن تطيعوني بالاتباع، وبالجملة يجب عليكم أن تعبدوه بالتقوى وطاعة الرسول أي الإيمان والاتباع، فهذا هو المستفاد من هذا الكلام، ولذا بدل التقوى والإطاعة في التعليل من قوله: ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ وإنما فعل ذلك ليتضح ارتباط الأمر بالله لظهور الارتباط به في العبودية، ثم ذكر أن هذه العبادة صراط مستقيم فجعله سبيلا ينتهي بسالكه إلى الله سبحانه، ثم لما أحس منهم الكفر ولاحت أسباب اليأس من إيمان عامتهم قال: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ فطلب أنصارا لسلوك هذا الصراط المستقيم الذي كان يندب إليه، وهو العبودية أعني التقوى والإطاعة فأجابه الحواريون بعين ما طلبه فقالوا: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾، ثم ذكروا ما هو كالتفسير له فقالوا: ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، ومرادهم بالإسلام إطاعته وتبعيته، ولذا لما خاطبوا ربهم خطاب تذلل والتجاء، وذكروا له ما وعدوا به عيسى عليه السلام قالوا: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾، فبدلوا الإسلام من الاتباع، ووسعوا في الإيمان بتقييده بجميع ما أنزل الله، فأفاد ذلك أنهم آمنوا بجميع ما أنزل الله مما علمه عيسى بن مريم من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، واتبعوا الرسول في ذلك، وهذا كما ترى ليس أول درجة من الإيمان بل من أعلى درجاته وأسماها.

10. إنما استشهدوا عيسى عليه السلام في إسلامهم واتباعهم ولم يقولوا: آمنا بالله وإنا مسلمون أو ما يفيد معناه ليكونوا على حجة في عرضهم حالهم على ربهم إذ قالوا: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾، فكأنهم قالوا: ربنا حالنا هذا الحال، ويشهد بذلك رسولك الشاهدين، وفرعوا ذلك على إيمانهم وإسلامهم جميعا لأن تبليغ الرسول رسالته إنما يتحقق ببيانه ما أنزله الله عليه قولا وفعلا، أي بتعليمه معالم الدين وعمله بها، فالشهادة على التبليغ‏ إنما يكون بتعلمها من الرسول واتباعه عملا حتى يشاهد أنه عامل بما يدعو إليه لا يتخطاه ولا يتعداه.

11. الظاهر أن هذه الشهادة هي التي يومئ إليها قوله تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾، وهي الشهادة على التبليغ، وأما قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾، فهو شهادة على حقية رسالة الرسول دون التبليغ وربما أمكن أن يستفاد من قولهم: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ بعد استشهادهم الرسول على إسلامهم أن المسئول: أن يكتبهم الله من شهداء الأعمال كما يلوح ذلك مما حكاه الله تعالى في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليه السلام: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾، وليرجع إلى ما ذكرناه في ذيل الآية.

12. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، الماكرون هم بنو إسرائيل، بقرينة قوله: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾، وقد مر الكلام في معنى المكر المنسوب إليه تعالى في ذيل قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/202.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (الإحساس): إدراك المحسوس بإحدى الحواس الخمس: (السمع، والبصر، واللمس، والشم، والذوق) فالمقصود: أن عيسى عليه السلام سمع منهم الكفر وتيقنه يقيناً كما هو شأن المحسوس، وفيه إشارة إلى تثبّته عليه السلام، وأنه لم يتسرع إلى قتالهم لظن أو خبر مخبر.

2. ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ التمس له أنصاراً يدفعون الكفار وينصرون الله ورسوله، وهذا من إعداد القوة كما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60] فليس للمؤمن أن يقعد عن نصر الإسلام والدفاع عنه بدعوى عدم الناصر، بل عليه أن يلتمس الأنصار.

3. ﴿إِلَى اللهِ﴾ أي متوجهين إلى الله في توجهنا للجهاد؛ لأنا نجاهد في سبيله، ونسلم له أنفسنا التي اشتراها منا بالجنة و﴿إِلَى﴾ في هذا الموضع مثلها في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النساء: 100]

4. ﴿الْحَوَارِيُّونَ﴾ هم المؤمنون الخلص، الذين صدقوا الإيمان وصدّقوه بالجهاد في سبيل الله الذي هو مخبَر الإيمان، وقد صار الحواريون اسماً لهم خاصاً بهم، أعنى هؤلاء الذين أجابوا عيسى عليه السلام.

5. ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾ أجابوه كما طلب وكما يريد أن يجاهدوا لله، أي لنصر دينه لا لعيسى عليه السلام ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾ الذي أوجب علينا نصرك فنحن ننصرك لأنا آمنا بالله، واشهد لنا يوم القيامة بأنا مسلمون أوجهنا لله مخلصون له ديننا، ويحتمل قولهم: ﴿وَاشْهَدْ﴾ أي ونشهدك ﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أعني أنه إنشاءٌ للإشهاد.

6. ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ أجابوا عيسى عليه السلام، ولجأوا إلى ربهم متوسلين بإيمانهم واتباعهم الرسول أن يكتبهم مع الشاهدين الذين شهدوا شهادة الحق لله ولعبده ورسوله، أي فتقبل منا هذا، لأن كتابته لنا تدل على قبوله بخلاف شهادة المنافقين في قولهم: ﴿إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ﴾ [المنافقون: 1] فهي غير مقبولة، ولا مكتوبة لهم في كتاب الأعمال الصالحة، والسياق يفيد إخلاصهم لله ونزاهتهم الكاملة عما صار إليه بعض النصارى، ولذلك توسلوا بإيمانهم واتباعهم الرسول لا بعيسى عليه السلام وجاهدوا لله لا لعيسى عليه السلام.

7. ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ وهذا هو الدين القويم، الذي قال الله فيه: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ وليس المراد أن التوسل بالأنبياء مذموم مطلقاً ولكن توسل من يعتقد لمن توسل به وجاهة عند الله معناها المشاركة لله تعالى في الملك، فأما من لا يرى للمتوسَّل به نفوذاً في ملك الله يخوله أن يتدخل بين الله وعباده ويكون ما تدخل له بل هو بريء من ذلك، فلا بأس إذا كان للتوسل معنى يسوغه، كما قدمت في تفسير: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 186]

8. ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ الضمير للذين أحس عيسى منهم الكفر ﴿مَكَرُوا﴾ ليغلبوه ويبطلوا دينه ﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ بهم عقوبة لهم ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ لأن مكره حق، لأنه لا يمكر إلا بمن يستحق، ولأن مكره يكون مع إقامة الحجة ليهلك من هلك عن بينة، وفي (المصابيح): (قال الإمام المرتضى عليه السلام: قد سئل جدي القاسم صلوات الله عليه عن هذه المسألة؟ فقال: أما مكر الله واستهزاؤه فهو استدارج الله وإملاؤه ومكر من كفر بالله ربه فإنما هو احتيال من الذين كذبوا وحيه واستهزاء.. إلى قوله: وإذا كان استهزاؤهم ومكرهم إنما هو إخفاءهم ما يخفون، وسترهم من أمرهم ما يسترون، فأمور الله أستر وأبطن وأخفى عنهم وأكَنُّ وذلك فقد يكون مكراً من الله بهم، واستهزاءً واختداعاً، فلذلك كان الله سبحانه خادعاً لمن خدعه لا مخادعاً ولا مخدوعاً، وكان قلب من خادعه سبحانه عن العلم بمكر الله مقفلاً مطبوعاً)، وكأن هذه الآية تذكر ما يأتي في قصة رفعه عليه السلام، وقد ذكر تعالى في (سورة الصف) ما يفيد ظاهره: أن عيسى عليه السلام والحوارين جاهدوا وانتصروا، فالقصة في (آل عمران) فيها اختصار؛ لأن سياقها في الرد على المشركين بعيسى، والذي في (سورة الصف) في الحث على الجهاد.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/468.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الْحَوَارِيُّونَ﴾: أصل الحواري: الحور، وهو شدة البياض، ومنه الحواري من الطعام لشدة بياضه، ومنه قيل للحضريات: الحواريات لخلوص ألوانهن ونظافتهن، وحواري الرجل صفوته وخالصته، وقد جاء في إنجيل متى ولوقا ـ الباب السادس ـ ذكر تعدادهم: 1 ـ بطرس، 2 ـ أندرياس، 3 ـ يعقوب، 4 ـ يوحنا، 5 ـ فيلوبس، 6 ـ برتولولما، 7 ـ متى، 9 ـ يعقوب بن حلف، 10 ـ شمعون الغيور، 11 ـ يهوذا أخو يعقوب، 12 ـ يهوذا الأسخريوطي الذي خان السيد المسيح، وقد جاء في مجمع البيان: (روي أنهم اتبعوا عيسى، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا، فيضرب بيده على الأرض سهلا كان أو جبلا، فيخرج لكل إنسان منهم رغيفين يأكلهما؛ وإذا عطشوا قالوا: يا روح الله عطشنا، فيضرب بيده على الأرض سهلا كان أو جبلا، فيخرج ماء فيشربون، قالوا: يا روح الله من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا، وإذا شئنا سقيتنا، وقد آمنا بك واتبعنا؟ قال أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه، فصاروا يغسلون الثياب بالكراء)، وهكذا أعطاهم درسا اجتماعيا دينيا أن القيمة هي للإنسان الذي يعطي الحياة من جهة، في مقابل ما يأخذ منها.

2. ﴿الشَّاهِدِينَ﴾: جمع الشاهد، وهو المخبر بالشيء عن مشاهدة، وهذا هو المعنى الحقيقي، وقد يتصرف فيه فيقال: قولهم شاهد بحق، أي: هو بمنزلة المخبر به عن مشاهدة، ويقال: هذا شاهد، أي: معدّ للشهادة.

3. ﴿الْمَاكِرِينَ﴾: المدبّرين للإيقاع بالآخرين في خفية، والله خير المدبّرين لأنه الذي يملك زمام الحياة والإنسان، والمكر ـ كما يقول الراغبـ (صرف الغير عمّا يقصده بحيلة)، وذلك ضربان: مكر محمود، وذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال: ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، ومذموم وهو أن يتحرى به‏ فعل قبيح، وفي الآية النوعان من المكر، والمكر: الالتفاف، ومنه: قولهم لضرب من الشجر مكر لالتفافه، والفرق بين المكر والحيلة ـ كما في مجمع البيان ـ (أن الحيلة قد تكون لإظهار ما يعسر من الفعل من غير قصد إلى الإضرار بالعبد، والمكر حيلة على العبد توقعه في مثل الوهق‏)

4. ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾: آخذك بصورة تامة ووافية من عالم الأرض، والتوفي: أخذ الشيء أخذا تاما، ويستعمل في الموت باعتبار الأخذ من عالم الحياة، وفي النوم باعتبار الأخذ من عالم اليقظة، وفي رفع المسيح عليه السّلام إلى السماء باعتبار الأخذ من عالم الأرض، ولهذا فإن التوفي أعم من الموت، قال تعالى: ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ [النساء: 15]

5. استمر عيسى عليه السّلام في دعوته إلى الله بأسلوبه الوديع النابض بالمحبة، من أجل أن يقودهم في رحلة الإيمان إلى الله في العقيدة والشريعة، ليعيشوا قصة الإيمان فكرة وشعورا وممارسة.. ولكنهم أغلقوا آذانهم عن الاستماع إليه، وأغمضوا أعينهم عن النظر إلى عجائب معجزات الله على يديه، وعطّلوا عقولهم عن التفكير في ما يدعوهم إليه من خير الدنيا والآخرة، لأن القضية الأساس عندهم هي أنّهم يرفضون الإيمان، كموقف سلبي ضد الرسول، عبر قرار للكفر بالرسالة.

6. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ وذلك من خلال طريقتهم في التعامل‏ معه، في محاولة الضغط عليه بمختلف الوسائل التي يملكونها، ورفضهم الاستجابة له وإعراضهم عن الانفتاح على دعوة الإيمان في دعوته، فلم يدخلوا في حوار معه ولم ينفتحوا على آفاق رسالته؛ بل أصمّوا أسماعهم عن كل نداء للداعية، فما كان منه إلا أن أخذ زمام المبادرة في تحويل الموقف إلى خط جديد للحركة الفاعلة من موقع التحدّي الذي يعلن عن نفسه في ابتداء المسيرة نحو الله.

7. درس عيسى عليه السّلام الموقف، وأدرك طبيعته من خلال نوعيّة القرار، وعرف أن القضية ميؤوس منها، ما عدا الطليعة المؤمنة الواعية من حواريّيه الذين استجابوا لدعوته وأقبلوا على ندائه؛ فأطلق الدعوة في شكل نداء يوجهه إلى الجميع، وهو يعرف من الذي يستجيب له، ليتميز المؤمنون من الكافرين، ولتتم عمليّة الفرز على أساس طبيعة الموقف: ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾، إن الرحلة طويلة معقّدة شاقة، ولا بدّ للسائرين فيها من طاقة إيمانية عظيمة، تثبت أمام الشدائد والأهوال، وتصمد أمام التحديات، وتواجه العقبات بعزم وصبر وإيمان.. لأن المعركة قد تسلب من الإنسان أمنه وثروته وراحته، وربما تسلب منه حياته في بداية الشوط أو نهايته، والمطلوب أن لا تسلبه إيمانه حتى يواجه به العقبات بعزم وصبر.

8. كان الفرز الإيماني جاهزا في الساحة، فها هم الحواريون الذين فتحوا قلوبهم للرسول، وعاشوا حركة رسالته في روحانية وفكر ومعاناة، وأدركوا ما ينتظرهم من نعيم الآخرة ورضوان الله أمام ما ينتظرهم من عقبات وشدائد وأهوال.. استجابوا في كلمات حاسمة تهزّ الساحة بالعزم والتصميم والإرادة: ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ الذين يعرفون طبيعة التحدي وخطورة الموقف ودرجة التضحية، فهي بحاجة إلى العقل والحركة والوعي والإرادة القوية.

9. ويتابعون الحديث عن منطلقات هذه النصرة.. فهم قد آمنوا بالله.. ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾ والإيمان يعني التسليم، والتسليم يعني التصميم والقناعة واليقين في الخط الذي يبدأ من الله وينتهي إليه، لأن الإيمان هو موقف للحياة يستوعب كل التفاصيل من خلال ما يواجهه الإنسان من أوضاع، وما يقوم به من أعمال، وما يرتبط به من علاقات، وما ينطلق فيه من تطلّعات للمستقبل.. ليكون الخط الفاصل بين الإيمان والكفر فاصلا على مستوى الممارسة لا على مستوى النظرية والكلمة.

10. بهذه الروح، وفي أجواء هذا التصور، كانوا يريدون التأكيد الحي لموقفهم الصلب بشهادة الرسول لهم بإسلام الكلمة والقلب والعمل لله الواحد، في ما يريد وما لا يريد: ﴿واشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ وهذه الشهادة تعطي للموقف بعدا مهما على صعيد حركة الإسلام في داخل النفس، فإن الفكرة قد تضعف إذا بقيت مجرّد فكر وشعور، ولكنها تشتد كلما تحوّلت إلى معاناة في الروح وإعلان في حركة الإنسان في الحياة، لأن الموقف يتخذ لنفسه معنى المسؤولية المتحركة أمام الله والناس، من خلال الإيحاء بإلزامه بما التزم به، وربما كان هذا هو السر في أن إعلان الشهادة من قبل المسلم يعتبر عنصرا أساسيا في إسلام المسلم، فلا يكتفي بما يربط قلبه عليه من عقيدة وإيمان.

11. لم يقف الحواريون عند هذا الحدّ في التعبير عن إسلامهم وإيمانهم، فهم يعرفون أن الرسول بشر يوحى إليه من الله، وأن الله هو الذي تقدّم إليه الشهادة للتعبير عن عمق الإخلاص في العقيدة والعبادة، وأن الشهادة للرسول لا تمثل إلّا الإعلان له بأنه ليس وحده في الساحة، وليس وحده في المعركة، وأن صوته لم يذهب في الفراغ، كما تذهب الأصوات الضائعة في أجواء الجحود والكفران.. فهناك المؤمنون الذين يتقدمون معه في خطّ الجهاد والدعوة إلى الله، وهناك أصواتهم الهادرة التي تشهد الرسول بإسلامها، ليسمع الجاحدون كيف تحوّل الإيمان إلى قوة لا تخاف من الإعلان عن مواقفها المضادّة لقوة الكفر، إنهم يشهدون الرسول، ولكنهم في نهاية المطاف يقفون بين يدي الله الواحد الذي آمنوا به، وآمنوا برسوله من خلال الإيمان به، وأسلموا له على أساس خط الإيمان الفاعل في الحياة، ليعبّروا له عن هذا الإيمان العميق الممتدّ في وجدانهم وفكرهم، وعن خطواتهم العملية التي تحرّك الإيمان من خلالها إلى حركة واعية تتمثل في اتّباع الرسول.. وليستلهموا منه القوة على مواجهة التحديات لئلا يضعفوا أمام نقاط الضعف التي تواجههم في الداخل والخارج؛ فإن الشعور بحضور الله في حياة الإيمان، من خلال المناجاة الذاتية التي يقدمها المؤمن لله، يمنح المؤمن شعورا بالرضى والطمأنينة والقوّة الواثقة بربها وبنفسها.. في الصعب من مواقف الحياة.

12. وهكذا وقفوا أمام ربهم، ولكن لا ليشهدوه على إيمانهم لأن الله يعلم ما في الصدور، بل ليرفعهم إلى مستوى الدعاة إليه، المجاهدين في سبيله الذين يشهدون على الناس في خط الرسالات الكبيرة في الحياة، فإن الله قد جعل للطليعة الواعية المجاهدة دور الشاهدة على الناس كما جعل للرسل الدور الأول في هذا المجال.. ﴿رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ واتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ الذين يشهدون للمؤمنين الذين استجابوا لله وللرسول دعوته، وحملوا على الكافرين الذين رفضوا الإيمان فكرا وحركة ومنهجا، فانفتحوا على كل المشاكل المتناثرة في صعيد الساحة العامة، بحيث إنهم يملكون القدرة على تقديم تقرير واف شامل لكل مفردات الرسالة وخصومها.

13. واستجاب الله لهم ذلك الدعاء كما يوحي الجوّ الذي تتحرك فيه الآيات، وخاض الحواريون بقيادة عيسى عليه السّلام المعركة مع الكافرين وعاشوا الاضطهاد، وبدأ الكافرون يدبّرون المكائد والحيل في عمليّة مكر خفيّ حاقد ليطفئوا نور الله بمكرهم، ولكن الله شاء غير ما يشاءون ودبّر غير ما يدبرون، فقد أراد الله لرسالته أن تنطلق من مواقع اضطهاد الكافرين لرسله، لأن الاضطهاد يعطي للرسالة قوتها وثباتها وعمقها وامتدادها في مشاعر الناس وأفكارهم.. فهم قد يستسلمون لسلطة الكافرين، وقد يعاونونهم في اضطهاد الرسل وأتباعهم من المؤمنين، وقد يخضعون لما يقدّم لهم من إغراءات السلطة فيعلنون الحرب على الرسالة.. ولكنهم ـ في الوقت نفسه ـ يختزنون في منطقة اللاشعور عمق الاحترام لهؤلاء الدعاة الذين يتمرّدون على العذاب، ويسخرون من الاضطهاد، وينتصرون على كل نوازع الضعف في نفوسهم، ويحوّلون الحزن والألم في داخلهم إلى فرح كبير.

14. ثم تبدأ البذور الرسالية تتناثر في أعماقهم من خلال كلمة يسمعونها هنا، ولفتة يشاهدونها هناك، وموقف يواجهونه ويقفون فيه مع رسالاتهم.. وتنمو البذور بعد ذلك لتتحوّل إلى عشب إيماني، وخضرة روحية يانعة تهتز بها الروح ويزهو بها الشعور، وتكون المفاجأة، فهؤلاء الجلادون يتحوّلون إلى مؤمنين خاشعين يطلبون من الله التوبة ومن الرسول وأتباعه العفو، وهؤلاء المتفرّجون الذين يصفقون للسلطة عندما تضطهد الرساليين يتحوّلون إلى عاملين في ساحة الإيمان.. ويتحوّل التصفيق في أكفّهم إلى الجانب الآخر، فيصفقون لمواقف الجهاد في نهاية المطاف.. وهكذا كان تدبير الله لحركة الرسالات في تخطيط بعيد المدى، وإذا دبّر الله أمرا فإنه خير من يدبّر، لأنه هو الذي يملك زمام لحياة والإنسان في كل مصادره وموارده.

15. ﴿ومَكَرُوا ومَكَرَ اللهُ واللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ﴾ وقد أشرنا في المفردات إلى أن المكر لا ينحصر في التحرك الخفي‏ السيّئ ـ كما هو المعروف لدى الناس ـ بل هو الطريقة الخفية التي يراد منها تعطيل مبادرات الآخرين عما يريدونه على مستوى الفكرة والواقع، سواء كان ذلك خيرا أو شرا، وفي ضوء هذا جاء وصف المكر بالسيّئ في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: 43]، مما يوحي بأن هناك مكرا سيئا ومكرا حسنا، ولهذا أمكن نسبة المكر إلى الناس الذين دبروا لعيسى عليه السّلام المكائد في خططهم الشيطانية التي حاولوا فيها إسقاط رسالته وإبطال دعوته وإبعاده عن ساحة التغيير الرسالي للواقع وتهديد حياته بالقضاء عليه ـ وهذا هو المكر السيّئ ـ كما أمكن إسناد المكر الحسن إلى الله سبحانه وتعالى الذي خطط ودبّر لحفظ حياة نبيه وصون دعوته وإعداد الفرص الكفيلة بإنجاح رسالته في مدى الامتداد الزمني، وإذا كان الله هو الذي يدبر بمكره الحسن، فهل يملك أحد أن يقف أمامه أو يأمن مكره؟ إنّه الذي يملك الأمر كله، ويحيط به من كل جهاته، ويحركه من خلال حكمته، بينما لا يملك الآخرون من الكافرين إلا القليل القليل مما مكنهم الله به من القوة التي أراد لهم أن يوجهوها في طريق الخير فوجهوها في طريق الشر.

16. هكذا نستوحي من هذه المقابلة بين مكر الله ومكر الناس كيف يتحرك الصراع بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والخير والشرّ، لتكون النتيجة في نهاية المطاف للحق والإيمان والخير، لأنها إرادة الله التي لا بد من أن تصل إلى غاياتها ولو بعد حين.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/41.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان اليهود ينتظرون مجيء المسيح بموجب ما بشّرهم به موسى، قبل أن يولد، ولكنّه عندما ظهر، وتعرّضت مصالح جمع من الظالمين والمنحرفين من بني إسرائيل للخطر، لم يبق معه إلّا نفر قليل، بينما تركه الذين احتملوا أن يؤدّي قبولهم دعوة المسيح والتقيّد بالقوانين الإلهية إلى ضياع مصالحهم، بعد أن أعلن عيسى دعوته وأثبتها بالأدلّة الكافية، أدرك أنّ جمعا من بني إسرائيل يصرّون على المعارضة والعصيان ولا يتركون المعاندة والانحراف.

2. ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾، فنادى في أصحابه و﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ فاستجاب لندائه نفر قليل، كانوا أطهارا سمّاهم القرآن ب (الحواريّين)، لبّوا نداء المسيح ولم يبخلوا بشيء في سبيل نشر أهدافه المقدّسة.

3. أعلن الحواريون استعدادهم لتقديم كلّ عون للمسيح، وقالوا: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.. لاحظ أنّ الحواريين لم يقولوا: نحن أنصارك بل لكي يعربوا عن منتهى إيمانهم بالتوحيد وليؤكّدوا إخلاصهم، ولكن لا يشمّ من كلامهم أيّ رائحة للشرك، قالوا: نحن أنصار الله، ننصر دينه، ونريدك شاهدا على هذه الحقيقة، لعلّهم قد شمّوا منذ ذلك اليوم رائحة الانحراف في المستقبل وأنّ هناك من يستدعي الوهيّة عيسى من بعده، فسعوا ألّا يكون في كلامهم ما يمكن أن يتذرّعوا به، ضمنا نلاحظ أن الحواريين عبّروا في كلامهم عن كونهم مسلمين، وهذا يدلّ على أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء عليهم السّلام، وهنا ميّز المسيح عليه السّلام أتباعه المخلصين من الأعداء والمنافقين كيما يضع لدعوته برنامجا دقيقا وخطة مدروسة كما صنع نبي الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك في بيعة العقبة.

4. وبعد أن قبل الحواريّون دعوة المسيح إلى التعاون معه واتّخاذه شاهدا عليهم في إيمانهم، اتّجهوا إلى الله يعرضون عليه إيمانهم قائلين: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾، ولمّا كانت دعوى الإيمان لا تكفي وحدها، فقد اتّبعوها ذلك بقيامهم بتنفيذ أوامر الله واتّباع رسوله المسيح، وقالوا مؤكّدين: ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾

5. وعندما يتغلغل الإيمان في روح الإنسان لا بدّ أن ينعكس ذلك على عمله، فبدون العمل يكون ادّعاؤه الإيمان تقوّلا، لا إيمانا حقيقيا، بعد ذلك طلبوا من الله قائلين‏ ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾، والشاهدون هم أولئك الذين لهم صفة قيادة الأمم، ويوم القيامة يشهدون على أعمال الناس الحسنة والسيّئة.

6. وبعد أن انتهى الحواريّون من شرح إيمانهم، أشاروا إلى خطط اليهود الشيطانية، وقالوا: إنّ هؤلاء ـ لكي يقضوا على المسيح، وعلى دعوته، ويصدّوا انتشار دينه ـ وضعوا الخطط الماكرة، إلّا أن ما رسمه الله من مكر فاق مكرهم وكان أشدّ تأثيرا ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾

7. الحواريون: جمع حوري من مادة (حور) بمعنى الغسل والتبييض، وقد تطلق على الشيء الأبيض، لذلك يطلق العرب على الطعام الأبيض (الحواري)، و(حور) جمع حوراء وهي البيضاء البشرة، أمّا سبب تسمية تلامذة المسيح بالحواريّين فقد ذكرت له احتمالات كثيرة، ولكن الأقرب إلى الذهن، وهو الوارد في أحاديث أئمّة الدين، هو لأنّهم فضلا عن طهارة قلوبهم وصفاء أرواحهم، كانوا دائبي السعي في تطهير الناس وتنوير أفكارهم وغسلهم من أدران الذنوب، وهذا ما أكّده حديث عن الإمام الرضا عليه السّلام.

تكلّم القرآن على الحواريّين في سورة الصف، الآية 14، مشيرا إلى إيمانهم، ولكن يتبيّن ممّا نقرأه في الإنجيل بشأن الحواريّين أنّهم جميعا ارتكبوا بعض الزلل بالنسبة للمسيح، أمّا أسماؤهم كما جاءت في إنجيل متّى ولوقا، الباب السادس، فهي: 1 ـ بطرس، 2 ـ اندرياس، 3 ـ يعقوب، 4 ـ يوحنّا، 5 ـ فيلوبس، 6 ـ برتولولما، 7 ـ توما، 8 ـ متّى، 9 ـ يعقوب بن حلفا، 10 ـ شمعون (الغيور)، 11 ـ يهوذا أخو يعقوب، 12 ـ يهوذا الاسخريوطي الذي خان المسيح.

8. يذكر المفسّر المعروف المرحوم الطبرسي في (مجمع البيان) أنّ الحواريّين كانوا يرافقون المسيح في رحلاته، كلّما عطشوا أو جاعوا رأوا الماء والطعام مهيّأأمامهم بأمر الله، فكانوا يرون في ذلك فخرا لهم أيّ فخر، وسألوا المسيح: أهناك من هو أفضل منّا؟ فقال: نعم، أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه، وعلى أثر ذلك اشتغلوا بغسل الملابس للناس لقاء أجر، وانشغلوا بذلك؛ فكان ذلك درسا عمليا للناس بأنّ العمل ليس عيبا أو عارا.

9. في القرآن آيات مشابهة لهذه ينسب فيها المكر إلى الله‏، كلمة (المكر) بالمصطلح المعاصر تختلف كثيرا عن معناها اللغوي، فالمكر بالمعنى المعاصر هو وضع الخطط الشيطانية الضارّة، ولكن معناها بلغة العرب هو البحث عن العلاج لأمر مّا، وقد يكون حسنا أو سيّئا، في كتاب (المفردات) للراغب نقرأ: المكر: صرف الغير عمّا يقصد ـ خيرا كان أم شرّا ـ. وفي القرآن وردت كلمة (المكر) مقرونة بكلمة (الخير)، إذ يقول‏ ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، كما وردت مع (السيّئ): ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾، وعليه يكون المقصود من الآية هو أنّ أعداء المسيح وضعوا الخطط الشيطانية للوقوف بوجه هذه الدعوة الإلهيّة، ولكن الله لكي يحفظ حياة نبيّه ويصون الدعوة مكر أيضا فأحبط كلّ ما مكروه.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/511.

30. المسيح والتوفي ومصير من بعده

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈30⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 55 ـ 58]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾، قال: أجورهم أن يدخلهم الجنة(1).

__________

(1) ابن أبي عاصم في السنة: ٢/٤٠٨.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (ستكون فتن)، قلت: فما المخرج منها؟ قال: كتاب الله هو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم(1).

__________

(1) الترمذي: ٥/١٧١.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ مع النبي؛ لأن كل نبي شاهد أمته(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٧٨.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ إني مميتك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ﴾، يعني: رافعك ثم متوفيك في آخر الزمان(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أدوا فرائضي(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَالذِّكْرِ﴾ القرآن الحكيم الذي قد كمل في حكمته(4).

5. روي أنّه قال: إن ملك بني إسرائيل أراد قتل عيسى، وقصده أعوانه، فدخل خوخة فيها كوة، فرفعه جبرائيل من الكوة إلى السماء، فقال الملك لرجل منهم خبيث: ادخل عليه، فاقتله، فدخل الخوخة، فألقى الله عليه شبه عيسى، فخرج إلى الناس فخبرهم أنه ليس في البيت، فقتلوه وصلبوه، وظنوا أنه عيسى(5).

6. روي أنّه قال: ما لبس موسى إلا الصوف، وما لبس عيسى إلا الشعر حتى رفع(6).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٥٠.

(2) ابن عساكر: ٤٧/٤٧٠.

(3) ابن جرير: ٥/٤٥٧.

(4) ابن جرير: ٥/٤٥٩.

(5) تفسير الثعلبي: ٣/٧٩.

(6) تفسير الثعلبي: ٣/٨٢.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) يعني: الحواريين فوق الذين كفروا(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٨٣.

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: هم أهل الإسلام الذين اتبعوا دينه وسنته من أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٨٣.

الخراساني:

روي عن عطاء بن السائب، قال: كنت جالسا مع أبي البختري الطائي والحجاج يخطب، فقال: مثل عثمان عند الله كمثل عيسى ابن مريم، قال فرفع رأسه ثم تأوه، ثم قال ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾، إلى قوله: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، قال فقال أبو البختري: كفر، ورب الكعبة(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة، ١٦/٩٨.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ من الأرض(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾: يعني: وفاة المنام، رفعه الله في منامه، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لليهود: (إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: يعني: ومخلصك من اليهود؛ فلا يصلون إلى قتلك(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ هم المسلمون، ونحن منهم، ونحن فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة(4).

5. روي أنّه قال: عيسى مرفوع عند الله، ثم ينزل قبل يوم القيامة، فمن صدق عيسى ومحمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وكان على دينهما لم يزالوا ظاهرين على من فارقهم إلى يوم القيامة(5).

6. روي أنّه قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم راهبا نجران، فقال أحدهما: من أبو عيسى؟ وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يعجل حتى يؤامر ربه؛ فنزل عليه: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ إلى قوله: ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾(6).

7. روي أنّه قال: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ طهره من اليهود، والنصارى، والمجوس، ومن كفار قومه(7).

8. روي أنّه قال: لم يكن نبي كانت العجائب في زمانه أكثر من عيسى، إلى أن رفعه الله، وكان من سبب رفعه أن ملكا جبارا يقال له: داوود بن نوذا، وكان ملك بني إسرائيل، هو الذي بعث في طلبه ليقتله، وكان الله أنزل عليه الإنجيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ورفع وهو ابن أربع وثلاثين سنة من ميلاده، فأوحى الله إليه: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، يعني: ومخلصك من اليهود؛ فلا يصلون إلى قتلك(3).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/١٢٢.

(2) ابن جرير: ٥/٤٤٨.

(3) ابن عساكر: ٤٧/٤٧٠.

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٦٦٣.

(5) ابن المنذر: ١/٢٢٣.

(6) ابن شبة في تاريخ المدينة: ٢/٥٨٣.

(7) ابن جرير: ٥/٤٥٣.

منبه:

روي عن وهب بن منبه (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: طرقوا عيسى في بعض الليل، فأسروه، ونصبوا خشبة ليصلبوه، فلما أرادوا صلبه أظلمت الأرض، وأرسل الله الملائكة، فحالوا بينهم وبينه، فصلبوا مكانه رجلا يقال له: يهوذا، وهو الذي دلهم عليه، وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم، ثم قال ليكفرن أحدكم قبل أن يصيح الديك، ويبيعني بدراهم يسيرة، فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، فأتى أحد الحواريين إلى اليهود، فقال لهم: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها، ودلهم عليه، فألقى الله عليه شبه عيسى لما دخل البيت، فرفع عيسى، وأخذ الذي دلهم عليه، فقال: أنا الذي دللتكم عليه، فلم يلتفتوا إلى قوله، وقتلوه، وصلبوه، وهم يظنون أنه عيسى، فلما صلب شبه عيسى جاءت أم عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها من الجنون تبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى، فقال لهما: علام تبكيان؟ فقالتا: عليك، فقال: إن الله قد رفعني، ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبه لهم، فلما كان بعد سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى: اهبط على مريم في المحرابـ موضع لأمه في خبائها ـ، فإنها لم يبك عليك أحد بكاها، ولم يحزن عليك أحد حزنها، ثم لتجمع لك الحواريين فبثهم في الأرض دعاة إلى الله تعالى، فأهبطه الله عليها، فاشتعل الجبل حين هبط نورا، فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه إليه، وتلك الليلة هي الليلة التي يدخن فيها النصارى، فلما أصبح الحواريون حدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم، فذلك قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ والله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(1).

2. روي أنّه قال: توفى الله عيسى بن مريم ثلاث ساعات من النهار، حتى رفعه إليه(2).

3. روي أنّه قال: أماته الله ثلاثة أيام، ثم بعثه ورفعه(3).

4. روي أنّه قال: إن الله توفى عيسى سبع ساعات، ثم أحياه، وأن مريم حملت به ولها ثلاث عشرة سنة، وأنه رفع ابن ثلاث وثلاثين، وأن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين(4).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٧٩.

(2) ابن جرير: ٥/٤٥٠.

(3) ابن عساكر: ٤٧/٤٧٠.

(4) الحاكم: ٢/٥٩٦ مُطَوَّلًا.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: (إن اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم، فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى: إن منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، وأخذوا الشاب الذي القي عليه شبح عيسى، فقتل وصلب، وكفر الذي قال له عيسى: تكفر قبل أن تصبح اثنتي عشرة كفرة(1).

__________

(1) تفسير القمّي: 1/103.

ابن الزبير:

روي عن محمد بن جعفر بن الزبير (ت 115 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إذ هموا منك بما هموا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ القاطع، الفاصل، الحق، الذي لم يخالطه الباطل، من الخبر عن عيسى، وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلن خبرا غيره(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٥٣.

(2) ابن جرير: ٥/٤٥٨.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ هذا من المقدم والمؤخر، أي: رافعك إلي ومتوفيك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسنته، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٦١.

(2) ابن جرير: ٥/٤٥٤.

الوراق:

روي عن مطر الوراق (ت 125 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: في الآية: متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت(1).

2. روي أنّه قال: معناه: إني قابضك(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٤٨.

(2) تفسير الثعلبي: ٣/٨١.

البناني:

روي عن ثابت البناني (ت 127 هـ) أنّه قال: رفع عيسى بن مريم وعليه مدرعة، وخفا راع، وخذافة يحذف بها الطير(1).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/١٢٢.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلا من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم، وصعد بعيسى إلى السماء، فذلك قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ والله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: أما: ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ فيقال: هم المؤمنون، ويقال: بل هم الروم(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٤٧.

(2) ابن جرير: ٥/٤٥٥.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأصحابه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٦٣.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ يعني: وفاة المنام، رفعه الله في منامه(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٤٨.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: (كان بين داوود وعيسى بن مريم أربع مائة سنة، وكانت شريعة عيسى أنه بعث بالتوحيد والإخلاص، وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى، وأنزل عليه الإنجيل، وأخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيين، وشرع له في الكتاب إقام الصلاة مع الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحريم الحرام وتحليل الحلال، وأنزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود، وليس فيها قصاص ولا أحكام حدود، ولا فرض مواريث، وأنزل عليه تخفيف ما كان نزل على موسى في التوراة، وهو قول الله تعالى في الذي قال عيسى بن مريم لبني إسرائيل: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ وأمر عيسى من معه ممن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والإنجيل(1).

2. روي أنّه قال: (رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم، ومن نسج مريم، ومن خياطة مريم، فلما انتهى إلى السماء نودي: يا عيسى، ألق عنك زينة الدنيا(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/175.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ على دينك يا عيسى، وهو الإسلام، ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: اليهود وغيرهم، وأهل دين عيسى هم المسلمون فوق الأديان كلها: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ في الآخرة، ﴿فَاحْكُمْ﴾ يعني: فأقضي ﴿بَيْنَكُمْ﴾ يعني: بين المسلمين وأهل الأديان ﴿فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ﴾ من الدين ﴿تَخْتَلِفُونَ﴾(1).

3. روي أنّه قال: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾، يعني: فيوفوا أجورهم في الآخرة(1).

4. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ﴾ الذي ذكره الله تعالى في هذه الآيات ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾ يعني: من البيان(1).

5. روي أنّه قال: ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾، يعني: المحكم من الباطل(1).

6. روي أنّه قال: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، يعني: أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

7. روي أنّه قال: ثم أخبر الله تعالى عن منزلة الفريقين في الآخرة، فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: كفار أهل الكتاب: ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا﴾ يعني: القتل أو الجزية، ﴿و﴾ في: ﴿الْآخِرَةِ﴾ عذاب النار، ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ يعني: من مانعين يمنعونهم من النار(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٩.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: فرفعه إياه إليه توفيه إياه، وتطهيره من الذين كفروا(1).

2. روي أنّه قال في الآية: ناصر من اتبعك على الإسلام على الذين كفروا إلى يوم القيامة(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٤٩.

(2) ابن جرير: ٥/٤٥٤.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم ذكر رفعه عيسى إليه حين اجتمعوا لقتله، قال ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ والله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، ثم أخبرهم ورد عليهم فيما أقر اليهود بصلبه كيف رفعه وطهره منهم، فقال الله: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾(1).

2. روي أنّه قال: فأقبلت مريم بعيسى حتى نزلت إيليا، وتحدثوا به وبقدومه، وهم إذ ذاك تحت أيدي الروم، والروم أهل وثن، إنما بعثه إليهم ليستنقذهم به ولينقذهم به، وليظهرهم على من خالفهم، فعدوا عليه بعد أن رأوا منه الآيات والعبر البينة، فهموا به، وأجمعوا على قتله، وقتل من معه ممن قال تابعه، وآمن به، وإنما كانوا اثني عشر رجلا من الحواريين، وبعضهم يقول: ثلاثة عشرة، وكان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليكلمه رجل يقال له: رواد، فلم يفظع عبد من عباد الله فيما ذكر لنا فظعه، ولم يجزع منه جزعه، ولم يدعو الله في صرفه عنه دعاه، حتى إنه ليقول فيما يزعمون: اللهم إن كنت صارفا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني، حتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دما، فدخل المدخل الذي أجمعوا ليدخلوا عليه فيه، فيقتلوه هو وأصحابه، وهم ثلاثة عشر رجلا بعيسى، فلما أيقن أنهم داخلون عليه، وأتاه من الله تعالى أنه متوفيه ورافعه إليه، فقال: يا معشر الحواريين، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يشتبه للقوم، فيقتلوه مكاني؟ فقال جرجس: أنا، قال فاجلس، فدخلوا وقد رفع عيسى، وكان عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة قد رأوهم، وأحصوا عدتهم، فلما دخلوا عليهم ليأخذوا عيسى ـ فيما يرون ـ وأصحابه فقدوا من العدة رجلا، فهو الذي اختلفوا فيه، وكانوا لا يعرفون عيسى حتى جعلوا للفرطوس ثلاثين درهما على أن يعرفهموه، فقال لهم: نعم، إذا دخلتم عليه فإني سأقبله، فهو الذي أقبل، فلما دخل دخلوا معه وقد رفع عيسى، رأى جرجس في صورة عيسى، فلم يشك أنه هو، فأكب عليه فقبله، وأخذوه وصلبوه، ثم إن بطرس ندم على ما صنع، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه، فهو ملعون في النصارى، وكان أحد المعدودين من أصحابه(2).

3. روي أنّه قال: النصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياه الله(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٦٠.

(2) ابن المنذر: ١/٢١٩.

(3) ابن جرير: ٥/٤٥٠.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ قابضك و﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ و﴿رافعك﴾ واحد، ولم يمت بعد حتى يقتل الدجال، وسيموت، وقرأ قول الله تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلا، وينزل كهلا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ قال الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم: ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة، فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب، هم في البلدان كلها مستذلون(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٤٩.

(2) ابن جرير: ٥/٤٥٥.

عيينة:

روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: ﴿والله لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ لا يقرب الظالمين(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٦٤.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: (إنه ما شبه أمر أحد من أنبياء الله وحججه للناس إلا أمر عيسى وحده، لأنه رفع من الأرض حيا وقبض روحه بين السماء والأرض، ثم رفع إلى السماء ورد عليه روحه، وذلك قوله عز وجل: ﴿إِذِ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ﴾ وقال الله تعالى حكاية لقول عيسى يوم القيامة: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(1).

__________

(1) عيون أخبار الرّضا: 1/215.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: سألت عن قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}، والجواب: قد سئل عن هذه المسألة جدي القاسم صلوات الله عليه، فقال: معنى ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ هو: متوفيك إلي صحيحا غير مكلوم، ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ من الأرض التي هي مأوى كل أثيم ظلوم غشوم، فرفعه الله ـ لا شريك له ـ كما قال إلى سمائه غير مقتول، ولا مجروح يجرح في عضو من أعضائه، كما قال الله سبحانه: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه}، ثم قال ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ ممن يدرك عيسى، وقوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ يقول: قبل موت عيسى ووفاته، وهو صلى الله عليه حي في السماء لم يمت بعد، وهذه خاصة له من الله، لم يدركها قبله ولا بعده أحد، ولا بد بعد طول بقائه من أن يعيش إلى ما وعد الله به غيره من فنائه، كما قال سبحانه: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/162.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾

أ. قيل: هو على التقديم والتأخير: ورافعك إلىّ، ثم متوفيك بعد نزولك‏ من السماء، ولكن هو التقديم والتأخير، ولم يكن في الذكر فهو سواء؛ لأنا قد ذكرنا أن ليس في تقديم الذكر، ولا في تأخيره ما يوجب الحكم كذلك؛ لأنه كم من مقدّم في الذكر هو مؤخّر في الحكم، وكم من مؤخر في الذكر هو مقدم في الحكم، فإذا كان كذلك: لم يكن في تقديم ذكر الشيء، ولا في تأخيره ـ ما يدل على إيجاب الحكم كذلك‏؛ كقوله: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: 42]: فإنما هو قبض الأرواح؛ فيحتمل الأول كذلك، ويحتمل توفي الجسم، أي: متوفيك من الدّنيا، أي: قابضك، وليس بوفاة موت‏.

ب. وعن ابن عباس: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ أي: مميتك‏ وهو ما ذكرنا؛ ليعلم أنه ليس بمعبود.

قوله تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ هو على تعظيم عيسى عليه السلام ليس على ما قالت المشبهة بإثباتها المكان له؛ لأنه لو كان في قوله: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ يوجب ذلك، يجب أن يكون أهل الشام أقرب إليه؛ لأن إبراهيم عليه السلام قال: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 99]، والكفرة إليه قريب منه؛ كقوله: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ دل هذا أن ما قالوا خيال فاسد ـ تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا ـ ولكن على التعظيم والتبجيل‏، أعني: المضاف إليه، والأصل في هذا: أن الخاص إذا أضيف إلى الله فإنما يراد به تعظيم ذلك الخاص؛ نحو ما قال: (بيت الله)؛ على تعظيم البيت، ﴿نَاقَةَ اللهِ﴾ [الشمس: 13]؛ فهو على تعظيم الناقة، ونحوه مما يكثر وقوعه، وإذا أضيف الجماعة إليه، فهو على إرادة تعظيم الربّ ـ جل ثناؤه ـ نحو: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: 107] ونحوه؛ كله على إرادة تعظيم الربّ، جل ثناؤه.

2. في قوله تعالى: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجوه:

أ. قيل: مطهرك من أذى الكفرة، من بين أظهر المخالفين لك‏

ب. وقيل: ومطهرك من الكفر والفواحش، ويحتمل: مطهرك ممّا قالوا فيك.

3. قوله تعالى: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: يجعله فوق الذين كفروا بالقهر والغلبة والقتل.

ب. ويحتمل: بالحجّة.

ج. ويحتمل: في المنزلة والدرجة في الآخرة.

4. يحتمل قوله: ﴿وَمُطَهِّرُكَ﴾ بقتل الكفرة من وجه الأرض؛ على ما ذكر في بعض القصّة: أنه ينزل من السماء، فلا يبقى على وجه الأرض كافر إلا وهو يقتله مع الذين اتبعوه؛ فذلك تطهيره وجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا.

5. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ ذكر هذا ـ والله أعلم ـ وإن كان المرجع للكل إليه في كل حال؛ لأنهم يقرّون ويعترفون في ذلك اليوم أن المرجع إليه، وكانوا ينكرون ذلك في الدّنيا؛ وهو كقوله: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لله﴾ [الحج: 56] الملك كان في ذلك اليوم وفي غير ذلك اليوم، ولكن معناه: لا ينازعه أحد يومئذ في ملكه، ويقرون له بالملك، وفي الدّنيا أنكروا ملكه؛ وهو كقوله: ﴿وَبَرَزُوا لله جَمِيعًا﴾ [إبراهيم: 21] كلهم بارزون لله في كل وقت؛ لكنهم أنكروا بروزهم في الدنيا له؛ فيقرون يومئذ بالبروز له؛ فكذلك الأول.

6. قوله تعالى: ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: أحكم بينكم من المحقّ منكم، ومن المبطل.

ب. ويحتمل: أحكم بينكم: أي: أجزيكم على قدر أعمالكم.

ج. ويحتمل: أحكم بينكم أي، أجزى كلا بعمله على ما يستوجبون.

7. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ قيل: القتل، والجزية، وفي الآخرة: العذاب‏.

8. قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: متوفيك‏ يحتمل توفّي الموت بما يقبض روحه كفعله بجميع البشر؛ تكذيبا لمن ظن أنه الله، أو ابنه، لا يحتمل أن يموت، وقد ألزمهم هذا أيضا بوجهين ظاهرين ـ وإن كان فيما عليه خلقته وجوهره، ثم تقلبه من حال إلى حال في نفسه، ومكان إلى مكان في حق القرار والحاجة ـ كفاية لمن يعقل الحقائق، وبلغة لمن تأمّل الأشياء عبرا:

أحدهما: بقوله: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: 75]، وقوله: ﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [البقرة: 87] حتى ينطق به لسان كل منهم، ومعلوم إحالة ابن بشر إلها أو ولدا لإله؛ إذ هو يكون أصغر منهما وذلك آية حدثه، وكذلك قوله في المهد: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ﴾ [مريم: 30] إلى آخر ما ذكر، مع ما لو احتمل ذلك لكان آدم ـ عليه السلام‏ ـ الذي هو الأصل، هو المقدم، وهو الذي لا يعرف له والدان أحق أو هو؛ إذ هو بجوهره فهو ولده لا غير، أو ذلك وصف الأولاد

الثاني: ﴿يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ [المائدة: 75]: فأخبر عن حاجته وغلبة الجوع عليه، وفقر نفسه إلى ما يقيمها من الأغذية، ثم في ذلك حاجة إلى الخلاء، واختيار الأمكنة القذرة لقضاء حاجته، وبالله التوفيق.

ب. الثاني: على قبضه بنفسه من بين أظهر أعدائه، ورفعه إلى ما به شرفه، وتطهيره مما كان يحسّ منهم من الكفر وأنواع الفساد، وختمه من بين البشر على وجه آية يكون له عليهم من أول أحوال ظهوره إلى آخر أحوال مقامه فيهم؛ ليكون أوضح لمتبعيه في الآيات، وعلى مخالفيه في قطع العذر، ولا قوة إلا بالله.

9. في الدعاء إلى المباهلة دلالة ظهور التعنت والعناد، وفي تخلفهم عن ذلك دليل‏ علمهم بتعنتهم وخوفهم مما قد وعدوا بالنزول عليهم، ثم لزموا مع ذلك ما كانوا عليه من السفه والعناد؛ ليعلم أن الحيل عمن اعتاد المعاندة منقطعة، ومعلوم أن الدعاء إلى المباهلة لا يكون في أول أحوال الدعوة؛ وإنما يكون بعد توفير الحجة وقطع الشبهة؛ ففي ذلك بيان أنه كانت ثمّ محاجّات، حتى بلغ الأمر هذا، وعلى ذلك أمر القتال أنه لم يوضع في أول أحوال الإرسال، وفي الحال التي للقول وللحق وجه القبول من طريق النصف والعقل؛ وإنما كان [عند ظهور] عند ذلك بالقتال، وفتح الفتوح؛ ليكون آيته في كل وجوه الآيات ظاهرة وحجته بينة، وفي ذلك جواز محاجة الكفرة في التوحيد والرّسالة، لكن على ما قال الله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، و﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا﴾ [الكهف: 22] نهي عن التعمق والخوض فيما تقصر عنه الأفهام، وإن كان معلوما أن لله حججا ظاهرة وغامضة، ولا قوة إلا بالله، وفي ذلك تعليم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: أنه يكون ذلك باللطف والرفق يرى المقصود [به‏] عقله، ويبلغه فهمه، فإن رآه يتعامى في ذلك يوعده ويخوفه بالذي في ذاك من الوعيد، فإن رأيته يكابر عرفت شؤم طبعه وسوء عنصره، يوعده بما جاء به التعليم من الضرب‏ والحبس، فإن نفع ذلك، وإلا بكف شره عن غيره وتطهير الأرض منه؛ فإنه النهاية في القمع، والغاية فيما يحق من معاملة السفهاء لكنه على منازل لا يحتمل انتهاء كل أنواع المآثم إلى هذه الغاية؛ بل فيها ما كان أعظمها دون هذا بكثير ـ والله أعلم ـ لذلك يلزم تعرف مقادير الآثام أولا؛ ليعرف بها ما يحتمل كل إثم من العقوبة فيه والزجر به، ولا قوة إلا بالله.

10. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ لأنه لا يحب الظلم.

﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ قيل‏: ذلك الذي ذكر في هذه الآية: نتلو عليك يا محمد، ﴿مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ هو المحكم، وقيل: ﴿الْحَكِيمُ﴾ أي: من نظر فيه وتفكر يصير حكيما؛ كما قال ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ [يونس: 67]، أي: يبصر فيه

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/383.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، أي متوفيك وفاة قبض وأخذ من غير موت، فيما روي إلا وافياً بكليتك وجميعك، وهو مأخوذ من أخذ الجميع، قال الشاعر:

çولا توفاهم قريش في العدد.. أي يحسب جميعهم في عددهاé

وقيل: إن الله رفعه إلى السماء، وإذا قد رفعه الله إليه وإلى حيث شاء فلسنا نبالي كان في سماء أو في أرض، والله أعلم بذلك.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 259.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} أي إلى كرامتي ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هو إخراجه من بينهم غير ظافرين بما أرادوا من قتله ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أي بالعز والغلبة ليكون ذلك كالبرهان والحجة.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/142.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ أربعة أقاويل:

أ. أحدها: معناه إني قابضك برفعك إلى السماء من غير وفاة بموت، وهذا قول الحسن، وابن جريج، وابن زيد.

ب. الثاني: متوفيك وفاة نوم للرفع إلى السماء، وهذا قول الربيع.

ج. الثالث: متوفيك وفاة بموت، وهذا قول ابن عباس.

د. الرابع: أنه من المقدم والمؤخر بمعنى رافعك ومتوفيك بعده، وهذا قول الفراء.

2. في قوله تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ قولان:

أ. أحدهما: رافعك إلى السماء.

ب. الثاني: معناه رافعك إلى كرامتي.

3. في قوله تعالى: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن تطهيره منهم هو منعهم من قتله.

ب. الثاني: أنه إخراجه من بينهم.

4. في قوله تعالى: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: فوقهم بالبرهان والحجة.

ب. الثاني: بالعز والغلبة.

5. في المعنيّ بقوله تعالى: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن الذين آمنوا به فوق الذين كذّبوه وكذبوا عليه، وهذا قول الحسن، وقتادة، والربيع، وابن جريج.

ب. الثاني: أن النصارى فوق اليهود، لأن النصارى أعز واليهود أذل، وفي هذا دليل على أنه لا يكون لليهود مملكة إلى يوم القيامة بخلاف الروم.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/398.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى﴾ العامل في (إذ) يحتمل أحد أمرين.

أ. أحدهما: قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾ (إذ قال)

ب. والآخر: ذاك‏ ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى﴾

2. عيسى في موضع الضم، لأنه منادى مفرد، ولكن لا يبين فيه لأنه منقوص، وعيسى لا ينصرف لاجتماع العجمة والتعريف على قول الزجاج، لأنه حمل الألف على حكم الملحق بمخرج ولم يحملها على التأنيث، فأما الألف في زكريا، فلا يكون إلا للتأنيث، لأنه لا مثال له في الأصول، وإذا عرب جرى على قياس كلامهم في أن الالف الزائدة لا تخلو أن تكون للتأنيث أو للإلحاق، فإذا بطل أحدهما صح أنها للآخر، وإنما وجب ذلك، لأنه يجري مجرى الاعراب بالعوامل، فأما الاشتقاق، فلا يجب، لأنه تصريف من أصل المشتق، وليس العربي بأصل للعجمي، وذلك نحو العيس وهو بياض الإبل والعوس وهو السياسة لو كان عربياً، لصلح أخذه من أحد الأصلين، وإذا أخذ من أحدهما امتنع من الآخر، فلذلك إذا أخذ من العجمي امتنع من العربي.

3. في قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: قابضك برفعك من الأرض إلى السماء من غير وفاة موت في قول الحسن وابن جريج وابن زيد.

ب. الثاني: متوفيك وفاة نوم في قول ابن عباس ووهب بن منبه.

ج. الثالث: ان فيه تقديماً وتأخيراً، ومعناه إني رافعك، ومتوفيك فيما بعد ذكره الفراء.

4. في قوله تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: رافعك في السماء فجعل ذلك رفعاً إليه للتفخيم واجراءه على طريق التعظيم.

ب. والآخر: مصيرك إلى كرامتي كما يقال رفع إلى السلطان، ورفع الكتاب إلى الديوان، وقال ابراهيم‏ ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾، وإنما ذهب من العراق إلى الشام، وإنما أراد إلى حيث أمرني ربي بالمضي إليه.

5. في قوله تعالى: ﴿وَمُطَهِّرُكَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: مطهرك بإخراجك من بين الارجاس، لأن كونه في جملتهم بمنزلة التنجيس له بهم، وإن كان عليه السلام طاهراً في كل حال، وإنما ذلك على إزالته عن مجاورة الانجاس.

ب. الثاني: قال أبو علي: تطهيره: منعه من كفر يفعلونه بالقتل الذي كانوا هموا به لأن ذلك نجس طهره الله منه.

6. قوله تعالى: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل أن يكون جعلهم فوقهم بالحجة والبرهان.

ب. ويحتمل أن يكون ذلك بالعز والغلبة.

7. اختلف في المعني بقوله تعالى: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾:

أ. قال الحسن، وقتادة، والربيع: المعني بهذه الآية أهل الايمان، وما جاء به دون الذين كذبوه أو كذبوا عليه.. وهو أقوى، لأنه أظهر إذا كان على جهة الترغيب في الحق.

ب. وقال ابن زيد: المعني به النصارى، وهم فرق اليهود من حيث كانوا اليهود أذل منهم إلى يوم القيامة، ولهذا زال الملك عنهم وإن كان ثابتاً في النصارى في بلاد الروم وغيرها، فهم أعز منهم وفوقهم.

ج. وقال الجبائي فيه دلالة على أنه لا يكون لليهود مملكة إلى يوم القيامة كما للروم.

8. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ وجه اتصاله بالكلام كأنه قال: أما الدنيا فأنتم فيها على هذه الحال، وأما الآخرة، فيقع فيها التوفية للحقوق على التمام والكمال.

9. إنما عدل عن الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ لتغلب الحاضر على الغائب لما دخل معه في المعنى كما يقول بعض الملوك: قد بلغني عن أهل بلد كذا جميل، فأحسن إليكم معشر الرعية.

10. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، معنى قوله ﴿فَأَمَّا﴾ تفصيل المجمل على قولك فيجازي العباد أما المؤمن فبالثواب وأما الكافر فبالعقاب.

11. ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ﴾ العذاب: استمرار الآلام لأن أصله استمرار الشيء، فمنه العذوبة لاستمرار العذب في الحلق، ومنه العذبة لاستمرارها بالحركة.

12. ﴿شَدِيدًا﴾ الشدة صعوبة بالانتقام، والقوة: عظم القدرة، فالشدة نقيض الرخاوة، والقوة نقيض الضعف، فشدة العذاب قد تكون بالتضعيف، وقد تكون بالتحبيس.

13. ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ فعذابهم في الدنيا إذلالهم بالقتل، والأسر، والسبي، والخسف، والجزية، وكلما فعل على وجه الذلة والاهانة، وفي الآخرة عذاب الأبد، والفرق بين الآخرة والانتهاء أن الآخرة قد تكون بعد العمل، فأما الانتهاء فجزء منه لا يكون بعد كماله هذا إذا اطلق فان أضيف فقيل آخر العمل فمعناه انتهاء العمل.

14. ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ فالنصرة هي المعونة على العدو خاصة، والمعونة هي زيادة في القوة وقد تكون على العدو، وغير العدو.

15. سؤال وإشكال: لم كرر الوعد هاهنا ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، وقد ذكر في غير هذا الموضع من القرآن؟ والجواب: ليس ذلك بتكرير في المعنى، لأن معنى ذلك آمنوا بك يا عيسى وعملوا الصالحات فيما دعوتهم إليه من الهدى، لأنه تفصيل ما أجمل في قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾

16. قوله تعالى: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ليس بتقييد للوعد بكل واحدة من الخصلتين على اختلاف فائدة الصفتين.

17. في الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة في أن الله تعالى يريد الظلم، لأنه قال ﴿لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ وإذا لم يحب الظالم لم يحب فعل الظلم، لأنه إنما لم يجز محبة الظالم لظلمه، والمحبة هي الإرادة.

18. في الآية دلالة على أنه لا يجازي المحسن بما يستحقه المسيء ولا المسيء بما يستحقه المحسن، لأن ذلك ظلم.

19. معنى التوفية في الآية مساواة مقدار الاستحقاق لأن المقدار لا يخلو أن يكون مساوياً أو زائداً أو ناقصاً، والزيادة على مقدار الاستحقاق لا يجوز أن يعطي ثواب العمل من ليس بعامل لكن تجوز الزيادة على وجه التفضل، فأما التوفية، فواجبة في الحكمة والنقصان لا يجوز، لأنه ظلم.

20. في الآية دلالة على بطلان القول بالتحابط، لأنه تعالى وعد بتوفية الأجور ولم يشرط الإحباط، فوجب حمل الكلام على ظاهره.

21. ﴿ذَلِكَ﴾ اشارة إلى الاخبار عن عيسى، وزكريا، ويحيى، عن الحواريين، واليهود من بني إسرائيل، وهو في موضع نصب بما تقدم، و﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ لما فيه من الآية لمن تذكر في ذلك واعتبر به، والذكر وإن كان حكمة فإنما وصفه بأنه حكيم من حيث لما كان ما فيه من الدلالة بمنزلة الناطق بالحكمة حسن وصفه بأنه حكيم من هذه الجهة، كما وصفت الدلالة بأنها دليل لما فيها من البيان، وذلك لأنه الناطق بالبيان.

22. موضع ﴿نَتْلُوهُ﴾ من الاعراب يحتمل أمرين:

أ. أحدهما: أن يكون رفعاً بأنه خبر ذلك.

ب. الثاني: ألّا يكون له موضع، لأنه صلة ذلك وتقديره: الذي نتلوه عليك من الآيات، ويكون موضع (من الآيات) رفعاً بأنه خبر ذلك، ذكره الزجاج وأنشدوا في مثله:

çعدس ما للعباد عليك إمارة...أمنت وهذا تحملين طليق‏é

بمعنى والذي تحملين طليق.

23. في قوله تعالى: ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: نكلمك به، ويكون وضع ﴿نَتْلُوهُ﴾ موضع نكلم كما يقول القائل: انشأ زيد الكتاب وتلاوة عمرو، فالتلاوة تكون اظهار الكلام على جهة الحكاية.

ب. الثاني: ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ بأمرنا جبريل أن يتلوه عليك على قول الجبائي.

24. الذكر حصول ما به يظهر المعنى للنفس ويكون كلاماً وغير كلام من بيان أو خاطر على‏ البال، وليس إذا ظهر الشيء للنفس دل على صحته، لأن الضدين قد يظهران ولا يجوز صحتهما معاً.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/478.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. التَوَفِّي والاستيفاء واحد، يقال: توفيت من فلان كذا؛ أي استوفيته، ووفى كذا، أي أوفاني، كما تقول: سلمت إليه وتسلمت منه، وقد جرى معنى التوفي على الميت حتى صار كالحقيقة فيه.

ب. الرفع خلاف الوضع، وهو الإصعاد من مكان منخفض إلى مكان مرتفع، ويستعمل في المنزلة توسعًا، يقال: رفيع الجاه، ورفعه الأمير.

ج. المرجع: المصير أخذ من الرجوع.

2. لما بَيَّنَ تعالى ما هم به قوم عيسى من مكره وقتله عقبه بما أنعم عليه من لطيف تدبيره وحسن تقديره فقال سبحانه: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾، وفيه عدة أقوال:

أ. أولها: قابضك برفعك إلى السماء من الأرض من غير وفاة موت، عن الحسن وكعب وابن جريج وابن زيد، وتقديره على هذا إني قابضك وافيًا لم ينالوا منك شيئًا.

ب. ثانيها: متوفيك وفاة موت، عن ابن عباس وابن إسحاق ووهب، ثم اختلفوا:

فقال وهب: توفي ثلاث ساعات، ثم رفع وأحيي.

وقيل: توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله، ورفعه، عن ابن إسحاق.

ج. وثالثها: متوفيك وفاة نوم للرفع إلى السماء، عن الربيع، قال الله تعالى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾

د. ورابعها: أن فيه تقديمًا وتأخيرًا؛ يعني إني رافعك ومطهرك ومتوفيك بعد ذلك، عن الضحاك والفراء، وقيل: الواو لا توجب الترتيب، ففي الآية أنه تعالى يفعل هذه الأمور فأما كيف يفعل ومتى يفعل؟ فهو موقوف على الدليل، وقد ثبت بالدليل أنه حي، وورد الخبر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سينزل ويقتل الدجال، وليس في العقل والشرع ما يمنع منه إلا أن مشايخنا يقولون: إنه إن نزل ينزل عند ارتفاع التكليف، وعن النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كيف تهلك أمة أنا في أولها، وعيسى في آخرها، والمهدي من أهل بيتي بوسطها)

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾:

أ. قيل: إلى سمائي، فذكر نفسه تفخيمًا لذلك.

ب. وقيل: مصيرك إلى كرامتي، كما يقال: رفع السلطان فلانًا.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾:

أ. قيل: مخرجك من بينهم وهم أرجاس، ومنجيك منهم.

ب. وقيل: منجيك من كفرهم فلا تسمعهم ولا تراهم عن الأصم.

ج. وقيل: تطهيره منعه من كفر يفعلونه بالقتل الذي كانوا هموا به؛ لأن ذلك رجس طهره الله منه، عن أبي علي.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾:

أ. قيل: هم أهل الإيمان به دون الَّذِينَ كذبوه، عن الحسن وقتادة وابن جريج والربيع والشعبي ومقاتل، يعني الَّذِينَ اتبعوا دينه وسنته في التوحيد، وغيره، وهم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يكونون ظاهرين إلى يوم القيامة.. وهو الوجه؛ لأن فيه ترغيبًا في الإسلام، ولأن من دعاه إلهًا لا يكون تبعًا له.

ب. وقيل: هم النصارى فوق اليهود، وحيثُ كانوا إلى يوم القيامة، عن ابن زيد، وعن أبي علي قال: وفيه دليل أنه لا يكون لليهود مملكة إلى يوم القيامة كما للروم.

ج. وقيل: هم الحواريون.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾

أ. قيل: بالحجة والبرهان.

ب. وقيل: بالغلبة والقهر إلى يوم القيامة.

ج. وقيل: في الدنيا.

د. وقيل: في يوم القيامة أيضًا، عن الأصم.

7. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ﴾ يعني إلى حكمي وجزائي ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾ مصيركم ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ أَفْصِلُ بينكم ﴿فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ من الدين ومِنْ أَمْرِ عيسى.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا﴾:

أ. قيل: بالقتل والسبي والذلة على يدي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته.

ب. وقيل: بالخسف والمسخ.

ج. وقيل: في القبر.

9. ﴿وَالْآخِرَةُ﴾ في النار ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ من معين ينجيهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة.

10. سؤال وإشكال: لم عدل من المعاينة إلى المخاطبة في قوله: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ ثم قال: ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾؟ والجواب: لتغليب الحاضر على الغائب لما دخل معه في المعنى.

11. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ﴾ نوفر عليهم ونتمم ﴿أُجُورَهُمْ﴾ جزاء أعمالهم ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ لا يريد تعظيمهم وإثابتهم.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾:

أ. قيل: إشارة إلى النبأ تقديره: ذلك النبأ عن عيسى وغيره.

ب. وقيل: ذلك القرآن.

ج. وقيل: هو اللوح المحفوظ.

د. وقيل: ذلك الذكر الذي سبق.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾:

أ. قيل: نكلمك به ونقرؤه عليك.

ب. وقيل: أمرنا جبريل أن يتلوه عليك، عن أبي علي.

14. ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾ من الحجج ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ المحكم؛ لأنه الدلالة على الحق كالناطق به فسمي حكيمًا، قيل: معلم وهاد بما فيه من الدلالات.

15. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أن أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يكونون ظاهرين إلى يوم القيامة؛ لأنهم الَّذِينَ اتبعوا عيسى وصدقوه دون اليهود والنصارى.

ب. أن عيسى عليه السلام حي في السماء على ما روي.

ج. إثبات المعاد.

د. أنه يجازي بالأعمال، خلاف ما تقوله الْمُجْبِرَة أنه لا اعتبار بالأعمال.

هـ. بطلان قولهم في الجبر؛ لأنه إذا كان لا يحب ظلمهم ولا يظلمهم، ومن وجه آخر أن المحبة الإرادة، فإذا كان لا يحب ظلمهم لا يريده، ومن وجه آخر إذا كان لا يحب ظلمهم لا يخلقه، فيبطل قولهم في المخلوق والإرادة، قال أبو مسلم: في الآية ـ معنى لطيف عائد إلى الله تعالى وإلى الثناء عليه، وهو أنه إذا كان لا يحب الظالمين فليس يكون منه الظلم.

16. قرأ حفص عن عاصم ﴿فَيُوَفِّيهِمْ﴾ بالياء يعني فيوفيهم الله، الباقون بالنون حملاً على ما تقدم من قوله: ﴿فَاحْكُمْ﴾، ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ﴾، وهو الأولى؛ لأنه نسق الكلام.

17. مسائل نحوية:

أ. لَمْ يصرف عيسى لاجتماع العجمة والتعريف.

ب. ﴿نَتْلُوهُ﴾ موضعه رفع لأنه خبر ﴿ذَلِكَ﴾ وقيل: لا موضع له؛ لأنه صلة بتقدير: الذي نتلوه، ويكون موضع ﴿الْآيَاتِ﴾ رفعًا؛ لأنه خبر ﴿ذَلِكَ﴾، عن الزجاج.

ج. ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ رفع لأنه خبر ﴿أَنْ﴾ وعلامة الرفع سكون الياء.

د. ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مِنْ نَاصِرِينَ﴾ دخل على النفي كقولك: ما عندي من طعام ولا من شراب، والمعنى: ما عندي طعام ولا شراب، كذلك ههنا معناه: ما لهم ناصرون، ولو قلت: عندي من طعام لم يجز؛ لأن هذا ليس بنفي، عن الأخفش.

هـ. ﴿الذَّكَرَ﴾ تقديره من الذكر، ﴿الْحَكِيمُ﴾: نعتٌ للذكر.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/255.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بين سبحانه ما هم به قوم عيسى من المكر به وقتله، عقبه بما أنعم عليه من لطف التدبير، وحسن التقدير، فقال: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾، وقيل في معناه أقوال:

أ. أحدها: إن المراد به: إني قابضك برفعك من الأرض إلى السماء من غير وفاة بموت، عن الحسن وكعب وابن جريج وابن زيد والكلبي وغيرهم، وعلى هذا القول يكون للمتوفى تأويلان:

أحدهما: إني رافعك إلي وافيا، لم ينالوا منك شيئا، من قولهم: توفيت كذا واستوفيته أي: أخذته تاما.

والآخر: إني متسلمك، من قولهم: توفيت منه كذا: أي تسلمته.

ب. ثانيها: إني متوفيك وفاة نوم، ورافعك إلي في النوم، عن الربيع قال: رفعه نائما، ويدل عليه قوله ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ أي يميتكم لأن النوم أخو الموت، وقال ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ الآية.

ج. ثالثها: إني متوفيك وفاة نوم، عن ابن عباس ووهب قالا: أماته الله ثلاث ساعات.

د. أما النحويون فيقولون: هو على التقديم والتأخير أي: إني رافعك ومتوفيك، لأن الواو لا توجب الترتيب بدلالة قوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ والنذر قبل العذاب بدلالة قوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ وهذا مروي عن الضحاك، ويدل عليه ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم؟ رواه البخاري ومسلم في الصحيح، فعلى هذا يكون تقديره: إني قابضك بالموت بعد نزولك من السماء.

2. في قوله تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ قولان:

أ. أحدهما: إني رافعك إلى سمائي، وسمى رافعه إلى السماء رفعا إليه، تفخيما لامر السماء، يعني: رافعك لموضع لا يكون عليك إلا أمري.

ب. والآخر: إن معناه رافعك إلى كرامتي، كما قال حكاية عن إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ أي: إلى حيث أمرني ربي، سمى ذهابه إلى الشام ذهابا إلى ربه.

3. في قوله تعالى: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قولان:

أ. أحدهما: مطهرك باخراجك من بينهم، وانجائك منهم، فإنهم أرجاس، جعل مقامه فيهم بينهم كملاقاة النجاسة من حيث كان يحتاج إلى مجارتهم.

ب. الآخر: إن تطهيره منعهم من كفر يفعلونه بالقتل الذي كانوا هموا به، لان ذلك رجس طهره الله منه، عن الجبائي.

4. اختلف في المعني بقوله تعالى: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾:

أ. قيل: معناه: وجاعل الذين آمنوا بك فوق الذين كذبوا عليك وكذبوك في العز والغلبة والظفر والنصرة.

ب. وقيل: في البرهان والحجة، والمعني به النصارى، قال ابن زيد: ولهذا لا ترى اليهود حيث كانوا إلا أذل من النصارى، ولهذا أزال الملك عنهم، وإن كان ثابتا في النصارى على بلاد الروم وغيرها، فهم أعز منهم، وفوقهم إلى يوم القيامة، وقال الجبائي فيه دلالة على أنه لا يكون لليهود مملكة إلى يوم القيامة، كما للروم.

ج. وقيل: المعني به أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنما سماهم تبعا، وإن كانت لهم شريعة على حدة، لأنه وجد فيهم التبعية صورة ومعنى:

وأما صورة فإنه يقال: فلان يتبع فلانا إذا جاء بعده.

وأما معنى فلان نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مصدقا بعيسى وبكتابه، ويقال لمن يصدق غيره: إنه يتبعه، على أن شريعة نبينا وسائر الأنبياء متحدة في أبواب التوحيد، فعلى هذا هو متبع له، إذ كان معتقدا اعتقاده، وقائلا بقوله، وهذا القول أوجه لان فيه ترغيبا في الاسلام، ودلالة على أن أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يكونون ظاهرين إلى يوم القيامة، ولان من دعاه إلها لا يكون في الحقيقة تابعا له.

5. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ أي: مصيركم ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ فأقضي بينكم ﴿فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ من أمر عيسى، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾:

أ. عذابهم في الدنيا: إذلالهم بالقتل والأسر والسبي والخسف والجزية، وكل ما فعل على وجه الاستخفاف والإهانة.

ب. وفي الآخرة: عذاب الأبد في النار.

6. ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ أي: أعوان يدفعون عنهم عذاب الله تعالى.

7. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ﴾ أي: يوفر عليهم، ويتمم ﴿أُجُورَهُمْ﴾ أي: جزاء أعمالهم ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ أي: لا يريد تعظيمهم وإثابتهم، ولا يرحمهم، ولا يثني عليهم.

8. هذه الآية حجة على من قال بالإحباط لأنه سبحانه وعد بتوفير الأجر، وهو الثواب، والتوفية منافية للإحباط.

9. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى الإخبار عن عيسى وزكريا ويحيى وغيرهم ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾:

أ. قيل: نقرأه عليك، ونكلمك به.

ب. وقيل: نأمر جبرائيل أن يتلوه عليك، عن الجبائي.

10. ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾ أي: من جملة الآيات والحجج الدالة على صدق نبوتك، إذا علمتهم بما لا يعلمه إلا قارئ كتاب، أو معلم، ولست بواحد منها، فلم يبق إلا أنك عرفته من طريق الحي.

11. ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ القرآن المحكم، وإنما وصفه بأنه حكيم لأنه بما فيه من الحكمة، كأنه ينطق بالحكمة، كما تسمى الدلالة دليلا، لأنها بما فيها من البيان، كأنها تنطق بالبيان والبرهان، وإن كان الدليل في الحقيقة هو الدال.

12. قرأ حفص ورويس عن يعقوب ﴿فَيُوَفِّيهِمْ﴾ بالياء، والباقون بالنون.. من قرأ بالنون فهو مثل ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ﴾ ويحسنه قوله ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ﴾، ومن قرأ بالياء فلأن ذكر الله قد تقدم في قوله ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ﴾ أو صار من لفظ الخطاب إلى الغيبة كقوله ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ بعد قوله ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ﴾

13. مسائل نحوية:

أ. العامل في ﴿إِذِ﴾ قوله ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ إذ قال، ويحتمل أن يكون تقديره ذاك إذ قال الله، وتمثيله ذاك واقع إذ قال الله، ثم حذفت واقع، وهو العامل في ﴿إِذِ﴾ وأقيمت ﴿إِذِ﴾ مقامه.

ب. ﴿عِيسَى﴾: في موضع الضم لأنه منادى مفرد، لكن لا يتبين فيه الإعراب، لأنه منقوص، وهو لا ينصرف لاجتماع العجمة والتعريف.

ج. ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾: في موضع رفع بأنه خبر ﴿ذَلِكَ﴾، ويجوز أن يكون صلة لذلك، (ويكون ذلك) بمعنى الذي، فعلى هذا لا موضع لقوله ﴿نَتْلُوهُ﴾ وتقديره: الذي نتلوه.

د. ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾: في موضع رفع بأنه خبره، وأنشدوا في مثله:

çعدس! ما لعباد عليك إمارة... نجوت وهذا تحملين طليقé

تقديره: والذي تحملين طليق.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/759.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ قال ابن قتيبة: التّوفّي، من استيفاء العدد يقال: توفّيت، واستوفيت، كما يقال: تيقّنت الخبر، واستيقنته، ثم قيل للموت: وفاة، وتوفّ، وأنشد أبو عبيدة:

çإنّ بني الأدرد ليسوا من أحد...ليسوا إلى قيس وليسوا من أسدé

ولا توفّاهم قريش في العدد أي: لا تجعلهم وفاء لعددها، والوفاء: التّمام.

2. في هذا التّوفّي قولان:

أ. أحدهما: أنه الرّفع إلى السماء.. فعلى هذا القول يكون نظم الكلام مستقيما من غير تقديم ولا تأخير، ويكون معنى (متوفّيك) قابضك من الأرض وافيا تاما من غير أن ينال منك اليهود شيئا، هذا قول الحسن، وابن جريج، وابن قتيبة، واختاره الفرّاء، ومما يشهد لهذا الوجه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾، أي: رفعتني إلى السماء من غير موت، لأنّهم إنما بدّلوا بعد رفعه، لا بعد موته.

ب. الثاني: أنه الموت.. وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير، وتقديره: إنّي رافعك إليّ ومطهّرك من الذين كفروا، ومتوفّيك بعد ذلك، هذا قول الفرّاء، والزّجّاج في آخرين، فتكون الفائدة في إعلامه بالتّوفّي تعريفه أن رفعه إلى السماء لا يمنع من موته‏، قال سعيد بن المسيّب: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وقال مقاتل: رفع من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان، وقيل: عاشت أمّه مريم بعد رفعه ستّ سنين، ويقال: ماتت قبل رفعه.

3. في قوله تعالى: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه رفعه من بين أظهرهم.

ب. الثاني: منعهم من قتله.

4. في الذين اتبعوه قولان:

أ. أحدهما: أنهم مسلمون من أمّة محمّد عليه السلام، لأنهم صدّقوا بنبوّته، وأنه روح الله وكلمته، وهذا قول قتادة، والرّبيع، وابن السّائب.

ب. الثاني: أنهم النّصارى، فهم فوق اليهود، واليهود مستذلّون مقهورون، قاله ابن زيد.

5. ﴿فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ يعني الدّين، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قيل: هم اليهود والنّصارى، وعذابهم في الدنيا بالسّيف والجزية، وفي الآخرة بالنّار.

6. ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ يعني ما جرى من القصص، ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾ يعني الدّلالات على صحة رسالتك، إذ كانت أخبارا لا يعلمها أميّ، ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ قال ابن عباس: هو القرآن، قال الزجّاج: معناه: ذو الحكمة في تأليفه ونظمه، وإبانة الفوائد منه.

__________

(1) زاد المسير: 1/288.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في العامل في‏ ﴿إِذِ﴾ في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾:

أ. قيل: قوله‏ ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ أي وجد هذا المكر إذ قال الله هذا القول.

ب. وقيل التقدير: ذاك إذ قال الله.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ ونظيره قوله تعالى حكاية عنه:‏ ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: 117] على طريقين:

أ. أحدهما: إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم، ولا تأخير فيها(2).

ب. الثاني: فرض التقديم والتأخير فيها.. قالوا إن قوله‏ ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ يقتضي إنه رفعه حياً، والواو لا تقتضي الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير، والمعنى: أني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن، الوجوه الكثيرة التي سنذكرها تغني عن التزام مخالفة الظاهر.

3. الطريق الأول، وهو إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم، ولا تأخير فيها بيانه من وجوه:

أ. الأول: معنى قوله‏ ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ أي متمم عمرك، فحينئذ أتوفاك، فلا أتركهم حتى يقتلوك، بل أنا رافعك إلى سمائي، ومقربك بملائكتي، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن.

ب. الثاني: ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ أي مميتك، وهو مروي عن ابن عباس، ومحمد بن إسحاق قالوا: والمقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء، ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه.

أحدها: قال وهب: توفي ثلاث ساعات، ثم رفع.

ثانيها: قال محمد بن إسحاق: توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه.

ج. الثالث: قال الربيع بن أنس: أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء، قال تعالى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر: 42]

د. الرابع: في تأويل الآية أن الواو في قوله‏ ﴿مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ تفيد الترتيب فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال، فأما كيف يفعل، ومتى يفعل، فالأمر فيه موقوف على الدليل، وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنه سينزل ويقتل الدجال)، ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك.

هـ. الخامس: في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي، وهو أن المراد ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ عن شهواتك وحظوظ نفسك، ثم قال ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ وذلك لأن من لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله، وأيضاً فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة، والغضب والأخلاق الذميمة.

و. السادس: إن التوفي أخذ الشيء وافياً، ولما علم الله إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ [النساء: 113]

ز. السابع: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.

ح. الثامن: إن التوفي هو القبض يقال: وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه، كما يقال: سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه، وقد يكون أيضاً توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من‏ الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له، سؤال وإشكال: على هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله‏ ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ تكراراً، والجواب: قوله‏ ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء، فلما قال بعده‏: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ كان هذا تعييناً للنوع ولم يكن تكراراً.

ط. التاسع: أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير: متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك‏ ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ أي ورافع عملك إلي، وهو كقوله‏ ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: 10] والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشّره بقبول طاعته وأعماله، وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه، فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها.

4. الطريق الثاني: وهو قول من قال لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير،

5. المشبهة يتمسكون بقوله تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ في إثبات المكان لله تعالى وأنه في المساء، وقد دللنا في المواضع الكثيرة من هذا الكتاب بالدلائل القاطعة على أنه يمتنع كونه تعالى في المكان فوجب حمل اللفظ على التأويل، وهو من وجوه:

أ. الأول: أن المراد إلى محل كرامتي، وجعل ذلك رفعاً إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله‏ ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ [الصافات: 99] وإنما ذهب إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم من العراق إلى الشام وقد يقول السلطان: ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي، وقد يسمى الحجاج زوار الله، ويسمى المجاورون جيران الله، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم فكذا هاهنا.

ب. الثاني: في التأويل أن يكون قوله‏ ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ معناه إنه يرفع إلى مكان لا يملك الحكم عليه فيه غير الله لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الأحكام فأما السموات فلا حاكم هناك في الحقيقة وفي الظاهر إلا الله.

ج. الثالث: إن بتقدير القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك سبباً لانتفاعه وفرحه بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبه من الثواب والروح والراحة والريحان، فعلى كلا القولين لا بد من حمل اللفظ على أن المراد: ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان لله تعالى.

6. ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم، وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى.

7. في قوله تعالى: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ وجهان:

أ. الأول: أن المعنى: الذين اتبعوا دين عيسى يكونون فوق الذين كفروا به، وهم اليهود بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة، فيكون ذلك إخباراً عن ذل اليهود وإنهم يكونوا مقهورين إلى يوم القيامة، فأما الذين اتبعوا المسيح عليه السلام فهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله وأما بعد الإسلام فهم المسلمون، وأما النصارى فهم وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم يخالفونه أشد المخالفة من حيث أن صريح العقل يشهد أنه عليه السلام ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهال، ومع ذلك فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود فلا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكا يهوديا ولا بلدة مملوءة من اليهود بل يكونون أين كانوا بالذلة والمسكنة وأما النصارى فأمرهم بخلاف ذلك.

ب. الثاني: أن المراد من هذه الفوقية الفوقية بالحجة والدليل.

8. قوله تعالى: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ يدل على أن رفعه في قوله‏ ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ هو الرفعة بالدرجة والمنقبة، لا بالمكان والجهة، كما أن الفوقية في هذه ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة.

9. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ المعنى أنه تعالى بشّر عيسى عليه السلام بأنه يعطيه في الدنيا تلك الخواص الشريفة، والدرجات الرفيعة العالية، وأما في القيامة فإنه يحكم بين المؤمنين به، وبين الجاحدين برسالته، وكيفية ذلك الحكم ما ذكره في الآية التي بعد هذه الآية.

10. سؤال وإشكال: نص القرآن الكريم دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره على ما قال ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: 157] والأخبار أيضا واردة بذلك إلا أن الروايات اختلفت، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه حتى قتلوه وصلبوه، وتارة يروى أنه عليه السلام رغب بعض خواص أصحابه في أن يلقي شبهه حتى يقتل مكانه، وبالجملة فكيفما كان ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات (3):

أ. الأول: إنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة، فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانياً فحينئذ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانياً ليس بولدي بل هو إنسان ألقي شبهه عليه وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات، وأيضاً فالصحابة الذين رأوا محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا أنه محمد لاحتمال أنه ألقي شبهه على غيره وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع، وأيضاً فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس، فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية.. والجواب: أن كل من أثبت القادر المختار، سلم أنه تعالى قادر على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زيد مثلًا، ثم إن هذا التصوير لا يوجب الشك المذكور، فكذا القول فيما ذكرتم.

ب. الثاني: وهو أن الله تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال، هكذا قاله المفسرون في تفسير قوله:‏ ﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [المائدة: 110] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي العالم من البشر فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه؟ وأيضاً أنه عليه السلام لما كان قادراً على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرض له؟ والجواب:: أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه أو أقدر الله تعالى عيسى عليه السلام على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، وذلك غير جائز.

ج. الثالث: إنه تعالى كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره، وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه؟ والجواب:: أنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقي شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء.

د. الرابع: أنه إذا ألقى شبهه على غيره ثم إنه رفع بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنه هو عيسى مع أنه ما كان عيسى، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى.. والجواب: أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة، وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس.

هـ. الخامس: أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام، وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولًا مصلوباً، فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونبوّة عيسى، بل في وجودهما، ووجود سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكل ذلك باطل.. والجواب: أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيداً للعلم.

و. السادس: أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلًا، فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع، ولقال: إني لست بعيسى بل إنما أنا غيره، ولبالغ في تعريف هذا المعنى، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن ليس الأمر على ما ذكرتم.. والجواب: إن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى عليه السلام عليه كان مسلماً وقبل ذلك عن عيسى جائز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة، وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه، ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع، والله ولي الهداية.

11. لما ذكر الله تعالى: ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [آل عمران: 55] بيّن بعد ذلك مفصلًا ما في ذلك الاختلاف، أما الاختلاف فهو أن كفر قوم وآمن آخرون، وأما الحكم فيمن كفر فهو أن يعذبه عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة، وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات، فهو أن يوفيهم أجورهم.

12. عذاب الكافر في الدنيا من وجهين:

أ. أحدهما: القتل والسبي وما شاكله، حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به، فذلك داخل في عذاب الدنيا.

ب. الثاني: ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب، وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا؟

قال بعضهم: إنه عقاب في حق الكافر، وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقاباً بل يكون ابتلاءً وامتحاناً.

وقال الحسن: إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقاباً بل يكون أيضاً ابتلاءً وامتحاناً، ويكون جارياً مجرى الحدود التي تقام على النائب، فإنها لا تكون عقاباً بل امتحاناً، والدليل عليه أنه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقاباً.

13. سؤال وإشكال: قد سلمتم في الوجه الأول إنه عذاب للكافر على كفره، وهذا على خلاف قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [النحل: 61] وكلمة (لو) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فوجب أن لا توجد المؤاخذة في الدنيا، وأيضاً قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [غافر: 17] وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم، لا في الدنيا، والجواب: الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة، والآيات التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام.

14. سؤال وإشكال: وصف العذاب بالشدة، يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمر كذلك، فإن الأمر تارة يكون على الكفار وأخرى على المسلمين، ولا نجد بين الناس تفاوتاً، والجواب: بل التفاوت موجود في الدنيا، لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى عليه السلام، ونرى الذلة والمسكنة لازمة لهم، فزال الإشكال.

15. وصف تعالى هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم.

16. سؤال وإشكال: أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة؟ والجواب: المانع هو العهد، ولذلك إذا زال العهد حل قتله.

17. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ ذكر الذين آمنوا، ثم وصفهم بأنهم عملوا الصالحات، وذلك يدل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان، وقد تقدم ذكر هذه الدلالة مراراً.

18. احتج من قال بأن العمل علة للجزاء بقوله:‏ ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ فشبههم في عبادتهم لأجل طلب الثواب بالمستأجر، والكلام فيه أيضاً قد تقدم والله أعلم.

19. المعتزلة، ومن وافقهم احتجوا بقوله‏ ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي، قالوا: لأن مريد الشيء لا بد وأن يكون محباً له، إذا كان ذلك الشيء من الأفعال وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص، فقد يقال: أحب زيداً، ولا يقال: أريده، وأما إذا علقتا بالأفعال: فمعناهما واحد إذا استعملتا على حقيقة اللغة، فصار قوله‏ ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ بمنزلة قوله (لا يريد ظلم الظالمين) هكذا قرره القاضي، وعند أصحابنا(4) أن المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير إليه فهو تعالى وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لا يريد إيصال الثواب إليه، وهذه المسألة قد ذكرناها مراراً وأطواراً.

20. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما تقدم من نبأ عيسى وزكريا وغيرهما، وهو مبتدأ، خبره‏ ﴿نَتْلُوهُ﴾ و﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾ خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي، و﴿نَتْلُوهُ﴾ صلته، و﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾ الخبر.

21. التلاوة والقصص واحد في المعنى، فإن كلا منهما يرجع معناه إلى شيء يذكر بعضه على إثر بعض، ثم إنه تعالى أضاف التلاوة إلى نفسه في هذه الآية، وفي قوله‏: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى﴾ [القصص: 3] وأضاف القصص إلى نفسه فقال: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: 3] وكل ذلك يدل على أنه تعالى جعل تلاوة الملك جارية مجرى تلاوته سبحانه وتعالى، وهذا تشريف عظيم للملك، وإنما حسن ذلك لأن تلاوة جبريل صلّى الله عليه وآله وسلّم لما كان بأمره من غير تفاوت أصلًا أضيف ذلك إليه سبحانه وتعالى.

22. قوله تعالى: ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل أن يكون المراد منه، أن ذلك من آيات القرآن.

ب. ويحتمل أن يكون المراد منه أنه من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك، لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارئ من كتاب أو من يوحى إليه، فظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ، فبقي أن ذلك من الوحي.

23. في قوله تعالى: ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ قولان:

أ. الأول: المراد منه القرآن وفي وصف القرآن بكونه ذكراً حكيماً وجوه:

الأول: إنه بمعنى الحاكم مثل القدير والعليم، والقرآن حاكم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه.

الثاني: معناه ذو الحكمة في تأليفه ونظمه وكثرة علومه.

الثالث: أنه بمعنى المحكم، فعيل بمعنى مفعل، قال الأزهري: وهو شائع في اللغة، لأن حكمت يجري مجرى أحكمت في المعنى، فرد إلى الأصل، ومعنى المحكم في القرآن أنه أحكم عن تطرق وجوه الخلل إليه قال تعالى: ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: 1]

الرابع: أن يقال القرآن لكثرة حكمه إنه ينطق بالحكمة، فوصف بكونه حكيماً على هذا التأويل.

ب. الثاني: أن المراد بالذكر الحكيم هاهنا غير القرآن، وهو اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام، أخبر أنه تعالى أنزل هذا القصص مما كتب هنالك، والله أعلم بالصواب.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/238.

(2) سنذكر تفاصيله في المسألة التالية

(3) وضعنا الإجابات مع الإشكالات على خلاف ما ذكره من الفصل بينها

(4) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ العامل في ﴿إِذِ﴾ مكروا، أو فعل مضمر، وقال جماعة من أهل المعاني منهم الضحاك والفراء في قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ على التقديم والتأخير، لأن الواو لا توجب الرتبة، والمعنى: إنى رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء، كقوله: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [طه]، والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما، قال الشاعر:

çألا يا نخلة من ذات عرق...عليك ورحمة الله السلامé

أي عليك السلام ورحمة الله، وقال الحسن وابن جريح: معنى متوفيك قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت، مثل توفيت مالي من فلان أي قبضته، وقال وهب بن منبه: توفى الله عيسى عليه السلام ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء، وهذا فيه بعد، فإنه صح في الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نزوله وقتله الدجال.. وقال ابن زيد: متوفيك قابضك، ومتوفيك ورافعك واحد ولم يمت بعد، وروى ابن طلحة عن ابن عباس معنى متوفيك مميتك، الربيع ابن أنس: وهي وفاة نوم، قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الانعام] أي ينيمكم لأن النوم أخو الموت، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم لما سئل: أفي الجنة نوم؟ قال: (لا، النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها)، أخرجه الدارقطني.

2. الصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس، وقاله الضحاك، قال الضحاك: كانت القصة لما أرادوا قتل عيسى اجتمع الحواريون في غرفة وهم اثنا عشر رجلا فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة، فأخبر إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة، فقال المسيح للحواريين: أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟ فقال رجل: أنا يا نبي الله، فألقى إليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقي عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه، وأما المسيح فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة، وذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أراد الله تعالى أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وهم اثنا عشر رجلا من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال لهم: أما إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم فقال أنا، فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا، فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا، فقال نعم أنت ذاك، فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام، قال: ورفع الله تعالى عيسى من روزنة كانت في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبيه فقتلوه ثم صلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتفرقوا ثلاث فرق: قالت فرقة: كان فينا الله ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه، وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم فقتلوا، فأنزل الله تعالى: ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الصف] أي آمن آباؤهم في زمن عيسى ﴿عَلَى عَدُوِّهِمْ﴾ بإظهار دينهم على دين الكفار ﴿فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾

3. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد، وعنه أيضا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما) ولا ينزل بشرع مبتدأ فينسخ به شريعتنا بل ينزل مجددا لما درس منها متبعا، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم)، وفي رواية: (فأمكم منكم)، قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟، قلت: تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم تعالى وسنة نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم.

4. ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ أصله متوفيك حذفت الضمة استثقالا، وهو خبر إن، ﴿وَرَافِعُكَ﴾ عطف عليه، وكذا مطهرك، وكذا ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾، ويجوز ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ﴾ وهو الأصل، وقيل: إن الوقف التام عند قوله: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، قال النحاس: وهو قول حسن.

5. ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ يا محمد ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي بالحجة وإقامة البرهان، وقيل بالعز والغلبة، وقال الضحاك ومحمد ابن أبان: المراد الحواريون.

6. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ يعني بالقتل والصلب والسبي والجزية، وفي الآخرة بالنار، ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾ في موضع رفع بالابتداء وخبره ﴿نَتْلُوهُ﴾، ويجوز: الأمر ذلك، على إضمار المبتدإ.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/100.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى﴾ العامل في إذ: مكروا، أو: قوله: ﴿خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ أو: فعل مضمر تقديره: وقع ذلك، وقال الفراء: إن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره: إني رافعك ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالك من السماء، وقال أبو زيد: متوفيك: قابضك، وقال في الكشاف: مستوفي أجلك، ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم، وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر، لأن الصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة، كما رجحه كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير الطبري، ووجه ذلك أنه قد صحّ في الأخبار عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نزوله وقتله الدجال، وقيل: إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء، وفيه ضعف، وقيل: المراد بالوفاة هنا: النوم، ومثله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ أي: ينيمكم، وبه قال كثيرون.

2. ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: من خبث جوارهم برفعه إلى السماء وبعده عنهم.

3. ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أي: الذي اتبعوا ما جئت به وهم خلص أصحابه الذين لم يبلغوا في الغلوّ فيه إلى ما بلغ من جعله إلها، ومنهم المسلمون، فإنهم اتبعوا ما جاء به عيسى عليه السلام، ووصفوه بما يستحقه من دون‏ غلوّ، فلم يفرّطوا في وصفه، كما فرطت اليهود، ولا أفرطوا كما أفرطت النصارى، وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم، وقيل: المراد بالآية: أن النصارى الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين على اليهود، غالبين لهم، قاهرين لمن وجد منهم، فيكون المراد بالذين كفروا: هم اليهود خاصة، وقيل: هم الروم لا يزالون ظاهرين على من خالفهم من الكافرين؛ وقيل: هم الحواريون لا يزالون ظاهرين على من كفر بالمسيح، وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار أو لكل طوائف الكفار لا ينافي كونهم مقهورين مغلوبين بطوائف المسلمين كما تفيده الآيات الكثيرة، بأن هذه الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل، قاهرة لها مستعلية عليها.

4. أفردت هذه الآية بمؤلف سميته: [وبل الغمامة في تفسير ـ ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾] فمن رام استيفاء ما في المقام فليرجع إلى ذلك.

5. الفوقية هنا: هي أعم من أن تكون بالسيف أو بالحجة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية، ويكون المسلمون أنصاره وأتباعه إذ ذاك، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحال.

6. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ أي: رجوعكم، وتقديم الظرف للقصر ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ يومئذ ﴿فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ من أمور الدين.

7. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾: تفسير للحكم.

8. ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ متعلق بقوله: فأعذبهم، أما تعذيبهم في الدنيا: فبالقتل والسبي والجزية والصغار، وأما في الآخرة: فبعذاب النار، ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ أي: نعطيهم إياها كاملة موفرة، قرئ: بالتحتية وبالنون، ﴿لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ كناية عن بغضهم، وهي جملة تذييلية مقررة لما قبلها.

9. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى وغيره، وهو مبتدأ، خبره ما بعده، و﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾ حال، أو خبر بعد خبر، والحكيم: المشتمل على الحكم، أو المحكم الذي لا خلل فيه.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/396.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم أخبر تعالى ببشارته بالعصمة من مكرهم بقوله: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ أي مستوفي مدة إقامتك بين قومك، والتوفي، كما يطلق على الإماتة، كذلك يطلق على استيفاء الشيء، كما في كتب اللغة، ولو ادعي أن التوفي حقيقة في الأول، والأصل في الإطلاق الحقيقة فنقول: لا مانع من تشبيه سلب تصرفه عليه السلام بأتباعه وانتهاء مدته المقدرة بينهم بسلب الحياة، وهذا الوجه ظاهر جدا، وله نظائر في الكتاب العزيز، قال تعالى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر: 42]، قال الزمخشريّ: يريد ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، أي يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى، ومنه قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام: 60]، حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أن الموتى كذلك.

2. ثم بين سبحانه في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته وموطن ملائكته ومعدن النزاهة عن الأدناس فقال: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي من مكرهم وخبث صحبتهم؛ وقد دلت هذه الآية بظاهرها على أن الله تعالى فوق سماواته كقوله تعالى: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 158]، وقوله تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: 50]، وقوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ [السجدة: 5]، وقوله تعالى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ [الملك: 16]، وهو مذهب السلف قاطبة كما نقله الإمام الذهبيّ في كتاب (العلوّ)، قال أبو الوليد بن رشد في (مناهج الأدلة): (لم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتون لله سبحانه وتعالى جهة (الفوق) حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله ـ إلى أن قال والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تتنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السموات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك بالمعقول، وبيّن بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم ـ إلى أن قال فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأن إبطاله إبطال الشرائع، قال الدارميّ: (وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته)، وقد بسط نصوص السلف الحافظ الذهبيّ في كتاب (العلوّ) فانظره، هذا(2).

3. لما كان لذوي الهمم العوال، أشد التفات إلى ما يكون عليه خلفاؤهم من بعدهم من الأحوال، بشره تعالى في ذلك بما بشره فقال:‏ ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ وكذا كان لم يزل من انتحل النصرانية فوق اليهود، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا فلا يبقى منهم أحد ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾

4. ثم فسر الحكم الواقع بين الفريقين بقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ أي يبغضهم، فإن هذه الكناية فاشية في جميع اللغات، جارية مجرى الحقيقة.

5. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى عليه السلام وهو مبتدأ وخبره‏ ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ أي من غير أن يكون لك اطلاع سابق عليه، وقوله تعالى‏ ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾ حال من الضمير المنصوب أو خبر بعد خبر ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ أي المشتمل على الحكم، أو المحكم المعصوم من تطرق الخلل إليه، والمراد به القرآن.

6. في قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾، وجوه في التأويل كثيرة، إلا أن الذي فتح المولى به مما أسلفناه هو أرجح التأويلات والله أعلم، وبه يسقط زعم النصارى أن هذه الآية حجة علينا، لإفادتها وفاته عليه السلام، أي بالصلب، ثم رفعه إلى السماء أعني قيامه حيّا بعد وفاته على زعمهم من أنه مات بجسده، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة، ثم أنزل ودفن في أول ساعة من ليلة السبت، وأقام في القبر إلى صبيحة الأحد، ثم انبعث حيّا وتراءى للنسوة اللائي جئن إلى قبره زائرات، وقد استندوا في هذا الزعم إلى شهادة أنا جيلهم الأربع، وشهادة تلاميذه الشفاهية في العالم، ثم أتباعهم وكذا شهادة اليهود بوقوع الصلب على المسيح ذاتيا، ووجه سقوط زعمهم الفاسد المذكور ما بيناه في معنى الآية مما لا يبقى معه أدنى ارتياب، وقد بين علماؤنا بطلان معتقدهم هذا في تآليف وتحارير فانظره في (حواشي تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) تأليف الشيخ عبد الله بك.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/325.

(2) هذه الرؤية التجسيمية لله، والتي تنسب له المكان خاصة بأهل الحديث والاتجاهات السلفية التي تنتسب إليهم، أما سائر الأمة، فيرون خلاف ذلك

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِذْ قَالَ اللهُ﴾ مَكَرَ اللهُ إذ قال الله، أو خَيْرُ الْمَاكِرِينَ إذ قال الله؛ أو اذكر إذ قال الله؛ أو وقع ذلك إذ قال الله، والأوَّل أولى لأنَّ ظهور مكره في ذلك الوقت، والوقت متَّسع، ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ مستوفي أجلك، لا أنقصُ منه شيئًا، فلا تموت إِلَّا عند قرب الساعة، أو متوفِّيك قدر سبع ساعات، أو ثلاث ثمَّ أحياه ورفعه، أو ثلاث وبه قالت النصارى؛ أو بنوم، كما روي أنَّه رفع نائما فسمَّى النوم موتا؛ وليس رفعه نائما لئلَّا يخاف، لأنَّ الخوف بذلك غير شأن الأنبياء، لا بقتلهم إذ لا يصلون إليك، أو قابضك من الأرض، أو مميتك عن الشهوات حتَّى تكون كالملائكة لا تأكل ولا تشرب، وتقتصر على العبادة، واختار القرطبيُّ وغيره أنَّه أخذه بلا نوم ولا موت.

2. ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ أي: إلى محلِّ كرامتي ومقرِّ ملائكتي من الدنيا، والقبض لا يلزم أن يكون إلى فوق فبيَّنه أنَّه إلى فوق، وروي أنَّه نزل ومات ثمَّ رفع.

3. ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ مبعدك من كفرهم لا ينالك، ومن مضرَّتهم، ومن سوء جوارهم، وكلُّ ذلك منهم كالنجس والشيء الخبيث.

4. لَمَّا اجتمعوا على قتله بعث الله إليه جبريل فأدخله خوخة في سقفها فرجة، فرفعه الله من تلك الفُرجة، وأمر ملِكُ اليهود رجلاً في أربعة آلاف آخذين باب الغرفة، منهم رجلٌ يقال له: (مطيانوس) أن يدخل الخوخة فيقتله فيها، فلمَّا دخلها لم ير عيسى، وألقى الله شبه عيسى عليه فلمَّا خرج ظنُّوا أنَّه عيسى فقتلوه، وقالوا له: أنت عيسى، فقال: أنا صاحبكم الذي دلَّكم عليه، وقد دلَّهم عليه بثلاثين درهما، فلم يلتفتوا إلى قوله؛ وَلَمَّا قتلوه قالوا: وجهُهُ يشبه وجه عيسى، وبدنه يشبه بدن صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فوقع بينهم قتال.

5. ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ وهم اليهود الكافرون به، خطاب لعيسى بأنَّه من آمن به يكون غالبا وقاهرا لمن كفر به بالحجَّة والسيف، فالنصارى مطلقًا، والمؤمنون من هذه الأمَّة ظاهرون على اليهود؛ لأنَّ النصارى ولو كفروا بالنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم وكانوا من أهل النار هم متَّبعون لعيسى من حيث إنَّهم آمنوا بعيسى وأحبُّوه، ولو كفر من كفر أيضًا بجعله إلها أو ابن الله، تعالى عن قول المبطلين، وإذا كان يوم القيامة زاد ارتفاعا بدخول الجنَّة المؤمنون من هذه الأمَّة والمؤمنون بعيسى القائلون: إنَّه عبد الله ورسوله إن لم يكفروا بنبيء الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولا ملك لليهود ولا دولة، والنصارى أشدُّ مخالفة لعيسى ولم يرض ما هم عليه من الكفر بالنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم وبغيره.

6. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ رجوعكم بالبعث، ولا يشكل بقوله: ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ لأنه ليس المراد إيقاع كلِّ واحد من التعذيب في الدنيا والتعذيب في الآخرة، وإحداثهما يوم القيامة، بل المراد أنَّ مجموعهما يتمُّ يوم القيامة، أو نقول: الرجوع أعمُّ من الدنيويِّ والأخرويِّ؛ أو المراد بالدنيا والآخرة التأبيد لا حقيقة كلِّ واحدة كأحد أوجهٍ في قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالَارْضُ﴾ [هود: 107]، أو الترتيب بـ (ثُمَّ) تَرَقٍّ من كلام لآخر، ويجوز أن يكون ذلك تفسيرًا للحكم باعتبار المجموع، فالترتيب باعتبار تعذيب الآخرة، وأمَّا تعذيب الدنيا فذكره لإظهار مزيد الغضب، والله أعلم، والخطاب لعيسى ومن معه، ولمن كفر به على التغليب للمخاطب على الغائب، وكذا في قوله: ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ من أمر الدين بإدخال الجنَّة من آمن بعيسى وبمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم واتَّبعهما.

7. سلب الله عيسى شهوة الطعام والشراب والنوم وسائر الشهوات الإنسانيَّة، وكساه الريش وألبسه النور وأرسل إليه سحابة فرفعته، وتعلَّقت به أمُّه وبكت، فقال لها: إنَّ القيامة تجمعنا، وذلك ليلة القدر ببيت المقدس، وطار مع الملائكة، فقالت اليعقوبيَّة والملكانيَّة: كان الله فينا ثمَّ صعد إلى السماء، وقالت النسطوريَّة: كان فينا ابن الله ثمَّ رفعه، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله فرفعه الله، وهم المسلمون المحقُّون من النصارى، فقتلتهم تلك الفرق الثلاث، فانطمس الإسلام إلى أن بعث الله نبيئنا صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وبعد سبعة أيَّام من رفعه قال الله تعالى: اهبط إلى مريم فإنَّه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحزن عليك أحد حزنها، واجمعِ الحواريِّين وبُثَّهم في الأرض دعاة إلى الله تعالى ، فأهبَطَه الله، فاشتعل الجبل نورا، فجمعهم وبثَّهم في الأرض، فتلك اللَّيلة تدخِّن فيها النصارى، وَلَمَّا أصبح الحواريُّون تكلَّم كلٌّ بلغة من أرسله عيسى إليهم، وطلوعه ليلة القدر لا ينافي خصوصيتنا بها، لأنَّها في حقِّنا خير من ألف شهر، ونجاب فيها، إلى غير ذلك، وعاشت أمُّه بعده أكثر من سبع سنين، وقيل: عاشت ستَّ سنين فعمرها اثنان وخمسون؛ لأنَّها حملته بنت ثلاث عشرة سنة، وفي الصحيحين أنَّه ينزل قرب الساعة ويحكم بشريعة نبيئنا صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولا يَقبل عن أهل الكتاب والمجوس إِلَّا التوحيد أو يقتلهم ويقتل الدجَّال والخنزير، ويكسر الصَّليب ويمكث سبع سنين)، وفي أبي داود: (أربعين)، ويُدفن في حجرة النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد غسل المسلمين إيَّاه وصلاتهم عليه، ويجمع بين الروايتين بأنَّ الأربعين عدد ما قبل الرفع وما بعد نزوله منه، ويبعث أبو بكر وعمر بين نبيئين.

8. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالَاخِرَةِ﴾ إلخ هذا تفسير لقوله: ﴿فَأَحْكُمُ﴾، أمَّا الدنيا فبالقتل والسبي، أو الجزية والذلِّ، وأمَّا في الآخرة فعذاب القبر والمحشر والنار، ﴿وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾ مانعين من العذاب، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَملُواْ الصَّالِحَاتِ فَنُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة، ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ مقتضى الظاهر ولا نحبُّ أو لا أحبُّ، وذكر لفظ الجلالة لتربية المهابة، و(ال) للحقيقة يتضمَّن استغراقا أو للاستغراق، جاءت بعد السلب لعموم السلب.

9. ﴿ذَالِكَ﴾ أي: أمر عيسى وغيره، ﴿نَتْلُوهُ﴾ خبر، ﴿عَلَيْكَ﴾ وقوله: ﴿مِنَ الَايَاتِ﴾ خبر ثان، أو حال من الهاء منصوب بـ (نَتْلُو)، لا حال من الضَّمير في قوله: ﴿مِنَ الَاياتِ﴾، و(مِنَ الَاياتِ) خبر؛ لأنَّ فيه معنى الفعل دون حروفه، فلا يتقدَّم عليه معموله إِلَّا قليلا، وعلى القلَّة عامله اسم الإشارة لمعناها، ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ له، المحكم، أو أسند الحكمة إلى الذكر لأنَّه محلُّها والدالُّ عليها، وهو القرآن، أو اللَّوح المحفوظ لاشتماله على القرآن، ولعدم تأويل زائغ فيه ولا تبديل.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/283.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي مكر الله بهم، إذ قال لنبيه ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾.. فإن هذه بشارة بإنجائه من مكرهم وجعل كيدهم في نحرهم قد تحققت ولم ينالوا منه ما كانوا يريدون بالمكر والحيلة.

2. التوفي في اللغة أخذ الشيء وافيا تاما، ومن ثم استعمل بمعنى الإماتة قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: 42]، وقال: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: 11] فالمتبادر في الآية إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي، كما قال في إدريس عليه السلام: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: 53] والله تعالى يضيف إليه ما يكون فيه الأبرار من عالم الغيب قبل البعث وبعده كما قال في الشهداء: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [آل عمران: 169]، وقال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54].

3. أما تطهيره من الذين كفروا فهو إنجاؤه مما كانوا يرمون به أو يرمونه منه ويريدونه به من الشر.

4. هذا ما يفهمه القارئ الخالي الذهن من الروايات والأقوال، لأنه هو المتبادر من العبارة وقد أيدناه بالشواهد من الآيات، ولكن المفسرين قد حولوا الكلام عن ظاهره لينطبق على ما أعطتهم الروايات من كون عيسى رفع إلى السماء بجسده، وهاك ما قاله محمد عبده في ذلك: يقول بعض المفسرين ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾، أي منومك، وبعضهم أني قابضك من الأرض بروحك وجسدك ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ بيان لهذا التوفي، وبعضهم أني أنجيك من هؤلاء المعتدين فلا يتمكنون من قتلك وأميتك حتف أنفك، ثم أرفعك إلي ونسب هذا القول إلى الجمهور، وقال: للعلماء ههنا طريقتان:

أ. إحداهما وهي المشهورة أنه رفع حيا بجسمه وروحه، وأنه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله تعالى، ولهم في حياته الثانية على الأرض كلام طويل معروف، وأجاب هؤلاء عما يرد عليهم من مخالفة القرآن في تقديم الرفع على التوفي بأن الواو لا تفيد ترتيبا.. وفاتهم أن مخالفة الترتيب في الذكر للترتيب في الوجود لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة ولا نكتة هنا لتقديم التوفي على الرفع إذ الرفع هو الأهم لما فيه من البشارة بالنجاة ورفعه المكانة.

ب. والثانية أن الآية على ظاهرها وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر وهو الإماتة العادية، وأن الرفع يكون بعده وهو رفع الروح، ولا بدع في إطلاق الخطاب على شخص وإرادة روحه، فإن الروح هي حقيقة الإنسان والجسد كالثوب المستعار، فإنه يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان لأن روحه هي هي، ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخريجان:

أحدهما أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي لأنه من أمور الغيب والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي لأن المطلوب فيها هو اليقين، وليس في الباب حديث متواتر.

ثانيهما تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته على الناس وهو ما غلب في تعليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم والأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها والتمسك بقشورها دون لبابها، وهو حكمتها وما شرعت لأجله، فالمسيح عليه السلام لم يأت لليهود بشريعة جديدة ولكنه جاءهم بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسى عليه السلام، ويوقفهم على فقهها والمراد منها ويأمرهم بمراعاته وبما يجذبهم على عال الأرواح بتحري كمال الآداب، ولما كان أصحاب الشريعة الأخيرة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها بل وألفاظ من كتب فيها معبرا عن رأيه وفهمه، وكان ذلك مزهقا لروحها ذاهبا بحكمتها كان لا بد لهم من إصلاح عيسوي يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين وأدبه الحقيقي.. وكل ذلك مطوي في القرآن الذي حجبوا عنه بالتقليد الذي هو آفة الحق وعدو الدين في كل زمان، فزمان عيسى على هذا التأويل هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر.

5. هذا ما قاله محمد عبده في الدرس مع بسط وإيضاح، ولكن ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك تأباه، ولأهل هذا التأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث والناقل للمعنى ينقل ما فهمه.

6. سئل محمد عبده عن المسيح الدجال وقتل عيسى له فقال: إن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكها، وإن القرآن أعظم هاد إلى هذه الحكم والأسرار وسنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مبينة لذلك فلا حاجة للبشر إلى إصلاح وراء الرجوع إلى ذلك.

7. ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ بالأخذ بما جئت به من الهدى ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بك ولم يهتدوا بهديك فوقية روحانية دينية وهي كونهم أحسن أخلاقا وأكمل آدابا وأقرب إلى الحق والفضل وأبعد عن الباطل والاعتداء أو فوقية دنيوية وهو كونهم يكونون أصحاب السيادة عليهم، ولكن هذا الوجه الأول هو المراد ووجهه ظاهر فإن اتباع المسيح هو عين الأخذ بتلك الفضائل والمواعظ التي جاء بها وليس عندنا شيء عن محمد عبده في هذا، ولا يشكل عليه قوله: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ فإن فوقية الفضائل والآداب هي التي كانت وستبقى كذلك مادامت السماوات والأرض.

8. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب وبذلك يشمل المسيح والمختلفين معه ويشمل الاختلاف بين أتباعه والكافرين به والله هو الذي يبين لهم جميعا يوم الحساب الحق في كل ما اختلفوا فيه بما يزيل شبه المشتبهين ورياء الجاحدين.

9. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ وكذلك عذاب الله اليهود الذين كفروا به بتسليط الأمم عليهم وبحكمها فيهم ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون هناك كما أنهم لم ينصروا هنا.

10. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ إما في الدارين وهو الغالب في الأمم وإما في الآخرة فقط ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسهم بالخروج عن سنن الفطرة والكفر بالأنبياء الذين يطالبون النفوس بتقويمها.

11. ﴿ذَلِكَ﴾ الذي تقدم من خبر عيسى ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ﴾ الدالة على نبوتك ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ الذي يبين وجود العبر في الأخبار والحكم في الأحكام فيهدي المؤمنين إلى لباب الدين وفقه الشريعة وأسرار الاجتماع البشري ليتعظ المتعظون ويصل إلى مقام الحكمة العارفون. وليس لدينا عن محمد عبده شيء في هذه الآيات الثلاث.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/317.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ أي مكر الله بهم حين قال لنبيه إني متوفيك ورافعك إلىّ، وفي هذا بشارة بنجاته من مكرهم واستيفاء أجله، وأنهم لا ينالون منه ما كانوا يريدون بمكرهم وخبثهم، وللعلماء في تأويل هذه الآية رأيان:

أ. أن فيها تقديما وتأخيرا، والأصل: إني رافعك إلىّ ومتوفيك، أي إني رافعك الآن ومميتك بعد النزول من السماء في الحين الذي قدر لك ـ وعلى هذا فهو قد رفع حيا بجسمه وروحه وأنه سينزل آخر الزمان، فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله.

ب. أن الآية على ظاهرها، وأن التوفى هو الإماتة العادية، وأن الرفع بعده للروح ولا غرابة في خطاب الشخص وإرادة روحه، فالروح هي حقيقة الإنسان، والجسد كالثوب المستعار يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان لأن روحه هي هي والمعنى ـ إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي كما قال في إدريس عليه السلام:‏ ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾

2. حديث الرفع والنزول آخر الزمان حديث آحاد يتعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالدليل القاطع من قرآن أو حديث متواتر، ولا يوجد هنا واحد منهما، أو أن المراد بنزوله وحكمه في الأرض غلبة روحه، وسر رسالته على الناس بالأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها، ذاك أن المسيح عليه السلام لم يأت لليهود بشريعة جديدة، ولكن جاء بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر شريعة موسى عليه السلام، ويقفهم على فقهها والمراد منها فإن أصحاب هذه الشريعة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها، فكان لا بد لهم من إصلاح عيسوى يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين، وكل ذلك في القرآن الكريم الذي حجبوا عنه بالتقليد، فزمان عيسى هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية، لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر، وأما الدجال فهو رمز الخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها، والقرآن أعظم هاد إلى الحكم والأسرار، وسنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مبينة لذلك.

3. ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي ومنجوك مما كانوا يريدونه بك من الشر، أو مما كانوا يرمونه به من القبائح ونسبة السوء إليه.

4. ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي وجاعل الذين آمنوا بأنك عبد الله ورسوله، وصدقوك في قولك‏ ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾، ثم آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بعدك فوق الذين مكروا بك من اليهود وكذبوك، ومن سار بسيرتهم ممن لم يهتد بهداك، وهذه الفوقية إما فوقية دينية روحانية وهى فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق، والبعد من الباطل، وإما فوقية دنيوية وهى كونهم أصحاب السيادة عليهم، وفي هذا إخبار عن ذلّ اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة وقد تحقق ذلك، فلا يرى ملك يهودي، ولا بلد مستقل لهم بخلاف النصارى، ولكن هذا لم يتحقق زمن المسيح لأتباعه، بل كان اليهود يغلبونهم على أمرهم، فالوجه الأول أولى بالاعتبار.

5. ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أي إن هذا السموّ في الآداب والأخلاق والكمال في الفضائل سيستمر لهم ما دامت السموات والأرض، وبعدئذ يفعل الله بهم ما يشاء.

6. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أي ثم مصيركم إلىّ يوم البعث، فأحكم بينكم حينئذ فيما اختلفتم فيه من أمور الدين، وهذا شامل للمسيح والمختلفين معه، وشامل للاختلاف بين أتباعه والكافرين به، وحينئذ يتبين لهم الحق في كل ما اختلفوا فيه بما يمحو شبه الجاحدين وعناد المخالفين.

7. ثم بين جزاء المحقّ والمبطل وكيفيته فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ أي فأما الذين كذبوك وهم اليهود فأعذبهم في الدنيا بإذلالهم بالقتل والأسر وتسليط الأمم عليهم، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى، وهم لا يجدون حينئذ نصيرا كما لم يجدوا ذلك في الدنيا.

8. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ أي وأما الذين صدّقوك وأقروا بنبوّتك وبما جئتهم به من الحق، ودانوا بالإسلام الذي بعثك الله به، وعملوا بالأوامر وتركوا النواهي ـ فيؤتيهم الله أجرهم كاملا غير منقوص ثم بين علة جزاء الفريقين بما جازى فقال:

9. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ أي والله لا يحب من ظلم غيره حقا له، أو وضع شيئا في غير موضعه، فكيف بظلم عباده له، فهو يجازيه بما يستحق، وفي هذا وعيد منه للكافرين به وبرسله، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله.

10. ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ أي هذه الأنباء التي أنبأتك بها عن عيسى وأمه مريم وأمها، وزكريا وابنه يحيى، وما قصّ من أمر الحوار بين واليهود من بنى إسرائيل نقرئها لك على لسان جبريل، وهى من القرآن الحكيم الذي يبين وجوه العبر في الأخبار والحكم في الأحكام فيهدي المؤمنين إلى لب الدين وفقه الشريعة، وأسرار الاجتماع البشرى، وفيها حجة على من حاجك من وفد نجران، ويهود بنى إسرائيل الذين كذبوك وكذبوا ما جئتهم به من الحق‏.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/169.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد أرادوا صلب عيسى عليه السلام وقتله، وأراد الله أن يتوفاه، وأن يرفعه إليه، وأن يطره من مخالطة الذين كفروا والبقاء بينهم وهم رجس ودنس، وأن يكرمه فيجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.. وكان ما أراده الله، وأبطل الله مكر الماكرين: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾

2. فأما كيف كانت وفاته، وكيف كان رفعه.. فهي أمور غيبية تدخل في المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله، ولا طائل وراء البحث فيها، لا في عقيدة ولا في شريعة، والذين يجرون وراءها، ويجعلونها مادة للجدل، ينتهي بهم الحال إلى المراء، وإلى التخليط، وإلى التعقيد، دون ما جزم بحقيقة، ودون ما راحة بال في أمر موكول إلى علم الله.

3. أما أن الله جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.. فلا يصعب القول فيه، فالذين اتبعوه هم الذين يؤمنون بدين الله الصحيح.. الإسلام.. الذي عرف حقيقته كل نبي، وجاء به كل رسول، وآمن به كل من آمن حقا بدين الله.. وهؤلاء فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة في ميزان الله.. كما أنهم كذلك في واقع الحياة كلما واجهوا معسكر الكفر بحقيقة الإيمان، وحقيقة الاتباع.. ودين الله واحد، وقد جاء به عيسى بن مريم كما جاء به من قبله ومن بعده كل رسول، والذين يتبعون محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم هم في الوقت ذاته اتبعوا موكب الرسل كلهم، من لدن آدم عليه السلام إلى آخر الزمان، وهذا المفهوم الشامل هو الذي يتفق مع سياق السورة، ومع حقيقة الدين كما يركز عليها هذا السياق.

4. أما نهاية المطاف للمؤمنين والكافرين، فيقررها السياق في صدد إخبار الله لعيسى عليه السلام: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، وفي هذا النص تقرير لجدية الجزاء، وللقسط الذي لا يميل شعرة، ولا تتعلق به الأماني ولا الافتراء، رجعة إلى الله لا محيد عنها، وحكم من الله فيما اختلفوا فيه لا مرد له، وعذاب شديد في الدنيا والآخرة للكافرين لا ناصر لهم منه، وتوفية للأجر للذين آمنوا وعملوا الصالحات لا محاباة فيه ولا بخس.

5. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾.. فحاشا أن يظلم وهو لا يحب الظالمين.. وكل ما يقوله أهل الكتاب إذن من أنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودات، وكل ما رتبوه على هذا التميع في تصور عدل الله في جزائه من أماني خادعة.. باطل باطل لا يقوم على أساس.

6. وعند ما يصل السياق إلى هذا الحد من قصة عيسى التي تدور حولها المناظرة ويدور حولها الجدل، يبدأ التعقيب الذي يقرر الحقائق الأساسية المستفادة من هذا القصص، وينتهي إلى تلقين الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يواجه به أهل الكتاب مواجهة فاصلة تنهي الحوار والجدل؛ وتستقر على حقيقة ما جاء به، وما يدعو إليه، في وضوح كامل وفي يقين: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾

7. وهكذا نجد هذا التعقيب يتضمن ابتداء صدق الوحي الذي يوحى إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ ذلك القصص، وذلك التوجيه القرآني كله، فهو وحي من الله، يتلوه الله على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي التعبير معنى التكريم والقرب والود.. فماذا بعد أن يتولى الله تعالى التلاوة على محمد نبيه؟ تلاوة الآيات والذكر الحكيم.. وإنه لحكيم يتولى تقرير الحقائق الكبرى في النفس والحياة بمنهج وأسلوب وطريقة تخاطب الفطرة وتتلطف في الدخول عليها واللصوق بها بشكل غير معهود فيما يصدر عن غير هذا المصدر الفريد.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/404.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم علل لذلك وبينه بقوله: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى﴾ الآية، فقد أوحى الله سبحانه إلى عيسى عليه السّلام بما بيّت الله القوم، ووعده سبحانه بأنهم لن ينالوا منه الذي أرادوا فيه، إذ أنه سبحانه سيوفّيه أجله المقدور له، غير منقوص منه شيء، وأن موته بيد الله لا بأيديهم، وسيرفع الله منزلته عنده، ويجعله من عباده المقربين إليه، ويطهره من اليهود فلا يصلب، ولا تمسه اللعنة، التي أرادوا أن يلبسوه إياها بصلبه!

2. ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أي أن المؤمنين من أتباع المسيح هم فوق الكافرين إلى يوم القيامة، وهذا حكم عام فيما بين المؤمنين والكافرين.. فحيث كان مؤمنون وكافرون، فالمؤمنون فوق الكافرين أبدا.. فلا يتساوى المؤمن والكافر في المركز الاجتماعي في الدنيا، حيث لا يأكل المؤمن طعام الكافر، ولا يتزوج منه، ولا يزوّجه، فالكافرون في منزلة دون منزلة المؤمنين أبدا، وإن تساووا في الآدمية والإنسانية، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾

3. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ بيان لحكم الله في الآخرة بين المؤمنين والكافرين، بعد أن بين الله هؤلاء وهؤلاء فيما اختلفوا فيه من الحق.. فالمؤمنون هم أهل الحق، ولهم يحكم الله، والكافرون أصحاب الباطل وعليهم يحكم الله، وفي الآية وعيد للكافرين ونذير بالعذاب الذي ينتظرهم، وقد حملته الآية الكريمة تلميحا لا تصريحا، ولكنه تلميح يشير بأكثر من إشارة إلى الآيات الكثيرة التي حملت إلى الكافرين أهوال العذاب الذي توعدهم الله به.

4. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ التفسير: في هاتين الآيتين بيان لما تضمنه قوله تعالى في الآية السابقة عليهما: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ وفي هذا الفصل ينكشف الكافرون، ويعرف المؤمنون، ويفرّق بينهما في الموقف.. كل جماعة في جهة.. ثم يكون الجزاء لكل من الفريقين حسب عمله.. فأما الذين كفروا فلهم عذاب شديد، ليس له من الله دافع، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفون أجرهم كاملا، وتتلقاهم الملائكة تزفّهم إلى جنات النعيم.

5. سؤال وإشكال: كيف يعذبون عذابا شديدا في الدنيا، وهم الآن في الآخرة وفي موقف الحساب؟ والجواب: الوعيد من الله سبحانه وتعالى وعيد قديم، ولكنه يتجدد بتجدد الأزمان والأحداث، فيقع العلم به للمنذرين في الوقت الذي ينذرون به، لا يوم القيامة والحساب.

6. سؤال وإشكال: كيف يتناسب قوله تعالى: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ بعد قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾؟ والجواب: هو أن المؤمنين قد بشّروا به في قوله تعالى: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ وأنهم قد اطمأنوا إلى هذا الوعد الكريم، ونعموا به، وإن نعيمهم ليتضاعف حين ينظرون إلى أصحاب النّار وما يلاقون فيها من عذاب الهون، فيسبّحون بحمد الله إذ نجاهم من هذا البلاء، وغمرهم بفضله ونعمه ـ إن المؤمنين وهم في تلك الحال ليسألون عن عذاب أهل العذاب، وما الذي أوردهم هذا المورد الوبيل، فيقال لهم: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ أي أن هؤلاء الذين يتقلبون في النار، إنما هم من الذين ظلموا أنفسهم، بأن حجبوها عن الإيمان، وسبحوا بها في ظلمات الكفر والضلال، فهم إذن ظالمون، ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، ولن ينال رضا الله، وينعم بنعيم جناته إلّا من رضى عنه وأحبّه!

7. سؤال وإشكال: كيف جاء الوعيد للذين كفروا في صيغة المتكلم في قوله تعالى: ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ﴾ على حين جاء الوعد للذين آمنوا في صيغة الغائب في قوله سبحانه: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾؟ والجواب: هو أن الذين كفروا لم يؤمنوا بالله، بل ولم يعترفوا بوجوده، ومن هنا فإنهم لا يعرفونه، ولا يتصورون له وجودا.. فكان من المناسب لتلك الحال أن يسمعهم الله صوته، وأن يواجههم بالجريمة التي اقترفتها أيديهم، ويلقاهم بالعذاب الذي هم أهل له.. وهذا أبلغ في إلفات الكافرين إلى ما هم فيه من غفلة وضلال، إذ يرون عذاب الله عيانا، في هذا النذير الذي ينذرهم الله مواجهة به، ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ أما المؤمنون فشأنهم مع الله على غير هذا.. إن الله معهم دائما يملأ قلوبهم، ويعمر حياتهم، ويرون قدرته وحكمته في كل ما تتصل به حواسهم، أو يتصوره خيالهم.. ومن ثم فإن ما بينهم وبين الله من معرفة لا يحتاج إلى إعلان.. إنهم آمنوا بالله عن غيب، وصدّقوا ما جاءهم به الرّسل من عند الله، فكان من المناسب لحالهم تلك أن يخاطبوا من الله بصيغة الغيبة.. تلك الغيبة التي هي حضور جلىّ في قلوبهم، وظهور باد في كل ما أبدع الله وصوّر!

8. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما تقدم مما ذكر الله سبحانه من أخبار المسيح، وموقف اليهود منه، ومكرهم، ومكر الله بهم.. وما يلقى الكافرون بالله وبرسله من عذاب ونكال، وما يجزى به المؤمنون بالله من رضى ورضوان، ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ أي ذلك الذي ذكرناه لك هو متلوّ عليك من آيات الله ومن الذكر الحكيم، أي القرآن الذي هو مجمع آيات الله المتلوّة عليك، والمعنى أن ما يتلى عليك هو آيات من آيات الله المسطورة في القرآن الكريم، الذي ينزل عليك آية آية، أو آيات آيات، فيها عظة وذكرى، وعبرة وحكمة.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/474.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ استئناف؛ و(إذ) ظرف غير متعلق بشيء، أو متعلق بمحذوف، أي (اذكر إذ قال الله) كما تقدم في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30] وهذا حكاية لأمر رفع المسيح وإخفائه عن أنظار أعدائه، وقدّم الله في خطابه إعلامه بذلك استئناسا له، إذ لم يتم ما يرغبه من هداية قومه، مع العلم بأنه يحب لقاء الله، وتبشيرا له بأنّ الله مظهر دينه؛ لأنّ غاية هم الرسول هو الهدى، وإبلاغ الشريعة، فلذلك قال له: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والنداء فيه للاستئناس، وفي الحديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا يقبض نبيء حتى يخيّر)

2. ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ ظاهر معناه: إنّي مميتك، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله لأنّ أصل فعل توفّى الشيء أنه قبضه تاما واستوفاه، فيقال: توفاه الله أي قدّر موته، ويقال: توفاه ملك الموت أي أنفذ إرادة الله بموته، ويطلق التوفّي على النوم مجازا بعلاقة المشابهة في نحو قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام: 60] ـ وقوله ـ ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الزمر: 42]، أي وأما التي لم تمت الموت المعروف فيميتها في منامها موتا شبيها بالموت التام كقوله: {هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ‏} ـ ثم قال ـ ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ فالكل إماتة في التحقيق، وإنما فصل بينهما العرف والاستعمال، ولذلك فرّع بالبيان بقوله: ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾

3. الكلام منتظم غاية الانتظام، وقد اشتبه نظمه على بعض‏ الأفهام، وأصرح من هذه الآية آية المائدة: ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ لأنه دل على أنه قد توفّى الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض، وحملها على النوم بالنسبة لعيسى لا معنى له؛ لأنه إذا أراد رفعه لم يلزم أن ينام؛ ولأنّ النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الاهتمام بذكره وترك ذكر المقصد، فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة، ولذلك قال ابن عباس، ووهب بن منبه: إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية (قال مالك: مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة) قال ابن رشد في (البيان والتحصيل): (يحتمل أنّ قوله: مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز)

4. وقال الربيع: هي وفاة نوم رفعه الله في منامه، وقال الحسن وجماعة: معناه إنّي قابضك من الأرض، ومخلصك في السماء، وقيل: متوفيك متقبل عملك، والذي دعاهم إلى تأويل معنى الوفاة ما ورد في الأحاديث الصحيحة: أنّ عيسى ينزل في آخر مدّة الدنيا، فأفهم أنّ له حياة خاصة أخصّ من حياة أرواح بقية الأنبياء، التي هي حياة أخصّ من حياة بقية الأرواح؛ فإنّ حياة الأرواح متفاوتة كما دلّ عليه حديث (أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر) ورووا أنّ تأويل المعنى في هذه الآية أولى من تأويل الحديث في معنى حياته وفي نزوله، فمنهم من تأوّل معنى الوفاة فجعله حيا بحياته الأولى، ومنهم من أبقى الوفاة على ظاهرها، وجعل حياته بحياة ثانية، فقال وهب بن منبه: توفاه الله ثلاث ساعات ورفعه فيها، ثم أحياه عنده في السماء، وقال بعضهم: توفّي سبع ساعات، وسكت ابن عباس ومالك عن تعيين كيفية ذلك، ولقد وفّقا وسدّدا، ويجوز أن تكون حياته كحياة سائر الأنبياء، وأن يكون نزوله ـ إن حمل على ظاهره ـ بعثا له قبل إبان البعث على وجه الخصوصية، وقد جاء التعبير عن نزوله بلفظ (يبعث الله عيسى فيقتل الدجال) رواه مسلم عن عبد الله بن عمر، ولا يموت بعد ذلك بل يخلص من هنالك إلى الآخرة.

5. وقد قيل في تأويله: إنّ عطف‏ ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ على التقديم والتأخير؛ إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إنّي رافعك إليّ ثم متوفيك بعد ذلك، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أنّ في حديث أبي هريرة في كتاب أبي داوود: (ويمكث (أي عيسى) أربعين سنة ثم يتوفى فيصلّي عليه المسلمون)

6. الوجه أن يحمل قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ على حقيقته، وهو الظاهر، وأن تؤوّل الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حيّ على معنى حياة كرامة عند الله، كحياة الشهداء وأقوى، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره‏ دون تأويل، أنّ ذلك يقوم مقام البعض، وأنّ قوله ـ في حديث أبي هريرة ـ ثم يتوفّى فيصلي عليه المسلمون مدرج من أبي هريرة لأنّه لم يروه غيره ممن رووا حديث نزول عيسى، وهم جمع من الصحابة، والروايات مختلفة وغير صريحة، ولم يتعرض القرآن في عدّ مزاياه إلى أنه ينزل في آخر الزمان.

7. التطهير في قوله: ﴿وَمُطَهِّرُكَ﴾ مجازي بمعنى العصمة والتنزيه؛ لأنّ طهارة عيسى هي هي، ولكن لو سلط عليه أعداؤه لكان ذلك إهانة له.

8. حذف متعلق (كفروا) لظهوره أي الذين كفروا بك وهم اليهود، لأنّ اليهود ما كفروا بالله بل كفروا برسالة عيسى، ولأنّ عيسى لم يبعث لغيرهم فتطهيره لا يظنّ أنّه تطهير من المشركين بقرينة السياق.

9. الفوقية في قوله: ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بمعنى الظهور والانتصار، وهي فوقية دنيوية بدليل قوله: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، والمراد بالذين اتبعوه: الحواريون ومن اتبعه بعد ذلك، إلى أن نسخت شريعته بمجيء محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

10. جملة ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ عطف على جملة ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إذ مضمون كلتا الجملتين من شأن جزاء الله متّبعي عيسى والكافرين به، وثم للتراخي الرتبي؛ لأنّ الجزاء الحاصل عند مرجع الناس إلى الله يوم القيامة، مع ما يقارنه من الحكم بين الفريقين فيما اختلفوا فيه، أعظم درجة وأهم من جعل متبعي عيسى فوق الذين كفروا في الدنيا.

11. الظاهر أنّ هذه الجملة ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مما خاطب الله به عيسى، وأنّ ضمير مرجعكم، وما معه من ضمائر المخاطبين، عائد إلى عيسى والذين اتبعوه والذين كفروا به، ويجوز أن يكون خطابا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين، فتكون ثم للانتقال من غرض إلى غرض، زيادة على التراخي الرتبي والتراخي الزمني.

12. المرجع مصدر ميمي معناه الرجوع، وحقيقة الرجوع غير مستقيمة هنا فتعيّن أنّه رجوع مجازي، فيجوز أن يكون المراد به البعث للحساب بعد الموت، وإطلاقه على هذا المعنى كثير في القرآن بلفظه وبمرادفه نحو المصير، ويجوز أن يكون مرادا به انتهاء إمهال الله إياهم في أجل أراده فينفذ فيهم مراده في الدنيا، ويجوز الجمع بين المعنيين باستعمال اللفظ في مجازيه، وهو المناسب لجمع العذابين في قوله: ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ وعلى الوجهين يجري تفسير حكم الله بينهم فيما هم فيه يختلفون، وقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ﴾ إلى قوله‏ ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ تفصيل لما أجمل في قوله‏ ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾

13. ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ المقصود من هذا الوعيد هو عذاب الآخرة لأنه وقع في حيز تفصيل الضمائر من قوله: ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ وإنما يكون ذلك في الآخرة، فذكر عذاب الدنيا هنا إدماج، فإن كان هذا مما خاطب الله به عيسى فهو مستعمل في صريح معناه، وإن كان كلاما من الله في القرآن خوطب به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون، صح أن يكون مرادا منه أيضا التعريض بالمشركين في ظلمهم محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم عن مكابرة منهم وحسد، وتقدم تفسير إسناد المحبة إلى الله عند قوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ في هذه السورة.

14. جملة ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ تذييل لجملة ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أي ولا يجدون ناصرين ينصرونهم علينا في تعذيبهم الذي قدّره الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ قضية جزئية لا تقتضي استمرار العذابين:

أ. فأما عذاب الدنيا فهو يجري على نظام أحوال الدنيا: من شدة وضعف وعدم استمرار، فمعنى انتفاء الناصرين لهم منه انتفاء الناصرين في المدة التي قدّرها الله لتعذيبهم في الدنيا، وهذا متفاوت، وقد وجد اليهود ناصرين في بعض الأزمان مثل قصة استير في الماضي وقضية فلسطين في هذا العصر.

ب. وأما عذاب الآخرة: فهو مطلق هنا، ومقيد في آيات كثيرة بالتأييد، كما قال: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: 167]

15. جملة ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ تذييل للتفصيل كله فهي تذييل ثان لجملة ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ بصريح معناها، أي أعذّبهم لأنهم ظالمون والله لا يحبّ الظالمين وتذييل لجملة ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إلى آخرها، بكناية معناها؛ لأنّ انتفاء محبة الله الظالمين يستلزم أنه يحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلذلك يعطيهم ثوابهم وافيا.

16. معنى كونهم ظالمين أنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وظلم النصارى الله بأن نقصوه بإثبات ولد له وظلموا عيسى بأن نسبوه ابنا لله تعالى، وظلمه اليهود بتكذيبهم إياه وأذاهم.

17. عذاب الدنيا هو زوال الملك وضرب الذلة والمسكنة والجزية، والتشريد في الأقطار، وكونهم يعيشون تبعا للناس، وعذاب الآخرة هو جهنم.

18. معنى‏ ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ أنهم لا يجدون ناصرا يدفع عنهم ذلك وإن حاوله لم يظفر به وأسند فنوفيهم إلى نون العظمة تنبيها على عظمة مفعول هذا الفاعل؛ إذ العظيم يعطى عظيما، والتقدير فيوفيهم أجورهم في الدنيا والآخرة بدليل مقابله في ضدّهم من قوله: ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ وتوفية الأجور في الدنيا تظهر في أمور كثيرة: منها رضا الله عنهم، وبركاته معهم، والحياة الطيبة، وحسن الذكر، وجملة ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ تذييل، وفيها اكتفاء: أي ويحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

19. ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ تذييل: فإنّ الآيات والذكر أعمّ من الذي تلي هنا، واسم الإشارة إلى الكلام السابق من قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ [آل عمران: 45] وتذكير اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالكلام أو بالمذكور، وجملة نتلوه حال من اسم الإشارة على حدّ ﴿وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا﴾ [هود: 72] وهو استعمال عربي فصيح وإن خالف في صحة مجيء الحال من اسم الإشارة بعض النحاة.

20. ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾ خبر ﴿ذَلِكَ﴾ أيّ إنّ تلاوة ذلك عليك من آيات صدقك في دعوى الرسالة؛ فإنك لم تكن تعلم ذلك، وهو ذكر وموعظة للناس، وهذا أحسن من جعل نتلوه خبرا عن المبتدأ، ومن وجوه أخرى، والحكيم بمعنى المحكم، أو هو مجاز عقلي أي الحكيم عالمه أو تاليه.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/108.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ هذه الآيات موصولة بالقصص السابق، والذى تدل عليه الآيات قبلها هو أن معركة قائمة بين الخير والشر؛ فعيسى عليه السلام ينادى أنصاره إلى الله تعالى، ويجيبه الحواريون بالإيمان والإخلاص والاستعداد للابتلاء في سبيل إيمانهم ونصرتهم للسيد المسيح عليه السلام، والشر يدبّر التدبير السّيّئ، والله من ورائهم محيط، يدبر الخير ويهدى إليه‏ ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾

2. وفي هذه الآيات يبين سبحانه خيبة تدبيرهم ونجاته عليه السلام من شرهم، وذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ والمعنى: اذكر يا محمد للعظة والاعتبار قصص عيسى بن مريم، إذ قال الله تعالى له في نداء رحيم منجيا له من أذى اليهود الذين كانوا ولا يزالون أعداء لكل‏ خير، أنصارا لكل شر: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾

3. المعنى المتبادر من هذا النص الكريم أن الله تعالى توفى عيسى كما يتوفى الأنفس كلها، وأنه رفع مكانته برفع روحه إليه سبحانه وتعالى، كما ترفع أرواح الأنبياء إليه سبحانه وتعالى، هذا ظاهر هذا النص، ولكن جاءت نصوص أخرى يفيد ظاهرها أن الله تعالى رفعه بجسده إليه سبحانه؛ فقد قال تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء] فظاهر هذا النص أن الله تعالى رفعه إليه بجسمه؛ لأنه مقابل بالقتل والصلب، ولا يصلح مقابلا لهما رفعه بالروح؛ لأنه يجوز أن يجتمع معهما، ويؤيد هذا ما ورد في صحاح السنة من أن عيسى عليه السلام سينزل إلى الأرض فيملؤها عدلا، كما ملئت جورا وظلما؛ فقد روى مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرنّ الصليب، وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، ولتتركنّ القلاص‏ فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، ويدعون إلى المال فلا يقبله أحد) فإن ظاهر هذا الحديث يفيد أنه ينزل بجسمه من الملكوت الأعلى.

4. إزاء تعارض ظواهر النصوص على ذلك النحو، كان لا بد من تأويل جانب منها لتكون ثمة مواءمة بينه وبين الأخرى:

أ. ففريق من العلماء وهم الأقل عددا، أجروا قوله تعالى في الآية الكريمة التي نتكلم في معناها على ظاهرها وأولو ما عداها؛ ففسروا قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ بمعنى مميتك ورافع منزلتك وروحك إلىّ، فالله سبحانه وتعالى توفاه كما يتوفى الأنفس كلها، ورفع روحه كما يرفع أرواح النبيين إليه، وإذا كان أصحاب هذا الرأي قد فسروا الآية على ذلك الظاهر:

فقد قرروا أنه لا معارضة بينها وبين الأحاديث التي تفيد النزول؛ لأنها تدل على مجرد العودة إن أخذناها بظاهرها، وليس الله سبحانه وتعالى بعاجز عن أن يرد روحه إلى جسمه، وهو الذي يحيى العظام وهى رميم، وكما قال تعالى: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ [الأعراف‏] وفضل عيسى عليه السلام أنه عاد إلى جسده قبل أن يعود غيره إلى جسده، هذا إذا قبلت هذه الأحاديث بظاهرها من غير تأويل، ومن غير نظر إلى سندها وكونها أخبار آحاد لا يؤخذ بها في الاعتقاد.

وأما التوفيق بين الآية الكريمة وبين قوله تعالى: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ فإنه في نظر أصحاب ذلك النظر لا يحتاج إلى عناء في التأويل؛ لأن الإضراب الذي تضمنته (بل) إضراب عن القتل والصلب، وليس إضرابا عن الموت الطبيعي وكونه لا يقتل ولا يصلب لا يقتضى أنه لا يموت موتا طبيعيا، والتعبير بقوله: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ فيه إشارة إلى معنى الكرامة والإعزاز والحماية، وأنه تعالى حاميه منهم، ومانعه دونهم، وأنهم لن يتمكنوا من رقبته؛ إذ إن الذي يحميها هو خالق الكون، وخالق القدر، هذا هو التفسير الأول للآية الكريمة، وهو الذي يجريها على ظاهرها من غير أي تأويل، ويقرر أنه إن كان لا بد من تأويل فهو فيما يعارض ظاهره ظاهرها، على أن التوفيق في ذاته ممكن من غير تأويل بعيد أو قريب، إذ الظاهر أن التفسيرين في نظرهم غير متعارضين، والتوجيه الصحيح لمعانيها يجعلها متلاقية غير متنافرة وإن التأويل إنما يكون بترك ظاهر الآية الكريمة: ﴿مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾

ب. الثاني: يقرر أن الرفع بالجسم لا بالروح فقط، وأن عيسى حيّ في السماء، وأن الأرض قد خلت منه ليعود إليها فيملؤها عدلا، بعد أن ملئت جورا؛ وإن أصحاب هذا الرأي وهم الأكثرون ويحتاجون بلا ريب إلى تأويل هذه الآية، ولهم في التأويل طرق مختلفة:

منها أن قوله‏ ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ ليس معناها مميتك، بل‏ معناها هو المعنى اللغوي الأصلي إذ إن التوفّى في اللغة أخذ الشيء وافيا تاما، والمراد في نظرهم أنّى موفيك حياتك كلها في الدنيا على الأرض ببقائك فيها، ثم رافعك إلى السماء تستوفى حظك من الحياة هناك، ولكن يعارض هذا التأويل أن القرآن له استعمال في العبارات يخصصها، وقد خصص هذا اللفظ بالموت، كما خصصته اللغة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ وقوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة]

ومن التأويلات: أنهم فسروا الوفاة بمعنى النوم باعتبار أن النوم هو الموتة الأولى، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام‏]، والمعنى على هذا منومك نوما عميقا، ثم رافعك في أثناء هذا النوم إلىّ.

ومن التأويلات: ما ذكره القرطبي بقوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ على التقديم والتأخير؛ لأن الواو لا توجب الرتبة، والمعنى إنّي رافعك إلىّ ومطهّرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [طه‏]، والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما أي أن الوفاة ستكون، وليست سابقة على الرفع، بل هي متأخرة عنه، أي أنه عليه السلام يموت بعد أن ينزل إلى الأرض ولا شك أن هذا ضرب من التأويل، وليس ظاهر النص.

5. ذانك نظران في تفسير الآية الكريمة:

أ. أولهما يعتمد على ظاهر الآية الكريمة، وعلى أنه لا تعارض بين هذا الظاهر وظواهر النصوص الأخرى، ومنهم من يقف من أحاديث نزوله إلى الأرض موقف المستفهم؛ لماذا اختص عيسى بهذا؟ ولما ذا لا يكون هذا لنبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ ويخشى أن يكون ذلك من دس النصارى، وكم دسوا في الإسلام؛ ولقد كان في عصر التابعين يوحنا الدمشقى في بلاط بنى‏ أمية يؤلف الجماعات السرية التي تدس الآراء والأفكار التي من شأنها أن تفسد عقائد المسلمين.

ب. أما النظر الثاني فاعتماده الأكبر على الأخبار التي وردت بنزول عيسى عليه السلام وأوّل من أجلها هذه الآية الكريمة، مع أن الأخبار أحاديث آحاد، وأولئك هم الأكثرون كما قلنا.

6. ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ التطهير معناه إزالة الأدران والخبائث:

أ. والله سبحانه وتعالى طهر المسيح عليه السلام من الآثام التي حاول أن يلصقها به وبأمه اليهود ومن جاؤوا بعده ممن ادعوا اتباعه وهم لم يتبعوه، وأبدى سبحانه وتعالى للملإ من اليهود طهر أمه وعفتها ونزاهتها.

ب. كما أبدى روحانيته وسلامته مما رماه به من عادوه وأفرطوا في عداوته، وما رماء به من أحبوه وأفرطوا في محبته حتى حسبوا أنه إله أو ابن إله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، هذا تطهير الله لعيسى عليه السلام.

ج. ولقد طهره أيضا بأن لم يمكن اليهود والرومان من صلبه ومن قتله بل شبه لهم، ونجاه الله تعالى من كيدهم.

7. وهكذا طهّر الله عيسى من كل رجس معنوي أو حسى، ومن كل أذى حسى أو معنوي ولقد جعل الله سبحانه وتعالى الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.

8. سؤال وإشكال: من هم الذين اتبعوه؟ ومن هم الذين كفروا به؟ وما هذه الفوقية التي تكون للذين اتبعوه؟ والجواب: ليس الذين اتبعوه هم الذين قالوا إنا نصارى أو نحن نتبع المسيح وكانوا يزعمون أنه ثالث ثلاثة أو ابن الله؛ لأنه ما قال هذا وما ادعاه، ولكنه جاء بالتوحيد، والإيمان بالله العلى القدير وحده؛ وإنما الذين اتبعوه هم الذين آمنوا به، وبأنه رسول من رب العالمين، وبأنه بشر كسائر البشر، وأن تعاليمه هي العدالة، والرحمة، والسماحة، والإخلاص في طلب الحق وعبادة الله تعالى كما أمر الله؛ ولذلك لم يجانب الحق من قال إن أتباعه هم المسلمون، لأنهم هم الذين‏ يؤمنون برسالته حق الإيمان من غير إفراط ولا تفريط، ومن غير أن يتجاوزوا به قدره الذي قدره الله تعالى له وسواه عليه.

9. الفوقية ليست هي القوة؛ فإن الأسد أقوى من الإنسان، ولكنه ليس فوقه ولا أعلى منه، بل الفوقية هي فوقية الإدراك والإيمان والإخلاص؛ وذلك لأن سبب الفوقية هو الاتباع، والمسبب من جنس السبب، فالسبب معنوي روحي، فالفوقية روحية معنوية، فليست الفوقية إذن فوقية سيف وسنان، بل فوقية حجة وبرهان.. ولقد قال الزمخشري في ذلك: (يعلونهم بالحجة، وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف، ومتبعوه هم المسلمون؛ لأنهم متبعوه في أصل الإسلام، وإن اختلفت الشرائع، دون الذين كذبوه، والذين كذبوا عليه من اليهود والنصارى)

10. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ إن الفوقية التي أشرنا إليها هي فوقية الحجة القوية الثابتة عن النظر بعين الحق السائغ، والقسطاس المستقيم، وإن هذه الحجة قائمة في الدنيا إلى يوم القيامة، حتى إذا انتهوا إلى ذلك اليوم المعلوم المقطوع بأنه سيقع لا محالة، يكون الاحتكام بها إلى الحكم العدل العليم؛ ولذا قال سبحانه: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ أي إلىّ رجوعكم ومآبكم، وإذا كان المرجع إلى الله والمصير إليه سبحانه وهو العليم بكل شيء، فهو الذي يحكم بينهم فيما كانوا يختلفون فيه، وحجة بعضهم فوق حجة الآخرين، فالفاء في قوله تعالى: ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ هي التي تسمى فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، وقد ذكرناه في مطوي كلامنا.

11. ولقد بين سبحانه وتعالى بعض الحكم مفصلا في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ هذا هو الجزء الأول من الحكم، وهو عذاب الذين كفروا، وفي التعبير بالموصول إشارة إلى أن سبب العذاب هو كفرهم، وقد أكد سبحانه وتعالى شدة العذاب بعدة تأكيدات:

أ. أولها: بنسبة التعذيب إليه، وهو القوىّ القهّار الغالب على كل شيء، وفيه إشعار بعدالة العذاب عدالة مطلقة.

ب. ثانيها: بالتأكيد بالمصدر.

ج. ثالثها: بالوصف بالشدة.

د. رابعها: بعدم رجائه إنهاءه أو إزالته؛ إذ لا يوجد لهم من ناصر؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ وهو نفى مؤكد مستغرق، أي ليس لهم من ناصر أيا كان هذا الناصر، وأيا كانت نصرته، ولو كانت ضئيلة.

12. ذكر أن العذاب في الدنيا، وفي الآخرة؛ أما عذاب الآخرة فالأمر فيه إلى الله تعالى العلى القدير:

أ. وأما عذاب الدنيا بالنسبة لمن كذبوا المسيح من اليهود فهو هذه الذلة والتفريق في الأرض، ومهما يحاول الكافرون أمثالهم لهم من معاونة فإن حبلها مقطوع بعون الله تعالى العلى القدير ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء]

ب. وأما النصارى فإن العذاب الذي هم فيه يبدو للناظر الفاحص من اختلافهم فيما بينهم، وتفرقهم أحزابا وشيعا، وجعل بأسهم بينهم شديدا، وهذه هي الحروب بينهم مستمرة مفنية مدمرة، وأي عذاب أشد من هول الحروب التي وقعت بينهم في الحربين العالميتين السابقتين! فكم من دماء أهرقها أولئك الذين كفروا بالمسيح فيما بينهم، وأي ذرية أبادوها، وكم من العمران خربوه! ولا يدرى إلا الله ما سيكشف عنه المستقبل من عذاب شديد يعده بعضهم لبعض، حتى يصيروا في نهايتهم بورا.

13. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ هذا هو الجزء الثاني من الحكم وهو جزاء الذين آمنوا، وقد ذكر جزاءهم الحكيم العليم بأنه يوفيهم أجورهم أي جزاءهم على ما قدموا من أعمال استحقوا عليها ذلك الجزاء، وهو النعيم المقيم؛ وقد جعل ذلك الوفاء وهذا الجزاء مبنيا على أمرين: أحدهما: إيمان صادق، الثاني: عمل صالح، فهما اللذان نيط بهما الجزاء، وفي الحق إن الإيمان الصادق يتبعه العمل الصالح، وليس بمؤمن حق الإيمان من يتخلى عمله عن اعتقاده، ولم يذكر سبحانه وتعالى نعمته في ثوابه، وهو المنعم دائما المتفضل بالثواب؛ للإشعار بأن إنعامه سبحانه منوط بعمل، وليعلمنا العدالة بأن نربط الجزاء بالعمل.

14. ثم ذيل سبحانه وتعالى الآية بقوله: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ لإعلان عدالته ولإثبات أن الكفر والظلم قرينان، وأن الإيمان والعدل متلازمان، ولبيان استحقاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات لما أعطوا من ثواب ونعيم مقيم.

15. ختم الله سبحانه وتعالى قصص عيسى بقوله: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ ذلك القصص الذي ذكرت فيه قصة آل عمران، وقصة مريم وولادتها وزكريا ونداءه وإجابته، وعيسى وروحانيته وآياته الباهرة، نتلوه، أي نقصه عليك بعضه تلو بعض فنتلوه في بيان رائع، وهو من الآيات البينات المثبتة لرسالتك، فما كنت لديهم إذ حدثت هذه الوقائع الثابتة التي لا مجال للريب ولا للشك في صدقها، وما كنت تقرأ في كتاب، ولا تلقيته بيمينك، إنما هو وحى به إليك لتثبت به رسالتك، وتؤيد به دعوتك، وهذا القصص مع دلالته على نبوتك هو في ذاته يحمل العظة والاعتبار؛ ولذلك كان هو من‏ ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ أي الذكر الذي يربى الحكمة في القلوب التي تقرأ وتعي وتدرك، إذ هو يذكر القارئ بأن الأدلة مهما تكن قوتها لا تجعل الضال يهتدى ما لم يفتح قلبه لها، فالأدلة كالنور لا يراه إلا من له بصر يبصر به، اللهم افتح قلوبنا لإدراك الحق والإيمان، إنك على كل شيء قدير.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1242.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف الناس في أمر عيسى اختلافا شديدا.. اختلفوا في أصل وجوده، واختلفوا في طبيعته، واختلفوا في موته:

أ. فمن قائل: لا وجود له إطلاقا، وإنما هو بطل اسطوري، ظهر هذا القول في المانيا وفرنسا وانكلترا في القرن التاسع عشر، وهو أسخف من السخف، لأنه تماما كقول من ينفي الطوائف المسيحية والاسلامية التي تؤمن بالمسيح.

ب. ومن قائل: انه إله، وقائل: بل هو انسان، وقائل: هو إله وانسان في وقت واحد، وقالت اليهود فيه وفي أمه ما يهتز له العرش.

ج. واختلف المسلمون فيما بينهم، فقال أكثرهم: ان المسيح لم يمت، وانه حي في السماء، أو في مكان ما بجسمه وروحه، وانه يخرج في آخر الزمان إلى الأرض، ثم يتوفاه الله بعد ذلك الوفاة الحقيقية.. وقال كثير من المسلمين: انه مات حقيقة، وان الذي ارتفع إلى السماء روحه، لا جسمه.

2. سبب هذا الاختلاف بين المسلمين هو اختلاف ظاهر النص، فالآية 158 من سورة النساء تقول: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾، وهذه الآية ظاهرة في انه حي، بالإضافة إلى أحاديث نبوية في معناها، ولكن الآية 117 من سورة المائدة تقول: ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾.. وقريب منها الآية التي نحن بصددها، وهي: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾، فإن المتبادر من الوفاة هو الموت، وان المعنى الظاهر أني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع، كما قال في إدريس: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾، وكما قال في الشهداء: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، والذين قالوا: ان عيسى حي بجسمه وروحه أولو (توفيتني، ومتوفيك) بوجوه أرجحها ـ نسبيا ـ ان القصد هو التشبيه بالوفاة، لا الوفاة الحقيقية، لأنه إذا رفع إلى السماء فقد انقطعت علاقته بالأرض، وصار كالميت.. أما الذين قالوا: انه مات حقيقة فقد أولو ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ بأن اليهود لم يقتلوا مبادئ عيسى وتعاليمه بقتله وصلبه.. ولكن خيل اليهم انهم قد قضوا على تعاليمه بذلك، مع انها ما زالت قائمة، وستبقى إلى يوم يبعثون.

3. نحن نميل إلى القول الأول، وان عيسى حي رفعه الله اليه بعد أن توفاه بنحو من الأنحاء ـ غير الموت ـ نميل إلى هذا بالنظر إلى ظاهر الآية، والى ما روي عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم من طريق السنة والشيعة انه ما زال حيا، ومع هذا فلا نرى أية فائدة من التحقيق والتدقيق في هذا الموضوع، لأن الايمان بكيفية وفاته، ورفعه ليس من أصول الدين، ولا المذهب، ولا من فروعه في شيء وإنما هو موضوع من الموضوعات الخارجية لا تتصل بحياتنا من قريب أو بعيد.. والله سبحانه لا يسأل الناس غدا، ويقول لهم: بيّنوا كيف توفيت عيسى؟ وكيف رفعته؟.. ان ما يجب علينا الايمان به هو ان عيسى نبي مرسل من الله، وانه خلق بكلمة من الله، وان أمه قديسة.. هذا، إلى ان البحث في هذا الموضوع لا ينتهي بالباحث إلى الجزم واليقين بكيفية وفاته، ولا بكيفية رفعه.. ف الأولى إيكال ذلك إلى الله سبحانه‏.

4. ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾، بعد أن صمم اليهود على قتل عيسى، ودبروا الأمر لذلك بشّره الله بنجاته منهم، وإبطال مكرهم وكيدهم، وانه لن يقتل، ولن يصلب، بل يتوفاه الله حين انتهاء أجله وفاة طبيعية، وانه تعالى سينقله إلى عالم لا يناله أحد فيه بأذى، ولا سلطان فيه لأحد عليه سوى الله، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، أي أبعدك عن ارجاسهم، ودنس معاشرتهم، وعما يريدونه بك من الشر.

5. ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، المراد بالتفوق هنا التفوق نفسا وكمالا، لا التفوق سلطانا ومالا.. وليس من شك ان الذين آمنوا بعيسى أفضل وأكمل من الذين كذبوه.

6. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾، لا يحتاج هذا إلى تفسير، لأن المعنى الظاهر هو المراد.. أجل، ان ضمير الخطاب هنا يشمل الغائبين في كل زمان ومكان من الذين اختلفوا في السيد المسيح، أو في صفة من صفاته.

7. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، أما عذاب الكافر في الآخرة فمعلوم، واما عذابه في الدنيا فلأنه دون المسلم في المرتبة في كثير من أحكام الشريعة الاسلامية(2)، منها ان الكافر تجوز غيبته دون المسلم، ومنها ان الكافر يقتل بالمسلم، والمسلم لا يقتل بالكافر، بل لا دية له عند كثير من الفقهاء إلا إذا كان ذميا.. على ان دية الذمي دون دية المسلم بكثير

8. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ في الحديث ان الظالم والراضي بالظلم سواء، وقال الإمام الباقر عليه السلام: الظلم ثلاثة: ظلم يغفره الله، وظلم لا يغفره الله، وظلم لا يدعه الله، أما الظلم الذي لا يغفره الله فهو الشرك بالله، وأما الظلم الذي لا يغفره الله فظلم الرجل نفسه بينه وبين ربه، وأما الظلم الذي لا يدعه الله فالاعتداء على العباد.. وقال الإمام علي عليه السلام: ظلم الضعيف أفحش الظلم.

9. ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾، ذلك إشارة إلى ما أخبر الله به نبيّه من أنباء أم مريم، ومريم، وزكريا، ويحيى، وعيسى، والحواريين، واليهود الجاحدين، والمعنى: تلونا عليك يا محمد هذه الأنباء لتكون حجة ودليلا لك على من يجادلك في عيسى من وفد نجران وغيرهم.. أما كون هذه الأنباء حجة في يد محمد فلأنه أميّ لا يقرأ، ولا يصحب من يخبره بذلك، فلم يبق من مصدر لعلمه بهذه الأنباء إلا الوحي من الله تعالى.. والمراد بالذكر الحكيم القرآن.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/70.

(2) ما ذكره هنا لا نوافقه عليه، والأدلة الكثيرة تعارضه

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾، التوفي‏ أخذ الشيء أخذا تاما، ولذا يستعمل في الموت لأن الله يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه قال تعالى: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾، أي أماتته، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ـ إلى أن قال ـ: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى﴾، والتأمل في الآيتين الأخيرتين يعطي أن التوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت بل بعناية الأخذ والحفظ، وبعبارة أخرى إنما استعمل التوفي بما في حين الموت من الأخذ للدلالة على أن نفس الإنسان لا يبطل ولا يفنى بالموت الذي يظن الجاهل أنه فناء وبطلان بل الله تعالى يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه، وإلا فهو سبحانه يعبر في الموارد التي لا تجري فيه هذه العناية بلفظ الموت دون التوفي كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا﴾: الفاطر ـ 36، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا حتى ما ورد في عيسى عليه السلام بنفسه كقوله: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾، فمن هذه الجهة لا صراحة للتوفي في الموت.

2. على أن قوله تعالى في رد دعوى اليهود: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾، يؤيد ذلك فإن اليهود كانت تدعي أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وكذلك كانت تظن النصارى أن اليهود قتلت عيسى بن مريم عليه السلام بالصلب غير أنهم كانوا يزعمون أن الله سبحانه رفعه بعد قتله من قبره إلى السماء على ما في الأناجيل، والآيات كما ترى تكذب قصة القتل والصلب صريحا.

3. الذي يعطيه ظاهر قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ الآية أنه حي عند الله ولن يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب، على هذا فيكون توفيه عليه السلام أخذه من بين اليهود لكن الآية مع ذلك غير صريحة فيه وإنما هو الظهور، وسيجيء تمام الكلام في ذلك في آخر سورة النساء.

4. ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، الرفع‏ خلاف الوضع، والطهارة خلاف القذارة، وقد مر الكلام في معنى الطهارة، وحيث قيد الرفع بقوله: ﴿إِلَيَّ﴾، أفاد ذلك أن المراد بالرفع الرفع المعنوي دون الرفع الصوري إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانية التي تتعاورها الأجسام والجسمانيات بالحلول فيها، والقرب والبعد منها، فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾، وخاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض لظهور أن المراد حينئذ هو رفع الدرجة والقرب من الله سبحانه، نظير ما ذكره تعالى في حق المقتولين في سبيله: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، وما ذكره في حق إدريس عليه السلام: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾

5. ربما يقال: إن المراد برفعه إليه رفعه بروحه وجسده حيا إلى السماء على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف أن السماء أي الجسمانية هي مقام القرب من الله سبحانه، ومحل نزول البركات، ومسكن الملائكة المكرمين، ولعلنا نوفق للبحث عن معنى السماء فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.

6. التطهير من الكافرين حيث أتبع به الرفع إلى الله سبحانه أفاد معنى التطهير المعنوي دون الظاهري الصوري فهو إبعاده من الكفار وصونه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر والجحود.

7. ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، وعد منه تعالى له عليه السلام أنه سيفوق متبعي عيسى عليه السلام على مخالفيه الكافرين بنبوته، وأن تفوقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة وإنما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أن الفائقين هم الذين اتبعوه وأن غيرهم هم الذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى عليه السلام أو غير ذلك، غير أنه تعالى لما أخذ الكفر في تعريف مخالفيه ظهر منه أن المراد باتباعه هو الاتباع على الحق أعني الاتباع المرضي لله سبحانه فيكون الذين اتبعوه هم أتباعه المستقيمون من النصارى قبل ظهور الإسلام ونسخه دين عيسى، والمسلمون بعد ظهور الإسلام فإنهم هم أتباعه على الحق، وعلى هذا فالمراد بالتفوق هو التفوق بحسب الحجة دون السلطنة والسيطرة، فمحصل معنى الجملة: أن متبعيك من النصارى والمسلمين ستفوق حجتهم على حجة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة.

8. هذا ما ذكره وارتضاه المفسرون في معنى الآية، والذي أراه أن الآية لا تساعد عليه لا بلفظها ولا بمعناها فإن ظاهر قوله:‏ ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾، أنه إخبار عن المستقبل وأنه سيتحقق فيما يستقبل حال التكلم توف ورفع وتطهير وجعل على أن قوله: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾، وعد حسن وبشرى، وما هذا شأنه لا يكون إلا في ما سيأتي، ومن المعلوم أن ليست حجة متبعي عيسى عليه السلام إلا حجة عيسى نفسه، وهي التي ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة أعني بشارة مريم، وهذه الحجج حجج فائقة حين حضور عيسى قبل الرفع، وبعد رفع عيسى بل كانت قبل رفعه عليه السلام أقطع لعذر الكفار ومنبت خصومتهم، وأوضح في رفع شبههم، فما معنى وعده عليه السلام أنه ستفوق حجة متبعيه على حجة مخالفيه ثم ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوق بقوله: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، مع أن الحجة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم على أن تفوق الحجة على الحجة باق على حاله يوم القيامة على ما يخبر به القرآن في ضمن أخبار القيامة.

9. سؤال وإشكال: لعل المراد من تفوق الحجة تفوقها من جهة المقبولية بأن يكون الناس أسمع لحجة المتبعين وأطوع لها فيكونوا بذلك أكثر جمعا وأوثق ركنا وأشد قوة، والجواب: مرجع ذلك إما إلى تفوق متبعيه الحقيقيين من حيث السلطنة والقوة والواقع خلافه، واحتمال أن يكون إخبارا عن ظهور للمتبعين وتفوق منهم سيتحقق في آخر الزمان لا يساعد عليه لفظ الآية، وإما إلى كثرة العدد بأن يراد أن متبعيه عليه السلام سيفوقون الكافرين أي يكون أهل الحق بعد عيسى أكثر جمعا من أهل الباطل، ففيه مضافا إلى أن الواقع لا يساعد عليه فلم يزل أهل الباطل يربو ويزيد جمعهم على أهل الحق من زمن عيسى إلى يومنا هذا وقد بلغ الفصل عشرين قرنا أن لفظ الآية لا يساعد عليه فإن الفوقية في الآية وخاصة من جهة كون المقام مقام الإنباء عن نزول السخط الإلهي على اليهود وشمول الغضب عليهم إنما يناسب القهر والاستعلاء إما من حيث الحجة البالغة أو من حيث السلطة والقوة وأما من حيث كثرة العدد فلا يناسب المقام كما هو ظاهر.

10. الذي ينبغي أن يقال أن الذي أخذ في الآية معرفا للفرقتين هو قوله: ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾، وقوله‏ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، والفعل إنما يدل على التحقق والحدوث دون التلبس الذي يدل عليه الوصف كالمتبعين والكافرين، ومجرد صدور فعل من بعض أفراد أمة مع رضاء الباقين به وسلوك اللاحقين مسلك السابقين وجريهم على طريقتهم كاف في نسبة ذلك الفعل إليهم، كما أن القرآن يؤنب اليهود ويوبخهم على كثير من أفعال سلفهم كقتل الأنبياء وإيذائهم والاستكبار عن امتثال أوامر الله سبحانه ورسله وتحريف آيات الكتاب، وغير ذلك، وعلى هذا صح أن يراد بالذين كفروا اليهود، وبالذين اتبعوا النصارى لما صدر من‏ صدرهم وسلفهم من الإيمان بعيسى عليه السلام واتباعه ـ وقد كان إيمانا مرضيا واتباعا حقا ـ وإن كان الله سبحانه لم يرتض اتباعهم له عليه السلام بعد ظهور الإسلام، ولا اتباع أهل التثليث منهم قبل ظهور الدعوة الإسلامية، فالمراد جعل النصارى ـ وهم الذين اتبع أسلافهم عيسى عليه السلام ـ فوق اليهود وهم الذين كفروا بعيسى عليه السلام ومكروا به، والغرض في المقام بيان نزول السخط الإلهي على اليهود، وحلول المكر بهم، وتشديد العذاب على أمتهم، ولا ينافي ما ذكرناه كون المراد بالاتباع هو الاتباع على الحق كما استظهرناه في أول الكلام كما لا يخفى.

11. ويؤيد هذا المعنى تغيير الأسلوب في الآية الآتية أعني قوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، إذ لو كان المراد بالذين اتبعوا هم أهل الحق والنجاة من النصارى والمسلمين فقط كان الأنسب أن يقال: وأما الذين اتبعوك فيوفيهم أجورهم من غير تغيير للسياق كما لا يخفى.

12. وهاهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة وتكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم القيامة، والتقريب عين التقريب، وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر.

13. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾، وقد جمع سبحانه في هذا الخطاب بين عيسى وبين الذين اتبعوه والذين كفروا به وهذا مآل أمرهم يوم القيامة، وبذلك يختتم أمر عيسى وخبره من حين البشارة به إلى آخر أمره ونبإه.

14. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، ظاهره أنه متفرع على قوله: ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾، تفرع التفصيل على الإجمال فيكون بيانا للحكم الإلهي في يوم القيامة بالعذاب لليهود الذين كفروا وتوفيه الأجر للمؤمنين، لكن اشتمال التفريع على قوله: ﴿فِي الدُّنْيَا﴾، يدل على كونه متفرعا على مجموع قوله: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ الآية فيدل على أن نتيجة هذا الجعل والرجوع تشديد العذاب عليهم في الدنيا بيد الذين فوقهم الله تعالى عليهم، وفي الآخرة بالنار، وما لهم في ذلك من ناصرين، وهذا أحد الشواهد على أن المراد بالتفويق في الآية السابقة هو التسليط بالسيطرة والقوة دون التأييد بالحجة، وفي قوله: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ دلالة على نفي الشفاعة المانعة عن حلول العذاب بساحتهم، وهو حتم القضاء كما تقدم.

15. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾، وهذا وعد حسن بالجزاء لخير للذين اتبعوا إلا أن مجرد صدق الاتباع لما لم يستلزم استحقاق جزيل الثواب لأن الاتباع كما عرفت وصف صادق على الأمة بمجرد تحققه وصدوره عن عدة من أفرادها وحينئذ إنما يؤثر الأثر الجميل والثواب الجزيل بالنسبة إلى من تلبس به شخصا دون من انتسب إليه اسما فلذلك بدل الذين اتبعوك من مثل قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، ليستقيم المعنى فإن السعادة والعاقبة الحسنى تدور مدار الحقيقة دون الاسم كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، فهذا أجر الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الذين اتبعوا عيسى عليه السلام أن الله يوفيهم أجورهم، وأما غيرهم فليس لهم من ذلك شيء، وقد أشير إلى ذلك في الآية بقوله: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾

16. ومن هنا يظهر السر في ختم الآية ـ وهي آية الرحمة والجنة ـ بمثل قوله: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ مع أن المعهود في آيات الرحمة والنعمة أن تختتم بأسماء الرحمة والمغفرة أو بمدح حال من نزلت في حقه الآية نظير قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾، إلى غير ذلك من الآيات، فقوله: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ مسوق لبيان حال الطائفة الأخرى ممن انتسب‏ إلى عيسى عليه السلام بالاتباع وهم غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

17. ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ إشارة إلى اختتام القصة، والمراد بالذكر الحكيم القرآن الذي هو ذكر لله محكم من حيث آياته وبياناته، لا يدخله باطل، ولا يلج فيه هزل.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/207.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِذِ﴾ هو ظرف إذا كان متعلقاً بمكر الله، وأما إن كان التقدير واذكر إذ قال الله فهو مفعول به، وقوله تعالى: ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ مثل قوله تعالى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر: 42]

2. ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي من رجسهم، فلا ينالونك بقتل ولا أسر ولا يسمعونك كلامهم الفاحش.

3. ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ في الماضي قبل هذا القول وهم ﴿الْحَوَارِيُّونَ﴾ الذين قالوا: ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ ومن كان قد تبعهم بإحسان إن كان أحد قد تبعهم، وجعله تعالى لهم ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ نصرهم أولاً، كما قال تعالى: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: 14]، ومعنى ﴿ظَاهِرِينَ﴾ عالين عليهم غالبين، فأما بعد موتهم، فبقاء العزة لطريقتهم ودينهم إلى يوم القيامة، بحيث يكون ذكرهم بالصلاح والهدى، وأنهم كانوا أهل الحق في الأجيال متوارثاً في النصارى والمسلمين، بخلاف الذين كفروا، فكانوا فوقهم أحياء وأمواتاً ـ والله أعلم، وهذا لا ينافي اختلاف النصارى فيما كان الحواريون عليه إذا كان الغالب بينهم والأكثر أو الإجماع أنهم كانوا على الحق، وإنما اختلفوا في الحق الذي كانوا عليه فقد بقي نصرهم وعلوّ شأنهم وبقيت ذلة أعدائهم؛ لكون أتباعهم مقهورين إلى يوم القيامة.

4. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ هذا من كلام الله تعالى لعبده ورسوله عيسى عليه السلام ﴿ثُمَّ إِلَيَّ﴾ إلى الله ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾ أنت ومن اتبعك من جانب والذين كفروا بك من جانب ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ في الماضي قبل هذا الكلام أو في الماضي قبل رجوعكم إليّ ﴿تَخْتَلِفُونَ﴾ فبيّن: أن الحكم له، وأن الملك يوم القيامة له وحده، وأن مرجع المختلفين إليه وحده؛ لأنه ربهم وحده لا شريك له.

5. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ وهذا فيه فائدتان:

أ. الأولى: أنه قد بشر عيسى عليه السلام بتفوق الحواريين إلى يوم القيامة، وفي هذه الآية الكريمة بين حال الذين كفروا، فأفاد بيان حال الذين كفروا بعيسى، وأنه يعذبهم عذاباً عاجلاً ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ ولعله كان بتسليط أعدائهم عليهم وضرب الذلة عليهم والمسكنة وما صاحب ذلك من العذاب، ويحتمل أنه تعالى عذب الذين كفروا بعيسى ـ وأَصْل الكلام فيهم ـ بعذاب عاجل من عنده أو بأيدي أعدائه لا ندري ما نوعه.

ب. والثانية: عذاب ﴿الْآخِرَةِ﴾ فهو ظاهر.

6. ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ فلن ينقذهم من عذاب الله عزير ولا غيره.

7. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ يحتمل العموم للحواريين ومن قبلهم ومن بعدهم في كل زمان، ودخل الحواريون فيه دخولاً أولياً، ويحتمل اختصاصه بالحواريين لأنه في سياق بيان ما يترتب على الحكم المذكور سابقاً، والأجور: ثوابهم الكريم الذي يسعدون فيه أبداً، وسمى أجوراً لكونه في مقابل العمل جزاء للعاملين ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ فالعاقبة للمتقين وحدهم، قال في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام ـ هو القاسم بن محمد القائم على رأس الألف من الهجرة باليمن ـ: دلت على أن ثواب الله ليس إلا لمن آمن وعمل صالحاً لا لمن قال الإيمان قول بلا عمل، وعلى أن الله لا يحب الظالمين من شريف ووضيع، وعلى أن الله لا يحابي أحداً من خلقه)، ففيها رد على الذين قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18]

8. ﴿ذَلِكَ﴾ القصص لأمر مريم وعيسى عليهما السلام، حال كوننا ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ تتلقاه من ربك هو ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾ الدالة على صدقك {وَ} من ﴿الذَّكَرَ﴾ المحكم الحق الصادق الذي ينطق بالحكمة، فدلالته على حقيقة عيسى وحُكمه ومنزلته عند الله هو الحق.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/471.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أما عيسى عليه السلام فإن الله أراد له أن لا يقع في قبضة الكافرين الذين جاؤوا به ليصلبوه وليقتلوه، وتحرّكت الإرادة الإلهية الخفيّة، في ما أعلنه الله لعيسى عليه السّلام: ﴿إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾، وحار المفسرون في تحديد معنى هذه الكلمة؛ فهل تعني الموت أم تعني بلوغ الحدّ الذي حدده الله له في الأرض في ما توحيه كلمة (التوفية) من معنى بلوغ الحدّ!؟، ويرى البعض أن إطلاق الوفاة على الموت كان على أساس هذه الملاحظة، باعتباره نهاية حدّ الحياة من دون أن يكون لموت الحياة في الجسد مدخلية في طبيعة المعنى، فذهب البعض إلى أن الله قبضه إليه بضع ساعات ثم أحياه، وذهب آخرون إلى أن الله رفعه إليه من دون أن يقبض روحه، لأنه سيعيش إلى نهاية الحياة الدنيا.

2. انطلقت الفكرة التي ترى في مادة الوفاة معنى لا ينطبق على الموت من خلال القول: إن (التوفي أخذ الشيء أخذا تاما، ولذا يستعمل في الموت لأن الله يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه، قال تعالى: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: 61] أي أماتته، وقال تعالى: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ إلى أن قال: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: 11]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى﴾ [الزمر: 42]، والتأمل في الآيتين الأخيرتين يعطي أن التوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت، بل بعناية الأخذ والحفظ؛ وبعبارة أخرى إنما استعمل التوفي بما في حين الموت من الأخذ، للدلالة على أن نفس الإنسان لا يبطل ولا يفنى بالموت الذي يظن الجاهل أنه فناء وبطلان، بل الله تعالى يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه.

3. لكن الظاهر أن كلمة (الوفاة) استعملت في الأخذ الخاص وهو الموت، وأمّا في الآية الثانية فلمقابلة الكلمة بقوله: ﴿وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ﴾ مما يوحي بأن المراد بالوفاة الموت، ولكنه استعمل هذه الكلمة تفننا في التعبير، كما في الآية الثانية، وأما في الآية الأولى، فلأن الإشارة في كلمة ﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾ إلى الوفاة الخاصة التي تنفصل فيها الروح عن الجسد الذي هو المصداق الحقيقي‏ للمعنى، وهو (أخذ الشيء أخذا تاما)، أما ملاحظة أنه استعمل كلمة (التوفي) للدلالة على أن نفس الإنسان لا تبطل ولا تفنى بالموت فلا قرينة عليه من اللفظ، بل الظاهر من الحديث عن وفاة النفس ووفاة الأشخاص هو التأكيد على المعنى الطبيعي للموت الذي يسند إلى النفس أو الإنسان من خلال دلالتهما على الذات، وليس هناك أية إشارة إلى مسألة فناء النفس وعدم فنائها، من حيث هي موضع الجدل بين المثبتين والمنكرين.

4. جاء التعبير عن النوم بكلمة (التوفي) كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: 60] وهذا ما اعتبره البعض بأن الكلمة استعملت في معناها المطابقي وهو الأخذ، لا في معناها المتعارف وهو الموت؛ لكن يمكن أن يردّ هذا بأن (التوفي) استعمل في الموت بطريقة المجاز بمعنى تنزيل النوم منزلة الموت بلحاظ أنه موت مؤقت، وأن النائم ـ كما يقول البعض ـ ميت يتنفس، وربما كان هذا ظاهرا من قوله تعالى: ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ فكأن النفس تموت في النوم موتا مؤقتا قد يمتد في الزمن وقد يتحول إلى حياة، ولعل الكلمة النبوية الشريفة المشهورة توحي بذلك، وهي‏ (لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون)

5. قال بعض المتأخرين من المفسرين: إن الله أخفاه عن أعين الناس، فعاش عيشة طبيعية بعيدا عن أنظارهم حتى قبضه الله ورفعه إليه كما يرفع كل عباده إليه بروحه، وهذا حديث لا نريد أن نفيض فيه كثيرا، لأنه قد يدخل في باب الرجم بالغيب في بعض تفاصيله، وقد لا نصل فيه إلى نتيجة محدّدة حاسمة، ولا نجد فيه كبير فائدة في ما يتصل باستيحاء القرآن لحياتنا الفكرية والعملية.. فإننا نعلم أن الله سبحانه قادر على كل شيء في أصل الخلق وفي أشكاله وأوضاعه وطريقة بقائه وفنائه، فليس هناك حد لقدرته وإرادته، فالله‏ القادر على أن يرفع الإنسان بروحه قادر أن يرفعه بجسده، والله الذي يريد للإنسان أن ينهي حياته في الأرض بالموت هو الذي يريد له أن ينهيها بغير ذلك، وهذا ما نريد أن نجمله من التفصيل الذي خاضه المفسرون في قوله تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فإن الفكرة ـ كل الفكرة ـ هي أن الله قد دبّر بحكمته وبخطّته الخفية خلاص عيسى عليه السّلام من اضطهاد اليهود ومن محاولتهم قتله، أما ماذا فعل، وما الخطة؟ فذلك مما اختص الله بعلمه، فلنرجع الأمر فيه لله، في ما يريد أن يعرفنا إياه، وما لا يريد أن يعرفنا سرّه.

6. لكن هنا ملاحظة تفسيرية ذكرها العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان حول كلمة ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ حيث قال: إن المراد بالرفع الرفع المعنوي دون الرفع الصوري، إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانية التي تتعاورها الأجسام والجسمانيات بالحلول فيها، والقرب والبعد منها، فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾، وخاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض لظهور أن المراد حينئذ هو رفع الدرجة والقرب من الله سبحانه، نظير ما ذكره تعالى في حق المقتولين في سبيله: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [آل عمران: 169] وما ذكره في حق إدريس عليه السّلام: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: 57]، وربما يقال: إن المراد برفعه إليه رفعه بروحه وجسده حيّا إلى السماء، على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف، أن السماء أي: الجسمانية هي مقام القرب من الله سبحانه)

7. إننا نرجح الوجه الثاني، من خلال ظاهر الآية، لأن التعبير بالرفع إليه يوحي ـ من الناحية التعبيرية ـ بالجانب المكاني الذي يختص به ويمثل موقع العلوّ لديه الذي يتناسب مع علوّ مقامه وسموّ شأنه، حتى أن كلمة: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ توحي بذلك من خلال الذهنية الإيمانية التي تختزن في داخلها معنى‏ اعتبار السماء بمعناها المادي الذي يجعلهم يتطلعون إليها، هي المنطقة التي تمثل درجة العلو التي تنتسب إلى الله في مقابل الأرض التي هي دونها في درجة القرب المكاني، ولو أراد الرفع المعنوي لكان الأقرب التعبير بالرفع بشكل مطلق، كما في قوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]، أو في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾

8. أمّا قوله تعالى: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فقد يعني إبعاده عن مواقع القذارة النفسية والروحية والأخلاقية التي يمثلها المجتمع الكافر في عاداته وتقاليده وقيمه المادية التي تلوث روح الإنسان وعقله وعمله، وذلك من خلال اللطف الإلهيّ الذي أغدقه الله عليه، فجعله إنسانا طاهرا في ذاته، يعطي للآخرين طهارة الفكر والروح والقلب والشعور والحياة.

9. اختفى عيسى عليه السّلام عن الأنظار ولم تختف دعوته، وغاب عن الساحة ولم يغب أتباعه، بل اندفعوا بكل صبر وإيمان، يركّزون الأساس، ويرفعون البناء ويصنعون للمستقبل فكره وروحيّته ونظامه.. وكانت رعاية الله لهم في كل خطواتهم العمليّة، فبدأ الإيمان يتقدم ليتخذ مواقعه الثابتة في حياة الناس، وبدأ الكفر ينحسر تدريجيا، وكان وعد الله لعيسى حقا: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فها هم اليهود يقفون في الدرجة السفلى أمام أتباعه، ولكن كيف ذلك؟ ومن هم أتباعه؟ هذا ما خاض فيه المفسرون كثيرا، وهذا ما يجب أن نتوقف أمامه قليلا لنفهم معنى هذه الفقرة من الآية، فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالذين اتبعوه، هم أهل الحق من النصارى الذين ساروا على دعوته الحقيقية، ومن المسلمين الذين اتبعوه باتباعهم للنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي بشّر به وبرسالته، وأن‏ معنى الفوقية هنا هو الفوقية في الحجة والبرهان، لأن حجة عيسى عليه السّلام وأتباعه في نبوّته وصحة دعوته ظاهرة بيّنة كلما تقدم الزمن وخفّت الضغوط، بينما كانت حجة الكافرين الذين خالفوه وعاندوه غير مستندة إلى أساس، فهي لا تزداد على مرور الأيام إلا انحسارا وضعفا.. ولكن هذا الوجه مما لا تساعد عليه الآية لا بلفظها ولا معناها ـ كما يقول صاحب تفسير الميزان ـ (فإن ظاهر قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ أنه إخبار عن المستقبل، وأن التوفّي والرفع والتطهير والجعل سيتحقق في المستقبل، على أنّ قوله: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ وعد حسن وبشرى، وما هذا شأنه لا يكون إلا في ما سيأتي، ومن المعلوم أن ليست حجة متّبعي عيسى عليه السّلام إلا حجة عيسى عليه السّلام نفسه، وهي التي ذكرها الله تعالى ضمن آيات البشارة، أعني بشارة مريم، وهذه الحجج قائمة حين حضور عيسى قبل الرفع وبعد رفع عيسى، بل كانت قبل رفعه عليه السّلام أقطع لعذر الكفار ومنبت خصومتهم، وأوضح في رفع شبههم، فما معنى وعده عليه السّلام أنه ستفوق حجة متبعيه على حجة مخالفيه؟ ثم ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوق بقوله: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، مع أن الحجة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم)

10. يرى صاحب الميزان، أن المراد بالذين اتبعوه هم النّصارى، وبالذين كفروا اليهود، فإنه يكفي إطلاق هذه الصّفة على المتأخرين منهم، وإن خالفوه في بعض تفاصيل رسالته، إنهم يعتبرون امتدادا للذين اتبعوه حقيقة في عصره وبعد عصره، في مقابل اليهود الذين كفروا به في حياته قبل رفعه وبعد رفعه على امتداد الزمن، وبذلك تكون الآية في مقام (بيان نزول السخط الإلهي على اليهود وحلول المكر بهم وتشديد العذاب على أمتهم)، (وهاهنا وجه آخر، وهو، أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة، وتكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم القيامة.. وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر) كما يقول صاحب الميزان.

11. ربما كان جو الآية يوحي بالوجهين الأخيرين، انطلاقا من أن الآية واردة في مقام إعطاء الفكرة، بأن الذين يضطهدون الأنبياء وأتباعهم لا يحصلون على الامتداد في الزمن في عمليّة ممارسة القوة والغلبة، لأن رسالات الله سوف تتقدم وتفرض نفسها على الساحة إن عاجلا أو آجلا على أساس سنّة الله في خلقه، من أن الحق لا بد من أن يفرض نفسه في نهاية المطاف؛ والله العالم بحقائق آياته.

12. تلك هي قصة الصراع بين الكفر والإيمان، وبين الحق والعدل في حساب الدنيا؛ أما إذا رجع الناس إلى الله ووقفوا بين يديه ليحكم بينهم، فهناك الحكم العدل الذي يضع الحق في ميزانه الصحيح، ويظهر الباطل في حجته الضعيفة التي لا تثبت أمام النقد، ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ وهذه اللفتة القرآنية تنقل الناس من أجواء الحياة الدنيا التي يتخبط فيها الناس في الضلال من خلال ما يخوضونه من صراع الحق والباطل، إلى أجواء الآخرة التي يسود فيها العدل في حسابات الصراع الفكري والعملي، فلا مجال إلا للحق الذي يقف فيه المحقّ رافع الرأس عاليا، لأنه لا يخاف من الاضطهاد الذي يمارسه ضده أهل الباطل في خنق صوت الحق في الحياة؛ ويقف فيه المبطل مهزوما ذليلا، لأنه لا يملك في ذلك الموقف الوسائل الكفيلة بإعطاء الباطل صورة الحق من خلال ما يحشده من الألوان المزيّفة والأساليب المضلّلة المستندة إلى القوة الغاشمة.

13. ربّما كانت القيمة في هذه اللفتة أنها توحي للمحق بالقوة في موقفه، لأنها تبعد عنه كل المشاعر السلبيّة التي قد يخضع لها الإنسان تحت ضغط الاضطهاد الذي قد يقوده إلى اليأس؛ كما توحي للمبطل بأنه مهما استطاع أن يصنع القوة المبطلة لمواقفه فإنه لا يستطيع ذلك إلى نهاية الشوط، فإن النهاية ستكون في موقف الجميع عند الله، ليكون هو الحكم في ما يختلفون فيه، وهنالك يخسر المبطلون.

14. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ وتلك هي نهاية الصراع عندما تبدأ عملية الجزاء عند الله:

أ. فأمّا الكافرون الذين لا يستند كفرهم إلى أساس من علم أو واقع، بل كل ما هناك العناد والمكابرة والكبرياء.. أما هؤلاء فسيلاقون جزاءهم في الدنيا من خلال ما يعذبهم الله به من صنوف البلاء الذي يتحوّل في كيانهم إلى عذاب نفسي وجسدي مدمّر.. وفي الآخرة من خلال ما يواجهونه من جحيم النار وبئس القرار.. وسيتطلعون في هذا الموقف أو ذاك، إلى من اعتادوا الاستغاثة بهم طلبا للنصرة، فلا يجدون أمامهم أحدا، لأن الله سبحانه يملك الأمر كله، فهو الذي يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء.

ب. وأما المؤمنون الذين اعتبروا الحياة موقف إيمان وعمل وكدح إلى الله، فآمنوا به وعملوا لما عنده وكدحوا في سبيله؛ فاستحقوا الأجر منه على ذلك كله، من خلال وعده لهم بالجزاء الأوفى عنده، والثواب العظيم لديه، فقد جاء وقت الوفاء بعد انتهاء وقت العمل، والله عند وعده لعباده، أما هؤلاء فيوفيهم أجورهم كاملة غير منقوصة، فإنه يحب المؤمنين العاملين، ولا يحب الظالمين الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والمعصية والانحراف عن خط الله المستقيم في العقيدة والعمل.

15. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الذين ابتعدوا عن الله، وانحرفوا عن خط الإيمان المستقيم بسبب الهوى الذي يزيّن لهم الضلال ويقودهم إلى مواقع السقوط الفكري، ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا﴾ بما يلاقونه من ألوان العذاب المتمثل بالبلاء الذي يعيبهم في أجسادهم وأهليهم وأموالهم وعقولهم ومواقعهم، ﴿وَالْآخِرَةُ﴾ بما يواجهونه من عذاب النار، ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ ومن الذي ينصرهم من الله؟

16. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ لأنهم انفتحوا على الله في وحيه من خلال آياته، واتبعوا رسله في خط الرسالات الذي يهدي إلى الصراط المستقيم ويدلهم على الله، ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ لأن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفر يدخل قلبه، ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ الذين ظلموا أنفسهم وربهم بالكفر والمعصية، وظلموا الناس بالبغي والعدوان، وهذا هو الخط الفاصل بين مواقع الكفر والإيمان.

17. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى أخبار الأنبياء عيسى ويحيى وزكريا عليهم السّلام وغير ذلك من شؤون العقيدة ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ﴾ التي توضح لك كل الخطوط العامة والخاصة التي تتصل بحركة المسؤولية في حياة الناس، ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ الذي ينزل عليك وحيا من الله ليوضح لك سبيل النجاة في الدنيا والآخرة.

18. في هذه الجولة التي أراد الله للنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجولها في تاريخ‏ النبوّات السابقة والأنبياء السابقين وأتباعهم، يريد الله أن يظهر له آياته التي تفتح له أبواب المعرفة فيها، وأن يجولها في ذكره الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها من دون زيادة أو نقصان.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/47.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قلنا إنّ اليهود ـ بالتعاون مع بعض المسيحيّين الخونة ـ قرّروا قتل السيّد المسيح، فأحبط الله مكرهم، ونجى نبيّه منهم، في هذه الآية يذكر الله نعمته على المسيح قبل وقوع الحادثة، قائلا: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾

2. من المعروف عند المفسّرين، بالاستناد إلى الآية 157 من سورة النساء، أنّ السيّد المسيح لم يقتل، وأنّ الله رفعه إلى السماء، غير أنّ المسيحيّين يقولون إنّه قتل ودفن، ثمّ قام من بين الأموات وبقي لفترة قصيرة على الأرض ثمّ صعد إلى السماء، ولكن الذي لا بدّ من قوله الآن هو أنّ هذه الآية ليس فيها دليل على موت عيسى، على الرغم من أنّ بعضهم تصوّر أنّ كلمة (متوفّيك) من (الوفاة)، وعلى ذلك فإنّهم يرون أنّ هذا الموضوع يتعارض مع الرأي السائد بين المسلمين، والذي تؤيّده الأحاديث، من أنّ عيسى لم يمت وأنّه حي، ولكن الأمر ليس كذلك.

3. (الفوت) هو بعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذّر إدراكه، و(الوافي) الذي بلغ التمام، ووفى بعهده إذا أتمّه ولم ينقضه، وإذا استوفى أحد دينه من المدين قيل (توفّى دينه)، وفي القرآن وردت (توفّى) كرارا: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾، فهنا عبّر عن النوم بكلمة ﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾، هذا المعنى نفسه يرد في الآية 42 من سورة الزمر، كما ترد كلمة (توفّى) في آيات أخرى بمعنى الأخذ.

4. صحيح أنّ (توفّى) قد تأتي أحيانا بمعنى الموت، ولكنّها حتّى في تلك المواضع لا تعني الموت حقّا، بل بمعنى قبض الروح، والواقع أنّ مادّة (فوت) ومادّة (وفي) منفصلتان تماما.

5. ممّا تقدّم يكون تفسير الآية واضحا، يقول الله: يا عيسى إنّني سوف استوفيك وأرفعك إليّ، وهذا يعني حياة عيسى، لا موته (وطبعا إذا كانت كلمة (توفي) بمعنى قبض الروح فقط، فإن لازم ذلك هو الموت)

6. ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هذا جانب آخر من خطاب الله إلى المسيح، والقصد من التطهير هنا هو إنقاذه من الكفّار الخبثاء البعيدين عن الحقّ والحقيقة الذين كانوا يوجّهون إليه التهم الباطلة، ويحوكون حوله المؤامرات ساعين إلى تلويث سمعته، فنصر الله دينه، وطهّره من تلك التهم، بمثل ما نقرأه عن نبيّ الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم في أوّل سورة الفتح‏ ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾، أي أنّنا هيّأنا لك نصرا واضحا كي يغفر لك الله ذنوبك السابقة واللاحقة (ويطهّرك من التهم التي ألصقوها بك على شكل ذنوب)، كما يحتمل أن يعني التطهير إخراج المسيح من ذلك المحيط الملوّث، وهذا يناسب الآية السابقة.

7. ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ وهذه بشارة يبشّر بها الله المسيح وأتباعه لتشجيعهم على المضيّ في الطريق الذي اختاروه، والواقع أنّ هذه واحدة من آيات الإعجاز ومن تنبّؤات القرآن الغيبية التي تقول إنّ أتباع المسيح سوف يسيطرون دائما على اليهود الذين عادوا المسيح، وها نحن اليوم نرى هذه الحقيقة رأي العين، فاليهود الصهاينة، ـ بغير الاستناد إلى المسيحيّين ـ غير قادرين على إدامة حياتهم السياسية والاجتماعية يوما واحدا، بديهيّ أنّ (الكافرين) هنا هم اليهود الذين كفروا بالمسيح.

8. في ختام الآية يقول تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ ويعني أن ما تقدّم من الانتصارات والبشائر يتعلق بالحياة الدنيا، أمّا المحكمة النهائية ونيل الجزاء الكامل فسيكون في الآخرة.

9. سؤال وإشكال: هنا يتبادر سؤال إلى الذهن، وهو أنّ اليهود والنصارى ـ بموجب هذه الآية ـ سيبقون في الدنيا حتّى يوم القيامة، وأنّ أتّباع هاتين الديانتين سيبقون أيضا، مع أنّ الأخبار الخاصّة بظهور المهدي عليه السّلام تبيّن أنّه يخضع جميع الأديان ويحكم العالم كلّه، والجواب: يتّضح جواب هذا السؤال بالتدقيق في الأحاديث، فنحن نقرأ في الأحاديث عن المهدي عليه السّلام أنّه لا يبقى بيت في البدو ولا في الحضر إلّا ويدخله التوحيد، أي أنّ الإسلام سيكون الدين الرسمي في العالم كلّه، وتكون الحكومة حكومة إسلامية، ولا يحكم العالم سوى القوانين الإسلامية، ولكن هذا لا يمنع من وجود أقلّية من اليهود والنصارى تعيش تحت ظلّ حكومة المهديّ عليه السّلام وفق شروط (أهل الذمّة)، إنّنا نعلم أنّ حكومة المهديّ عليه السّلام لا تجبر الناس على اعتناق الإسلام، بل تتقدّم بالمنطق، أمّا التوسّل بالقوّة العسكرية فلبسط العدالة، وللإطاحة بالحكومات الظالمة، ولانضواء العالم تحت لواء الإسلام، لا لإجبار الناس على قبول الإسلام، وإلّا فلن يكون هناك أي معنى لحرية الإرادة والاختيار.

10. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ الآية الاولى والثانية تتابعان الخطاب للسيد المسيح وحال أتباعه وأعدائه، بينما الآية الثالثة فتخاطب نبي الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم.

11. بعد ذكر رجوع الناس إلى الله ومحاكمتهم ـ في الآية السابقة ـ يأتي في هذه الآية ذكر نتيجة تلك المحاكمة، فالكافرون والمعارضون للحقّ والعدالة سيلاقون في الآخرة من العذاب الأليم مثل ما يلاقون في الدنيا، ولن يكون لأيّ منهم حام ولا نصير، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، ومن الإشارة في هذه الآية إلى عذاب الدنيا نفهم أنّ الكافرين ـ وهم هنا اليهود ـ لا ينجون من العذاب، وهذا ما يؤكّده تاريخ اليهود، ومن ذلك تفوّق الآخرين عليهم كما جاء في الآيات السابقة.

12. ثمّ أشار القرآن الكريم إلى الفئة الثانية وقال: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾، ثمّ يؤكد القول: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، تقديم مصير الكافرين على المؤمنين من أجل أن الكافرين بنبوّة المسيح عليه السّلام كانوا يشكلون الأغلبية.

13. الملفت للنظر أن الآية الاولى اكتفت بذكر الكفر فقط، أمّا الآية الثانية فقرنت الإيمان بالعمل الصالح، وهذا إشارة إلى أن الكفر لوحده يكون سببا للعذاب الإلهي، ولكن الإيمان لوحده لا يكفي للنجاة، بل لا بدّ وأن يقترن بالعمل الصالح.

14. جملة ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ لعلّها ناظرة إلى أن جميع معاني الكفر والأعمال السيّئة داخلة في مفهوم الظلم بمعناه الواسع، ومن الواضح أن الله لا يحب الظالمين ولا يقدم على ظلم عباده بل يوفيهم أجورهم بالكامل.

15. وبعد ذكر تاريخ المسيح وبعض ما جرى له، يتّجه الخطاب إلى رسول الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقول: كلّ هذا الذي سردناه عليكم دلائل صدق لدعوتك ورسالتك، وكان تذكيرا حكيما جاء بصورة آيات قرآنية نزلت عليك، تبيّن الحقائق في بيان محكم وخال من كلّ هزل وباطل وخرافة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/516.

31. المسيح وآدم والخلق الإلهي

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈31⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [آل عمران: 59 ـ 60]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن الزبير:

روي عن محمد بن جعفر بن الزبير (ت 115 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ﴾ فاسمع: ﴿كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، فإن قالوا: خلق عيسى من غير ذكر، فقد خلقت آدم من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر، فكان كما كان عيسى لحما ودما وشعرا وبشرا، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٦٢.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، يعني: فلا تكن في شك من عيسى أنه كمثل آدم عبد الله ورسوله، وكلمته(1).

2. روي أنّه قال: ذكر لنا: أن سيدي أهل نجران وأسقفيهم السيد والعاقب لقيا نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسألاه عن عيسى، فقالا: كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله فيه هذه الآية: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ﴾ الآية(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٦٤.

(2) ابن جرير: ٥/٤٦٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ معناه من الشّاكّين(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 110.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: لما بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسمع به أهل نجران أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم؛ منهم العاقب، والسيد، وماسرجس، وماربحر فسألوه ما تقول في عيسى؟ قال: (هو عبد الله، وروحه، وكلمته)، قالوا هم: لا، ولكنه هو الله، نزل من ملكه، فدخل في جوف مريم، ثم خرج منها، فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط إنسانا خلق من غير أب؟ فأنزل الله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ الآية(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٦٠.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: لما قدم نصارى نجران قالوا: يا محمد؛ أتذكر صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟، قالوا: عيسى ابن مريم؛ أتزعم أنه عبد؟ فقال لهم نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أجل، هو عبد الله)، قالوا: أرنا في خلق الله عبدا مثله في من رأيت أو سمعت؟ فأعرض عنهم نبي الله عليه السلام يومئذ، ونزل عليه جبريل، فقال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾(1).

__________

(1) أورده ابن أبي زمنين: ١/٢٩١.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي: لتعتبروا إذا شبه عليهم أنه خلق في بطن أمه من غير ذكر، قلت له: بالقدرة التي خلقت بها عيسى ابن مريم كن فكان، كذلك قلت لعيسى: كن فكان(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٦٦.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أكان لآدم أب أو أم، كما خلقت هذا في بطن هذه!؟(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٦٢.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ قيل في القصّة: إن نصارى من أهل نجران‏ قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا له: إنك تشتم صاحبنا عيسى بن مريم، تزعم أنه عبد، وهو يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير فيطير، فأرنا فيما خلق الله عبدا مثله يعمل‏ هذا، والنصارى في الحقيقة مشبهة وقدرية:

أ. أمّا التشبيه: فإنما حملهم على ذلك ظنهم في قول إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ حيث قال: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: 258]؛ ظنوا أن عيسى لما قال: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ [آل عمران: 49] أنه رب وإله؛ لأن إبراهيم عليه السلام أخبر أن ربه‏ ﴿الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: 258]؛ فسموا عيسى إلها بهذا، وهم كانوا يرون عيسى يأكل ويشرب وينام؛ فلولا أنهم عرفوا الله ـ عزّ وجل ـ وإلّا ما شبهوه به، تعالى الله عن ذلك.

ب. أمّا القدرية: فلما لم يروا لله في أفعال العباد صنعا؛ إنما رأوا ذلك للخلق خاصة، فلما رأوا ذلك من عيسى عليه السلام ظنوا أنه ربّ؛ لما لم يروا ذلك من غيره.

2. ولو كانوا عرفوا الله حق المعرفة، لعلموا أن لم يكن من عيسى إلا تصوير ذلك الطير وتمثيله، ويكون مثله من كل أحد؛ وإنما الإحياء كان من الله ـ عزّ وجل ـ أجراه على يدي عيسى عليه السلام وأظهره، وإنما كان من عيسى تصويره فقط؛ وكذلك ما كان من إبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الله ـ عزّ وجل ـ أجراه على يديه آيات لنبوته؛ لأنهم ادعوا له الربوبية من وجهين: لكونه من غير أب، ولآياته.

3. قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: أن الله ـ عزّ وجل ـ صور صورة آدم من طين، ثم جعل فيه الروح، لم يجز أن يقال صار آدم حيّا من نفسه؛ لوجود صورته، كيف جاز لكم أن تقولوا: إن عيسى لمّا صوّر ذلك الطير من الطين، صار محييا له بتصويره إياه دون إحياء الله تعالى إياه!؟

ب. الثاني: أن آدم ـ عليه السلام‏ ـ خلق لا من أب وأم، ثم لم تقولوا: إنه رب‏ أو خلق لا من أب؛ إذ عدم الأبوة في آدم لم يوجب أن يكون ربّا؛ وكيف أوجب عدم الأبوة في عيسى كونه ربّا وإلها!؟ وإنما كان عيسى بقوله: (كن) ـ كما كان آدم، أيضا، بـ (كن) ـ من غير أب.

4. قوله: ﴿كُنْ﴾ قد ذكرنا أنه أوجز كلام في لسان العرب يعبر فيؤدي المعنى؛ فيفهم المراد، لا أن كان من الله ـ عزّ وجل ـ كاف، أو نون، أو وقت، أو حرف، أو يوصف كلامه بشيء مما يوصف به كلام الخلق، تعالى الله عن ذلك.

5. قوله تعالى: ﴿فَيَكُونُ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل (يكون)، بمعنى: كان، والعرب تستعمل ذلك ولا تأبى.

ب. الثاني: أن تكون الكائنات بأسبابها في أوقاتها التي أراد كونها على ما أراد، وأصل ذلك، إذا ذكر الله ووصف بذكر بلا ذكر وقت في الأزل، وإذا ذكر الخلق معه يذكر الوقت، والوقت يكون للخلق يقول: خالق لم يزل، وخالقه في وقت خلقه.

قوله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل أن يكون الخطاب لكل أحد قال في عيسى ما قالوا، أي: لا تكن من الممترين في عيسى أنه عبد الله خالصا، وأنه نبيه ورسوله إليكم.

ب. ويحتمل أن يكون الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد غيره؛ وهكذا عادة ملوك الأرض أنهم إذا أرادوا أن يعرفوا رعيتهم شيئا، يخاطبون أعقلهم وأفضلهم وأرفعهم منزلة وقدرا عندهم؛ استكبارا منهم مخاطبة كل وضيع وسفيه؛ فكذلك [ولله المثل الأعلى‏] الله ـ عزّ وجل ـ خاطب نبيّه؛ إعظاما له وإجلالا، والله أعلم‏.

ج. ويحتمل ما ذكرنا فيما تقدم أن العصمة لا تمنع الأمر ولا النهي؛ بل تزيد أمرا ونهيا، وإن كان يعلم أنه لا يكون من الممترين أبدا.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/389.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال ابن عباس، والحسن وقتادة: هذه الآية ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ نزلت في وفد نجران: السيد والعاقب، قالا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هل رأيت ولداً من غير ذكر، فأنزل الله تعالى الآية.

2. المثل ذكر سائر يدل على أن سبيل الثاني سبيل الأول، فذكر الله آدم بأن انشأه من غير والد يدل على أن سبيل الثاني سبيل الأول في باب الإمكان، والقدرة، وفي ذلك دلالة على بطلان قول من حرم النظر، لأن الله تعالى احتج به على المشركين ولا يجوز أن يدلهم إلا بما فيه دليل فقياس خلق عيسى من غير ذكر كقياس خلق آدم بل هو فيه أوجب، لأنه في آدم من غير أنثى، ولا ذكر.

3. معنى (خلقه) أنشأه، ولا موضع له من الاعراب، لأنه لا يصلح أن يكون صفة لآدم من حيث هو نكرة، ولا يكون حالا له، لأنه ماض فهو متصل في المعنى غير متصل في اللفظ من علامات الاتصال من اعراب أو مرتبة كالصلة.

4. ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ قد بينا معناه فيما مضى وأنه اخبار عن سرعة الفعل وتيسره من غير مشقة ولا إبطاء، وقيل إنه يفعله عند قوله: (كن) ويكون ذلك علامة للملائكة على ما يريد الله إنشاءه، وقوله: (فيكون) رفع لا يجوز فيه النصب على جواب الأمر في كن، لأن جواب الشرط غيره في نفسه أو معناه نحو آتني فأكرمك وآتني فتحسن إلي، فهذا يجوز، لأن تقديره فإنك إن تأتني تحسن إلي، ولا يجوز تقدير (أن)، فيكون بالنصب، لأن تقديره كن فإنك أن تكن، فهذا لا يصح، لأن الجواب هو الشرط على معناه، ولكن يجوز الرفع على فهو يكون.

﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الحق رفع بأنه خبر ابتداء محذوف وتقديره ذلك الاخبار في أمر عيسى الحق من ربك، فحذف، لتقدم ذكره وأغنى بشاهد الحال عن الاشارة إليه كما تقول الهلال أي هذا الهلال.

5. قوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ يحتمل أمرين:

أ. أحدهما: أن يكون خطاباً للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد به غيره، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾

ب. والآخر: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أيها السامع للبرهان من المكلفين كائناً من كان.

6. الامتراء الشك، ومثله المرية وأصله الاستخراج مرى الضرع يمريه مرياً: إذا استخرج اللبن منه يمسحه ليدر، وكذلك الريح تمري السحاب مرياً، فالامتراء شك كحال المستخرج لما لا يعرف.

7. إنما قال: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ ولم يقتصر على قوله: (ذلك الحق) ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ لأن في هذه الآية دلالة على أنه الحق، لأنه من ربك، ولو قال ذلك الحق‏ ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ لأن في هذه الآية دلالة على أنه الحق، لأنه من ربك، ولو قال ذلك الحق فلا تكن‏ لم يفد هذه الفائدة، والفرق بين قوله: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ وبين قوله: (فلا تكن ممترياً) أن ذلك أبلغ في النهي، لأنه اشارة إلى قوم قد عرفت حالهم في النقص والعيب.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/483.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الامتراء: الشك، وكذلك المرية، وأصله الاستخراج من الضرع تمرية إذا استخرج اللبن، ومنه: مَسَحَهُ لِيَدُرَّ، والريح تَمِرْي السحاب، وسمي الامتراء شكًّا؛ لأنه كحال المستخرج لما لا يعرف.

2. ثم رَدَّ الله تعالى على النصارى قولهم في عيسى، واحتج عليهم فقال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى﴾ شبهه في أن خلقه من غير أب ﴿عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ إذ خلقه من غير أب ولا أم.

3. ثم بين كيف خلقه فقال تعالى: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ﴾:

أ. قيل: الكلام تم عند قوله: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾، والمراد بقوله: ﴿قَالَ لَهُ﴾ أي لعيسى، وتقديره: خلق آدم من تراب، ثم بعد ذلك قال لعيسى ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾

ب. وقيل: المراد به آدم يعني خلقه من تراب، ثم قال له: كن حيًّا سميعا بصيرًا بشرًا سويًّا فكان، وتمام الكلام على هذا عند قوله: ﴿فَيَكُونُ﴾

ج. وقيل: خلقه من تراب، ثم أخبركم بأنه قال له: كن فيكون.

4. إنما احتيج إلى هذه التقديرات؛ لأن ﴿ثُمَّ﴾ للتعقيب والتراخي.

5. معنى ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾:

أ. قيل: إنه خلقه من غير تعب وأداة ومعالجة كما يشاء لا أن هناك قولا عن أكثر أهل العلم.

ب. وقيل: بل هناك قول علامة للملائكة على ما يريد إنشاءه، عن أبي الهذيل وأبي بكر أحمد بن علي ﴿الْحَقُّ﴾ يعني هذا هو الحق.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾:

أ. قيل: إنما أضافه إلى نفسه تنبيهًا وتأكيدًا وتعليما، وتقديره: ذلك الحق؛ لأنه من ربك ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ من الشاكِّين.

ب. وقيل: هو خطاب له، والمراد أمته.

ج. وقيل: معناه: ما جاءك من العلم أنه عبده ورسوله، عن قتادة.

د. وقيل: بالحق رد فيه على قوله: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾

7. مسائل نحوية:

أ. موضع ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ من الإعراب: لا موضع له؛ لأنه لا يصلح أن يكون صفة لآدم من حيث هو نكرة فلا يكون حالاً له؛ لأنه ماض، فهو متصل في المعنى، غير متصل في اللفظ.

ب. ﴿فَيَكُونُ﴾ رفع على تقدير: فهو يكون.

ج. عامل الإعراب في قوله: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾: الابتداء تقديره: ذلك النبأُ في أمر عيسى الحقُّ من ربك، فحذف ذلك لتقدم ذكره، و﴿الْحَقُّ﴾ رفع لأنه خبر الابتداء، وقيل: استئناف وخبره في قوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾، وقيل: رفع بإضمار فعل؛ أي جاءك الحق، وإن شئت رفعته بالصفة، ويكون فيه تقديم وتأخير تقديره: من ربك الحقُّ.

8. تدل الآيات الكريمة على:

أ. صحة الاحتجاج والقياس؛ لأنه تعالى أزال تعجبهم وشبهتهم بذكر آدم، وقد وقع الإقرار به من الكل.

ب. يدل قوله: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ على بطلان قول أصحاب المعارف.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/258.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المثل: ذكر سائر يدل على أن سبيل الثاني، سبيل الأول.

2. قيل نزلت الآيات في وفد نجران: العاقب والسيد ومن معهما، قالوا لرسول الله: هل رأيت ولدا من غير ذكر؟ فنزل ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ الآيات، فقرأها عليهم، عن ابن عباس وقادة والحسن.

3. ثم رد الله تعالى على النصارى قولهم في المسيح أنه ابن الله، فقال ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ أي: مثل عيسى في خلق الله إياه من غير أب، كمثل آدم في خلق الله إياه من غير أب، ولا أم، فليس هو بأبدع ولا أعجب من ذلك، فكيف أنكروا هذا وأقروا بذلك؟

4. ثم بين سبحانه كيف خلقه، فقال ﴿خَلَقَهُ﴾ أي أنشأه ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾ وهذا إخبار عن آدم، ومعناه: خلق عيسى من الريح، ولم يخلق قبل أحدا من الريح، كما خلق آدم من التراب، ولم يخلق قبله أحدا من التراب ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ﴾ أي: لآدم، وقيل: لعيسى ﴿كُنْ﴾ أي: كن حيا بشرا سويا ﴿فَيَكُونُ﴾ أي: فكان في الحال على ما أراد، وقد مر تفسير هذه الكلمة فيما قبل في سورة البقرة مشروحا.

5. في هذه الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال، لأن الله احتج على النصارى، ودل على جواز خلق عيسى من غير أب، ولا أم.

6. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: هذا هو الحق من ربك، أضاف إلى نفسه تأكيدا وتعليلا أي: هو الحق، لأنه من ربك ﴿فَلَا تَكُنْ﴾ أيها السامع ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ وقد مر تفسيره في سورة البقرة.

7. مسائل نحوية:

أ. قوله ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾: لا موضع له من الإعراب، لأنه لا يصلح أن يكون صفة لآدم، من حيث هو نكرة ولا يكون حالا له، لأنه ماض، فهو متصل في المعنى غير متصل في اللفظ بعلامة من علامات الاتصال، فيكون الرفع على تقدير: فهو يكون.

ب. والحق: رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره: ذلك الإخبار في أمر عيسى الحق من ربك، فحذف ذلك دلالة شاهد الحال عليه، كما يقال: الهلال والله أي: هذا الهلال، وقيل: الحق مبتدأ، وخبره قوله ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/762.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال أهل التفسير: سبب نزول هذه الآية، مخاصمة وفد نجران من النّصارى للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، في أمر عيسى، وقد ذكرناه في أول السورة، فأما تشبيه عيسى بآدم، فلأنهما جميعا من غير أب.

2. ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ يعني: آدم، قال ثعلب: وهذا تفسير لأمر آدم، وليس بحال، ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ﴾ يعني آدم، وقيل لعيسى‏ ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي: فكان: فأريد بالمستقبل الماضي، كقوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ أي: ما تلت.

3. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ قال الزّجّاج: الحقّ مرفوع على خبر ابتداء محذوف، المعنى: الذي أنبأتك به في قصة عيسى الحقّ من ربّك‏ ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أي: الشّاكّين، والخطاب للنبيّ خطاب للخلق، لأنه لم يشك.

__________

(1) زاد المسير: 1/289.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وقد نجران على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان من جملة شبههم أن قالوا: يا محمد، لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى، فقال: إن آدم ما كان له أب ولا أم ولم يلزم أن يكون ابناً لله تعالى، فكذا القول في عيسى عليه السلام، هذا حاصل الكلام، وأيضاً إذا جاز أن‏ يخلق الله تعالى آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس.

2. ﴿مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ أي صفته كصفة آدم ونظيره قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ [الرعد: 35] أي صفة الجنة.

3. ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ ليس بصلة لآدم ولا صفة، ولكنه خبر مستأنف على جهة التفسير بحال آدم، قال الزجاج: هذا كما تقول في الكلام مثلك كمثل زيد، تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور، ثم تخبر بقصة زيد فتقول فعل كذا وكذا.

4. العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوق بوالد لا إلى أول وهو محال، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم عليه السلام كما في هذه الآية، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: 1]، وقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [الأعراف: 189] ثم إنه تعالى ذكر في كيفية خلق آدم عليه السلام وجوهاً كثيرة:

أ. أحدها: أنه مخلوق من التراب كما في هذه الآية.

ب. الثاني: أنه مخلوق من الماء، قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا﴾ [الفرقان: 54]

ج. الثالث: أنه مخلوق من الطين قال الله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [السجدة: 7، 8]

د. الرابع: أنه مخلوق من سلالة من طين قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون: 12، 13]

هـ. الخامس: أنه مخلوق من طين لازب قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ﴾ [الصافات: 11]

و. السادس: إنه مخلوق من صلصال قال تعالى: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: 28]

ز. السابع: أنه مخلوق من عجل، قال تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء: 37]

ح. الثامن: قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]

5. قال الحكماء: إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه(2):

أ. الأول: ليكون متواضعاً.

ب. الثاني: ليكون ستاراً.

ج. الثالث: ليكون أشد التصاقاً بالأرض، وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض، قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]

د. الرابع: أراد إظهار القدرة، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام وابتلاهم بظلمات الضلالة، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام وأعطاهم كمال الشدة والقوة، وخلق آدم عليه السلام من التراب الذي هو أكثف الأجرام، ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية، وخلق السموات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الهواء حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهاناً باهراً ودليلًا ظاهراً على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج، والخالق بلا مزاج وعلاج.

هـ. الخامس: خلق الإنسان:

من تراب ليكون مطفئاً لنار الشهوة، والغضب، والحرص، فإن هذه النيران لا تطفأ إلا بالتراب.

إنما خلقه من الماء ليكون صافياً تتجلى فيه صور الأشياء.

ثم إنه تعالى مزج بين الأرض والماء ليمتزج الكثيف فيصير طيناً وهو قوله‏ ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾

ثم إنه في المرتبة الرابعة قال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ والسلالة بمعنى المفعولة لأنها هي التي تسل من ألطف أجزاء الطين.

ثم إنه في المرتبة السادسة أثبت له من الصفات ثلاثة أنواع:

● أحدها: أنه من صلصال والصلصال: اليابس الذي إذا حرك تصلصل كالخزف الذي يسمع من داخله صوت.

● الثاني: الحمأ وهو الذي استقر في الماء مدة، وتغير لونه إلى السواد.

● الثالث: تغير رائحته قال تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: 259] أي لم يتغير.

6. هذه جملة الكلام في التوفيق بين الآيات الواردة في خلق آدم عليه السلام.

7. سؤال وإشكال: في الآية إشكال، وهو أنه تعالى قال: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدماً على قول الله له‏ ﴿كُنْ﴾ وذلك غير جائز، والجواب: من وجوه:

أ. الأول: قال أبو مسلم: قد بينا أن الخلق هو التقدير والتسوية، ويرجع معناه إلى علم الله تعالى بكيفية وقوعه وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص وكل ذلك متقدم على وجود آدم عليه السلام تقديماً من الأزل إلى الأبد، وأما قوله‏ ﴿كُنْ﴾ فهو عبارة عن إدخاله في الوجود فثبت أن خلق آدم متقدم على قوله‏ ﴿كُنْ﴾

ب. الثاني: وهو الذي عول عليه القاضي أنه تعالى خلقه من الطين ثم قال له:‏ ﴿كُنْ﴾ أي أحياه كما قال: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾، سؤال وإشكال: الضمير في قوله ﴿خَلَقَهُ﴾ راجع إلى آدم وحين كان تراباً لم يكن آدم عليه السلام موجوداً، والجواب: أجاب القاضي وقال: بل كان موجوداً وإنما وجد بعد حياته، وليست الحياة نفس آدم وهذا ضعيف لأن آدم عليه السلام ليس عبارة عن مجرد الأجسام المشكلة بالشكل المخصوص، بل هو عبارة عن هوية أخرى مخصوصة وهي: إما المزاج المعتدل، أو النفس، وينجر الكلام من هذا البحث إلى أن النفس ما هي، ولا شك أنها من أغمض المسائل، والجواب: الصحيح أن يقال لما كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سماه آدم عليه السلام قبل ذلك، تسمية لما سيقع بالواقع.

ج. الثالث: أن قوله‏ ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يفيد تراخي هذا الخبر عن ذلك الخبر كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: 17] ويقول القائل: أعطيت زيداً اليوم ألفاً ثم أعطيته أمس ألفين، ومراده: أعطيته اليوم ألفاً، ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله‏ ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ أي صيره خلقاً سوياً ثم إنه يخبركم أني إنما خلقته بأن قلت له‏ ﴿كُنْ﴾

8. سؤال وإشكال: في الآية إشكال آخر وهو أنه كان ينبغي أن يقال: ثم قال له كن فكان فلم يقل كذلك بل قال: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ والجواب: تأويل الكلام، ثم قال له‏ ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ فكان، واعلم يا محمد أن ما قال له ربك‏ ﴿كُنْ﴾ فإنه يكون لا محالة.

9. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ قال الفرّاء، والزجاج قوله:‏ ﴿الْحَقُّ﴾ خبر مبتدأ محذوف، والمعنى: الذي أنبأتك من قصة عيسى عليه السلام، أو ذلك النبأ في أمر عيسى عليه السلام‏ ﴿الْحَقُّ﴾ فحذف لكونه معلوماً، وقال أبو عبيدة هو استئناف بعد انقضاء الكلام، وخبره قوله‏ ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ وهذا كما تقول الحق من الله، والباطل من الشيطان، وقال آخرون: الحق، رفع بإضمار فعل أي جاءك الحق، وقيل: أيضاً إنه مرفوع بالصفة وفيه تقديم وتأخير، تقديره: من ربك الحق فلا تكن.

10. الامتراء الشك، قال ابن الأنباري: هو مأخوذ من قول العرب مريت الناقة والشاة إذا حلبتها فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء كاللبن الذي يجتذب عند الحلب، يقال قد ماري فلان فلاناً إذا جادله، كأنه يستخرج غضبه، ومنه قيل الشكر يمتري المزيد أي يجلبه.

11. في الحق تأويلان.

أ. الأول: قال أبو مسلم المراد أن هذا الذي أنزلت عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام لا ما قالت النصارى واليهود، فالنصارى قالوا: إن مريم ولدت إلهاً، واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار، فالله تعالى بيّن أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق ثم نهى عن الشك فيه، ومعنى ممتري مفتعل من المرية وهي الشك.

ب. الثاني: أن المراد أن الحق في بيان هذه المسألة ما ذكرناه من المثل وهو قصة آدم عليه السلام فإنه لا بيان لهذه المسألة ولا برهان أقوى من التمسك بهذه الواقعة والله أعلم.

12. ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ خطاب في الظاهر مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا بظاهره يقتضي أنه كان شاكاً في صحة ما أنزل عليه، وذلك غير جائز، واختلف الناس في الجواب عنه:

أ. فمنهم من قال الخطاب وإن كان ظاهره مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا أنه في المعنى مع الأمة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: 1]

ب. الثاني: أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمعنى: فدم على يقينك، وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/243.

(2) ما ذكره هنا فهوم خاصة، ولا علاقة لها بالقرآن الكريم، وبعضها مخالف للعلم

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ دليل على صحة القياس، والتشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب كآدم، لا على أنه خلق من تراب، والشيء قد يشبه بالشيء وإن كان بينهما فرق كبير بعد أن يجتمعا في وصف واحد، فإن آدم خلق من تراب ولم يخلق عيسى من تراب فكان بينهما فرق من هذه الجهة، ولكن شبه ما بينهما أنهما خلقهما من غير أب، ولأن أصل خلقتهما كان من تراب لأن آدم لم يخلق من نفس التراب، ولكنه جعل التراب طينا ثم جعله صلصالا ثم خلقه منه، فكذلك عيسى حوله من حال إلى حال، ثم جعله بشرا من غير أب.

2. نزلت هذه الآية بسبب وفد نجران حين أنكروا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله: (إن عيسى عبد الله وكلمته) فقالوا: أرنا عبدا خلق من غير أب، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (آدم من كان أبوه أعجبتم من عيسى ليس له أب؟ فآدم عليه السلام ليس له أب ولا أم)، فذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ﴾ أي في عيسى ﴿إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ في آدم ﴿وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان]، وروي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما دعاهم إلى الإسلام قالوا: قد كنا مسلمين قبلك، فقال: (كذبتم يمنعكم من الإسلام ثلاث: قولكم اتخذ الله ولدا، وأكلكم الخنزير، وسجودكم للصليب)، فقالوا: من أبو عيسى؟ فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ إلى قوله: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران]، فدعاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال يعضهم لبعض: إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم نارا.

3. تم الكلام عند قوله ﴿آدَمَ﴾، ثم قال: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي فكان؟، والمستقبل يكون في موضع الماضي إذا عرف المعنى، قال الفراء: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ مرفوع بإضمار هو، أبو عبيدة: هو استئناف كلام وخبره في قوله ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾، وقيل هو فاعل، أي جاءك الحق،﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾) الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد أمته، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن شاكا في أمر عيسى عليه السلام.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/103.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقا من غير أب كآدم، ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على زيادة وهو كونه لا أمّ له: كما أنه لا أب له، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد بالتشبيه، وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه، وأعظم عجبا، وأغرب أسلوبا.

2. ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ جملة مفسرة لما أبهم في المثل، أي: أن آدم لم يكن له أب ولا أم، بل خلقه الله من تراب، وفي ذلك دفع لإنكار من أنكر خلق عيسى من غير أب مع اعترافه بأن آدم خلق من غير أب وأم.

3. ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي: كن بشرا فكان بشرا، وقوله: ﴿فَيَكُونُ﴾ حكاية حال ماضية، وقد تقدّم تفسير هذا.

4. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ قال الفرّاء: هو مرفوع بإضمار هو، وقال أبو عبيدة: هو استئناف كلام، وخبره قوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ وقيل: هو فاعل فعل محذوف: أي: جاءك الحقّ من ربك.

5. ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس، أي: لا يكن أحد منكم ممتريا، أو للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويكون النهي له لزيادة التثبيت، لأنه لا يكون منه شك في ذلك.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/398.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى﴾ أي شأنه العجيب في إنشائه بالقدرة من غير أب‏ ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ أي في تقديره وحكمه‏ ﴿كَمَثَلِ آدَمَ﴾ أي كحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب‏ ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ جملة مفسرة للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما، وحسم لمادة شبه الخصوم، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب ممن اعترف بخلق آدم عليه السلام بغير أب وأم، مما لا يكاد يصح ـ قاله أبو السعود ـ

2. ﴿خَلَقَهُ﴾ أي صور جسد آدم من تراب ثم قال له‏: ﴿كُنْ﴾ أي بشرا كاملا روحا وجسدا فإن أمره تعالى يفيد قوة التكون، قال البقاعيّ: وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في‏ ﴿فَيَكُونُ﴾ دون الماضي، وإن كان المتبادر إلى الذهن أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويرا لها إشارة إلى أنه كان الأمر من غير تخلف، وتنبيها على أن هذا هو الشأن دائما بتجدد مع كل مراد، لا يتخلف عن مراد الآمر أصلا كما تقدم التصريح به في آية، ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾

3. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ خبر مبتدأ محذوف، أي الذي قصصنا عليك من نبأ عيسى الحق، وقيل: الحق مبتدأ، والظرف خبر، أي الحق المذكور، وقيل: الحق فاعل لمضمر، أي جاءك الحق، وفي (الحق) تأويلان:

أ. الأول: قال أبو مسلم: المراد أن هذا الذي أنزلت عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام لا ما قالت النصارى واليهود، فالنصارى قالوا إن مريم ولدت إلها، واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار، فالله تعالى بيّن أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق، ثم نهى عن الشك فيه.

ب. الثاني: أن المراد أن الحق في بيان هذه المسألة ما ذكرناه من المثل، وهو قصة آدم عليه السلام، فإنه لا بيان أقوى منها

4. ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ خطاب إما للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على طريقة التهييج لزيادة الثبات، أو لكل سامع.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/327.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى﴾ صفته الغريبة الشبيهة بالأمثال، ﴿عِندَ اللهِ﴾ أي: مثله الكائن عند الله، أو متعلِّق بقوله: ﴿كَمَثَلِ ءَادَمَ﴾ أو باستقراره على جواز تقديم معمول الظرف النائب عن الخبر مثلا، ﴿خَلَقَهُ﴾ صوَّره بلا روح، أو أراد خلقه حيوانا ناطقا، وعلى هذا فكون (ثُمَّ) بعدُ للترتيب في الأخبار، ﴿مِن تُرَابٍ﴾ لا أبٍ ولا أمٍّ، فهو أعظم غرابة من عيسى إذ له أمٌّ، ولا سيما قيل: خُلق من نطفة أمِّه فهذا من تشبيه الغريب بالأغرب، ووجه الشبه الكون بلا أب ولو زاد آدم بأن لا أمَّ له، ويكفي الشبه من بعض الوجوه، فإن شأن آدم أقطع لمادَّة الخصم، قال أسير في الروم: لم تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنَّه لا أب له، قال: آدم أولى لأنَّه لا أبوين له، قالوا: يحيي الموتى، قال: أحيى أربعة نفر، وحزقيل ثمانية آلاف، قالوا: يبرئ الأكمه والأبرص، قال: طُبخ جرجيس وأُحرق وخرج سالما!.

2. ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن﴾ حيوانا ناطقا، ﴿فَيَكُونُ﴾ أي: فكان، فالمضارع للفاصلة ولحكاية الحال، كأنَّه قيل: إذا قال له كن فلا بدَّ من أن يكون، فهو يكون كأنَّكم تشاهدون كونه، و(كُنْ) كناية عن الإحياء، وذلك كما قال: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا ـ اخَرَ﴾ [المؤمنون: 14]

3. ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾ يا محمَّد، كلُّ الحقِّ ثابت من ربِّك، أو الحقُّ من الله لا ما تقول النصارى، فالحقُّ هو أمر عيسى من كونه مربوبا لا ربٌّ ولا ابن ربٍّ، أو ذلك البيان الحقُّ من ربِّك، ﴿فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشاكِّين النصارى وغيرهم، وهذا تهييج إذ لا شكَّ منه صلّى الله عليه وآله وسلّم يُتوقَّع؛ أو الخطاب لكلِّ صالح له.

4. سبب النزول: قال وفد نجران لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ما لك تشتم صاحبنا، تقول: إنَّه عبد الله؟ قال: (هو عبده ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول)، فقالوا: هل رأيت إنسانا قطُّ بغير أب؟ فنزل: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ الآية، وكتب صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى نجران: (أسلموا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فالحرب)، فعرض أسقفهم الكتاب على شرحبيل بن وداعة وكان صاحب رأي، فقال: (قد علمت ما وعد الله في ذرِّية إسماعيل من النبوءة فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل نبيئا؟)، وأَرسَلَ إلى متعدِّد، فكلٌّ يقول مثل ذلك، فبعثوا وفدهم كما يأتي إن شاء الله تعالى، وقالوا: ما تقول في عيسى؟ قال: (لا أدري يومي هذا، ولعلَّ الله ينزل فيه غدًا)، فنزل في الغد: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ﴾ إلخ.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/287.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن بين سبحانه خلق عيسى ومجيئه بالآيات وما كان من أمر قومه في الإيمان والكفر به كشف شبهة المفتونين بخلقه على غير السنة المعتادة والمحاجين فيه بغير علم، ورد على المنكرين لذلك فقال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ أي إن شبه عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سبق كشأن آدم في ذلك.

2. ثم فسر هذا المثل بقوله: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ أي قدر أوضاعه وكون جسمه من تراب ميت أصابه الماء فكان طينا لازبا ذا لزوجة ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي ثم كونه تكوينا آخر بنفخ الروح فيه، وقد تقدم تفسير العبارة إلا انه كان الظاهر ان يقول هنا: ثم قال له: كن فيكون: ولكنه قال (فيكون) لتصوير الحال الماضية كما يقول أهل المعاني في وضع المضارع موضع الماضي أحيانا، وخطر لي الآن أنه يجوز ان تكون كلمة التكوين مجموع (كن فيكون)، والمعنى: ثم قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالا، ويظهر هذا في مثل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ [الأنعام: 73] ولو كان القول للتكليف لم يظهر هذا، لأن قول التكليف من صفة الكلام، وقول التكوين من صفة المشيئة، ولعل من تأمله حق التأمل لا يجد عنه منصرفا.

3. العطف بثم لبيان التكوين الآخر يفيد تراخيه وتأخره عن الخلق الأول، وهل كان في هذه المدة على صفة واحدة أم تقلب في أطوار مختلفة كما تتقلب ذريته؟ اقرأ قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ [نوح: 14] وقوله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 12 ـ 16]

4. السلالة المستخرجة من الطين هي المكون الأول الذي يعبرون عنه بلسان العلم الآن بالبروتوبلاسما ومنها تكون أصلنا في ذلك الطور، لأنه تعالى يقول إنه خلقه من تلك السلالة، ثم انتقل إلى طور التولد بواسطة النطفة في القرار المكين وهو الرحم، ثم انتقل إلى طور تحول النطفة على علقة والعلقة إلى مضغة والمضغة إلى هيكل من العظام يكسى لحما وقد عد هذا طورا واحدا، ثم أنشأه خلقا آخر وهو الطور الأخير، ثم ذكر أن له طورا آخر في الموت وطورا آخر في البعث وهو آخر أطواره فكل طور من الأطوار التي قبل الموت حادث وحدوثه لأول مرة لم يكن مسبوقا بنظير ولم يكن معتادا وإنما وجد بمشيئة الله وتكوينه المعبر عنه بقوله: (كن فيكون)، فهل يعز على صاحب هذه المشيئة أن يخلق عيسى من غير أب؟ كلا، ولا يعجزه ان يبعث الناس بعد موتهم في نشأة أخرى كالنشأة الأولى.

5. قال محمد عبده ما مثاله: قلنا إن هذه الآيات سيقت في معرض إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ببيان أن الله تعالى يصطفي من عباده من يشاء لرسالته وأنه مستقل في أفعاله فلا وجه لإنكار اصطفائه محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد اصطفى قبله آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران، ثم جاء في السياق ذكر قصة عيسى وأمه وما جاء به وما كان من كفر بعض قومه به ورمي أمه بالزنا، وإيمان بعض، وهناك قسم ثالث لم يكفر بعيسى ولم يؤمن به إيمانا صحيحا بل افتتن به افتتانا لكونه ولد من غير أب وزعموا أن معنى كونه ولد بكلمة من الله وكونه من روح الله أن الله تعالى حل في أمه وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إلها وإنسانا، فضرب للكافرين وللمفتونين مثل خلق آدم من تراب وهو حجة على الفريقين من اليهود والنصارى ولا شك أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى لأن هذا خلق من حيوان من نوعه وذاك قد خلق من التراب.

6. في الكلام إرشاد إلى أن أمر الخليقة يشبه بعضه بعضا فكله غريب بالنسبة إلينا إذا تفكرنا في حقيقتها وعللها ولا شيء منه بغريب عند الموجد المبدع، أما القوانين المعروفة في علم الخليقة فهي قد استخرجت ما نعهده ونشاهده وليست قوانين عقلية قامت البراهين على استحالة ما عداها كيف وأننا نرى في كل يوم ما يخالفها كالحيوانات التي لها أعضاء زائدة والتي تولد من غير جنسها، وترون ذكر ذلك في الجرائد ويعبرون عنه بفلتات الطبيعة، وهو إنما خالف ما نعرف لا ما يعلم الله تعالى، وما يدرينا أن لكل هذه الشواذ والفلتات سننا مطردة محكمة لم تظهر لنا، وكذلك شأن خلق عيسى فكونه على غير المعهود ليس مزية تقتضي تفضيله عليهم، فكيف تقتضي أن يكون إلها؟ وإذا كان عيسى قد خلق من بعض جنسه فآدم قد خلق من غير جنسه، فهو أولى بالمزية لو كانت وبالإنكار إن صح، على أن ما نعرف من أمر الخلقية ليس لنا منه إلا الظاهر، نصفه ونقول به وإن لم نعقله، وماذا نعقل من الرابطة بين الحس والنطق في الإنسان مثلا؟ بل ماذا نعقل من أمر حبة الحنطة في نبتها واستوائها على سوقها وتناسب أوراقها وغير ذلك؟

7. ذلك ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ الذي خلق عيسى وغيره وبيده ملكوت كل شيء ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ في أمره، القائلين فيه بغير علم فقد جاءك علم اليقين.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/320.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف قصص عيسى وأمه وما جاء به، وكفر بعض قومه به، ورميهم أمه بالزنا، وإيمان بعض آخر به أردف ذلك ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه (كلمة الله وروح الله) أن الله حل في أمه، وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إنسانا وإلها، فضرب مثلا ليردّ به على الفريقين الكافرين به من اليهود، والمفتونين به من النصارى، فبين أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى فهذا خلق من حيوان من نوعه، وذاك قد خلق من التراب فهو أولى بالمزية إن كانت، والإنكار إن صح الإنكار.

2. وأمر الخلقة غريب بالنسبة إلينا، لكنه ليس بالغريب بالنسبة إلى الصانع المبدع، والقوانين المعروفة في الخلق قد استخرجت مما نعهد ونشاهد، وليست بالقوانين العقلية التي قامت البراهين على استحالة ما عداها وإنا لنشاهد كل يوم ما يخالفها كالحيوان التي توجد من غير جنسها، أو الحيوان ذوات الأعضاء الزائدة، ويعبرون عن ذلك بفلتات الطبيعة، ولعل لهذه الشواذ وتلك الفلتات سننا أخرى مطردة لم تظهر لنا، وهكذا شأن خلق عيسى، فكونه على غير السنن المعروفة لا يقتضى تفضيله على غيره من الأنبياء بله أن يكون إلها.

3. ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ أي إن شأن عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سابق كشأن آدم في ذلك، ثم فسر هذا المثل وفصل ما أجمله فقال: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ أي قدّر أوضاعه وكوّن جسمه من تراب ميت أصابه الماء فكان طينا لازبا لزجا، وفي هذا توضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما وقطع لشبه الخصوم، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب مع الاعتراف بخلق آدم من غير أب ولا أم ـ مما لا ينبغي أن يكون ولا يسلمه العقل.

4. ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي ثم أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه كما جاء في قوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾، ثم أكد صدق هذا القصص فقال: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي هذا الذي أنبأتك به من شأن عيسى ومريم هو الحق، لا ما اعتقده النصارى في المسيح من أنه إله، ولا ما زعمه اليهود من رمى مريم بيوسف النجار.

5. ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أي فلا تشكن في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به، وتوجيه هذا النهى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع استحالة وقوع الامتراء منه ذو فائدة من وجهين:

أ. أنه إذا سمع صلّى الله عليه وآله وسلّم مثل هذا الخطاب ازداد رغبة في الثبات على اليقين واطمئنان النفس.

ب. أنه إذا سمعه غيره ازدجر ونزع عما يورث الامتراء، إذ أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم على جلالة قدره خوطب بمثل هذا فما بالك بغيره؟

6. خلاصة ذلك ـ دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من الاطمئنان إلى الحق، والتنزه عن الشك فيه.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/173.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم يحسم التعقيب في حقيقة عيسى عليه السلام، وفي طبيعة الخلق والإرادة التي تنشئ كل شيء كما أنشأت عيسى عليه السلام: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾

2. إن ولادة عيسى عجيبة حقا بالقياس إلى مألوف البشر، ولكن أية غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي‏ البشر؟ وأهل الكتاب الذين كانوا يناظرون ويجادلون حول عيسى ـ بسبب مولده ـ ويصوغون حوله الأوهام والأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب.. أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب، وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنساني.. دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى، ودون أن يقولوا عن آدم: إن له طبيعة لاهوتية، على حين أن العنصر الذي به صار آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي به ولد عيسى من غير أب: عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك!

3. إن هي إلا الكلمة: ﴿كُنْ﴾ تنشئ ما تراد له النشأة ﴿فَيَكُونُ﴾! وهكذا تتجلى بساطة هذه الحقيقة.. حقيقة عيسى، وحقيقة آدم، وحقيقة الخلق كله، وتدخل إلى النفس في يسر وفي وضوح، حتى ليعجب الإنسان: كيف ثار الجدل حول هذا الحادث، وهو جار وفق السنة الكبرى، سنة الخلق والنشأة جميعا!

4. هذه هي طريقة {الذِّكْرِ الْحَكِيمِ} في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري الواقعي البسيط، في أعقد القضايا، التي تبدو بعد هذا الخطاب وهي اليسر الميسور!

5. عند ما يصل السياق بالقضية إلى هذا التقرير الواضح يتجه إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يثبته على الحق الذي معه، والذي يتلى عليه، ويؤكده في حسه؛ كما يؤكده في حس من حوله من المسلمين، الذين ربما تؤثر في بعضهم شبهات أهل الكتاب، وتلبيسهم وتضليلهم الخبيث: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، وما كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ممتريا ولا شاكا فيما يتلوه عليه ربه، في لحظة من لحظات حياته، وإنما هو التثبيت على الحق، ندرك منه مدى ما كان يبلغه كيد أعداء الجماعة المسلمة من بعض أفرادها في ذلك الحين، كما ندرك منه مدى ما تتعرض له الأمة المسلمة في كل جيل من هذا الكيد؛ وضرورة تثبيتها على الحق الذي معها في وجه الكائدين والخادعين؛ ولهم في كل جيل أسلوب من أساليب الكيد جديد.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/405.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كثر الخلاف في المسيح عليه السلام، لأن ميلاده كان على صورة فريدة، لم يولد بها أحد من قبله.. وكان الناس في هذا الميلاد شيعا وفرقا، كل شيعة تقول فيه قولا، وكل فرقة تذهب فيه مذهبا:

أ. أما اليهود، فقد ارتضوا الجريمة مركبا، فقتلوا أنفسهم، وقتلوا الحق معهم.. وقالوا في المسيح إنه ولد كما يولد الناس، من ذكر وأنثى.. وإن كان ميلاده على فراش الإثم والفاحشة.. لأنه ابن زنا!

ب. وأما أتباع المسيح، فقد قصرت مداركهم عن إدراك قدرة الله، فلم تحتمل عقولهم تلك الحقيقة، وهى أن الله قادر على كل شيء، يخلق ما يشاء، مما يشاء، وكيف يشاء! فقالوا: إن المسيح هو الله تجسد بشرا في جسد عذراء.. وإذن فهو ميلاد صورىّ، لأنه لم يولد إلا الله نفسه، الذي كان موجودا بكماله الإلهي قبل هذا الميلاد! وإذن فلا مسيح، وإنما هو الله تسمّى باسم بشرى، كما لبس صورة بشرية.. وإذن فهي عملية أشبه بعملية الحلول التي آمن بها كثير من قدماء المصريين، والبراهمة، وغيرهم من الأمم.. فكما كان يحلّ الله في ثور، أو تمساح، أو شجرة، أو رجل.. حلّ في جسد طفل، وخرج وليدا من بطن امرأة.

ج. وأما المسلمون، فقد جاءهم القرآن بالخبر اليقين عن المسيح.. إنه خلق من خلق الله، وإنه إنسان من الناس، ولد بنفخة من روح الله، كما ولد هذا الوجود كله بفيض من فيض الله! وأقرب مثل لهذا، آدم ـ عليه السّلام ـ إنه خلق من غير أب أو أم، خلق من تراب هامد، لا أثر للحياة فيه.. وعيسى ـ عليه السّلام ـ خلق مولودا من كائن حيّ هي أمّه، فأيهما أشدّ غرابة في الخلق؟ الذي خلق من تراب هامد، أم الذي تخلّق من جسد حيّ.

2. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ما يسأل عنه.. وهو: كيف يقول الله للشيء كن، ثم لا يكون واقعا في الحال، كما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿فَيَكُونُ﴾ التي تدل على المستقبل المتراخى، ولو كان ما أمر الله به واقعا في الحال، لكانت صياغة الآية على غير هذا، ولكانت تلك الصياغة مثلا: (ثم قال له كن فكان).. فكيف يكون هذا؟ وهل أمام قدرة القادر العظيم حواجز وحوائل، تحول بين القدرة وبين إمضاء ما قدرت، على الفور، وفي الحال؟ والجواب: هو أنّ قول الله للشيء (كن) لا يقتضى وقوع هذا الشيء في الحال، إذ قد يكون الأمر موقوتا بوقت، أو متعلقا بأسباب، لا بد أن يقترن حدوثه بها، وهذه الأسباب لا متعلّق لها بقدرة الله، وإنما متعلّقها بالشيء ذاته، الذي دعته القدرة إلى الظهور، والذي قضت حكمة الله ألا يظهر إلا بعد أن يستكمل أسبابه المقترنة به.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، فمثلا مما سبق علم الله به، واقتضته إرادته إيجاد، شيء ما، وليكن هذا الإنسان أو ذاك، إن أمر الله قد صدر من قديم لهذا الإنسان أن يكون، على صورة كذا، وهيئة كذا، وأن تحمل به أمه في يوم كذا، وأن يولد في يوم كذا، وهكذا، بل وأكثر من هذا.. فإنه قبل ذلك بآلاف السنين، بل وآلاف الآلاف منها.. تنقّل هذا الإنسان في أصلاب الآباء وترائب الأمهات إلى أن التقى أبوه بأمه، في الزمن المحدد واليوم الموعود!.. وهكذا الشأن في كل موجود.. إنه تنقل في موجودات سبقته، وتقلّب في أحوال وأطوار حتى صار إلى ما صار إليه.

3. في خلق آدم، وفي قول الله سبحانه وتعالى فيه: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ما يكشف عن وجه واضح من وجوه الإعجاز القرآني وذلك الإعجاز الذي يطالع الناس في كل آية من آياته، الراصدة لأحداث الحياة، وتطور العقل البشرى، المتحدية للإنسانية في كل جيل من أجيالها، وفي كل وجه من وجوهها، وانظر في وجه هذه المعجزة، على ضوء ما كشف العلم الحديث، من علم الأحياء، ونظرية النشوء والارتقاء ـ فإنك ترى عجبا من العجب، في نظم القرآن الكريم، وما يحمل هذا النظم من أسرار وغيوب(2):

4. إن آدم ـ ونعنى به الإنسان ـ لم يخلق من تراب خلقا مباشرا، بمعنى أن الله سبحانه قبض قبضة من تراب، فقال لها كونى آدم ـ أي إنسانا ـ فكانت.. ولو شاء الله سبحانه هذا لكان كما شاء وأراد.. ولكنه ـ سبحانه ـ خلق آدم خلقا متطورا، كما يخلق الشجرة العظيمة ـ مثلا ـ من بذرة، وكما يخلق الرجل المكتمل من نطفة! لقد تنقّل آدم ـ ونقول الإنسان ـ في أطوار كثيرة لا حصر لها، كما يقول سبحانه: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ وكما يقول سبحانه في هذه السورة: ﴿وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾، فآدم الذي هو أول إنسان ظهر على هذه الأرض ـ قد كان ترابا، ثم تخلّق من هذا التراب أول جرثومة للحياة، هي أدنى مراتب النبات، في عالم الطحالب.. ثم تدرجت الأحياء في هذا العالم النباتي إلى مداها، فكان منها النخل الذي هو قمة هذا العالم النباتي، ثم بدأت جرثومة العالم الحيواني في الإميبيا والمحار، والإسفنج.. وذلك في أدنى مراتب هذا العالم الذي نما صعدا حتى بلغ مداه في فضائل القردة، التي بدأت تطل من وجهها صورة باهتة للإنسان (آدم) ثم أخذت هذه الصورة تتضح قليلا قليلا، وتنضج في بوتقة الزمن على مهل.. حتى كان اليوم الذي أطل منه وجه (آدم)، ممثلا في إنسان الغاب، وكان هذا الآدم هو باكورة ثمار هذه الشجرة التي امتدت جذورها في أعماق الأرض! واقرأ الآية الكريمة مرة أخرى: ﴿كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.. وقس أبعاد الزمن في ذبذبات تلك الكلمة المعجزة.. (فيكون)، فإنه لو انكشف لك من العلم هذا المقياس الذي تقاس به ذبذبات الكلمات ـ لاهتديت إلى ذلك الزمن الذي تم فيه خلق آدم، وتنقله من طور إلى طور.. من التراب.. إلى النبات.. إلى الحيوان.. إلى الإنسان، ولوضعت يدك على العدد الصحيح من ملايين السنين التي قطعها (آدم) في رحلته الطويلة عبر الزمن، حتى كان هذا (الآدم)! إن (آدم) ليس غريبا عن هذا العالم الأرضىّ الذي يعيش فيه، والذي استولى عليه بسلطان العقل.. فهو ثمرة من ثمراته.. إنه من تراب هذه الأرض.

5. واقرأ مع هذا قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وقف عند قوله‏ تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ﴾.. ﴿وَمِنْهُمْ﴾.. ﴿وَمِنْهُمْ﴾ إنهم هم آدم، وأبناء آدم، ينتقلون في أصلاب هذه الكائنات وأرحامها، في ملايين السنين.

6. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي هو الحقّ من ربّك، ذلك الذي حدّثك به من أمر عيسى ـ عليه السّلام ـ وأنه خلق من خلق الله، وعبد من عباده، إنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه.. فليس هو ابن زنا ـ كما يتخرص اليهود ـ وليس هو الإله ولا ابن الإله ـ كما يزعم النّصارى، وإنما هو من حدّثك الله به، في كلماته التي أنزلها عليك.. وهى الحق، نزل من عالم الحق.. فلا مرية فيه، ولا جدال معه، والامتراء: هو الشك.

7. في هذه الآية تثبيت للنبيّ في أمر المسيح، وفي حقيقته.. حيث لا التفات إلى أية مقولة أخرى تقال فيه، بعد قول الحق الذي قاله الله رب العالمين.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/478.

(2) ذكرنا موقف المفسر من نظرية التطور، والردود المفصلة عليه في كتاب القرآن والحقائق العلمية

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ استئناف بياني: بيّن به ما نشأ من الأوهام، عند النصارى، عن وصف عيسى بأنه‏ كلمة من الله، فضلوا بتوهمهم أنه ليس خالص الناسوت، وهذا شروع في إبطال عقيدة النصارى من تأليه عيسى، وردّ مطاعنهم في الإسلام وهو أقطع دليل بطريق الإلزام؛ لأنهم قالوا بإلهية عيسى من أجل أنه خلق بكلمة من الله وليس له أب، فقالوا: هو ابن الله، فأراهم الله أنّ آدم أولى بأن يدّعى له ذلك، فإذا لم يكن آدم إلها مع أنه خلق بدون أبوين فعيسى أولى بالمخلوقية من آدم.

2. محل التمثيل كون كليهما خلق من دون أب، ويزيد آدم بكونه من دون أم أيضا، فلذلك احتيج إلى ذكر وجه الشبه بقوله: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ الآية أي خلقه دون أب ولا أم بل بكلمة كن، مع بيان كونه أقوى في المشبه به على ما هو الغالب، وإنما قال عند الله أي نسبته إلى الله لا يزيد على آدم شيئا في كونه خلقا غير معتاد، لكم لأنهم جعلوا خلقه العجيب موجبا للمسيح نسبة خاصة عند الله وهي البنوة، وقال ابن عطية: أراد بقوله: ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ نفس الأمر والواقع، والضمير في خلقه لآدم لا لعيسى؛ إذ قد علم الكلّ أنّ عيسى لم يخلق من تراب، فمحل التشبيه قوله: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾

3. جملة ﴿خَلَقَهُ﴾ وما عطف عليها مبيّنة لجملة كمثل آدم، وثم للتراخي الرتبي فإنّ تكوينه بأمر ﴿كُنْ﴾ أرفع رتبة من خلقه من تراب، وهو أسبق في الوجود والتّكوين المشار إليه بكن: هو تكوينه على الصفة المقصودة، ولذلك لم يقل: كوّنه من تراب ولم يقل: قال له كن من تراب ثم أحياه، بل قال خلقه ثم قال له كن.

4. قول كن تعبير عن تعلق القدرة بتكوينه حيا ذا روح ليعلم السامعون أنّ التكوين ليس بصنع يد، ولا نحت بآلة، ولكنه بإرادة وتعلق قدرة وتسخير الكائنات التي لها أثر في تكوين المراد، حتى تلتئم وتندفع إلى إظهار المكوّن وكلّ ذلك عن توجه الإرادة بالتنجيز، فبتلك الكلمة كان آدم أيضا كلمة من الله ولكنه لم يوصف بذلك لأنّه لم يقع احتياج إلى ذلك لفوات زمانه.

5. إنما قال: ﴿فَيَكُونُ﴾ ولم يقل فكان لاستحضار صورة تكوّنه، ولا يحمل المضارع في مثل هذا إلّا على هذا المعنى، مثل قوله: {اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً} [فاطر: 9] وحمله على غير هذا هنا لا وجه له.

6. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ خبر مبتدأ محذوف: أي هذا الحق، ومن ربك حال من‏ الحق، والخطاب في‏ ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمقصود التعريض بغيره، والمعرّض بهم هنا هم النصارى الممترون الذين امتروا في الإلهية بسبب تحقق أن لا أب لعيسى.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/112.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة بيّن الله سبحانه وتعالى كيف كان الحمل بعيسى، وما أجراه الله تعالى على يديه من معجزات، وكيف كان عبدا من عباده الصالحين، وذكر دعوته إلى ربه، ومعاداة قومه له، وتقدم الحواريين ليكونوا أنصاره إلى الله، وكيف مكر القوم به وأحبط الله مكرهم، ثم توفاه سبحانه، ورفعه إليه، وجعل فوقية للذين اتبعوه في هدايته، فآمنوا بوحدانية الله وبرسالته، وليس منهم قطعا أولئك الذين قالوا إنا نصارى وادّعوا ألوهيته، أو أنه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

2. في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى حقيقة تكوين عيسى، ويزيل وجه الغرابة في ولادته، وأن الله تعالى لا يتقيد بالأسباب والمسببات؛ لأنه خالق كل شيء، وهو الفاعل المختار، يخلق الأشياء بإرادته واختياره، ولا تصدر عنه المخلوقات صدور المعلول عن علته، كما يتوهم الماديون الذين عاصروا عيسى عليه السلام، والذين يعاصروننا اليوم، وإن الله سبحانه كما خلق الإنسان الأول آدم من غير أب ولا أم، فكذلك خلق عيسى من غير أب، وهو سبحانه ذو القوة المتين.

3. بين سبحانه هذه الحقيقة بقوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ يبين الله بهذا النص الكريم مكان خلق عيسى عليه السلام من قدرته سبحانه وتعالى، بجوار خلق آدم من تراب؛ فالله سبحانه وتعالى خلق آدم من تراب، أي من غير أب ولا أم، ومن مادة ليس من شأنها أن يكون منها إنسان حي ينطق ويتكلم، وقد تعلم الأسماء والأشياء كلها؛ ومعنى النص الكريم: إن حال عيسى في تصويره وتكوينه من غير أب بالنسبة لقدرة الله تعالى كحال آدم صوره وكونه من طين.

4. في هذا التمثيل احتجاج على النصارى الذين ألّهوا المسيح عيسى ابن مريم لأنه خلق من غير أب، واعتبروه ابن الله والاحتجاج من وجهين:

أ. أولهما: أنه إذا كان خلق عيسى من غير أب مسوغا في زعمهم لأن يكون إلها أو ابن إله، فأولى بذلك ثم أولى آدم؛ لأنه خلق من غير أب ولا أم، ولا أحد من الناس ادعى ألوهية آدم لهذا السبب فيبطل حينئذ ذلك الزعم الباطل لانهيار الأساس الذي قام عليه.

ب. ثانيهما: أن الله سبحانه وتعالى إذا كان قادرا على خلق إنسان حيّ من غير أب ولا أم، ومن مادة ليس من شأنها أن يتكون منها إنسان حي، فأولى أن يكون قادرا على خلق إنسان من غير أب، ومن أم هي إنسان يلد ويحيا ويموت، وهى وعاء لحياة الإنسان وهو جنين؛ وإذا فلا غرابة في خلق عيسى من غير أب، وما كان يصح أن يكون هذا دافعا لهذا الضلال المبين.

5. النص الكريم فوق ما تضمنه من حجة دامغة تقطع دعوى المبطلين، هو بيان لقدرة الله تعالى العلى القدير في خلق الأحياء وخلق الأشياء، من حيث إنها تخلق بإرادته المختارة، وأنه بهذه الإرادة يخلق الحىّ من غير الحىّ، ويخلق الحىّ على غير النظام الجاري في مجرى العادات، وما نسميه طبائع الأشياء في التكوين والتوالد، ولا تصدر عنه الأشياء كما يصدر المعلول عن علته، وإلا ما كان من الطين إنسان حي ناطق هو أبو الخليقة آدم عليه السلام.

6. لذا بين سبحانه بعد ذلك عظم إرادة الله تعالى في خلق آدم: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هذا تصوير لخلق الله تعالى آدم من تراب، أراد سبحانه وتعالى أن يكون فصوّره من طين، ثم قال له لما صوره آمرا له أمرا تكوينيا (كن) فكان، وهذه الجملة السامية تصور خلق الله سبحانه وتعالى للأشياء الأحياء وغير الأحياء، فليست إلا أن تتجه الإرادة إلى تكوينها، فيكون الأمر التكويني، وتكون الاستجابة التكوينية، ويكون الأمر كما أراد سبحانه.

7. قال سبحانه وتعالى بالنسبة لخلق آدم عليه السلام: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ ولم يقل كن فكان، وهو المناسب للماضي، وذلك لأن التعبير بالمضارع دائما فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت، ومن جهة أخرى فصيغة المضارع في هذا المقام تنبئ عما كان، وتومئ إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله تعالى المستمر في المستقبل كما كان في الماضي.

8. وقد بين سبحانه أن هذا هو الحق الثابت المستمر، فقال: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أي هذا الذي أخبرك الله به سبحانه من أن عيسى خلق من غير أب، وكونه كذلك، وكون خلق آدم من طين، وكون هذا التكوين العام هو بإرادة مختارة، لا قيد يقيدها، وأنها خالقة الأسباب، هذا هو الحق، والحق هو الثابت اليقيني الذي لا مجال للشك فيه.

9. أكد سبحانه وتعالى كونه الحق الذي لا مجال للريب فيه بثلاثة تأكيدات:

أ. أولها: بتعريف كلمة الحق بال، فإن مؤدى ذلك أن خلق الله بإرادته المختارة على النحو الذي بينه هو الحق وحده، ولا حق سواه.

ب. ثانيها: أنه بين أن إثبات ذلك الحق هو من ربك الذي ذرأك وحفظك، وفي ذلك ما يدل على صدق الإثبات صدقا لا ريب فيه.

ج. ثالثها: أنه نهى عن الامتراء والشك في ذلك الحق، فقال سبحانه: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أي أنه لا مجال فيه للشك، أو للجدال والمراء المثير للشك.

10. الخطاب في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ موجه إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لا شك عنده، وكان كذلك لإثارة الاهتمام والاتجاه إليه، وبيان أنه لا موضع فيه للجدل والامتراء، فيكون الاطمئنان إلى الحق المبين، وإذا كان هذا دعوة للنبي إلى الابتعاد عن الامتراء فغيره أولى بأن توجه إليه الدعوة القاطعة لكل ريب.

11. الامتراء: هو الشك الذي يدفع إلى المراء والمجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق ولذلك قال الراغب الأصفهاني في معنى الامتراء ما نصه: (المرية التردد في الأمر، وهو أخص من الشك، قال تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ﴾ [الحج‏] ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ﴾ [هود] ﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾ [السجدة] ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾ [فصلت‏] والامتراء والمماراة: المحاجة فيما فيه تردد، وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب، فمؤدى كلمة الامتراء هو المحاجة فيما فيه ريب، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه الكريم أو لقارئ القرآن العظيم: فلا تكن من الذين يجادلون في هذا شاكين؛ فإنه ليس موضع شك من جهة، وليس موضع جدال؛ لأن الذين يجادلون فيه يجادلون في قدرة الله تعالى‏ ﴿وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ [الرعد] وإذا كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم منهيا عن المجادلة في هذا الأمر لأنه لا مسوغ فيه للجدل، فماذا يكون من أمره إن حاجوه هم؟

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1250.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال المفسرون: ان وفد نجران اليمن قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: مالك تشتم صاحبنا ـ أي عيسى ـ؟ قال وكيف؟ قالوا: تقول: انه عبد، قال: أجل، هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء، قالوا: وهل رأيت إنسانا من غير أب؟ فنزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾

2. سواء أصحت هذه الرواية؛ أم لم تصح فإن هذا هو موضوعها بالذات، فقد كان النصارى، وما زالوا يحتجون لعقيدتهم بربوبية عيسى انه نشأ من غير أب.. وقد قطع الله حجتهم هذه، وأبطلها بآدم، فإن كان عيسى إلها أو ابن إله لأنه من غير أب فب الأولى أن يكون آدم كذلك؛ لأنه من غير أب وام.. وما أجابوا عن هذا النقض، ولن يجيبوا عنه إلى آخر يوم.

3. سؤال وإشكال: ان الظاهر من قوله تعالى: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ ان الله قد أنشأ آدم وأوجده، وانتهى كل شيء، وعليه يكون الخلق متقدما على قول: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ ولم يبق أي وجه لهذا القول، لأنه إيجاد للموجود، وخلق للمخلوق، وبديهة ان كلام الله يجب أن يحمل على أحسن المحامل، والجواب: ان الله خلق آدم على مراحل، منها انه خلقه من طين بلا روح.. ثم جعل فيه الروح، وعليه يكون المعنى: أيها الطين كن إنسانا من لحم ودم، وعاطفة وادراك.

4. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾، أي ان هذا الذي أنزلناه عليك، وأخبرناك به عن عيسى هو الحق من ربك‏ ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾

5. سؤال وإشكال: النبي محال أن يشك فيما أخبر الله به.. لأن الشك يتنافى مع الايمان فضلا عن العصمة، فما هو المبرر لهذا النهي؟ والجواب: أجاب المفسرون بجوابين:

أ. الأول ان ظاهر الخطاب موجه إلى النبي، والمقصود في الواقع غيره.

ب. الثاني: ان المراد استمرار النبي على اليقين.

6. في كلا الوجهين نظر، لأنهما مبنيان على ان الله تعالى ليس له أن ينهى أنبياءه عن المعصية.. والصحيح ان لله أن ينهى الأنبياء عن المعصية:

أ. أولا لأنه أمر من الأعلى إلى من هو دونه في الرتبة والعلو.

ب. ثانيا: ان العصمة ليست طبيعة وغريزة في الأنبياء بحيث تستحيل المعصية عليهم بحسب الذات والإمكان، والا لم يكن لهم من فضل، وإنما يستحيل صدور المعصية منهم بحسب الواقع، لا بحسب الإمكان، فيصح، والحال هذه، أن يوجه النهي اليهم بهذا الاعتبار، ولكن من الله لا من غيره، إذ لا أحد فوق الأنبياء الا الله جلّت عظمته، وعلى هذا الوجه تحمل النواهي الكثيرة الواردة في القرآن الكريم في هذا الباب، مثل قوله تعالى لحبيبه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾.. ثم ما يدرينا ان الأنبياء كانوا يحبون هذه النواهي من الله سبحانه، بل ويطلبونها، كما يطلب المؤمن الصالح من الأعلم الأكمل ان يعظه، ويذكّره بالله.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/75.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، تلخيص لموضع الحاجة مما ذكره من قصة عيسى في تولده تفصيلا، والإيجاز بعد الإطناب ـ وخاصة في مورد الاحتجاج والاستدلال ـ من مزايا الكلام، والآيات نازلة في الاحتجاج ومتعرضة لشأن وفد النصارى نصارى نجران فكان من الأنسب أن يوجز البيان في خلقته بعد الإطناب في قصته ليدل على أن كيفية ولادته لا تدل على أزيد من كونه بشرا مخلوقا نظير آدم عليه السلام فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد وأعظم مما قيل في آدم، وهو أنه بشر خلقه الله من غير أب.

2. معنى الآية: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ﴾ أي وصفه الحاصل عنده تعالى أي ما يعلمه الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده أن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم، وكيفية خلقه أنه جمع أجزاءه من تراب ثم قال له كن فتكون تكونا بشريا من غير أب، فالبيان بحسب الحقيقة منحل إلى حجتين تفي كل واحدة منهما على وحدتها بنفي الألوهية عن المسيح عليه السلام:

أ. إحداهما: أن عيسى مخلوق لله ـ على ما يعلمه الله ولا يضل في علمه ـ خلقة بشر وإن فقد الأب ومن كان كذلك كان عبدا لا ربا.

ب. ثانيهما: أن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بألوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى عليه السلام أيضا لمكان المماثلة.

3. يظهر من الآية أن خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية، وإن كانت خارقة للسنة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكونه إلى والد.

الظاهر أن قوله: ﴿فَيَكُونُ﴾، أريد به حكاية الحال الماضية، ولا ينافي ذلك دلالة قوله: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ﴾ على انتفاء التدريج، فإن النسبة مختلفة فهذه الموجودات بأجمعها أعم من التدريجي الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وكثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية، وأما إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾، وسيجيء زيادة توضيح لهذا المعنى إن شاء الله تعالى في محله المناسب له.

4. عمدة ما سيق لبيانه قوله: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ﴾ إنه تعالى لا يحتاج في خلق شيء إلى الأسباب حتى يختلف حال ما يريد خلقه من الأشياء بالنسبة إليه تعالى بالإمكان والاستحالة، والهوان والعسر، والقرب والبعد، باختلاف أحوال الأسباب الدخيلة في وجوده فما أراده وقال له كن، كان من غير حاجة إلى الأسباب الدخيلة عادة.

5. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ تأكيد لمضمون الآية السابقة بعد تأكيده بأن ونحوه نظير تأكيد تفصيل القصة بقوله: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ الآية، وفيه تطييب لنفس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنه على الحق، وتشجيع له في المحاجة.

6. قوله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ من أبدع البيانات القرآنية حيث قيد الحق بمن الدالة على الابتداء دون غيره بأن يقال: الحق مع ربك لما فيه من شائبة الشرك ونسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة، وذلك أن هذه الأقاويل الحقة والقضايا النفس الأمرية الثابتة كائنة ما كانت وإن كانت ضرورية غير ممكنة التغير عما هي عليه كقولنا: الأربعة زوج، والواحد نصف الاثنين، ونحو ذلك إلا أن الإنسان إنما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود والوجود كله منه تعالى، فالحق كله منه تعالى كما أن الخير كله منه، ولذلك كان تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فإن فعل غيره إنما يصاحب الحق إذا كان حقا، وأما فعله تعالى فهو الوجود الذي ليس الحق إلا صورته العلمية.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/213.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وهذا المثل ردّ على الغلاة من النصارى الذين يحتجون بأنه ليس له أب من بني آدم، كما أنه ردّ على اليهود الكفار الذين يقذفون أمه زاعمين أنه لا يكون مولود بدون أب، فبين الله تعالى قدرته على خلقه عليه السلام من دون أب كما خلق آدم من دون أب ولا أم، وكفى في وجوده قول الله ﴿كُنْ﴾ أي إيجاده اختراعاً بدون كلفة، وقوله تعالى: ﴿فَيَكُونُ﴾ تصوير لحال وجوده حين قال له كن كأنه كائن في الحال.

2. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ هذا هو ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ لا قول النصارى ولا اليهود ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشاكين في أمر عيسى عليه السلام بعد أن جاءك الحق من الله أصدق القائلين الذي خلق عيسى، فقد بطل به قول اليهود وغلاة النصارى.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/474.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إنّ الناس ـ في أغلب أحوالهم ـ يتعاملون مع المألوف في ما يقبلونه وما يرفضونه، فيعتبرونه القاعدة الأساس في إمكان الخلق واستحالته، فيقبلون ما يتفق مع قوانينه وسننه، ويرفضون ما لا يتفق معها، وعلى هذا الأساس أنكر الكثيرون المعاد، لأنهم لم يألفوا أن يتحوّل التراب إلى عنصر حيّ، وأن يعود الإنسان إلى الحياة بعد أن تحوّل إلى عظام نخرة، وذلك ما حكاه الله عنهم في قوله تعالى: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [المؤمنون: 82] ﴿أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ﴾ [الصافات: 17]، ولكن القرآن يريد أن يوجههم إلى ضرورة التعامل مع الأشياء من خلال القاعدة التي تحكمها وترتكز عليها في ضوء المنهج العقلي الذي يوحّد بين النظائر والأمثال في قضية الإمكان إذا كان الأساس الذي ترجع إليه واحدا.. ففي قضيّة المعاد، جاءت الآية الكريمة التي تساوي بين الخلق والإعادة في قدرة الله، وذلك قوله تعالى: {وضَرَبَ لَنا مَثَلًا ونَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يحيي الْعِظامَ وهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَولَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى‏ وهُوَالْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏} [يس: 78 ـ 82]، وهكذا أراد الله للإنسان أن يخرج من جوّ الألفة إلى جوّ التفكير، لأن الإخلاد إلى المألوف يبعد الإنسان عن النفاذ إلى عمق الأشياء، ويربطه بالجانب السطحيّ منها، لتنطلق الحياة في أفكاره من موقع الفكر والتأمّل.

2. لمّا كانت قضية خلق عيسى عليه السّلام من القضايا التي أثارت كثيرا من الجدل والدهشة، بادر قوم إلى إنكار ولادته من دون أب، فاتّهموا مريم عليها السّلام بالسوء والفحشاء؛ وحاول قوم أن يرفعوه إلى مرتبة الألوهية، فجاءت الآية لتقول لهؤلاء الذين استغربوا ذلك، إن ارتباط تفكيركم بطريقة خلقكم من خلال عمليّة التناسل الطبيعية، أبعدكم ـ كمؤمنين بالله ـ عن خلق آدم الذي ترجعون إليه في النسب، فإنه انطلق بقدرة الله بشكل مباشر، فكيف تمّ خلقه، وكيف أمكن أن يتحقق بغير الطريقة الطبيعيّة؟ هل هناك شيء غير قدرة الخالق‏ سبحانه؟ فإذا كانت القدرة هي السبب في خلق إنسان بلا أب وأم، فكيف تستبعدون أن تتحرك القدرة في خلق إنسان بلا أب؟ فكلما كان الخلق الأول ناشئا من إرادة الله التي تمثلها كلمة (كن) فكذلك خلق عيسى عليه السّلام، حتى خلق الإنسان بالشكل الطبيعي، فإذا ابتعدنا عن الألفة وتجرّدنا عن جوّها، فإن السؤال الذي يفرض نفسه، كيف تمّ ذلك؟ ومن الذي ربط بين السبب والمسبّب؟ وهل هناك إلا قدرة الله التي أعطت السبب قوّة السببيّة في حركة الوجود؟

3. هذا ما جاءت به الآية الكريمة لتأكيده كحقيقة عقلية في الإمكان، إيمانية في الوقوع: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ في التدليل على قدرة الله التي لا يعجزها شيء، مهما تنوعت خصائصه وأشكاله، ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ أي: آدم، ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ من خلال ما تمثله الكلمة من معنى الإرادة في كلمة التكوين، وهذه قاعدة عامة في التفكير الديني في ضوء المنهج العقلي، الذي يضع قدرة الله في الحساب، ويحرّك التفكير في هذا الاتجاه ليربط بين الأشياء كلها من خلال ذلك، وهذا ما يجب أن تتركز التربية الإيمانية عليه، لئلا يستسلم الإنسان إلى القضايا العادية في مشاهداته وتجاربه الحسيّة، فينكر كثيرا من قضايا الغيب من خلال استسلامه للحس.

4. ثم يؤكد الله حركة الحقيقة في نفس الرسول، فيؤكد ثباتها لأنها مستمدة من الله خالق الأشياء، فلا يمكن أن يقترب إليها الريب، أو يطرأ عليها الشك: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: هذا هو الحق من ربك، فهو مصدر الحق في كل مفرداته، لأنه مصدر الخلق كله والوجود كله، فكل شيء مربوب له، وكل‏ شيء مكشوف عنده، ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أي الشاكين المترددين، لأنه لا معنى للشك في ما أنزله الله من الحق في وحيه.

5. تلك هي قصة اليقين في الإيمان لدى المؤمنين، فليس بين المؤمن وبين أن يعيش اليقين في قلبه إلا أن يعرف أنّ هذا هو الحق من عند الله، مهما أثار الآخرون أمامه من شكوك وشبهات.. وهكذا أراد الله للمؤمنين ـ من خلال خطابه للنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن لا يكونوا من المرتابين في أمر عيسى عليه السّلام، في ما حكاه الله عنه من آياته وبيّناته.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/58.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قلنا في بداية هذه السورة أنّ الكثير من آياتها كانت ردّا على محاورات مسيحيّي نجران الذين جاؤوا في وفد مؤلّف من 60 شخصا وفيهم عدد من زعمائهم بقصد التحاور مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن بين المواضيع التي طرحت في ذلك الاجتماع مسألة الوهيّة المسيح التي رفضها رسول الله واستدلّ بأنّ المسيح ولد وعاش كبقية الناس ولا يمكن أن يكون إلها، لكنّهم استدلّوا على الوهيّته بولادته من غير أب، فنزلت الآية ردّا عليهم، ولمّا رفضوا ذلك دعاهم إلى المباهلة، وسوف يأتي ذكرها قريبا إن شاء الله.

2. الآية الأولى تورد استدلالا قصيرا وواضحا في الردّ على مسيحيّي نجران‏ بشأن الوهية المسيح: إنّ ولادة المسيح من غير أب لا يمكن أن تكون دليلا على أنّه ابن الله أو أنّه الله بعينه، لأنّ هذه الولادة قد جرت لآدم بصورة أعجب فهو قد ولد من غير أب ولا أم، وعليه، فكما أنّ خلق آدم من تراب لا يستدعي التعجّب، لأنّ الله قادر على كلّ شيء، ولأن (فعله) و(إرادته) متناسقان فإذا أراد شيئا يقول له: كن فيكون، كذلك ولادة عيسى من أمّ وبغير أب، ليست مستحيلة، وأساسا، فإن الميسور والمعسور يتحقّقان بالنسبة لمن كانت قدرته محدودة كما في المخلوقات، أمّا من كانت قدرته مطلقة فلا مفهوم للصعب والسهل بالنسبة له، فخلق ورقة واحدة تتساوى بالنسبة له مع خلق غابة من آلاف الكيلومترات، وخلق ذرة واحدة كخلق المنظومة الشمسية لديه.

3. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ هذه الآية تؤكّد الموضوع وتقول: إنّ ما أنزلنا عليك بشأن المسيح أمر حقيقي من الله ولا يعتوره الشكّ، فلا تتردّد في قبوله.

4. في تفسير ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ للمفسّرين رأيان:

أ. الرأي الأول يقول: إنّ الجملة مبتدأ وخبر، وبذلك يكون المعنى: الحقّ دائما من ربّك، وذلك لأنّ الحقّ هو الحقيقة، والحقيقة هو الوجود، وكلّ وجود ناشئ من وجوده، لذلك فكلّ باطل عدم، والعدم غريب على ذاته.

ب. الرأي الثاني يقول: إنّ الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره (تلك الأخبار)، أي تلك الأخبار التي أنزلناها عليك حقائق من الله، وكلّ من التفسيرين ينسجم مع الآية.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/522.

32. المسيح والمباهلة والقصص الحق

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈32⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ [آل عمران: 61 ـ 63]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن أبي ذر: أن الإمام علي (ت 40 هـ) وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص أمرهم عمر بن الخطاب أن يدخلوا بيتا ويغلقوا عليهم بابه، ويتشاوروا في أمرهم، وأجلهم ثلاثة أيام، فإن توافق خمسة على قول واحد وأبى رجل منهم قتل ذلك الرجل، وإن توافق أربعة وأبى اثنان قتل الاثنان، فلما توافقوا جميعا على رأي واحد، قال لهم الإمام علي: (إني أحب أن تسمعوا مني ما أقول لكم، فإن يكن حقا فاقبلوه، وإن يكن باطلا فأنكروه) قالوا: قل، وذكر فضائله عليهم وهم يعترفون به، فمما قال لهم: فهل فيكم أحد أنزل الله عز وجل فيه وفي زوجته وولديه آية المباهلة، وجعل الله عز وجل نفسه نفس رسوله غيري؟ قالوا: لا(1).

__________

(1) الأمالي: 2/163.

الحسن:

روي عن الإمام الحسن (ت 50 هـ) أنّه قال: قال الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حين جحده كفرة الكتاب وحاجوه: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ فأخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأنفس معه أبي، ومن البنين أنا وأخي، ومن النساء فاطمة أمي من الناس جميعا، فنحن أهله ولحمه ودمه ونفسه، ونحن منه وهو منا(1).

__________

(1) الأمالي: 2/177.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ يقول: من جادلك في أمر عيسى من بعد ما جاءك ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ من القرآن(1).

2. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ نجتهد في الدعاء أن الذي جاء به محمد هو الحق، وأن الذي يقولون هو الباطل(1).

3. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ نتضرع في الدعاء(2).

روي عن قيس بن سعد: كان بين ابن عباس وبين آخر شيء، فقرأ هذه الآية: ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ فرفع يديه، واستقبل الركن: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾(3).

4. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ إن هذا الذي قلنا في عيسى هو الحق(4).

5. روي أنّه قال: أن رهطا من أهل نجران قدموا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ قال: من هو؟)، قالوا: عيسى، تزعم أنه عبد الله، قال: أجل، إنه عبد الله)، قالوا: فهل رأيت مثل عيسى، أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريل، فقال: قل لهم إذا أتوك: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ إلى آخر الآية(5).

6. روي أنّه قال: لو باهل أهل نجران رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا(6).

__________

(1) أبو نعيم في الدلائل: ٢٤٥.

(2) تفسير الثعلبي: ٣/٨٤.

(3) الدرّ المنثور: عبد بن حُمَيد.

(4) ابن جرير: ٥/٤٦٨.

(5) ابن جرير: ٥/٤٦٠.

(6) عبد الرزاق: ١/١٢٣.

جابر:

روي عن جابر بن عبد الله (ت 78 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلي، و﴿أَبْنَاءَنَا﴾ الحسن، والحسين ﴿وَنِسَاءَنَا﴾ فاطمة(1).

__________

(1) الحاكم: ٢/٥٩٣.

أنس:

روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) بن مالك، قال كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعرفات وهو يدعو، ورفع يديه، فانفلت زمام الناقة من يده، فتناوله، فرفع يده، فقال أصحاب محمد: هذا الابتهال، وهذا التضرع(1).

__________

(1) البزار: ١٤/٨٥.

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى قولا في عيسى ابن مريم، فكانوا يجادلون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه؛ فأنزل الله هذه الآيات في سورة آل عمران: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ﴾ إلى قوله: ﴿فنجعل لعنة الله على الكاذبين﴾، فأمر بملاعنتهم، فواعدوه لغد، فغدا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعه الحسن والحسين وفاطمة، فأبوا أن يلاعنوه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران، حتى الطير على الشجر؛ لو تموا على الملاعنة(1).

2. روي أنّه قال: قدم وفد نجران على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: حدثنا عن عيسى ابن مريم، قال ﴿رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾، قالوا: ينبغي لعيسى أن يكون فوق هذا، فأنزل الله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ الآية، قالوا: ما ينبغي لعيسى أن يكون مثل آدم، فأنزل الله: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ الآية(2).

__________

(1) ابن أبي شيبة: ٧/٤٢٦.

(2) ابن شبة في تاريخ المدينة: ٢/٥٨٠.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ)

1. روي أنّه قال: ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾: قرأها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عليهما، ودعاهما إلى المباهلة، وأخذ بيد فاطمة والحسن والحسين، وقال أحدهما لصاحبه: اصعد الجبل، ولا تباهله؛ فإنك إن باهلته بؤت باللعن(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٦٧.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ)

2. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ النبي، وعلي(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٦٨.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ الآية، كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين(1).

2. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ معناه نلتعن(2).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ معناه الخبر اليقين(2).

4. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ معناه كفروا(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٧١.

(2) تفسير الإمام زيد، ص 110.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا﴾، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (هلم أداعيكم، فأينا كان الكاذب أصابته اللعنة والعقوبة من الله عاجلا)، قالوا: نعم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ فلا تكن في شك مما قصصنا عليك أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمة منه وروح، وأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن، فيكون(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٦٧.

(2) ابن جرير: ٥/٤٦٤.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لو لاعنت القوم بمن كنت تأتي حين قلت: ﴿أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾؟ قال: حسن، وحسين(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ إن هذا القصص الحق في عيسى، ما ينبغي لعيسى أن يتعدى هذا، ولا يجاوز أن يتعدى أن يكون كلمة الله ألقاها إلى مريم، وروحا منه، وعبد الله ورسوله(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٧٣.

(2) ابن جرير: ٥/٤٦٨.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: اجتمعت الأمة برها وفاجرها أن حديث النجراني حين دعاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المباهلة لم يكن في الكساء إلا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فقال الله تبارك وتعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ فكان تأويل أبنائنا الحسن والحسين، ونسائنا فاطمة، وأنفسنا علي(1).

2. روي في حديث له مع هارون العباسي، قال هارون له: كيف قلتم: إنا ذرية النبي، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يعقب، وإنما العقب للذكر لا للأنثى، وأنتم ولد البنت ولا يكون لها عقب؟ فقلت: (أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إلا ما عفيتني عن هذه المسألة)، فقال: تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي، وأنت ـ يا موسى ـ يعسوبهم وإمام زمانهم كذا أنهي إلي، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، وأنتم تدعون ـ معشر ولد علي ـ أنه لا يسقط عنكم منه شيء لا ألف ولا واو إلا وتأويله عندكم، واحتججتم بقوله عز وجل: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم، فقلت: (تأذن لي في الجواب)؟ قال هات، قلت: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ﴾ من أبو عيسى، يا أمير المؤمنين؟)، فقال: ليس له أب، فقلت: (إنما ألحقه الله بذراري الأنبياء من طريق مريم، وكذلك ألحقنا الله تعالى بذراري النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من قبل أمنا فاطمة.. أزيدك يا أمير المؤمنين)؟ قال هات، قلت: (قول الله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ ولم يدع أحد أنه إذ أدخل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تحت الكساء عند المباهلة مع النصارى إلا الإمام علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، فكان تأويل قوله عز وجل: ﴿أَبْنَاءَنَا﴾ الحسن والحسين ﴿وَنِسَاءَنَا﴾ فاطمة ﴿وَأَنْفُسَنَا﴾ الإمام علي(2).

__________

(1) الاختصاص: 56.

(2) عيون أخبار الإمام الرضا: 1/84.

الرضا:

روي عن الريان بن الصلت عن الإمام الرضا (ت 203 هـ)، في حديثه مع المأمون والعلماء، في الفرق بين العترة والأمة، وفضل العترة على الأمة، واصطفاء العترة ـ وذكر الحديث بطوله ـ وفي الحديث: قالت العلماء: فأخبرنا هل فسر الله تعالى الاصطفاء في الكتاب؟ فقال الإمام الرضا: (فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن، في اثني عشر موضعا ـ وذكر المواضع من القرآن وقال فيها ـ وأما الثالثة: حين ميز الله تعالى الطاهرين من خلقه، وأمر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمباهلة بهم في آية الابتهال، فقال عز وجل: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾)، قالت العلماء: عنى به نفسه، قال الإمام الرضا أنّه قال: (غلطتم، إنما عنى به الإمام علي، ومما يدل على ذلك قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قال لينتهين بنو وليعة أو لأبعثن إليهم رجلا كنفسي ـ يعني الإمام علي ـ وعنى بالأبناء الحسن والحسين، وعنى بالنساء فاطمة، فهذه خصوصية لا يتقدم فيها أحد، وفضل لا يلحقهم فيه بشر، وشرف لا يسبقهم إليه خلق، إذ جعل نفس علي كنفسه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهذه الثالثة(1).

__________

(1) أمالي الصدوق: 423/1.

المرتضى:

قال الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ): ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ هذه نزلت في نصارى نجران، أيام وفدوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما أن بين لهم الحق، وأوضح لهم الصدق، وكابروه وجاحدوه من بعد أن قام الحق عليهم، وثبتت الحجة في رقابهم، حتى كان من قولهم: أن أجروا ذكر المباهلة؛ وذلك أن المباهلة كانت في سالف الدهر، وعند اختلاف أهل الباطل والحق، فكانوا إذا تباهل الحزبان أنزل الله العذاب على الكاذب منهما، فأنزل الله سبحانه على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن قال لهم: ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾، فلما أن وعدهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المباهلة، وغدوا إليه لذلك، فيقال: إن الشيطان تشبه لهم، أو ناداهم بصوت أسمعهم، فقال: إن باهلكم محمد بأصحابه كافة فباهلوه، وإن باهلكم بنفسه وابن عمه وولده، فلا تباهلوه فتهلكوا.. فلما أن خرج صلّى الله عليه وآله وسلّم لمباهلتهم ـ خرج معه علي والحسن والحسين وفاطمة، فلما رأوهم معه خصوصا منفردين من غيرهم جبنوا عن مباهلته، ورجعوا خائبين، وبالذلة والصغار معترفين؛ فضرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليهم الجزية، وهي: ما بلغكم من الأواق والحلل(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/164.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ الآية، دعاهم صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المباهلة، فالمباهلة في لغة العرب‏: الملاعنة، دعاهم إلى الدعاء باللعنة على الكاذبين، فامتنعوا عن ذلك؛ خوفا منهم لحوق اللعنة؛ فدل امتناعهم عن ذلك أنهم عرفوا كذبهم، لكنهم تعاندوا وكابروا؛ فلم يقروا بالحق.

2. {إِنَّ هذا لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُّ} يعنى: الخبر الحق‏، {وما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ظاهر، قد ذكرناه فيما تقدم

3. قوله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: خبر الحق في أمر عيسى عليه السلام أنه كان عبدا بشرا نبيّا، ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أي: لا يحملنك شدة لجاجتهم وكثرتهم في القول فيه بهذا الوصف على الشك‏ في الخبر الّذى جاءك عن الله؛ كقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ إلى آخره [هود: 12]: على الموعظة، لا على أنه يكون كذلك، أو على ما سبق ذكره

ب. ويحتمل: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: كل حق فهو عن الله جائز إضافته إليه، على الوجوه التي تضاف إليه، الباطل من الوجه الذي هو باطل، ﴿فَلَا تَكُنْ﴾ في ذلك‏ ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، وجائز أن يقول: جعل الله ذلك الفعل ممن فعله باطلا، ولا يقال: الباطل من الله.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/393.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله عز وجل فيما أمر به نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم من المباهلة للنصارى ـ عليهم لعنة الله ـ فالمباهلة: هي الملاعنة، والبهلة في اللغة: هي اللعنة، فأراد الله من نبيه أن يجمع النصارى إن حاجوه، ثم يدعوهم إلى أن يلعنوا من كذب على الله، ومن فعل ذلك ولم يرجع إلى الحق نزلت به عقوبة وخزي من الله عز وجل في هذه الدنيا، وعجلت له النقمة في هذه الأولى(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 260.

الديلمي:

قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ أي في الحق ويحتمل أن يكون في عيسى {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} أي نلعن وندع بهلاك الكاذب قال لبيد: نظر الدهر إليهم فابتهل.. أي دعا عليهم بهلاك.. فلما نزلت هذه الآية أخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بيد أمير المؤمنين علي وفاطمة والحسن والحسين ثم دعا النصارى إلى المباهلة فأحجموا عنها وقال بعضهم: إن باهلتموه أضرم الله عليكم الوادي ناراً(1).

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/143.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: في عيسى.

ب. الثاني: في الحق.

2. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ والذين دعاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المباهلة هم نصارى نجران.

3. في قوله تعالى: ﴿نَبْتَهِلْ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: معناه نلتعن.

ب. الثاني: ندعو بهلاك الكاذب، ومنه قول لبيد: (نظر الدهر إليهم فابتهل)‏، أي دعا عليهم بالهلاك.

4. لما نزلت هذه الآية أخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بيد علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‏ السّلام ثم دعا النصارى إلى المباهلة، فأحجموا عنها، وقال بعضهم لبعض: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم نارا.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/399.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الهاء في قوله: ﴿فِيهِ﴾ يحتمل أن تكون عائدة إلى أحد أمرين:

أ. أحدهما: إلى عيسى في قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ﴾ في قول قتادة.

ب. الثاني: أن تكون عائدة على الحق في قوله‏ ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾

2. الذين دعاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في المباهلة نصارى نجران، ولما نزلت الآية أخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بيد علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، ثم دعا النصارى إلى المباهلة، فاحجموا عنها، وأقروا بالذلة والجزية، ويقال: إن بعضهم قال لبعض إن باهلتموه اضطرم الوادي ناراً عليكم ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة، وروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأصحابه: مثل ذلك، ولا خلاف بين أهل العلم أنهم لم يجيبوا إلى المباهلة.

3. ﴿تَعَالَوْا﴾ أصله من العلو، يقال منه تعاليت أتعالى تعالياً: إذا جئت وأصله المجيء إلى الارتفاع إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار لكل مجيء وصار تعالى بمنزلة هلم.

4. قيل في معنى الابتهال قولان:

أ. أحدهما: الالتعان بهله الله أي لعنه وعليه بهلة الله.

ب. الثاني (نبتهل) ندعو بهلاك الكاذب، وقال لبيد: (نظر الدهر إليهم فابتهل)‏، أي دعا عليهم بالهلاك كاللعن.

5. اللعن: هو المباعدة من رحمة الله عقاباً على معصيته فلذلك لا يجوز أن يلعن من ليس بعاص من طفل أو بهيمة أو نحو ذلك.

6. قال أبو بكر الرازي: الآية تدل على أن الحسن والحسين ابناه، وأن ولد البنت ابن على الحقيقة، وقال ابن أبي علان: فيها دلالة على أن الحسن والحسين كانا مكلفين في تلك الحال، لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين.

7. استدل أصحابنا(2) بهذه الآية على أن أمير المؤمنين عليه السلام كان أفضل الصحابة من وجهين:

أ. أحدهما: أن موضوع المباهلة ليتميز المحق من المبطل، وذلك لا يصح أن يفعل إلا بمن هو مأمون الباطن مقطوعاً على صحة عقيدته أفضل الناس عند الله.

ب. الثاني: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم جعله مثل نفسه بقوله: ﴿وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ لأنه أراد بقوله (أبناءنا) الحسن والحسين عليه السلام بلا خلاف، وبقوله: ﴿وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ﴾ فاطمة عليه السلام وبقوله: (وأنفسنا) أراد به نفسه، ونفس علي عليه السلام لأنه لم يحضر غيرهما بلا خلاف، وإذا جعله مثل نفسه، وجب ألا يدانيه أحد في الفضل، ولا يقاربه، ومتى قيل لهم أنه أدخل في المباهلة الحسن والحسين عليه السلام مع كونهما غير بالغين وغير مستحقين للثواب، وإن كانا مستحقين للثواب لم يكونا أفضل الصحابة، قال لهم أصحابنا: إن الحسن والحسين عليه السلام، كانا بالغين مكلفين، لأن البلوغ وكمال العقل لا يفتقر إلى شرط مخصوص، ولذلك تكلم عيسى في المهد بما دل على كونه مكلفاً عاقلا، وقد حكيت ذلك عن امام من أئمة المعتزلة مثل ذلك وقالوا أيضاً أعني أصحابنا: إنهما كانا أفضل الصحابة بعد أبيهما وجدهما، لأن كثرة الثواب ليس بموقوف على كثرة الافعال، فصغر سنهما لا يمنع من أن يكون‏ معرفتهما وطاعتهما لله، وإقرارهما بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقع على وجه يستحق به من الثواب ما يزيد على ثواب كل من عاصرهما سوى جدهما وأبيهما، وقد فرغنا الكلام في ذلك واستقصيناه في كتاب الامامة.

8. سؤال وإشكال: لم قال {إِنَّ هذا لَهُوَالْقَصَصُ} مع قيام الحجة، وشهادة المعجزة له؟ والجواب: معناه البيان عن أن مخالفتهم له بعد وضوح أمره يجري مجرى العناد فيه، وكذلك قوله: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ﴾

9. القصص: الخبر الذي تتابع فيه المعاني وأصله اتباع الأثر، وفلان يقص أثر فلان أي يتبعه.

10. ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾ دخول (من) فيه تدل على عموم النفي لكل إله غير الله، ولو قال ما إله إلا الله لم يفد ذلك وإنما أفادت (من) هذا المعنى، لأن أصلها لابتداء الغاية فدلت على استغراق النفي من ابتداء الغاية إلى انتهائها، ولا يجوز جر اسم الله على البدل من إله، لأن ذلك لا يحسن في الكلام، لأن (من) لا تدخل في الإيجاب وما بعد (إلا) هنا إيجاب، ولا تدخل أيضاً على المعرفة للعموم، ولا يحسن إلا رفعه على الموضع، كأنه قيل ما لكم إله إلا الله، وما لكم مستحق للعبادة إلا الله قال الشاعر:

çابني لبيني لستم بيد...الأيد ليست لها عضدé

أنشدوه بالجر، فعلى هذا يجوز ما جاءني من رجل إلا زيد، وليس هو وجه الكلام، ولكنه يتبعه وإن لم يصلح إعادة العامل فيه، كما يقال: اختصم زيد وعمرو، ولا يجوز واختصم عمرو.

11. {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} معناه‏ لا أحد يستحق إطلاق هذه الصفة إلا هو، فوصل ذلك بذكر التوحيد في الإلهية لأنه حجة على صحته من حيث لو كان إله آخر، لبطل إطلاق هذه الصفة.

12. موضع هو من الاعراب يحتمل أمرين:

أ. أحدهما: أن يكون فصلا، وهو الذي تسمية الكوفيون عماداً، فلا يكون له موضع من الاعراب، لأنه في حكم الحرف ويكون القصص خبر إن.

ب. والآخر: أن يكون اسماً موضعه رفع بالابتداء والقصص خبر إن والجملة خبر إن.

13. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ التولي عن الحق هو اعتقاد خلافه بعد ظهوره، لأنه كالادبار عنه بعد الإقبال، وتولى عنه خلاف تولى إليه، والأصل واحد كما أن رغب عنه خلاف رغب فيه، وهو الزوال بالوجه عن جهته إلى غيره، فأصل التولي كون الشيء يلي غيره من غير فصل بينه وبينه، فقيل تولى عنه أي زال عن جهته.

14. ﴿فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ إنما خص المفسدين بأنه عليم بهم على جهة التهديد لهم، والوعد بما يعلمه مما وقع من إفسادهم كما يقول القائل أنا أعلم بسر فلان، وما يجري إليه من الفساد، والإفساد إيقاع الشيء على خلاف ما توجبه الحكمة، وهو ضد الإصلاح، لأنه إيقاع الشيء على مقدار ما توجبه الحكمة، والفرق بين الفساد، والقبيح: أن الفساد تغيير عن المقدار الذي تدعو إليه الحكمة بدلالة أن نقيضه الصلاح، فإذا قصر عن المقدار أو أفرط لم يصلح، فإذا كان على المقدار صلح، وليس كذلك القبيح، لأنه ليس فيه معنى المقدار، وإنما القبيح ما تزجر عنه الحكمة كما أن الحسن ما تدعو إليه الحكمة.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/485.

(2) يقصد الإمامية

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المحاجة مفاعلة من الحجة، وهو إيراد، كل واحد من الخصمين ما هو حجة عنده، وقيل: هو المخاصمة.

ب. الابتهال: الالتعان، يقال: بهله الله أي لعنه، وعليه بَهْلَةُ الله لعنةُ الله، وهو الدعاء بالهلاك، قال لبيد: (نَظَرَ الدَّهْرُ إلَيْهِم فَابْتَهَلْ)، أي دعا عليهم بالهلاك، وأصله كاللعن المباعدة، والكاذب: فاعل الكذب، والكذب: الخبر عن الشيء بخلاف ما هو به.

ج. اقتصصت الحديث: رويته على حَدِّه، وهو من اقتصصت الأثر إذا اتبعته، وفلان يقص أثر فلان يتبعه، ومنه اشتق القصاص، والقصص: الخبر الذي نتابع فيه المعاني.

د. المفسد: من يفسد غيره، كالمرشد من يرشد غيره، أفسده إفسادًا فهو مفسد.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. نزلت الآية في وفد نجران السيد والعاقب ومن معهما قالا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: هل رأيت ولدًا من غير ذكر؟ فنزلت الآية، عن ابن عباس وقتادة والحسن، فلما دعاهم رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المباهلة أخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة ثم دعا النصارى إلى المباهلة فأحجموا عنها، وأقروا بالذلة، وقبلوا الجزية.

ب. اتفق أهل العلم والنقل أنهم لم يباهلوه، وروي أنهم استشاروا العاقب، وكان ذا رأيهم، فقال: إنه نبي مرسل، وما لاعن قوم نبيًّا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، فإن أبيتم إلا إِلْفَ دينكم فوادعوه وانصرفوا، وروي أن أسقف نجران قال لهم: إني لأرى وجوهًا لو سألوا الله أن يزيل جبلاً عن مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، وقال بعضهم: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم نارًا، ولا يبقى نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة، وسألوا الصلح فصالحهم، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والذي نفسي بيده لو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم الوادي عليهم نارًا، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا)

3. ﴿فَقُلْ﴾ يا محمد ﴿تَعَالَوْا﴾ يعني لهَؤُلَاءِ النصارى، وهم وفْد نجران، هلموا إلى حجة قاضية قاطعة تميز الكاذب من الصادق ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا﴾ يعني الحسن والحسين ﴿وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ خطاب لمن حَاجَّهُ من النصارى، يعني من شئتم من أبنائكم ﴿وَنِسَاءَنَا﴾ يعني فاطمة ﴿وَنِسَاءَكُمْ﴾ من شئتم ﴿وَأَنْفُسَنَا﴾ يعني النبي وعليا ﴿وَأَنْفُسِكُمْ﴾ من شئتم من رجالكم، وإنما أمر بإحضار الذرية منهم؛ لأن عادة الله تعالى في الاستئصال أن يصيب البالغين عقوبة وللذرية محنة.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾:

أ. قيل: نتضرع في الدعاء، عن ابن عباس.

ب. وقيل: نخلص في الدعاء عن مقاتل.

ج. وقيل: نجتهد.

د. وقيل: نلتعن فنقول: لعن الله الكاذب ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ منا.

5. سؤال وإشكال: لماذا عدل عن المحاجة إلى المباهلة، ولا دليل على صحة أو فساد؟ والجواب: لما بالغ في الحجاج، ورأى أنه لا ينجع فيهم أمرهم بالمباهلة مع علمه بأنهم يعلمون صدقه وأنه رسول، وأنهم يمتنعون، فدعاهم إلى المباهلة، فلما امتنعوا منه بما عرفوا في ذلك في كتبهم كانت حجة عليهم.

6. ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾

7. ثم بَيَّنَ تعالى بعد اقتصاص حديث المباهلة، وإخبار القوم أن الحق ما هو عليه، فقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا﴾:

أ. قيل: ما مضى من ذكر عيسى وغيره.

ب. وقيل: إن هذا الوحي والذكر.

8. ﴿لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ أي الحديث الصدق، فمخالفتكم إياه مع وضوح الأمر فيه عناد منكم ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ﴾ أي ظهر وصح أنه لا يستحق أحد العبادة غير الله، وأن عيسى عبده ورسوله ﴿وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ القادر على مكافأة كل أحد، لا يمتنع عليه شيء.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْحَكِيمُ﴾:

أ. قيل: العليم بأحوال كل أحد فيجازيه بحسب حاله.

ب. وقيل: المحكم لتقديره.

10. أشار بهذا إلى أن الإلهية لا تصح إلا بهاتين الصفتين، وهو أن يكون قادرًا لا يمتنع عليه شيء عالمًا لا يخفى عليه شيء، ويختص بذلك القادر لذاته، العالم لذاته، وذلك مما يختص به القديم تعالى، منفي عن عيسى وغيره.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾:

أ. قيل: أعرضوا عن هذا الذكر.

ب. وقيل: عن الإيمان وقبول الحق.

ج. وقيل: عن المباهلَة.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾:

أ. قيل: هذا وعيد، يعني أنه عليم بمن يعبد غيره، ويعتقد الباطل، كما تقول: أنا أعلم بشر فلان وما يفعله، عن أبي مسلم.

ب. وقيل: هو يعلم من يفسد عباده ويصد عن الحق، عن الأصم.

ج. وقيل: هو إخبار عنهم أنهم لا يجيبون إلى المباهلة، وتقديره: والله عليم بهَؤُلَاءِ المفسدين أنهم لا يجيبون إلى المباهلة من حيث عرفوا أنك نبي صادق، وإن كتموا حسدًا، عن أبي مسلم.

13. تدل الآيات الكريمة على:

أ. تدل آية المباهلة على معجزة عظيمة لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث امتنعوا من المباهلة، وأخبر عما يكون لو باهلوا.

ب. أن اسم الأبناء ينطلق على اسم ولد البنات؛ لأن المتفق عليه أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين، وعن أبي حنيفة فيه روايتان لو أوصى لبني فلان هل يدخل ولد البنات فيه، ومنهم من يقول: هو خاص بهما دون غيرهما، ويروى عن النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما)

ج. منزلة الحسن والحسين، وأنهما أبناء رسول الله ـ صلى الله عليهم ـ.

د. فضل أمير المؤمنين؛ لأنه جعل نفسه بمنزلة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وروي أنه قال: (فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها)

هـ. كذب اليهود والنصارى في باب المسيح، وأن الحق ما عليه المسلمون.

و. أنهم عرفوا الحق فكتموه؛ لأن معنى قوله: ﴿عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ الأصح أنه يعلم من يقصد الإفساد بكتمان الحق.

ز. وعيد أهل الفساد.

ح. عظيم ذنب من يفسد غيره.

14. قراءات ووجوه:

أ. الوقف عند قوله: ﴿الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾، وإن شئت عند قوله: ﴿إِلَّا اللهُ﴾ والوقف التام عند قوله: ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ قال أبو مسلم: ولا يجوز أن يوقف عند قوله: ﴿الْكَاذِبِينَ﴾؛ لأنه ليس بتمام الكلام.

ب. قراءة العامة ﴿تَعَالَوْا﴾ بفتح اللام، وعن الحسن وابن السماك بضم اللام، وأصله من العلو، وهو المجيء إلى ارتفاع، وأصله تَعَالَيُوا، تفاعلوا من العلو، فاستثقلت الضمة على الياء فسكنت، ثم حذفت وبقيت اللام على فتحها، ومَنْ ضَمَّ فَبنَقْلِ حركة الياء المحذوفة إلى اللام لتدل عليه، ولا يجيء من تعال) الماضي والمستقبل، وإنما جاء للأمر فقط.

15. مسائل نحوية:

أ. ﴿نَدْعُ﴾ جزم لأنه جواب الأمر، وعلامة الجزم سقوط الواو، ﴿نَجْعَلْ﴾ عطف على ﴿نَبْتَهِلْ﴾

ب. في قوله: ﴿لَهُوَ الْقَصَصُ﴾ قولان:

أحدهما: أنه عماد عند الكوفيين، ولا موضع له من الإعراب؛ لأنه في حكم الحرف، و﴿الْقَصَصَ﴾ خبر ﴿أَنْ﴾، و﴿هُوَ﴾ زيادة.

وثانيها: أن يكون اسمًا موضعه رفع بالابتداء، و﴿الْقَصَصَ﴾ خبره، والجملة خبر عند البصريين.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/261.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. تعالوا: أصله من العلو يقال: تعاليت أتعالى أي: جئت، وأصله: المجئ إلى ارتفاع، إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار بمعنى هلم.

ب. قيل في الابتهال قولان:

أحدهما: إنه بمعنى الالتعان، وافتعلوا بمعنى تفاعلوا، كقولهم: اشتوروا بمعنى تشاوروا، بهله الله أي: لعنه الله، وعليه بهلة الله أي: لعنة الله.

والآخر: إنه بمعنى الدعاء بالهلاك، قال لبيد: (نظر الدهر إليهم فابتهل) أي دعا عليهم بالهلاك، فالبهل كاللعن وهو المباعدة عن رحمة الله عقابا على معصيته، ولذلك لا يجوز أن يلعن من ليس بعاص من طفل أو بهيم أو نحوهما.

2. قيل نزلت الآيات في وفد نجران العاقب والسيد ومن معهما قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: هل رأيت ولدا من غير ذكر فنزل ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ الآيات فقرأها عليهم عن ابن عباس وقتادة والحسن، فلما دعاهم رسول الله فلما دعاهم رسول الله إلى المباهلة، استنظروه إلى صبيحة غد من يومهم ذلك، فلما رجعوا إلى رجالهم، قال لهم الأسقف: انظروا محمدا في غد، فإن بولده وأهله، فاحذروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه فباهلوه، فإنه على غير شيء، فلما كان الغد جاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم آخذا بيده علي بن أبي طالب عليه السلام، والحسن عليه السلام، والحسين عليه السلام بين يديه يمشيان، وفاطمة عليها السلام تمشي خلفه، وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم، فلما رأى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أقبل بمن معه سأل عنهم، فقيل له: هذا ابن عمه، وزوج ابنته، وأحب الخلق إليه، وهذان ابنا بنته من علي عليه السلام، وهذه الجارية بنته فاطمة، أعز الناس عليه، وأقربهم إلى قلبه، وتقدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فجثا على ركبتيه، قال أبو حارثة الأسقف: جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة فكع ولم يقدم على المباهلة، فقال السيد: أدن يا أبا حارثة للمباهلة، فقال: لا إني لأرى رجلا جريئا على المباهلة، وأنا أخاف أن يكون صادقا، ولئن كان صادقا لم يحل والله علينا الحول، وفي الدنيا نصراني يطعم الماء! فقال الأسقف: يا أبا القاسم! إنا لا نباهلك، ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به، فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على ألفي حلة من حلل الأواقي، قسمة كل حلة أربعون درهما، فما زاد أو نقص، فعلى حساب ذلك، وعلى عارية ثلاثين درعا، وثلاثين رمحا، ثلاثين فرسا، إن كان باليمن كيد، ورسول الله ضامن حتى يؤديها، وكتب لهم بذلك كتابا، وروي أن الأسقف قال لهم: إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن ينزل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا، ولا على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: والذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم الوادي عليهم نارا، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلهم! قالوا: فلما رجع وفد نجران لم يلبث السيد والعاقب إلا يسيرا حتى رجعا إلى النبي، وأهدى العاقب له حلة وعصا وقدحا ونعلين، وأسلما.

ج. القصص: القصة، وفعل بمعنى مفعول، كالنقض والقبض، والقصص: جمع القصة، ويقال: اقتصصت الحديث، وقصصته قصا وقصصا: رويته على جهته، وهو من اقتصصت الأثر أي: اتبعته، ومنه اشتق القصاص، والقصص: الخبر الذي تتابع فيه المعاني.

د. التولي عن الحق: اعتقاد خلافه، لأنه كالادبار عنه بعد الإقبال عليه، وأصل التولي: كون الشيء على خلاف ما توجبه الحكمة.

هـ. الإصلاح: إيقاعه على ما توجبه الحكمة، والفرق بين الفساد والقبيح أن الفساد تغيير عن المقدار الذي تدعوا إليه الحكمة، وليس كذلك القبيح، لأنه ليس فيه معنى المقدار، وإنما هو ما تزجر عنه الحكمة، كما أن الحسن ما تدعوا إليه الحكمة.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ﴾:

أ. قيل: معناه: فمن خاصمك وجادلك يا محمد ﴿فِيهِ﴾ أي في قصة عيسى ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ أي: من البرهان الواضح على أنه عبدي ورسولي، عن قتادة في معناه.

ب. وقيل: فمن حاجك في الحق، والهاء في ﴿فِيهِ﴾ عائدة إلى قوله ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾

4. ﴿فَقُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء النصارى ﴿تَعَالَوْا﴾ إلى كلمة أي: هلموا إلى حجة أخرى ماضية فاصلة، تميز الصادق من الكاذب.

5. ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾: أجمع المفسرون على أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين، قال أبو بكر الرازي: هذا يدل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله، وأن ولد الإبنة ابن في الحقيقة، وقال ابن أبي علان، وهو أحد أئمة المعتزلة: هذا يدل على أن الحسن والحسين كانا مكلفين في تلك الحال، لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين، وإنما جعل بلوغ الحلم حدا لتعلق الأحكام الشرعية، وقد كان سنهما في تلك الحال سنا لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل، على أن عندنا(2) يجوز أن يخرق الله العادات للأئمة، ويخصهم بما لا يشركهم فيه غيرهم، فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن، لجاز ذلك فيهم، إبانة لهم عمن سواهم، ودلالة على مكانهم من الله تعالى، واختصاصهم، ومما يؤيده من الأخبار قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا.

6. ﴿وَنِسَاءَنَا﴾ اتفقوا على أن المراد به فاطمة عليها السلام، لأنه لم يحضر المباهلة غيرها من النساء، وهذا يدل على تفضيل الزهراء على جميع النساء، ويعضده ما جاء في الخبر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها)، وقال: (إن الله يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضائها)، وقد صح عن حذيفة أنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (أتاني ملك فبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، أو نساء أمتي)، وعن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: أسر النبي إلى فاطمة شيئا فضحكت، فسألتها فقال: قال لي: (ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة، أو نساء المؤمنين فضحكت لذلك)

7. ﴿وَنِسَاءَكُمْ﴾ أي: من شئتم من نسائكم.

8. ﴿وَأَنْفُسَنَا﴾ يعني عليا خاصة، ولا يجوز أن يدعوا الانسان نفسه، وإنما يصح أن يدعوا غيره، وإذا كان قوله ﴿وَأَنْفُسَنَا﴾ لا بد أن يكون إشارة إلى غير الرسول، وجب أن يكون إشارة إلى علي، لأنه لا أحد يدعي دخول غير أمير المؤمنين علي وزوجته وولديه في المباهلة، وهذا يدل على غاية الفضل، وعلو الدرجة والبلوغ منه إلى حيث لا يبلغه أحد، إذ جعله الله نفس الرسول، وهذا ما لا يدانيه فيه أحد، ولا يقاربه، ومما يعضده من الروايات ما صح عن النبي أنه سأل عن بعض أصحابه فقال له قائل: فعلي؟ فقال: (ما سألتني عن الناس، ولم تسألني عن نفسي)، وقوله لبريدة الأسلمي: (يا بريدة! لا تبغض عليا، فإنه مني وأنا منه، إن الناس خلقوا من شجر شتى، وخلقت أنا وعلي من شجرة واحدة) وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأحد، وقد ظهرت كنايته في المشركين، ووقايته إياه بنفسه، حتى قال جبرائيل: إن هذا لهي المواساة! فقال: يا جبرائيل! إنه مني، فقال جبرائيل: وأنا منكما.

9. ﴿وَأَنْفُسِكُمْ﴾ يعني من شئتم من رجالكم.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾:

أ. قيل: أي: نتضرع في الدعاء، عن ابن عباس.

ب. وقيل: نلتعن فنقول: لعن الله الكاذب.

11. في هذه الآية دلالة على أنهم علموا أن الحق مع النبي، لأنهم امتنعوا عن المباهلة، وأقروا بالذل والخزي لقبول الجزية، فلو لم يعلموا ذلك لباهلوه، فكان يظهر ما زعموا من بطلان قوله في الحال، ولو لم يكن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم متيقنا بنزول العقوبة بعدوه دونه، لما أدخل أولاده، وخواص أهله في ذلك، مع شدة إشفاقه عليهم.

12. ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ معناه: إن هذا الذي أوحينا إليك في أمر عيسى عليه السلام وغيره، لهو الحديث الصدق، فمن خالفك فيه مع وضوح الأمر، فهو معاند.

13. ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ﴾ أي: وما لكم أحد يستحق إطلاق اسم الإلهية، إلا الله، وإن عيسى ليس بإله كما زعموا، وإنما هو عبد الله، ورسوله، ولو قالوا: ما إله إلا الله بغير ﴿مِنَ﴾ لم يفد هذا المعنى.

14. ﴿وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ أي: القادر على الكمال ﴿الْحَكِيمُ﴾ في الأقوال والأفعال والتدبير.

15. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي: فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك، وعما أتيت به من الدلالات والبينات ﴿فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ أي: بمن يفسد من خلقه، فيجازيهم على إفسادهم:

أ. قيل: إنما ذكر ذلك على جهة الوعيد، وإلا فإنه تعالى عليم بالمفسد والمصلح جميعا، ونظيره قول القائل لغيره: أنا عالم بشرك وفسادك.

ب. وقيل: معناه إنه عليم بهؤلاء المجادلين بغير حق، وبأنهم لا يقدمون على مباهلتك، لمعرفتهم بنبوتك.

16. مسائل نحوية:

أ. ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾: دخول ﴿مِن﴾ فيه لعموم النفي لكل إله غير الله، وإنما أفادت ﴿مِن﴾ هذا المعنى لأن أصلها لابتداء الغاية، فدلت على استغراق النفي لابتداء الغاية إلى انتهائها.

ب. ﴿لَهُوَ﴾ يجوز أن يكون هو فصلا، ويسميه الكوفيون عمادا، فلا يكون له موضع من الإعراب.

ج. ﴿الْقَصَصَ﴾ خبر إن، ويجوز أن يكون مبتدأ، و﴿الْقَصَصَ﴾ خبره، والجملة خبر إن.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/764.

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هاء (فيه) في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها ترجع إلى عيسى.

ب. الثاني: إلى الحق.

2. العلم: البيان والإيضاح.

3. ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا﴾ قال ابن قتيبة: تعال: تفاعل، من علوت، ويقال للاثنين من الرجال والنساء: تعاليا، وللنساء: تعالين، قال الفرّاء: أصلها من العلوّ، ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إياها، صارت عندهم بمنزلة (هلمّ) حتى استجازوا أن يقولوا للرجل، وهو فوق شرف: تعال، أي: اهبط، وإنما أصلها: الصّعود.

4. قال المفسرون: أراد بأبنائنا: فاطمة، والحسن، والحسين، وروى مسلم في (صحيحه) من حديث سعد بن أبي وقّاص قال لما نزلت هذه الآية ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: (اللهمّ هؤلاء أهلي)

5. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْفُسَنَا﴾ خمسة أقوال:

أ. أحدها: أراد عليّ بن أبي طالب، قاله الشّعبيّ، والعرب تخبر عن ابن العمّ بأنه نفس ابن عمه.

ب. الثاني: أراد الأخوان، قاله ابن قتيبة.

ج. الثالث: أراد أهل دينه، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

د. الرابع: أراد الأزواج.

هـ. الخامس: أراد القرابة القريبة، ذكرهما عليّ بن أحمد النّيسابوريّ.

6. الابتهال: قال ابن قتيبة: هو التّداعي باللّعن، يقال: عليه بهلة الله، وبهلته، أي: لعنته، وقال الزجّاج: معنى الابتهال في اللغة: المبالغة في الدّعاء وأصله: الالتعان، يقال: بهله الله، أي: لعنه، وأمر بالمباهلة بعد إقامة الحجّة.

7. قال جابر بن عبد الله: قدم وفد نجران فيهم السّيد والعاقب فذكر الحديث.. إلى أن قال فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه أن يغادياه، فغدا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيباه، فأقرّا له بالخراج فقال: (والذي بعثني بالحقّ لو فعلا لأمطر الوادي نارا)

8. ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ﴾ قال الزجّاج: دخلت (من) هاهنا توكيدا ودليلا على نفي جميع ما ادّعى المشركون من الآلهة.

9. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: عن الملاعنة، قاله مقاتل.

ب. الثاني: أنه عن البيان الذي أتى به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله الزجّاج.

ج. الثالث: عن الإقرار بوحدانية الله، وتنزيهه عن الصّاحبة والولد، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

10. في الفساد هاهنا قولان:

أ. أحدهما: أنه العمل بالمعاصي، قاله مقاتل.

ب. الثاني: الكفر، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

__________

(1) زاد المسير: 1/289.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بيّن الله تعالى في أول هذه السورة وجوهاً من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد، وأتبعها بذكر الجواب عن جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام، وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم، وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم عليه السلام أن يكون ابناً لله تعالى لم يلزم من عدم الأب البشري لعيسى عليه السلام أن يكون ابناً لله، تعالى الله عن ذلك ولما لم يبعد انخلاق آدم عليه السلام من التراب لم يبعد أيضاً انخلاق عيسى عليه السلام من الدم الذي كان يجتمع في رحم أم عيسى عليه السلام، ومن أنصف وطلب الحق، علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى، فعند ذلك قال تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ﴾ بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة فقال: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ إلى آخر الآية.

2. اتفق أني حين كنت بخوارزم، أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم، فذهبت إليه وشرعنا في الحديث وقال لي: ما الدليل على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقلت له كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن رددنا التواتر، أو قبلناه لكن قلنا: إن المعجزة لا تدل على الصدق، فحينئذ بطلت نبوّة سائر الأنبياء عليهم السلام، وإن اعترفنا بصحة التواتر، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق، ثم إنهما حاصلان في حق محمد وجب الاعتراف قطعاً بنبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول، فقال النصراني: أنا لا أقول في عيسى عليه السلام إنه كان نبياً بل أقول إنه كان إلهاً، فقلت له الكلام في النبوّة لا بد وأن يكون مسبوقاً بمعرفة الإله، وهذا الذي تقوله باطل، ويدل عليه:

أ. أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته، يجب أن لا يكون جسماً ولا متحيزاً ولا عرضا وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوماً وقتل بعد أن كان حياً على قولكم وكان طفلا أولًا، ثم صار مترعرعا، ثم صار شاباً، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ، وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديماً والمحتاج لا يكون غنياً والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً.

ب. والوجه الثاني: في إبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حياً على الخشبة، وقد مزقوا ضلعه، وأنه كان يحتال في الهرب منهم، وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد، فإن كان إلهاً أو كان الإله حالًا فيه أو كان جزءا من الإله حاك فيه، فلم لم يدفعهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهم! وبالله أنني لأتعجب جدا! إن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته، فتكاد أن تكون بديهة العقل شاهدة بفساده.

ج. والوجه الثالث: وهو أنه: إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد، أو يقال حل الإله بكليته فيه، أو حل بعض الإله وجزء منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة:

أما الأول: فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم، فحين قتله اليهود كان ذلك قولًا بأن اليهود قتلوا إله العالم، فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إله! ثم إن أشد الناس ذلًا ودناءة اليهود، فالإله الذي تقتله اليهود إله في غاية العجز!

وأما الثاني: وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم، فهو أيضاً فاسد، لأن الإله لم يكن جسماً ولا عرضاً امتنع حلوله في الجسم، وإن كان جسماً، فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزاءه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله، وإن كان عرضاً كان محتاجا إلى المحل، وكان الإله محتاجاً إلى غيره، وكل ذلك سخف.

وأما الثالث: وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله، وجزء من أجزائه، فذلك أيضا محال لأن ذلك الجزء إن كان معتبرا في الإلهية، فعند انفصاله عن الإله، وجب أن لا يبقى الإله إلهاً، وإن لم يكن معتبر في تحقق الإلهية، لم يكن جزأ من الإله، فثبت فساد هذه الأقسام، فكان قول النصارى باطلًا.

د. الوجه الرابع: في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله تعالى، ولو كان إلهاً لاستحال ذلك، لأن الإله لا يعبد نفسه، فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور، دالة على فساد قولهم.

3. ثم قلت للنصراني: وما الذي دلك على كونه إلهاً؟ فقال الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى، فقلت له: هل تسلم أنه لا يلزم‏ من عدم الدليل عدم المدلول أم لا؟ فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فأقول: لما جوّزت حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام، فكيف عرفت أن الإله ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد؟ فقال: الفرق ظاهر، وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول، لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك، فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود هاهنا، فقلت له: تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى: فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل، فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك، وفي حق الكلب والسنور والفأر ثم قلت: إن مذهباً يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية الخسة والركاكة.

4. ثم قلت للنصراني: إن قلب العصا حية، أبعد في العقل من إعادة الميت حياً، لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلهاً ولا ابناً للإله، فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلهية كان ذلك أولى، وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام.

5. روي‏ أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أورد الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصروا على جهلهم، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم) فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فلما رجعوا قالوا للعاقب: وكان ذا رأيهم، يا عبد المسيح ما ترى، فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لكان الاستئصال فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج وعليه مرط من شعر أسود، وكان قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي رضي الله عنه خلفها، وهو يقول: إذا دعوت فأمنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، ثم قالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك فقال صلوات الله عليه: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما على المسلمين، فأبوا، فقال: فإني أناجزكم القتال، فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلة: ألفا في صفر، وألفا في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك(2)، وقال: والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله، حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.

6. روي‏ أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله، ثم جاء الحسين رضي الله عنه فأدخله ثم فاطمة، ثم علي ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33]، وهذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث.

7. ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ﴾ أي في عيسى عليه السلام، وقيل: الهاء تعود إلى الحق، في قوله‏ ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ [هود: 17] ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [البقرة: 145] بأن عيسى عبد الله ورسوله عليه السلام وليس المراد هاهنا بالعلم نفس العلم لأن العلم الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك، بل المراد بالعلم ما ذكره بالدلائل العقلية، والدلائل الواصلة إليه بالوحي والتنزيل.

8. ﴿تَعَالَوْا﴾: أصله تعاليوا، لأنه تفاعلوا من العلو، فاستثقلت الضمة على الياء، فسكنت، ثم حذفت لاجتماع الساكنين، وأصله العلو والارتفاع، فمعنى تعالى ارتفع، إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار لكل مجيء وصار بمنزلة هلم.

9. هذه الآية دالة على أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا ابني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعد أن يدعو أبناءه، فدعا الحسن والحسين، فوجب أن يكونا ابنيه، ومما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام:‏ ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ [الأنعام: 84] إلى قوله‏ ﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى﴾ [الأنعام: 85] ومعلوم أن عيسى عليه السلام إنما انتسب إلى إبراهيم عليه السلام بالأم لا بالأب، فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابناً.

10. كان في الري رجل يقال له: محمود بن الحسن الحمصي، وكان معلم الاثني عشرية، وكان يزعم أن علياً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال والذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ وليس المراد بقوله‏: ﴿وَأَنْفُسَنَا﴾ نفس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به غيره، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد، ولا يمكن أن يكون المراد منه، أن هذه النفس هي عين تلك النفس، فالمراد أن هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة، وفي حق الفضل لقيام الدلائل على أن محمداً عليه السلام كان نبياً وما كان علي كذلك، ولانعقاد الإجماع على أن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم كان أفضل من علي رضي الله عنه، فيبقى فيما وراءه معمولًا به، ثم الإجماع دل على أن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية، ثم قال ويؤيد الاستدلال بهذه الآية، الحديث المقبول عند الموافق والمخالف، وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أراد أن يرى آدم في علمه، ونوحاً في طاعته، وإبراهيم في خلته، وموسى في هيبته، وعيسى في صفوته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب)، فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم، وذلك يدل على أن علياً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

11. أما سائر الشيعة فقد كانوا قديماً وحديثاً يستدلون بهذه الآية على أن علياً رضي الله عنه مثل نفس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا فيما خصه الدليل، وكان نفس محمد أفضل من الصحابة رضوان الله عليهم، فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضاً من سائر الصحابة، هذا تقدير كلام الشيعة.

12. والجواب: أنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم أفضل من علي، فكذلك انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان، على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي، وأجمعوا على أن علياً رضي الله عنه ما كان نبياً، فلزم القطع بأن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء عليهم السلام.

13. ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ أي نتباهل، كما يقال اقتتل القوم وتقاتلوا واصطحبوا وتصاحبوا، والابتهال فيه وجهان:

أ. أحدهما: أن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء، وإن لم يكن باللعن، ولا يقال: ابتهل في الدعاء إلا إذا كان هناك اجتهاد.

ب. الثاني: أنه مأخوذ من قولهم عليه بهلة الله، أي لعنته وأصله مأخوذ مما يرجع‏ إلى معنى اللعن، لأن معنى اللعن هو الإبعاد والطرد وبهله الله، أي لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله وناقة باهل لا صرار عليها، بل هي مرسلة مخلاة، كالرجل الطريد المنفي.

14. تحقيق معنى الكلمة: أن البهل إذا كان هو الإرسال والتخلية فكان من بهله الله فقد خلاه الله ووكله إلى نفسه ومن وكله إلى نفسه فهو هالك لا شك فيه فمن باهل إنساناً، فقال: علي بهلة الله إن كان كذا، يقول: وكلني الله إلى نفسي، وفرضني إلى حولي وقوتي، أي من كلاءته وحفظه، كالناقة الباهل التي لا حافظ لها في ضرعها، فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة لها في الدفع عن نفسها، ويقال أيضاً: رجل باهل، إذا لم يكن معه عصًا، وإنما معناه أنه ليس معه ما يدفع عن نفسه:

أ. والقول الأول أولى، لأنه يكون قوله‏ ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ أي ثم نجتهد في الدعاء، ونجعل اللعنة على الكاذب.

ب. وعلى القول الثاني يصير التقدير: ثم نبتهل، أي ثم نلتعن‏ ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ وهي تكرار.

15. سؤال وإشكال: الأولاد إذا كانوا صغاراً لم يجز نزول العذاب بهم وقد ورد في الخبر أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أدخل في المباهلة الحسن والحسين عليهما السلام فما الفائدة فيه؟ والجواب: إن عادة الله تعالى جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلكت معهم الأولاد والنساء، فيكون ذلك في حق البالغين عقاباً، وفي حق الصبيان لا يكون عقاباً، بل يكون جارياً مجرى إماتتهم وإيصال الآلام والأسقام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده وأهله شديدة جداً فربما جعل الإنسان نفسه فداءً لهم وجنة لهم، وإذا كان كذلك فهو صلّى الله عليه وآله وسلّم أحضر صبيانه ونساءه مع نفسه وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ليكون ذلك أبلغ في الزجر وأقوى في تخويف الخصم، وأدل على وثوقه صلوات الله عليه وعلى آله بأن الحق معه.

16. سؤال وإشكال: هل دلت هذه الواقعة على صحة نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ والجواب: أنها دلّت على صحة نبوته عليه السلام من وجهين:

أ. أحدهما: وهو أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم خوفهم بنزول العذاب عليهم، ولو لم يكن واثقاً بذلك، لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه لأن بتقدير: أن يرغبوا في مباهلته، ثم لا ينزل العذاب، فحينئذ كان يظهر كذبه فيما أخبر ومعلوم أن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم كان من أعقل الناس، فلا يليق به أن يعمل عملًا يفضي إلى ظهور كذبه فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقاً بنزول العذاب عليهم.

ب. ثانيهما: إن القوم لما تركوا مباهلته، فلولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته، وإلا لما أحجموا عن مباهلته.

17. سؤال وإشكال: لم لا يجوز أن يقال: إنهم كانوا شاكين، فتركوا مباهلته خوفاً من أن يكون صادقاً فينزل بهم ما ذكر من العذاب؟ والجواب: هذا مدفوع من وجهين:

أ. الأول: أن القوم كانوا يبذلونه النفوس والأموال في المنازعة مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولو كانوا شاكين لما فعلوا ذلك.

ب. الثاني: أنه قد نقل عن أولئك النصارى أنهم قالوا: إنه والله هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل، وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصال فكان ذلك تصريحا منهم بأن الامتناع عن المباهلة كان لأجل علمهم بأنه نبي مرسل من عند الله تعالى.

18. سؤال وإشكال: أليس إن بعض الكفار اشتغلوا بالمباهلة مع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ حيث قالوا ﴿اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [الأنفال: 32] ثم إنه لم ينزل العذاب بهم ألبتة، فكذا هاهنا، وأيضاً فبتقدير نزول العذاب، كان ذلك مناقضاً لقوله‏ ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: 33]؟ والجواب: الخاص مقدم على العام، فلما أخبر عليه السلام بنزول العذاب في هذه السورة على التعيين وجب أن يعتقد أن الأمر كذلك.

19. سؤال وإشكال: قوله:‏ {إِنَّ هذا لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُ‏} هل هو متصل بما قبله أم لا؟ والجواب: قال أبو مسلم: إنه متصل بما قبله ولا يجوز الوقف على قوله‏ ﴿الْكَاذِبِينَ﴾ وتقدير الآية فنجعل لعنة الله على الكاذبين بأن هذا هو القصص الحق وعلى هذا التقدير كان حق (إن) أن تكون مفتوحة، إلا أنها كسرت لدخول اللام في قوله‏: ﴿لَهُوَ﴾ كما في قوله:‏ ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾ [العاديات: 11] وقال الباقون: الكلام تم عند قوله:‏ ﴿عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ وما بعده جملة أخرى مستقلة غير متعلقة بما قبلها.

20. قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ إشارة إلى ما تقدم ذكره من الدلائل، ومن الدعاء إلى المباهلة {لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُ‏} والقصص هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين، ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب النجاة فبين تعالى إن الذي أنزله على نبيه هو القصص الحق ليكون على ثقة من أمره، والخطاب وإن كان معه فالمراد به الكل.

21. في ﴿هُوَ﴾ في قوله تعالى: ﴿لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ قولان.

أ. أحدهما: أن يكون فصلا وعماداً، ويكون خبر ﴿إِنَّ﴾ هو قوله‏ ﴿الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ سؤال وإشكال: فكيف جاز دخول اللام على الفصل؟ والجواب: إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجود، لأنه أقرب إلى المبتدأ منه، وأصلها أن تدخل على المبتدأ.

ب. الثاني: إنه مبتدأ، والقصص خبره، والجملة خبر ﴿إِنَّ﴾

22. ﴿الْقَصَصَ﴾ يقال: قص فلان الحديث يقصه قصاً وقصصاً، وأصله اتباع الأثر، يقال: خرج فلان قصصاً، في أثر فلان، وقصاً، وذلك إذا اقتص أثره، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: 11] وقيل للقاص إنه قاص لاتباعه خبراً بعد خبر، وسوقه الكلام سوقاً، فمعنى القصص الخبر المشتمل على المعاني المتتابعة.

23. ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ﴾ وهذا يفيد تأكيد النفي، لأنك لو قلت عندي من الناس أحد، أفاد أن عندك بعض الناس، فإذا قلت ما عندي من الناس من أحد، أفاد أنه ليس عندك بعضهم، وإذا لم يكن عندك بعضهم، فبأن‏ لا يكون عندك كلهم أولى فثبت أن قوله‏ ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ﴾ مبالغة في أنه لا إله إلا الله الواحد الحق سبحانه وتعالى.

24. {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏} وفيه إشارة إلى الجواب عن شبهات النصارى، وذلك لأن اعتمادهم على أمرين:

أ. أحدهما: أنه قدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فكأنه تعالى قال هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلهية، بل لا بد وأن يكون عزيزاً غالباً لا يدفع ولا يمنع، وأنتم قد اعترفتم بأن عيسى ما كان كذلك، وكيف وأنتم تقولون إن اليهود قتلوه؟.

ب. الثاني: أنهم قالوا: إنه كان يخبر عن الغيوب وغيرها، فيكون إلهاً، فكأنه تعالى قال هذا القدر من العلم لا يكفي في الإلهية، بل لا بد وأن يكون حكيماً، أي عالماً بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور، فذكر ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ هاهنا إشارة إلى الجواب عن هاتين الشبهتين ونظير هذه الآية ما ذكره تعالى في أول السورة من قوله‏: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 6]

25. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ المعنى: فإن تولوا عما وصفت من أن الله هو الواحد، وأنه يجب أن يكون عزيزاً غالباً قادراً على جميع المقدورات، حكيماً عالماً بالعواقب والنهايات مع أن عيسى عليه السلام ما كان عزيزاً غالباً، وما كان حكيماً عالماً بالعواقب والنهايات، فاعلم أن توليهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوض أمرهم إلى الله، فإن الله عليم بفساد المفسدين، مطلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادر على مجازاتهم.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/246.

(2) ليس في القرآن الكريم ما يدل على هذه المصالحة، والجانب المادي المرتبط منها، والأخبار الواردة في ذلك آحاد وضعيفة جدا، مثلما هو الحال في أكثر ما ورد في السيرة النبوية

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ﴾ أي جادلك وخاصمك يا محمد ﴿فِيهِ﴾، أي في عيسى ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ بأنه عبد الله ورسوله، ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا﴾ أي أقبلوا، وضع لمن له جلالة ورفعة ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال.

2. ﴿نَدْعُ﴾ في موضع جزم، ﴿أَبْنَاءَنَا﴾ دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جاء بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلقه وعلي خلفها وهو يقول لهم: إن أنا دعوت فأمنوا.

3. ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ أي نتضرع في الدعاء، عن ابن عباس، أبو عبيدة والكسائي: نلتعن، وأصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره، قال لبيد:

çفي كهول سادة من قومه...نظر الدهر إليهم فابتهلé

أي اجتهد في إهلاكهم، يقال: بهله الله أي لعنه، والبهل: اللعن، والبهل الماء القليل، وأبهلته إذا خليته وإرادته، وبهلته أيضا، وحكى أبو عبيدة: بهله الله يبهله بهلة أي لعنه.

4. هذه الآية من أعلام نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنه دعاهم إلى المباهلة فأبوا منها ورضوا بالجزية بعد أن أعلمهم كبيرهم العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا فإن محمدا نبي مرسل، ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى، فتركوا المباهلة وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام ألف حلة في صفر وألف حلة في رجب فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على ذلك بدلا من الإسلام.

5. قال كثير من العلماء: إن قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحسن والحسين لما باهل: ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ وقوله في الحسن: (إن ابني هذا سيد) مخصوص بالحسن والحسين أن يسميا ابني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دون غيرهما، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي) ولهذا قال بعض أصحاب الشافعي فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة: إن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة، وهو قول الشافعي.

6. ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ الإشارة في قوله ﴿إِنَّ هَذَا﴾ إلى القرآن وما فيه من الأقاصيص، سميت قصصا لأن المعاني تتتابع فيها، فهو من قولهم: فلان يقص أثر فلان، أي يتبعه، ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ﴾ ﴿مِنَ﴾ زائدة للتوكيد، والمعنى وما إله إلا الله ﴿الْعَزِيزِ﴾ أي الذي لا يغلب، ﴿الْحَكِيمُ﴾ ذو الحكمة.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/104.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ﴾ هذا وإن كان عاما فالمراد به: الخاص، وهم النصارى الذين وفدوا إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم من نجران كما سيأتي بيانه، ويمكن أن يقال: هو على عمومه‏ وإن كان السبب خاصا، فيدل على جواز المباهلة منه صلّى الله عليه وآله وسلّم لكل من حاجة في عيسى عليه السلام، وأمته أسوته، وضمير فيه: لعيسى، والمراد بمجيء العلم هنا: مجيء سببه، وهو الآيات البينات، والمحاجة: المخاصمة والمجادلة.

2. ﴿تَعَالَوْا﴾ أي: هلمّوا، وأقبلوا، وأصله: الطلب لإقبال الذوات، ويستعمل في الرأي إذا كان المخاطب حاضرا، كما تقول لمن هو حاضر عندك: تعال ننظر في هذا الأمر.

3. ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا﴾ الآية، اكتفى بذكر البنين عن البنات، إما لدخولهن في النساء، أو لكونهم الذين يحضرون مواقف الخصام دونهن؛ ومعنى الآية: ليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة، وفيه دليل: على أن أبناء البنات يسمون: أبناء، لكونه صلّى الله عليه وآله وسلّم أراد بالأبناء الحسنين.

4. ﴿نَبْتَهِلْ﴾ أصل الابتهال: الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره، يقال: بهله الله: أي لعنه، والبهل: اللعن، قال أبو عبيد، والكسائي: نبتهل: نلتعن، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك، ومنه قول لبيد:

çفي كهول سادة من قومه‏...نظر الدّهر إليهم فابتهل‏é

أي: فاجتهد في هلاكهم، قال في الكشاف: ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا.

5. ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ عطف على نبتهل مبين لمعناه.

6. ﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي: الذي قصه الله على رسوله من نبأ عيسى‏ {لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُ‏} القصص: التتابع، يقال: فلان يقص أثر فلان: أي يتبعه، فأطلق على الكلام الذي يتبع بعضه بعضا، وضمير الفصل للحصر، ودخول اللام عليه لزيادة تأكيده، ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبره.

7. زيادة (من)، في قوله: ﴿مِنْ إِلَهٍ﴾ لتأكيد العموم، وهو ردّ على من قال بالتثليث من النصارى.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/398.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ﴾ أي جادلك من النصارى بإيراد حجة ﴿فِيهِ﴾ أي في شأن عيسى زعما منهم أنه ليس على الشأن المتلوّ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ أي الذي أنزلناه إليك، وقصصناه عليك في أمره، وللفاضل المهايميّ في هذه الآية أسلوب لطيف في التأويل حيث قال: ﴿الْحَقُّ﴾ أي الثابت الذي لا يقبل التأويل جاء ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ الذي رباك بالاطلاع على الحقائق‏ ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ بما ورد في الإنجيل من إطلاق لفظ الأب على الله فإنه إطلاق مجازيّ لأنه لما حدث منه كان كأبيه، وإذا ظهر لك الحق من ربك بالبيان التام‏ ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ﴾ أي جادلك‏ ﴿فِيهِ﴾ لإثبات أبنيته بظواهر الإنجيل‏ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ القطعيّ الموجب لتأويله.

2. ﴿فَقُلْ﴾ لم يبق بيننا وبينكم مناظرة، ولكن نرفع عنادكم بطريق المباهلة ﴿تَعَالَوْا﴾ أي أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه علوّ الحق وسفول الباطل‏ ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ أي يدع كل منا ومنكم نفسه، وأعزة أهله، وألصقهم بقلبه، ممن يخاطر الرجل بنفسه لهم ويحارب دونهم، ويحملهم على المباهلة ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ أي نتضرع إلى الله تعالى ونجتهد في دعاء اللعنة ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ﴾ أي إبعاده وطرده‏ ﴿عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ منا ومنكم ليهلكهم الله وينجي الصادقين، فلا يبقى العناد الباقي عليكم بعد اتفاق الدلائل العقلية والنقلية.

3. قال القاشانيّ: إن لمباهلة الأنبياء تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله إياهم به، وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصريّ، فيكون انفعال العالم العنصريّ منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه، كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق، وغير ذلك من تحرك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم، وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من هيآت أرواحنا، فإذا اتصل نفس قدسيّ به كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصاليّ تأثير ما يتصل به، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد، ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف، وأحجمت عن المباهلة، وطلبت الموادعة بقبول الجزية؟

4. سؤال وإشكال: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ والجواب: قال الزمخشريّ: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلم ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة، وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثمت كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق، وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبّه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدّمون على الأنفس مفدّون بها، وفيه دليل، لا شيء أقوى منه، على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام، وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.

5. استنبط من الآية جواز المحاجة في أمر الدين، وأن من جادل وأنكر شيئا من الشريعة جازت مباهلته اقتداء بما أمر به صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمباهلة الملاعنة، قال الكازروني في تفسيره: وقع البحث عند شيخنا العلامة الدوانيّ في جواز المباهلة بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار، وكلام الأئمة، وحاصل كلامه فيها أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعا، وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة، فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة وتقديم النصح والإنذار وعدم نفع ذلك ومساس الضرورة إليها.

6. قال صديق خان في تفسيره: وقد دعا الحافظ ابن القيّم، من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه وإجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل، إلى المباهلة بين الركن والمقام فلم يحبه إلا ذلك وخاف سوء العاقبة(2)، وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف ب (النونية) وقد ذكر في (زاد المعاد) في فصل فقه قصة وفد نجران ما نصه: ومنها أن السنّة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن‏ يدعوهم إلى المباهلة، وقد أمر الله، سبحانه، بذلك رسوله، ولم يقل إن ذلك ليس لأمتك من بعدك، ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع، ولم ينكر عليه الصحابة، ودعا إليه الأوزاعيّ سفيان الثوريّ في مسألة رفع اليدين ولم ينكر عليه ذلك، وهذا من تمام الحجة.

7. ﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي المتقدم من شأن عيسى عليه السلام‏ {لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُ‏} الذي لا معدل عنه، دون أقاصيص النصارى، والقصص تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئا بعد شيء على ترتيبها، في معنى قصّ الأثر، وهو اتباعه، حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر ـ أفاده الحراليّ ـ.

8. قال البقاعيّ: لما بدأ سبحانه القصة أول السورة بالإخبار بوحدانيته مستدلا على ذلك بأنه الحيّ القيّوم صريحا، ختم ذلك إشارة وتلويحا فقال، عاطفا على ما أنتجه ما تقدم من أن عيسى عبد الله ورسوله، معمّما للحكم: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ﴾ فصرح فيه ب ﴿مِنَ﴾ الاستغراقية، تأكيدا للرد على النصارى في تثليثهم‏ {وإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏} فلا يشاركه أحد في العزة والحكمة، ليشاركه في الألوهية.

9. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي أعرضوا عن قبول الحق الذي قص عليك بعد ما عاينوا تلك الحجج النيّرة ﴿فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ أي بهم فيجازيهم على إفسادهم، والتعبير عنهم بذلك إشارة إلى أنهم، بتوليهم، مفسدون اعتقادهم واعتقاد غيرهم في الله تعالى.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/328.

(2) إحجامهم عن مباهلته لا يدل على صحة قوله، بل يدل على رفضه لهذا الأسلوب في القضايا الخلافية الفرعية بين المسلمين

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ﴾ جادلك من النصارى، ﴿فِيهِ﴾ أي: في عيسى، أي: في شأنه، لأنَّ الكلام فيه، فهو أولى من عود الهاء للحقِّ، ولو كان أقرب، ﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ القاطع بأنَّه عبد الله ورسوله، ﴿فَقُلْ﴾ لهم.

2. ﴿تَعَالَوْاْ﴾ أصله دعاء من كان في موضع عال لمن كان في أسفل أن يعالج الصعود إليه، ثمَّ استعمل في طلب المجيء بالذات، وفي طلب المجيء بالقلب والرأي والعزم ولو حضروا، ولا نفع في حضور الأجساد بلا رأي وعزم.

3. ﴿نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ﴾ خصَّ الأبناء والنساء لأنَّهم أعزُّ الأهل، وقدَّمهم لينبِّه على تمكُّن منزلتهم، وهذه معجزة، إذ لم يَروِ نصرانيٌّ ولا غيره أنَّهم أجابوه للمباهلة لمعرفتهم بصحَّة نبوءته، بل روي أنَّهم قال بعض لبعض: إنَّا لا نباهله فقد عرفتم أنَّه ما باهل نبيء قوما إِلَّا هلكوا.

4. ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ لوَّح إليهم بالتراخي عن الابتهال لعلَّهم يتذكَّرون، فيدركون الحقَّ فيؤمنون، والابتهال: التلاعن والاجتهاد في الدعاء، والإخلاص فيه والتضرُّع، ﴿فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ في أمر عيسى بقولهم إنَّه إله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، أو بقولهم عبد الله ورسوله، فنقول: اللَّهم العن الكاذبين في أمر عيسى، فتقع اللَّعنة على من كذب وهم القائلون إنَّه إله أو ابن الله.

5. دعا صلّى الله عليه وآله وسلّم وفد نجران لذلك إذ حاجُّوه وهم ثلاثة، وقيل: أربعة عشر رجلا، فقالوا: حتَّى ننظر في أمرنا ثمَّ نأتيك بعد ثلاثة أيَّام، وشاوروا قريظة والنضير وقينقاع، فقالوا: لا تلاعنوا فإنَّه النبيء الذي ننتظره، وقال لهم أيضًا ذو رأيهم ـ أي: العاقب عبد المسيح ـ : (لقد عرفتم نبوءته، وما باهل قوم نبيئا إِلَّا هلكوا، فإن أبيتم إِلَّا الإقامة على ما أنتم عليه فوادعوه وانصرفوا)، فأتوه وقد خرج، أي: من بيته إلى المسجد ومعه الحسين حاملا له بجنبه والحسن، أي: آخذ بيده وفاطمة، أي: خلفه وعليٌّ، أي: خلفهم، وقال لهم: (إذا دعوتُ فأمِّنوا)، فأبوا أن يلاعنوا وصالحوه على الجزية، رواه أبو نعيم في دلائل النبوءة، وروي أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم : جاء بأبي بكر وأولاده، وبعمر وأولاده، وبعثمان وأولاده، وبعليٍّ وأولاده، والجمهور على ما مرَّ، وَلَمَّا رأوا النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم قال كبيرهم علمًا: (إنِّي لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا لأزاله من مكانه، فلا تباهلوا)، روي أنَّهم صالحوه على ألفي حلَّة حمراء، النصف في صَفَر، والبقيَّة في رَجَب، وثلاثين درعا من حديد، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كلِّ صنف من أصناف السلاح، ويروى: نُوَدِّي إليك كلَّ عام ألفي حلَّة، ألفٌ في صفر، وألف في رجب، ونعيرك ثلاثين دِرعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كلِّ صنف من السلاح تغزون بها، والمسلمون ضامنون حتَّى تردُّوها إلينا، قال أحمد عن ابن عبَّاس: (لو باهلوا لرجعوا ولا يجدون مالا ولا أهلا)، وروي: (لاحترفوا)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (والذي نفسي بيده إنَّ الهلاك قد تدلَّى على أهل نجران، لو لاعنوا لَمُسخوا، شبَّانهم قردة، وشيوخهم خنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتَّى الطير على رؤوس الجبال، ولما حال الحول على النصارى كلِّهم حتَّى هلكوا)، وروي أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إذ أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم)، فأبوا، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (فإنِّي أُناجزكم)، قالوا: لا طاقة لنا بحرب العرب، لكن نصالحك؛ فصالحوه بذلك، وروي أنَّهم قالوا: (انظر يومك وليلتك بعده فما حكمت به رضينا به)، فحكم بعدهما عليهم بالجزية وهي ما مرَّ.

6. ﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي: ما ذكر من أمر عيسى وأمِّه، ﴿لَهُوَ الْقَصَصُ﴾ الخبر، ﴿الْحَقُّ وَمَا مِنِ اِلَهٍ اِلَّا اللهُ﴾ بمعنى: لا إله إِلَّا الله، أو لا إله لنا إِلَّا الله، ردٌّ على من قال: (ثالث ثلاثة)، ومن قال: عيسى الله، ومن قال: ابن الله، فإنَّ ابن الإله إله، كلُّ ذلك باطل، تأكيد لقوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى﴾، ﴿وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ لا يشارَك في القدرة التامَّة والحكمة البالغة، فضلا عن أن يختصَّ بهما عيسى، وهما أليق بالألوهيَّة، ولا تتصوَّر القدرة التامَّة إِلَّا بالألوهيَّة، وهذا أيضًا ردٌّ على النصارى تأكيدًا.

7. ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ عن الإيمان، ﴿فَإِنَّ اللهَ عَلِيمُم بِالْمُفْسِدِينَ﴾ الأصل فإنَّه عليم بهم، إِلَّا أنَّه ذَكَرَ لفظ الجلالة زيادةً في تغليظ الوعيد، وإِلَّا أنَّه ذكر المفسدين إعلاما بأنَّ الإعراض عن الإيمان مع ظهور دلائله إفساد للذات والروح، والعالِم عظيم فهو معاقبهم عقابا لائقا بذلك لا يَخفَون عنه؛ أو المراد مطلقو المفسدين وهؤلاء منهم، والأوَّل أنسب بقوله: ﴿فَإِن تَوَلَّوْا﴾ يعود الواو إلى (مَنْ حَاجَّكَ) وهو ماض، أو خطاب لمن حاجَّه وهو مضارع، أي: تتولَّوا.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/288.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ﴾ لهم قولا يظهر علمك الحق وارتيابهم الباطل ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ يقال ابتهل الرجل دعا وتضرع، والقوم تلاعنوا، وفسر الابتهال هنا بقوله: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ وتسمى هذه الآية آية المباهلة وقد ورد من عدة طرق أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا نصارى نجران للمباهلة فأبوا، أخرج البخاري ومسلم أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا ولا عقبنا من بعدنا.

2. قال محمد عبده: الروايات متفقة على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة نساءنا على علي وفاطمة وكلمة أنفسنا على علي فقط ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة(2)، ولكن واضيعها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة (نساءنا) لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم، وأبعد من ذلك ان يراد بأنفسنا علي عليه الرضوان، ثم إن وفد النجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم، وكل ما يفهم من الآية أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ان يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم ومماراتهم فيما يقولون وزلزالهم فيما يعتقدون وكونهم على غير بينة ولا يقين، وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه وإبعاده من رحمته؟ وأي جراءة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا؟

3. أما كون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى عليه السلام فحسبنا في بيانه قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين وفي قوله: ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ إلخ وجهان أحدهما أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمين ندعو أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وأنتم كذلك ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس وإنما الإشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص.

4. وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية وهو مبني على اعتبار المرأة كالرجل في الأمور العامة إلا ما استثني منها ككونها لا تباشر الحرب بنفسها بل يكون حظها من الجهاد خدمة المحاربين كمداواة الجرحى، وقد علمنا ما تقدم أن الحكمة في الدعوة إلى المباهلة هي إظهار الثقة بالاعتقاد واليقين فيه، فلو لم يعلم الله أن المؤمنات على يقين في اعتقادهن كالمؤمنين لما أشركهن معهم في هذا الحكم، فأين هذا من حال نسائنا البوم، ومن اعتقاد جمهورنا فيما ينبغي أن يكن عليه؟ لا علم لهن بحقائق الدين ولا بما بيننا وبين غيرنا من الخلاف والوفاق ولا مشاركة للرجال في عمل من الأعمال الدينية ولا الاجتماعية، فهل فرض الإسلام على نساء الأغنياء لا سيما في المدن أن لا يعرفن غير التطرس والتطرز والتورن وعلى نساء الفقراء لا سيما القرى والبوادي أن يكن كالأتن الحاملة والبقر العاملة؟ وهل حرم على هؤلاء وأولئك علم الدنيا والدين، والاشتراك في شيء من شؤون العالمين؟ كلا بل فسق الرجال عن أمر ربهم، فوضعوا النساء في هذا الموضع، بحكم قوتهم، فصغرت نفوسهن، وهزلت آدابهن، وضعفت ديانتهن، ونحفت إنسانيتهن، وصرن كالدواجن في البيوت، أو السوائم في الصحراء، أو السواني على السواقي والآبار، أو ذوات الحرث في الحقول والغيطان، فساءت تربية البنين والبنات، وسرى الفساد الاجتماعي من الأفراد إلى الجماعات، فعم الأسر والعشائر، والشعوب والقبائل، لبث المسلمون على هذا الجهل الفاضح أحقابا، حتى قام فيهم اليوم من يعيرهم باحتقار النساء واستعبادهن ويطالبونهم بتحريرهن ومشاركتهن في العلم والأدب وشؤون الحياة، منهم من يطالب بهذا اتباعا لهدى الإسلام وما جاء به من الإصلاح ومنهم من يطالب به تقليدا لمدنية أوروبا، وقد استحسنت الدعوة الأولى بالقول دون العمل وأجيبت الدعوة الأخرى بالعمل على ذم الأكثرين لها بالقول، فأنشأ المسلمون يعلمون بناتهم القراءة والكتابة وبعض اللغات الأوربية والعزف بآلات اللهو وبعض أعمال اليد كالخياطة والتطريز ولكن هذا التعليم لا يصحبه شيء من التربية الدينية ولا من إصلاح الأخلاق والعادات بل هو من عوامل الانقلاب الاجتماعي الذي تجهل عاقبته.

5. ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ في شأن المسيح وما عداه من قول القائلين له أنه ولد زنا وقول الغالبين فيه أنه الله أو ابن الله فباطل ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾ الذي خلق كل شيء وليس كمثله شيء، فأي معنى تتصورون من معاني الألوهية فهو له وحده { إن الله لهو العزيز الحكيم } لا يساويه أحد في عزته في ملكه ولا يساميه مسام في حكمته في خلقه فيكون شريكا له في ألوهيته، أو ندا في ربوبيته، وما الولد إلا نسخة من الوالد يساويه في جنسه ونوعه، وهو تعالى فوق الأجناس والأنواع، وفوق التصورات والأوضاع.

6. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ ولم يجيبوا الدعوة إلى المباهلة ولم يقبلوا عقيدة التوحيد الخالص ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ لعقائد الناس بإصرارهم على الباطل تقليدا محضا لا برهان يؤيده، ولا بصيرة تعضده، وإفساد العقائد إفساد للعقل وهو رأس كل إفساد.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/322.

(2) المصادر السنية كلها تؤكد هذا، ولا يتعارض ذلك لا مع القرآن الكريم، ولا مع العقل، وانظر في الرد عليه ما ذكره الطباطبائي

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ أي فمن جادلك في شأن عيسى عليه السلام من بعد أن قصصت عليك من خبره وجليّة أمره ما قصصت.

2. ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ أي فقل لهم: أقبلوا وليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه للمباهلة والدعاء، وفي تقديم هؤلاء على النفس في المباهلة، مع أن الرجل يخاطر بنفسه لهم ـ إيذان بكمال أمنه صلّى الله عليه وآله وسلّم وتمام ثقته بأمره وقوة يقينه، بأنه لن يصيبهم في ذلك مكروه وهذه الآية تسمى آية المباهلة، وقد ورد من طرق عدة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا نصارى نجران للمباهلة فأبوا.

3. هذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب من نصارى نجران وسواهم على امترائهم في حجاجهم، وكونهم على غير بينة فيما يعتقدون.

4. وفي الآية عبرة لمن ادّكر، لأنه طلب فيها مشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمفاضلة الدينية؛ وفي هذا دليل على أن المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا في بعض مسائل ككونها لا تباشر الحرب بنفسها، بل تشتغل بخدمة المحاربين ومداواة الجرحى، ولا تتولى القضاء في الجنايات ونحوها، وأين هذا من حال نساء المسلمين اليوم في جهلهنّ بأمور الدين، وعدم مشاركتهنّ للرجال في عمل من الأعمال الدينية أو الشؤون الاجتماعية، ولا همّ لنساء الأغنياء في المدن إلا الزينة والتنوق في المطاعم والمشارب والملابس؛ كما لا عمل لنساء الفقراء في القرى والدساكر إلا الخدمة في الحقول والمنازل، فهن كالاتن الحاملة والبقر العاملة، وكان من جراء هذا أن صغرت نفوسهن، وضعفت آدابهن، وصرن كالدواجن في البيوت، أو السوائم في الصحراء، وساءت تربية البنين والبنات، وسرى الفساد من الأفراد إلى الجماعات، وعم الأسر والعشائر، والشعوب والقبائل، وقد قام في العهد الأخير جماعات من العقلاء في كثير من البلاد الإسلامية يطالبون بتحرير المرأة ومشاركتها الرجل في العلم والأدب وشئون الحياة، وصادفت هذه الدعوة آذانا صاغية، فبدأ المسلمون يعلمون بناتهم ولكن يحسن أن بصحب هذا التعليم شيء كثير من التربية الدينية والإصلاح في الأخلاق والعادات، وقد كان هذا عاملا من عوامل الانقلاب الاجتماعي الذي لا ندرى ما تكون عاقبته في إصلاح الأسر الإسلامية ولا ما سيتمحض عنه من نفع للإسلام والمسلمين.

5. {إِنَّ هذا لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُّ} أي إن هذا الذي قصصته عليك في شأن عيسى هو الحق لا ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو ابن الله، ولا ما يدعيه اليهود من كونه ابن زنا.

6. ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ﴾ الذي خلق كل شيء وليس كمثله شيء، وفي هذا رد على النصارى الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة.

7. {وإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وإنه تعالى ذو العزة الذي لا يغالبه أحد، وذو الحكمة التي لا يساويه فيها أحد حتى يكون شريكا له في ألوهيته، أو ندّا له في ربوبيته، وما الولد إلا نسخة من الوالد، فهو يساويه في جنسه ونوعه، وهو سبحانه فوق الأجناس والأنواع.

8. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ أي فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك، ولم يقبلوا عقيدة التوحيد التي جئت بها، ولم يجيبوك إلى المباهلة، فإن الله عليم بحال‏ المفسدين في الدين ونياتهم، وأغراضهم الفاسدة، فيجازيهم بخبيث سرائرهم، وسيئ أعمالهم.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/175.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هنا ـ وقد وضحت القضية وظهر الحق جليا ـ يوجه الله تعالى رسوله الكريم إلى أن ينهي الجدل والمناظرة حول هذه القضية الواضحة وحول هذا الحق البين وأن يدعوهم إلى المباهلة كما هي مبينة في الآية التالية: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾

2. وقد دعا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من كانوا يناظرونه في هذه القضية إلى هذا الاجتماع الحاشد، ليبتهل الجميع إلى الله أن ينزل لعنته على الكاذب من الفريقين، فخافوا العاقبة وأبوا المباهلة، وتبين الحق واضحا، ولكنهم فيما ورد من الروايات لم يسلموا احتفاظا بمكانتهم من قومهم، وبما كان يتمتع به رجال الكنيسة من سلطان وجاه ومصالح ونعيم! وما كانت البينة هي التي يحتاج إليها من يصدون عن هذا الدين؛ إنما هي المصالح والمطامع والهوى يصد الناس عن الحق الواضح الذي لا خفاء فيه.

3. ثم يمضي التعقيب بعد الدعوة إلى المباهلة ـ وربما كانت الآيات التالية قد نزلت بعد الامتناع عنها ـ يقرر حقيقة الوحي، وحقيقة القصص، وحقيقة الوحدانية التي يدور حولها الحديث؛ ويهدد من يتولى عن الحق ويفسد في الأرض بهذا التولي: {إِنَّ هذا لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُّ، وما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ، وإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} والحقائق التي تقررها هذه النصوص سبق تقريرها، وهي تذكر هنا للتوكيد بعد الدعوة إلى المباهلة وإبائها، إنما الجديد هو وصف الذين يتولون عن الحق بأنهم مفسدون، وتهديدهم بأن الله عليم بالمفسدين.

4. والفساد الذي يتولاه المعرضون عن حقيقة التوحيد فساد عظيم، وما ينشأ في الأرض الفساد ـ في الواقع ـ إلا من الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة، لا اعتراف اللسان، فاعتراف اللسان لا قيمة له، ولا اعتراف القلب السلبي، فهذا الاعتراف لا ينشئ آثاره الواقعية في حياة الناس.. إنما هي الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة بكل آثارها التي تلازمها في واقع الحياة البشرية.. وأول ما يلازم حقيقة التوحيد أن تتوحد الربوبية، فتتوحد العبودية.. لا عبودية إلا لله، ولا طاعة إلا لله، ولا تلقي إلا عن الله، فليس إلا لله تكون العبودية، وليس إلا لله تكون الطاعة، وليس إلا عن الله يكون التلقي.. التلقي في التشريع، والتلقي في القيم والموازين، والتلقي في الآداب والأخلاق، والتلقي في كل ما يتعلق بنظام الحياة البشرية.. وإلا فهو الشرك أو الكفر، مهما اعترفت الألسنة، ومهما اعترفت القلوب الاعتراف السلبي الذي لا ينشئ آثاره في حياة الناس العامة في استسلام وطاعة واستجابة وقبول.

5. إن هذا الكون بجملته لا يستقيم أمره ولا يصلح حاله، إلا أن يكون هناك إله واحد، يدبر أمره: و﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾.. وأظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية: تعبد العبيد؛ والتشريع لهم في حياتهم، وإقامة الموازين لهم، فمن ادعى لنفسه شيئا من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية؛ وأقام نفسه للناس إلها من دون الله.

6. وما يقع الفساد في الأرض كما يقع عندما تتعدد الآلهة في الأرض على هذا النحو، عندما يتعبد الناس الناس، عندما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته؛ وأن له فيهم حق التشريع لذاته؛ وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته، فهذا هو ادعاء الألوهية ولو لم يقل كما قال فرعون: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾، والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر به.. وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/406.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد عاشت أجيال النصارى نحو سبعة قرون قبل مبعث النبي الكريم، وهم على هذا المعتقد في المسيح ـ عليه السّلام ـ وأنه هو الله، تجسد في بطن عذراء، وإنه لمن العسير أن يتخلّصوا من هذا المعتقد الذي دانوا به، وأقاموا له بناء ضخما من المنطق العاطفى، الذي امتزج بتفكيرهم، واختلط بمشاعرهم، وهيهات ـ والأمر كذلك ـ أن يستمعوا إلى قول يخالف ما قالوا، وأن يتصوّروا المسيح على غير الصورة التي انطبعت في كيانهم، وإذن، فالحديث إليهم بمنطق العقل لا يجدى شيئا، وإقامة البراهين والحجج بين أيديهم لتفنيد ما زعموا، سيلقونها ببراهين وحجج، وإنه لا محصّل لهذا إلّا المماحكة والجدل، واتساع شقة الخلاف والخصام.

2. وإذ كان الأمر كذلك، فلا جدال مع أتباع المسيح فيما يقولون فيه، فإن جاؤوا إلى النبيّ الكريم يجادلونه ويحاجّونه، فلا يلقاهم النبي بجدال وحجاج، إذ خرج الأمر فيه عن العقل ومنطقه، عند أتباعه، وصار إلى الوجدان والعاطفة.. فليكن مقطع الحق في هذا الموقف، أن يصار فيه إلى الأسلوب العمليّ الملموس الذي يجابه الحواس، ويؤثّر آثاره فيها، بحيث يعلق الأثر بمن وقع عليه، ويجد مذاقه.. الحلو أو المرّ، في نفسه، وجاء وفد من نصارى نجران، بعد أن أداروا الأمر فيما بينهم، وأعدوا له العدة ـ جاؤوا يحاجّون النبيّ في (المسيح) بما عندهم من مقولات فيه، وهم يريدون أن يسقطوا ما تلقّى النبيّ من كلمات الله في المسيح وفي أمّه، وبذلك تسقط دعوى النبيّ كلها بأنه رسول من عند الله، وأن ما بين يديه من قرآن هو من عند الله، وأخذ النبيّ ـ كما أمره الله ـ الطريق عليهم، فدعاهم إلى أن يدخلوا معه في تجربة عملية، هي أبلغ من كل قول، وأقوى من كل حجة: ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾

3. لقد خرج النبي الكريم بنفسه، وبابنته فاطمة، وولديها الحسن والحسين، وبنسائه جميعا(2).. وطلب إلى هذا الوفد أن يلقوه بأنفسهم، وبأبنائهم وبنسائهم، وأن يبتهلوا جميعا ـ هو ومن معه، وهم ومن معهم ـ إلى الله: أن يجعل لعنته على الكاذب من الفريقين، فيما يقول عن عيسى من مقولات! وتدبّر الوفد الأمر فيما بينهم، وأداروه على جميع وجوهه، ونظروا إلى أنفسهم، وإلى أبنائهم ونسائهم، فرأوا أن الأمر قد صار إلى الجدّ، وأنهم مبتلون في أنفسهم وأهليهم، وهنا أعادوا النظر فيما بين أيديهم من أمر المسيح، فرأوا أن حجتهم واهية، وأن يقينهم الذي استيقنوه منه، مشوب بشك يكاد يغلب هذا اليقين، وبدا لهم أن مصرعهم وشيك هم وأهليهم إن هم باهلوا النبي، وأن دعوتهم على أنفسهم باللعنة إن أخطأتهم، فلن تخطئهم دعوة النبي، التي لا ترد.. فتركوا ما جاؤوا له، وعادوا من حيث أتوا، وفي قلب كلّ منهم وسواس، وفي كيانه صراع عاصف، بين الحق الذي رآه، والباطل الذي يعيش فيه.

4. ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ إن الذي يقصّه القرآن الكريم من أحداث ومواقف، هو القصص الحق، لأنه منزل من الحق سبحانه وتعالى.. ومن الحق الذي تحدث به القرآن: أنه لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأن القول بأن مع الله آلهة أخرى، أو أن‏ لله ولدا، أو زوجا ـ هو كذب مبين، وبهتان عظيم.. وإن من صفات الله إلى جانب تفرده بالألوهية، تفرده كذلك بالعزة والحكمة.. وإن عزته ليست عزة جبرية وتسلط، وإنما هي عزة قائمة بالحكمة والعدل.. هذا هو إيمان المؤمنين بالله، وذلك هو وصفهم له.. فإن آمن به أهل الكتاب على تلك الصفة، فقد اهتدوا ورشدوا، وإن تولوا فقد ضلوا وتعسوا.

5. ﴿فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ وعيد لأولئك الذين أبوا أن يستمعوا إلى قوله الحق، وأن يستجيبوا لما يدعوهم الرسول إليه من الحق، فوقوعهم تحت علم الله يكشف مستورهم، ويفضح أعمالهم، ويسجل جرائمهم التي سيجزون عليها.. ثم إن وصفهم بالمفسدين حكم بالإدانة عليهم، وبأنهم ـ بعد كفرهم ـ قد أصبحوا فاسدين ومفسدين، ومن كانت تلك صفته فالنار أولى به، وبئس المصير.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/483.

(2) الأحاديث المبينة للحادثة لم ترد بذلك

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ تفريع على قوله: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ لما فيه من إيماء إلى أنّ وفد نجران ممترون في هذا الذي بيّن الله لهم في هذه الآيات: أي فإن استمرّوا على محاجتهم إياك مكابرة في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة والملاعنة، ذلك أنّ تصميمهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محضة بعد ما جاءك من العلم وبينت لهم، فلم يبق أوضح مما حاججتهم به فعلمت أنهم إنما يحاجونك عن مكابرة، وقلة يقين، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة هنا.

2. ﴿تَعَالَوْا﴾ اسم فعل لطلب القدوم، وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى إذا قصد العلوّ، فكأنّهم أرادوا به في الأصل أمرا بالصعود إلى مكان عال تشريفا للمدعو، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور، وأجريت عليه أحوال اسم الفعل فهو مبني على فتح آخره وأما قول أبي فراس الحمداني:

çأيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا...تعالي أقاسمك الهموم تعالي‏é

فقد لحّنوه فيه.

3. معنى‏ ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ ائتوا وادعوا أبناءكم ونحن ندعو أبناءنا إلى آخره، والمقصود هو قوله: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ إلى آخره، و(ثم) هنا للتراخي الرتبي، والابتهال مشتق من البهل وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقا لأنّ الداعي باللعن يجتهد في دعائه والمراد في الآية المعنى الأول.

4. معنى‏ ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ﴾ فندع بإيقاع اللعنة على الكاذبين، وهذا الدعاء إلى المباهلة إلجاء لهم إلى أن يعترفوا بالحق أو يكفوا، روى المفسرون وأهل السيرة أنّ وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الملاعنة قال لهم العاقب: نلاعنه فو الله لئن كان نبيئا فلاعننا لا نفلح أبدا ولا عقبنا من بعدنا فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة.

5. هذه المباهلة لعلّها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لإقامة الحجة عليهم.

6. إنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء: لأنه لمّا ظهرت مكابرتهم في الحق وحبّ الدنيا، علم أنّ من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحبّ إليه من الحق كما قال شعيب ﴿أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ وأنه يخشى سوء العيش، وفقدان الأهل، ولا يخشى عذاب الآخرة.

7. الظاهر أنّ المراد بضمير المتكلم المشارك أنه عائد إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن معه من المسلمين، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللّائي كنّ معهم.

8. النساء: الأزواج لا محالة، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا ورد غير مضاف، قال تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [الأحزاب: 32] وقال: ﴿وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وقال النابغة:

çحذارا على أن لا تنال مقادتي‏...ولا نسوتي حتى يمتن حرائراé

9. الأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا وإياكم، وأما الأبناء فيحتمل أنّ المراد شبانهم، ويحتمل أنه يشمل الصبيان، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة.

10. الابتهال افتعال من البهل، وهو اللعن، يقال: بهله الله بمعنى لعنه واللعنة بهلة وبهلة ـ بالضم والفتح ـ ثم استعمل الابتهال مجازا مشهورا في مطلق الدعاء.. وهو المراد هنا بدليل أنّه فرّع عليه قوله: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾

11. هذه دعوة إنصاف لا يدعو لها إلّا واثق بأنه على الحق، وهذه المباهلة لم تقع لأنّ نصارى نجران لم يستجيبوا إليها، وقد روى أبو نعيم في الدلائل أنّ النبي هيأ عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ليصحبهم معه للمباهلة، ولم يذكروا فيه إحضار نسائه ولا إحضار بعض المسلمين.

12. جملة ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ وما عطف عليها بالواو اعتراض لبيان ما اقتضاه قوله: ﴿الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران: 61] لأنهم نفوا أن يكون عيسى عبد الله، وزعموا أنه غلب فإثبات أنه عبد هو الحق، واسم الإشارة راجع إلى ما ذكر من نفي الإلهية عن عيسى.

13. الضمير في قوله: ﴿لَهُوَ الْقَصَصُ﴾ ضمير فصل، ودخلت عليه لام الابتداء لزيادة التقوية التي أفادها ضمير الفصل؛ لأنّ اللام وحدها مفيدة تقوية الخبر وضمير الفصل يفيد القصر أي هذا القصص لا ما تقصّه كتب النصارى وعقائدهم.

14. القصص ـ بفتح القاف والصاد ـ اسم لما يقص، يقال: قصّ الخبر قصّا إذا أخبر به، والقصّ أخص من الإخبار؛ فإنّ القص إخبار بخبر فيه طول وتفصيل وتسمى الحادثة التي من شأنها أن يخبر بها قصة ـ بكسر القاف ـ أي مقصوصة أي مما يقصها القصّاص، ويقال للذي ينتصب لتحديث الناس بأخبار الماضين قصّاص ـ بفتح القاف ـ، فالقصص اسم لما يقص: قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ وقيل: هو اسم مصدر وليس هو مصدرا، ومن جرى على لسانه من أهل اللغة أنه مصدر فذلك تسامح من تسامح الأقدمين، فالقصّ بالإدغام مصدر، والقصص بالفكّ اسم للمصدر واسم للخبر المقصوص.

15. ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ﴾ تأكيد لحقيّة هذا القصص، ودخلت من الزائدة بعد حرف نفي تنصيصا على قصد النفي الجنس لتدل الجملة على التوحيد، ونفي الشريك بالصراحة، ودلالة المطابقة، وأن ليس المراد نفي الوحدة عن غير الله، فيوهم أنه قد يكون إلا هان أو أكثر في شقّ آخر، وإن كان هذا يؤول إلى نفي الشريك لكن بدلالة الالتزام.

16. ﴿وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فيه ما في قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ فأفاد تقوية الخبر عن الله تعالى بالعزّة والحكم، والمقصود إبطال إلهية المسيح على حسب اعتقاد المخاطبين من النصارى، فإنهم زعموا أنه قتله اليهود وذلك ذلّة وعجز لا يلتئمان مع الإلهية فكيف يكون إله وهو غير عزيز وهو محكوم عليه، وهو أيضا إبطال لإلهيته على اعتقادنا؛ لأنه كان محتاجا لإنقاذه من أيدي الظالمين.

17. جملة ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ عطف على قوله: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا﴾ [آل عمران: 61] وهذا تسجيل عليهم إذ نكصوا عن المباهلة، وقد علم بذلك أنهم قصدوا المكابرة ولم يتطلبوا الحق، روي‏ أنهم لما أبوا المباهلة قال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فإن أبيتم فأسلموا) فأبوا فقال: (فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد) فأبوا فقال لهم: (فإني أنبذ إليكم على سواء) أي أترك لكم العهد الذي بيننا فقالوا: (ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكنا نصالحك على ألّا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلة حمراء ألفا في صفر وألفا في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد)

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/114.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين سبحانه ما يكون منه إن حاجوه بقوله تعالت كلماته: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾

2. المحاجة تبادل الحجة، سواء أكانت الحجة قوية أم كانت حجة داحضة عند ربهم، والفاء هنا فاء الإفصاح؛ إذ إنها تفصح عن شرط مقدر؛ والمعنى إذا كانت هذه حقيقة السيد المسيح عليه السلام، وهذه إرادة الله تعالى في الخلق والتكوين، فكل ما يدعى له من الألوهية باطل، ولا يؤمن به أحد، فمن حاجك إلخ: والمعنى: فمن حاجك في شأنه من حيث كونه إلها أو ابن إله أو غير ذلك من الترهات الباطلة، بعد أن علمت من شأنه ما علمت، وذلك بعلم الله الذي أعلمك إياه، ووحيه الذي أوحاه إليك، فلا تبادلهم حجة بحجة لأنهم لا يؤمنون بحقيقة ما يقولون، ولا يذعنون للحق الذي تقول، وإن كانوا يعلمونه، ولكن قل لهم: ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾

3. المعنى ندع من عندنا من ذرية ونساء، ومن عندكم من ذرية ونساء، ومن عندنا من رجال، ومن عندكم؛ أي يتلاقى جمعنا وجمعكم، ثم نتجه نحو الحقيقة طالبين لها، أو على الأقل يعلن كل واحد منا إيمانه بما عنده، ونبتهل إلى الله ضارعين إليه، متجهين بقلوبنا نحوه أن يجعل لعنته وطرده من رحمته على الكاذبين في دعواهم المنحرفين في اعتقادهم، هذا المعنى هو ظاهر الآية؛ إذ فيه الدعوة الاجتماعية من الفريقين ليكون الجمع في مقابل الجمع فيعرف المحق من المبطل.

4. هناك معنى آخر تشير إليه مرويات الصحاح من السنة، وهو أن يدعو النبيّ خاصته من أهل بيته، وهم نساء قرابته وذريته، ورجال أسرته؛ وقد روى البخاري وغيره أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ذهب إلى المباهلة ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلى‏.

5. المعنى على الأول يشير إلى أن المباهلة بين أهل الحق مجتمعين، وأهل الباطل مجتمعين، ثم يتجهون جميعا إلى رب العالمين؛ لأن الأمر يهم الجميع، فإما أن يذعن أحد الفريقين للآخر، وإما أنه يطرد من رحمة الله تعالى، وعلى الثاني يشير إلى أن المباهلة بين النبيّ وأسرته، وكبراء الفريق الآخر وأسرهم، وإلى أن الذي يؤمن بما يقول لا يمتنع عن تقديم أحب الناس إليه في المباهلة ما دام مؤمنا بأن الحق في جانبه، وإن النبيّ تقدم إلى هذه المبارزة المعنوية الاعتقادية، ولكنهم أحجموا ولم يتكلموا ورضوا أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

6. الابتهال قال فيه الزمخشري: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ ثم نتباهل بأن نقول بهلة الله على الكاذب منا ومنكم، والبهلة بالفتح والضم اللعنة، وبهله الله: لعنه وأبعده من رحمته، من قولك أبهله إذا أهمله، وأصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن التعانا.

7. في الآيات الكريمة إشارة إلى عدة معان نفسية واجتماعية:

أ. أولها: أن المجادل الممارى لا تزيده الحجة القوية اقتناعا، ولا تحمله على الإذعان، إنما يحمله على الإذعان التوجيه النفسي، بأن يدرس مقدار اقتناعه هو بما يقول، وفي الابتهال وسط لجاجة أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه دعوة لهم إلى أن يفتشوا قلوبهم ويعرفوا مقدار إيمانهم بما يقولون، ومقدار الحق فيما يعدلون؛ ولذلك خروا صاغرين، ولم يستطيعوا جدالا.

ب. ثانيها: أن الدعوة بالتي هي أحسن توجب على الداعي ألا يفرط في المجادلة، كما كان يقول الإمام مالك: بيّن الحق ولا تجادل فيه، فإن كل مجادلة توجب على الفريق الآخر أن يلتزم موقفه.

ج. ثالثها: أنه يجب أن تعلم الذرية والنساء شؤون الدين؛ ولذلك كانوا مشتركين في تلك المنازلة بين الحق والباطل وهذه المعركة النفسية الفاصلة بين إيمان المؤمنين، وانحراف المنحرفين.

د. رابعها: التعاون الفكري والنفسي بين المؤمنين؛ فإن تلك المباهلة كانت بين أهل الإيمان متعاونين على دعوة الحق، وأهل الباطل مدعوين إلى التعاون عليه فيها إن كانوا مؤمنين به، فلم يحيروا جوابا.

8. أكد سبحانه وتعالى صدق ما أخبر به عن عيسى عليه السلام فقال تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُ‏} أي إن هذا الذي أخبرت هو القصص الثابت الذي لا مجال فيه لإنكار منكر، ولا لتشكيك متشكك، وقد أكد سبحانه صدق القصص في تلك الجملة السامية بأربعة مؤكدات هي إنّ، فهي للتوكيد، واللام في قوله تعالى: {لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُ‏} وضمير الفصل، والقصر الذي تضمنه تعريف الطرفين؛ إذ المعنى فيه أن ما أخبرت به في شأن عيسى عليه السلام هو وحده الخبر الحق، ولا حق في سواه، بل ما عندهم ترهات وأباطيل.

9. هذا الخبر يتضمن في ذاته أن المسيح عيسى عليه السلام ليس إلها ولا ابن إله، وأنه عبد الله ورسوله الأمين، وأنه من أولى العزم من الرسل، وأن الألوهية الحق هي لله تعالى وحده؛ ولذا صرح بهذا عقب تأكيده القصص الحق، فقال تعالى: {وما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وهذا نفى باتّ قاطع للألوهية من غير الله تعالى، وإثبات الألوهية لله وحده، وقد أكد النفي بكلمة (من) فهي تفيد استغراق النفي استغراقا مستمرا ثابتا مؤكدا، وفي النفي والإثبات تأكيد لمعنى المستثنى أبلغ تأكيد، وإن هذا النفي فيه رد بالغ على النصارى الذين ادعوا ألوهية للمسيح عليه السلام.

10. {وإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏} معناه أن الله سبحانه وتعالى المنفرد بالألوهية وحده هو العزيز الغالب الذي لا يقهر، الحكيم الذي يدبر كل شيء بكمال سلطانه وسيطرته على هذا الوجود الذي لا ينازعه السلطان فيه غيره كائنا من كان، وإن الجملة السامية فيها تأكيد لمعنى العزة والسلطان الكامل بالتعبير بإن، وباللام، وبضمير الفصل، وبتعريف الطرفين.

11. في هذا الكلام رد على أولئك الذين يزعمون أن المسيح إله، ويعتقدون مع ذلك أنه غلب على أمره وصلب ولم يستطع لنفسه حولا ولا طولا، ولا حيلة يخرج بها من ذلك المأزق، ولكن هكذا يعتقدون، وبه يؤمنون.

12. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ أي فإن أعرضوا ولم يبتهلوا لتكون لعنة الله على الكاذبين، وكلمة الحق هي الغالبة المسيطرة، فاعلم أنهم ليسوا طلاب حق وهداية ولكنهم دعاة باطل، وفي دعاوى الباطل يكون الفساد في الأرض؛ لأنه لا فساد في الأرض أكثر من فساد الاعتقاد، فإن فساد الاعتقاد، يدفع إلى فساد العمل.

13. ﴿فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ ليس هو جواب الشرط ولكنه ينبئ عن جواب الشرط المحذوف، إذ تقدير القول: فإن تولوا وأعرضوا فأنذرهم بسوء المغبة وسوء العقبى، فإن الله عليم بالمفسدين، وهذه الجملة السامية تتضمن في ذاتها تهديدا شديدا، إذ إن الله تعالى إذا علم بالمفسد لا يسكت عنه، ولا يتركه يعيث في الأرض فسادا، بل إنه يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ويوم القيامة يأخذه بالنواصى والأقدام، وكذلك الشأن في كل من يعرضون عن الحق إذا دعوا إليه.

14. اللهم مكن الحق من قلوبنا، واجعلنا ممن يؤمنون به، ويذعنون له، وأعز الإسلام، واجعل أهله يؤمنون به، ويفتدونه، إنك أنت العزيز الحكيم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1253.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه هي الآية المعروفة بآية المباهلة، وهي من أمهات الكتاب، والقصد الأول من هذه الآية الكريمة العظيمة هو تدعيم الدين الحنيف، واثبات الرسالة المحمدية الانسانية بطريق لا عهد به للعلم والعلماء، ولا يقدر عليه أحد على الإطلاق سوى خالق الأرض والسماء، ومع ذلك يفهمه بسهولة ويسر الجاهل والعالم.. وفيما يلي حكاية هذه الآية من أولها، ولكن بإيجاز: ترتبط هذه الآية بالسنة التاسعة لهجرة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، وهي السنة المعروفة بعام الوفود، لأن الناس توافدت فيه على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من شتى بقاع الجزيرة العربية، يخطبون وده بعد ان أعلى الله كلمة الإسلام، ونصر المسلمين على أعداء الدين، وقد وفد على الرسول فيمن وفد ستون رجلا من نصارى نجران اليمن، وقيل: أربعة عشر من أشرافهم.. منهم كبيرهم وأميرهم، واسمه عبد المسيح، والثاني مشيرهم وصاحب رأيهم، واسمه الأيهب، ويلقب بالسيد، والثالث حبرهم واستفهم، وكان في شرف كبير، وخطر عظيم، وقد بنى له ملك الروم الكنائس والمدارس، وخصه بالأموال والمراتب، ورحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بهم، وأكرم وفادتهم، وحين حانت صلاتهم ضربوا بالناقوس، وصلوا في مسجد الرسول إلى المشرق، فأراد الأصحاب منعهم، فقال النبي: دعوهم.. وسبقت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآية 8 من هذه السورة، وبعد أن استقر المقام بوفد نجران أخذوا يجادلون رسول الله في عيسى زاعمين تارة انه الله، ومرة انه ابن الله، وأخرى انه ثالث ثلاثة، وأوردوا أدلة سبق ذكرها وتفسيرها وإبطالها، والذي أبطل أدلة النصارى هو الله بالذات، ولكن على لسان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان في الوفد علماء لا تخفى الحقيقة على أمثالهم، منهم أبو حارثة الرئيس الديني للوفد، وكان معه أخ له، اسمه كرز.. وبعد أن سمع أبو حارثة ما سمع من آيات الله البينات أسرّ إلى أخيه كرز ان محمدا هو النبي الذي كنا ننتظره، فقال له أخوه هذا: ما يمنعك منه ما دمت على يقين من صدقه؟ قال أبو حارثة: ان الملوك أعطونا أموالا كثيرة، وأكرمونا، فلو آمنا بمحمد لأخذوا منا كل‏ شيء.. فوقع ذلك في قلب كرز، وأضمره في نفسه أمدا، ثم أعلن إسلامه، وحدّث عما جرى من أخيه.

2. صدق هذه الرواية لا يحتاج إلى دليل، لأنها بنفسها تدل على صدقها، وتحمل قياسها معها، كما يقول أهل المنطق.. ان أكثر الذين أنكروا الحق وعاندوه كان الدافع إلى موقفهم المصالح الخاصة، والمنافع الشخصية.

3. ناظر الرسول وفد نجران في صفات عيسى عليه السلام، وجادلهم بالحجة الدامغة، والمنطق السليم بما لا يقبل المزيد، ولما أصروا على العناد قطع الكلام معهم، وأنهى المناظرة، ودعاهم إلى ما لا يشبه شيئا، ولا يشبهه شيء من الحجاج والنقاش، ولكنه يحسم الموقف بسرعة، ويستأصل النزاع من الجذور، دعاهم إلى التفوه بكلمة واحدة فقط لا يقدم عليها في تلك اللحظة إلا من كان على يقين من صدقه، ولا يحجم عنها إلا من كان عالما بكذبه.. وهذه الكلمة هي لعنة الله على الكاذبين، ولكنها تقترن بمعجزة خارقة، دونها معجزات المسيح مجتمعة، حيث تنهال على رأس الكاذب صاعقة من السماء تملأ الأرض عليه نارا.

4. تواترت الروايات في كتب الحديث والتفسير، ومنها صحيح مسلم والترمذي، وتفسير الطبري، وغيرها كثير، ان محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج، وعليه مرط ـ أي كساء غير مخيط ـ أسود، وقد احتضن الحسين، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة وعلي يمشيان خلفه، وهو يقول: إذا دعوت فأمنوا، فقال الرئيس الديني للوفد: يا معشر النصارى اني لأرى وجوها لو دعت الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا، ثم قال يا أبا القاسم رأينا ان لا نباهلك، فقال لهم: أسلموا، فأبوا، ثم صالحهم على أن يؤدوا الجزية، وعاد الوفد مخذولا مرذولا، يجر وراءه ثوب الفشل، والخزي.. وآمن بعد هذه المباهلة كثير من الذين لم يكونوا قد آمنوا بعد، كما ازداد المؤمنون إيمانا وتسليما.

5. أقدم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومعه أهل بيته وأعز الناس على قلبه، أقدم على المباهلة، وهو يضمن النصر سلفا، حتى كأنه بيده.. ولا شيء أوضح وأصدق في الدلالة على نبوته من هذا الاقدام.. انه أوضح من دلالة نور الشمس على وجود الشمس.. وما عرفت هذه المعجزة لواحد من الأنبياء، وإنما كانوا يدعون على الكافرين، فيستجيب الله دعوتهم.

6. سؤال وإشكال: ان النبي دعا بعض الكفار إلى الإيمان، فقالوا: {اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} ـ 32 الأنفال)، ومع هذا لم يقع العذاب بهم؟ والجواب: ان الكلام فيما نحن فيه يدور حول المباهلة، وهي لا تتحقق إلا في معرض الاحتجاج والادعاء، وأيضا لا تجوز إلا بإذن من الله، أو رسوله خشية ان لا يظهر صدق الصادق.. وقول الكافرين: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ ليس من المباهلة في شيء.. ولذا أخر الله عقابهم إلى يوم يبعثون.

7. مما قاله الرازي في تفسير آية المباهلة: (روي أن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله، ثم جاء الحسين رضي الله عنه فأدخله، ثم فاطمة، ثم علي، ثم قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ واعلم ان هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث ـ ثم قال الرازي ـ: ان هذه الآية دالة على ان الحسن والحسين عليهما السلام كانا ابني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعد أن يدعو أبناءه فدعا الحسن والحسين، فوجب أن يكونا ابنيه، ومما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة الانعام: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ إلى قوله: ﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى﴾ ومعلوم ان عيسى عليه السلام انما انتسب إلى ابراهيم عليه السلام بالأم لا بالأب)

8. {إِنَّ هذا لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُّ وما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ}، هذا اشارة إلى ما تقدم من شأن عيسى، وانه نبي مرسل، لا ابن زنا كما يزعم اليهود، ولا هو إله أو ابن إله كما تدعي النصارى، ومن يصدق ويؤمن بهذه الحقيقة فدعه يا محمد وشأنه، فان الله سبحانه أعلم بفساده وضلاله، وقادر على عقابه بما يستحق.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/76.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾، الفاء للتفريع، وهو تفريع المباهلة على التعليم الإلهي بالبيان البالغ في أمر عيسى بن مريم عليه السلام مع ما أكده في ختمه بقوله: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، والضمير في قوله: ﴿فِيهِ﴾ راجع إلى عيسى أو إلى الحق المذكور في الآية السابقة.

2. كان البيان السابق منه تعالى مع كونه بيانا إلهيا لا يرتاب فيه مشتملا على البرهان الساطع الذي يدل عليه قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ الآية، فالعلم الحاصل فيه علم من جهة البرهان أيضا، ولذلك كان يشمل أثره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيره من كل سامع فلو فرض تردد من نفس السامع المحاج من جهة كون البيان وحيا إلهيا لم يجز الارتياب فيه من جهة كونه برهانا يناله العقل السليم، ولعله لذلك قيل: من‏ بعد ما جاءك من العلم ولم يقل: من بعد ما بيناه لهم، وهاهنا نكتة أخرى وهي أن في تذكيره صلّى الله عليه وآله وسلّم بالعلم تطييبا لنفسه الشريفة أنه غالب بإذن الله، وأن ربه ناصره وغير خاذله البتة.

3. ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾، المتكلم مع الغير في قوله: ﴿نَدْعُ﴾، غيره في قوله: ﴿أَبْنَاءَنَا﴾ و{نِساءَنا} و﴿أَنْفُسَنَا﴾ فإنه في الأول مجموع المتخاصمين من جانب الإسلام والنصرانية، وفي الثاني وما يلحق به من جانب الإسلام، ولذا كان الكلام في معنى قولنا: ندع الأبناء والنساء والأنفس فندعو نحن أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وتدعون أنتم أبناءكم ونساءكم وأنفسكم، ففي الكلام إيجاز لطيف.

4. المباهلة والملاعنة وإن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله وبين رجال النصارى لكن عممت الدعوة للأبناء والنساء ليكون أدل على اطمئنان الداعي بصدق دعواه وكونه على الحق لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم والشفقة عليهم فتراه يقيهم بنفسه، ويركب الأهوال والمخاطرات دونهم، وفي سبيل حمايتهم والغيرة عليهم والذب عنهم، ولذلك بعينه قدم الأبناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد وأدوم، ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله: ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ الآية ندع نحن أبناءكم ونساءكم وأنفسكم، وتدعوا أنتم أبناءنا ونساءنا وأنفسنا، وذلك لإبطاله ما ذكرناه من وجه تشريك الأبناء والنساء في المباهلة.

5. في تفصيل التعداد دلالة أخرى على اعتماد الداعي وركونه إلى الحق، كأنه يقول: ليباهل الجمع الجمع فيجعل الجمعان لعنة الله على الكاذبين حتى يشمل اللعن والعذاب الأبناء والنساء والأنفس فينقطع بذلك دابر المعاندين، وينبت أصل المبطلين، وبذلك يظهر أن الكلام لا يتوقف في صدقه على كثرة الأبناء ولا على كثرة النساء ولا على كثرة الأنفس فإن المقصود الأخير أن يهلك أحد الطرفين بمن عنده من صغير وكبير، وذكور وإناث، وقد أطبق المفسرون واتفقت الرواية وأيده التاريخ: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حضر للمباهلة ولم يحضر معه إلا علي وفاطمة والحسنان عليه السلام فلم يحضر لها إلا نفسان وابنان وامرأة واحدة وقد امتثل أمر الله سبحانه فيها.

6. على أن المراد من لفظ الآية أمر، والمصداق الذي ينطبق عليه الحكم بحسب‏ الخارج أمر آخر، وقد كثر في القرآن الحكم أو الوعد والوعيد للجماعة، ومصداقه بحسب شأن النزول واحد كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت بلفظ الجمع ومصداقها بحسب شأن النزول مفرد.

7. ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾، ـ الابتهال‏ ـ من البهلة بالفتح والضم وهي اللعنة، هذا أصله ثم كثر استعماله في الدعاء والمسألة إذا كان مع إصرار وإلحاح.

8. ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ﴾، كالبيان للابتهال، وقد قيل: فنجعل، ولم يقل، فنسأل إشارة إلى كونها دعوة غير مردودة حيث يمتاز بها الحق من الباطل على طريق التوقف والابتناء.

9. ﴿الْكَاذِبِينَ﴾ مسوق سوق العهد دون الاستغراق أو الجنس إذ ليس المراد جعل اللعنة على كل كاذب أو على جنس الكاذب بل على الكاذبين الواقعين في أحد طرفي المحاجة الواقعة بينه صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين النصارى حيث‏ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الله لا إله غيره وإن عيسى عبده ورسوله، وقالوا: إن عيسى هو الله أو إنه ابن الله أو إن الله ثالث ثلاثة.. وعلى هذا فمن الواضح أن لو كانت الدعوى والمباهلة عليها بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين النصارى أعني كون أحد الطرفين مفردا والطرف الآخر جمعا كان من الواجب التعبير عنه بلفظ يقبل الانطباق على المفرد والجمع معا كقولنا: فنجعل لعنة الله على من كان كاذبا فالكلام يدل على تحقق كاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجة والمباهلة على أي حال: إما في جانب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإما في جانب النصارى، وهذا يعطي أن يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوى فإن الكذب لا يكون إلا في دعوى فلمن حضر مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم علي وفاطمة والحسنان عليه السلام شركة في الدعوى والدعوة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهذا من أفضل المناقب التي خص الله به أهل‏ بيت نبيه عليه السلام كما خصهم باسم الأنفس والنساء والأبناء لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم من بين رجال الأمة ونسائهم وأبنائهم.

10. سؤال وإشكال: قد مر أن القرآن يكثر إطلاق لفظ الجمع في مورد المفرد وأن إطلاق النساء في الآية مع كون من حضرت منهن للمباهلة منحصرة في فاطمة عليه السلام فما المانع من تصحيح استعمال لفظ الكاذبين بهذا النحو؟ والجواب: إن بين المقامين فارقا وهو أن إطلاق الآيات لفظ الجمع في مورد المفرد إنما هو لكون الحقيقة التي تبينها أمرا جائز التحقق من كثيرين يقضي ذلك بلحوقهم بمورد الآية في الحكم، وأما فيما لا يجوز ذلك لكون مورد الآية مما لا يتعداه الحكم، ولا يشمل غيره الوصف فلا ريب في عدم جوازه نظير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ﴾، وقوله تعالى: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ إلى أن قال: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وأمر المباهلة في الآية مما لا يتعدى مورده وهو مباهلة النبي مع النصارى فلو لم يتحقق في المورد مدعون بوصف الجمع في كلا الطرفين لم يستقم قوله: ﴿الْكَاذِبِينَ﴾ بصيغة الجمع البتة.

11. سؤال وإشكال: كما أن النصارى الوافدين على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحاب دعوى وهي أن المسيح هو الله أو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة من غير فرق بينهم أصلا ولا بين نسائهم وبين رجالهم في ذلك كذلك الدعوى التي كانت في جانب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهي أن الله لا إله إلا هو وأن عيسى بن مريم عبده ورسوله كان القائمون بها جميع المؤمنين من غير اختصاص فيه بأحد من بينهم حتى بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلا يكون لمن أحضره فضل على غيره غير أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أحضر من أحضر منهم على سبيل الأنموذج لما اشتملت عليه الآية من الأبناء والنساء والأنفس، على أن الدعوى غير الدعوة وقد ذكرت أنهم شركاء في الدعوة، والجواب: لو كان إتيانه بمن أتى به على سبيل الأنموذج لكان من اللازم أن يحضر على الأقل رجلين ونسوة وأبناء ثلاثة فليس الإتيان بمن أتى به إلا للانحصار وهو المصحح لصدق الامتثال بمعنى أنه لم يجد من يمتثل في الإتيان به أمره تعالى إلا من أتى وهو رجل وامرأة وابنان.. ولو تأملت القصة وجدت أن وفد نجران من النصارى إنما وفدوا على المدينة ليعارضوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويحاجوه في أمر عيسى بن مريم فإن دعوى أنه عبد الله ورسوله إنما كانت قائمة به مستندة إلى الوحي الذي كان يدعيه لنفسه، وأما الذين اتبعوه من المؤمنين فما كان للنصارى بهم شغل ولا لهم في لقائهم هوى كما يدل على ذلك قوله تعالى في صدر الآية: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ﴾، وكذا قوله تعالى ـ قبل عدة آيات ـ ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لله وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾، ومن هنا يظهر: أن إتيان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بمن أتى به للمباهلة لم يكن إتيانا بنحو الأنموذج إذ لا نصيب للمؤمنين من حيث مجرد إيمانهم في هذه المحاجة والمباهلة حتى يعرضوا للعن والعذاب المتردد بينهم وبين خصمهم، وإنما أتى صلّى الله عليه وآله وسلّم بمن أتى به من جهة أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان طرف المحاجة والمداعاة فكان من حقه أن يعرض نفسه للبلاء المترقب على تقدير الكذب فلولا أن الدعوى كانت قائمة بمن أتى به منهم كقيامها بنفسه الشريفة لم يكن لإتيانه بهم وجه فإتيانه بهم من جهة انحصار من هو قائم بدعواه من الأبناء والنساء والأنفس بهم لا من جهة الإتيان بالأنموذج فقد صح أن الدعوى كانت قائمة بهم كما كانت قائمة به، ثم إن النصارى إنما قصدوه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا لمجرد أنه كان يرى أن عيسى بن مريم عليه السلام عبد الله ورسوله ويعتقد ذلك بل لأنه كان يدعيه ويدعوهم إليه فالدعوة هي السبب العمدة التي بعثهم على الوفود والمحاجة فحضوره وحضور من حضر معه للمباهلة لمكان الدعوى والدعوة معا فقد كانوا شركاءه في الدعوة الدينية كما شاركوه في الدعوى كما ذكرناه.

12. سؤال وإشكال: هب أن إتيانه بهم لكونهم منه، وانحصار هذا الوصف بهم لكن الظاهر ـ كما تعطيه العادة الجارية ـ أن إحضار الإنسان أحباءه وأفلاذ كبده من النساء والصبيان في المخاطر والمهاول دليل على وثوقه بالسلامة والعافية والوقاية فلا يدل إتيانه‏ صلّى الله عليه وآله وسلّم بهم على أزيد من ذلك وأما كونهم شركاء في الدعوة فهو بمعزل عن أن يدل عليه فعله، والجواب: نعم صدر الآية لا يدل على أزيد مما ذكر لكنك قد عرفت أن ذيلها أعني قوله‏ ﴿عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾، يدل على تحقق كاذبين في أحد طرفي المحاجة والمباهلة البتة، ولا يتم ذلك إلا بأن يكون في كل واحد من الطرفين جماعة صاحبة دعوى إما صادقة أو كاذبة فالذين أتى بهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مشاركون معه في الدعوى وفي الدعوة كما تقدم فقد ثبت أن الحاضرين كانوا بأجمعهم صاحبي دعوى ودعوة معه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وشركاء في ذلك.

13. سؤال وإشكال: لازم ما ذكرته كونهم شركاء في النبوة، والجواب: كلا فقد تبين‏ فيما أسلفناه من مباحث النبوة أن الدعوة والتبليغ ليسا بعين النبوة والبعثة وإن كانا من شؤونها ولوازمها، ومن المناصب والمقامات الإلهية التي يتقلدها، وكذا تبين مما تقدم‏ من مبحث الإمامة أيضا أنهما ليسا بعين الإمامة وإن كانا من لوازمها بوجه.

14. {إِنَّ هذا لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ‏}، هذا إشارة إلى ما تقدم من قصص عيسى عليه السلام، والكلام مشتمل على قصر القلب أي ما قصصناه هو الحق دون ما تدعيه النصارى من أمر عيسى، وفي الإتيان بأنّ واللام وضمير الفصل تأكيد بالغ لتطييب نفس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتشجيعه في أمر المباهلة بإيقاظ صفة يقينه وبصيرته ووثوقه بالوحي الذي أنزله الله سبحانه إليه، ويتعقبه التأكيد الثاني بإيراد الحقيقة بلازمها وهو قوله: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ﴾ فإن هذه الجملة لازمة كون القصص المذكور حقا.

15. {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏} معطوف على أول الآية، وهو بما فيه من التأكيد البالغ تطييب آخر وتشجيع لنفس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إن الله لا يعجز عن نصرة الحق وتأييده، ولا أنه يغفل أو يلهو عن ذلك بإهمال أو جهل فإنه هو العزيز (فلا يعجز عما أراده) الحكيم (فلا يجهل ولا يهمل) لا ما عملته أوهام خصماء الحق من إله غير الله سبحانه، ومن هنا يظهر وجه الآيتان بالاسمين: ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، وأن الكلام مسوق لقصر القلب أو الإفراد.

16. ﴿فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾، لما كان الغرض من المحاجة وكذا المباهلة بحسب الحقيقة هو إظهار الحق لم يكن يعقل التولي عن الطريق لمريد الغرض والمقصد فلو كانوا أرادوا بذلك إظهار الحق وهم يعلمون أن الله سبحانه ولي الحق لا يرضى بزهوقه ودحوضه لم يتولوا عنها فإن تولوا فإنما هو لكونهم لا يريدون بالمحاجة ظهور الحق بل الغلبة الظاهرية والاحتفاظ على ما في أيديهم من حاضر الوضع، والسنة التي استحكمت عليه عادتهم، فهم إنما يريدون ما تزينه لهم أهواؤهم وهوساتهم من شكل الحياة، لا الحياة الصالحة التي تنطبق على الحق والسعادة فهم لا يريدون إصلاحا بل إفساد الدنيا بإفساد الحياة السعيدة فإن تولوا فإنما هو لأنهم مفسدون، ومن هنا يظهر أن الجزاء وضع فيه السبب مكان المسبب أعني الإفساد مكان عدم إرادة ظهور الحق، وقد ضمن الجزاء وصف العلم حيث قيل فإن الله عليم ثم أكد بأنّ ليدل على أن هذه الصفة متحققة في نفوسهم ناشبة في قلوبهم فيشعر بأنهم سيتولون عن المباهلة لا محالة، وقد فعلوا وصدقوا قول الله بفعلهم.

17. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بما يتوافق مع ما ذكره سابقا.

18. قال ابن طاووس في كتاب سعد السعود، رأيت في كتاب تفسير ما نزل من القرآن في النبي وأهل بيته تأليف محمد بن العباس بن مروان: أنه روى خبر المباهلة من أحد وخمسين طريقا عمن سماه من الصحابة وغيرهم، وعد منهم الحسن بن علي عليه السلام وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وبكر بن سمال وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس وأبا رافع مولى النبي وجابر بن عبد الله والبراء بن عازب وأنس بن مالك، وروي ذلك في المناقب، عن عدة من الرواة والمفسرين وكذا السيوطي في الدر المنثور.

19. من عجيب الكلام ما ذكره بعض المفسرين(2) حيث قال: (إن الروايات متفقة على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما، ويحملون كلمة نساءنا على فاطمة، وكلمة أنفسنا على علي فقط، ومصادر هذه الروايات الشيعة، ومقصدهم منها معروف، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة، ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم، وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي، ثم إن وفد نجران الذين قالوا: إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم، وكل ما يفهم من الآية أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إن يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا، ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى) إلى آخر كلامه.

20. هذا الكلام ـ وأحسب أن الناظر فيه يكاد يتهمنا في نسبته إلى مثله، واللبيب لا يرضى بإيداعه وأمثاله في الزبر العلمية ـ إنما أوردناه على وهنه وسقوطه ليعلم أن النزعة والعصبية إلى أين يورد صاحبه من سقوط الفهم ورداءة النظر فيهدم كل ما بنى عليه ويبني كل ما هدمه ولا يبالي، ولأن الشر يجب أن يعلم ليجتنب عنه، والكلام في مقامين.

أ. أحدهما: دلالة الآية على أفضلية علي عليه السلام، وهو بحث كلامي خارج عن الغرض الموضوع له هذا الكتاب، وهو النظر في معاني الآيات القرآنية.

ب. ثانيهما: البحث عما ذكره هذا القائل من حيث تعلقه بمدلول آية المباهلة، والروايات الواردة في ما جرى بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين وفد نجران، وهذا بحث تفسيري داخل في غرضنا.

21. عرفت ما تدل عليه الآية، وأن الذي نقلناه من الأخبار المتكثرة المتظافرة هو الذي يطابق مدلول الآية، وبالتأمل في ذلك يتضح وجوه الفساد في هذه الحجة المختلقة والنظر الواهي الذي لا يرجع إلى محصل، وهاك تفصيلها:

أ. منها: أن قوله: (ومصادر هذه الروايات الشيعة) ـ إلى قوله: (وقد اجتهدوا في‏ ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة)، بعد قوله: (إن الروايات متفقة)، ليت شعري أي روايات يعني بهذا القول؟

أمراده هذه الروايات المتظافرة التي أجمعت على نقلها وعدم طرحها المحدثون، وليست بالواحدة والاثنتين والثلاث أطبق على نقلها وتلقيها بالقبول أهل الحديث، وأثبتها أرباب الجوامع في جوامعهم، ومنهم مسلم في صحيحة والترمذي في صحيحة وأيدها أهل التاريخ، ثم أطبق المفسرون على إيرادها وإيداعها في تفاسيرهم من غير اعتراض أو ارتياب، وفيهم جمع من أهل الحديث والتاريخ كالطبري وأبي الفداء بن كثير والسيوطي وغيرهم ثم من الذي يعنيه من الشيعة المصادر لهذه الروايات؟ أيريد بهم الذين تنتهي إليهم سلاسل الأسناد في الروايات أعني سعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة؟ أو التابعين الذين نقلوا عنهم بالأخذ والرواية كأبي صالح والكلبي والسدي والشعبي وغيرهم، وأنهم تشيعوا لنقلهم ما لا يرتضيه بهواه فهؤلاء وأمثالهم ونظراؤهم هم الوسائط في نقل السنة، ومع رفضهم لا تبقى سنة مذكورة ولا سيرة مأثورة، وكيف يسع لمسلم أو باحث حتى ممن لا ينتحل بالإسلام أن يبطل السنة ثم يروم أن يطلع على تفاصيل ما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من تعليم وتشريع والقرآن ناطق بحجية قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وسيرته، وناطق ببقاء الدين على حيوته، ولو جاز بطلان السنة من رأس لم يبق للقرآن أثر ولا لإنزاله ثمر.

أو أنه يريد أن الشيعة دسوا هذه الأحاديث في جوامع الحديث وكتب التاريخ، فيعود محذور سقوط السنة، وبطلان الشريعة بل يكون البلوى أعم والفساد أتم.

ب. ومنها: قوله: (ويحملون كلمة {نِساءَنا} على فاطمة، وكلمة ﴿أَنْفُسَنَا﴾ على علي فقط)، مراده به أنهم يقولون بأن كلمة {نِساءَنا} أطلقت وأريدت بها فاطمة وكذا المراد بكلمة ﴿أَنْفُسَنَا﴾ علي فقط، وكأنه فهمه مما يشتمل عليه بعض الروايات السابقة قال جابر: {نِساءَنا} فاطمة و﴿أَنْفُسَنَا﴾ علي الخبر، وقد أساء الفهم فليس المراد في الآية بلفظ نسائنا فاطمة، وبلفظ أنفسنا علي بل المراد أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ لم يأت في مقام الامتثال إلا بها وبه كشف ذلك أنها هي المصداق الفرد لنسائنا، وأنه هو المصداق الوحيد لأنفسنا وأنهما مصداق أبنائنا، وكان المراد بالأبناء والنساء والأنفس في الآية هو الأهل فهم‏ أهل بيت رسول الله وخاصته كما ورد في بعض الروايات بعد ذكر إتيانه صلّى الله عليه وآله وسلّم بهم‏ إنه قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي)، فإن معنى الجملة أني لم أجد من أدعوه غير هؤلاء، ويدل على ما ذكرناه من المراد ما وقع في بعض الروايات: {أَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ‏} رسول الله وعلي، فإن اللفظ صريح في أن المقصود بيان المصداق دون معنى اللفظ.

ج. ومنها قوله: (ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة {نِساءَنا} لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم، وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي)، وهذا المعنى العجيب الذي توهمه هو الذي أوجب أن يطرح هذه الروايات على كثرتها ثم يطعن على رواتها وكل من تلقاها بالقبول، ويرميهم بما ذكره وقد كان من الواجب عليه أن يتنبه لموقفه من تفسير الكتاب، ويذكر هؤلاء الجم الغفير من أئمة البلاغة وأساتيذ البيان، وقد أوردوها في تفسيرهم وسائر مؤلفاتهم من غير أي تردد أو اعتراض، فهذا صاحب الكشاف ـ وهو الذي ربما خطأ أئمة القراءة في قراءتهم ـ يقول في ذيل تفسير الآية: (وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف: أنهم أجابوا إلى ذلك)، فكيف خفي على هؤلاء العظماء أبطال البلاغة وفرسان الأدب أن هذه الأخبار على كثرتها وتكررها في جوامع الحديث تنسب إلى القرآن أنه يغلط في بيانه فيطلق النساء (وهو جمع) في مورد نفس واحدة؟ لا وعمري، وإنما التبس الأمر على هذا القائل واشتبه عنده المفهوم بالمصداق فتوهم: أن الله عز اسمه لو قال لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ الآية وصح أن المحاجين عند نزول الآية وفد نجران وهم أربعة عشر رجلا على ما في بعض الروايات ليس عندهم نساء ولا أبناء، وصح أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج إلى مباهلتهم وليس معه إلا علي وفاطمة والحسنان كان لازم ذلك أن معنى من حاج وفد نجران، ومعنى نسائنا المرأة الواحدة، ومعنى أنفسنا النفس الواحدة، وبقي نساؤكم وأبناؤكم لا معنى لهما إذ لم يكن مع‏ الوفد نساء ولا أبناء! وكان عليه أن يضيف إلى ذلك لزوم استعمال الأبناء وهو جمع في التثنية وهو أشنع من استعمال الجمع في المفرد فإن استعمال الجمع في المفرد ربما وجد في كلام المولدين وإن لم يوجد في العربية الأصيلة إلا في التكلم لغرض التعظيم لكن استعمال الجمع في المثنى مما لا مجوز له أصلا، فهذا هو الذي دعاه إلى طرح الروايات ورماها بالوضع، وليس الأمر كما توهمه.

22. توضيح ذلك أن الكلام البليغ إنما يتبع فيه ما يقتضيه المقام من كشف ما يهم كشفه فربما كان المقام مقام التخاطب بين متخاطبين أو قبيلين ينكر أو يجهل كل منهما حال صاحبه فيوضع الكلام على ما يقتضيه الطبع والعادة فيؤتى في التعبير بما يناسب ذلك فأحد القبيلين المتخاصمين إذا أراد أن يخبر صاحبه أن الخصومة والدفاع قائمة بجميع أشخاص قبيله من ذكور وإناث وصغير وكبير فإنما يقول: نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال والظعائن والأولاد فيضع الكلام على ما تقتضيه الطبع والعادة فإن العادة تقتضي أن يكون للقبيل من الناس نساء وأولاد والغرض متعلق بأن يبين للخصم أنهم يد واحدة على من يخاصمهم ويخاصمونه، ولو قيل: نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال والنساء وابنين لنا كان إخبارا بأمر زائد على مقتضى المقام محتاجا إلى عناية زائدة وتعرفا إلى الخصم لنكتة زائدة، وأما عند المتعارفين والأصدقاء والأخلة فربما يوضع الكلام على مقتضى الطبع والعادة فيقال في الدعوة للضيافة والاحتفال: سنقريكم بأنفسنا ونسائنا وأطفالنا، وربما يسترسل في التعرف فيقال: سنخدمكم بالرجال والبنت والسبطين الصبيين، ونحو ذلك، فللطبع والعادة وظاهر الحال حكم، ولواقع الأمر وخارج العين حكم، وربما يختلفان، فمن بنى كلامه على حكاية ما يعلم من ظاهر حاله، ويقضي به الطبع والعادة فيه ثم بدا حقيقة حاله وواقع أمره على خلاف ما حكاه من ظاهر حاله لم يكن غالطا في كلامه، ولا كاذبا في خبره، ولا لاغيا هازلا في قوله.

23. الآية جارية على هذا المجرى فقوله: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ الآية أريد به على ما تقدم: أدعهم إلى أن تحضر أنت وخاصتك من أهلك الذين يشاركونك في الدعوى والعلم، ويحضروا بخاصتهم من أهليهم، ثم وضع الكلام على ما يعطيه ظاهر الحال أن لرسول الله في أهله رجالا ونساء وأبناء ولهم في أهليهم رجال ونساء وأبناء فهذا مقتضى ظاهر الحال، وحكم الطبع والعادة فيه وفيهم، أما واقع الأمر وحقيقته فهو أنه لم يكن له صلّى الله عليه وآله وسلّم من الرجال والنساء والبنين إلا نفس وبنت وابنان، ولم يكن لهم إلا رجال من غير نساء ولا أبناء، ولذلك لما أتاهم برجل وامرأة وولدين لم يجبهوه بالتلحين والتكذيب، ولا أنهم اعتذروا عن الحضور بأنك أمرت بإحضار النساء والأبناء وليس عندنا نساء ولا أبناء، ولا أن من قصت عليه القصة رماها بالوضع والتمويه، ومن هنا يظهر فساد ما أورده بقوله ثم وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساء ولا أبناء.

24. ومنها: قوله: (وكل ما يفهم من الآية أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا، ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا، ويبتهلون إلى الله بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى)ـ إلى قوله ـ: (وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى أن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه وإبعاده من رحمته؟ وأي جرأة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا؟)، وملخصه أن الآية تدعو الفريقين إلى الاجتماع بأنفسهم ونسائهم وذراريهم في صعيد واحد ثم الابتهال بالملاعنة، وينبغي أن يستبان ما هذا الاجتماع المدعو إليه؟ أهو اجتماع الفريقين كافة أعني المؤمنين بأجمعهم وهم يومئذ عرب ربيعة ومضر جلهم أو كلهم من اليمن والحجاز والعراق وغيرها، والنصارى وهم أهل نجران من اليمن ونصارى الشام وسواحل البحر الأبيض وأهل الروم والإفرنج والإنجليز والنمسا وغيرهم، وهؤلاء الجماهير في مشارق الأرض ومغاربها تربو نفوسهم بالرجال والنساء والذراري يومئذ على الملايين بعد الملايين ولا يشك ذو لب أن من المتعذر اجتماعهم في صعيد واحد فالأسباب العادية تأبى ذلك بجميع أركانها، ولازم ذلك أن يندب القرآن الناس إلى المحال، وينيط ظهور حجته، وتبين الحق الذي يدعيه على ما لا يكون البتة، وكان ذلك عذرا (ونعم العذر) للنصارى في عدم إجابتهم دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المباهلة، وكان ذلك أضر لدعواه منه لدعواهم، أم هو اجتماع الحاضرين من الفريقين ومن في حكمهم أعني المؤمنين من أهل المدينة وما والاها، وأهل نجران ومن والاهم، وهذا وإن كان أقل وأخف شناعة من الوجه السابق لكنه من حيث استحالة التحقق وامتناع الوقوع كسابقه فمن الذي كان يسعه يومئذ أن يجمع أهل المدينة ونجران قاطبة حتى النساء والذراري منهم في صعيد للملاعنة، وهل هذه الدعوة إلا تعليقا بالمحال، واعترافا بأن الحق متعذر الظهور، أم هو اجتماع المتلبسين بالخصام والجدال من الفريقين أعني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والحاضرين عنده من المؤمنين، ووفد نجران من النصارى، ويرد عليه حينئذ ما أورده بقوله: (ثم إن وفد نجران الذين قالوا: إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم، وكان ذلك وقوعا فيما ذكره من المحذور)

25. ومنها: قوله: (أما كون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى عليه السلام فحسبنا في بيانه قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين)، أقول: أما كون العلم فيها بمعنى اليقين فهو حق وأما كون الآية دالة على كون المؤمنين على يقين من أمر عيسى عليه السلام فليت شعري من أين له إثبات ذلك؟ والآية غير متعرضة بلفظها ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ﴾ الآية إلا لشأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومقام التخاطب أيضا لا يشمل غيره صلّى الله عليه وآله وسلّم من المؤمنين فإن الوفد من النصارى ما كان لهم هم إلا المحاجة والخصام مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يكن لهم هوى في لقاء المؤمنين، ولا كلموهم بكلمة، ولا كلمهم المؤمنون بكلمة، نعم لو دلت الآية على حصول العلم لأحد غير النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لدل فيمن جيء به للمباهلة على ما استفدناه من قوله تعالى: ﴿عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ فيما تقدم، بل القرآن يدل على عدم عموم العلم واليقين لجميع المؤمنين حيث يقول تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾، فوصفهم بالشرك وكيف يجتمع الشرك مع اليقين، ويقول تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ ـ إلى أن قال ـ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾، فاليقين لا يتحقق به إلا بعض أولي البصيرة من متبعي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال تعالى: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لله وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾

26. ومنها قوله وفي قوله‏ ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ الآية وجهان: أحدهما: أن كل فريق يدعو الآخر.. قد عرفت فساد وجهه الأول وعدم انطباقه على لفظ الآية إذ قد عرفت أن الغرض كان مستوفى حاصلا لو قيل: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، وإنما زيد عليه قوله: ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾، ليدل على لزوم إحضار كل من الفريقين عند المباهلة أعز الأشياء عنده وأحبها إليه وهو الأبناء والنساء والأنفس (الأهل والخاصة)، وهذا إنما يتم لو كان معنى الآية: ندعو نحن أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وتدعون أنتم أبناءكم ونساءكم وأنفسكم، ثم نبتهل، وأما لو كان المعنى ندعو نحن أبناءكم ونساءكم وأنفسكم وتدعون أنتم أبناءنا ونساءنا وأنفسنا ثم نبتهل بطل الغرض المذكور، على أن هذا المعنى في نفسه مما لا يرتضيه الطبع السليم فما معنى تسليط رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم النصارى على أبنائه ونسائه، وسؤاله أن يسلطوه على ذراريهم ونسائهم ليتداعوا فيتم الحضور والمباهلة مع تأتي ذلك بدعوة كل فريق أهل نفسه لها؟.. على أن هذا المعنى يحتاج في فهمه من الآية إلى فهم معنى التسليط وما يشابهه كما تقدم منها، وأنى لنا فهمه؟ فالحق أن هذا الوجه ساقط، وأن الوجه الآخر وهو أن يكون المراد دعوة كل أهل نفسه هو المتعين.

27. ومنها: قوله: ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس، وإنما الإشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص، يريد بالإشكال ما أورد على الآية من لزوم دعوة الإنسان نفسه، وهذا الإشكال غير مرتبط بشيء من الوجهين أصلا وإنما هو إشكال على القول بكون المراد بأنفسنا هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يحكى عن بعض المناظرات المذهبية حيث ادعى أحد الخصمين أن المراد بأنفسنا، رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأورد عليه بلزوم دعوة الإنسان نفسه وهو باطل تشير إليه الرواية الثانية المنقولة عن العيون فيما تقدم، ومن هنا يظهر سقوط قوله: إنما الإشكال فيه على قول الشيعة فإن قولهم على ما قدمنا: أن المراد بأنفسنا هو الرجال من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم بحسب المصداق رسول الله وعلي عليه السلام، ولا إشكال في دعوة بعضهم بعضا، فلا إشكال عليهم حتى على ما نسبه إليهم بزعمه: أن معنى أنفسنا علي فإنه لا إشكال في دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عليا عليه السلام.

28. وقال تلميذه في المنار، بعد الإشارة إلى الروايات: وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه: (﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾) الآية، قال فجاء بأبي بكر وولده، وعمر وولده، وعثمان وولده، قال والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين.. ثم قال بعد نقل كلام أستاذه المنقول سابقا: وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية، وهو مبني على اعتبار المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا ما استثني منها إلى آخر ما أطنب به من الكلام.. أقول: أما ما ذكره من الرواية فهي رواية شاذة تخالف جميع روايات الآية على كثرتها واشتهارها وقد أعرض عن هذه الرواية المفسرون، وهي مع ذلك تشتمل على ما لا يطابق الواقع وهو جعله لكل من المذكورين فيه ولدا، ولا ولد يومئذ لجميعهم البتة، وكأنه يريد بقوله: والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين، أن يستظهر من الرواية الدلالة على أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أحضر جميع المؤمنين وأولادهم فيكون قوله: فجاء بأبي بكر وولده.. إلخ كناية عن إحضاره عامة المؤمنين، وكأنه يريد به تأييد شيخة فيما ذكره من المعنى، وأنت ترى ما عليه الرواية من الشذوذ والإعراض والمتن ثم في الدلالة على ما ذكره من المعنى.. وأما ما ذكره من دلالة الآية على مشاركة النساء الرجال في الحقوق العامة فلو تم ما ذكره دل على مشاركة الأطفال أيضا، وفي هذا وحده كفاية في بطلان ما ذكره، وقد قدمنا الكلام في اشتراكهن معهم عند الكلام على آيات الطلاق.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/223.

(2) يقصد ما أوردناه سابقا عند ذكر ما ذكره محمد رشيد رضا

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ﴾ يا رسول لله ﴿فِيهِ﴾ في هذا القصص عن عيسى، أو في عيسى ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ بالحقيقة، وأن قد تيقنت الحق: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ﴾ من يعز علينا تعريضه للهلكة لنباهلكم، والمباهلة: أن نجعل {لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} منا أو منكم، وهو علام الغيوب، قد علم من هو الكاذب ليجعل لعنته عليه بدعاء الفريقين نحن وأنتم.

2. أخرج مسلم في (جامعه) المسمى (صحيح مسلم) بسنده عن سعد بن أبي وقاص من حديث، قال ولما نزلت هذه الآية: ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علياً، وفاطمة، وحسناً، وحسيناً، فقال: (اللهم هؤلاء أهلي)، وأخرجه بكامله أحمد بن حنبل في (المسند) وأخرجه الترمذي من شرح (جامع الترمذي) قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه)، وفي (تفسير ابن كثير) ما لفظة: (وقال أبو بكر بن مردويه:.. عن جابر، قال قدم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم العاقب والطيب، فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال فغدا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخذ بيد علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، ثم أرسل إليهما [فأبيا] أن يجيبا، وأقرّا له بالخراج، قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والذي بعثني بالحق لو قالا: لا، لأمطر الوادي عليهم ناراً)، قال جابر: فيهم نزلت: ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ قال جابر: ﴿وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلي بن أبي طالب، و﴿أَبْنَاءَنَا﴾ الحسن والحسين و﴿وَنِسَاءَنَا﴾ فاطمة، قال ابن كثير: وهكذا رواه الحاكم في (مستدركه) عن علي بن عيسى، عن أحمد بن محمد الأزهري، عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، عن داوود بن أبي هند به بمعناه، ثم قال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)، وهذا الحديث أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) بهذا السند وزاد فيه مع أحمد بن داوود المكي محمد بن زكريا الغلابي، قالا: حدثنا بشر بن مهران الخصاف.. إلى آخر السند والحديث، وفيه زيادة في القصة، وفيه: ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له وليس فيه (بالخراج) وفيه: فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما ناراً)، وقال الإمام زيد بن علي عليهما السلام في كتاب (الصفوة) بعد ذكره لهذه الآيات: (فلم يكن تبارك وتعالى يأمره أن يدعو أبناءه وليس له أبناء، فكان ابناه يومئذ الحسن والحسين عليهما السلام، ولم يكن له ابن يومئذ غيرهما).. ولـ (صاحب الكشاف) كلام حسن في تفسير (آية المباهلة) ثم قال بعده: (وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام، وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنه لم يروِ أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك)

3. {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ} فلا يشاركه في عزته أحد: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 93] فليس لعيسى شيء من الملك، والله هو ﴿الْحَكِيمُ﴾ وليس من الحكمة أن يجعل لنفسه شريكاً في ملكه حتى لا يبقى له إلا نصيبه.

4. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ فحسبك علمه بهم، فهو يكفيك وأمرهم إليه، وسيجازيهم بما أفسدوا، أي هؤلاء المكذبون بالحق في عيسى وفي توحيد الله تعالى.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/474.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَبْنَاءَنَا﴾: الذين ولدوا منا، وقد طبقه النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على الحسن والحسين عليهما السّلام باعتبار أنّهما ابناه، وقال أبو بكر الرازي: هذه الآية دالّة على‏ أن الحسن والحسين عليهما السّلام كانا ابني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعد أن يدعو أبناءه، فدعا الحسن والحسين، فوجب أن يكونا ابنيه.. فثبت أن ابن البنت قد يسمّى ابنا.

2. ﴿وَنِسَاءَنَا﴾: اللاتي ينتسبن إلينا، وقد أراد بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من ناحية تطبيقية ـ فاطمة الزهراء عليها السّلام باتفاق المفسرين.

3. ﴿وَأَنْفُسَنَا﴾: والمقصود بالكلمة الذين يجسّدون الذات في معنى التمثّل الحيّ لكل ما يمثله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من صفات روحية وأخلاقية وعملية، بحيث تكون الذات هي الذات حتى لتكاد تكون هي في المعنى والصورة من الداخل؛ وقد طبق النبي هذا العنوان على علي بن أبي طالب عليه السّلام فلا أحد يدعي دخول غيره مع زوجته وولديه.

﴿نَبْتَهِلْ﴾: نتضرع ونجتهد ويخلص كل منا في الدعاء إلى الله أن يلعن الكاذب منا، وقال صاحب مجمع البيان: قيل في الابتهال قولان: أحدهما: أنه بمعنى الالتعان.. والآخر: أنه بمعنى الدعاء بالهلاك، قال لبيد: (نظر الدهر إليهم فابتهل)، أي: دعا عليهم بالهلاك، فالبهل: كاللعن، وهو المباعدة عن رحمة الله عقابا على معصيته، ولذلك لا يجوز أن يلعن من ليس بعاص من طفل أو بهيم أو نحوهما، وقال صاحب لسان العرب: المباهلة: الملاعنة، يقال: باهلت فلانا، أي: لاعنته، ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا، وذكر بعضهم أن المباهلة من البهل، بمعنى الترك ورفع القيد، والباهل، أيضا، هي الناقة المخلّى ضرعها مكشوفا يرضع منه وليدها كيفما يشاء، والابتهال في الدعاء: الاسترسال فيه والتضرع إلى الله.. وربما كان تفسير الكلمة باللعن والموت والبعد عن الله من خلال مناسبة ذلك للكلمة، لأن هذه المعاني من نتائج ترك الله العبد وشأنه، وهذا هو المعنى الأصلي للكلمة، ثم غلب على تبادل الدعاء لله تعالى بلعن الكاذب كما هو المفهوم من الآية.

4. ورد في قصة الحوار الذي أداره النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع بعض النصارى من أهل الكتاب، أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد سلك مسلكا جديدا في معاجلة الموقف معهم بعد وصول الحوار إلى الطريق المسدود، وهو أسلوب المباهلة، الذي حدثتنا عنه هذه الآية الكريمة، أما قصة هذه الآية فتشرحها لنا عدة روايات قد تختلف في طولها وفي قصرها، ولكنها تتفق في الفكرة العامّة التي نريد أن نستخلصها منها؛ ولذا فإننا سنكتفي بذكر بعضها، وهي رواية المحدّث الجليل علي بن إبراهيم القمي التي رواها في تفسيره عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام، قال إن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وكان سيّدهم الأهتم والعاقب والسيّد ـ وحضرت صلواتهم، فأقبلوا يضربون الناقوس وصلّوا، فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا رسول الله، هذا في مسجدك؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: دعوهم، فلمّا فرغوا دنوا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: إلا م تدعو؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن عيسى عليه السّلام عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث، قالوا: فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: قل لهم: ما تقولون في آدم، أكان عبدا مخلوقا يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ فسألهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: نعم، قال فمن أبوه؟ فبهتوا، فأنزل الله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ الآية، وقوله: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ إلى قوله: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: فباهلوني، فإن كنت صادقا أنزلت اللعنة عليكم، وإن كنت كاذبا أنزلت عليّ، فقالوا: أنصفت، فتواعدوا للمباهلة، فلمّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم السيد والعاقب والأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبيا، وإن باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله، فإنه لا يقدم أهل بيته إلا وهو صادق، فلمّا أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام، فقال النصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمّه ووصيّه وختنه علي بن أبي طالب عليه السّلام، وهذه ابنته فاطمة عليها السّلام، وهذان ابناه الحسن والحسين عليهما السّلام، ففرقوا فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: نعطيك الرضى فاعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على الجزية وانصرفوا)

5. لعل قيمة هذه القصة، أنها تجسد لنا الأسلوب الإسلامي في الحوار؛ حين يريد الاحتجاج لفكره من جهة، ومواجهة الأفكار المضادة من جهة أخرى، وتعرّفنا مبلغ التسامح الإسلامي الذي يريد لأتباعه أن يمارسوه مع الآخرين، انطلاقا من الممارسات النبوية الرائعة، من مركز القوة لا من مركز الضعف، فقد قدم هؤلاء إلى مركز الإسلام القويّ، من أجل أن يناقشوا الدين الجديد، فأعطاهم النبي كل الحرية في ذلك، إلى مستوى السماح لهم بأداء طقوسهم وعباداتهم في مسجد النبي تحت سمعه وبصره في مجتمع المسلمين الكبير، حتى أن النبي لم يستجب لتساؤلهم وإنكارهم لذلك، بل طلب منهم أن يتركوا لهم الحرية في ذلك، ليشعرهم ـ على الطبيعة ـ كيف يحافظ الإسلام على مشاعر الآخرين وحرياتهم في الإطار العام للنظام الكامل، وليعطيهم انطباعا ذاتيا، أنه لا يؤمن بالقوة كسبيل من سبل إدخال الآخرين في الإسلام من دون اقتناع منهم بذلك، وهكذا كان، وبدأ النبي حوارة معهم من موقع الدليل والحجة والبرهان، كما تنقله لنا القصة.. سؤالا وجوابا في حوار هادئ قويّ، يستجيب للسؤال في البداية، ثم يطرح السؤال عليهم من جديد ليلزمهم بالحجة من خلال ذلك.

6. قد نفهم من الآية الكريمة، أن الحوار لم يقتصر على هذا الجانب فحسب، بل تعداه إلى جميع الجهات التي يختلف فيها المسلمون والمسيحيون في نظرتهم إلى عيسى عليه السّلام، وإلى الطبيعة الاعتقادية، لأن الآية تتناول المحاجة فيه بكل ما جاءه من العلم، ويظهر من الآية ومن جوّ القصة أن هؤلاء لم يريدوا الاقتناع، بل دخلوا في جدل عقيم لا يحقّق أيّ هدف، ولا يصل إلى أية نتيجة؛ مما دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى طرح المباهلة عليهم، كأسلوب من أساليب التأثير النفسي الذي يشعرهم بالثقة المطلقة بالعقيدة الإسلامية وبمفاهيم الدعوة الجديدة.. حتى أن النبي كان مستعدا لأن يعرّض نفسه للموقف الصعب عندما يقف مع أهل بيته ليواجهوا الآخرين بالوقوف بين يدي الله في ما تنازعوا فيه، فيطلبون منه ـ سبحانه ـ أن يجعل اللعنة على الكافرين.

7. وقد أراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يزيد الموقف تأثيرا في الإيحاء النفسي لدى الآخرين بالثقة، فلم يقتصر على تقديم نفسه للمباهلة والملاعنة، بل طرح القضية على أساس اشتراك أهل بيته معه في ذلك، مع أن بإمكانه أن يحصر الأمر بنفسه، دون أن يترك ذلك أيّ تأثير سلبيّ في الموقف، ولكنه ـ كما أشرنا ـ أراد أن يعطيهم الإيحاء بالاطمئنان الكامل بصدق دعواه، لأن الإنسان قد يعرّض نفسه للخطر، ولكنه لا يعرض أبناءه وأهل بيته لما يعرّض له نفسه ممّا يمكن أن يتفاداه، ولهذا أدرك القوم الموضوع وأبعاده، فاهتزّت أعماقهم بالخوف من الخوض في هذه التجربة التي تستتبع اللعنة الفعلية التي تتجسد في عذاب الله وعقابه، فأقلعوا عن الأمر وقبلوا الصلح.

8. ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ﴾ ـ في عيسى ـ في أنه (هو الله)، وأنه (ابن الله)، (وأن الله ثالث ثلاثة) ولم يبلغ الحوار نهايته الفكرية في قناعتهم الوجدانية، أو أنه عبد الله ورسوله، وأن الله لا إله إلا هو الأحد، ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 3 ـ 4]، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ الذي قدمته إليهم من القرآن والآيات البينات على الحق، فليكن للمحاججة أسلوب آخر حاسم تنطلق فيه من موقع التحدي الكبير الذي يقف فيه الإنسان بين يدي الله في مواجهته للإنسان الآخر في قضية العقيدة المرتبطة بقضية الإيمان بالله في مضمونه التوحيدي الحقيقي، وهو الأسلوب الذي أخلص الإنسان في الأخذ به والاستعداد لنتائجه السلبية، التي قد تمثل الخطر عليه وعلى من يتصل به ممن يقدمهم أمامه من أهله ليكونوا طرفا في المباهلة، فهذا ما يمثل النهاية الحاسمة التي تتمثل في الواقع الإيجابي المنفتح لصاحب الحق والواقع السلبي المنغلق في حياة المضاد للحق.

9. ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا﴾ يا نصارى نجران، هلموا إلى موقف آخر يتمثل فيه العمق العميق للرأي القوي والعزيمة الحازمة، ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا﴾ الذين يجسدون أعمق علاقة حميمة يعيشها الإنسان في علاقته بالناس، بحيث تتصل حياته بامتداد حياتهم وعاطفته بالمعنى العميق لوجودهم؛ فيتعب ليرتاحوا، ويجوع ليشبعوا، ويظمأ ليرتووا، ويضحي بحياته ليعيشوا بعده.. وها أنا أقدم بين يديّ للمباهلة ولديّ الحسن والحسين اللذين يمثلان كل حبي في العاطفة، وكل شعوري في المحبة وأملي بمستقبل الرسالة، فهما سيدا شباب أهل الجنة، وريحانتاي في الدنيا.

10. قال صاحب مجمع البيان: (أجمع المفسرون على أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين عليهما السّلام، قال أبو بكر الرازي: هذا يدل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن ولد الابنة ابن في الحقيقة، وقال ابن أبي علان ـ وهو أحد أئمة المعتزلة ـ: هذا يدل على أن الحسن والحسين كانا مكلّفين في تلك الحال لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين، وقال أصحابنا: إن صغر السن ونقصانها عن حدّ بلوغ الحلم لا ينافي كمال العقل، وإنما جعل بلوغ الحلم حدّا لتعلق الأحكام الشرعية، وقد كان سنّهما في تلك الحال سنّا لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل، على أن عندنا يجوز أن يخرق الله العادات للأئمة ويخصهم بما لا يشركهم فيه غيرهم، فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن، لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم ودلالة على مكانهم من الله تعالى واختصاصهم، ومما يؤيده من الأخبار قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا)

11. ونلاحظ على هذا الحديث حول البلوغ وكمال العقل كشرط للمباهلة، أن مثل هذا الحديث في الجدل الدائر فيه، يتوقف على أن يكون الحسنان عليهما السّلام طرفين مستقلين في المباهلة، كما لو كانا هما اللذان يتوليانها في مقابل نظائرهما من الآخرين ليباهل الرجال الرجال والنساء النساء والأبناء الأبناء؛ ولكن يمكن أن تكون المسألة واردة على أساس أن يقدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وهو واثق بأن الحق معه وأن النتيجة الحاسمة الإيجابية ستكون له ـ ابنيه وابنته وابن عمه، ليكونوا طرفا في الابتهال وفريقا في النتائج الحاسمة الأخيرة، بعيدا عما إذا كانوا مشاركين في التحدي؛ والله العالم.

12. ﴿وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ ممن تختارون منهم للحضور والابتهال في هذا الموقف الصعب، ﴿وَنِسَاءَنَا﴾ اللاتي يمثلن أقرب موقع للانتماء الإنساني الروحي من النساء في حياتنا الخاصة، وها أنا أقدم بين يدي ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين، التي هي بضعة مني، يريبني ما رابها ويغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها، لأن غضبها في مواقع غضب الله ورضاها في مواقع رضاه، إنني أقدمها في هذا التحدي الكبير للدلالة على أنني على يقين من صدق دعوتي، لأن الإنسان لا يقدم أحبّ الناس لديه في مواقع احتمال الخطر إلا إذا كان واثقا من النجاة.

13. ﴿وَنِسَاءَكُمْ﴾ ممن تختارون من النساء في مجتمعكم الخاص ﴿وَأَنْفُسَنَا﴾ ممن هم في موقع النفس من حيث المنزلة والمحبة والإعزاز، وهو عليّ عليه السّلام لأنه يمثل الصورة الحية الصّادقة لكل الكمالات والتطلعات والسلوكيات والملكات التي أمثلها، لأنني ربيته وأنشأته منذ طفولته على صورتي في أخلاقي وروحياتي وأقوالي وأمثالي، فكان مني بمنزلة النفس من النفس، والذات من الذات، والروح من الروح، والعقل من العقل.. وليس هناك في الساحة غير عليّ عليه السّلام الذي عاش معي كما لم يعش أحد غيره معي، وكان مني (بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)، ﴿وَأَنْفُسِكُمْ﴾ ممّن يمثلون وجودكم وذواتكم في حياتكم الخاصة، ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ وندعو الله ونجتهد في الإخلاص له والخضوع بين يديه، ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ منا ومنكم، فذلك هو الذي ينتهي بالأمور إلى نهاياتها الأخيرة من دون نزاع ولا خصام.

14. جاء في تفسير الكشاف للزمخشري (وعن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة، ثم عليّ، ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [الأحزاب: 33]، فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى‏ المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة، وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمّون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق، وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبّه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدّمون على الأنفس مفدون بها، وفيها دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السّلام، وفيه برهان واضح على صحة نبوّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك)

15. وقال صاحب التفسير الكبير الفخر الرازي: (واعلم أن هذه الرواية ـ أي رواية المباهلة ـ كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث)

16. سؤال وإشكال: أثار بعض المفسرين علامة استفهام حول نزول هذه الآية في أهل البيت بلحاظ صيغة الجمع الواردة في ﴿أَبْنَاءَنَا﴾ ﴿وَنِسَاءَنَا﴾ ﴿وَأَنْفُسَنَا﴾ التي لا تصدق إلا على ما زاد عن اثنين، فكيف تنطبق الأولى على الحسن والحسين عليهما السّلام، والثانية على سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السّلام، والثالثة على أمير المؤمنين علي عليه السّلام؟ والجواب: إن القيمة التكريمية المميزة كانت من خلال تطبيق الجمع على هؤلاء واقتصاره عليهم، في الوقت الذي يمكن للكلمة ـ في ذاتها ـ أن تنطبق على أكثر من ذلك، فلم تكن الكلمات المذكورة واردة في هؤلاء على نحو اختصاص المضمون اللغوي بهم بل من خلال اختصاص الاختيار النبوي ـ بوحي الله ـ بهم، وهذا أمر وارد في أكثر من آية، حيث تأتي الآية بصيغة الجمع لتأكيد المبدأ العام الشامل لكلّ الأفراد من حيث القاعدة مع أن المصداق واحد كما ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ [آل عمران: 173]، فقد ذكر فريق من المفسرين أن القائل هو نعيم ابن مسعود، لأنه كان قد أخذ أمرا من أبي سفيان لتخويف المسلمين من المشركين، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: 181]، فقد ذكر في كلام المفسرين أن القائل هو حيي بن أخطب أو فنحاص، وذلك باعتبار أن اليهود الآخرين يتفقون معه في هذا القول أو يرضون به مما يجعل قوله قولهم، ونحو ذلك من الآيات والكلمات المروية عن كلام العرب التي تنطلق في موقع الفرد الواحد ليتحدث عنها بصيغة الجمع من أجل الإيحاء بأن المسألة لا تقتصر عليه بل تتعداه ـ من خلال الذهنية المشتركة بينه وبين فريقه ـ إلى الفريق كله.

17. أمّا في هذه الآية، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بتوجيه من الله تعالى له، ـ أراد له أن يؤكد المباهلة في خط التحدي الكبير في موقع الاستعداد لتعريض أعز الناس عليه للخطر الآتي من النتائج السلبية المطروحة في ساحة المباهلة بهلال الكاذب، وأطلق الحديث عن الأبناء والنساء والأنفس ممن يختص به لإطلاق المبدأ في هذه العناوين، فكأنه يريد أن يقول لهم إنه على استعداد لدعوة هؤلاء بكل ما يمثلونه من عمق عاطفي في نفسه إلى المباهلة، للتدليل على صدق‏ دعوته من دون التحديد في عنوان الدعوة، ولكنهم كانوا محدّدين في نفسه بأشخاص معينين، لأنهم هم المفضلون لديه، القريبون إليه، الأثيرون عنده.

18. نلاحظ ـ هنا ـ إقرار المضمون النسبي الذي يجعل أبناء البنت منتسبين إلى أبيها باعتبار استواء النسب ـ من جهة الولد والبنت ـ إليه، فلم يفرق القرآن الكريم بين أبناء الابن وأبناء البنت، وأبطل النظرة الجاهلية التي كانت تعتبر أبناء الابن ـ وحدهم ـ هم الأبناء، بينما لا تعتبر أبناء البنت أبناء، وذلك ما عبر عنه الشاعر:

çبنونا بنو أبنائنا وبناتنا...بنوهنّ أبناء الرجال الأباعدé

لأنهم يرون المرأة ـ الأم ـ مجرد وعاء لا دور لها في الانتساب من حيث التكوين، وهذا خطأ في التحليل الواقعي، فإن الولد ـ ذكرا كان أو أنثى ـ يولد من خلال نطفة الأب وبويضة الأم، بحيث يكون نسبته إليهما على حد سواء في طبيعة خلقه وتكوينه، وقد جاء في القرآن الكريم اعتبار عيسى عليه السّلام من ذريته إبراهيم عليه السّلام مع أنه يرتبط به وينتسب إليه من خلال أمه مريم عليها السّلام وذلك هو قوله تعالى: {ووَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ونُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ومِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وسُلَيْمانَ وأَيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسى‏ وهارُونَ وكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وزَكَرِيَّا ويَحْيى‏ وعِيسى‏ وإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام: 84 ـ 85]، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾ [النساء: 23] الذي استفاد منه العلماء حرمة زواج الجد بزوجة حفيده وابن الابن، وسبطه، وابن البنت، لصدق كونها حليلة الابن في الجميع على حدّ سواء.

19. إذا كانت الآية مختصة بالنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في الواقعة الخاصة مع وفد نصارى نجران، فإنها لا تختص ظاهرا به، بل يمكن أن تنطلق في كل مورد مماثل لم يصل فيه الحوار إلى نهاية حاسمة لعدم استعداد الطرف الآخر للاقتناع بالحجة ـ بعد إقامتها عليه ـ فتكون المباهلة هي الخيار الأخير في ساحة التحدي، فإن الله قد طرح المسألة على رسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من خلال أنها وسيلة من وسائل المواجهة لإسقاط موقف الآخرين في خط الباطل لمصلحة موقف الحق، لا لخصوصية في المورد الخاص، وقد ورد في الرواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام أنه قال إذا كان ذلك ـ أي إذا لم يقبل المعاندون للحق ـ فادعهم إلى المباهلة قلت: وكيف أصنع؟ فقال: أصلح نفسك ثلاثا، وأظنه قال: صم واغتسل وابرز أنت وهو إلى الجبّان، فشبّك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه، وابدأ بنفسك فقل: اللهم رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم؛ إن كان (فلان) جحد حقا وادعى باطلا، فأنزل عليه حسبانا من السماء أو عذابا أليما، ثم ردّ الدعوة عليه، فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه‏.

20. {إِنَّ هذا لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُ‏} الذي يقص عن الحق، ويؤكد مفاهيمه ويقود إلى الهدى، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذلك هو دور القصة في حياة الإنسان، فليست لهوا ولا عبثا ولا حاجة لمل‏ء الفراغ، بل هي خط للوعي، ومنطلق للهدى، وحاجة للانفتاح على حقائق العقيدة والحياة في واقع المعرفة الإنسانية، حيث يؤكد القرآن للرسول وللمؤمنين، أنّ قصّة عيسى عليه السّلام التي أوضحها الله سبحانه في كتابه، في موضوع بشريته التي تبتعد به عن الألوهية في أي جانب من الجوانب، هي الحق الذي لا مجال لإنكاره، لأنه يرتكز على منطق العقل ومنطق الوحي، فإن الله هو الإله الواحد الذي لا شريك له، وهو العزيز الذي لا ينال أحد من عزّته في أي شأن من شؤون القوة، لأن القوة له في كل شيء، وهو الحكيم في ما يقدره في خلقه من تنوّع الأسباب في مظاهر قدرته في خلق الإنسان في نموذج آدم وعيسى وبقيّة أفراد الإنسان، فإنّ هذا هو الحق، فادع إليه ـ يا محمد ـ وأثر لهم كل أساليب الإقناع في ما ألهمك الله من الحجة والبرهان.

21. ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ﴾ فهذه هي الحقيقة التوحيدية التي تنفي كل ربوبية لغيره، لأنه ـ وحده ـ الخالق لكل شيء، فكيف يكون المخلوق له شريكا في ربوبيته، {وإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏} الذي تنطلق عزته من قوّته وقدرته، فلا يملك أحد أن ينقص منها، وتتحرك حكمته من علمه فلا يعزب عنه شيء، وقد تحدث الله عن عزته وحكمته ـ هنا ـ للتدليل على أن الإله لا بد من أن يكون العزيز في كل مواقع العزة، فلا يملك أحد القوة معه أو فوقه، ولا بد من أن يكون الحكيم لينطلق خلقه في السنّة الإلهية التي تعطي كل موجود حاجته وتضع كل شيء موضعه، لينتظم الوجود كله بكل موجوداته في النظام الكوني الذي تتكامل فيه الأشياء، فلا ينحرف بعضها عن الخط بحيث يؤدي إلى اختلال الخلق كله.

22. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأعرضوا فلم ينفتحوا عليك من خلال الدعوة، ولم يستجيبوا لك في خط الحوار الذي يوصل المتحاورين إلى الحقيقة، وذلك بالهروب منه، أو بالدخول في الجدل الفارغ والمهاترات وغير ذلك مما لا يؤدي إلى نتيجة، فلا تلتفت إلى إعراضهم، ولا تضعف أمام ذلك كله، فإن ذلك سوف يعبر عن حقيقة سلبية في مضمون إنسانيتهم في الطاقات التي منحهم الله إياها، وجعلها في تصرفهم وطوع إرادتهم، ليوجهوها إلى الصلاح ليقوموا بإصلاح أنفسهم في معنى العقيدة، وحياتهم في خط الشريعة، وعلاقاتها بالكون والحياة وببعضهم البعض، في امتداد الحياة، وإصلاح الواقع من حولهم من خلال دورهم الفاعل‏ في الحركة والبناء، ووجّههم إلى توحيده باعتباره الفكر الذي يمثل إشراقة الوعي الكامل في وجدانهم، لينطلقوا، في وجودهم من معنى الوحدة في الإله إلى الوحدة في المسؤولية من خلال وحدة الإنسان في دوره الريادي في الأرض، ليتجه الكون كله ـ ولا سيما الكون الحيّ في وجود الإنسان ـ إلى غاية واحدة، وشريعة واحدة، ونهج واحد، من خلال الله الذي يقف الناس كلهم في موقع الطاعة له والعبودية له، والسير في طريقه المستقيم، لأن ذلك هو سبيل الإصلاح، فإن تعدد الآلهة يؤدي إلى فساد الذهنية الحركية في الواقع كله، فإذا واجهت أمثال هؤلاء الذين لا يعيشون الفكر مسئوليّة، والصلاح هدفا ودورا، ورأيتهم غافلين عما فيه نجاتهم وصلاح أمرهم، فأعرض عنهم واترك أمرهم لله، ﴿فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ الذين يفسدون الأرض بعد إصلاحها بإفساد العقيدة وإفساد الحياة من خلال ما يثيرونه من عقائد الباطل وأساليب الضلال، وهو قادر على أن يعاقبهم بما يستحقون بعد أن قامت عليهم الحجة من جميع الجهات، والله لا يحب المفسدين.

23. الدرس الذي نستفيده من ذلك كله، هو العمل على توظيف الجانب الإيماني، بعد ممارسة الجوانب العملية والفكرية، في الحوار الهادئ العميق بين الإسلام وخصومه، انطلاقا من الفكرة الحاسمة الواقعية التي تقول: إن على الداعية أن لا يهمل أي عنصر من عناصر التأثير على الآخرين في إيصالهم إلى الحقيقة؛ أو في الإيحاء إليهم بالاطمئنان إلى قوة هذه الحقيقة.. حتى ليقف الإنسان في أشدّ المواقف حراجة في مجالات التحدي لثقته بأن الدعوة في المستوى القوي لمواجهة التحدي بأقوى منه.

24. أثار علماء التفسير حديثا مطوّلا حول دلالة هذه الآية على بعض الجوانب الخلافية التي وقعت مجالا للأخذ والرد، وذلك مثل مصداقية كلمة ﴿أَبْنَاءَنَا﴾ على الحسن والحسين عليهما السّلام، مما يوحي بأن ولد البنت يعتبر مصداقا لمفهوم الابن.. ودلالتها بلحاظ التطبيق، على أن علي بن أبي طالب عليه السّلام هو نفس النبي، لأن النبي قدّمه في المباهلة من خلال هذه الصفة، ثم يتفرع الحديث في اتجاه دلالة الآية على أن هؤلاء الذين قدمهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للمباهلة لهم علاقة بحركة الدعوة، ولو في نطاق الوصية والتبليغ، إذ إنه اعتبرهم ـ معه ـ فريقا في النتيجة الحاسمة على تقدير الصدق أو الكذب، ولذا جاء بكلمة ﴿الْكَاذِبِينَ﴾ بصيغة الجمع، وقد كثر الحديث والجدال في هذا الموضوع في بعض كتب التفسير، كتفسير المنار الذي كان يدافع عن فكرة عدم دلالتها على أي شيء يتعلق بموضوع الإمامة، وكتفسير الميزان الذي يدافع عن فكرة دلالتها على هذا الموضوع ويعالجها بأسلوب علمي دقيق، ونحن لا نريد الخوض في هذا المجال، بل نكتفي بالإشارة إلى ذلك ليرجع إليه القارئ في مظانه، لأن منهج التفسير لدينا يتحرك في إطار الوحي القرآني لحركة الدعوة في الحياة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/62.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد الآيات التي استدلّ فيها على بطلان القول بالوهية عيسى بن مريم، يأمر الله نبيّه بالمباهلة إذا جاءه من يجادله من بعد ما جاء من العلم والمعرفة، وأمره ان يقول لهم: إنّي سأدعو أبنائي، وأنتم ادعوا أبناءكم، وأدعو نسائي، وأنتم ادعوا نساءكم، وأدعو نفسي، وتدعون أنتم أنفسكم، وعندئذ ندعو الله أن ينزل لعنته على الكاذب منّا ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾

2. لا حاجة للقول بأنّ القصد من المباهلة لم يكن إحضار جمع من الناس للّعن، ثمّ ليتفرّقوا كلّ إلى سبيله، لأنّ عملا كهذا لن يكون له أيّ تأثير، بل كان المنتظر أن يكون لهذا الدعاء واللعن أثر مشهود عيانا فيحيق بالكاذب عذاب فوري، وبعبارة أخرى: فإنّ المباهلة ـ وإن لم يكن في الآية ما يشير إلى تأثيرها ـ كانت بمثابة (السهم الأخير) بعد أن لم ينفع المنطق والاستدلال، فإنّ الدعاء وحده لم يكن المقصود بها، بل كان المقصود منها هو (أثرها الخارجي)

3. لعلّ قضية المباهلة بهذا الشكل لم تكن معروفة عند العرب، بل كانت أسلوبا يبيّن صدق النبيّ وإيمانه بشكل قاطع، إذ يكف يمكن لمن لا يؤمن كلّ الإيمان‏ بعلاقته بالله أن يدخل هذا الميدان، فيطلب من معارضيه ان يتقدّموا معه إلى الله يدعونه أن ينزل لعناته على الكاذب، وأن يروا سرعة ما يحلّ بالكاذب من عقاب؟ لا شكّ أنّ دخول هذا الميدان خطر جدّا، لأنّ المبتهل إذا لم يجد استجابة لدعائه ولم يظهر أيّ أثر لعقاب الله على معارضيه، فلن تكون النتيجة سوى فضيحة المبتهل، فكيف يمكن لإنسان عاقل ومدارك أن يخطو مثل هذه الخطوة دون أن يكون مطمئنا إلى أنّ النتيجة في صالحه؟ لهذا قيل إنّ دعوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المباهلة تعتبر واحدا من الأدلّة على صدق دعوته وإيمانه الراسخ بها، بصرف النظر عن النتائج التي كانت ستكشف عنها المباهلة.

4. تقول الروايات الإسلامية: عند عرض هذا الاقتراح للمباهلة، طلب ممثّلو مسيحيّي نجران من رسول الله أن يمهلهم بعض الوقت ليتبادلوا الرأي مع شيوخهم، فكان لهم ما أرادوا، وكانت نتيجة مشاورتهم ـ التي تعتمد على ناحية نفسية ـ هي أنّهم أمروا رجالهم بالدخول في المباهلة دون خوف إذا رأوا محمّدا قد حضر في كثير من الناس ووسط جلبة وضوضاء، إذ أنّ هذا يعني أنّه بهذا يريد بثّ الرعب والخوف في النفوس وليس في أمره حقيقة، أمّا إذا رأوه قادما في بضعة أنفار من أهله وصغار أطفاله إلى الموعد، فليعلموا أنّه نبيّ الله حقّا، وليتجنّبوا مباهلته، وقد حضر المسيحيّون إلى المكان المعيّن، ثمّ رأوا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أقبل يحمل الحسين على يد ويمسك الحسن باليد الأخرى ومن خلفه علي وفاطمة، وهو يطلب منهم أن يؤمّنوا على دعائه عند المباهلة، وإذ رأى المسيحيّون هذا المشهد استولى عليهم الفزع، ورفضوا الدخول في المباهلة، وقبلوا التعامل معه بشروط أهل الذمّة.

5. يصرّح المفسّرون من الشيعة والسنّة أنّ آية المباهلة قد نزلت بحقّ أهل بيت‏ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنّ الذين اصطحبهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم معه للمباهلة بهم هم: الحسن والحسين وفاطمة وعلي عليهم السّلام، وعليه، فإنّ (أبناءنا) الواردة في الآية ينحصر مفهومها في الحسن والحسين عليهم السّلام، ومفهوم (نساءنا) ينحصر في فاطمة عليها السّلام، ومفهوم (أنفسنا) ينحصر في علي عليه السّلام، وهناك أحاديث كثيرة بهذا الخصوص.

6. حاول بعض أهل السنّة أن ينكر وجود أحاديث في هذا الموضوع، فصاحب تفسير المنار يقول في تفسير الآية: (الروايات متّفقة على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم اختار للمباهلة عليّا وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة (نساءنا) على فاطمة وكلمة (أنفسنا) على عليّ فقط، ومصادر هذه الروايات شيعية، ومقصدهم منها معروف، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتّى راجت على كثير من أهل السنّة)، ولكن بالرجوع إلى مصادر أهل السنّة الأصلية يتّضح أنّ الكثير من تلك الطرق لا تنتهي بالشيعة وبكتب الشيعة، وإنكار هذه الأحاديث الواردة بطريق أهل السنّة، يسقط سائر أحاديثهم وكتبهم من الاعتبار.

7. ذكر هنا بعض الموارد التي ورد فيها حديث المباهلة، ومواقف علماء المدرسة السنية منها.

8. سؤال وإشكال: هنا اعتراض مشهور أورده الفخر الرازي وآخرون على نزول هذه الآية في أهل البيت، يقول هؤلاء: كيف يمكن أن نعتبر أنّ القصد من (أبناءنا) هو الحسن والحسين عليهما السّلام مع أنّ (أبناء) جمع ولا تطلق على الاثنين؟ وكذلك (نساءنا) جمع، فكيف تطلق على سيّدة الإسلام فاطمة عليها السّلام وحدها؟ وإذا كان القصد من (أنفسنا) عليّا عليه السّلام وحده فلما ذا جاء بصيغة الجمع؟ والجواب:

أ. أوّلا: كما سبق أن شرحنا بإسهاب، أنّ هناك أحاديث كثيرة في كثير من المصادر الإسلامية الموثوق بها ـ شيعية وسنّية ـ تؤكّد نزول هذه الآية في أهل البيت، وهي كلّها تقول إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يدع للمباهلة غير علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام، هذا بذاته قرينة واضحة لتفسير الآية، إذ أنّ من القرائن التي تساعد على تفسير القرآن هي السنّة وما ثبت من أسباب النزول، وعليه، فإنّ الاعتراض المذكور ليس موجّها للشيعة فقط، بل أنّ على جميع علماء الإسلام أن يجيبوا عليه، بموجب ما ذكرناه آنفا.

ب. ثانيا: إطلاق صيغة الجمع على المفرد أو المثنى ليس أمرا جديدا فهو كثير الورود في القرآن وفي غير القرآن من الأدب العربي، وحتى غير العربي، من ذلك مثلا أنّه عند وضع قانون، أو إعداد اتّفاقية، تستعمل صيغة الجمع على وجه العموم، فمثلا، قد يقال في اتّفاقية: إنّ المسؤولين عند تنفيذها هم الموقّعون عليها وأبناؤهم، في الوقت الذي يمكن أن يكون لأحد الأطراف ولد واحد أو اثنين، فلا يكون في هذا أيّ تعارض مع تنظيم الاتّفاقية بصيغة الجمع، وذلك لأنّ هناك مرحلتين، مرحلة (الاتفاق) ومرحلة (التنفيذ)، ففي المرحلة الأولى قد تأتي الألفاظ بصيغة الجمع لكي تنطبق على جميع الحالات، ولكن في مرحلة التنفيذ قد تنحصر الحالة في فرد واحد، وهذا لا يتنافى مع عمومية المسألة، وبعبارة أخرى: كان على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بموجب اتفاقه مع مسيحيّي نجران، أن يدعو للمباهلة جميع أبنائه وخاصّة نسائه وجميع من كانوا بمثابة نفسه، إلّا أنّ مصداق الاتّفاق لم ينطبق إلّا على ابنين وامرأة ورجل.

ج. في القرآن مواضع متعدّدة ترد فيها العبارة بصيغة الجمع، إلّا أنّ مصداقها لا ينطبق إلّا على فرد واحد، فمثلا نقرأ: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ المقصود من (الناس) في هذه الآية هو (نعيم بن مسعود) حسب قول فريق من المفسّرين، لأنّ هذا كان قد أخذ أموالا من أبي سفيان في مقابل إخافة المسلمين من قوّة المشركين، وأيضا نقرأ: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾، فهنا المقصود ب (الذين) في هذه الآية، على رأي كثير من المفسّرين، هو (حي بن أخطب) أو (فنحاص)، وقد يطلق الجمع على المفرد للتكريم، كما جاء عن إبراهيم: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله﴾، فهنا أطلقت كلمة (أمّة) وهي اسم جمع، على مفرد.

9. آية المباهلة تفيد بأنّ أبناء البنت يعتبرون أبناء أبيها أيضا، بخلاف ما كان سائدا في الجاهلية في اعتبار أبناء الابن فقط هم أبناء الجد، إذ كانوا يقولون:

çبنونا بنو أبنائنا وبناتنا...بنوهنّ أبناء الرجال الأباعدé

هذا اللون من التفكير كان من بقايا التقاليد الجاهلية الخاطئة التي لم تكن ترى المرأة عضوا من أعضاء المجتمع، بل كانت تنظر إليها على أنّها ووعاء لنموّ الأبناء فقط، وترى أنّ النسب يلحق بالآباء لا غير، يقول شاعرهم:

çوإنّما أمّهات الناس أوعية...مستودعات وللأنساب آباءé

غير أنّ الإسلام قضى على هذا اللون من التفكير، وساوى بين أبناء الابن وأبناء البنت، نقرأ في الآية 84 و85 من سورة الأنعام بشأن أبناء إبراهيم: {مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوود وسُلَيْمانَ وأَيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسى‏ وهارُونَ وكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وزَكَرِيَّا ويَحْيى‏ وعِيسى‏ وإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}، فالمسيح عيسى بن مريم عدّ هنا من أبناء إبراهيم مع أنّه كان ابنا من جهة البنت، والأحاديث والروايات الواردة عن طريق الشيعة والسنّة بشأن الحسن والحسين عليهما السّلام تشير إلى كلّ منهما ب (ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم) كرارا، وفي الآيات التي تحرّم الزواج ببعض النساء نقرأ: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾، يتّفق علماء الإسلام على أن الرجل يحرم عليه الزواج من زوجة ابنه وزوجة حفيده سواء أكان من جهة الابن أم البنت، باعتبار شمولهم بالآية المذكورة.

10. لا شكّ أنّ هذه الآية ليست دعوة عامّة للمسلمين للمباهلة، إذ أنّ الخطاب موجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده، ولكن هذا لا يمنع من أن تكون المباهلة مع المعارضين حكما عامّا، وأنّ الأتقياء من المؤمنين الذين يخشون الله، لهم أن‏ يطلبوا من الذين لم ينفع فيهم المنطق والاستدلال التقدّم للمباهلة، وتظهر عمومية هذا الحكم في بعض الروايات الإسلامية، فقد جاء في تفسير نور الثقلين، عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال: إذا كان كذلك (أي إذا لم يقبل المعاند الحقّ) فادعهم إلى المباهلة.. أصلح نفسك ثلاثا.. وأبرز أنت وهو إلى الجبان (الصحراء) فشبّك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه، ثمّ أنصفه وابدأ بنفسك وقل: اللهمّ ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم إن كان (فلانا) جحد حقّا وادّعى باطلا فأنزل عليه حسبانا (بلاء) من السماء وعذابا أليما، ثمّ ردّد الدعوة عليه.. فإنّك لا تلبث أن ترى ذلك فيه.

11. يتّضح أيضا من هذه الآية أنّه ـ خلافا للحملات التي يشنّها الزاعمون أنّ الإسلام دين الرجال وليس للمرأة فيه أيّ حساب ـ قد ساهمت المرأة المسلمة مع الرجل خلال اللحظات الحسّاسة في تحقيق الأهداف الإسلامية ووقفت معه ضدّ الأعداء، إنّ الصفحات المشرقة التي تمثّل سيرة سيّدة الإسلام فاطمة الزهراء عليها السّلام وابنتها السيّدة زينب الكبرى وغيرهما من نساء الإسلام اللآتي سرن على طريقهما دليل على هذه الحقيقة.

12. {إِنَّ هذا لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُّ وما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} تقول الآية ـ بعد شرح حياة المسيح عليه السّلام ـ: إنّ ما قصصناه عليك من قصة عيسى حقيقة أنزلها الله عليك، وعليه، فإنّ المزاعم الباطلة القائلة بالوهية المسيح، أو اعتباره ابن الله، أو بعكس ذلك اعتباره لقيطا، كلّها خرافات باطلة {إِنَّ هذا لَهُوَالْقَصَصُ الْحَقُ‏}

13. ثمّ تضيف للتوكيد: إنّ الذي يليق للعبادة هو الله‏ ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ﴾ وحده، وأن اتّخاذ معبود آخر دونه عمل بعيد عن الحقّ والحقيقة {وإِنَّ اللهَ لَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏} فهو قادر على أن يخلق ولدا بدون أب، وذلك على الله يسير.

14. (القصص) مفرد، تعني القصّة، وهي في الأصل من (القص) بمعنى تعقّب الأثر، في موضع آخر من القرآن قالت أمّ موسى لابنتها (قصّيه) أي عقّبيه وابحثي عنه‏ ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ وقولهم لثأر الدم (القصاص) لأنّه‏ تتبع لحقوق أصحاب الدم، و(القصّة) تعني بتاريخ القدامى والبحث في سير حياتهم ومن ذلك يعلم أن المشار إليه في (هذا) هو قصة حياه المسيح لا القرآن الكريم ولا قصص الأنبياء.

15. الآية الثانية تهدد من لم يستسلم هؤلاء للحقّ بعد الاستدلالات المنطقية في القرآن بشأن المسيح عليه السّلام، وكذلك إذا لم يخضعوا للمباهلة واستمرّوا في عنادهم وتعصّبهم، لأن ذلك دليل على أنّهم ليسوا طلّاب حقّ، بل هم مقيّدون بأغلال تعصّبهم المجحف، وأهوائهم الجامحة، وتقاليدهم المتحجّرة، وبذلك يكونون من المفسدين في المجتمع: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾، لأن هدفهم تخدير الناس وإفساد العقائد السليمة لأفراد المجتمع، ومن المعلوم أن الله تعالى يعرف هؤلاء، ويعلم بنياتهم وسيجازيهم في الوقت المناسب.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/524.

33. أهل الكتاب والكلمة السواء

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈33⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله: ﴿سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾، قال عدل، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول الشاعر(1):

çتلاقينا فقاضينا سواء... ولكن جر عن حال بحال؟é

2. روي أنّه قال: إن كتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الكفار: ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ الآية(2).

3. روي أنّه قال: حدثني أبو سفيان: أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقرأه، فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين.. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ ـ إلى قوله ـ: ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(3).

__________

(1) الدرّ المنثور: الطستي في مسائله.

(2) الطبراني في الكبير: ١١/٣٩٣.

(3) البخاري: ١/٨.

ابن عبد العزيز:

روي عن عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ): أنه كتب إلى أليون طاغية الروم، قال فيما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾، يعني: اليهود والنصارى، ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٦٩.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ لا إله إلا الله(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٢٣٧.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا﴾ سجود بعضهم لبعض(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَرْبَابًا﴾: يعني: الأصنام(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٧٩.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٠.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ﴾ دُعوا إلى الإسلام، فأبوا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٠.

ابن الزبير:

روي عن محمد بن جعفر بن الزبير (ت 115 هـ) أنّه قال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا﴾ فدعاهم إلى النصف، وقطع عنهم الحجة، يعني: وفد نجران(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٧٥.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ معناه عدل(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ثم دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يعني: الوفد من نصارى نجران ـ فقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ الآية(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٧٥.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ذكر لنا: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا اليهود إلى الكلمة السواء(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٧٤.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله، ويقال: إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة، وإن لم يصلوا لهم(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٧٩.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: هذا كتاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى النجاشي: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي إلى النجاشي الأصحم، عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله؛ فإني أنا رسوله، فأسلم تسلم، و: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾، فإن أبيت فعليك إثم النصارى قومك(1).

__________

(1) سيرة ابن إسحاق: ص٢١٠.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ في عيسى ـ على ما قد بيناه فيما مضى ـ فأبوا ـ يعني: الوفد من نجران ـ، فقال: ادعهم إلى أيسر من هذا، قل: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾، فقرأ حتى بلغ: ﴿أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾، فأبوا أن يقبلوا هذا، ولا الآخر(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٧٥.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ يعنى: كلمة الإخلاص والتوحيد، ﴿سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ أي: عدل، أي: تلك الكلمة عدل بيننا وبينكم‏ لأنهم كانوا يقرون أن خالق السموات والأرض: الله، بقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ [لقمان: 31]، وكذلك يقرون أن خالقهم الله، بقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ [الزخرف: 87]، لكن منهم من يعبد دون الله أوثانا، ويقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾، ومنهم من يجعل له شركاء وأندادا يشركهم في عبادته، فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى ألا يجعلوا عبادتهم لغير الذي أنعم عليهم؛ إذ العبادة لا تكون إلا لله الذي أقروا جميعا أنه خالق السموات والأرض، وأنه ربهم، وألا يصرفوا عبادتهم إلى غير الذي أنعم عليهم؛ إذ العبادة هي لشكر وجزاء ما أنعم عليهم‏.

2. ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ لأن العبادة لواحد أهون وأخف من العبادة لعدد، وأن صرف العبادة إلى من أنعم عليكم أولى من صرفها إلى الذي لم ينعم عليكم؛ إذ ذاك جور وظلم في العقل أن ينعم أحد على آخر، فيشكر غيره.

3. العدل في اللغة: وضع الشيء في موضعه، وفي إخلاص العبادة لله والتوحيد ـ ذلك وهذا معنى سواء، وجائز أن تكون كلمة يستوي فيها أنها عدل ما شهد لنا بهذا كل أنواع الحجج.

4. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: تولوا عن طاعة الله وتوحيده، وصرف العبادة إليه.

ب. ويحتمل: فإن تولوا عن المباهلة والملاعنة، فقولوا ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي: مخلصون العبادة له، صادقون الشكر على ما أنعم علينا.

ج. ويحتمل: فإن تولوا عن قبول ما دعوتهم إليه من الاجتماع على الكلمة.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ الآية:

أ. أحدها: أنها العدل، وهي كلمة التوحيد، وكانت عدلا باتفاق الألسن؛ إذ سئلوا عمن خلق السموات والأرض في الفزع إليه بالإجابة، وشهادة الخلقة على وحدانية من له الخلق والأمر ومن هذا الوجه أمكن أن يحاج جميع الخلق، وإن خص به أهل الكتاب

ب. وأخرى: أن يستوي فيها أنها حق وعدل، وهي عبادة الواحد الذي لم يختلف في أنه معبود، وأن كل من عبد غيره فعلى أن يكون له العبادة يعبده، فيرجع إلى حقيقته‏ دون أن يكون بيننا وبينه من يعلم أنه لا يستحق العبادة، وهذا المعنى يلزم الجمع، أيضا.

ج. الثالث: أن يكون إلى كلمة ظهر أنها عدل في كتابهم بما جاءت رسلهم، ونزلت بها كتبهم، ولا قوة إلا بالله.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/394.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله عز وجل: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾، أي هلموا إلى كلمة النصفة والحق، فهي سواء ليس فيها شطط على أحد ولا ميل، وهي: {أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ}(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 260.

الديلمي:

قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ وهذه الآية نزلت في نصارى نجران ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ هو طاعة الأتباع لرؤسائهم في أوامرهم بمعاصي الله عز وجل(1).

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/144.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ الآية وفي المقصود بذلك قولان:

أ. أحدهما: أنهم نصارى نجران، وهذا قول الحسن والسدي وابن زيد.

ب. الثاني: أنهم يهود المدينة، وهذا قول قتادة، والربيع، وابن جريج.

2. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: هو طاعة الاتباع لرؤسائهم في أوامرهم بمعاصي الله، وهذا قول ابن جريج.

ب. الثاني: سجود بعضهم لبعض، وهذا قول عكرمة.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/400.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف فيمن نزل قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ على أقوال:

أ. أحدها: ذكره الحسن، والسدي، وابن زيد، ومحمد بن جعفر بن الزبير: أنهم نصارى نجران.

ب. الثاني: قال قتادة، والربيع، وابن جريج: أنهم يهود المدينة، وقد روى ذلك أصحابنا، ووجه هذا القول أنهم أطاعوا الأحبار طاعة الأرباب، فسلكوا بهم طريق الضلال، ويدل على ذلك قوله عز وجل: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾، وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:‏ ما عبدوهم من دون الله وإنما حرموا لهم حلالا وأحلوا لهم حراماً، فكان ذلك اتخاذ الأرباب من دون الله.

ج. الثالث: ذكره أبو علي الجبائي أنها في الفريقين من أهل الكتاب على ظاهر الكلام.

2. ﴿إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ فسواء اسم وليس بصفة وإنما جر سواء بتقدير ذات سواء في قول الزجاج، وكان يجوز نصبه على المصدر، وموضع (أن لا) خفض على البدل من (كلمة)، وقال الرماني: إنما أجراه على الاول، وهو الثاني ولا يجوز في مثل قولك مررت برجل سواء عليه الخير والشر غير الرفع لأمرين:

أ. أحدهما: أن رفع الثاني بتقدير محذوف، كأنه قال هي (ألا تعبد إلا الله)، فيكون سواء من صفة الكلمة في اللفظ، والمعنى، ويجوز أن يكون موضعه خفضاً على البدل من الكلمة، وتقديره تعالوا إلى ألا نعبد إلا الله، وكذلك جاء ما لا يصلح للأول على الاستئناف، نحو ﴿الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ وكذلك‏ ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ﴾

ب. الثاني: أن يقع بمعنى المصدر في موضع الصفة الجارية بتقدير (كلمة) مستوية ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ فيها الامتناع من عبادة غير الله، وإنما جاز، لأن لا نعت بغير معنى الكلمة، فصار بمنزلة إضمار الكلمة.

3. الفرق بين كلمة عدل وكلمة سواء أن‏ ﴿كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾] بمعنى مستوية وأن عدل بمعنى عادلة فيما يكون منها، كما تقول رجل عدل أي عادل، فأما كلمة مستوية فمستقيمة، كما يقال: الرجل مستو ـ في نفسه ـ غير مائل عن جهته، فلذلك فسر سواء على الوجهين، فكان يجوز في العربية الجزم في‏ ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾ على طريق النهي، كقولك آتني وقت يأتي الناس لا تجيء في غير ذلك من الأوقات، ويجوز فيه الرفع أيضاً بمعنى الحكاية على أن تقول‏ ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾ وأجاز الفراء الجزم عطفاً على موضع (أن) لأنها في موضع جواب الامر على تقدير ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ كما تقول: تعالوا لا نقل إلا خيراً، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن (أن) لا توافق معنى الجواب كالفاء في قوله: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ كما توافقه (إذا) في قوله: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾

4. اللام في قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ إنما اتصل بما قبله على تقدير: قابلوا إعراضهم عن الحق بخلافه للإنكار عليهم وتجديداً للإقرار به عند صدهم أي أقيموا على إسلامكم، وقولوا لهم: ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ مقيمون على الإسلام.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/489.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الكلمة والكلام واحد.

ب. سَوَاءُ كلِّ شيءِ وسطُه، ومنه قراءة فِى (سَوَاءِ الجَحِيمِ) وقيل: للنصف سواء؛ لأنه أعدل الأشياء وأفضلها وأوسطها، وسواء لا يثنى ولا يجمع وإذا فتح السين مددت، وإذا كسرت أو ضممت ـ قصرت، ومنه ﴿مَكَانًا سُوًى﴾ سِوًى، وسواء.

2. لما تم الحجاج على القوم ابتدأ بذكر التوحيد والدعاء إليه والاقتداء بمن اتفقوا أنه كان على طريق الحق فقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾:

أ. يعني الَّذِينَ أوتوا الكتاب.

ب. وقيل: من لهم علم الكتاب، ثم اختلفوا:

فقيل: هو خطاب لنصارى نجران، عن محمد بن جعفر بن الزبير والحسن والسدي وابن زيد.

وقيل: خطاب ليهود المدينة، عن قتادة والربيع وابن جريج.

وقيل: نزلت الآية في الفريقين من أهل الكتاب، عن أبي علي، وهو الأوجه، والبيت المروي يدل عليه.

3. ﴿تَعَالَوْا﴾ هلموا ﴿إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ أي كلام عدل، وسواء قولك سواء ومستوية ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ وهو ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾؛ لأن العبادة لا تحق إلا له ﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ﴾ في العبادة ﴿شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ إلهًا كما تفعله اليهود والنصارى، ثم اختلفوا:

أ. فقيل: اتخاذهم الأحبار والرهبان إلهًا أن يطيعوهم في التحريم والتحليل.

ب. وقيل: هو اتخاذ النصارى عيسى إلهًا واتخاذ اليهود عزيرا إلهًا.

ج. وقيل: هو سجود بعضهم لبعض، عن عكرمة.

د. وقيل: هو ادعاؤهم لأحبارهم ما لا يقدر عليه إلا الله، كإحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص وإن لم يطلقوا أنه رب، عن أبي مسلم.

هـ. وقيل: هو أن نطيعه في المعاصي، وتقديره: لا نطيع في المعاصي أحدًا، وفي الخبر: من أطاع مخلوقًا في معصية الله فكأنما سجد سجدة لغير الله.

4. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أعرضوا عما دعوتهم إليه ﴿فَقُولُوا﴾ أنتم أيها المسلمون مقابلاً لإعراضهم عن الحق، وتجديدًا للإقرار ومخالفة لهم ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾:

أ. قيل: مخلصون بالتوحيد.

ب. وقيل: منقادون لما أمرت.

ج. وقيل: معتقدون الإسلام عاملون به، وروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كتب بهذه الآية إلى هرقل ملك الروم.

5. تدل الآية الكريمة على:

أ. أنه تعالى أمر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يدعوهم إلى كلمة، ومعنى الكلمة ما بَيَّنَ تفصيله في الآية، وقد يقال: كلمة وإن كان كلامًا كثيرًا كما يقال: كلمة امرئ القيس لقصيدته.

ب. بطلان قول النصارى في عبادة المسيح، وأنه ثالث ثلاثة؛ لأن قوله: ﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ يتضمن ذلك.

ج. بطلان قول الكلابية؛ لأنه مثل قول النصَارَى في التثليث ثابت في مذاهبها لقولهم بقدماء كثيرة.

د. أن الانقياد لغيره على سبيل الالتزام حتى يَسْتَحِلَّ ما أحَلَّ ويحرم ما حرم لا يجوز وأنه بمنزلة اتخاذه إلهًا.

هـ. تأديب من الله تعالي للمؤمن كيف ينبغي أن يفعل عند إعراض المخالف بعد ظهور الحجة، فيظهر تمسكه بالحق استسلامًا وانقيادًا لله تعالى ليعلم المبطل أن مخالفته لا تؤثر في حقه.

و. أن الحق يجب اتباعه، ولا اعتبار بالكثرة والقلة.

6. قرأ عاصم وحمزة والكسائي ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ بالمد والهمز، وقرأ نافع وأبو جعفر وأبو عمرو بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكنة، وقرأ ابن كثير ويعقوب بالهمز والقصر من غير مد على وزن فَعَلْتُمْ، وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز، فمن حقق فعلى الأصل؛ لأنهما حرفان هاء وأنتم، ومن لم يمد ولم يهمز فللتخفيف من غير إخلال.

7. مسائل نحوية:

أ. ﴿أَلَّا نَعْبُدَ﴾ محل ﴿أَنْ﴾ قيل: رفع بإضمار، وتقديره: هي ألا نعبد، ويكون ﴿سَوَاءٌ﴾ صفة لـ ﴿كَلِمَةَ﴾ في اللفظ والمعنى، وقيل: رفع بالابتداء، عن الزجاج، وقيل: محله خفض على البدل من ﴿كَلِمَةَ﴾ بتقدير: تعالوا إلى ألا نعبد إلا الله، وقيل: بنزع حرف الصفة تقديره: بألا نعبد.

ب. ﴿نَعْبُد﴾ نصب بـ ﴿أَنْ﴾، ويجوز في العربية الجزم على طريق النهي، ويجوز الرفع بمعنى الحكاية على أن نقول لا نعبد إلا الله.

ج. ﴿وَلَا نُشْرِكَ﴾ نصبُ عطفٍ على قوله: ﴿نَعْبُدُ﴾، وكذلك ﴿وَلَا يَتَّخِذَ﴾ تقديره: على ألا نعبد وألا نشرك وألا نتخذ، والعامل ﴿أَنْ﴾ الخفيفة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/264.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. قال الزجاج: معنى كلمة كلام فيه شرح قصة وإن طال، ولذلك تقول العرب للقصيدة كلمة، يروى أن حسان بن ثابت كان إذا قيل له أنشدنا، قال: هل أنشد كلمة الحويدرة، يعني قصيدته التي أولها: (بكرت سمية غدوة فتمنع)

ب. معنى سواء أي: عدل وسوى بمعناه، قال زهير:

çأروني خطة لا ضيم فيها... يسوي بيننا فيها السواء

فإن ترك السواء فليس بيني... وبينكم، بني حصن بقاءé

وقيل: سواء مستو هو مصدر وضع موضع اسم الفاعل، ومعناه: إلى كلمة مستوية، وهو عند الزجاج اسم ليس بصفة، وإنما جر بتقدير ذات سواء، وجوز نصبه على المصدر.

2. في سبب نزول الآية الكريمة أقوال:

أ. أحدها إنها نزلت في نصارى نجران، عن الحسن والسدي وابن زيد ومحمد بن جعفر بن الزبير.

ب. ثانيها: إنها نزلت في يهود المدينة، عن قتادة والربيع وابن جريج، وقد رواه أصحابنا أيضا.

ج. ثالثها: إنها نزلت في الفريقين من أهل الكتاب على الظاهر، عن أبي علي الجبائي، وهذا أولى لعمومه.

3. لما تم الحجاج على القوم، دعاهم تعالى إلى التوحيد، وإلى الاقتداء بمن اتفقوا أنه كان على الحق، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا﴾ أي: هلموا.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾:

أ. قيل: أي: عدل ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ أي: عادلة لا ميل لها، كما يقال: رجل عدل أي: عادل لا ميل فيه.

ب. وقيل: معناه كلمة مستوية بيننا وبينكم، فيها ترك العبادة لغير الله، وهي (إن لا نعبد إلا الله) لأن العبادة لا تحق إلا له.

5. ﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ﴾ في العبادة ﴿شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ اختلف في معناه:

أ. فقيل: معناه ولا يتخذ بعضنا عيسى ربا، فإنه كان بعض الناس.

ب. وقيل: معناه أن لا نتخذ الأحبار أربابا بأن نطيعهم طاعة الأرباب لقوله ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾، وروي عن أبي عبد الله أنه قال: ما عبدوهم من دون الله، ولكن حرموا لهم حلالا، وأحلوا لهم حراما، فكان ذلك اتخاذهم أربابا من دون الله، وقد روي أيضا: أنه لما نزلت هذه الآية، قال عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله! فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم أما كانوا يحلون لكم، ويحرمون، فتأخذون بقولهم؟ فقال: نعم، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: هو ذاك.

6. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي: أعرضوا عن الإقرار بالعبودية، وأن أحدا لا يستحق العبادة غيره ﴿فَقُولُوا﴾ أنتم أيها المسلمون مقابلة لإعراضهم عن الحق، وتجديدا للإقرار، ومخالفتهم ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾:

أ. أي: مخلصون مقرون بالتوحيد.

ب. وقيل: مستسلمون منقادون لما أتى به النبي والأنبياء من الله.

ج. وقيل: مقيمون على الاسلام.

7. هذا تأديب من الله لعبده المؤمن، وتعليم له، كيف يفعل عند إعراض المخالف بعد ظهور الحجة، ليعلم المبطل أن مخالفته لا يؤثر في حقه، وليدل على أن الحق يجب اتباعه من غير اعتبار بالقلة والكثرة.

8. مسائل نحوية:

أ. موضع (أن لا نعبد) فيه وجهان أحدها: أن يكون في موضع جر على البدل من ﴿كَلِمَةَ﴾ فكأنه قال: تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله والآخر: أن يكون في موضع رفع على تقدير: هي أن لا نعبد إلا الله.

ب. لو قرئ (أن لا نعبد) بالرفع كان ﴿أَنْ﴾ هي المخففة من المثقلة، فكأنه قال: إنه لا نعبد إلا الله، كقوله ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا﴾ وعلى هذا يثبت النون في الخط، ويكون إن من العوامل في الأسماء، وعلى الأول يكون من العوامل في الأفعال، ولا يثبت في الخط لنون، ولو قرئ (أن لا نعبد إلا الله) بالإسكان، فأن مفسرة كالتي في قوله ﴿أَنِ امْشُوا﴾، و(لا نعبد) نهي.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/766.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنهم اليهود، قاله قتادة، وابن جريج، والرّبيع بن أنس.

ب. الثاني: وفد نجران الذين حاجّوا في عيسى، قاله السّدّيّ ومقاتل.

ج. الثالث: أهل الكتابين جميعا، قاله الحسن.

2. قال ابن عباس: نزلت في القسّيسين والرّهبان، فبعث بها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة، فقرأها جعفر، والنّجاشيّ جالس، وأشراف الحبشة.

3. (الكلمة) قال المفسرون هي: لا إله إلا الله، سؤال وإشكال: هذه كلمات، فلم قال كلمة؟ والجواب: عنه جوابان:

أ. أحدهما: أن الكلمة تعبّر عن ألفاظ وكلمات، قال اللغويّون: ومعنى كلمة: كلام فيه شرح قصة وإن طال، تقول العرب: (قال زهير في كلمته) يراد في قصيدته: قالت الخنساء:

çوقافية مثل حدّ السّنا...ن تبقى ويذهب من قالها

تقدّ الذّؤابة من يذبل‏...أبت أن تزايل أو عالها

نطقت ابن عمرو فسهّلتها...ولم ينطق النّاس أمثالهاé

فأوقعت القافية على القصيدة كلّها، والغالب على القافية أن تكون في آخر كلمة، من البيت، وإنما سمّيت قافية، لأن الكلمة تتبع البيت، وتقع آخره، فسمّيت قافية، من قول العرب: قفوت فلانا: إذا اتّبعته، وإلى هذا الجواب يذهب الزجّاج وغيره.

ب. الثاني: أن المراد بالكلمة: كلمات، فاكتفى بالكلمة من كلمات كما قال علقمة بن عبدة:

çبها جيف الحسرى فأمّا عظامها...فبيض وأمّا جلدها فصليب‏é

أراد: وأما جلودها، فاكتفى بالواحد من الجمع، ذكره والذي قبله ابن الأنباريّ.

4. ﴿سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ قال الزجّاج: يعني بالسّواء العدل، وهو من استواء الشيء، ويقال: للعدل سواء وسواء، قال زهير بن أبي سلمى:

çأروني خطّة لا ضيم فيها...يسوّي بيننا فيها السّواء

فإن تركا السّواء فليس بيني‏...وبينكم بني حصن بقاءé

5. موضوع (أن) في قوله تعالى: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾ خفض على البدل من (كلمة) المعنى: تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله، وجائز أن يكون (أن) في موضوع رفع، كأنّ قائلا قال ما الكلمة؟ فأجيب، فقيل: هي ألّا نعبد إلا الله.

6. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه سجود بعضهم لبعض، قاله عكرمة.

ب. الثاني: لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله، قاله ابن جريج.

ج. الثالث: لا نجعل غير الله ربّا، كما قالت النّصارى في المسيح، قاله مقاتل والزجّاج.

__________

(1) زاد المسير: 1/291.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما أورد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على نصارى نجران أنواع الدلائل وانقطعوا، ثم دعاهم إلى المباهلة فخافوا وما شرعوا فيها وقبلوا الصغار بأداء الجزية، وقد كان عليه السلام حريصاً على إيمانهم، فكأنه تعالى قال: يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام واعدل إلى منهج آخر يشهد كل عقل سليم وطبع مستقيم أنه كلام مبني على الإنصاف وترك الجدال، و﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض، ولا ميل فيه لأحد على صاحبه، وهي‏ ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ هذا هو المراد من الكلام ولنذكر الآن تفسير الألفاظ.

2. في قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: المراد نصارى نجران.

ب. الثاني: المراد يهود المدينة.

ج. الثالث: أنها نزلت في الفريقين، ويدل عليه وجهان:

الأول: أن ظاهر اللفظ يتناولهما.

الثاني: روي في سبب النزول، أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى! وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزيز! فأنزل الله تعالى هذه الآية.

3. الأقرب حمل قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ على النصارى، لما بينا أنه لما أورد الدلائل عليهم أولًا، ثم باهلهم ثانياً، فعدل في هذا المقام إلى الكلام المبني على رعاية الإنصاف، وترك المجادلة، وطلب الإفحام والإلزام، ومما يدل عليه، أنه خاطبهم هاهنا بقوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ وهذا الاسم من أحسن الأسماء وأكمل الألقاب حيث جعلهم أهلًا لكتاب الله، ونظيره ما يقال لحافظ القرآن يا حامل كتاب الله، وللمفسر يا مفسر كلام الله، فإن هذا اللقب يدل على أن قائله أراد المبالغة في تعظيم المخاطب وفي تطييب قلبه، وذلك إنما يقال عند عدول الإنسان مع خصمه عن طريقة اللجاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنصاف.

4. ﴿تَعَالَوْا﴾ المراد تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالًا من مكان إلى مكان لأن أصل اللفظ مأخوذ من التعالي وهو الارتفاع من موضع هابط إلى مكان عال، ثم كثر استعماله حتى صار دالًا على طلب التوجه إلى حيث يدعى إليه.

5. ﴿إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا﴾ المعنى هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض، لا ميل فيه لأحد على صاحبه، والسواء هو العدل والإنصاف، وذلك لأن حقيقة الإنصاف، إعطاء النصف، فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف، فإذا أنصف وترك ظلمه أعطاه النصف فقد سوى بين نفسه وبين غيره وحصل الاعتدال، وإذا ظلم وأخذ أكثر مما أعطى زال الاعتدال فلما كان من لوازم العدل والإنصاف التسوية جعل لفظ التسوية عبارة عن العدل.

6. ﴿سَوَاءٌ﴾ نعت للكلمة يريد(2): ذات سواء، فعلى هذا قوله‏ ﴿كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ أي كلمة عادلة مستقيمة مستوية، فإذا آمنا بها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة.

محل (أن) في قوله تعالى: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ﴾، فيه وجهان:

أ. الأول: إنه رفع بإضمار، هي: كأن قائلًا قال ما تلك الكلمة؟ فقيل هي أن لا نعبد إلا الله.

ب. الثاني: خفض على البدل من: كلمة.

7. ذكر الله تعالى ثلاثة أشياء:

أ. أولها: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾

ب. ثانيها: أن‏ {لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً}

ج. ثالثها: أن‏ {لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ‏}

8. إنما ذكر هذه الثلاثة:

أ. لأن النصارى جمعوا بين هذه الثلاثة فيعبدون غير الله وهو المسيح، ويشركون به غيره وذلك لأنهم يقولون إنه ثلاثة: أب وابن وروح القدس، فأثبتوا ذوات ثلاثة قديمة سواء.

ب. وإنما قلنا: إنهم أثبتوا ذوات ثلاثة قديمة، لأنهم قالوا: إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح، وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم، ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين وإلا لما جازت عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم.

ج. ولما أثبتوا ذوات ثلاثة مستقلة فقد أشركوا.

9. أما إنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله فيدل عليه وجوه:

أ. أحدها: إنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم.

ب. الثاني: إنهم كانوا يسجدون لأحبارهم.

ج. الثالث: قال أبو مسلم: من مذهبهم أن من صار كاملًا في الرياضة والمجاهدة يظهر فيه أثر حلول اللاهوت، فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فهم وإن لم يطلقوا عليه لفظ الرب إلا أنهم أثبتوا في حقه معنى الربوبية.

د. الرابع: هو أنهم كانوا يطيعون أحبارهم في المعاصي، ولا معنى للربوبية إلا ذلك، ونظيره قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: 23]

10. ثبت أن النصارى جمعوا بين هذه الأمور الثلاثة، وكان القول ببطلان هذه الأمور الثلاثة كالأمر المتفق عليه بين جمهور العقلاء وذلك:

أ. لأن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله، فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح على هذا الوجه.

ب. وأيضاً القول بالشركة باطل باتفاق الكل.

ج. وأيضاً إذا كان الخالق والمنعم بجميع النعم هو الله، وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والطاعة إلا إليه، دون الأحبار والرهبان، فهذا هو شرح هذه الأمور الثلاثة.

11. ثم قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ والمعنى إن أبوا إلا الإصرار، فقولوا إنا مسلمون، يعني أظهروا أنكم على هذا الدين، لا تكونوا في قيد أن تحملوا غيركم عليه.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/252.

(2) الكلام هنا للزجّاج

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ الخطاب في قول الحسن وابن زيد والسدي لأهل نجران، وفي قول قتادة وابن جريج وغيرهما ليهود المدينة، خوطبوا بذلك لأنهم جعلوا أحبارهم في الطاعة لهم كالأرباب، وقيل: هو لليهود والنصارى جميعا، وفي كتاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى هرقل بسم الله الرحمن الرحيم ـ من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ﴾ ـ إلى قوله: ﴿فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، لفظ مسلم.

2. السواء العدل والنصفة، قاله قتادة، وقال زهير:

çأروني خطة لا ضيم فيها...يسوي بيننا فيها السواءé

قال الفراء: ويقال في معنى العدل سوى وسوى، فإذا فتحت السين مددت وإذا كسرت أو ضممت قصرت، كقوله تعالى: ﴿مَكَانًا سُوًى﴾ [طه]، قال: وفي قراءة عبد الله (إلى كلمة عدل بيننا وبينكم)

3. قرأ قعنب ﴿كَلِمَةَ﴾ بإسكان اللام، ألقى حركة اللام على الكاف، كما يقال كبد، فالمعنى أجيبوا إلى ما دعيتم إليه، وهو الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، وقد فسرها بقوله تعالى: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾ فموضع ﴿أَنْ﴾ خفض على البدل من ﴿كَلِمَةَ﴾، أو رفع على إضمار مبتدأ، التقدير هي أن لا نعبد إلا الله، أو تكون مفسرة لا موضع لها، ويجوز مع ذلك في ﴿نَعْبُدُ﴾ وما عطف عليه الرفع والجزم: فالجزم على أن تكون ﴿أَنْ﴾ مفسرة بمعنى أي، كما قال تعالى: ﴿أَنِ امْشُوا﴾ [ص] وتكون ﴿لَا﴾ جازمة، هذا مذهب سيبويه، ويجوز على هذا أن ترفع ﴿نَعْبُدُ﴾ وما بعده يكون خبرا، ويجوز الرفع بمعنى أنه لا نعبد، ومثله ﴿أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ [طه]، وقال الكسائي والفراء: ﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ﴾ بالجزم على التوهم أنه ليس في أول الكلام أن.

4. ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ أي لا نتبعه في تحليل شي أو تحريمه إلا فيما حلله الله تعالى، وهو نظير قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [التوبة] معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحله الله، وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي، قال الكيا الطبري: مثل استحسانات أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون مستندات بينة، وفيه رد على الروافض الذين يقولون: يجب قبول قول الامام دون إبانة مستند شرعي(2)، وإنه يحل ما حرمه الله من غير أن يبين مستندا من الشريعة، وأرباب جمع رب، و﴿دُونَ﴾ هنا بمعنى غير.

5. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي أعرضوا عما دعوا إليه، ﴿فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي متصفون بدين الإسلام منقادون لأحكامه معترفون بما لله عليه علينا في ذلك من المنن والإنعام، غير متخذين أحدا ربا لا عيسى ولا عزيرا ولا الملائكة، لأنهم بشر مثلنا محدث كحدثنا، ولا نقبل من الرهبان شيئا بتحريمهم علينا ما لم يحرمه الله علينا، فنكون قد اتخذناهم أربابا، وقال عكرمة: معنى يتخذ يسجد، وقد تقدم أن السجود كان إلى زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معاذا لما أراد أن يسجد، كما مضى في البقرة بيانه، وروى أنس بن مالك قال: قلنا يا رسول الله، أينحني بعضنا لبعض؟ قال: لا، قلنا: أيعانق بعضنا بعضا؟ قال: (لا ولكن تصافحوا) أخرجه ابن ماجه في سننه.‌

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/106.

(2) ما ذكروه عن الحنفية والإمامية غير صحيح، لأن لهم مستنداتهم في ذلك، والدافع إلى هذه الدعاوى التعصب المذهبي

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ قيل: الخطاب لأهل نجران، بدليل ما تقدم قبل هذه الآية؛ وقيل: ليهود المدينة؛ وقيل: لليهود والنصارى جميعا، وهو ظاهر النظم القرآني، ولا وجه لتخصيصه بالبعض، لأن هذه دعوة عامة لا تختص بأولئك الذين حاجوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

2. السواء: العدل، قال الفراء: يقال في معنى العدل سوى وسوى، فإذا فتحت السين مددت، وإذا ضممت أو كسرت قصرت، قال زهير:

çأروني خطّة لا ضيم فيها...يسوّي بيننا فيها السّواءé

وفي قراءة ابن مسعود: (إلى كلمة عدل بيننا وبينكم) فالمعنى: أقبلوا إلى ما دعيتم إليه، وهي: الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، وقد فسرها بقوله: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾ وهو في موضع خفض على البدل من: كلمة، أو رفع إلى إضمار مبتدأ، أي: هي أن لا نعبد، ويجوز أن تكون: أن، مفسرة لا موضع للجملة التي دخلت عليها.

3. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا﴾ تبكيت لمن اعتقد ربوبية المسيح وعزير، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر وبعض منهم، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله فحلل ما حللوه له، وحرم ما حرموه عليه، فإن من فعل ذلك فقد اتخذ من قلده ربا، ومنه: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وقد جوّز الكسائي والفراء الجزم في: {ولا نُشْرِكَ‏ ولا يَتَّخِذَ} على التوهم.

4. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي: أعرضوا عما دعوا إليه‏ ﴿فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي: منقادون لأحكامه، مرتضون به، معترفون بما أنعم الله به علينا من هذا الدين القويم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/400.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ أي إلى قول معتدل لا يميل إلى التعطيل ولا إلى الشرك، متفق عليها لا يختلف فيها الرسل والكتب وهي‏ ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ أي لا نرى غيره مستحقّا للعبادة فنشركه معه، بل نفرد العبادة لله وحده، لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا﴾ أي كعزيز والمسيح والأحبار والرهبان الذين كانوا يحلّون لهم ويحرّمون، كما روى الترمذيّ‏ عن عديّ ابن حاتم قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقرأ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾، قال: إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليه شيئا حرموه.

2. قال الكيا الهراسيّ: فيه رد على من قال بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعيّ، وعلى من قال يجب قبول قول الإمام في التحليل والتحريم ولو دون إبانة مستند شرعيّ.

3. قال البقاعيّ: ولما كان الرب قد يطلق على المعلم والمربّي بنوع تربية، نبه على أنّ المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد والاجتراء على ما يختص به الله فقال: ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ الذي اختص بالكمال‏ ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي عن هذه الكلمة السواء المتفق عليها ﴿فَقُولُوا﴾ أي تبعا لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال أسلمت لربّ العالمين، وامتثالا لوصيته إذ قال: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾

4. ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا بأنا مسلمون دونكم، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما: اعترف بأني أنا الغالب، وسلم لي الغلبة، ويجوز أن يكون من باب التعريض، ومعناه: اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره ـ كذا قال الكشاف ـ.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/332.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ اليهود والنصارى أهل التوراة والإنجيل، أو أراد نصارى نجران، والكتاب: الإنجيل، أو يهود المدينة والكتاب: التوراة، والأَوَّل أَولى، ولو نزلت في وفد نجران النصارى؛ لأنَّ خصوص السبب لا ينافي عموم الحكم، ﴿تَعَالَواْ﴾ أقبلوا بالعزم والاعتقاد، ﴿اِلَى كَلِمَةٍ﴾ هي لا إله إِلَّا الله، فإنَّ الكلمة في اللُّغة تطلق على المفرد والجملة فصاعدا، ﴿سَوَآءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم﴾ لا تختلف فيها الرسل والكتب، فمن خالف فيها كقول النصارى: ثالث ثلاثة، وإنَّ عيسى إله، فقد ضلَّ.

2. ﴿أَلَّا نَعْبُدَ﴾ أي: لئلَّا نعبد، ﴿إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ أي: إشراكا أو معبودا آخر فذلك تأكيد؛ أو شريكا في الخَالقيَّة والقدم والوجوب بالذات وسائر الصفات، فذلك تأسيس، فتنفي عنه أن يلد عزيرا وعيسى وغيرهما، ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا اَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ﴾ أي: غير الله كما اتَّخذتم أحباركم ورهبانكم أربابا.

3. لَمَّا نزل: ﴿اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ إلخ [التوبة: 31] قال عديُّ بن حاتم ـ وقد أسلم من النصرانيَّة ـ : ما كنَّا نعبدهم يا رسول الله، قال: (أليس كانوا يحلُّون لكم ويحرِّمون فتأخذون بقولهم؟) قال: نعم، قال: (هو ذاك)، ومعنى نعم هنا تصديق لإثبات الذي أفاده إنكار النفي، وروي أنَّهم كانوا يسجدون لأحبارهم ورهبانهم.

يجوز أن تكون الكلمة: (أَلَّا نَعْبُدَ...) إلخ، فلا تقدَّر لام التعليل، بل ذلك بدل (كَلِمَةٍ)، أي: انتفاء عبادة غير الله، وانتفاء الإشراك وانتفاء اتِّخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، والواجب الاقتصار على ألوهيَّة الله بدون تشريك غيره به، أو لَمَّا اتَّخذوا غير الله أربابا مع الله كانوا كمن اتَّخذ غير الله فقط، لأنَّه لا توحيد مع تشريك.

4. ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ عن التوحيد ﴿فَقُولُواْ﴾ أيُّها المؤمنون لهم ﴿اشْهَدُواْ بِأَنَّا﴾ دونكم ﴿مُسْلِمُونَ﴾ موحِّدون، مذعنون للحقِّ لظهور الحجَّة، ولا تظنُّوا أنَّا تابعناكم، ولا أنتم مسلمون كما تزعمون، بل أنتم كافرون بما نطقت به الكتب والرسل، فاعترِفوا أنتم ـ ولا بدَّ ـ بأنَّا مسلمون لا أنتم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/291.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بين جل شأنه القصص الحق في شأن عيسى والمختلفين فيه وأقام الحجة العقلية على الغالين فيه بجعله ربا وإلها ثم ألزمهم من طريق الوجدان أو الضمير كما يقال بما دعاهم إلى المباهلة لم يبق إلا أن يأمر نبيه بأن يدعوهم إلى الحق الواجب اتباعه في الإيمان وذلك قوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾، قال محمد عبده: الكلام من أول السورة في إثبات نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والرد على المنكرين، وقد ظهر بالدعوة إلى المباهلة انقطاع حجاج المكابرين ودل نكولهم عنها على أنهم ليسوا على يقين من اعتقادهم ألوهية المسيح وفاقد اليقين يتزلزل عند ما يدعى إلى شيء يخاف عاقبته، فلما نكلوا دعاهم إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء وهو سواء بين الفريقين أي عدل ووسط لا يرجح فيه طرف على آخر، وقد فسر بقوله: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾

2. ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ المراد بهذا تقرير وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية وكلاهما متفق عليه بين الأنبياء فقد كان إبراهيم موحدا صرفا، وقد كان الأساس الأول لشريعة موسى قول الله له: (إن الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى، أمامي لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء من فوق ومما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن) وعلى هذا درج جميع أنبياء بني إسرائيل حتى المسيح عليه وعليهم الصلاة والسلام وهم لا يزالون ينقلون عنه في إنجيل يوحنا قوله: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفونك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) وغير ذلك من عبارات التوحيد وكان يحتج على اليهود بعدم إقامتهم ناموس موسى (شريعته) وهو لم ينسخ من هذا الناموس إلا بعض الرسوم الظاهرة والتشديدات في المعاملة أما الوصايا العشر ورأسها التوحيد والنهي عن الشرك فلم ينسخ منها شيئا.

3. قال محمد عبده: المعنى أننا نحن وإياكم على اعتقاد أن العالم من صنع إله واحد والتصرف فيه لإله واحد، وهو خالقه ومدبره وهو الذي يعرفنا على ألسنة أنبيائه ما يرضيه من العمل وما لا يرضيه، فتعالوا بنا نتفق على إقامة هذه الأصول المتفق عليها ورفض الشبهات التي تعرض لها حتى إذا سلمنا ان فيما جاءكم من نبأ المسيح شيئا فيه لفظ (ابن الله) خرجناه جميعا على وجه لا ينقض الأصل الثابت العام الذي اتفق عليه الأنبياء، فإن سلمنا أن المسيح قال إنه (ابن الله) قلنا هل فسر هذا القول بأنه إله يعبد؟ وهل دعا إلى عبادته وعبادة أمه، أم كان يدعو إلى عبادة الله وحده؟ لا شك أنكم متفقون معنا على أنه كان يدعو إلى عبادة الله وحده والإخلاص له بالتصريح الذي لا يقبل التأويل.

4. إن كلامه عن نفسه كان أكثره من باب الكناية أو المجاز، بل كان بعضه من قبيل المعميات والألغاز، حتى أن تلاميذه لم يكونوا يفهموه إلا بعد تفسيره، ولقد كان هذا التفسير يتأخر أحيانا إلى أمد بعيد، ولفظ (ابن الله) أطلق في كتب العهد العتيق على إسرائيل وغيره فهو مجاز قطعا، أما هذه النزاعات الوثنية التي دخلت على الدين فقد دخلت بعده وليس لواضعيها سند من كلامه وإنما يروجونها بأقيسة باطلة جرى عليها كثير من الوثنيين من قبل ومن بعد كقول مشركي العرب: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3] وقولهم: ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: 18]

5. الآية قررت وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية:

أ. فأما وحدانية الألوهية فهي قوله: {أن لا نعبد إلا الله} وأكده بقوله: ﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ والإله هو المعبود الذي توله العقول في معرفته وتدعوه وتصمد إليه لاعتقادنا أن السلطة الغيبية له وحده.

ب. وأما وحدانية الربوبية فهي قوله: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ فالرب هو السيد المربي الذي يطاع فيما يأمر وينهى، والمراد هنا من له حق التشريع والتحليل والتحريم كما ورد في حديث عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31] فقلت له يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فيحرمون ويحلون ما حرم الله فيستحلون؟ فقلت بلى وسئل حذيفة رضي الله عنه عن الآية فأجاب بمثل ذلك.

6. قال محمد عبده: كان اليهود موحدين ولكن كان عندهم شيء هو منبع شقائهم في كل حين وهو اتباع رؤساء الدين فيما يقررونه وجعله بمنزلة الأحكام المنزلة من الله تعالى وجرى النصارى على ذلك وزادوا مسألة غفران الخطايا وهي مسالة تفاهم أمرها في بعض الأزمان حتى ابتلعت بها الكنائس أكثر أملاك الناس، ومن الغلو فيها ولدت مسألة البروتستانت إذ قاموا فقالوا: هلم بنا نترك هؤلاء الأرباب من دون الله ونأخذ الدين من كتابه لا نشرك معه في ذلك قول أحد.

7. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأعرضوا عن هذه الدعوة وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله باتخاذ الشركاء الذين يسمونهم وسطاء وشفعاء واتخاذ الأرباب الذين يحلون لهم ويحرمون ﴿فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ نعبد الله وحده مخلصين له الدين لا ندعو سواه ولا نتوجه إلى غيره في طلب نفع ولا دفع ضر ولا نحل إلا ما أحله ولا نحرم إلا ما حرمه.

8. قال محمد عبده: الآية حجة على أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ بقول أحد ما لم يسنده إلى المعصوم، أقول يعني في مسائل الدين البحتة: العبادات والحلال والحرام، أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فهي مفوضة بأمر الله إلى أولي الأمر؛ وهم رجال الشورى من أهل الحل والعقد، فما يقررونه يجب على حكام المسلمين أن ينفذوه وعلى الرعية أن يقبلوه، فما جرى عليه المقلدون من المسلمين من الأخذ بآراء بعض الفقهاء في العبادات والحلال والحرام هو عين ما أنكره كتاب الله تعالى على أهل الكتاب وجعله منافيا للإسلام بل جعل مخالفتهم فيه هي عين الإسلام فليعتبر المعتبرون، فإن هذه الآية أساس الدين المتين وأصله الأصيل ولذلك كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو بها أهل الكتاب إلى الإسلام كما ثبت في كتبه إلى هرقل والمقوقس وغيرهما وهذا نص كتابه صلى الله عليه إلى هرقل عاهل الروم كما في رواية البخاري: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم اليريسيين و{يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا تعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا} الآية إلى آخرها)، فلولا أن هذه الآية الكريمة أساس الدين وعموده لما جعلها آية الدعوة إلى الإسلام فهل يعذر من يؤمن بها إذا هو أدخل فيها باجتهاده ما ليس منها فاتخذ له أندادا يدعوهم لكشف الضر وجلب النفع زاعما أنهم وسائط يقربونه إلى الله زلفى؛ ويشفعون له عنده في مصالح الدنيا، وهذا عين الإشراك في الألوهية بالاجتهاد الباطل، والقياس الفاسد، الذي يشبه به الخبير العليم، الرحمن الرحيم، بالملوك الجاهلين والأمراء المستبدين، ولا اجتهاد في العقائد، ولا قياس في أصل الإيمان، أم هل يعذر من يؤمن بها إذا هو اتخذ لنفسه أربابا سماهم العلماء الراسخين، أو الأئمة المجتهدين، فجعل كلامهم حجة في الدين، وشرعا متبعا في التحليل والتحريم، وذلك عين الإشراك في الربوبية، والخروج عن هداية الآية القرآنية، المؤيدة بمثل قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21] وقوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ﴾ [النحل: 116] فالله تعالى قد حد الحدود وبين الحلال والحرام وسكت عن أشياء رحمة بنا غير نسيان منه عز وجل، ونهانا نبيه أإن نبحث عما سكت عنه وأن نزيد في الدين برأينا واجتهادنا وإنما أباح لنا الاجتهاد لاستنباط ما تقوم به مصالحنا في الدنيا فهذا هو هدى الآية وما يعقلها إلا العالمون.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/326.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر دعوته صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس إلى التوحيد والإسلام، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا، وبذلك انقطعت حججهم، ودل ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شيء مما يخاف عاقبته دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فلما أعرضوا أمر بأن يقول لهم: اشهدوا بأنا مسلمون.

2. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ أي قل: يا أهل الكتاب هلمّوا وانظروا في مقالة عادلة اتفقت عليها الرسل والكتب التي أنزلت إليهم، فقد أمرت بها التوراة والإنجيل والقرآن.

ثم بين هذه الكلمة فقال: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ أي ألا نخضع إلا لإله له السلطة المطلقة في التشريع وله التحليل والتحريم، ولا نشرك به شيئا سواه، ولا يتخذ بعضا بعضا أربابا من دون الله.

3. حوت هذه الآية وحدانية الألوهية في قوله ـ ألا نعبد إلا الله ـ ووحدانية الربوبية في قوله ـ ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ـ. وهذا القدر متفق عليه في جميع الأديان، فقد جاء إبراهيم بالتوحيد، وجاء به موسى، فقد ورد في التوراة قول الله له: (إن الربّ إلهك، لا يكن لك آلهة أخرى أمامى، لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، ومما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ) وكذلك جاء عيسى بمثل هذا، ففي إنجيل يوحنا: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته) وجاء خاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بمثل هذا ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾

4. خلاصة المعنى ـ أنا وأنتم نعتقد أن العالم من صنع إله واحد هو خالقه والمدبر له، وهو الذي يرسل إلينا أنبياءه ليبلغونا عنه ما يرضيه من العمل وما لا يرضيه فهلمّ بنا نتفق على إقامة هذه الأصول، ونرفض الشبهات التي تعرض لها، فإذا جاءكم عن المسيح شيء فيه (ابن لله) أوّلناه على وجه لا يخالف الأصل الذي اتفق عليه الأنبياء، لأننا لا نجد المسيح فسر هذا القول بأنه إله يعبد، ولا دعا إلى عبادته وعبادة أمه، بل كان يدعو إلى عبادة الله وحده والإخلاص له.

5. قد كان اليهود موحدين، ولكن كان منبع شقوتهم اتباعهم لرؤساء الدين فيما يقررون من الأحكام، وجعله بمنزلة الأحكام المنزلة من عند الله، وسار النصارى على هذا المنوال، وزادوا مسألة غفران الخطايا، وهى مسألة كان لها أثر خطير في المجتمع المسيحي حتى بلغ من أمرها أن ابتلعت الكنائس أكثر أموال الناس، فقامت طائفة جديدة تطلب الإصلاح وهى فرقة (البروتستانت) وقالت دعونا من هؤلاء الأرباب وخذوا الدين من الكتاب ولا تشركوا معه شيئا سواه من قول فلان وفلان.

6. روى عدى بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي عنقى صليب من ذهب، فقال يا عديّ اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ فقلت له: يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم، فقال: أما كانوا يحللون لكم ويحرّمون، فتأخذون بأقوالهم؟ قال نعم، فقال عليه السلام: (هو ذاك)

7. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي فإن أعرضوا عن هذه الدعوة وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله، واتخذوا الشركاء والوسطاء والأرباب الذين يحللون ويحرّمون، فقولوا لهم إنا منقادون لله مخلصون له لا نعبد أحدا سواه، ولا نتوجه إلى غيره نطلب منه النفع أو دفع الضر، ولا نحلّ إلا ما أحله الله، ولا نحرّم إلا ما حرمه الله.

8. في هذا حجة على أن مسائل الدين كالعبادات والتحريم والتحليل لا يؤخذ فيها إلا بقول النبي المعصوم لا بقول إمام مجتهد ولا فقيه قدير، وإلا كان ذلك إشراكا في الربوبية، وخروجا من هداية القرآن التي دل عليها مثل قوله‏ ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ﴾، وقوله‏: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ﴾، أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فقد فوّض الله أمرها إلى أولى الحل والعقد وهم رجال الشورى، فما أمروا به وجب على حكام المسلمين أن ينفذوه ويعملوا به، وعلى الرعية أن يقبلوه.

9. هذه الآية هي الأساس والأصل الذي دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أهل الكتاب إلى العمل به حين دعاهم إلى الإسلام كما ثبت ذلك في كتبه إلى هرقل والمقوقس وغيرهما.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/179.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من ثم يتلو ذلك التهديد في السياق دعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء: إلى عبادة الله وحده، وعدم الإشراك به، وألا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله.. وإلا فهي المفاصلة التي لا مصاحبة بعدها ولا مجادلة: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، وإنها لدعوة منصفة من غير شك، دعوة لا يريد بها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يتفضل عليهم هو ومن معه من المسلمين.. كلمة سواء يقف أمامها الجميع على مستوى واحد، لا يعلو بعضهم على بعض، ولا يتعبد بعضهم بعضا، دعوة لا يأباها إلا متعنت مفسد، لا يريد أن يفيء إلى الحق القويم.. إنها دعوة إلى عبادة الله وحده لا يشركون به شيئا، لا بشرا ولا حجرا، ودعوة إلى ألا يتخذ بعضهم بعضا من دون الله أربابا، لا نبيا ولا رسولا، فكلهم لله عبيد، إنما اصطفاهم الله للتبليغ عنه، لا لمشاركته في الألوهية والربوبية.

2. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، فإن أبوا عبادة الله وحده دون شريك، والعبودية لله وحده دون شريك، وهما المظهران اللذان يقرران موقف العبيد من الألوهية.. إن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.. وهذه المقابلة بين المسلمين ومن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، تقرر بوضوح حاسم من هم المسلمون، المسلمون هم الذين يعبدون الله وحده؛ ويتعبدون لله وحده؛ ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، هذه هي خصيصتهم التي تميزهم من سائر الملل والنحل؛ وتميز منهج حياتهم من مناهج حياة البشر جميعا، وإما أن تتحقق هذه الخصيصة فهم مسلمون، وإما ألا تتحقق فما هم بمسلمين مهما ادعوا أنهم مسلمون! إن الإسلام هو التحرر المطلق من العبودية للعبيد، والنظام الإسلامي هو وحده من بين سائر النظم الذي يحقق هذا التحرر.

3. إن الناس في جميع النظم الأرضية يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله.. يقع هذا في أرقى الديمقراطيات كما يقع في أحط الديكتاتوريات سواء.. إن أول خصائص الربوبية هو حق تعبد الناس، حق إقامة النظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين.. وهذا الحق في جميع الأنظمة الأرضية يدعيه بعض الناس ـ في صورة من الصور ـ ويرجع الأمر فيه إلى مجموعة من الناس ـ على أي وضع من الأوضاع ـ وهذه المجموعة التي تخضع الآخرين لتشريعها وقيمها وموازينها وتصوراتها هي الأرباب الأرضية التي يتخذها بعض الناس أربابا من دون الله؛ ويسمحون لها بادعاء خصائص الألوهية والربوبية، وهم بذلك يعبدونها من دون الله، وإن لم يسجدوا لها ويركعوا، فالعبودية عبادة لا يتوجه بها إلا لله.

4. في النظام الإسلامي وحده يتحرر الإنسان من هذه الربقة.. ويصبح حرا، حرا يتلقى التصورات والنظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين من الله وحده، شأنه في هذا شأن كل إنسان آخر مثله، فهو وكل إنسان آخر على سواء، كلهم يقفون في مستوى واحد، ويتطلعون إلى سيد واحد، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، والإسلام ـ بهذا المعنى ـ هو الدين عند الله، وهو الذي جاء به كل رسول من عند الله.. لقد أرسل الله الرسل بهذا الدين ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور العباد إلى عدل الله.. فمن تولى عنه فليس مسلما بشهادة الله، مهما أول المؤولون، وضلل المضللون.. ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/407.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه دعوة عادلة إلى أهل الكتاب.. يدعوهم فيها رسول الله، إلى كلمة يجتمع عليها المسلمون وأهل الكتاب، تلك الكلمة هي ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ فالتوحيد الخالص لله، توحيدا مصفّى من كل ضلالات الشرك وأوهامه ـ هو مضمون تلك الكلمة ومحتواها.

2. ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ هو تعريض بأتباع المسيح الذين اتخذوا المسيح ـ وهو بعض الناس ـ اتخذوه إلها من دون الله.. فالمسيح هو إنسان من الناس، فكيف يتخذ الناس بعضهم أربابا وآلهة؟ إنه مهما بلغ تقديرنا وإعزازنا لبعض الناس منا، فإن ذلك لا يخرج بهم عن دائرة الإنسانية، ولا يخرج بنظرنا إليهم عن الحدود البشرية، وإن وضعناهم على الذروة منها.

3. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ إلفات للمسلمين إلى ما بين أيديهم من حقّ، في تلك الكلمة التي دعوا أهل الكتاب إليها.. فإن أباها أهل الكتاب، وأعطوها ظهورهم، فإن على المسلمين أن يؤذّنوا بها في أسماع العالمين، وأن يملئوا أفواههم وقلوبهم بها، وأن يقولوها صريحة مدوية، بمحضر من هؤلاء الذين صمّوا آذانهم عنها، وأمسكوا ألسنتهم عن النطق بها.. وإشهاد أهل الكتاب على إيمان المؤمنين، هو شهادة عليهم، وحجة قائمة على موقفهم العنادىّ من دعوة الحق.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/486.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ رجوع إلى المجادلة، بعد انقطاعها بالدعاء إلى المباهلة، بعث عليه الحرص على إيمانهم، وإشارة إلى شيء من زيغ أهل الكتابين عن حقيقة إسلام الوجه لله كما تقدم بيانه، وقد جيء في هذه المجادلة بحجة لا يجدون عنها موئلا وهو دعوتهم إلى تخصيص الله بالعبادة ونبذ عقيدة إشراك غيره في الإلهية، فجملة ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ بمنزلة التأكيد لجملة ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا﴾ [آل عمران: 61] لأنّ مدلول الأولى احتجاج عليهم بضعف ثقتهم بأحقّية اعتقادهم، ومدلول هذه احتجاج عليهم بصحة عقيدة الإسلام، ولذلك لم تعطف هذه الجملة، والمراد بأهل الكتاب هنا النصارى: لأنهم هم الذين اتخذوا المخلوق ربّا وعبدوه مع الله.

2. ﴿تَعَالَوْا﴾ هنا مستعملة في طلب الاجتماع على كلمة سواء وهو تمثيل: جعلت الكلمة المجتمع عليها بشبه المكان المراد الاجتماع عنده، وتقدم الكلام على (تعالوا) قريبا.

3. الكلمة هنا أطلقت على الكلام الوجيز كما في قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ [المؤمنون: 100]

4. سواء هنا اسم مصدر الاستواء، قيل بمعنى العدل، وقيل بمعنى قصد لا شطط فيها، وهذان يكونان من قولهم: مكان سواء وسوى وسوى بمعنى متوسّط قال تعالى: ﴿فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 55]، وقال ابن عطية: بمعنى ما يستوي فيه جميع الناس، فإنّ اتخاذ بعضهم بعضا أربابا، لا يكون على استواء حال وهو قول حسن، وعلى كل معنى فالسواء غير مؤنث، وصف به‏ ﴿كَلِمَةَ﴾، وهو لفظ مؤنث، لأنّ الوصف بالمصدر واسم المصدر لا مطابقة فيه.

5. ﴿أَلَّا نَعْبُدَ﴾ بدل من‏ ﴿كَلِمَةَ﴾، وقال جماعة: هو بدل من سواء، وردّه ابن هشام، في النوع الثاني من الجهة السادسة من جهات قواعد الإعراب من مغني اللبيب، واعترضه الدماميني وغيره، والحق أنه مردود من جهة مراعاة الاصطلاح لا من جهة المعنى؛ لأنّ سواء وصف لكلمة وألّا نعبد لو جعل بدلا من سواء آل إلى كونه في قوة الوصف لكلمة ولا يحسن وصف كلمة به.

6. ضمير ﴿بَيْنَنَا﴾ عائد على معلوم من المقام: وهو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون، ولذلك جاء بعده: ﴿فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾

7. يستفاد من قوله: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾ إلى آخره، التعريض بالذين عبدوا المسيح كلّهم.

8. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ جيء في هذا الشرط بحرف (إن) لأنّ التولّي بعد نهوض هذه الحجة وما قبلها من الأدلة غريب الوقوع، فالمقام مشتمل على ما هو صالح لاقتلاع حصول هذا الشرط، فصار فعل الشرط من شأنه أن يكون نادر الوقوع مفروضا، وذلك من مواقع (إن) الشرطية فإن كان ذلك منهم فقد صاروا بحيث يؤيس من إسلامهم فأعرضوا عنهم، وأمسكوا أنتم بإسلامكم، وأشهدوهم أنكم على إسلامكم، ومعنى هذا الإشهاد التسجيل عليهم لئلّا يظهروا إعراض المسلمين عن الاسترسال في محاجتهم في صورة العجز والتسليم بأحقية ما عليه أهل الكتاب فهذا معنى الإشهاد عليهم بأنا مسلمون.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/117.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر سبحانه وتعالى فيما سبق خبر مريم البتول، وخبر ابنها عيسى الذي رفعه الله مكانا عليا، ثم ذكر سبحانه وتعالى الآيات الكبرى التي أجراها على يد عيسى عليه السلام لإثبات رسالته، وتوثيق دعوته، ثم آمن به الحواريون، وكفر به الأكثرون، مما يدل على أن المعجزة لا تحمل على الإيمان حملا، ولكنها تنير السبيل أمام طالبي الحق الذين لا يبغونها عوجا؛ ثم أشار سبحانه إلى انحراف الذين جاؤوا بعد عيسى وادّعوا أنهم اتبعوه، وما اتبعوه في شيء؛ فقد ادّعوا أنه إله أو ابن إله، وليس إلا عبد الله ورسوله، وقد اعتمدوا في هواهم على أنه خلق من غير أب، فأبطل سبحانه قياسهم بقياس أدق وأقوى إنتاجا، وهو أن آدم خلق من غير أب وأم فكان أولى أن يعبد، إن كان قياسهم سليما، ولكنه غير سليم.

2. ثم أمر سبحانه وتعالى أن يخاطب نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم نصارى عصره بما يكشف خبيئة نفوسهم، وهى أنهم لا يؤمنون بشيء إيمانا صادقا، ولكنهم يمارون، وما أمره سبحانه به هو أن يبتهل هو وهم، فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين، فلم‏ يدخلوا في تلك المبارزة النفسية التي يبارز فيها الحقّ اليقين الثابت الباطل المتردد المتحير.

3. في هذه الآيات ينتقل سبحانه وتعالى من الخصوص إلى العموم، فيخاطب أهل الكتاب من نصارى ويهود على لسان نبيه، يدعوهم جميعا إلى الحق الذي يتساوى عنده الجميع، فقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ النداء هنا لأهل الكتاب عامة، لا لطائفة خاصة منهم؛ فهو يشمل اليهود والنصارى جميعا، لا فرق بين طائفة منهم وطائفة، وكان النداء في هذا عاما؛ لأن العيب عام فيهم، والدواء واحد؛ فلوحدة الداء ووحدة الدواء كان النداء عاما؛ ذلك أن عيبهم هو التعصب لما عندهم تعصبا أعماهم عن الحق عند غيرهم، فهم يظنون أنهم وحدهم أهل علم النبوة لا ينزل على غيرهم ولا يدينون به لسواهم، فهم يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وكل يتعصب لما عنده، فاليهود يقولون: ليست النصارى على شيء، والنصارى يقولون: ليست اليهود على شيء، وكلاهما يقولون: ليس غيرنا على شيء، والدواء واحد أيضا، وهو طلب الحق لذات الحق من غير إذعان لهوى، ولا إفراط في العصبية، وحتى لا تؤدى إلى الانحراف.

4. ناداهم سبحانه بـ ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ مع أنهم حرفوا فيه الكلم عن مواضعه، وانحرفوا عن مبادئه، وفرقوا في أحكامه، وتفرقوا في فهمه؛ والسبب في هذا النداء هو أولا توبيخهم على ما كان منهم؛ لأن علمهم بالكتاب كان يوجب عليهم الإذعان للحق بدل التفرق فيه، ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى‏] ثم هناك سبب آخر، وهو أن علمهم بالكتاب في الجملة يجعل الاحتكام إلى ما بقى منه عندهم كافيا لإذعانهم إن كانت عندهم أثارة من إيمان بالحق وطلب له مع ما هم فيه من تعصب.

5. أمر الله نبيه بأن يدعوهم بقوله: ﴿كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ أي كلمة هي مستوية بيننا وبينكم، أي فيها إنصاف لنا ولكم، ونلتقى فيها معكم، وتلتقون‏ عندها إن طلبتموها، وكلمة سواء تطلق بمعنى العدل والنصفة، وقد قال زهير بن أبى سلمى:

çأرونى خطّة لا ضيم فيها...يسوّى بيننا فيها السّواءé

فالسواء هنا هو العدل، وأصل السّوى، والسّوى الاستواء، وإذا فتحت السين منها صارت سواء، ولقد قال تعالى: ﴿مَكَانًا سُوًى﴾ [طه‏] أي مكانا مستويا.

6. المؤدى أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه أن يدعوهم إلى كلمة يستوى فيها النبيّ معهم، وكان ينبغي أن يستووا بالنسبة لها معه، وتلك الكلمة، أو تلك الحقيقة المقررة الثابتة في كل الكتب السماوية التي لا يفترق فيها كتاب عن كتاب هي ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ فهذه الكلمة التي يستوى فيها الإسلام مع الأديان التي سبقته هي التوحيد، والتوحيد بشمول معناه يشمل التوحيد في العبودية، والتوحيد في الربوبية:

أ. والتوحيد في العبودية ألا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا ما بينه سبحانه وتعالى بقوله على لسان نبيه: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ فلا يصح أن يشرك مع الله في الألوهية حجر ولا بشر، فلا يقال: فلان إله، ولا ابن إله ولا عنصر ألوهية قط في حجر.

ب. أما التوحيد في الربوبية، فهو ما أشار إليه سبحانه بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ أي لا يتخذ أحد من البشر في مقام الرب، بأن يكون له فضل في التكوين أو الإنشاء أو التأثير في الخلق بأي نوع من أنواع التأثير، فإن هذا كله من عمل الرب، والله سبحانه وتعالى هو رب العالمين وحده، ولا رب سواه، فلا مؤثر في الكون ولا في الأشخاص، ولا في الأشياء سواه، فلا أثر لحجر ولا لبشر كائنا من كان هذا البشر.

7. هناك معنى آخر للربوبية يدخل في مضمونها، وهو أن يكون الشرع كله لله تعالى، فلا يتكلم عن الله أحد إلا نبيّ يوحى إليه، والجميع بعد ذلك أمام الشرع سواء، إلا أن يكون فهم متميز متفهم متعرف، ومن ادعى أنه يتكلم عن الله باسم الله من غير وحى يعتمد عليه، فقد زعمه ربا يؤخذ عنه؛ ولذلك عبر القرآن عن علماء النصارى واليهود الذين ادعوا أن قولهم دين يتبع، وتقاليد تؤثر، بأنهم قد اتخذوهم أربابا من دون الله، فقال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [التوبة] ذلك بأنهم جعلوا لهم الحق في أن يشرعوا باسم الله ما لم يشرعه الله، وأن يخالفوا ما أمر الله سبحانه وتعالى، فهم جعلوهم في مقام الرب جل جلاله، ولقد روى عندما نزل قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ قال عدى بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله! فقال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أليسوا كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذوا بقولهم؟) قال بلى، قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (هو ذاك)، وعن بعض التابعين أنه قال لا أبالى أطعت مخلوقا في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة! فكانت التسوية كاملة بين الأخذ في دين الله بغير ما أنزل الله، والخروج عن الإسلام الذي رمز إليه ذلك التابعى الجليل، وهو ألا يكون من أهل القبلة.

8. عرض النبيّ بأمر الله تعالى ذلك الأمر الذي يكون فيه نصفة له‏ ولهم، وكانت الدعوة إلى أخذ دين الله من ينبوعه الصافى فيهما فائدتان:

أ. إحداهما: ألا يتزيدوا على ما أمر الله تعالى وما نهى عنه.

ب. الثانية: أن أولئك المجادلين هم الذين يبثون في نفوس أتباعهم التعصب الأعمى، محافظة على سلطانهم أن يزول؛ فكانوا في زعامتهم بمنزلة زعماء قريش وأشباههم من أنهم خشوا على سلطانهم من اتباع النبيّ الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم.

9. إذا كان قد دعاهم إلى هذا الإنصاف وإلى ترك التعصب جانبا، وعدم الخضوع لأسبابه، فإن حال الذين يخاطبهم إحدى حالين: إما أن يخلصوا في طلب الحق، ويجيبوا داعيه، وتلك خير الخصلتين، وإما أن لا يجيبوا داعيه وتلك هي السوأى، فإن كانت الأولى فتلك هداية الله، وإن كانت الثانية فإن الله تعالى قد كتب عليهم الشقوة، ولا سبيل لأن يدخل النور قلوبهم، فإن من طلب منه الإنصاف فأعرض عنه فلا سبيل إلى هدايته، والجدل معه لا يجدى.

10. ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي فإن أعرضوا ونأوا بجانبهم عن إجابة داعى الإنصاف، والدعوة بالتي هي أحسن فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم، فإن الجدل مع من لم يجب داعى العدالة لا يزيده إلا لجاجة وعنادا؛ وإن الحقائق تتبعثر على ألسنة المتجادلين، ويتبدد رونقها، ويذهب بهاؤها، وتفقد النفس عند الجدل الإيمان بالحقائق والإذعان لها.

11. بل أمرهم الله تعالى بقوله: ﴿فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي يقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه من المؤمنين لأولئك الذين مردوا على الجدال وبعثرة الحقائق في حومة الجدل: اشهدوا بأنا مسلمون، مذعنون لطلب الحق فلا تحاولوا أن تغيرونا عما اعتقدنا وقد أنصفناكم بالدعوة إلى كلمة الحق والإنصاف، فلم تجيبوا، والآن ننصفكم مرة أخرى بأن نشهدكم بأننا مخلصون في طلب الحق مذعنون له؛ ومن جانبنا؛ فإن أذعنتم مثلنا فنعمّا هي وإن لم تذعنوا فلنا ديننا، ولكم دينكم، والله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين، وإن إعلان الإذعان للحق من جانب المؤمنين فيه دعوة للحق بإعلان المثل الواضح البين السامي وهو يؤثر في الدعوة إلى الحق أكثر من الجدل، إذ يكون فيه ذكرى لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وإن الجدل يثير غبارا يجعل الوصول إلى الحق عسيرا وسط عجاجة المتجادلين.

12. هذه الآية الكريمة صورة سامية من الدعوة إلى الحق، ولذا كان يتخذها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم منهاجه في دعوته، فقد كانت في الصيغة التي اختارها في دعوة الملوك والحكام الكبراء إلى الإسلام، وهذا نص كتابه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى هرقل ملك الروم: (من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم؛ سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين‏، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباب من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1257.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾، يؤمن اليهود بالتوراة، ويؤمن النصارى بالتوراة والإنجيل، ويؤمن المسلمون بالتوراة والإنجيل والقرآن، وقد أجمعت هذه الكتب الثلاثة على ان وراء الكون مدبرا حكيما.. ولكن النصارى بالغوا في الغلو، فجعلوا لله شركاء، ونسبوا له ولدا، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، يحللون لهم، ويحرّمون، ويغفرون الخطايا والذنوب، ويبيعون أذرعا في السماء.. روي ان عدي بن حاتم قال لرسول الله: ان الله يقول في كتابه العزيز: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ مع ان النصارى لا يعبدون الأحبار والرهبان.. فقال له الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: أما كانوا يحللون لكم ويحرّمون، فتأخذون بأقوالهم؟، قال عدي: نعم، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: هو ذاك.

2. ما زلنا، ونحن في القرن العشرين، نقرأ في الصحف؛ ونسمع من الاذاعات ان فلانا تشرّف بمقابلة البابا، ومنحه البابا البركة، وكذا يمنح البركة الكردينال والبطريرك.. أما المسلمون فإنهم يعتقدون ان البركة لا تكون ولن تكون الا من الله: ﴿رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ﴾، أما اليهود فقد أنكروا عيسى عليه السلام، وحاولوا صلبه، وكفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم على علم من صدقه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾

3. جادل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وأورد عليهم أنواع الدلائل، ولم يدع لهم منفذا، ولكنهم أصروا على الكفر، ثم دعاهم إلى المباهلة، ولكنهم فضلوا أداء الجزية بصغار على الاعتراف بالحق.. ورغم هذا كله فقد ظل حريصا على أن يؤمنوا، وهذا شأنه مع كل جاحد، حتى خاطبه الله تعالى في الآية 103 من سورة يوسف: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ وفي الآية 37 من سورة النحل: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾

4. تأكيدا للحجة على المعاندين، وإظهارا لحقيقتهم لدى النبي، والناس أجمعين قال تعالى: يا محمد دع جدالهم ومباهلتهم، واسلك معهم هذا المنهج الذي يشهد كل ذي لب انه العدل والحق.. بل انه البديهة والضمير والوجدان، وذلك أن تدعوهم إلى ما أقره العقل والكتب السماوية بكاملها، وهو أن تستووا جميعا في عبادة الله وحده لا شريك له.. لا يعبد بعضكم بعضا، ولا يعلو بعضكم على بعض، وهذه هي كلمة سواء.

5. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، أي فإن لم يقبلوا، حتى هذه البديهة، وأبوا الا الشرك والعناد فأعرض عنهم، وقل لهم أنت ومن آمن بك: ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، وفي إشهاد الكافرين على اسلام المسلمين فائدتان:

أ. الأولى: اشعار الكافرين بعدم المبالاة بهم وبكفرهم، وان محمدا ومن معه يؤمنون بالحق، وبه يعملون، حتى ولو كفر أهل الشرق والغرب.

ب. الفائدة الثانية: الاشارة إلى أن المسلمين يتميزون عن غيرهم بعبادة الله الواحد الأحد، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، ولا لأحد منهم كائنا من كان سلطة التحليل والتحريم، وغفران الذنوب، كما هي الحال عند غيرهم.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/81.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شروع في المرحلة الثانية من البيان المتعرض لحال أهل الكتاب عامة والنصارى خاصة وما يلحق بذلك، فقد كانت الآيات فيما مر تعرضت لحال أهل الكتاب عامة بقوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾، وبقوله‏ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾، ثم انعطف البيان إلى شأن النصارى خاصة بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾ الآية، وتعرضت في أثنائها لولاية المؤمنين للكافرين بقوله: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾، فهذا في المرحلة البادئة، ثم عادت إلى بيان ما ذكرته ثانيا بلسان آخر ونظم دون النظم السابق فتعرضت لحال أهل الكتاب عامة في هذه الآيات المنقولة آنفا، وما سيلحق بذلك من متفرقات بحسب مساس خصوصيات البيانات بذلك كقوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ الآية، وقوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ الآية، وتعرضت لحال النصارى وما تدعيه في أمر عيسى عليه السلام بقوله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ﴾ الخ، وتعرضت لأمور ترجع إلى المؤمنين من دعوتهم إلى الإسلام والاتحاد والاتقاء من ولاية الكفار واتخاذ البطانة من دون المؤمنين في آيات كثيرة متفرقة.

2. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾، الخطاب لعامة أهل الكتاب، والدعوة في قوله: ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ﴾ الآية بالحقيقة إنما هي إلى الاجتماع على معنى الكلمة بالعمل به، وإنما تنسب إلى الكلمة لتدل على كونها دائرة بألسنتهم كقولنا اتفقت كلمة القوم على كذا فيفيد معنى الإذعان والاعتراف والنشر والإشاعة، فالمعنى: تعالوا نأخذ بهذه الكلمة متعاونين متعاضدين في نشرها والعمل بما توجبه.

3. السواء في الأصل مصدر، ويستعمل وصفا بمعنى مساوي الطرفين، وسواء بيننا وبينكم أي مساو من حيث الأخذ والعمل بما توجبه، وعلى هذا فتوصيف الكلمة بالسواء توصيف بحال المتعلق وهو الأخذ والعمل، وقد عرفت أن العمل إنما يتعلق‏ بمعنى الكلمة لا نفسها كما أن تعليق الاجتماع أيضا على المعنى لا يخلو من عناية مجازية ففي الكلام وجوه من لطائف العنايات: نسبة الاجتماع إلى المعنى ثم وضع الكلمة مكان المعنى ثم توصيف الكلمة بالسواء!.

4. ربما قيل: إن معنى كون الكلمة سواء أن القرآن والتوراة والإنجيل متفقة في الدعوة إليها، وهي كلمة التوحيد، ولو كان المراد به ذلك كان قوله تعالى: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾ الآية من قبيل وضع التفسير الحق موضع الكلمة المتفق عليها، والإعراض عما لعبت به أيديهم من تفسيره غير المرضي الذي تنطبق الكلمة بذلك على أهوائهم من الحلول واتخاذ الابن والتثليث وعبادة الأحبار والقسيسين والأساقفة ويكون محصل المعنى: ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ وهي التوحيد، ولازم التوحيد رفض الشركاء وعدم اتخاذ الأرباب من دون الله سبحانه.

5. الذي تختتم به الآية من قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ يؤيد المعنى الأول فإن محصل المعنى بالنظر إليه أنه يدعو إلى هذه الكلمة وهي أن لا نعبد إلا الله.. لأنها مقتضى الإسلام لله الذي هو الدين عند الله، وإن كان الإسلام أيضا لازما من لوازم التوحيد لكن الدعوة في الآية إنما هي إلى التوحيد العملي وهو ترك عبادة غير الله سبحانه دون اعتقاد الوحدة، فافهم ذلك.

6. ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾، تفسير للكلمة السواء، وهي التي يوجبها الإسلام لله، والمراد بقوله: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾، نفي عبادة غير الله لا إثبات عبادة الله تعالى على ما مرت الإشارة إليه في معنى كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله): أن لازم كون إلا الله، بدلا لا استثناء كون الكلام مسوقا لبيان نفي الشريك دون إثبات الإله، فإن القرآن يأخذ إثبات وجود الإله وحقيته مفروغا عنه.

7. لما كان الكلام مسوقا لنفي الشريك في العبادة ولا ينحسم به مادة الشرك اللازم من اعتقاد البنوة والتثليث ونحو ذلك أردفه بقوله: ﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ﴾ الآية فإن تسمية العبادة بعبادة الله لا تصير العبادة عبادة لله سبحانه ما لم يخلص الاعتقاد ولم يتجرد الضمير من الاعتقادات والآراء المولودة من أصل الشرك لأن العبادة حينئذ إنما تكون عبادة إله له شريك والعبادة التي يعبد بها أحد الشريكين وإن خص باسمه ووجه نحوه ليست إلا نابتة منبت التشريك لأنها لا تعدو أن تكون سهما يسهم له وحظا يقسم له من بين الشريكين أو الشركاء ففيها بعينها نحو عبادة للغير، وهذا الذي يدعو إليه النبي بأمر الله سبحانه، وهو الذي يدل عليه قوله: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾، هو الذي يجمع غرض النبوة في السيرة التي كانت الأنبياء تدعو إليها وتبسطها على المجتمع الإنساني.

8. تقدم عند الكلام على قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أن النبوة انبعاث إلهي ونهضة حقيقية يراد بها بسط كلمة الدين وأن حقيقة الدين تعديل المجتمع الإنساني في سيره الحيوي، ويتبعه تعديل حياة الإنسان الفرد فينزل بذلك الكل منزلته التي نزله عليها الفطرة والخلقة فيعطي به المجتمع موهبة الحرية وسعادة التكامل الفطري على وجه العدل والقسط، وكذلك الفرد فهو فيه حر مطلق في الانتفاع من جهات الحياة فيما يهديه إليه فكره وإرادته إلا ما يضر بحياة المجتمع وقد قيد جميع ذلك بالعبودية والإسلام لله سبحانه، والخضوع لسيطرة الغيب وسلطنته.

9. خلاصة ذلك أن الذي كانت تندب إليه جماعة الأنبياء عليه السلام أن يسير النوع الإنساني فرادى ومجتمعين على ما تنطق به فطرتهم من كلمة التوحيد التي تقضي بوجوب تطبيق الأعمال الفردية والاجتماعية على الإسلام لله، وبسط القسط والعدل، أعني بسط التساوي في حقوق الحياة، والحرية في الإرادة الصالحة والعمل الصالح، ولا يتأتى ذلك إلا بقطع منابت الاختلاف والبغي بغير الحق واستخدام القوي واستعباده للضعيف وتحكمه عليه، وتعبد الضعيف للقوي فلا إله إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا حكم إلا لله سبحانه، وهذا هو الذي تدل عليه الآية: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ الآية، وقال تعالى فيما يحكيه عن يوسف عليه السلام: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، وقال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.

10. فيما حكاه القرآن عن الأنبياء السالفين كنوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى وعيسى عليه السلام مما كلموا به أممهم شيء كثير من هذا القبيل كقول نوح: ﴿رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾، وقول هود لقومه: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾، وقول صالح لقومه: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ﴾، وقول إبراهيم لأبيه وقومه: ﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، وقوله تعالى لموسى وأخيه: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ ـ إلى أن قال ـ: ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ﴾، وقول عيسى لقومه: ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾، فالدين الفطري هو الذي ينفي البغي والفساد، وهذه المظالم والسلطات بغير الحق الهادمة لأساس السعادة والمخربة لبنيان الحق والحقيقة، وإلى ذلك يشير قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجة الوداع: (وقد ذكره المسعودي في حوادث سنة عشر من الهجرة في مروج الذهب)، (ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) وكأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم يريد به رجوع الناس إلى حكم الفطرة باستقرار سيرة الإسلام بينهم.

11. الكلام أعني قوله تعالى: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾ الآية، على كونه آخذا بمجامع غرض النبوة مفصح عن سبب الحكم وملاكه، أما قوله: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾، فلأن الألوهية هي التي يأله إليه ويتوله فيه كل شيء من كل وجه، وهو أن يكون منشأ لكل كمال في الأشياء على كثرتها وارتباطها واتحادها في الحاجة، وفيه كل كمال يفتاق إليه الأشياء، وهذا المعنى لا يستقيم إلا إذا كان واحدا غير كثير، ومالكا إليه تدبير كل شيء، فمن الواجب أن يعبد الله لأنه إله واحد لا شريك له، ومن الواجب أن لا يتخذ له شريك في عبادته، وبعبارة أخرى، هذا العالم وجميع ما يحتوي عليه لا يصح ولا يجوز أن يخضع ويتصغر إلا لمقام واحد إذ هؤلاء المربوبون لوحدة نظامهم وارتباط وجودهم لا رب لهم إلا واحد إذ لا خالق لهم إلا واحد.

12. أما قوله تعالى: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ فمن حيث أفاد أن المجتمع الإنساني على كثرة أفراده وتفرق أشخاصه أبعاض من حقيقة واحدة هي حقيقة الإنسان ونوعه فما أودعته فيه يد الصنع والإيجاد من الاستحقاق والاستعداد الموزع بينهم على حد سواء يقضي بتساويهم في حقوق الحياة واستوائهم على مستوى واحد، وما تفاوت فيه أحوال الأفراد واستعدادهم في اقتناء مزايا الحياة من مواهب الإنسانية العامة التي ظهرت في مظاهر خاصة من هاهنا وهناك وهنالك يجب أن تعطاه الإنسانية لكن من حيث تسأله، كما أن الازدواج والولادة والمعالجة مثلا من مسائل الإنسانية العامة لكن الذي يعطى الازدواج هو الإنسان البالغ الذكر أو الأنثى، والولادة يعطاها الإنسان الأنثى والعلاج يعطاه الإنسان المريض.

13. بالجملة أفراد الإنسان المجتمع أبعاض متشابهة من حقيقة واحدة متشابهة فلا ينبغي أن يحمل البعض إرادته وهواه على البعض إلا أن يتحمل ما يعادله، وهو التعاون على اقتناء مزايا الحياة، وأما خضوع المجتمع أو الفرد لفرد أعني الكل أو البعض لبعض بما يخرجه عن البعضية، ويرفعه عن التساوي بالاستعلاء والتسيطر والتحكم بأن يؤخذ ربا متبع المشية، يحكم مطلق العنان، ويطاع فيما يأمر وينهى ففيه إبطال الفطرة وهدم بنيان الإنسانية، وأيضا من حيث إن الربوبية مما يختص بالله لا رب سواه فتمكين الإنسان مثله من نفسه يتصرف فيه بما يريد من غير انعكاس، اتخاذ رب من دون الله لا يقدم عليه من يسلم لله الأمر.

14. تبين أن قوله: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ يفصح عن حجتين فيما يفيده من المعنى: إحداهما كون الأفراد أبعاضا، والآخر كون الربوبية من خصائص الألوهية.

15. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ استشهاد، بأنهم (وهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن اتبعه) على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الإسلام، قال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾، فينقطع بذلك خصامهم وحجاجهم إذ لا حجة على الحق وأهله.. وفيه إشارة إلى أن التوحيد في العبادة من لوازم الإسلام.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/246.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ في (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (﴿إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ معناه: عدل)، وفي (المصابيح) تفسير الشرفي: (أي هلموا إلى كلمة فيها الإنصاف من بعضنا لبعض، ولا ميل فيه لأحد على صاحبه، والسواء: هو العدل والإنصاف)، وفي (الصحاح): (عن الأخفش: تقول مكان سُوى، وسِوًى، وسَوَاءٌ: أي عدل ووسط فيما بين الفريقين)، وهذه الدعوة عامة لأهل الكتاب اليهود والنصارى.

2. ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾ إلى آخره تفسير الكلمة السواء، وقوله: ﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ أي لا نجعل له شريكاً في شيء من صفاته كالقدرة على كل شيء، والعلم بكل شيء، والربوبية والملك.

3. ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ أي أن نجعل الحكم لله وحده، ولا نصنع كما صنعتم في اتخاذكم أحباركم ورهبانكم ﴿أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وفي هذا زيادة إيضاح وإعلان بالإنصاف، وإن كان قد دخل تحت قوله: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾

4. معنى: ﴿تَعَالَوْا﴾ إلى هذه الكلمة، إلى الإجتماع عليها، وتطبيقها منا ومنكم، فلم ندعكم إلى أن نستعبدكم، أو نستأثر عليكم، أو نستبد عليكم، إنما ندعوكم ﴿إِلَى كَلِمَةٍ﴾ هي لكم مثل ما هي لنا، وهي لنا مثل ما هي لكم، لأن معناها: استواء الجميع في العبودية لله تعالى، والإنقياد منا ومنكم لذلك وهو الدين الذي ندعو إليه.

5. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن هذه الدعوة أو عما دعوتموهم إليه فيها ﴿فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أنفسنا لله وحده لا نعبد إلا إياه ولا نتخذ رباً غيره، فديننا هذا ونحن برآء من دينكم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/478.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قيل في سبب النزول أقوال: (الأول): إنها نزلت في نصارى نجران، (الثاني): إنها نزلت في يهود المدينة، (الثالث): إنها نزلت في الفريقين من أهل الكتاب‏؛ وربما كان هذا أولى لشموله لكل الذين يلتقي الإسلام معهم في القاعدة التوحيدية من دون اختصاص بفريق دون فريق.

2. في هذه الآية حديث مع أهل الكتاب في أسلوب جديد من أساليب الحوار التي أراد الله للنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في ما خاطبه به في وحيه، أن يواجه به هؤلاء الذين يريد الإسلام الوصول معهم إلى نقطة اللقاء على أساس القناعة في الفكرة الواحدة، أو التعايش في موقف التفاهم وإقامة الحجة الواضحة التي لا ريب فيها ولا التباس.

3. لعل قيمة هذه الآية في ما تعالج من أسلوب، أنها تمثل للإنسان الداعية منهجا للحوار والعمل في كل مواقفه العملية في الحياة، فإن القرآن عندما يطرح أية قضية في أي مجال من مجالات الحوار مع الآخرين، سواء أكانوا من المشركين أم كانوا من أهل الكتاب، لا يتحدث عن التاريخ لمجرّد حكاية التاريخ، بل يريد أن يفسح المجال للمفاهيم العامة الحيّة كي تتحرك في الساحة من خلال النموذج الحي، الذي ينقل إلينا الفكرة والتجربة معا، لتكون الفكرة جاهزة للحياة وللحركة في ضوء حركتها الفاعلة في التاريخ، وتلك هي قصة التاريخ في الإسلام في سلبياته وإيجابيّاته في ما نأخذ منه من عبرة للحاضر على أساس حركة الواقع في الماضي بعيدا عن كل لهو بالقصة، أو استرخاء مع الحدث الغارق في ضباب الماضي.

4. والآن، نحن مع الآية في هذا الأسلوب الجديد من منهج الحوار.. إنها تطرح مع أهل الكتاب فكرة اللقاء على قاعدة مشتركة، لنتمكّن من خلال ذلك من اكتشاف وجود لغة وقناعات مشتركة ومشاعر قريبة إلى بعضها البعض، مما يوحي بوجود أساس واقعي للتفاهم، لأن القضايا المسلّمة لدى كل فريق يمكن أن تتدخل لتحسم الخلاف في القضايا المتنازع فيها، فهي تدعونا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، فنحن نؤمن بالوحدانية كما تؤمنون، وبذلك نلتقي معا في نطاق عبادة الله الواحد فلا نشرك في العقيدة ولا نشرك في العبادة، وعلى ضوء ذلك نلتقي على عدم اتخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، لأن ذلك يعني الشرك لله في خلقه، فلا مجال لأن نحلّ ما حرمه الله علينا، أو نحرّم ما أحلّه الله لنا، إذا أمرنا هؤلاء بذلك، فإن ذلك يعني الخضوع والعبادة اللذين يؤديان إلى الشرك في نهاية المطاف.

5. وهذا ما استوحاه أحد أئمة أهل البيت عليهم السّلام في هذه الفقرة في ما يروى عنه في الجواب عن سؤال قدّم إليه، وخلاصته: إن اليهود لا يتخذون بعضهم بعضا أربابا من دون الله فكيف يطرح عليهم هذه الصيغة التي تشعر بوجود شيء لديهم من هذا القبيل، فيريد الله أن يخلصهم منه ويفرض عليهم منهجه الحق؟ وكان الجواب يتلخص في التأكيد على هذا الجانب، فإنهم أحلوا لهم حراما وحرّموا حلالا فاتبعوهم في ذلك، فكانت تلك ربوبية عملية، وهذا ما نواجهه، في ساحة العمل المنحرف، في التزامنا بما تصدره بعض المؤسسات أو الحكومات من قوانين تتنافى مع قوانين الإسلام ومفاهيمه، فإن ذلك يمثل إشراكا في جانب العمل وإن لم يكن إشراكا في خط العقيدة.

6. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ الذي أنزله الله ليكون هدى ونورا للناس يقفون عند مفاهيمه وينطلقون منه ويتحركون في خطوطه ويرجعون إليه، ويلتقون عليه إذا تنازعوا، ليكون المرجع لهم في كل ذلك.. فنحن نؤمن به كما تؤمنون به، لأننا نؤمن بالكتاب كله فلا نفرق بين كتاب وكتاب، باعتبار أنه كلمة الله، ولا بين رسول ورسول لأن الجميع رسل الله‏.

7. ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ لتكون قاعدة اللقاء على الأرض الفكرية العقيدية المشتركة التي نلتزمها معا، على أساس وحدة المبدأ من دون الدخول في التفاصيل التي تثير النزاع في الجزئيات هنا وهناك، وإذا شئتم المبدأ العام في اللقاء فإنّه قد يحدث جوّا نفسيا إيجابيا ملائما، يفسح المجال للانفتاح على الآخر من موقع الإيحاء بأن هناك فرصة للقاء في ما يختلف فيه، على أساس واقعية اللقاء من خلال ما اتفق عليه، ليكون الحوار من مواقع اللقاء أقرب إلى حل المشكلة الفكرية والعملية من الانطلاق من مواقع الاختلاف.

8. ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾ فهذه هي القاعدة المشتركة في خط عبادة الله الواحد بعيدا عن عبادة أيّ موجود آخر، لننطلق في كل طقوسنا وعاداتنا وتقاليدنا من ذلك، فلا نأخذ بأيّة وسيلة من وسائل التعبير عن العادة مما يشير إلى الشرك أو يلتقي به مهما كانت.

9. ﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ في الفكر والعمل، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهذه هي العقيدة التوحيدية التي توحي بأننا نتوحد بالله، لأنه ربنا جميعا، بقطع النظر ـ في البداية ـ عن خلافاتنا في شخصية الإله وإذا ما كان تجسد في عيسى، وغير ذلك من الخلافات الجزئية في العناوين التفصيلية للعقيدة.

10. ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ فلا يكون الإنسان ربّا للإنسان مهما علا شأنه، وتضخمت قوته، وامتدت سلطته.. لأن ذلك كله لا يرفعه إلى درجة الربوبية، فهو مخلوق من مخلوقات الله، كما أن ما يملكه من مال وجاه وقوة وسلطان، هو نعمة من نعم الله، وفي ضوء ذلك، لا مجال لأي خضوع لذاته، ولا طاعة لأوامره ونواهيه، ولا التزام بخطه في حركة الحياة والإنسان على مستوى الانتماء إليه في ذلك كله، لأنه يمثل الانحراف عن الحقيقة التوحيدية، التي تؤكد وحدانية الله في الربوبية ووحدة الإنسان في عبوديته لله، وفي مساواة كل تنوعاته على صعيد الإنسانية؛ فليست هناك إنسانية في الدرجة الفوقية وأخرى في الدرجة التحتية من حيث الذات، بل إن التمايز ينطلق من الصفات المكتسبة أخلاقا وفكرا وعملا.

11. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأعرضوا عن هذا الخط المشترك، ولم ينسجموا مع هذه الروح التي تجمع ولا تفرّق وتقرّب ولا تبعّد؛ فلا تتشنّج منهم ولا تحقد عليهم، بل حاول أن تواجههم بالموقف النفسي الحاسم.

12. ﴿فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ وذلك بالإعلان عن الموقف الحق، الذي يحمّلهم المسؤولية من خلال تحميلهم مسئولية الشهادة أمام الله، بأن النبي وأتباعه مسلمون في كل ما يعتقدون وما يقولون وما يفعلون، فلم ينطلقوا من عقدة الذات أو الحقد، أو اللعب بالكلمات والمواقف.. بل انطلقوا في هذا الموقف الصلب من موقع إسلامهم لله في الفكر والقول والعمل.. هذا الإسلام الذي يفتح قلوبهم على الحياة وعلى الإنسان من خلال انفتاحه على الله سبحانه.. وربما كانت قيمة هذا الأسلوب في الإعلان عن الموقف بعد إقامة الحجة على الطرف الآخر، هو الإيحاء بقوّة الموقف، وعدم الانهزام أمام الحالات السلبية أو الأوضاع الاستعراضية التي يقوم بها الطرف الآخر من أجل تحطيم أعصاب الداعين إلى الله والعاملين في سبيله.

13. وهكذا يعطي الإسلام للحوار خاتمته من دون أن يغلق بابه أو يسيء إلى الآخرين، بل كل ما هناك أنه يحاول التأكيد لهم بأن إعراضهم لا يغيّر من الموقف شيئا لأنه لم ينطلق من خلال قناعات الآخرين وتشجيعهم، بل من داخل القناعة الذاتية المرتكزة على وضوح الرؤية، مما يجعل من استمراره نقطة تحدّ حاسمة، وفي ضوء ما قلنا آنفا، ليس هذا الطرح في أسلوب الحوار منطلقا من خصوصية أهل الكتاب، بل هو مستمدّ من المنهج العام للأسلوب الإسلامي الذي يؤكد على نقاط اللقاء في رحلة الوصول إلى الحقيقة، ولا يؤكد على نقاط الخلاف إلّا في نهاية المطاف.

14. على هذا الأساس، فلا بدّ للدعاة إلى الله في حركتهم نحو الهدف الكبير من الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان، وذلك بأن يتلمسوا بأيديهم وأفكارهم المجالات المشتركة في العقيدة والأسلوب والحياة التي تربط المسلم بالآخرين وتربطهم به، لتقرّبهم إليه، ولتوحي لهم بأنّ هناك مرحلة من الطريق يمكن أن تمثل وحدة السبل في المرحلة الأولى أو الثانية، فإن ذلك كفيل بإلغاء الكثير من التعقيدات، وتجميد الكثير من الحساسيات، وتقريب الكثير من الأفكار، حتى إذا انتهى الأمر إلى نقطة الافتراق، كانت الطريق ممهّدة أمام الطرفين للوصول إليها كمقدّمة للسير عليها من موقع القناعات المشتركة التي تصنع الأرض المشتركة.

15. لعل من الضروري أن يتحرّك العاملون في هذا الاتجاه، على أساس صنع شخصيتهم الإسلامية، بحيث تلتقي المواقف لديهم من خلال الطابع الذي يميّز شخصيتهم، لا كحالة طارئة يمكن أن تأتي وتزول من دون قاعدة ثابتة، فيتحرك المسلم في هذا الجو ويمارسه مع اختلاف الأديان الموجودة في الساحة الدينية، واختلاف المذاهب التي تعيش في الساحة الإسلامية، واختلاف المبادئ والأفكار السياسية والاجتماعية والفلسفية في الساحة الفكرية العامة، ليصل إلى النتائج الحاسمة بأفضل طريق وأروع أسلوب.

16. كمثال على ذلك خلافات الساحة الإسلامية، كما في الخلافات بين السنّة والشيعة، فقد لا يكون من الحكمة أن نبادر إلى طرح قضايا الاختلاف بينهما في بداية الحوار، سواء ما يتعلق منها بتفاصيل العقيدة أو بموضوع الخلافة أو بمفردات الشريعة، بل علينا أن نعمل على طرح موارد الوفاق، لأننا إذا اتبعنا الأسلوب الأول، فإننا نوحي إلى الطرف الآخر بأن الموقف هو موقف صراع يبحث فيه كل طرف عن أدواته التي يحارب بها الطرف الآخر، أو عن الكلمات والمواقف التي يحاول أن يسجّل من خلالها نقطة على حساب الفريق‏ الثاني، فتكون الروح التي تحكم الساحة هي روح المعركة الحادّة، أمّا إذا اتبعنا الأسلوب الآخر بأن آثرنا القضايا المتعلقة بأسس العقيدة والشريعة، وأكّدنا عليها في استعراض شامل يستوعب أكثر هذه الجوانب، فإننا سنعيش الجوّ الروحي الواقعي الذي ننفتح من خلاله على القاعدة الإسلامية التي نقف عليها من خلال الأسس التي ترتكز عليها القاعدة، مع إثارة الأجواء الروحية التي تفتح أمام الإنسان آفاق التقوي، وتحريك الأجواء الحميمة التي تثير المشاعر الإنسانية بالعاطفة.. مما يحقّق للموقف مزيدا من المرونة والشعور بالمسؤوليّة، فيساعد على الوصول إلى القناعة الموحّدة أو المتقاربة، لأن هذا الأسلوب يجعل القضية سائرة في الاتجاه الفكري الذي يلاحق أدوات الفكر وروحيّاته وأساليبه، ولا يجعلها سائرة في الاتجاه الانفعالي الذي يعتمد على عناصر الإثارة في المشاعر والأفكار والكلمات.. وبذلك نبتعد عن أجواء التعصب الذي يتجمد فيه الإنسان أمام قناعاته، ولا يتحرك خطوة واحدة إلى الأمام في مجال المناقشة والحوار، بل يعمل على المحافظة بكل ما في طاقته على مواقعه الفكرية والعملية، بروح متزمّتة حاقدة، ويمكننا في هذا الاتجاه أن نلتقي بالأساليب الهادئة المتزنة التي تحتفظ بأفكارها من موقع الانفتاح على الأفكار الأخرى ومناقشتها وتحصيل القناعات من خلال ذلك كله.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/78.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بدأ القرآن في الآيات السابقة بدعوة المسيحيّين إلى الاستدلال المنطقي، وإذ رفضوا، دعاهم إلى المباهلة، فكان لهذا أثره في نفوسهم، فرفضوها ولكنّهم رضخوا لشروط اعتبارهم ذمّيّين، فانتهز القرآن هذه الفرصة من استعدادهم النفسي، وعاد إلى طريقة الاستدلال، غير أنّ الاستدلال هذه المرّة يختلف عن الاستدلال السابق اختلافا كبيرا.

2. في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الإسلام (بكلّ تفاصيله)، ولكنّ الدعوة هذه المرّة تتّجه إلى النقاط المشتركة بين الإسلام وأهل الكتاب، وبهذا يعلّمنا القرآن درسا، مفاده: أنّكم إذا لم توفّقوا في حمل الآخرين على التعاون معكم في‏ جميع أهدافكم، فلا ينبغي أن يقعد بكم اليأس عن العمل، بل اسعوا لإقناعهم بالتعاون معكم في تحقيق الأهداف المشتركة بينكم، كقاعدة للانطلاق إلى تحقيق سائر أهدافكم المقدّسة ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾

3. هذه الآية تعتبر نداء (الوحدة والاتّحاد) إلى أهل الكتاب، فهي تقول لهم: إنّكم تزعمون ـ بل تعتقدون ـ أنّ التثليث (أي الاعتقاد بالآلهة الثلاثة) لا ينافي التوحيد، لذلك تقولون بالوحدة في التثليث، وهكذا اليهود يدعون التوحيد وهم يتكلّمون بكلام فيه شرك ويعتبرون (العزير) ابن الله، يقول لهم القرآن: إنّكم جميعا ترون التوحيد مشتركا، فتعالوا نضع يدا بيد لنحيي هذا المبدأ المشترك بدون لفّ أو دوران، ونتجنّب كلّ تفسير يؤدّي إلى الشرك والابتعاد عن التوحيد.

4. الملفت للنظر أن الآية الشريفة تؤكّد موضوع التوحيد في ثلاث تعابير مختلفة، فأوّلا ذكرت‏ ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ﴾ وفي الجملة الثانية ﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ وفي المرّة الثالثة قالت‏ ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾، ولعلّ في هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى أحد موضوعين:

أ. الأوّل: أنّه لا يجوز تأليه المسيح، وهو بشر مثلنا ومن أبناء نوعنا.

ب. الثاني: أنّه لا يجوز الاعتراف بالعلماء المنحرفين الذين يستغلّون مكانتهم ويغيّرون حلال الله وحرامه كيفما يحلو لهم، ولا يجوز اتّباع هؤلاء.

5. يتّضح ممّا سبق من الآيات القرآنية أنّه كان هناك بين علماء أهل الكتاب جماعات يحرّفون أحكام الله بحسب (مصالحهم) أو (تعصّبهم)، إنّ الإسلام يرى أنّ من يتّبع أمثال هؤلاء دون قيد أو شرط وهو يعلم بهم، إنّما هو يعبدهم بالمعنى الواسع لكلمة العبادة.

6. إنّ سبب هذا الحكم واضح، فإن حقّ وضع القوانين والتشريعات يعود إلى الله، فإذا قرّر أحد هذا الحقّ لغير الله فقد أشرك، يقول المفسّرون في ذيل تفسير هذه الآية إنّ (عدي بن حاتم) الذي كان نصرانيا ثمّ أسلم، عندما سمع هذه الآية، فهم من كلمة (أرباب) أنّ القرآن يقول إنّ أهل الكتاب يعبدون بعض علمائهم، فقال للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما كنّا نعبدهم يا رسول الله، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: أما كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم؟ فقال: نعم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: هو ذاك‏.

7. في الواقع يعتبر الإسلام الرقّ والاستعمار الفكري نوعا من العبودية والعبادة لغير الله، وهو كما يحارب الشرك وعبادة الأصنام، يحارب كذلك الاستعمار الفكري الذي هو أشبه بعبادة الأصنام.

8. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ (أرباب) جمع، لذلك لا يمكن أن نقول إنّ المقصود هو النهي عن عبادة عيسى وحده، ولعلّ النهي يشمل عبادة عيسى وعبادة العلماء المنحرفين.

9. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ لو أنّهم ـ بعد دعوتهم دعوة منطقية إلى نقطة التوحيد المشتركة ـ أصرّوا على الاعتراض، فلا بدّ أن يقال لهم: اشهدوا أنّنا قد أسلمنا للحق، ولم تسلموا، وبعبارة أخرى: فاعلموا من يطلب الحق، ومن يتعصّب ويعاند، ثمّ قولوا لهم‏ ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ فلا تأثير لعنادكم وعصيانكم وابتعادكم عن الحقّ في أنفسنا، وإنّا ما زلنا على طريقنا ـ طريق الإسلام ـ سائرون، لا نعبد إلّا الله، ولا نلتزم إلّا شريعة الإسلام، ولا وجود لعبادة البشر بيننا.

10. يقول التاريخ: عندما استقرّ الإسلام نسبيّا في الحجاز، أرسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رسائل إلى عدد من كبار رؤساء العالم في ذلك العصر، في بعض هذه الرسائل استند إلى هذه الآية الداعية إلى التوحيد ـ المبدأ المشترك بين الأديان السماوية ـ ولأهميّة الموضوع ندرج بعضا من تلك الرسائل:

أ. رسالة إلى المقوقس: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون)، حمل (حاطب بن أبي بلتعة) رسالة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المقوقس حاكم مصر، فوجده قد رحل إلى الإسكندرية، فركب إليه، وسلّمه الرسالة، ثمّ قال لحاطب: ما منعه إن كان نبيّا أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده إلى غيرها أن يسلّط عليهم؟ فقال له حاطب: ألست تشهد أنّ عيسى بن مريم رسول الله؟ فماله حيث أخذه قومه، فأرادوا أن يقتلوه، أن لا يكون دعا عليهم، أن يهلكهم الله تعالى، حتّى رفعه الله إليه؟ قال: أحسنت أنت حكيم من عند حكيم، ثمّ قال له حاطب: إنّه كان قبلك من يزعم أنّه الربّ الأعلى ـ يعني فرعون ـ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به، ثمّ انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك، إنّ هذا النبيّ دعا الناس، فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري، ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام، إلّا كبشارة عيسى بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما دعاؤنا إيّاك إلى القرآن، إلّا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكلّ نبيّ أدرك قوما فهم أمته، فالحقّ عليهم أن يطيعوه، فأنت ممّن أدرك هذا النبيّ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح بل نأمرك به.. بقي حاطب بن أبي بلتعة أيّاما ينتظر جواب المقوقس على رسالة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبعدها استدعاه المقوقس إلى قصره واستزاده معرفة بالإسلام وقال له: إلى ما يدعو محمّد؟ قال حاطب: إلى أن نعبد الله وحده، ويأمر بالصلاة، خمس صلوات في اليوم والليلة، ويأمر بصيام رمضان، وحجّ البيت، والوفاء بالعهد، وينهي عن أكل الميتة، والدم.. ثمّ شرح له بعض جوانب حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال المقوقس: هذه صفته، وكنت أعلم أنّ نبيّا قد بقي، وكنت أظنّ أنّ مخرجه بالشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج من أرض العرب، ثمّ دعا كاتبه الذي يكتب له بالعربية فكتب إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمّد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام‏ عليك، أمّا بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أنّ نبيّا قد بقي، وقد كنت أظنّ أنّه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك..) ثمّ عدّد له الهدايا التي بعثها إليه وختم رسالته بعبارة (والسلام عليك).. إن إكرام المقوقس سفير النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والهدايا التي أرسلها إليه، وتقديم اسم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم على اسمه، تدلّ كلّها على أنّه كان قد قبل دعوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قرارة نفسه، أو أنّه ـ على الأقل ـ مال إلى الإسلام، ولكنّه لكيّ لا يهتزّ مركزه امتنع عن إظهار ذلك علنا.

ب. رسالة إلى قيصر الروم‏: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتّبع الهدى، أمّا بعد، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسيّين‏، يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذّ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/537.

34. أهل الكتاب وملّة إبراهيم

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈34⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 65 ـ 68]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي، ثم قرأ: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا والله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾(1).

__________

(1) الحاكم: ١/٥٤١.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: (إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به) ثم تلا: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ الآية، ثم قال: إن ولي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وان عدو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من عصى الله وان قربت قرابته(1).

__________

(1) ربيع الأبرار: 3/560.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾: مخلصا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٤.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ هم المؤمنون(1).

2. روي أنّه قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله فيهم: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ إلى قوله: ﴿والله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فقال أبو رافع القرظي: أتريد منا ـ يا محمد ـ أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران: أذلك تريد، يا محمد؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (معاذ الله أن أعبد غير الله، أو آمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني ولا أمرني)، فأنزل الله في ذلك من قولهما: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [آل عمران: ٧٩] إلى قوله: ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه إذا هو جاءهم، وإقرارهم به على أنفسهم، فقال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ [آل عمران: ٨١] إلى قوله: ﴿مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾(2).

3. روي أنّه قال: ﴿حَنِيفًا﴾ حاجا(3).

4. روي عنه وغيره من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا: لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة، واستقرت بهم الدار، وهاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، وكان من أمر بدر ما كان؛ اجتمعت قريش في دار الندوة، وقالوا: إن لنا في أصحاب محمد الذين عند النجاشي ثأرا بمن قتل منكم ببدر، فاجمعوا مالا، وأهدوه إلى النجاشي، لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم، فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط مع الهدايا: الأدم وغير ذلك، فركبا البحر، وأتيا الحبشة، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، وسلما عليه، وقالا له: إن قومنا لك ناصحون شاكرون، ولصلاحك محبون، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء القوم الذين قدموا عليك؛ لأنهم قوم رجل كذاب، خرج فينا يزعم أنه رسول الله، ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء، وإنا كنا قد ضيقنا عليهم الأمر، وألجأناهم إلى شعب بأرضنا، لا يدخل عليهم أحد، ولا يخرج منهم أحد، قد قتلهم الجوع والعطش، فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك، فاحذرهم، وادفعهم إلينا؛ لنكفيكهم، قالوا: وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك، ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس؛ رغبة عن دينك وسنتك، قال فدعاهم النجاشي، فلما حضروا صاح جعفر بالباب: يستأذن عليك حزب الله، فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه، ففعل جعفر، فقال النجاشي: نعم، فليدخلوا بأمان الله وذمته، فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه، فقال: ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله، وما أجابهم به النجاشي، فساءهما ذلك، ثم دخلوا عليه، ولم يسجدوا له، فقال عمرو بن العاص: ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي: ما يمنعكم أن تسجدوا لي، وتحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا: نسجد لله الذي خلقك وملكك، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان، فبعث الله فينا نبيا صادقا، وأمرنا بالتحية التي رضيها الله لنا، وهي السلام، تحية أهل الجنة، فعرف النجاشي أن ذلك حق، وأنه في التوراة والإنجيل، قال أيكم الهاتف: يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر: أنا، قال فتكلم، قال إنك ملك من ملوك أهل الأرض، ومن أهل الكتاب، ولا يصلح عندك كثرة الكلام، ولا الظلم، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي، فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر، فتسمع محاورتنا، فقال عمرو لجعفر: تكلم، فقال جعفر للنجاشي: سل هذا الرجل: أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم، فقال النجاشي: أعبيد هم أم أحرار؟ فقال: بل أحرار كرام؟ فقال النجاشي: نجوا من العبودية، قال جعفر: سلهما: هل أهرقنا دما بغير حق فيقتص منا؟ فقال عمرو: لا، ولا قطرة، قال جعفر: سلهما: هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال النجاشي: يا عمرو، إن كان قنطارا فعلي قضاؤه، فقال عمرو: لا، ولا قيراطا، قال النجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو: كنا وهم على دين واحد وأمر واحد؛ على دين آبائنا، فتركوا ذلك الدين، واتبعوا غيره، ولزمناه نحن، فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا، فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي كنتم عليه، والدين الذي اتبعتموه؟ اصدقني، قال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه وتركناه فهو دين الشيطان وأمره، كنا نكفر بالله تعالى، ونعبد الحجارة، وأما الدين الذي تحولنا إليه فدين الله الإسلام، جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له، فقال النجاشي: يا جعفر، لقد تكلمت بأمر عظيم، فعلى رسلك، ثم أمر النجاشي فضرب بالناقوس، فاجتمع إليه كل قسيس وراهب، فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين القيامة نبيا مرسلا؟ فقالوا: اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى، وقال: من آمن به فقد آمن بي، ومن كفر به فقد كفر بي، فقال النجاشي لجعفر: ماذا يقول لكم هذا الرجل، ويأمركم به، وما ينهاكم عنه؟ قال يقرأ علينا كتاب الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويأمر بحسن الجوار، وصلة الرحم، وبر اليتيم، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له، فقال: اقرأ علينا شيئا مما كان يقرأ عليكم، فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم، ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع، وقالوا: يا جعفر، زدنا من هذا الحديث الطيب، فقرأ عليهم سورة الكهف، فأراد عمرو أن يغضب النجاشي، فقال: إنهم يشتمون عيسى وأمه، فقال النجاشي: ما تقول في عيسى وأمه؟ فقرأ عليهم جعفر سورة مريم، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين، وقال: والله، ما زاد المسيح على ما تقولون هذا، ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال: اذهبوا، فأنتم سيوم بأرضي ـ يقول: آمنون ـ، من سبكم أو آذاكم غرم، ثم قال أبشروا ولا تخافوا، ولا دهورة اليوم على حزب إبراهيم، قال عمرو: يا نجاشي، ومن حزب إبراهيم؟ قال هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم، فأنكر ذلك المشركون، وادعوا في دين إبراهيم، ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه، وقال: إنما هديتكم إلي رشوة، فاقبضوها، فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة، قال جعفر: فانصرفنا، فكنا في خير دار، وأكرم جوار، وأنزل الله تعالى ذلك اليوم في خصومتهم في إبراهيم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو بالمدينة قوله: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ على ملته وسنته، ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ يعني: محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا والله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾(4).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٨٩.

(2) البيهقي في الدلائل: ٥/٣٨٤.

(3) ابن جرير: ٢/٥٩٣.

(4) أورده الواحدي في أسباب النزول،/٢٢٨.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ يقول: فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم، ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ يقول: فيما لم تشهدوا ولم تروا ولم تعاينوا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٢.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ اليهود والنصارى، برأه الله منهم حين ادعى كل أمة منهم، وألحق به المؤمنين من كان من أهل الحنيفية(1).

2. روي أنّه قال: ﴿حَنِيفًا﴾ متبعا(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٨٢.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٣.

سالم:

روي عن سالم بن عبد الله بن عمر (ت 106 هـ)، لا أراه إلا يحدثه عن أبيه: أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام، يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينه، وقال: إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم، فقال له اليهودي: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا، قال وما الحنيف؟ قال دين إبراهيم، لم يك يهوديا ولا نصرانيا، وكان لا يعبد إلا الله، فخرج من عنده، فلقي عالما من النصارى، فسأله عن دينه، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم؟ قال إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال لا أحتمل من لعنة الله شيئا، ولا من غضب الله شيئا أبدا، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا، فقال له نحو ما قاله اليهودي: لا أعلمه إلا أن تكون حنيفا، فخرج من عندهم وقد رضي بالذي أخبراه، والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم، فلم يزل رافعا يديه إلى الله، وقال: اللهم، إني أشهدك أني على دين إبراهيم(1).

__________

(1) البخاري: ٣٨٢٧.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ﴾ والله، ما أنزلت التوراة والإنجيل إلا على ملة إبراهيم، فلم تحاجون في إبراهيم(1).

2. روي أنّه قال: وذلك أنهم نحلوه أنه كان على دينهم؛ فقالت اليهود ذلك، وقالت النصارى ذلك، فكذبهم الله جميعا، وأخبر أنه كان مسلما، ثم احتج عليهم أنه إنما أنزلت التوراة والإنجيل بعده؛ أي: إنما كانت اليهودية بعد التوراة، والنصرانية بعد الإنجيل(2).

3. روي أنّه قال في الآية: يعذر من حاج بعلم، ولا يعذر من حاج بالجهل(3).

4. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ كل مؤمن ولي لإبراهيم، ممن مضى وممن بقي(4).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧١.

(2) تفسير يحيى بن سلام كما في تفسير ابن أبي زَمَنين: ١/٢٩٤.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٢.

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٥.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أنتم والله على دين إبراهيم ومنهاجه، وأنتم أولى الناس به(1).

2. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾: هم الأئمة ومن اتبعهم(2).

__________

(1) المحاسن: 147/57.

(2) الكافي: 1/344.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ يقول: الذين اتبعوه على ملته وسنته ومنهاجه وفطرته، ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ وهو نبي الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهم المؤمنون(1).

2. روي أنّه قال: لقد أعظم على الله الفرية من قال يكون مؤمنا فاسقا، ومؤمنا جاهلا، ومؤمنا خائنا، قال الله تعالى في كتابه: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا والله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فالمؤمن ولي الله، والمؤمن حبيب الله(2).

3. روي أنّه قال: ذكر لنا: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا يهود أهل المدينة، وهم الذين حاجوا في إبراهيم، وزعموا أنه مات يهوديا، فأكذبهم الله، ونفاهم منه، فقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾، وتزعمون أنه كان يهوديا أو نصرانيا، ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾، فكانت اليهودية بعد التوراة، وكانت النصرانية بعد الإنجيل، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾(3).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٨٨.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٥.

(3) ابن جرير: ٥/٤٨٢.

القرظي:

روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: ﴿حَنِيفًا﴾ الحنيف: المستقيم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٣.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ أما الذي لهم به علم فما حرم عليهم وما أمروا به، وأما الذي ليس لهم به علم فشأن إبراهيم(1).

2. روي أنّه قال: ما كان في القرآن حنفاء: مسلمين، وما كان في القرآن حنفاء مسلمين: حجاجا(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٨٤.

(2) ابن المنذر: ١/٢٤٦.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ يقول: الذين اتبعوه على ملته وسنته ومنهاجه وفطرته، ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ وهو نبي الله محمد، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ معه، وهم المؤمنون الذين صدقوا نبي الله واتبعوه، كان محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين معه من المؤمنين أولى الناس بإبراهيم(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٨٨.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: في قول الله: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا والله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾: (علي والله على دين إبراهيم ومنهاجه، وأنتم أولى الناس به(1).

2. روي عن يعقوب بن الضحاك عن خادم للإمام الصادق قال: بعثني الإمام الصادق في حاجة وهو بالحيرة أنا وجماعة من مواليه قال فانطلقنا فيها ثم رجعنا مغتمين، وكان فراشي في الحائر الذي كنا فيه نزولا فجئت وأنا بحال فرميت بنفسي، فبينا أنا كذلك إذا أنا بالإمام الصادق قد أقبل، فقال قد أتيناك، فاستويت جالسا وجلس على صدر فراشي فسألني عما بعثني له، فأخبرته فحمدالله ثم جرى ذكر قوم فقلت: جعلت فداك، إنا نبرأ منهم إنهم لا يقولون ما نقول، فقال: يتولونا ولا يقولون ما تقولون تبرؤون منهم؟.. قلت نعم، قال فهو ذا عندنا ما ليس عندكم فينبغي لنا أن نبرأ منكم؟.. قلت: لا.. جعلت فداك، قال وهوذا عند الله ما ليس عندنا؟ أفتراه اطرحنا؟.. قلت: لا والله جعلت فداك، ما نفعل، قال فتولوهم ولا تبرؤا منهم.. إن من المسلمين من له سهم، ومنهم من له سهمان، ومنهم من له ثلاثة أسهم، ومنهم من له أربعة أسهم، ومنهم من له خمسة أسهم، ومنهم من له ستة أسهم ومنهم من له سبعة أسهم، فلا ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستة ولا صاحب الستة على ما عليه صاحب السبعة، وسأضرب لك مثلا إن رجلا كان له جار وكان نصرانيا فدعاه إلى الإسلام وزينه له فأجابه فأتاه سحيرا فقرع عليه الباب فقال له: من هذا؟ قال أنا فلان، قال وما حاجتك؟ قال توضأ والبس ثوبيك ومر بنا إلى الصلاة، فتوضأ ولبس ثوبيه وخرج معه، فصليا ما شاء الله، ثم صليا الفجر، ثم مكثا حتى أصبحا فقام الذي كان نصرانيا يريد منزله، فقال له الرجل: أين تذهب؟ النهار قصير، والذي بينك وبين الظهر قليل، فجلس معه إلى صلاة الظهر، ثم قال وما بين الظهر والعصر قليل، فاحتبسه حتى صلى العصر، ثم قام وأراد أن ينصرف إلى منزله، فقال له: إن هذا آخر النهار، وأقل من أوله فاحتبسه حتى صلى المغرب ثم أراد أن ينصرف إلى منزله، فقال له: إنما بقيت صلاة واحدة فمكث حتى صلى العشاء الآخرة، ثم تفرقا.. فلما كان سحيرا غدا عليه، فضرب عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان، قال وما حاجتك؟ قال توضأ والبس ثوبيك واخرج بنا فصل، قال اطلب لهذا الدين من هو أفرغ مني، أنا إنسان مسكين وعلي عيال، فقال الإمام الصادق أنّه قال: أدخله في شيء أخرجه منه، أو قال: أدخله في مثل ذه وأخرجه من مثل هذا(2).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/178.

(2) الكافي: 2/43 و44.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: قال كعب وأصحابه ونفر من النصارى: إن إبراهيم منا، وموسى منا، والأنبياء منا، فقال الله: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٣.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ﴾ يعني: خاصمتم: ﴿فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ مما جاء في التوراة والإنجيل، ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ بما ليس في التوراة والإنجيل، ﴿والله يَعْلَمُ﴾ أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أنه ما كان يهوديا ولا نصرانيا(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٨٣.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ قيل: وذلك أن اليهود قالوا: إن إبراهيم كان على ديننا اليهودية، والنصارى ادعت أنه كان على دينهم ومذهبهم، ليس على دين الإسلام؛ فنزل قوله: ﴿لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ يعني: في دين إبراهيم‏.

2. ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ يعني: من بعد إبراهيم، وهو يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أن التوراة والإنجيل إنما نزلا من بعده، وأنتم لم تشهدوه ـ يعنى: إبراهيم ـ حتى تعلموا أنه كان على دينكم، لم تقولون بالجهل أنه كان على دينكم!؟.

ب. ويحتمل: ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي: أن التوراة والإنجيل ما نزلا إلا من بعد موته، وكان فيهما أنه كان حنيفا مسلما.

3. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أنه كان حنيفا مسلما!؟ ثم أكذبهم الله ـ عزّ وجل ـ فقال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، وفي هذه الآية دلالة:

أ. أنهم علموا أنه كان مسلما، لكن ادعوا ما ادعوا متعنتين؛ حيث لم يقابلوا بكتابهم بالذي ادعوا من نعته، وبخلاف ما ادعى عليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نعته.

ب. وفيه دلالة الرسالة؛ إذ في دعواهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يعرف نعته بهم، لما ادعوا هم غير الذي ادّعى؛ فثبت أنه عرف بالله، وذلك علم الغيب.

﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾، وهو ما ذكرنا، وفيه دلالة جواز المحاجة في الدين على العلم به، وإنما نهي هؤلاء عن المحاجة فيما لا علم لهم؛ ألا ترى أن الرسل ـ عليهم السلام ـ حاجوا قومهم: حاج إبراهيم قومه في الله، وذلك قوله: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: 83]، وموسى عليه السلام حاج قومه، وما من نبي إلا وقد حاج قومه في الدين؛ فذلك يبطل قول من يأبى المحاجة في الدين، وأيد الحقّ أنه كذلك ـ عجز البشر عن إيراد مثله، وعجزهم عن المقابلة بما ادعوا أنهم عرفوه بالله.

﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهكذا يكون في العقل أن من اتبع آخر وأطاعه؛ فهو أولى به، وإنما الحاجة إلى السمع بمعرفة المتبع له والمطيع أنه ذا أو ذا؛ فأخبر ـ عزّ وجل ـ أن الذين آمنوا والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هم المتبعون له؛ فهم أولى به.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾:

أ. قيل: الوليّ: الحافظ.

ب. وقيل: الولي: الناصر.

ج. وقيل: هو أولى بالمؤمنين، وقد ذكرنا هذا فيما تقدّم‏.

د. وقد يكون وليهم: بما دفع عنهم سفه أعدائهم في إبراهيم، وأظهر الحق في قولهم.

5. في قوله تعالى: ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ الآية، وفي قوله: ﴿لِمَ تُحَاجُّونَ﴾ وفي قوله: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ الآية، ونوع ذلك من الآيات التي خصّ بالخطاب بها أهل الكتاب وجوه من المعتبر:

أ. أحدها: أن الذين خوطبوا بهذا الاسم كانوا معروفين، وأنه لم يخطر ببال مسلم أنه قصد به غير أهل التوراة والإنجيل، ولا ذكرت تلاوتها في حق المحاجة على غيرهم، ثبت أن المجوس ليسوا بأهل الكتاب، وأن المراد من ذكر أهل الكتاب غيرهم، وأن أخذ الجزية من المجوس ليس ممّا تضمنهم قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29]؛ لكن بدليل آخر، وهو ما روي عن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب، غير ناكحى نسائهم، ولا آكلى ذبائحهم)؛ وعلى ذلك أيّد قوله: ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا﴾ [الأنعام: 156]؛ ليعلم أن الكتاب‏ المعروف وأهله: هؤلاء، إن كانت ثمّ كتب وصحف

ب. الثاني: أنّ الله خص أهل الكتاب بأنواع الحجج، وجعل المحاجة بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ليوضح أنه ـ وإن كان مرسلا إلى جميع البشر ـ كان له التخصيص في المحاجة؛ وعلى ذلك عامة (سورة الأنعام) في محاجة أهل الشرك، على أن أهل المدينة كانوا أهل كتاب، وأهل مكة كانوا أهل شرك، فحاجّ كلّا بالذي هو أحق أن يكلم فيه، وإن كانت‏ الحجة تلزم الفريقين؛ لأن محاجة أهل الشرك أكثرها في التوحيد وأمر البعث، وعلى وجوده [فيه‏] ﴿أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ [فاطر: 42] الآية، أبلغ الحجة في محاجة أهل الكتاب؛ إذ تمنوا أن يكون منهم نذير فكان، وقد بلغ المبلغ الذي له ظهر بما خصّوا من الحجج، وشاركوا أولئك في جميع ما به كان افتخارهم عليهم ودعوى الفضل، والله أعلم، مع ما لم يكن له اللسان الذي به ظهر كتبهم، أخبر هو جميع ما في كتبهم بغير لسانهم؛ ليعلموا أنه أدرك ذلك ممن له حقيقة كتبهم

ج. وفي ذلك وجه آخر: أنه حاجّهم بوجهين:

أحدهما: بالموجود في كتابهم، والمعروف عند أئمتهم من العلم بالكلمة التي دعاهم إليها من التوحيد وعبادة من له الخلق والأمر، وإخبار ما في كتبهم من أنواع البشارات به، ومن موافقة الكتب‏، وعلى ذلك أمر إبراهيم عليه السلام وغيرهم؛ ليكون أعظم‏ في الحجة، وأقطع للشغب

الثاني: بما قد حرفوا من كتبهم، وبدلوا من أحكامهم، وحرفوا من صفته ونعته ونعت أمّته؛ ليعلم كلّ متأمل أنه لا وجه لتعلم ذلك بهم؛ إذ لا يحتمل أن يكون منهم هتك أستارهم، والاطلاع على أسرارهم بما لا يتهيأ لهم دفع ذلك، ولا المقابلة في ذلك؛ ليعلم كل الخلائق: من انقاد لهم أو لا، أن ذلك لا يدركه إلا بمن له العلم بكل سرّ ونجوى، ولا قوة إلا بالله.

د. مع ما في ذلك وجهان من المعتبر: أحدهما: أن ذلك الزمان لم يكن زمان حجاج ونظر في أمر الدين؛ إنما كان ذلك الزمان زمان تقليد في أمر الدين، وتناه في أمر الدنيا، وتفاخر بكثرة الأموال والمواشي؛ فبعث الله تعالى رسولا نشأ من‏ بين أظهرهم، دعاهم إلى ترك التقليد في الدين، واتباع الحجج التي لا يبلغها أهل الحجاج بعقولهم دون أن يكون لهم المعونة من علم الوحي، وما فيه من حكمة الربوبية؛ فكيف والقوم أصحاب التقليد!؟ إمّا ثقة بأئمتهم الذين ادعوا علم الكتب المنزلة، وإما ثقة وإيمانا بآبائهم فيما نشئوا عليه: أن الحق لا يشذ عنهم، على ما في ذلك من الاختلاف الذي يمنعهم الأمرين جميعا، لكنهم‏ ويعرفهم الحق الذي قد تقرر عندهم؛ فبعث الله بفضله من أظهر لهم بما أنطق به لسانه من الحجاج، وأراهم من علمه مما غيروا حفظ ما كان عليه أوائلهم؛ فكان ذلك أظهر البيان، وأولى ما يعرف من أفضال الله عليهم بالإغاثة، والامتنان عليهم بالفرج مما قد مستهم إليه الحاجة، ودفعتهم إلى العلم به الفاقة.

هـ. وفي الفصل الأول بقي حرف لم نذكره، وهو أن دعاهم إلى الزهد في الدنيا بعد الركون إليها، وإلى الأخوة في الدين بعد ظهور التفاخر بينهم بتكثير العشائر، وتقابل القبائل، والسخاء بجميع ما طبعوا عليه بما قدّر عندهم: ما إليه ترجع عواقب أمرهم، وقام بذلك على قهر العادة ومخالفة الطبيعة التي يعلم أن ذلك في مثل ذلك العصر آية سماوية خارجة عن وسع البشر؛ ليكون أقطع لعذرهم، وأسكن لقلوبهم إليه؛ فلله الحمد على ذلك.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/395.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله عز وجل: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾، أي أحق الناس بإبراهيم وأقربهم إلى اتباعه والاقتداء به الذين اتبعوه من ذريته وشيعته، ثم هذا النبي أولى به وأحق للمشابهة له، من هؤلاء اليهود والنصارى ـ عليهم لعنة الله والمؤمنين ـ فهم لإبراهيم أولياء لأنهم اتبعوه، وأما اليهود والنصارى فهم خالفوه، ولم يتبعوا دينه بل جانبوه(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 260.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أي بما بينا عليكم من حجة.

2. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ يعني ما أوجده في كتبكم ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ يعني من شأن إبراهيم ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي فسألوا ذلك عالمه.

3. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ وسبب نزول هذه الآية أن اليهود والنصارى اجتمعوا عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت اليهود: كان إبراهيم يهودياً وقالت النصارى كان نصرانياً ونزلت هذه الآية بتكذيب الفريقين.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/144.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ وسبب نزول هذه الآية أن اليهود والنصارى اجتمعوا عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فتنازعوا في أمره فقالت‏ اليهود: ما كان إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيا، فنزلت هذه الآية تكذيبا للفريقين بما بيّنه من نزول التوراة والإنجيل من بعده.

1. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ يعني ما وجدوه في كتبهم، ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ يعني من شأن إبراهيم، ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ يعني شأن إبراهيم، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ فالتمسوه من علله.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/400.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. روي عن ابن عباس، والحسن، وقتادة والسدي أن أحبار اليهود ونصارى نجران اجتمعوا عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتنازعوا في ابراهيم، فقالت اليهود: ما كان إلا يهودياً، وقالت النصارى ما كان إلا نصرانياً، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

2. ﴿لِمَ تُحَاجُّونَ﴾، فالحجاج، والمحاجة واحد، وهو الجدال أما بحجة أو شبهة، وقد يسمى الجدال بإبهام الحجة حجاجاً، وعلى ذلك كان أهل الكتاب في ادعائهم لإبراهيم، لأنهم أوهموا صحة الدعوى من غير سلوك لطريق الهدى ولا تعلق بما يظن به صحة المعنى، وأما الحجة فهو البيان الذي يشهد لصحة المقالة، وهي والدلالة بمعنى واحد، والفرق بين الحجاج والجدال أن الحجاج يتضمن اما بحجة أو شبهة أو إبهام في الحقيقة، لأن أصله من الجدل، وهو شدة الفتل.

3. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ معناه أفلا تعقلون فساد هذه الدعوى إذ العقل يمنع من الاقامة على دعوى بغير حجة، فكيف بما قد علم، وظهر فساده بالمناقضة، وفي ذلك دلالة على ان العاقل لا يعذر في الاقامة على الدعوى من غير حجة، لما فيه من البيان عن الفساد والانتقاض، ولأن العقل طريق العلم، فكيف يضل عن المرشد من قد جعل الله إليه السبيل!.

4. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ قرأ أهل المدينة وأبو عمرو (ها أنتم) بتخفيف الهمزة حيث وقع الباقون بتخفيفها وكلهم أثبت الالف قبل الهمزة إلا ابن عامر عن قنبل فإنه حذفها.

5. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ (ها) للتنبيه وإنما نبههم على أنفسهم وان كان الإنسان لا ينبه على نفسه وإنما ينبه على ما أغفله من حاله، لأن المراد بذلك تنبيههم بذكر ما يعلمون على ما لا يعلمون، فلذلك خرج التنبيه على النفس، والمراد على حال النفس، ولو جاء على الأصل، لكان لا بد من ذكر النفس للبيان، ففيه مع ذلك إيجاز، وقد كثر التنبيه في هذا ولم يكثر في ها أنت، لأن ذا مبهم من حيث يصلح لكل حاضر والمعنى فيه على واحد بعينه مما يصلح له فقوى بالتنبيه، لتحريك النفس على طلبه بعينه، وليس كذلك أنت، لأنه لا يصلح لكل حاضر في الجملة، وإنما هو للمخاطب، إن قيل أين خبر أنتم في (ها أنتم)؟ قيل: يحتمل أمرين:

أ. أحدهما: حاججتم على أن يكون (هؤلاء) تابعاً عطف بيان.

ب. الثاني: أن يكون الخبر (هؤلاء) على معنى هؤلاء بمعنى الذين وما بعده صلة له.

6. سؤال وإشكال: ما الذي حاجوا فيه مما لهم به علم؟ والجواب: أما الذي لهم به علم فما وجدوه في كتبهم، لأنهم يعلمون أنهم وجدوه فيها، وأما الذي ليس لهم به علم‏ فشأن إبراهيم على قول السدي وأبي علي.

7. ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ يعني شأن ابراهيم وكلما ليس عليه دليل، لأنه علام الغيوب العالم بغير تعليم‏ ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك، فينبغي أن تلتمسوا حقه من باطله من جهة عالم به، قال أبو علي الفارسي: وجه قراءة ابن كثير أنه أبدل من الهمزة هاء والتقدير أأنتم، فأبدل من همزة الاستفهام هاء، وذلك جائز، قال ولا يجوز على هذا أن تكون (ها) للتنبيه، وحذف الألف منها في مثل هلم، لأن الحذف إنما يجوز إذا كان فيها تضعيف‏.

8. ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ذكر الحسن، وقتادة، وعامر، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام: أن اليهود قالت: كان ابراهيم يهودياً، وقالت النصارى كان نصرانياً، فأكذبهم الله في ذلك بإنزال هذه الآية.

9. سؤال وإشكال: هل كان الله تعبد باليهودية والنصرانية ثم نسخها أم لا؟ والجواب: كان الذي بعثه الله به شرع موسى ثم شرع عيسى ثم نسخهما فأما اليهودية والنصرانية فصفتا ذم قد دل القرآن والإجماع على ذلك، لأن موسى لم يكن يهودياً، وعيسى لم يكن نصرانياً، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ واليهودية ملة محرفة عن شرع موسى وكذلك النصرانية محرفة عن شرع عيسى.

10. قيل في أصل الصفة بيهود قولان:

أ. أحدهما: أنهم ولد يهود.

ب. والآخر: أنه مأخوذ من هاد يهود إذا رجع.

11. في النصارى قولان:

أ. أحدهما: أنه مأخوذ من ناصرة قرية بالشام.

ب. الآخر: أنه من نصر المسيح.

12. كيف تصرفت الحال فقد صارتا صفتي ذم تجريان على فرقتين ضالتين.

13. سؤال وإشكال: إن كان ابراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، لأن التوراة والإنجيل أنزلا بعده، فيجب أن لا يكون مسلماً، لأن القرآن أيضاً أنزل بعده؟ والجواب: لا يجب ذلك، لأن التوراة والإنجيل أنزلا من بعده من غير أن يكون فيها ذكر له بأنه كان يهودياً أو نصرانياً، والقرآن أنزل من بعده وفيه الذكر له بأنه كان حنيفاً مسلماً.

14. في معنى الحنيف قولان:

أ. أحدهما: المستقيم الدين، لأن الحنف هو الاستقامة في اللغة، وإنما سمي من كان معوج الرجل أحنف على طريق التفاؤل كما قيل للضرير إنه بصير.

ب. الثاني: إن الحنيف هو المائل إلى الحق في الدين فيكون مأخوذاً من الحنف في القدم، وهو الميل.

15. سؤال وإشكال: هل كان إبراهيم على جميع ما نحن عليه الآن من شرع الإسلام؟ والجواب: هو عليه السلام كان مسلماً، وإن كان على بعض شريعتنا، لأن في شرعنا تلاوة الكتاب في صلاتنا وما أنزل القرآن إلا على نبينا، وإنما قلنا: إنه مسلم بإقامة بعض الشريعة، لأن أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا مسلمين في الابتداء قبل استكمال الشرع، وقد سماه الله تعالى مسلماً، فلا مرية تبقى بعد ذلك.

16. ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ أي أحقهم بنصرته بالمعونة أو الحجة، لأن الذين اتبعوه في زمانه تولوه بالنصرة على عدوه حتى ظهر أمره، وعلت كلمته، وسائر المؤمنين يتولونه بالحجة بما كان عليه من الحق وتبرئته من كل عيب، فالله تعالى ولي المؤمنين:

أ. لأنه يوليهم النصرة، والمؤمن ولي الله لهذا المعنى بعينه.

ب. وقيل، لأنه يولي صفاته التعظيم.

ج. ويجوز لأنهم يتولون نصرة ما أمر به من الدين.

د. وقيل والله ولي المؤمنين، لأنه يتولى نصرهم، والمؤمنون أولياء الله، لأنهم يتولون نصر دينه الذي أمرهم به.

17. ﴿أَوْلَى﴾ الذي هو بمعنى أفعل من غيره لا يجمع ولا يثنى، لأنه يتضمن معنى الفعل والمصدر على تقدير يزيد فضله على فضله في أفضل منه، ومعنى قولنا: هذا الفعل أولى من غيره أي بأن يفعل، وقولنا زيد أولى من غيره معناه: أنه على حال هو بها أحق من غيره، وقوله: ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ فالاتباع جريان الثاني على طريقة الاول من حيث هو عليه كالمدلول الذي يتبع الدليل في سلوك الطريق أو في التصحيح، لأنه إن صح الدليل صح المدلول عليه لصحته، وكذلك المأموم الذي يتبع الامام.

18. سؤال وإشكال: لم فصل ذكر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذكر المؤمنين؟ والجواب: يحتمل أمرين:

أ. أحدهما: أنه بمعنى والذين آمنوا به، فتقدم ذكره ليدخل في الولاية ويعود إليه الكتابة.

ب. الثاني: أن اختصاصه بالذكر بالحال العليا في الفضل.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/491.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ اختلفوا في أصله:

فقيل: أصله أنتم وهاء تنبيه، قال الفرزدق:

çنُفَلِّقُ هامًا لم تَنَلْهُ سُيُوفُنا... بِأسيافنا هامَ المُلوكِ القَماقِمِé

تقديره: نفلق هام الملوك القماقم بأسيافنا، ها يا رجل من هذا الذي لم تنله سيوفنا؟

وقيل: أصله أنتم فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم: هرقت الماء وأرقت، فهَؤُلَاءِ مبني على الكسر وأصله أولاء، دخلت عليه هاء التنبيه، من العرب من يرفعها، وفيه لغتان: القصر والمد.

ب. اليهود قيل: في أصله قولان: أحدهما أنهم أولاد يهوذا، والآخر أنه أخذ من هاد يهود إذا رجع.

ج. في النصارى قولان: أحدهما أنه أخذ من ناصرة قرية بالشام، والآخر أنه من نصر المسيح، ثم اختلفوا فقيل: إنهما صفتا ذم، لذلك نفى الله تعالى ذلك عن إبراهيم، وقيل: بل هي نسبة فلذلك نفى، ولا شبهة أنهما الآن صفتا ذم.

د. الحَنَفُ هو الاستقامة، وسمي معوج الرِّجل أحنف تفاؤلاً كما يقال: مفازة، والأعمى بصيرًا، وقيل: أصله الميل، ومنه الحنف في القدم، والحنيف المائل إلى الحق.

هـ. الإسلام أصله الانقياد، وصار في الشرع عبارة عن جميع الواجبات كالإيمان؟، ولذلك صار اسم مدح.

و. الاتباع أن يجري الثاني على طريقة الأول من حيث هو عليه، تبعه فهو تبع وتابع، وذلك متبوع، وأَوْلَى وزنه أفعل، فلا يثنى ولا يجمع؛ لأنه يتضمن معنى الفعل والمصدر على تقدير يزيد فضله على فضله.

2. مما روي في سبب نزول الآيات الكريمة:

أ. قيل: اجتمعت أحبار اليهود ونصارى نجران عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتنازعوا في إبراهيم، فقالت اليهود: ما كان إلا يهوديًا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيًّا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي.

ب. وذكر المفسرون أنهم لما اختلفوا سألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك، فقال: بل كان بريئًا من الفريقين، وكان حنيفًا مسلمًا وأنا على دينه، فقالت اليهود: يا محمد ما نريد إلا أن نتخذك ربًّا كما اتخذت النصارى عيسى، وقالت النصارى: والله يا محمد، ما نريد إلا أن نقول فيك بما قالت اليهود في عزير، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ج. قيل: قالت اليهود: كان إبراهيم يهوديًّا، وقالت النصارى: كان نصرانيًّا، فكذبهم الله تعالى، وأنزل هذه الآية، عن الحسن وقتادة وعامر الشعبي.

د. قال ابن عباس: قال رؤساء اليهود: لقد علمت يا محمد أنَّا أَوْلَى بدين إبراهيم، وإنما تقول ما تقول حسدًا لنا، فنزلت الآية ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ﴾

هـ. وقيل: جرى بالحبشة في مجلس النجاشي بين جعفر وعمرو بن العاص كلام في إبراهيم، فقال النجاشي رحمه الله: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمنوا بمحمد أولى بإبراهيم، فأنزل الله تعالى هذه الآية بالمدينة على رسوله ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ﴾ عن محمد بن إسحاق.

3. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ﴾ تخاصمون ﴿فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ فتزعمون أنه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ حتى حدثت اليهودية والنصرانية بعد إبراهيم بزمان، وأنزلت التوراة والإنجيل بعده بزمان، ووجه الاحتجاج: أنه أنزل الكتاب من بعده، وليس فيها أن إبراهيم كان يهوديًّا أوْ نصرانيًّا بخلاف ما نقول فإن القرآن نزل بعده، ولكن فيه أن إبراهيم كان مسلمًا، وقيل: في الكتابين أنه كان حنيفًا مسلمًا كما في القرآن، وقيل: اليهودية ظهرت بعده، وهو اسم ذم، وإبراهيم لم يكن مذمومًا ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾:

أ. أي أفلا تعلمون دحوض حجتكم.

ب. وقيل: أفلا تعلمون أن الدعوى من غير حجة لا تقبل.

4. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ يعني هَؤُلَاءِ ﴿حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ فلم تخاصمون فيما ليس لكم به علم، قيل: ما لهم به علم: ما وجدوه في كتبهم؛ لأنهم يعلمون أنهم وجدوه فيها، وما ليس لهم به علم: حديث إبراهيم فليس في كتابهم أنه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا.

5. ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ شأن إبراهيم وسائر ما ليس عليه دليل لأنه علام الغيوب ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك، فاطلبوا الحق من جهة من يعلمه.

6. ثم لما تقدم ادعاء اليهود والنصارى في إبراهيم نزهه الله تعالى عن قولهم، وبَيَّنَ ما كان عليه، فقال سبحانه: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾؛ لأن اليهودية والنصرانية اسما ذم، ولم يتعبد الله بهما؛ لأنهما محرفان مغيران، وهما فرقتا ضلال، ولم يتعبد الله بهما قط، وإنما تعبد بشريعة موسى وعيسى ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا﴾:

أ. مستقيمًا في دينه.

ب. وقيل: مائلاً إلى الحق.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُسْلِمًا﴾:

قيل: منقادًا إلى الله تعالى.

وقيل: كان على دين الإسلام.

8. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ كما يدعيه مشركو العرب.

9. سؤال وإشكال: هل كان إبراهيم عليه السلام على جميع ما نحن عليه أو على بعضه؟ وكيف يصح أن يقال: إن ملة إبراهيم ما نحن عليه؟ والجواب:

أ. إنما سُمِيَّ المسلمون أنهم على ملة إبراهيم لقرب ملتهم من ملته وإن زيد في ملتنا ونقص، وذلك جائز، كما أن أهل مكة والمدينة كانتا على ملة واحدة، وإن زيد بالمدينة في الشرع ونقص لما اتفقا في الأكثر والمعظم، وأصول الشريعة، يدل عليه أنا نعلم ضرورة أشياء لم تكن في شريعته كما أن قراءة القرآن في الصلاة مشروعة لنا، ولم ينزل عليه القرآن.

ب. وقيل: المراد بالملة هو أصل التوحيد والعدل الذي لا يختلف بالشرائع.

10. سؤال وإشكال: إذا لم يكن إبراهيم يهوديًّا لأن التوراة أنزلت بعده فمثله يلزم في القرآن؟ والجواب: فيه أجوبة:

أ. منها: ما بينا من قبل أنه أنزلت التوراة بعده، وليس فيه أنه كان يهوديًّا.

ب. ومنها: أن في الكتابين أنه كان حنيفًا مسلمًا.

ج. ومنها: أن تلك الشرائع لم تتفق مع شريعة إبراهيم في الأكثر والأعظم.

د. ومنها: أن اليهودية والنصرانية محرفة؛ فلذلك لم تكن ملة إبراهيم، بخلاف ملة الإسلام.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ﴾:

أ. قيل: أحق الناس بنصرته بالمعونة والحجة؛ لأن الَّذِينَ كانوا في زمانه تولوه بالنصرة على أعدائه وسائر المؤمنين بالحجة له، وتنزيهه عن كل عيب.

ب. وقيل: أولى الناس بتعظيمه.

ج. وقيل: بنصرة دينه.

12. ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ اقتدوا به في زمانه ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ يعني محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ معه المسلمين الَّذِينَ صدقوا محمدًا ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ناصرهم ومعينهم.

13. تدل الآيات الكريمة على:

أ. يدل قوله: ﴿لِمَ تُحَاجُّونَ﴾ على صحة الحجاج؛ لأنه تعالى حاجهم بأن إبراهيم ليس على دينهم بنزول الكتابين بعده.

ب. أن مِنْ علامة الباطل أن يلزم عليه باطل.

ج. يدل قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ على أن الحجة لا تلزم إلا العقلاء.

د. أن اليهودية والنصرانية اسما ذم، وأنهما لا يفيدان التمسك بالحق، فلذلك نفاهما عن إبراهيم، ولا شبهة أن ما عليه الفريقان ليس بدين موسى وعيسى، وكيف وهَؤُلَاءِ يدينون بالتشبيه والتثليث وتكذيب محمد، صلّى الله عليه وآله وسلّم وتدل على أن إبراهيم كان مسلمًا، وملته ملة الإسلام لموافقة الملتين في المعظم.

هـ. أن الولاية تثبت بالدين لا بالنسب؛ لذلك جعل المؤمنين أولى بإبراهيم.

14. مسائل نحوية:

أ. خبر ﴿أَنْتُمْ﴾ في ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ فيه وجهان:

أحدهما: قوله: ﴿حَاجَجْتُمْ﴾ على أن يكون ﴿هَؤُلَاءِ﴾ تابعًا عطفَ بيان لتمكين المعنى في النفس.

وثانيها: أن يكون الخبر ﴿هَؤُلَاءِ﴾ على معنى أولاء بمعنى الذي وما بعده صلة له.

ب. ﴿لَمْ﴾ أصله ﴿لَمًّا﴾، ومعناه لأي شيء حذفت الألف؟ فرقًا بين الاستفهام والخبر، تقول في الخبر: أسأل عما تسأل، فلا تحذف الألف؛ لأن معناه أسأل عن الذي تسأل، وتقول: جئت لما كان منك، فلا تحذف الألف، والمعنى: جئتك للذي كان منك.

ج. في قوله: ﴿حَاجَجْتُمْ﴾ أظهر الجيمين؛ لأن الجيم الأخير التي هي لام الفعل ساكنة فهو كقولك: رددت، وأدغمت في قوله: ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ﴾؛ لأن اللام متحركة، فالأول فاعلتم، والثاني تفاعلون.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/267.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الفرق بين الحجاج والجدال: أن الحجاج يتضمن إما حجة، أو شبهة في صورة الحجة والجدال هو فتل الخصم إلى المذهب بحجة، أو شبهة أو إيهام في الحقيقة، لأن أصله من الجدل وهو شدة الفتل، والحجة في البيان الذي شهد بصحة المقال، وهو والدلالة بمعنى واحد.

ب. ذكرنا الأصل في اليهود والنصارى والحنيف في سورة البقرة.

ج. أولى: الذي هو بمعنى أفعل من غيره، لا يثنى، ولا يجمع، لأنه يتضمن معنى الفعل والمصدر، على تقدير يزيد فضله على فضله في أفضل منه، ومعنى قولنا: هذا الفعل أولى من غيره أي: بأن يفعل، وقولنا: زيد أولى من غيره معناه: إنه على حال هو أحق بها من غيره.

د. الاتباع: جريان الثاني على طريقة الأول من حيث هو عليه، كالمدلول الذي يتبع الدليل في سلوك الطريق، أو في التصحيح، لأنه إن صح الدليل صح المدلول عليه بصحته، وكذلك المأموم الذي يتبع طريقة الإمام.

2. مما روي في سبب نزول الآيات الكريمة: قال ابن عباس والحسن وقتادة: إن أحبار اليهود، ونصارى نجران، اجتمعوا عند رسول الله، فتنازعوا في إبراهيم، فقالت اليهود: ما كان إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيا، فأنزل الله هذه الآية.

3. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: لم تنازعون وتجادلون فيه، وتدعون أنه على دينكم، ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي: من بعد إبراهيم ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أن الإقامة على الدعوى من غير برهان، غير جائزة في العقل، فكيف يجوز الإقامة على الدعوة بعد ما ظهر فسادها.

4. سؤال وإشكال: لو دل نزول التوراة والإنجيل بعد إبراهيم على أنه لم يكن على اليهودية والنصرانية، لوجب أن يدل نزول القرآن بعده على أنه لم يكن على الاسلام؟ والجواب:

أ. إن الكل متفقون على أنه متسم باسم الاسلام، غير أن اليهود ادعوا أن الاسلام هو اليهودية، والنصارى ادعوا أنه هو النصرانية، والتوراة والإنجيل أنزلتا من بعد إبراهيم، واسمه فيهما اسم الاسلام، وليس في واحد منهما أنه كان على دين اليهودية والنصرانية، وأما القرآن وإن كان منزلا بعده، ففيه وصف إبراهيم بدين الاسلام، ونفي اليهودية والنصرانية عنه، ففي هذا أوضح حجة على أنه كان مسلما، وأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته الذين لهم اسم الاسلام أولى به منهم.

ب. وقد قيل: إن اليهود اعتقدوا أن اليهودي اسم لمن تمسك بالتوراة، واعتقد شريعته، والنصارى اعتقدوا أن النصراني اسم لمن تمسك بالإنجيل، واعتقد شريعته، فرد الله تعالى دعوى الفريقين، وأخبر أن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعد إبراهيم، فكيف يكون متمسكا بحكمهما، وأما نحن فلم ندع أن المسلم هو المتمسك بحكم القرآن إذ الاسلام عبارة عن الدين دون أحكام الشريعة، فوصفناه بالإسلام كما وصفه الله به.

5. سؤال وإشكال: فهل كان إبراهيم عليه السلام متمسكا بشرائع الاسلام كلها التي نحن عليها؟ والجواب: إنه كان متمسكا بدين الاسلام، وببعض أحكام شريعة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم لا بجميعها لأن من حكم الشريعة قراءة القرآن في الصلاة، ولم يكن ذلك في شريعته، وإنما قلنا: إنه مسلم، وإن كان متمسكا ببعض أحكام الشريعة، لأن أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في بدو الاسلام، كانوا مسلمين قبل استكمال الشرع، وقبل نزول تمام القرآن، والواحد منا مسلم على الحقيقة، وإن لم يعمل بجميع أحكام الشريعة.

6. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ يا معشر اليهود والنصارى، وهو في الظاهر تنبيه على أنفسهم، والمراد به التنبيه على حالهم، إذ التنبيه إنما يكون فيما قد يغفل عنه الانسان دون ما يعلمه.

7. ﴿حَاجَجْتُمْ﴾ جادلتم وخاصمتم ﴿فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ معناه: حاججتم، ولكم به علم، لوجود اسمه في التوراة والإنجيل ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي: فلم تحاجون في دينه وشرعه، وليس لكم به علم؟ لم ينكر الله تعالى عليهم محاجتهم فيما علموه، وإنما أنكر عليهم محاجتهم فيما لم يعلموا.

8. ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ شأن إبراهيم ودينه، وكل ما ليس عليه دليل، لأنه العالم لجيمع المعلومات ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك، فلا تتكلموا فيه، ولا تضيفوا إليه ما لا تعلمونه، واطلبوا علم ذلك ممن يعلمه.

9. ثم كذّب الله اليهود والنصارى فقال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ نزه إبراهيم وبرأه عن اليهودية والنصرانية، لأنهما صفتا ذم قد دل القران والإجماع على ذلك، وهذا يدل على أن موسى أيضا لم يكن يهوديا، ولم يكن عيسى نصرانيا، فإن الدين عند الله الاسلام، واليهودية ملة محرفة عن شرع موسى، والنصرانية ملة محرفة عن شرع عيسى، فهما صفتا ذم جرتا على فرقتين ضالتين.

10. ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا﴾ أي: مائلا عن الأديان كلها إلى دين الاسلام، وقيل: معناه مستقيما في دينه ﴿مُسْلِمًا﴾ أي: كائنا على دين الاسلام ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾:

أ. قيل: إن هذا يتضمن كون اليهودية والنصرانية شركا.

ب. وقيل: إن معناه لم يكن مشركا على ما يدعيه مشركو العرب.

11. ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ﴾ يعني: إن أحق الناس بنصرة إبراهيم بالحجة أو بالمعونة ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ في وقته وزمانه، وتولوه بالنصرة على عدوه، حتى ظهر أمره، وعلت كلمته ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ يتولون نصرته بالحجة، لما كان عليه من الحق، وتبرئة كل عيب عنه أي: هم الذين ينبغي لهم أن يقولوا: إنا على دين إبراهيم، ولهم ولايته.

12. ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لأنه يتولى نصرتهم، والمؤمن ولي الله لهذا المعنى بعينه، وقيل: لأنه يتولى نصرة ما أمر الله به من الدين، وإنما أفرد الله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالذكر:

أ. تعظيما لأمره، وإجلالا لقدره، كما أفرد جبرائيل وميكائيل.

ب. وقيل: ليدخل في الولاية وتعود إليه الكناية، فإن التقدير: والذين آمنوا به.

13. في هذه الآية دلالة على أن الولاية تثبت بالدين لا بالنسب، ويعضد ذلك قول أمير المؤمنين: (إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به)، ثم تلا هذه الآية، وقال: (إن ولي محمد من أطاع الله، وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصى الله، وإن قربت قربته)، وروى عمر بن يزيد قال: قال أبو عبد الله: هم والله من آل محمد، قلت: من أنفسهم جعلت فداك قال: نعم والله من أنفسهم، قالها ثلاثا، ثم نظر إلي ونظرت إليه، فقال: يا عمر! إن الله يقول في كتابه: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ الآية رواه علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس عنه.

14. قرأ أهل الكوفة ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ بالمد والهمز، وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بغير مد ولا همز إلا بقدر خروج الألف الساكنة، وقرأ ابن كثير ويعقوب بالهمزة والقصر من غير مد على وزن ها عنتم، وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز.. والكلام في المد والهمز كثير، والوجه أن من حقق فعلى الأصل، لأنهما حرفان ها وأنتم، ومن لم يمد ولم يهمز فللتخفيف من غير إخلال.

15. مسائل نحوية:

أ. ﴿هَا أَنْتُمْ﴾: للتنبيه، وقد كثر التنبيه في هذا، ولم يكثر في ها أنت لأن ذا مبهم من حيث يصلح لكل حاضر، والمعنى فيه واحد بعينه مما يصلح له، فقوي بالتنبيه لتحريك النفس على طلبه بعينه، وليس كذلك أنت، لأنه لا يصلح لكل حاضر في الجملة، وإنما هو للمخاطب.

ب. خبر ﴿أَنْتُمْ﴾ يجوز أن يكون ﴿حَاجَجْتُمْ﴾ على أن يكون ﴿هَؤُلَاءِ﴾ عطف بيان، ويجوز أن يكون خبره ﴿هَؤُلَاءِ﴾ على أن أولاء بمعنى الذين، وما بعده صلة له.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/768.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال ابن عباس والحسن والسّدّيّ: اجتمع عند النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم نصارى نجران، وأحبار اليهود، فقال هؤلاء: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقال هؤلاء: ما كان إلا نصرانيا، فنزلت هذه الآية.

2. ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ قرأ ابن كثير (ها أنتم) مثل: هعنتم، فأبدل من همزة الاستفهام (الهاء) أراد: أأنتم، وقرأ نافع وأبو عمرو (هانتم) ممدودا استفهام بلا همزة، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ، (ها أنتم) ممدودا مهموزا ولم يختلفوا في مدّ (هؤلاء) و(أولاء)

3. في قوله تعالى: ﴿فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه ما رأوا وعاينوا قاله قتادة.

ب. الثاني: ما أمروا به ونهوا عنه، قاله السّدّيّ.

4. أما الذي ليس لهم به علم، فهو شأن إبراهيم عليه السلام، روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان بين إبراهيم وموسى، خمسمائة وخمس وسبعون سنة، وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة، وقال ابن إسحاق: كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة وخمس وستون سنة، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة، وقد سبق في (البقرة) معنى الحنيف.

5. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن رؤساء اليهود قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك، وأنه كان يهوديا، وما بك إلا الحسد، فنزلت هذه الآية، ومعناها: أحقّ النّاس بدين إبراهيم، الذين اتّبعوه على دينه، وهذا النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم على دينه، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: أن عمرو بن العاص أراد إن يغضب النّجاشيّ على أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال للنّجاشيّ: إنهم ليشتمون عيسى، فقال النّجاشيّ: ما يقول صاحبكم في عيسى؟ فقالوا: يقول: إنه عبد الله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، فأخذ النّجاشيّ من سواكه قدر ما يقذي العين، فقال: والله ما زاد على ما يقول صاحبكم ما يزن هذا القذى، ثم أبشروا، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم، قال عمرو بن العاص: ومن حزب إبراهيم؟ قال هؤلاء الرّهط وصاحبهم فأنزل الله يوم خصومتهم على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الآية، هذا قول عبد الرحمن بن غنم.

__________

(1) زاد المسير: 1/292.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان اليهود يقولون: إن إبراهيم كان على ديننا، والنصارى كانوا يقولون: كان إبراهيم على ديننا، فأبطل الله عليهم ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده فكيف يعقل أن يكون يهودياً أو نصرانياً؟

2. سؤال وإشكال: هذا أيضاً لازم عليكم لأنكم تقولون: إن إبراهيم كان على دين الإسلام، والإسلام إنما أنزل بعده بزمان طويل، فإن قلتم إن المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على المذهب الذي عليه المسلمون الآن، فنقول: فلم لا يجوز أيضاً أن تقول اليهود إن إبراهيم كان يهودياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه اليهود، وتقول النصارى إن إبراهيم كان نصرانياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى، فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهودياً أو نصرانياً بهذا التفسير، كما إن كون القرآن نازلًا بعده لا ينافي كونه مسلماً، والجواب:

أ. إن القرآن أخبر أن إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً مسلماً، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، فظهر الفرق.

ب. ثم نقول: أما إن النصارى ليسوا على ملة إبراهيم، فالأمر فيه ظاهر، لأن المسيح ما كان موجوداً في زمن إبراهيم، فما كانت عبادته مشروعة في زمن إبراهيم لا محالة، فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لملة إبراهيم لا محالة.

ج. وأما إن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم، فذلك لأنه لا شك إنه كان لله سبحانه وتعالى تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام، ولا شك أن الموصل لتلك التكاليف إلى الخلق واحد من البشر، ولا شك أن ذلك الإنسان قد كان مؤيداً بالمعجزات، وإلا لم يجب على الخلق قبول تلك التكاليف منه فإذن قد كان قبل مجيء موسى أنبياء، وكانت لهم شرائع معينة، فإذا جاء موسى فإما أن يقال إنه جاء بتقرير تلك الشرائع، أو بغيرهما فإن جاء بتقريرها لم يكن موسى صاحب تلك الشريعة، بل كان كالفقيه المقرر لشرع من قبله، واليهود لا يرضون بذلك، وإن كان قد جاء بشرع آخر سوى شرع من تقدمه فقد قال بالنسخ، فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كل الأنبياء جواز القول بالنسخ واليهود ينكرون ذلك، فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم، فبطل قول اليهود والنصارى بأن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانيا، فهذا هو المراد من الآية.

3. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ اختلفوا في أصل‏ ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ فقيل‏ ﴿هَا﴾ تنبيه والأصل‏ ﴿أَنْتُمْ﴾ وقيل أصله (أأنتم) فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم هرقت الماء وأرقت و﴿هَؤُلَاءِ﴾ مبني على الكسر وأصله أولاء دخلت عليه ها التنبيه، وفيه لغتان: القصر والمد، سؤال وإشكال: أين خبر أنتم في قوله ها أنتم؟ والجواب: في ثلاثة أوجه:

أ. الأول: قال الزمخشري ﴿هَا﴾ للتنبيه و﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ و﴿هَؤُلَاءِ﴾ خبره و﴿حَاجَجْتُمْ﴾ جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى بمعنى: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم وإن جادلتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟.

ب. الثاني: أن يكون‏ ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ، وخبر ﴿هَؤُلَاءِ﴾ بمعنى أولاء على معنى الذي وما بعده صلة له.

ج. الثالث: أن يكون‏ ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ و﴿هَؤُلَاءِ﴾ عطف بيان و﴿حَاجَجْتُمْ﴾ خبره وتقديره: أنتم يا هؤلاء حاججتم.

4. قوله تعالى: ﴿حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أنهم زعموا أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به وهو ادعاؤكم أن شريعة إبراهيم كانت مخالفة لشريعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟

ب. ثم يحتمل أنه لم يصفهم في العلم حقيقة وإنما أراد إنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه، فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به ألبتة؟

5. ثم حقق ذلك بقوله‏ ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ كيف كانت حال هذه الشرائع في المخالفة والموافقة ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ كيفية تلك الأحوال، ثم بيّن تعالى ذلك مفصلًا فقال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ فكذبهم فيما ادعوه من موافقة لهما، ثم قال: ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ وقد سبق تفسير الحنيف في سورة البقرة، ثم قال: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وهو تعريض بكون النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح وبكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه.

6. سؤال وإشكال: قولكم إبراهيم على دين الإسلام أتريدون به الموافقة في الأصول أو في الفروع؟ فإن كان الأول لم يكن مختصاً بدين الإسلام بل نقطع بأن إبراهيم أيضاً على دين اليهود، أعني ذلك الدين الذي جاء به موسى، فكان أيضاً على دين النصارى، أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى فإن أديان الأنبياء لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول، وإن أردتم به الموافقة في الفروع، فلزم أن لا يكون محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم صاحب الشرع ألبتة، بل كان كالمقرر لدين غيره، وأيضاً من المعلوم بالضرورة أن التعبد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيم عليه السلام فتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا وغير مشروعة في صلاتهم، والجواب:

أ. جاز أن يكون المراد به الموافقة في الأصول والغرض منه بيان إنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هم اليهود والنصارى في زماننا هذا.

ب. وجاز أيضاً أن يقال المراد به الفروع وذلك لأن الله نسخ تلك الفروع بشرع موسى، ثم في زمن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم نسخ شرع موسى عليه السلام الشريعة التي كانت ثابتة في زمن إبراهيم عليه السلام وعلى هذا التقدير يكون محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم صاحب الشريعة، ثم لما كان غالب شرع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم موافقاً لشرع إبراهيم عليه السلام، فلو وقعت المخالفة في القليل لم يقدح ذلك في حصول الموافقة.

7. ثم ذكر تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ﴾ فريقان: أحدهما: من اتبعه ممن تقدم، والآخر: النبي وسائر المؤمنين، ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالنصرة والمعونة والتوفيق والإعظام والإكرام.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/254.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ الأصل ﴿لَمًّا﴾ فحذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر، وهذه الآية نزلت بسبب دعوى كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان على دينه، فأكذبهم الله تعالى بأن اليهودية والنصرانية إنما كانتا من بعده، فذلك قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾، قال الزجاج: هذه الآية أبين حجة على اليهود والنصارى، إذ التوراة والإنجيل أنزلا من بعده وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، واسم الإسلام في كل كتاب، ويقال: كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى أيضا ألف سنة، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ دحوض حجتكم وبطلان قولكم. ‌‌

2. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ﴾ يعني في أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنهم كانوا يعلمونه فيما يجدون من نعته في كتابهم فحاجوا فيه بالباطل، ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ يعني دعواهم في إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا.

3. الأصل في ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ أأنتم فأبذل من الهمزة الأولى هاء لأنها أختها، عن أبي عمرو بن العلاء والأخفش، قال النحاس: وهذا قول حسن، وقرأ قنبل عن ابن كثير (هأنتم) مثل هعنتم، والأحسن منه أن يكون الهاء بدلا من همزة فيكون أصله أأنتم، ويجوز أن تكون ها للتنبيه دخلت على ﴿أَنْتُمْ﴾ وحذفت الألف لكثرة الاستعمال، وفي ﴿هَؤُلَاءِ﴾ لغتان المد والقصر ومن العرب من يقصرها، وأنشد أبو حاتم:

çلعمرك إنا والأحاليف هاؤلا...لفي محنة أظفارها لم تقلموهؤلاءé

هاهنا في موضع النداء يعني يا هؤلاء، ويجوز هؤلاء خبر أنتم، على أن يكون أولاء بمعنى الذين وما بعده صلة له، ويجوز أن يكون خبر ﴿أَنْتُمْ﴾ حاججتم.

4. في الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له، والحظر على من لا تحقيق عنده، فقال تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾، وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأيقن فقال تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل]، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه أتاه رجل أنكر ولده فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (هل لك من إبل)؟ قال نعم، قال: (ما ألوانها)؟ قال: حمر: (هل فيها من أورق)؟ قال نعم، قال: (فمن أين ذلك)؟ قال: لعل عرقا نزعه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وهذا الغلام لعل عرقا نزعه)، وهذا حقيقة الجدال ونهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

5. ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ نزهه تعالى من دعاويهم الكاذبة، وبين أنه كان على الحنيفية الإسلامية ولم يكن مشركا، والحنيف: الذي يوحد ويحج ويضحي ويختتن ويستقبل القبلة، والمسلم في اللغة: المتذلل لأمر الله تعالى المنطاع له.

6. ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وقال ابن عباس: قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك، فإنه كان يهوديا وما بك إلا الحسد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

7. ﴿أَوْلَى﴾ معناه أحق، قيل: بالمعونة والنصرة، وقيل بالحجة، ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ على ملته وسنته، ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ أفرد ذكره تعظيما له، كما قال ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرحمن]

8. ﴿هَذَا﴾ في موضع رفع عطف على الذين، و﴿النَّبِيُّ﴾ نعت لهذا أو عطف بيان، ولو نصب لكان جائزا في الكلام عطفا على الهاء في ﴿اتَّبَعُوهُ﴾، والله ولي المؤمنين أي ناصرهم، وعن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن ولي منهم أبي وخليل ربي) ـ ثم قرأ ـ ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ﴾

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/108.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ادّعت كل واحدة من طائفتي اليهود والنصارى أن إبراهيم عليه السلام كان على دينهم؛ ردّ الله سبحانه ذلك عليهم، وأبان بأنّ الملة اليهودية والملة النصرانية إنما كانتا من بعده، قال الزجاج: (هذه الآية أبين حجة على اليهود والنصارى أن التوراة والإنجيل نزلا من بعده، وليس فيهما اسم لواحد من الأديان واسم الإسلام في كل كتاب)، وفيه نظر، فإن الإنجيل مشحون بالآيات من التوراة، وذكر شريعة موسى والاحتجاج بها على اليهود، وكذلك الزبور فيه في مواضع ذكر شريعة موسى، وفي أوائله التبشير بعيسى، ثم في التوراة ذكر كثير من الشرائع المتقدّمة، يعرف هذا كل من عرف هذه الكتب المنزلة.

2. اختلف في قدر المدّة التي بين إبراهيم وموسى، والمدّة التي بين موسى وعيسى، قال القرطبي: يقال: كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى ألفا سنة، وكذا في الكشاف.

3. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أي: تتفكرون في دحوض حجتكم وبطلان قولكم.

4. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ الأصل في ها أنتم: أأنتم، أبدلت الهمزة الأولى هاء، لأنها أختها، كذا قال أبو عمرو بن العلاء، والأخفش، قال النحاس: وهذا قول حسن، وقرأ قنبل: هأنتم وقيل: الهاء للتنبيه دخلت على الجملة التي بعدها، أي: ها أنتم هؤلاء الرجال الحمقى حاججتم.

5. في هؤلاء لغتان: المدّ والقصر، والمراد بما لهم به علم: هو ما كان في التوراة وإن خالفوا مقتضاه وجادلوا فيه بالباطل، والذي لا علم لهم به هو زعمهم أن إبراهيم كان على دينهم لجهلهم بالزمن الذي كان فيه.

6. في الآية دليل على منع الجدال بالباطل، بل ورد الترغيب في ترك الجدال من المحقّ كما في حديث (من ترك المراء ولو محقّا فأنا ضمينه على الله ببيت في ربض الجنّة)، وقد ورد تسويغ الجدال بالتي هي‏ أحسن لقوله تعالى: {وجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏ ولا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏} ونحو ذلك، فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة، أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة، ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ أي: كل شيء فيدخل في ذلك ما حاججوا به.

7. ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ﴾ أي: أحقهم به وأخصهم للذين اتبعوا ملته واقتدوا بدينه‏ ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، أفرده بالذكر تعظيما وتشريفا، وأولويته صلّى الله عليه وآله وسلّم بإبراهيم من جهة كونه من ذريته، ومن جهة موافقته لدينه في كثير من الشريعة المحمدية ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ من أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/401.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ أي تجادلون فيه فيدعيه كل من‏ فريقكم‏ ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ﴾ أي المقرّر كل منهما لأصل دين منتحله منكم‏ ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدل المحال.

2. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ أي الأشخاص الحمقى‏ ﴿حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ من أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ له ذكر في كتابكم فأمكنكم تغييره لفظا ومعنى، أو من أمر موسى وعيسى عليهما السلام، أو مما نطق به التوراة والإنجيل‏ ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ من أمر إبراهيم لكونه لم يذكر في كتابكم بما حاججتم، فلا يمكنكم فيه التغيير ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ فيبيّنه لنبيّه‏ ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

3. ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا﴾ أي كما ادعى اليهود ﴿وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ كما ادعى النصارى‏ ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ سبق معنى الحنيف عند قوله تعالى: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ في البقرة ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ تعريض بأنهم مشركون بقولهم: عزيز ابن الله والمسيح ابن الله، وردّ لادعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام.

4. ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ﴾ أي أخصهم به وأقربهم منه، من (الولي) وهو القرب‏ ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ أي في دينه من أمته وغيرهم‏ ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ يعني خاتم الأنبياء محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ به فعملوا بشريعته الموافقة لشريعة إبراهيم‏ ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالنصر والمعونة والمحبة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/333.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سبب النزول: ﴿يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ نزلت لَمَّا قدم وفد نجران وهم نصارى عرب إلى المدينة، واجتمعوا باليهود فقالت النصارى: إبراهيم نصرانيٌّ وهم على دينه، واليهود: إنَّه يهوديٌّ وهم على دينه، فكذَّبهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كلَّهم، فقال: اليهود: ما تريد إِلَّا أنَّ نتَّخذك ربًّا كما اتَّخذت النصارى عيسى ربًّا، وقال النصارى ما تريد إِلَّا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير، أو نزل في هذا قوله تعالى: ﴿قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوا﴾ إلخ [آل عمران: 64]، وقوله: ﴿يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ﴾ إلخ [آل عمران: 65]، أو نزل في خصوصه قوله تعالى: ﴿قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوا﴾ ونزل في مطلق قول اليهود: إنَّه يهوديٌّ ونحن على دينه، والنصارى: نصرانيٌّ ونحن على دينه، قولُه تعالى: ﴿يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ﴾

2. ﴿لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ في دين إبراهيم بزعمكم أنَّكم على دينه، وتنازُعِكم عند محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فإنَّهم تنازعوا في ذلك عنده، قالت اليهود: (ما كان إبراهيم إِلَّا يهوديًّا) والنصارى: (ما كان إِلَّا نصرانيًّا)، فحكم بأنَّ الفريقين ليسوا على دينه، كما قال الله جلَّ وعلا: ﴿وَمَآ أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالاِنجِيلُ إِلَّا مِنم بَعْدِهِ﴾ بزمان طويل، وبعد نزول التوراة حدثت اليهوديَّة، وبعد نزول الإنجيل حدثت النصرانيَّة، ولا سيما أنَّهم خالفوا التوراة والإنجيل إِلَّا من عصمه الله تعالى .

3. بين إبراهيم وموسى ألف سنة، أو سبعمائة، أو خمسمائة وخمسة وستُّون؛ وبين موسى وعيسى ألف سنة فيما قيل؛ وقيل: ألف وتسعمائة وخمسة وعشرون؛ وقيل: ألفان؛ وقيل: بين إبراهيم وموسى ألفان، وإنَّما تتحقَّق اليهوديَّة بمتابعة التوراة، والنصرانيَّة بمتابعة الإنجيل، فبطلت اليهوديَّة بمخالفة الإنجيل أيضًا بعد نزوله، والنصرانيَّة واليهوديَّة بمخالفة القرآن بعد نزوله، ولم يبق إِلَّا اليهوديَّة والنصرانيَّة المبطلتان، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أتهملون التفكُّر فلا تعقلون؟ أو تقولون ذلك فلا تعقلون؟.

4. ﴿هَآ انتُمْ هَؤُلَآءِ﴾ (ها) للتنبيه في الموضعين؛ أو الأوَّل همزة أبدلت هاء وأشبعت، وهذا ضعيف وخلاف الأصل، و(أَنتُمْ) مبتدأ، و(هَؤُلَاءِ) منصوب على الاختصاص، و(حَاجَجْتُمْ) خبر (أَنتُمْ)، أو (هَؤُلَاءِ) منادى، أو موصول وهو خبر، و(حَاجَجْتُمْ) صلة (هَؤُلَاءِ)، على أنَّه يجوز استعماله موصولا، بمعنى (الذين)، أي: أنتم الذين، ﴿حَاجَجْتُم﴾ عنادا وحسدا بعضكم بعضا والمسلمين؛ وعليه فمقتضى الظاهر: حاجُّوا؛ لأنَّ الظاهر من قبيل الغيبة، لكن خاطب نظرا لـ (أَنتُمْ) أو (هَؤُلَاءِ) مفعول لـ (حَاجَجْتُمْ)، فيكون إشارة للمسلمين.

5. ﴿فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ﴾ من التوراة والإنجيل، أو تدَّعونه فيهما، وأنَّكم على دينهما، ﴿فَلِمَ تُحَآجُّونَ﴾ بعضكم بعضا والمسلمين، ﴿فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ﴾؟ فإنَّه لا يخفى أنَّ الجدال الباطل في ما لا علم به أغرب لكونه غير مبنيٍّ عَلَى شيء من الجدال الباطل المبنيِّ على حقٍّ محرَّف، كأنَّه قيل: هب أنَّكم تجيزون محاجَّة فيما تدَّعون من دينكم الذي وجدتموه في كتبكم، وقلتم: إنَّ شريعتنا لا تنسخ، فلم تجادلون فيما لا علم لكم به من أمر إبراهيم عليه السلام ، ولم تعاصروه، ولا جاء عنه أثر في كتبكم مشيرا إلى دعواكم!؟ فأنتم حمق لذلك، كمن لا يعر ف ذاته إِلَّا بالإشارة إليها الحسِّيَّة، أو الذي لهم به علم هو شأن سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة والإنجيل، والذي ليس لهم به علم إبراهيم عليه السلام ، ولا يصحُّ ما قيل: إنَّ اليهود أرادوا بكون إبراهيم يهوديًّا أنَّه مدحهم وآمن بموسى، وأنَّ النصارى أرادوا بكون إبراهيم نصرانيًّا أنَّه آمن بعيسى ومدحهم؛ لأنَّه لو كان ذلك لردَّ الله عليهم بغير ما ذكر، إِلَّا أن يقال: الردُّ عليهم من حيث إنَّ قولهم ذلك عن إبراهيم إنَّه مُسيغٌ لهم، ومن أساغ لهم فكأنَّه منهم، ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ ما حاججتم به، ﴿وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك.

6. ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا﴾ نسبا ولا شريعة، كيف يكون كذلك مع شركهم وفسقهم اعتقادا وفعلا وقولا، ومع مخالفتهم لأنبيائهم، ﴿وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ كذلك، ﴿وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا﴾ مائلا عن الأديان كلِّها إلى الدين القيِّم، ﴿مُسْلِمًا﴾ كنبيئنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم في شريعته كلِّها أو جلِّها، أو منقادا لله أو موحِّدا لا مشركا، كما أشركت اليهود بقولها: عزير ابن الله، وبسجودها لأحبارها ورهبانها، وبتجسيمها، وبدعوى الاستواء المعقول؛ وكما أشركت النصارى بدعوى الألوهيَّة لعيسى ولأمِّه والبنوَّة له، وليس في كون شريعة إبراهيم كلِّها أو جلِّها ـ وهو الصحيح ـ موافقة لشريعة نبيئنا صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّه تابع لإبراهيم، وأنَّه لا شريعة له، لأنَّا نقول: جاءه القرآن بها ولم يجئ القرآنُ إبراهيمَ، ولا سيما أنَّها نُسيت حتَّى جدَّدها القرآن.

7. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ كما أنتم مشركون يا أهل الكتاب بقولكم: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، أو إله وغير ذلك، وكما أنَّ المجوس وعبَّاد الأصنام مشركون، فأنتم وهؤلاء مخالفون لإبراهيم في الأصول، وأيضا في الفروع مِمَّا لم ينسخ، وكما أشركت العرب بعبادة الأصنام ودعوى أنَّ الملائكة بنات الله، فبطل دعوى اليهود والنصارى وهؤلاء العرب أنَّهم على دين إبراهيم.

8. ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ﴾ أقربهم وأخصَّهم، ﴿بِإِبْرَاهِيمَ﴾ بالفخر به، والكون من آله وحزبه، ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ في شريعته من أهل زمانه، وبعده حتَّى تغيَّر بالبدع أو بنحو التوراة، ﴿وَهَذَا النَّبِيءُ﴾ محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ من أمَّته لكونهم على دينِهِ أصولِه كلِّها وفروعِه كلِّها أو جلِّها، لا اليهود ولا النصارى المتَّبِعُونَ للتوراة والإنجيل، ولا الملحدون منهم والمبتدعون، والعطفان تخصيص بعد تعميم، ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُومِنِينَ﴾ ناصرهم ومجازيهم على إيمانهم بالجنَّة وما دونها.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/293.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية والآيتان بعدها في سياق دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام وبيان أنه دين جميع أنبيائهم الذين يدينون بإجلالهم وكان إبراهيم عليه والصلاة والسلام وعلى آله موضع إجلال الفريقين منه لما في كتبهم من الثناء عليه في العهد العتيق والعهد الجديد، كما كانت قريش تجله وتدعي أنها على دينه، فأراد تعالى أن يبين لهم جميعا أن هذا النبي الكريم يدعوهم هو إليه على لسان نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فبدأ بالاحتجاج على أهل الكتاب بقوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي فإذا كان الدين الحق لا يعدو التوراة كما تقولون أيها اليهود، أو لا يتجاوز الإنجيل كما تقولون أيها النصارى، فكيف كان إبراهيم على الحق واستوجب ثناءكم وثناء من قبلكم.

2. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أن المتقدم على الشيء لا يمكن أن يكون تابعا له، فإن خطر في بالك أيها القارئ أن هذا يرد على القرآن فاصبر نفسك معي إلى تفسير الآية الثالثة.

3. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ وهو خبر عيسى فقامت عليك الحجة بأن منكم من غلا في الإفراط إذ قال إنه إله ومنكم من غلا في التفريط إذ قال إنه دعي كذاب ولم يكن علمك القليل به عاصما لكم من الخطأ في الحكم عليه: ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ وهو كون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا! أليس الواجب عليكم أن تتبعوا فيه ما يوحيه الله إلى عبده محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

4. ثم بين تعالى ما يعلم من أمره فقال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا﴾، أي مائلا عن كل ما كان عليه أهل عصره من الشرك والضلال: ﴿مُسْلِمًا﴾ وجهه إلى الله تعالى وحده مخلصا له الدين والطاعة.

5. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين يسمون أنفسهم الحنفاء ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم، وهم قريش ومن وافقهم من العرب، وهذا من الاحتراس فقد كان أهل الكتاب يدعون العرب بالحنفاء حتى صار الحنيف عندهم بمعنى الوثني المشرك، فلما وافقهم القرآن على إطلاق لفظ الحنيف على إبراهيم مستعملا له بالمعنى اللغوي احترس عما يوهمه الإطلاق من إرادة المعنى الاصطلاحي عندهم فصار معنى الآية أن إبراهيم المتفق على إجلاله وادعاء دينه عند أهل الملل الثلاث لم يكن على ملة أحد منهم بل كان مائلا عن مثل ما هم عليه من الوثنية والتقاليد، مسلما خالصا لله تعالى.

6. ليس المراد بكونه مسلما أنه كان على مثل ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من الشريعة بالتفصيل وأنه يرد على هذا أن هذه الشريعة جاءت من بعده كما كانت التوراة والإنجيل من بعده، وإنما المراد إنه كان متحققا بمعنى الإسلام الذي يدل عليه لفظه وهو التوحيد والإخلاص لله في عمل الخير كما بينا ذلك بالتفصيل في تفسير ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19] وهذا المعنى لا يستطيع أهل الكتاب إنكاره، فإن ما في كتبهم عن إبراهيم لا يعدوه وما كان النبي يدعوهم إلا إليه، وقد نسي أكثر المسلمين اليوم معنى الإسلام الذي يقرره القرآن وجمدوا على المعنى الاصطلاحي له فجعلوه جنسية غافلين عن كونه هداية روحية، وما كان سلفهم الصالح كذلك.

7. ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ﴾ أي أجدرهم بولايته وأحراهم بموافقته: ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ في عصره وأجابوا دعوته فاهتدوا بهديه: ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ معه فإنهم أهل التوحيد المحض الذي لا يشوبه اتخاذ الأولياء ولا التوسل بالوسطاء والشفعاء، وأهل الإخلاص في الأعمال الذي لا يبطله شرك ولا رياء وهذا روح الإسلام والمقصود من الإيمان، فمن فاته فقد فاته الدين كله لا تغني عنه التقاليد والرسوم ولا تنفعه الوسطاء والأولياء: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88 89] بأخذه بحقيقة الإسلام الذي شرع لتنقية القلوب وتزكية النفوس وإعداد الأرواح في الدنيا إلى الدرجات العلى في الأخرى.

8. ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين لا يتوجهون إلى غيره في كشف ضر ولا طلب نفع فهو يتولى أمورهم ويصلح شؤونهم ويتولى إثابتهم على حسب تأثير الإسلام في قلوبهم ويزيدهم من فضله، فنسأله تعالى أن يجعلنا معهم في الدنيا والآخرة ولا يجعلنا من أهل الجمود على التقاليد الظاهرة الغافلين عن روح الإسلام المفتونين باتخاذ الأولياء والأمراء، هذا وليس عندنا في هذه الآيات شيء عن محمد عبده وما قلناه موافق لطريقته.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/330.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ أي أيها اليهود والنصارى: لم تتنازعون وتتجادلون في إبراهيم ويدّعى كل منكم أنه على دينه؟ وقد كان إبراهيم موضع إجلال الفريقين لما في كتبهم من الثناء عليه في العهد العتيق والعهد الجديد كما كانت قريش تجلّه وتدّعى أنها على دينه، وهو لم يكن على شيء من تقاليدكم، بل كان على الإسلام الذي يدعو إليه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإلى هذا أشار بقوله: (وما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ والْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي وما أنزلت التوراة على موسى، ولا الإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم بأحقاب طوال، وقد قالوا: إن بين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة، وبين موسى وعيسى حوالى ألف سنة، أفلا تعقلون أن المتقدم على الشيء لا يمكن أن يكون تابعا له؟

2. خلاصة ذلك ـ أنه إذا كان الدين الحق لا يعدو التوراة كما يقول اليهود، ولا يتجاوز الإنجيل كما يقول النصارى، فكيف كان إبراهيم على الحق، واستوجب ثناءكم وثناء من قبلكم، والتوراة والإنجيل خلو من الإخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموها أليس عندكم عقل يردكم عن مثل هذه الدعوى، ويربأ بكم أن تقولوا ما لا سند له من كتاب ولا دليل عليه؟ وفي هذا إيماء إلى جهلهم وحماقتهم في دعواهم هذه.

3. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ من أمر عيسى عليه السلام، وقد قامت عليكم الحجة، وتبين أن منكم من غلا وأفرط وادعى ألوهيته، ومنكم من فرّط وقال إنه دعيّ كذاب، ولم يكن علمكم بمانع لكم من الخطأ.

4. ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ من أمر إبراهيم إذ لا ذكر لدينه في كتبكم فمن أين أتاكم أنه كان يهوديا أو نصرانيّا، أليس من المعقول أن تتبعوا فيه ما أوحاه الله إلى رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟.

5. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي والله يعلم ما غاب عنكم ولم تشاهدوه، ولم تأتكم به الرسل من أمر إبراهيم وغيره مما تجادلون فيه، وأنتم لا تعلمون من ذلك إلا ما عاينتم وشاهدتم، أو أدركتم علمه بالسماع.

6. ثم صرّح بما فهم من قبل تلويحا فقال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ أي إن اليهود والنصارى الذين جادلوا في إبراهيم وملته وأنه كان على دينهم ـ كاذبون في دعواهم وأن الصادق فيها هم أهل الإسلام، فإنهم وحدهم أهل دينه وعلى منهاجه وشريعته دون سائر الملل الأخرى، إذ هو مطيع لله، مقيم على محجة الهدى التي أمر بلزومها، خاشع له بقلب متذلل، مذعن لما فرضه عليه وألزمه به.

7. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين يسمون أنفسهم الحنفاء ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم، وهم قريش ومن سار على نهجهم من العرب.

8. صفوة القول ـ إن إبراهيم الذي اتفق اليهود والنصارى والمشركون على إجلاله وتعظيمه ـ لم يكن على ملة أحد منهم، بل كان مائلا عما هم عليه من الوثنية، مسلما لله، مخلصا له.

9. ثم أكد ما سلف بقوله: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ معه: أي إن أحق الناس بإبراهيم ونصرته وولايته ـ هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره فوحدوا الله مخلصين له الدين، وكانوا حنفاء مسلمين غير مشركين، وهذا النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين آمنوا معه، فإنهم أهل التوحيد الذي لا يشوبه اتخاذ الأولياء ولا التوسل بالشفعاء، المخلصون لله في أعمالهم دون شرك ولا رياء، وهذا هو روح الإسلام والمقصود من الإيمان، ومن فاته ذلك فقد فاته الدين كله.

10. ثم ذكر أنهم مع نصرتهم لإبراهيم فالله ناصرهم فقال: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالنصرة والتأييد، والتوفيق والتسديد فهو يتولى أمورهم ويصلح شؤونهم، ويثيبهم بحسب تأثير الإسلام في قلوبهم، ويحازيهم بالحسنى وزيادة.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/181.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا الشوط من السورة ما يزال يجري مع الخط الأول الأساسي العريض فيها.. خط المعركة بين أهل الكتاب والجماعة المسلمة.. معركة العقيدة، وما يبذل أعداء هذا الدين من جهد ومن حيلة ومن مكيدة ومن خداع، ومن كذب، ومن تدبير، للبس الحق بالباطل، وبث الريب والشكوك، وتبييت الشر والضر لهذه الأمة بلا وناة ولا انقطاع.. ثم.. مواجهة القرآن لهذا كله، بتبصير المؤمنين بحقيقة ما هم عليه من الحق؛ وحقيقة ما عليه أعداؤهم من الباطل؛ وحقيقة ما يبيته لهم هؤلاء الأعداء.. وأخيرا بتشريح هؤلاء الأعداء.. طباعهم وأخلاقهم وأعمالهم ونياتهم.. على مشهد من الجماعة المسلمة، لتعريفها حقيقة أعدائها، وفضح ما يضفونه على أنفسهم من مظاهر العلم والمعرفة، وتبديد ثقة المخدوعين من المسلمين فيهم، وتنفيرهم من حالهم، وإسقاط دسائسهم بتركها مكشوفة عوراء، لا تخدع أحدا ولا تنطلي على أحد! ويبدأ هذا الشوط بمواجهة أهل الكتابـ اليهود والنصارى ـ بسخف موقفهم وهم يحاجون في إبراهيم عليه السلام فيزعم اليهود أنه كان يهوديا، ويزعم النصارى أنه كان نصرانيا، على حين أن إبراهيم سابق لليهودية والنصرانية، سابق للتوراة والإنجيل، والحجاج فيه على هذا النحو مراء لا يستند إلى دليل.. ويقرر حقيقة ما كان عليه إبراهيم.. لقد كان على الإسلام.. دين الله القويم، وأولياؤه هم الذين يسيرون على نهجه، والله ولي المؤمنين أجمعين.. ومن ثم تسقط ادعاءات هؤلاء وهؤلاء؛ ويتبين خط الإسلام الواصل بين رسل الله والمؤمنين بهم على توالي القرون: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾

2. قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي ـ مولى زيد بن ثابت ـ حدثني سعيد بن جبير ـ أو عكرمة ـ عن ابن عباس قال اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ الآية، وسواء كانت هذه هي مناسبة نزول الآية أو لم تكن، فظاهر من نصها أنها نزلت ردا على ادعاءات لأهل الكتاب، وحجاج مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو مع بعضهم البعض في حضرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والهدف من هذه الادعاءات هو احتكار عهد الله مع إبراهيم عليه السلام أن يجعل في بيته النبوة؛ واحتكار الهداية والفضل كذلك، ثم ـ وهذا هو الأهم ـ تكذيب دعوى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه على دين إبراهيم، وأن المسلمين هم ورثة الحنيفية الأولى؛ وتشكيك المسلمين في هذه الحقيقة، أو بث الريبة في نفوس بعضهم على الأقل.

3. ومن ثم يندد الله بهم هذا التنديد؛ ويكشف مراءهم الذي لا يستند إلى دليل، فإبراهيم سابق على التوراة وسابق على الإنجيل، فكيف إذن يكون يهوديا؟ أو كيف إذن يكون نصرانيا؟ إنها دعوى مخالفة للعقل، تبدو مخالفتها بمجرد النظرة الأولى إلى التاريخ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾

4. ثم يمضي في التنديد بهم؛ وإسقاط قيمة ما يدلون به من حجج، وكشف تعنتهم وقلة اعتمادهم على منهج منطقي سليم في الجدل والحوار: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقد جادلوا في أمر عيسى عليه السلام؛ كما يبدو أنهم جادلوا في بعض الأحكام التشريعية حين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم تولوا وهم معرضون.. وكان هذا وذاك في دائرة ما يعلمون من الأمر، أما أن يجادلوا فيما هو سابق على وجودهم، ووجود كتبهم ودياناتهم.. فهو الأمر الذي لا سند له ولو كان سندا شكليا.. فهو الجدل إذن لذات الجدل، وهو المراء الذي لا يسير على منهج، وهو الغرض إذن والهوى.

5. ومن كان هذا حاله فهو غير جدير بالثقة فيما يقول، بل غير جدير بالاستماع أصلا لما يقول! حتى إذا انتهى السياق من إسقاط قيمة جدلهم من أساسه، ونزع الثقة منهم ومما يقولون، عاد يقرر الحقيقة التي يعلمها الله، فهو ـ سبحانه ـ الذي يعلم حقيقة هذا التاريخ البعيد؛ وهو الذي يعلم كذلك حقيقة الدين الذي نزله على عبده إبراهيم، وقوله الفصل الذي لا يبقى معه لقائل قول؛ إلا أن يجادل ويماري بلا سلطان ولا دليل: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، فيؤكد ما قرره من قبل ضمنا من أن إبراهيم عليه السلام ما كان يهوديا ولا نصرانيا، وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، ويقرر أنه كان مائلا عن كل ملة إلا الإسلام، فقد كان مسلما.. مسلما بالمعنى الشامل للإسلام الذي مر تفصيله وبيانه.

6. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وهذه الحقيقة متضمنة في قوله قبلها ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾.. ولكن إبرازها هنا يشير إلى عدة من لطائف الإشارة والتعبير:

أ. يشير أولا إلى أن اليهود والنصارى ـ الذين انتهى أمرهم إلى تلك المعتقدات المنحرفة ـ مشركون.. ومن ثم لا يمكن أن يكون إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا، ولكن حنيفا مسلما!

ب. ويشير إلى أن الإسلام شيء والشرك شيء آخر، فلا يلتقيان، الإسلام هو التوحيد المطلق بكل خصائصه، وكل مقتضياته، ومن ثم لا يلتقي مع لون من ألوان الشرك أصلا.

ج. ويشير ثالثا إلى إبطال دعوى المشركين من قريش كذلك أنهم على دين إبراهيم، وسدنة بيته في مكة، فهو حنيف مسلم، وهم مشركون، ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾

7. ما دام أن إبراهيم عليه السلام كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، فليس لأيّ من اليهود أو النصارى ـ أو المشركين أيضا ـ أن يدعي وراثته، ولا الولاية على دينه، وهم بعيدون عن عقيدته.. والعقيدة هي الوشيجة الأولى التي يتلاقى عليها الناس في الإسلام، حين لا يلتقون على نسب ولا أرومة ولا جنس ولا أرض.

8. إذا أنبتت تلك الوشيجة التي يتجمع عليها أهل الإيمان، فالإنسان في نظر الإسلام إنسان بروحه، بالنفخة التي جعلت منه إنسانا، ومن ثم فهو يتلاقى على العقيدة أخص خصائص الروح فيه، ولا يلتقي على مثل ما تلتقي عليه البهائم من الأرض والجنس والكلأ والمرعى والحد والسياج! والولاية بين فرد وفرد، وبين مجموعة ومجموعة، وبين جيل من الناس وجيل، لا ترتكن إلى وشيجة أخرى سوى وشيجة العقيدة، يتلاقى فيها المؤمن والمؤمن، والجماعة المسلمة والجماعة المسلمة، والجيل المسلم والأجيال المسلمة من وراء حدود الزمان والمكان، ومن وراء فواصل الدم والنسب، والقوم والجنس؛ ويتجمعون أولياء ـ بالعقيدة وحدها ـ والله من ورائهم ولي الجميع: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فالذين اتبعوا إبراهيم ـ في حياته ـ وساروا على منهجه، واحتكموا إلى سنته هم أولياؤه، ثم هذا النبي الذي يلتقي معه في الإسلام بشهادة الله أصدق الشاهدين، ثم الذين آمنوا بهذا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فالتقوا مع إبراهيم عليه السلام في المنهج والطريق.

9. ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فهم حزبه الذين ينتمون إليه، ويستظلون برايته، ويتولونه ولا يتولون أحدا غيره، وهم أسرة واحدة، وأمة واحدة، من وراء الأجيال والقرون، ومن وراء المكان والأوطان؛ ومن وراء القوميات والأجناس، ومن وراء الأرومات والبيوت! وهذه الصورة هي أرقى صورة للتجمع الإنساني تليق بالكائن الإنساني، وتميزه من القطيع! كما أنها هي الصورة الوحيدة التي تسمح بالتجمع بلا قيود، لأن القيد الواحد فيها اختياري يمكن لكل من يشاء أن يفكه عن نفسه بإرادته الذاتية، فهو عقيدة يختارها بنفسه فينتهي الأمر.. على حين لا يملك الفرد أن يغير جنسه ـ إن كانت رابطة التجمع هي الجنس ـ ولا يملك أن يغير قومه ـ إن كانت رابطة التجمع هي القوم ـ ولا يملك أن يغير لونه ـ إن كانت رابطة التجمع هي اللون ـ ولا يملك بيسر أن يغير لغته إن كانت رابطة التجمع هي اللغة ـ ولا يملك بيسر أن يغير طبقته ـ إن كانت رابطة التجمع هي الطبقة ـ بل قد لا يستطيع أن يغيرها أصلا إن كانت الطبقات وراثة كما في الهند مثلا، ومن ثم تبقى الحواجز قائمة أبدا دون التجمع الإنساني، ما لم ترد إلى رابطة الفكرة والعقيدة والتصور.. الأمر المتروك للاقتناع الفردي، والذي يملك الفرد بذاته، بدون تغيير أصله أو لونه أو لغته أو طبقته أن يختاره، وأن ينضم إلى الصف على أساسه، وذلك فوق ما فيه من تكريم للإنسان، بجعل رابطة تجمعه مسألة تتعلق بأكرم عناصره، المميزة له من القطيع! والبشرية إما أن تعيش ـ كما يريدها الإسلام ـ أناسيّ تتجمع على زاد الروح وسمة القلب وعلامة الشعور، وإما أن تعيش قطعانا خلف سياج الحدود الأرضية، أو حدود الجنس واللون.. وكلها حدود مما يقام للماشية في المرعى كيلا يختلط قطيع بقطيع!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/409.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ينكر الله سبحانه وتعالى على أهل الكتاب ـ من اليهود والنصارى ـ دعواهم في إبراهيم عليه السّلام، إذ تدّعى اليهود أنه على دين اليهودية، وأن اليهود على دينه، كما يدّعى النصارى أنه كان على النصرانية، وأنهم على دين إبراهيم! وقد كثر جدلهم وحجاجهم في هذا.. فكان أن أنكر الله على الفريقين دعواهم.. ﴿لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ فكيف يدين إبراهيم بالتوراة والإنجيل وقد سبقهما بزمن طويل؟ وليست التوراة إحالة على دين إبراهيم، حتى يكون ما عليه اليهود هو دين إبراهيم، وإنما جاءت التوراة بشريعة خاصة لليهود، وإن كانت الشرائع كلها مستمدة من مصدر واحد.. ولكن لكل دين شريعة خاصة بالجماعة المدعوة إلى هذا الدين، قال الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾، وكذلك الشأن في الإنجيل، إذ ليس فيه شريعة، وإنما شريعة أتباع الإنجيل هي التوراة!

2. في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ تعريض بأهل الكتاب، وبغلبة التعصب الذي أعمى بصائرهم عن النظر في البديهيات، فضلا عن المشكلات.

3. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ هو استدعاء لموقف أهل الكتاب وفيما يجادلون فيه، مما في أيديهم من التوراة والإنجيل عن المسيح، وأمه، ومولده ومعجزاته، وصلبه.. فهذا الموقف على علّاته، وما فيه، من مقولات باطلة، هو أصح من موقفهم الجدلىّ في إبراهيم عليه السّلام، وفي يهوديته ونصرانيته، إذ كان الموقف الأول يستند إلى شيء.. أي شيء، على حين أن الموقف الآخر لا يستند إلا على خواء!

4. ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ إفحام لهؤلاء الذين يتقوّلون بغير علم، وإخراس لألسنتهم التي تجادل بالزور والبهتان.. فليس لهم مع قول الله قول، وليس لهم مع علمه علم.. فالله يعلم علما مطلقا محيطا بكل شيء، وهم لا يعلمون من علم الله شيئا!

5. ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ تعريض بما عليه أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ من انحراف عن الدين القويم، الدّين الذي جاء به أنبياء الله إلى عباد الله! والحنيف هو المتعبد لله، الراكع الساجد لعزته وجلاله، المائل عن طرق الهوى والضلال.. والمسلم، هو من أسلم وجهه لله، وأقامه عليه وحده، دون أن يلتفت إلى سواء، واليهود والنصارى، لم يسلموا وجههم لإله واحد، قائم على هذا الوجود، متفرد به.. إذ جعل اليهود إلههم إلها فرديّا، هو ربّهم، وقائد جنودهم، وقائم على تدبير شؤونهم.. هم وحدهم.. أما الناس جميعا غيرهم، فلهم إلههم أو آلهتهم..! ولا شأن لهذا الإله أو تلك الآلهة باليهود، كما لا شأن لليهود بها، هكذا يعتقدون، أما النصارى فإلههم هو ثلاثة: أب، وابن، وروح قدس.. تجتمع وتتفرق، فإذا اجتمعت كانت إلها واحدا، وإذا تفرقت كان كل منها إلها كاملا، وهذا وذاك، على غير الحق، وعلى غير ما يدين به إبراهيم، الذي ينسبون دينهم إليه.. لأن ذلك شرك، والله تعالى يقول في إبراهيم: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فكيف ينتسب إليه المشركون؟ وكيف تصحّ تلك النسبة، أو تستقيم على وجه؟

6. ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بعد أن أبطل الله سبحانه دعوى اليهود والنصارى بنسبتهم إلى إبراهيم، الذي يدينون بغير ما كان يدين به، من توحيد الله، توحيدا خالصا مطلقا ـ بيّن الله سبحانه ـ من هم أولى الناس بإبراهيم وبالانتساب إليه، وبوصل دينهم بدينه، وإن أولى الناس بتلك النسبة لهو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين آمنوا.. إذ كان دين محمد هو الإسلام لله، والإقرار بوحدانيته، وكذلك إيمان المؤمنين بمحمد.. فكل من كان على إيمان بالله كهذا الإيمان فهو أحقّ الناس بإبراهيم، وأقربهم نسبا إليه.

7. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ مع ما فيه من فضل سابغ على المؤمنين بولاية الله لهم، وضمّهم إلى جناب رحمته، فيه زجر لأهل الكتاب وتشنيع عليهم، وطرد لهم من ولاية الله لهم، ومن قبولهم في المقبولين من عباده المؤمنين: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/487.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. استئناف ابتدائي للانتقال من دعائهم لكلمة الحق الجامعة لحق الدين، إلى الإنكار عليهم محاجتهم الباطلة للمسلمين في دين إبراهيم، وزعم كلّ فريق منهم أنهم على دينه توصّلا إلى أنّ الذي خالف دينهم لا يكون على دين إبراهيم كما يدّعي النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فالمحاجة فرع عن المخالفة في الدعوى، وهذه المحاجة على طريق قياس المساواة في النفي، أو في محاجتهم النبي في دعواه أنه على دين إبراهيم، محاجة يقصدون منها إبطال مساواة دينه لدين إبراهيم، بطريقة قياس المساواة في النفي أيضا:

أ. فيجوز أن تكون هذه الجملة من مقول القول المأمور به الرسول في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا﴾ أي قل لهم: يا أهل الكتاب لم تحاجون.

ب. ويجوز أن يكون الاستئناف من كلام الله تعالى عقب أمره الرسول بأن يقول‏ ﴿تَعَالَوْا﴾ فيكون توجيه خطاب إلى أهل الكتاب مباشرة، ويكون جعل الجملة الأولى من مقول الرسول دون هذه لأنّ الأولى من شؤون الدعوة، وهذه من طرق المحاجّة، وإبطال قولهم، وذلك في الدرجة الثانية من الدعوة، والكل في النسبة إلى الله سواء.

2. مناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى هذا الكلام نشأت من قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64] لأنه قد شاع فيما نزل من القرآن في مكة، وبعدها أنّ الإسلام الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يرجع إلى الحنيفية دين إبراهيم كما تقدم تقريره في سورة البقرة وكما في سورة النحل: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ وسيجيء أنّ إبراهيم كان حنيفا مسلما، وقد اشتهر هذا وأعلن بين المشركين في مكة، وبين اليهود في المدينة، وبين النصارى في وفد نجران، وقد علم أنّ المشركين بمكة كانوا يدّعون أنهم ورثة شريعة إبراهيم وسدنة بيته، وكان أهل الكتاب قد ادّعوا أنهم على دين إبراهيم، ولم يتبين لي أكان ذلك منهم ادّعاء قديما أم كانوا قد تفطنوا إليه من دعوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فاستيقظوا لتقليده في ذلك، أم كانوا قالوا ذلك على وجه الإفحام للرسول حين حاجهم بأنّ دينه هو الحق، وأنّ الدين عند الله الإسلام فألجئوه إلى أحد أمرين:

أ. إما أن تكون الزيادة على دين إبراهيم غير مخرجة عن اتّباعه، فهو مشترك الإلزام في دين اليهودية والنصرانية.

ب. وإما أن تكون مخرجة عن دين إبراهيم فلا يكون الإسلام تابعا لدين إبراهيم.

3. أحسب أنّ ادّعاءهم أنهم على ملة إبراهيم إنما انتحلوه لبثّ كل من الفريقين الدعوة إلى دينه بين العرب، ولا سيما النصرانية، فإنّ دعاتها كانوا يحاولون انتشارها بين العرب‏ فلا يجدون شيئا يروج عندهم سوى أن يقولوا: إنها ملة إبراهيم، ومن أجل ذلك اتّبعت في بعض قبائل العرب، وهنالك أخبار في أسباب النزول تثير هذه الاحتمالات:

أ. فروى‏ أنّ وفد نجران قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين دعاهم إلى اتباع دينه: (على أي دين أنت ـ قال على ملة إبراهيم ـ قالوا: فقد زدت فيه ما لم يكن فيه)، فعلى هذه الرواية يكون المخاطب بأهل الكتاب هنا خصوص النصارى كالخطاب الذي قبله.

ب. وروى: أنه تنازعت اليهود ونصارى نجران بالمدينة، عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأدّعي كل فريق أنه على دين إبراهيم دون الآخر، فيكون الخطاب لأهل الكتاب كلهم، من يهود ونصارى.

ولعل اختلاف المخاطبين هو الداعي لتكرير الخطاب.

4. ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾

أ. يكون على حسب الرواية الأولى منعا لقولهم: فقد زدت فيه ما ليس منه، المقصود منه إبطال أن يكون الإسلام هو دين إبراهيم، وتفصيل هذا المنع: إنكم لا قبل لكم بمعرفة دين إبراهيم، فمن أين لكم أنّ الإسلام زاد فيما جاء به على دين إبراهيم، فإنكم لا مستند لكم في علمكم بأمور الدين إلّا التوراة والإنجيل، وهما قد نزلا من بعد إبراهيم، فمن أين يعلم ما كانت شريعة إبراهيم حتى يعلم المزيد عليها، وذكر التوراة على هذا لأنها أصل الإنجيل.

ب. ويكون على حسب الرواية الثانية نفيا لدعوى كلّ فريق منهما أنه على دين إبراهيم، بأنّ دين اليهود هو التوراة، ودين النصارى هو الإنجيل، وكلاهما نزل بعد إبراهيم، فكيف يكون شريعة له، قال الفخر: يعني ولم يصرّح في أحد هذين الكتابين بأنه مطابق لشريعة إبراهيم، فذكر التوراة والإنجيل على هذا نشر بعد اللف: لأنّ أهل الكتاب شمل الفريقين، فذكر التوراة لإبطال قول اليهود، وذكر الإنجيل لإبطال قول النصارى، وذكر التوراة والإنجيل هنا لقصد جمع الفريقين في التخطئة، وإن كان المقصود بادئ ذي بدء هم النصارى الذين مساق الكلام معهم.

5. الأظهر عندي في تأليف المحاجة ينتظم من مجموع قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ وقوله: ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ وقوله: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ فيبطل بذلك دعواهم أنهم على دين إبراهيم، ودعواهم أنّ الإسلام ليس على دين إبراهيم، ويثبت عليهم أنّ الإسلام على دين إبراهيم، وذلك أنّ قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ يدل على أنّ علمهم في الدين منحصر فيهما، وهما نزلا بعد إبراهيم فلا جائز أن يكونا عين صحف إبراهيم.

6. ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ يبطل قولهم: إنّ الإسلام زاد على دين إبراهيم، ولا يدل على أنهم على دين إبراهيم؛ لأنّ التوراة والإنجيل لم يرد فيهما التصريح بذلك، وهذا هو الفارق بين انتساب الإسلام إلى إبراهيم وانتساب اليهودية والنصرانية إليه، فلا يقولون وكيف يدّعى أنّ الإسلام دين إبراهيم مع أنّ القرآن أنزل من بعد إبراهيم كما أنزلت التوراة والإنجيل من بعده.

7. ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ يدل على أنّ الله أنبأ في القرآن بأنه أرسل محمدا بالإسلام دين إبراهيم وهو أعلم منكم بذلك، ولم يسبق أن امتنّ عليكم بمثل ذلك في التوراة والإنجيل فأنتم لا تعلمون ذلك، فلما جاء الإسلام وأنبأ بذلك أردتم أن تنتحلوا هذه المزية، واستيقظتم لذلك حسدا على هذه النعمة، فنهضت الحجة عليهم، ولم يبق لهم معذرة في أن يقولوا: إنّ مجيء التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم مشترك الإلزام لنا ولكم؛ فإنّ القرآن أنزل بعد إبراهيم، ولولا انتظام الدليل على الوجه الذي ذكرنا لكان مشترك الإلزام، والاستفهام في قوله: ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ﴾ مقصود منه التنبيه على الغلط.

8. أعرض في هذا الاحتجاج عليهم عن إبطال المنافاة بين الزيادة الواقعة في الدين الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على الدين الذي جاء به إبراهيم، وبين وصف الإسلام بأنّه ملّة إبراهيم: لأنّهم لم يكن لهم من صحة النظر ما يفرقون به بين زيادة الفروع، واتحاد الأصول، وأنّ مساواة الدينين منظور فيها إلى اتحاد أصولهما سنبينها عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لله﴾ [آل عمران: 20] وعند قوله: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ فاكتفي في المحاجّة بإبطال مستندهم في قولهم: (فقد زدت فيه ما ليس فيه) على طريقة المنع، ثم بقوله: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ [آل عمران: 67] على طريقة الدعوى بناء على أنّ انقطاع المعترض كاف في اتجاه دعوى المستدل.

9. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ﴾ تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ في سورة البقرة [85]، ووقعت ما الاستفهامية بعد لام التعليل فيكون المسئول عنه هو سبب المحاجة فما صدق (ما) علة من العلل مجهولة أي سبب للمحاجّة مجهول؛ لأنه ليس من شأنه أن يعلم لأنه لا وجود له، فلا يعلم، فالاستفهام عنه كناية عن عدمه، وهذا قريب من معنى الاستفهام الإنكاري، وليس عينيه، وحذفت ألف ما الاستفهامية على ما هو الاستعمال فيها إذا وقعت مجرورة بحرف نحو ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [النبأ: 1] وقول ابن معد يكرب: (علام تقول الرمح يثقل عاتقي)، والألفات التي تكتب في حروف الجر على صورة الياء، إذا جر بواحد من تلك الحروف (ما) هذه يكتبون الألفات على صورة الألف: لأنّ ما صارت على حرف واحد فأشبهت جزء الكلمة فصارت الألفات كالتي في أواسط الكلمات.

10. ﴿فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ معناه في شيء من أحواله، وظاهر أنّ المراد بذلك هنا دينه، فهذا من تعليق الحكم بالذات، والمراد حال من أحوال الذات يتعين من المقام كما تقدّم في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ في سورة البقرة [173]

11. (ها) من قوله: ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ تنبيه، وأصل الكلام أنتم حاججتم، وإنما يجيء مثل هذا التركيب في محل التعجب والنكير والتنبيه ونحو ذلك، ولذلك يؤكد غالبا باسم إشارة بعده فيقال ها أنا ذا، وها أنتم أولاء أو هؤلاء.

12. ﴿حَاجَجْتُمْ﴾ خبر ﴿أَنْتُمْ﴾، ولك أن تجعل جملة حاججتم حالا هي محل التعجيب باعتبار ما عطف عليها من قوله: ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ﴾: لأنّ الاستفهام فيه إنكاري، فمعناه: فلا تحاجون.

13. ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ تكميل للحجة أي إنّ القرآن الذي هو من عند الله أثبت أنه ملة إبراهيم، وأنتم لم تهتدوا لذلك لأنكم لا تعلمون، وهذا كقوله في سورة البقرة [140]: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ﴾

14. ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ نتيجة للاستدلال إذ قد تحصحص من الحجّة الماضية أنّ اليهودية والنصرانية غير الحنيفية، وأنّ موسى وعيسى، عليهما السلام، لم يخبرا بأنهما على الحنيفية، فأنتج أنّ إبراهيم لم يكن على حال اليهودية أو النصرانية؛ إذ لم يؤثر ذلك عن موسى ولا عيسى، عليهما السلام، فهذا سنده خلوّ كتبهم عن ادّعاء ذلك، وكيف تكون اليهودية أو النصرانية من الحنيفية مع خلوّها عن فريضة الحج، وقد جاء الإسلام بذكر فرضه لمن تمكن منه، ومما يؤيد هذا ما ذكره ابن عطية في تفسير قوله تعالى في هذه السورة: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 136] عن عكرمة قال: لما نزلت الآية قال أهل الملل: (قد أسلمنا قبلك، ونحن المسلمون) فقال الله له: فحجهم يا محمد وأنزل الله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97] الآية فحجّ المسلمون وقعد الكفار)، ثمّ تمم الله ذلك بقوله: وما كان من المشركين، فأبطلت دعاوى الفرق الثلاث.

15. الحنيف تقدم عند قوله تعالى: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ في سورة البقرة [135]، وقوله: ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أفاد الاستدراك بعد نفي الضدّ حصرا لحال إبراهيم فيما يوافق أصول الإسلام، ولذلك بيّن حنيفا بقوله: ﴿مُسْلِمًا﴾ لأنهم يعرفون معنى الحنيفية ولا يؤمنون بالإسلام، فأعلمهم أنّ الإسلام هو الحنيفية، وقال: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فنفى عن إبراهيم موافقة اليهودية.. وموافقة النصرانية، وموافقة المشركين، وإنه كان مسلما، فثبتت موافقته الإسلام، وقد تقدم ـ في سورة البقرة [135] في مواضع أنّ إبراهيم سأل أن يكون مسلما، وأنّ الله أمره أن يكون مسلما، وأنه كان حنيفا، وأنّ الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي كان جاء به إبراهيم‏ ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وكلّ ذلك لا يبقي شكا في أنّ الإسلام هو إسلام إبراهيم.

16. بينت آنفا عند قوله تعالى: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لله﴾ [آل عمران: 20] الأصول الداخلة تحت معنى‏ ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لله﴾ فلنفرضها في معنى قول إبراهيم: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام: 79] فقد جاء إبراهيم بالتوحيد، وأعلنه إعلانا لم يترك للشرك مسلكا إلى نفوس الغافلين:

أ. وأقام هيكلا وهو الكعبة، أول بيت وضع للناس، ـ وفرض حجّه على الناس: ارتباطا بمغزاه.

ب. وأعلن تمام العبودية لله‏ تعالى بقوله: ﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ [الأنعام: 80]

ج. وأخلص القول والعمل لله تعالى فقال: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾ [الأنعام: 81]

د. وتطلّب الهدى بقوله: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ [البقرة: 128] ـ ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: 128]

هـ. وكسر الأصنام بيده‏ ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا﴾ [الأنبياء: 58]

و. وأظهر الانقطاع لله بقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ [الشعراء: 78 ـ 81]

ز. وتصدّى للاحتجاج على الوحدانية وصفات الله‏ ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 258] ـ ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: 83] ـ ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾ [الأنعام: 80]

17. عطف قوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ لييأس مشركو العرب من أن يكونوا على ملّة إبراهيم، وحتى لا يتوهم متوهم أنّ القصر المستفاد من قوله: {ولكن حنيفا مسلما} قصر إضافي بالنسبة لليهودية والنصرانية، حيث كان العرب يزعمون أنهم على ملّة إبراهيم لكنهم مشركون.

18. ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ استئناف ناشئ عن نفي اليهودية والنصرانية عن إبراهيم، فليس اليهود ولا النصارى ولا المشركون بأولى الناس به، وهذا يدل على أنهم كانوا يقولون: نحن أولى بدينكم.

﴿أَوْلَى﴾ اسم تفضيل أي أشد وليا أي قربا مشتق من ولي إذا صار وليّا، وعدّي بالباء لتضمّنه معنى الاتصال أي أخصّ الناس بإبراهيم وأقربهم منه، ومن المفسّرين من جعل أولى هنا بمعنى أجدر فيضطرّ إلى تقدير مضاف قبل قوله: ﴿بِإِبْرَاهِيمَ﴾ أي بدين إبراهيم.

19. الذين اتبعوا إبراهيم هم الذين اتبعوه في حياته: مثل لوط وإسماعيل وإسحاق، ولا اعتداد بمحاولة الذين حاولوا اتباع الحنيفية ولم يهتدوا إليها، مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وأمية ابن أبي الصّلت، وأبيه أبي الصّلت، وأبي قيس صرمة بن أبي أنس من بني النجّار، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كاد أمية بن أبي الصّلت، أن يسلم)، وهو لم يدرك الإسلام فالمعنى كاد أن يكون حنيفا، وفي (صحيح البخاري): أنّ زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل‏ عن الدين فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينه فقال له: إنّي أريد أن أكون على دينك، فقال اليهوديّ: إنّك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، قال زيد: أفرّ إلّا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال لا أعلمه إلّا أن تكون حنيفا، قال وما الحنيف؟ قال دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وكان لا يعبد إلّا الله، فخرج من عنده فلقي عالما من النصارى فقاوله مثل مقاولة اليهودي، غير أنّ النصراني قال أن تأخذ بنصيبك من لعنة الله، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم، فلم يزل رافعا يديه إلى السماء وقال: اللهم أشهد أنّي على دين إبراهيم وهذا أمنية منه لا تصادف الواقع، وفي (صحيح البخاري)، عن أسماء بنت أبي بكر: قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قبل الإسلام مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول: (يا معشر قريش ليس منكم على دين إبراهيم غيري) وفيه أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الوحي فقدّمت إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سفرة فأبى زيد بن عمرو أن يأكل منها وقال: (إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلّا ما ذكر اسم الله عليه)(2) وهذا توهّم منه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يفعل كما تفعل قريش، وإنّ زيدا كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء أنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله.

20. اسم الإشارة في قوله: ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ مستعمل مجازا في المشتهر بوصف بين المخاطبين كقوله‏ في الحديث: (فجعل الفراش وهذه الدّوابّ تقع في النار)، فالإشارة استعملت في استحضار الدوابّ المعروفة بالتساقط على النار عند وقودها، والنبي ليس بمشاهد للمخاطبين بالآية، حينئذ، ولا قصدت الإشارة إلى ذاته، ويجوز أن تكون الإشارة مستعملة في حضور التكلم باعتبار كون النبي هو الناطق بهذا الكلام، فهو كقول الشاعر: (نجوت وهذا تحملين طليق) أي والمتكلّم الذي تحملينه، والاسم الواقع بعد اسم الإشارة، بدلا منه، هو الذي يعين جهة الإشارة ما هي، وعطف النبي على الذين اتبعوا إبراهيم للاهتمام به وفيه إيماء إلى أنّ متابعته إبراهيم عليه السلام ليست متابعة عامة فكون الإسلام من الحنيفية أنّه موافق لها في أصولها.

21. المراد بالذين آمنوا المسلمون، فالمقصود معناه اللقبي، فإنّ وصف الذين آمنوا صار لقبا لأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولذلك كثر خطابهم في القرآن بيا أيها الذين آمنوا، ووجه كون هذا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين آمنوا أولى الناس بإبراهيم، مثل الذين اتبعوه أنّهم قد تخلقوا بأصول شرعه، وعرفوا قدره، وكانوا له لسان صدق دائبا بذكره، فهؤلاء أحقّ به ممّن انتسبوا إليه لكنهم نقضوا أصول شرعه وهم المشركون، ومن الذين انتسبوا إليه وأنسوا ذكر شرعه، وهم اليهود والنصارى، ومن هذا المعنى‏ قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم‏، لما سأل عن صوم اليهود، يوم عاشوراء فقالوا: هو يوم نجّى الله فيه موسى فقال: (نحن أحقّ بموسى منهم) وصامه وأمر المسلمين بصومه.

22. ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ تذييل أي هؤلاء هم أولى الناس بإبراهيم، والله ولي إبراهيم، والذين اتبعوه، وهذا النبي، والذين آمنوا؛ لأنّ التذييل يشمل المذيّل قطعا، ثم يشمل غيره تكميلا كالعام على سبب خاص، وفي قوله: ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بعد قوله: ﴿كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا﴾ [آل عمران: 67] تعريض بأنّ الذين لم يكن إبراهيم منهم ليسوا بمؤمنين.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/118.

(2) هذا الحديث فيه إساءة بالغة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد كان النصارى يحاجون بولادة عيسى، ويتخذون منها دليل ألوهيته، واليهود يتحاجون ويجادلون بما عندهم من توراة، أو بالأحرى بما بقى عندهم منها؛ ولما كان كل من الفريقين يدعى أن إبراهيم أبا الأنبياء كان على مثل دينهم، وذلك ليبينوا أن ديانتهم هي ديانة السابقين، كما هي ديانة المتأخرين؛ بين الله سبحانه أن مثل هذا الاحتجاج منهم باطل في معناه، كما هو باطل في شكله ومبناه؛ فقال سبحانه: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي أنه لا يسوغ لكم المحاجة في شأن إبراهيم من حيث إنه كان يهوديا أو كان نصرانيا ومن حيث إنكم أتبع الناس له أو أبعد الناس عنه، ومن حيث ما جاء به وحقيقة دعوته؛ فإن التوراة والإنجيل ما جاءا إلا من بعده، فكيف يكون يهوديا يدين بالتوراة قبل أن تجيء التوراة، وكيف يكون نصرانيا يدين بالإنجيل قبل أن ينزل الإنجيل؟ إن هذه محاجة واضحة البطلان.

2. المحاجة معناها مبادلة الحجة، فما هذه المحاجة؟ أكانت مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أم كانت فيما بينهم؟ ظواهر النصوص تفيد بمقتضى السياق أنها كانت مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهم يقيمون الحجة على سلامة دينهم بأنه دين إبراهيم الذي كان موضع إجلال الجميع، والذى بنى البيت الحرام الذي هو أول بيت وضع للناس، والذى كان موضع تقديس العرب أجمعين، ولكن مع هذا الظاهر روى ابن اسحاق عن ابن عباس أنه قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ الآية.

3. سواء أكانت المحاجة مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أم كانت فيما بينهم فإنها غير معقولة في ذاتها؛ ولذا وبخهم سبحانه وتعالى عليها بقوله تعالت كلماته: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ هذا النص الكريم هو نتيجة لهذا الحكم الذي يتحاجون فيه، وهو كون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا؛ إذ أن ذلك هو حكم من لا يعقل؛ ولذلك كانت الفاء التي تفيد السببية، وهو كون ما قبلها سببا لما بعدها، فتلك الحال التي هم عليها من الغرابة هي السبب في ذلك السؤال عن أصل عقلهم، وإدراكهم لمعناها.

4. الاستفهام إنكاري؛ فهو نفى لكونهم يعقلون في هذه الأمور التي يتجادلون حولها، وذلك يؤدى إلى السؤال عن أصل وجود العقل عندهم، وإن هذا النفي هو في ذاته توبيخ، وتنبيه إلى ما أدى إليه التعصب الأعمى الذي جعلهم لا يدركون الأمور على وجهها، وينسيهم البدهيات التي لا تختلف فيها المدارك والعقول، حتى يكون أصل العقل عندهم موضع إنكار.

5. زكّى سبحانه وتعالى ذلك التوبيخ، وهذا النفي ببيان مظهر آخر من مظاهر مخالفتهم لما يقتضيه العقل في أمر آخر، يتصل بهذه المسألة، وهو أنهم يجادلون ويتقدمون بالحجج في أمر ليس عندهم أصل العلم به؛ ولذا قال تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾، أي أنتم معشر أهل الكتاب حاججتم وبادلتم الحجة، سواء أكانت داحضة أم دامغة في أمر عندكم أسباب العلم به، سواء أكنتم تجادلون بمقتضى هذا العلم أم‏ تخالفون مقتضاه، وتلوون منطقه، وتبعدون به عن الحجج، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟

6. وبيان ذلك أن اليهود والنصارى عندما كانوا يتجادلون مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفيما بينهم كانوا يتجادلون في أمر أسباب العلم به قائمة حاضرة مهيأة وإن كانوا ينحرفون بها عن غاياتها، ويلوونها عن مقاصدها ومراميها تبعا لأهوائهم وشهواتهم، فكانت محاجة في أمر لهم به علم، وإن لم يسيروا على مقتضى أحكام العلم، أما جدلهم في كون إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، أو في كون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم المبعوث في المستقبل يكون عربيا أو عبريا فجدل ومحاجة في أمر لا علم لهم به، وإن العاقل ينأى به عقله عن أن يجادل في أمر ليس عنده شيء من أسباب العلم به، ولكن هكذا يتردى أهل العقول عندما تنحرف نفوسهم إلى التعصب، فيتحكم الهوى في العقل.

7. مباحث لفظية:

أ. أولها: أن الهاء المكررة في قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ هي هاء التنبيه، وتكرارها في موضع واحد للدلالة على غرابة ما هم عليه ومجافاته لكل تفكير ولكل عقل، وكيف دلاهم التعصب في هذا الانحراف الفكري.

ب. ثانيها: أن (هؤلاء) إشارة إلى النصارى واليهود الذين قالوا في إبراهيم ما قالوا، وقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعده، فهي تتضمن الأحوال الغريبة التي كانت منهم، وأنها أدت إلى شذوذ عقلي آخر.

ج. ثالثها: أن الزمخشري ذكر أن بعض العلماء قال هنا إن (هؤلاء) بمعنى (الذين) وإن هذا يفيد أن الذي أدى إلى ترديهم العقلي هو أنهم يتكلمون فيما يعلمون وفيما لا يعلمون.

8. ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ختم الله سبحانه وتعالى ببيان علمه تعالى المؤكد، فقرر العلم المطلق له سبحانه، ونفى عنهم العلم في هذا المقام، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم حال إبراهيم عليه السلام، ويعلم الحق فيما يتحاجون به بعلم وبغير علم، ويعلم من الذي يكون أهلا لرسالته أيكون من‏ العرب أم يكون من العجم؟ ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام‏] وهو الذي يعلم بخفايا نفوسهم، والحقد الدفين فيها، والحسد للناس على ما آتاهم الله من فضله، وقد قرر سبحانه أنهم لا يعلمون، فقال: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ فهم لا يعلمون حال إبراهيم عليه السلام ولا من هو أهل للرسالة؛ وليس من شأنهم أن يعلموا؛ لأن أحقادهم تحول بينهم وبين أن يدركوا الذي عليه من يخالفونهم، فإنه لا شيء كالحقد والحسد يحول بين المرء والإدراك السليم والعلم الصحيح.

9. اللهم وفقنا للحق، وهيئ لنا أسباب العلم به، والإذعان له؛ فإن الهداية منك وإليك، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له.

10. ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة ما يشير إلى أن كلتا الطائفتين من اليهود والنصارى كانت تدّعى أن دينها هو دين الله الخالص، وأنه دين النبيين جميعا، وأنه دين أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وأنهم ما غيروا وما بدّلوا؛ وكذلك كان يدّعى المشركون؛ لأنهم من سلالة إبراهيم عليه السلام، وحسبوا هذا يسوغ لهم ذلك الادعاء؛ وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام بريء من هذه النّحل؛ لأنه نبيّ الوحدانية، هادم الأوثان، وحاطمها، والذى تعرض للأذى بالنار لجرأته الكبرى عليها وعلى عبّادها، وما نجاه إلا الله، كما قال تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء]

11. قال سبحانه في تقرير هذه البراءة من اليهودية والنصرانية والشرك: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ وفي هذا النص القرآني الكريم نفى لوصف اليهودية والنصرانية عن خليل الله تعالى، ومرمى النص هو براءته منهم، وفي نفى الوصف على ذلك النحو توكيد لهذه البراءة، وتثبيت لهذه النزاهة؛ إذ إن المؤدى أنه لو كانت اليهودية أو النصرانية على ما هما عليه تنتمى إلى إبراهيم عليه السلام لكان متصفا بهما، وهو قد نزهه ربه عن أن يتصف بما عليه اليهود من ضلال؛ فنفى وصف اليهودية عنه عليه السلام تضمن براءته منهم، وفيه التعريض بما فيهما من ضلال لا يليق أن يلصق بنبي من أنبياء الله، والتنويه بشأن إبراهيم من أن يكون في مثل حمأة اليهود والنصارى الذين عاصروا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

12. ذكر سبحانه على سبيل الاستدراك وصفه الحقيقي ودينه الحق فقال تعالى: ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، فقد ذكر سبحانه في وصفه الحقيقي ثلاثة أوصاف تتنافى كلها تمام التنافى مع ما عند اليهود والنصارى، وهذه الأوصاف هي أنه: حنيف، ومسلم، وما كان من المشركين.

أ. الوصف الأول وهو حنيف معناه: الميل إلى الحق وطلبه، والاتجاه إليه، وتحريه والاستقامة في الوصول إليه؛ ولقد قال الأصفهاني في مفرداته: (الحنف ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والجنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال، والحنيف هو المائل إلى ذلك، قال عزّ وجل: ﴿قَانِتًا لله حَنِيفًا﴾ [النحل‏] وقال: ﴿حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ وجمعه حنفاء؛ قال عزّ وجل: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لله﴾ [الحج‏]، وتحنف فلان أي تحرى طريق الاستقامة)، ووصفه عليه السلام بأنه حنيف يطلب الحق مستقيما في طلبه فيه بيان منافاة أخلاق اليهود والنصارى لأخلاقه وهديه، فهم لا يطلبون الحق لذات الحق، ولكن يطلبون هوى أنفسهم، فإن يكن الحق لهم يأتوا إليه مذعنين، وإن يكن الحق عليهم أعرضوا عنه وذلك لمرض قلوبهم.

ب. والوصف الثاني من أوصاف إبراهيم خليل الله أنه مسلم، والإسلام هو الإخلاص لذات الله، والمحبة والانصراف إليه سبحانه وتعالى، حتى لا يعمر القلب بغير نوره، وهذا أيضا وصف مناف لما كان عليه اليهود والنّصارى، فإلههم هواهم، ومحبتهم لأنفسهم لا لله، وإنما هي أعراض الدنيا أركست نفوسهم، وأغلقت دون نور الله قلوبهم.

ج. والوصف الثالث: وصف سلبى، وهو أنه كان غير مشرك، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن خليله وصف الشرك بهذه الصيغة الجامعة فقال: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ولم يقل (وما كان مشركا) لأنها تتضمن نفى الإشراك كله وشوائبه عن إبراهيم عليه السلام؛ فإن المشركين أصناف وألوان؛ فمنهم من يعبد الأوثان، ومنهم من يجعل لله ابنا يعبد، ومنهم من يجعل الله ثالث ثلاثة، ومنهم من يتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ومنهم من يتخذون وساطة بين العبد والرب، وهكذا، فما كان إبراهيم من أي صنف من هذه الأصناف.

13. في ذكر هذه الصيغة السامية في نفى الشرك عن إبراهيم تعريض بين حالهم وما هم عليه من الشرك الظاهر، فكيف يدعون الانتساب لإبراهيم عليه السلام، وهم على ما هم من الشرك، إنما الذين يعدون أولى الناس هم من قال الله فيهم: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي إن أشد الناس ولاية بإبراهيم وأجدرهم بالاتصال به، للّذين اتبعوه، وهذا النبيّ والذين آمنوا بهذا النبيّ فهم أصناف ثلاثة قد أكد سبحانه اتصالهم بإبراهيم بثلاثة تأكيدات؛ أولها: (إن)، ثانيها: أفعل التفضيل، ثالثها: اللام في قوله تعالى: ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾

14. ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ موصول عام يشمل الذين اتبعوا هدايته في حياته، وأجابوا دعوته، ولم يخالفوه، والذين اتبعوه من بعد وفاته، وإنهم لكثيرون، وكان يمكن أن يكون من هؤلاء اليهود والنصارى، لو اتبعوا هداه فطلبوا الحق وأخلصوا لله في طلبه، وتجنبوا الشرك بكل ضروبه وبكل أشكاله، وفي هذا توبيخ لهم على أنهم لم يتبعوه، وادعوا الانتماء إليه، وقد ذكر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنص عليه بالذات على أنه أولى الناس بإبراهيم عليه السلام، ولم يذكره في ضمن الذين اتبعوه؛ لأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تلقى الهداية من السماء كما تلقاها إبراهيم، ولأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتم النبيين، ولأنه آخر دعامة في بناء صرح الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض، وفي ذكر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تمهيد لبيان أولوية الذين آمنوا به صلّى الله عليه وآله وسلّم وبسيدنا إبراهيم من اليهود والنصارى؛ لأنهم حنفاء طلبوا الحق وتحرّوه وآمنوا به واهتدوا، وأخلصوا دينهم لله تعالى، وصار الله ورسوله أحب إليهم من أنفسهم، والذين آمنوا في الآية هم من آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لكل نبيّ ولاة من النبيين، وإن وليى منهم أبى وخليل ربى إبراهيم)، وولاية إبراهيم للنبي ومن اتبعهما بإحسان إلى يوم الدين أساسها الإخلاص لله تعالى وتوحيده، فهي من ولاية الله؛ ولذا قال سبحانه:

15. ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى جل جلاله، وعظمت قدرته، وتعالت حكمته، وتسامت عظمته، هو ولى المؤمنين وناصرهم، وهم أهل محبته ورضوانه؛ وذلك لأنهم لا يطلبون إلا رضاه، ولا يبتغون إلا محبته ورضوانه؛ فهم بإخلاصهم قد نالوا ولاء الله ومحبته؛ والله سبحانه وتعالى لا يوالى إلا من يؤمن للحق ويذعن له، ولا يطلب سواه، وفي هذه الجملة السامية إشارة إلى عدة معان عالية:

أ. أولها: أن اتصال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين اتبعوه، والذين اتبعوا إبراهيم بخليل الله؛ لأنهم اتصلوا بالله تعالى، والمؤمنون بعضهم لبعض ولى ونصير؛ لأنهم جميعا أولياء الله، فالمؤمنون برسالة إبراهيم والمؤمنون برسالة محمد كلهم أولياء، لأنهم جميعا أولياء الله تعالى، وفي ذلك يبين سبحانه لليهود وغيرهم الطريق الحق الذي يجعلهم أولى بإبراهيم كالنبي ومن اتبعه.

ب. ثانيها: الإشارة إلى أن ولاية الله هي الغاية الكبرى التي يجب أن يطلبها كل مؤمن، وطريقها الإحسان في كل شيء، وأساس الإحسان الإخلاص؛ ولذا يقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)

ج. ثالثها: الإشارة إلى منزلة أهل الإيمان عند الله والوعد بنصرتهم مهما يتكاثف عددهم: ﴿إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج‏]

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1262.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، جادل القرآن أهل الكتاب بالعقل والمنطق، ثم دعاهم إلى المباهلة، ثم إلى كلمة سواء، وهي الإيمان بالله وحده، ثم استأنف القرآن جدال أهل الكتاب من جديد، وعاد إلى ما كان عليه أولا، كعادته من التعرض للشيء، ثم الانتقال إلى غيره، ثم الرجوع اليه.. عاد إلى أهل الكتاب، وذكر بعض أقوالهم وأبطلها، ذكر قول اليهود: ان ابراهيم كان يهوديا، وقول النصارى انه كان نصرانيا، ورد هذا الزعم بالبديهة، لأن اليهودية حدثت بعد موسى، وبينه وبين ابراهيم ألف سنة، والنصرانية حدثت بعد عيسى، وبينه وبين ابراهيم ألفا سنة، كما جاء في تفسير روح البيان، فكيف يكون السابق على دين اللاحق‏ ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾

2. يذكرنا قول النصارى واليهود بنادرة يتناقلها اللبنانيون، ويتندرون بها، وهي أن رجلين تصاحبا صدفة في سفر، ولما أخذا بالحديث سأل أحدهما صاحبه: هل حججت في مكة المكرمة؟ فقال له: أجل أديت ما عليّ، والحمد لله، فقال له صاحبه: هل رأيت زمزم هناك؟ قال نعم، انها بنت كويّسة، قال له: ويلك، انها بئر ماء، وليست بنتا.. قال: اذن حفروها بعد ما أديت الفريضة.. وحكاية المذاهب والفرق التي حدثت بعد الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم تشبه حجة هذا الرجل إلى حد بعيد.. وكل من أخذ دينه عن انسان فهو من هذا النوع إلا إذا ثبت النص عليه من الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم كثبوت حديث الثقلين الذي أوجب الأخذ والتعبد بكتاب الله وأهل بيت رسول الله، وساوى بينهما.

3. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، قد يتخصص الإنسان بعلم من العلوم، أو بموضوع من الموضوعات، وعليه فله أن يجادل فيه ويناقش، وليس من الضروري أن يكون مصيبا في جميع أقواله وجداله، وإنما المهم أن يكون من أهل المعرفة به، ولو في الجملة.. اما أن يجادل ويناقش في أمر لا يعرف عنه شيئا، ويبعد عنه كل البعد، أما مثل هذا الجدال والنقاش فهو جهل وحماقة، وأهل الكتاب لهم علم بدينهم الذي اعتقدوا بصحته، فيكون لجدالهم فيه وجه، ولو بحسب الظاهر، أما جدالهم في دين ابراهيم فلا وجه له واقعا، ولا ظاهرا، لأنهم لا يعرفون عنه شيئا.

4. ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ لم يكن يهوديا، لأن بينه وبين موسى ألف سنة، ولم يلتق في عقيدته وواقعه بالديانة اليهودية، لأنها محرفة عما جاء به موسى عليه السلام، ولم يكن ابراهيم نصرانيا، لأن بينه وبين عيسى ألفي سنة، ولم يلتق بالديانة المسيحية، لأنها محرفة عما جاء به عيسى عليه السلام.. وإذا لم يكن ابراهيم مسلما بالمعنى المعروف فإنه في واقعه وإيمانه يلتقي مع الإسلام، لأنه يؤمن بالله المنزه عن الشريك والشبيه، وهذا الايمان هو الأصل الأساسي لدين الإسلام، وبهذا يتبين لنا الجواب عن سؤال من يسأل: ان القرآن أنزل بعد ابراهيم فكيف يكون مسلما؟ وسبق البحث مفصلا في أن جميع الأنبياء كانوا مسلمين عند تفسير الآية 19 من هذه السورة.

5. الحنيف هو المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، أما قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فان فيه تعريضا بالنصارى القائلين: المسيح ابن الله، وباليهود القائلين: عزير ابن الله، وبالعرب الذين كانوا يعبدون الأصنام.. وكان ابراهيم موضع إجلال هذه الفرق الثلاث.

6. ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾، أي ان أحق الناس بالانتساب إلى دين ابراهيم الذي يجله الجميع هم الذين استجابوا لدعوته من أمته، أو يلتقون معه ويلتقي معهم في العقيدة والإيمان، كمحمد ومن معه، قال الإمام علي عليه السلام: ان أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به، ثم تلا الآية، وقال: ان ولي محمد من أطاع الله، وان بعدت لحمته، وان عدو محمد من عصى الله وان قربت قرابته، ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ به، وحده لا شريك له، ولا يلجئون إلى غيره في كشف الضر، وطلب النفع.. ولا شيء أدل على عظمة الإمام وإخلاصه لله وللحق وتجرده عن الغايات والأهداف الدنيوية من قوله هذا، وعدم تشبثه بالقرابة، مع العلم بأنه أقرب الناس لحمة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما ذاك الا لأنه يستمد عظمته من نفسه وأعماله لا من الأرومات والقرابات، ولا من التمويه والتغطيات.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/82.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ إلى آخر الآية، الظاهر أنه مقول القول الواقع في الآية السابقة، وكذا ما يأتي بعد أربع آيات فيكون مقولا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن كان ظاهر سياق قوله: بعد آيتين: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية، أن يكون الخطاب من الله لا من رسوله بإذنه.

2. محاجتهم في إبراهيم عليه السلام بضم كل طائفة إياه إلى نفسها يشبه أن تكون أولا بالمحاجة لإظهار المحقية كأن تقول اليهود: إن إبراهيم عليه السلام الذي أثنى الله عليه في كتابه منا فتقول النصارى: إن إبراهيم كان على الحق، وقد ظهر الحق بظهور عيسى معه، ثم تتبدل إلى اللجاج والعصبية فتدعي اليهود أنه كان يهوديا، وتدعي النصارى أنه كان نصرانيا، ومن المعلوم أن اليهودية والنصرانية إنما نشأتا جميعا بعد نزول التوراة والإنجيل وقد نزلا جميعا بعد إبراهيم عليه السلام فكيف يمكن أن يكون عليه السلام يهوديا بمعنى المنتحل بالدين الذي يختص بموسى عليه السلام، ولا نصرانيا بمعنى المتعبد بشريعة عيسى عليه السلام، فلو قيل في إبراهيم شيء لوجب أن يقال إنه كان على الحق حنيفا من الباطل إلى الحق مسلما لله سبحانه وهذه الآيات في مساق قوله تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ﴾

3. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ الآية، الآية تثبت لهم علما في المحاجة التي وقعت بينهم وتنفي علما وتثبته لله تعالى، ولذلك ذكر المفسرون أن المعنى: أنكم حاججتم:

أ. في إبراهيم عليه السلام ولكم به علم ما، كالعلم بوجوده ونبوته، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كونه يهوديا أو نصرانيا والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

ب. أو أن المراد بالعلم علم ما بعيسى وخبره، والمعنى أنكم تحاجون في عيسى ولكم بخبره علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا، هذا ما ذكروه.

4. وأنت تعلم أن شيئا من الوجهين لا ينطبق على ظاهر سياق الآية:

أ. أما الأول فلأنه لم تقع لهم محاجة في وجود إبراهيم ونبوته.

ب. وأما الثاني فلأن المحاجة التي وقعت منهم في عيسى لم يكونوا فيها على الصواب بل كانوا مخطئين في خبره كاذبين في‏ دعواهم فيه فكيف يمكن أن يسمى محاجة فيما لهم به علم.

5. كلامه تعالى على أي حال يثبت منهم محاجة فيما لهم به علم كما يثبت لهم محاجة فيما ليس لهم به علم، فما هذه المحاجة التي هي فيما لهم به علم؟ على أن ظاهر الآية أن هاتين إنما جرتا جميعا فيما بين أهل الكتاب أنفسهم لا بينهم وبين المسلمين وإلا كان المسلمون على الباطل في الحجاج الذي أهل الكتاب فيه على علم، وهو ظاهر.

6. الذي ينبغي أن يقال ـ والله العالم ـ أن من المعلوم أن المحاجة كانت جارية بين اليهود والنصارى في جميع موارد الاختلاف التي كانت بينهم، وعمدة ذلك نبوة عيسى عليه السلام وما كانت تقوله النصارى في حقه (أنه الله، أو ابنه أو التثليث) فكانت النصارى تحاج اليهود في بعثته ونبوته وهم على علم منه، وكانت اليهود تحاج النصارى، وتبطل ألوهيته ونبوته والتثليث وهم على علم منه فهذه محاجتهم فيما لهم به علم، وأما محاجتهم فيما ليس لهم به علم فمحاجتهم في أمر إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا.

7. ليس المراد بجهلهم به جهلهم بنزول التوراة والإنجيل بعده وهو ظاهر، ولا ذهولهم عن أن السابق لا يكون تابعا للاحق فإنه خلاف ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ فإنه يدل على أن الأمر يكفي فيه أدنى تنبيه، فهم عالمون بأنه كان سابقا على التوراة والإنجيل لكنهم ذاهلون على مقتضى علمهم وهو أنه لا يكون حينئذ يهوديا ولا نصرانيا بل على دين الله الذي هو الإسلام لله، لكن اليهود مع ذلك قالوا: إن الدين الحق لا يكون إلا واحدا وهو اليهودية فلا محالة كان إبراهيم يهوديا، وقالت النصارى مثل ذلك فنصرت إبراهيم، وقد جهلوا في ذلك أمرا وليس بذهول، وهو أن دين الله واحد، وهو الإسلام لله، وهو واحد مستكمل بحسب مرور الزمان واستعداد الناس من حيث تدرجهم بالكمال، واليهودية والنصرانية شعبتان من شعب كمال الإسلام الذي هو أصل الدين، والأنبياء عليه السلام بمنزلة بناة هذا البنيان، لكل منهم موقعه فيما وضعه من الأساس ومما بنى عليه من هذا البنيان الرفيع.

8. بالجملة فاليهود والنصارى جهلوا أنه لا يلزم من كون إبراهيم مؤسسا للإسلام وهو الدين الأصيل الحق ثم ظهور دين حق باسم اليهودية أو النصرانية، وهو اسم شعبة من شعب كماله ومراتب تمامه أن يكون إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا بل يكون مسلما حنيفا متلبسا باسم الإسلام الذي أسسه وهو أصل اليهودية والنصرانية دون نفسهما، والأصل لا ينسب إلى فرعه بل ينبغي أن يعطف الفرع عليه.

9. تسمية إبراهيم مسلما لا يهوديا ولا نصرانيا غير عده تابعا لدين النبي وشريعة القرآن ليرد الإشكال بأنه كما كان متقدما على نزول التوراة والإنجيل فلا ينبغي أن يعد يهوديا أو نصرانيا كذلك كان متقدما على نزول القرآن وظهور الإسلام فلا ينبغي أن يعد مسلما (حذو النعل بالنعل)، وذلك أن الإسلام بمعنى شريعة القرآن من الاصطلاحات الحادثة بعد نزول القرآن وانتشار صيت الدين المحمدي، والإسلام الذي وصف به إبراهيم هو أصل التسليم لله سبحانه والخضوع لمقام ربوبيته فالإشكال غير متوجه من أصله.

10. لعل هذا الذي ذكرناه من وجه جهلهم بمعنى الدين الأصيل، وكونه حقيقة ذات مراتب مختلفة ومتدرجة في الاستكمال هو المراد بقوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا﴾ الآية ويؤيده قوله: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ الآية، وقوله تعالى في ذيل الآيات: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ الآية، على ما سيجيء من البيان.

11. قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ إلى آخر الآية، قد مر تفسيره فيما مر، وقد قيل: إن اليهود والنصارى كما كانوا يدعون أن إبراهيم عليه السلام منهم وعلى دينهم كذلك عرب الجاهلية من الوثنية كانت تدعي أنهم على الدين الحنيف دين إبراهيم عليه السلام حتى كان أهل الكتاب يسمونهم الحنفاء، ويدعون بالحنيفية الوثنية.

12. لما وصف الله سبحانه إبراهيم عليه السلام بقوله: ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا﴾، وجب بيانه حتى لا يتوهم منه الوثنية فلذلك أردفه بقوله: ﴿مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، أي كان على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الإسلام وما كان من المشركين كعرب الجاهلية.

13. ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية في موضع التعليل للكلام السابق وبيان للحق في المقام والمعنى ـ والله العالم ـ أن هذا النبي المعظم إبراهيم لو أخذت النسبة بينه وبين من بعده من المنتحلين وغيرهم لكان الحق أن لا يعد تابعا لمن بعده بل يعتبر الأولوية به والأقربية منه، والأقرب من النبي الذي له شرع وكتاب هم الذين يشاركونه في اتباع الحق، والتلبس بالدين الذي جاء به، والأولى بهذا المعنى بإبراهيم عليه السلام هذا النبي والذين آمنوا لأنهم على الإسلام الذي اصطفى الله به إبراهيم وكذا كل من اتبعه دون من يكفر بآيات الله ويلبس الحق بالباطل.

14. في قوله تعالى: ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ تعريض لأهل الكتاب من اليهود والنصارى بنحو الكناية أي لستم أولى بإبراهيم لعدم اتباعكم إياه في إسلامه لله.

15. وفي قوله: ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ إفراد للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن اتبعه من المؤمنين من الذين اتبعوا إبراهيم إجلالا للنبي وصونا لمقامه أن يطلق عليه الاتباع كما يستشعر ذلك ـ مثل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ حيث لم يقل: فبهم اقتده.

16. وقد تمم التعليل والبيان بقوله: ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فإن ولاية إبراهيم (ولي الله) من ولاية الله، والله ولي المؤمنين دون غيرهم الكافرين بآياته اللابسين الحق بالباطل.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/252.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِمَ تُحَاجُّونَ﴾ لأي غرض، ولعل الغرض فاسد يعاب عليهم وهو الجدال في الحق، وذلك أنه قد قام الدليل الواضح على أن القرآن من الله مصدق لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فما بقي لمن أنصف إلا أن يؤمن، فتوجيه الأنظار إلى إبراهيم عليه السلام، وإثارة الجدال في دينه ما هو؟ حتى يستحيل الموضوع إلى مسألة تاريخية يقول فيها كل فريق ما أراد، وحتى يتمكن المبطل المخالف لحجة الرسول الواضحة أن يدعي أنه على حق بدعوى أنه على دين إبراهيم ويعارض بذلك الحق الواضح مغالطة وجدال بالباطل، مع أن هذا الجدال لا أصل له يعتمد عليه؛ لأن دعوى كل فريق أن إبراهيم عليه السلام منهم أي كان يهودياً أو نصرانياً دعوى واضحة البطلان؛ لأن اليهودية والنصرانية إنما كانت بعد بعثة موسى وعيسى عليهما السلام وإنزال التوراة والإنجيل، ولذلك استحق المجادلون فيه أن يوبخوا بقوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ لأنهم لم يستعملوا عقولهم كما هو شأن من لا يهمه إلا التخريب.

2. ﴿حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي موضوعه أو حكمه في التوراة أو الإنجيل، وقد نسخه الإسلام مثلاً كما لو جادلوا في السبت، فهذا جدال ينبني على أساس وإن كان باطلاً من حيث أن الله يحكم ما يريد، فهو يحدث من أمره ما يشاء، وينسخ ما يشاء بحكمته، أما جدالهم في إبراهيم فلا أساس له؛ إذ ليس في التوراة ولا الإنجيل أنه كان يهودياً أو نصرانياً فالجدال ذلك مجرد مشاغبة ومعارضة لا سماع لها، وخصوصاً وهي معارضة لما أخبر الله به وهو يعلم ما لا يعلمون، ولا علم لهم بما قالوا كما أن كثيراً من الأمور يجهلونه ولا يعلمونه.

3. ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا﴾ إبطال لقول اليهود ﴿وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ إبطال لقول النصارى ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ إبطال لدعوى بعض المشركين من الأميين أنهم على دين إبراهيم إذا اختتنوا وحجوا، وهو مع ذلك إبطال لدعوى المشركين من أهل الكتاب، والحنيف: الخاشع لله المحب له كما مر عن الإمام القاسم عليه السلام، ومر الجواب على من فسره بالمائل، والمسلم: المسلم لوجهه لله البريء من عبادة غير الله.

4. معنى (أسلم وجهه لله): أخلصه لله، ولم يجعل فيه شركاً لغيره، من السَّلَمِ الخالص لله تعالى، كما في قوله تعالى: ﴿رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ [الزمر: 29] ولهذا كان الإسلام دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ودين إبراهيم ودين الأنبياء والرسل كلهم ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ ولهذا يكون من نطق بالشهادتين خروجاً من الشرك مسلماً من قبل أن يعمل أعمال الإسلام أي من عقيب النطق بالشهادتين.

5. ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ في عهده وبعده فكانوا حنفاء لله مسلمين له غير مشركين ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه حنيف مسلم وما كان من المشركين ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله واليوم الأخر لأنهم حنفاء لله غير مشركين به.

6. ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ كلهم الأولين والآخرين والأنبياء منهم وغير الأنبياء فهو يتولى شأنهم ويحسن رعايتهم ويدبر لهم ما هو خير لهم فعليهم أن يكِلُوا إليه أمورهم ويثقوا به ناصراً ومعيناً وكافياً، وبهذا تم الجواب على جدالهم في إبراهيم، ويأتي ذكر مكيدة لأهل الكتاب أو مكائد وذكر ما فيه تحذير للمؤمنين منهم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/478.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أسلوب التأنيب الهادئ: هذا أسلوب آخر في حوار القرآن مع أهل الكتاب، يستهدف كشف الزيف الذي كانوا يمارسونه في تضليل الناس باستغلال الصفة الروحية الكبيرة والموقع القدسيّ العظيم لبعض الشخصيات النبويّة، فيسبغون عليه انتماءهم الديني ليوحوا للبسطاء بقداسة مواقعهم، وسلامة طروحاتهم الفكرية والعملية، من أجل كسب هؤلاء البسطاء إلى صفوفهم وتحويلهم عن السير في خط الإسلام، وقد أراد القرآن الكريم أن يواجههم بأسلوب التأنيب الهادئ الوديع الذي يطرح التساؤل في أسلوب الاستفهام الإنكاري، كأسلوب لمواجهة الإنسان نفسه بالحقيقة في تسجيل نقطة هنا تدفع نحو التفكير، ونقطة هناك تدفع نحو التأمّل من خلال إثارة المنهج في ملاحقة الحقيقة، وتقرير المبدأ في مواجهة الواقع، وهذا ما نحاول أن نتلمسه في دراستنا لهذه الآيات.

2. طرح أهل الكتاب شخصية إبراهيم ـ النبي ـ الذي يعتبر من الشخصيّات النبويّة المحترمة لدى كافة الناس، بما فيهم مشركي مكة، الذين ينتسبون إليه باعتبار أن قريش من ولد إسماعيل، وكان لهذا الاحترام دوره الكبير في ارتباط الناس بالفكر أو الدين الذي ينتسب إليه هذا النبيّ العظيم، ولهذا حدث التنافس في نسبته إلى هذا الفريق أو ذاك من الديانات المطروحة في الساحة الدينيّة، فقد كان اليهود يقولون: إنه يهودي، ويريدون من خلال ذلك أن يدفعوا الناس إلى اعتناق اليهودية، على أساس اعتناق إبراهيم لها، وكان النّصارى يقولون: إنه نصراني، ليقودوا الناس إلى النصرانية من خلال ارتباطه بها، ولم تكن القضية لدى الطرفين مطروحة للمناقشة حتى يفيض الناس فيها بالحوار والنزاع، بل كانت مطروحة للإيمان الأعمى الذي يقبل كل شيء من دون معارضة، انطلاقا من الفكرة القائلة بأنّ الإيمان فوق العقل.

3. جاء القرآن ليفضح اللعبة ويضع النقاط على الحروف، فطرح القضية للمناقشة في جانبها التاريخي الزمني، ودعاهم إلى استنطاق عقولهم في ذلك، فإن اليهودية انطلقت من التوراة التي أنزلت على موسى عليه السّلام بعد وقت طويل من عهد إبراهيم، كما أن النصرانية استندت إلى الإنجيل المنزل على عيسى عليه السّلام بعد ذلك الزمن بوقت بعيد جدا؛ فكيف ينتسب إبراهيم إلى هذا أو ذاك في الوقت الذي يسبق زمانه زمانهما!؟ وكيف يمكن أن ينتسب السابق إلى اللّاحق، في ما يوحي به العقل من موازين ومقاييس!؟

4. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ لتقدموه كشخصية يهودية أو نصرانية تجتذب الناس إليكم من خلال ما يتميز به من تقديس واحترام والتزام بنبوّته في وجدان الناس، ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ﴾ التي ينتسب اليهود إليها في دينهم، ﴿وَالْإِنْجِيلِ﴾ الذي ينتسب إليه النصارى في التزامهم الديني، ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ فهناك فاصل زمني كبير بين إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السّلام، فكيف‏ يمكن انتسابه إليها.

5. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ ذلك، لتتحرّكوا في دائرة تقديم الحجة من منطق العقل الذي يضع الأشياء في مواضعها الطبيعية من الزمان والمكان عندما يدخل في المقارنة بين الأشخاص والأشياء!؟ وهذه إشارة إلى أن القرآن الكريم يقدم العقل كأساس في مجال الجدال بين الناس والاحتجاج للعقائد وللأفكار، فلا ينطلق الموضوع الذي يقع محلا للنزاع من حالة عاطفية أو مزاجية أو استعراضية بقصد التأثير على الجو النفسي بعيدا عن المحاكمة العقلية.

6. نلتقي ـ في خط هذا الأسلوب ـ بالكلمات التي تثار أمام البسطاء من خلال ما يطرحه الكفر والانحراف من مبادئ، كالشيوعية والاشتراكية والديمقراطية وغيرها من المبادئ الفلسفية والاقتصادية والسياسية، فيحاولون الإيحاء للمسلمين البسطاء بالتقاء الإسلام بها وانتمائه إليها في مفاهيمه وتشريعاته من أجل أن يضلّلوهم ويسدّوا عليهم طريق الاعتراض والمناقشة، وقد يضيفون إلى ذلك الحديث عن انتماء الإمام عليّ عليه السّلام وأبي ذر الغفاري إلى الاشتراكية لأنهما كانا ينطلقان في كلماتهما من موقع المواجهة للواقع الاقتصادي الاستغلالي الفاسد، مما يحاول البعض تفسيره بما توحي به هذه المبادئ من شعارات وأفكار، ولكن القضية لا بدّ من أن تعالج بما عالج به القرآن الكريم قصة مزاعم أهل الكتاب في قضية إبراهيم عليه السّلام، بالتأكيد على الفرق الكبير في الفاصل الزمني بين الإسلام وشخصياته، وبين مبتدعي هذه المبادئ، ثم بمحاولة إيضاح المفاهيم الإسلامية والاقتصادية والاجتماعية بالمقارنة مع مبادئ الكفر والانحراف المتمثلة في تلك المبادئ، والإعلان لهم بأن عليّا وأبا ذر لم يطرحا في معارضتهما للواقع الفاسد إلّا المنهج الإسلامي الذي يعالج المشكلة الواقعية بالحل الإسلامي لا بغيره، وهكذا نجد في هذه الآية الكريمة خطا إسلاميا ممتدا في حياتنا الرسالية في مجال الدعوة والعمل، وحركة الوعي المنفتح على الواقع والإنسان.

7. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ يا أهل الكتاب‏ ﴿حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ مما تملكون علمه من دينكم من خلال ما قرأتموه في التّوراة أو الإنجيل وهذا من حقكم، كما هو حق كل إنسان ينتمي إلى فكر يملك علمه ليجادل الناس فيه، وربما كان هذا الكلام إشارة إلى الجدل الواقع بين اليهود والنصارى في تأكيد كل منهما عقيدته ونفي العقيدة الأخرى، كما كان يفعله اليهود في إنكار أن يكون عيسى عليه السّلام ربا أو ابنا لله، أو ما كان يفعله النصارى من نفي امتداد اليهود إلى ما بعد السيد المسيح عليه السّلام، وربما تكون مسألة العلم ـ هنا ـ تعبيرا عن الثقافة، بعيدا عن فرضية الصواب باعتبار أنهم يملكون الجدال حوله من خلال ذلك.

8. ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ لأنه لا يمثل أية حقيقة دينية أو تاريخية، وهذا ما لا ينبغي للإنسان العاقل أن يفعله، لأنه يؤدّي إلى التخبط في مواقع الجهل والابتعاد عن الحقيقة، والاستغراق في متاهات الضلال.

9. ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ فهو المحيط بكل شيء، الذي لا يغرب عن علمه مثقال ذرة، فأرجعوا الأمر إليه في ما أنزل من وحي يتضمن الحقائق ويشير إلى خط اليقين، أما أنتم فلا تملكون العلم إلا من خلال ما يسّر لكم من سبله، فلا تندفعوا في طريق لا تعرفون طبيعته ولا تبلغون مداه.

10. يتحرك الحوار في استعراض المنهج الذي ينبغي للحوار أن يسير عليه، فلا بدّ للمتحاورين في أيّ موضوع، من أن يكونا محيطين به من جميع جوانبه، لينطلق الحوار من منطق الفكر فيصل بهما إلى النتيجة الحاسمة، ويساعدهما على الهدوء في الكلمة، والحكمة في الأسلوب، والعمق في الفكرة، فإن ذلك هو سبيل العلماء الواعين للعلم ولرسالته.. أمّا إذا كان الطرفان لا يملكان المعرفة في ما يتحاوران به، فإن الموقف سيتحوّل لديهما إلى حوار بالشتائم والكلمات اللاذعة والاتهامات الفارغة التي يحاول الضعيف أن يغطي بها ضعفه، ليربح القضية بالباطل إذا لم يتمكن من الحصول عليها بالحق.. وبذلك لن يؤدي الحوار إلى نتيجة طيّبة، بل يؤدي ـ بدلا من ذلك ـ إلى المزيد من التعقيد والعداوة والخوض بالباطل، وعلى ضوء ذلك، فلا بدّ للأجهزة أو القيادات المشرفة على حركة الدعوة إلى الله، من أن تختار العناصر الجيّدة التي تملك كفاءة الفكر والأسلوب والرؤية العميقة المنفتحة على الواقع، لتستطيع أن تربح الموقف لصالح الإسلام من موقع قوّة الفكر والحجّة وعمق النظرة، فتحقق للإسلام هدفه في الوصول إلى قناعات الناس من جهة، وتعطي للدعوة الوجه القويّ المنفتح من خلال ما تبرز به للناس من سماحة الحوار وقوّته.

11. لعل ذلك هو السبب في ما كان يقوم به الإمام جعفر الصادق عليه السّلام من نهي بعض أصحابه عن الكلام، ودعوة بعض آخرين إلى الخوض فيه، لضعف أولئك وقوّة هؤلاء، فإذا خاض الضعيف الحوار، كان ضعفه حجّة للمبطل على المحق، فيؤدي ذلك إلى ضعف موقف الحق وانهزام المؤمن نفسيا أمام ذلك، أمّا إذا خاض القويّ الموقف، فإنه يعطي الحجّة من موقع الحق، ويمنح الحق قوّة الموقف.

12. قد لا يكفي ـ في هذا المنهج ـ أن يملك الداعية قوّة الحجّة على سبيل‏ الجدل ولو بالباطل، فإن القضية ليست قضية ربح الساحة على كل حال؛ بل لا بدّ من أن يملك قوّة الحجّة بالحق، لأن الهدف هو الوصول إلى خط الهدى في حياة الإنسان، وذلك بأن نقوده إلى الموقف الحق في العقيدة والشريعة والحياة، وهذا ما دعا الإمام جعفر الصادق عليه السّلام إلى نقد أحد أصحابه الذي كان يجادل خصمه بالحق والباطل ـ والإمام يستمع إليه ـ فقال له: (يمزج الحقّ بالباطل، وقليل من الحق يكفي عن كثير من الباطل)

13. خاطب الله أهل الكتاب ـ في هذا الخط المنهجي ـ بأنهم انحرفوا عن الخط الصحيح في نهاية المطاف، فقد كانوا يحاجّون فيما يملكون أمر المعرفة به مما اطلعوا عليه من التوراة أو الإنجيل، وليس في ذلك أيّ بأس، ولكنّ الأمر تطوّر عندهم في خط منحرف إلى أن بدأوا يجادلون في ما لا يملكون العلم به، إمّا لأنه لا يخضع لأيّ أساس، ولا يقف مع أيّة حقيقة، وإمّا لأنهم لا يملكون أمر الإحاطة به والوصول إلى نهاياته، وهذا أمر لا يسمح به منطق العلم والحوار، فإن عليهم إذا لم يحيطوا بعلم شيء ما، أن يحاولوا الوصول إليه بالمعرفة من خلال وحي الله، فإن الله يعلم بحقائق الأشياء، وأنتم لا تعلمون إلّا البسيط الذي علّمكم إيّاه، وهذا ما ينبغي لنا أن نخاطب به الآخرين من خصوم الإسلام الذين يوجهون إليه الاتهامات الباطلة عن غير علم، ويثيرون الشبهات حوله من موقع الجهل، لنقودهم ـ بمختلف أساليب الإنكار والإحراج التي تكشف عن جهلهم، وتخبّطهم بالباطل ـ إلى السير في خط المعرفة الإسلامية من مصادرها الأصيلة، ولندفعهم إلى الاستماع إلى الحجة والبرهان بأقرب طريق.

14. لا بدّ لنا ـ إلى جانب ذلك ـ من الالتفات إلى العاملين في سبيل الله، وتوجيههم إلى دراسة مبادئ خصومهم، بالإضافة إلى مبادئ الإسلام، لينطلقوا في الحوار عن علم بكل مجالات الأخذ والرد، لئلّا يخوضوا في ما لا علم لهم به، كما أشرنا إلى ذلك في صدر الحديث.

15. ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا﴾ فلا يمكن أن يكون إبراهيم يهوديا لأن اليهودية تحركت مسيرتها في مواقع الشرك، وانحرفت عن خط الرسالة التي جاء بها موسى عليه السّلام، ﴿وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ إذ لا يمكن أن يكون نصرانيا، لأن النصرانية انطلقت في تفاصيل وأجواء ابتعدت بها عن القواعد الصحيحة التي جاء بها عيسى عليه السّلام.. ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ ولكنه كان حنيفا مائلا إلى الحق عن الباطل مخلصا لله، في كل ما يعنيه الإخلاص لله من صفاء التوحيد في العقيدة والإسلام لله في كل شيء؛ وذلك من خلال ما حدثنا الله به في آية أخرى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 131 ـ 132]، ومنه انطلقت صفة المسلمين لكل من أسلم وجهه وحياته لله، فاتبع أمر الله ونهيه في كل شيء، ولم يشرك بعبادة ربّه أحدا؛ وذلك هو قوله تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحج: 78] وبذلك كان انتماء إبراهيم الأصيل إلى الإسلام الحق الذي يمثل الخط العريض لكل الديانات السماوية من قبله ومن بعده، لأنها تدعو إلى عبادة الله والإسلام إليه وحده، وهكذا كانت رسالة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم إسلاما لله لأنها تمثل الدعوة الخالصة إلى التوحيد في كل مجالات العقيدة والعاطفة والعمل.

16. ربما كان قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ إشارة إلى ما كان يدّعيه المشركون من عرب الجاهلية، ولا سيما من كان منهم في مكة من القرشيين، أنهم على دين إبراهيم والدين الحنيف، حتى كان أهل الكتاب يسمونهم‏ بالحنفاء، وبهذا اتخذت كلمة الحنفاء معنى مغايرا للمعنى الحقيقي، فأصبحت تدل على الاتجاه الباطل الذي يميل فيه الناس عن الحق إلى الباطل باعتبار أن العرب كانوا يلتزمون (الحنيفية الوثنية)، فجاءت هذه الآية لتنفي هذه النسبة إلى إبراهيم عليه السّلام، فهو لم يكن يهوديا يحمل خطه انحراف اليهودية، ولم يكن نصرانيا يلتزم انحراف النصرانية، ولم يكن مشركا ينسجم مع طريقة أهل الشرك في عبادة الأصنام بحجة أنها تقربهم إلى الله زلفى، بل كان حنيفا بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة التي تعني في كلّ مضمونها الاستقامة على طريق الحق في العقيدة، والعمل بالميل عن خط الانحراف إلى خط الاستقامة، وكان مسلما بالمعنى الشامل للإسلام الذي يعني إسلام الفكر والقلب والحركة والحياة لله في كل أموره.. وهو الخط التوحيدي في العقيدة والعبادة والطاعة الذي يمثل إبراهيم عليه السّلام عنوانه في كل كلماته ومواقفه ومنطلقاته.

17. ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾، ثم يطرح الله سبحانه علاقة إبراهيم بالناس وعلاقة الناس به، فليست العلاقة بأصحاب الرسالة علاقة نسب تمنح الآخرين أولويّة به، وتعطيهم امتيازا على بقية النّاس في رابطة القرب به، لأن هؤلاء العظماء يفقدون خصوصياتهم باندماجهم بالقضايا العامة، فتتحول علاقتهم بالآخرين إلى علاقة رسالة وفكر وعمل، ويتحوّل الانتماء إليهم إلى الانتماء لما يمثلونه من رسالة الفكر والعمل، لأنها أصبحت كل حياتهم، وفي ضوء ذلك، يقرر الله لأهل الكتاب القول الفصل في خط هذه الحقيقة، فليس أولى النّاس بإبراهيم عليه السّلام هم الذين ينتمون إليه بالنسب، بل هم الذين ينتمون إليه في العقيدة والعمل من الذين اتبعوه في حياته وبعد مماته.

18. ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ الذي يحمل رسالة الإسلام التي أوحى بها الله إليه سائر على الخط نفسه‏ الذي سار عليه إبراهيم عليه السّلام، وبعمق الروح التي انطلق معها، إن لم تكن أعمق، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بهذا الرسول، لأن الإيمان به إيمان بالخط الرسالي الإسلامي الذي يمثله إبراهيم عليه السّلام في رسالته وفي حياته، ويلتقي الجميع في خط الولاية لله، ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بما يرعاهم برعايته، ويهديهم بهدايته، ويمنحهم لطفه ورحمته ورضوانه.

19. يعلّق‏ الإمام عليّ عليه السّلام ـ في ما روي عنه ـ على هذه الآية بقوله: (إن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدوّ محمّد من عصى الله وإن قربت قرابته‏)، وبذلك يعطي الإمام علي عليه السّلام امتداد في ما يستوحيه من الآية، فإذا كان أولى الناس بإبراهيم الذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا، فإن ذلك لا يقف أمام شخص إبراهيم عليه السّلام، بل يمتد مع كل نبي أو رسول أو عامل في سبيل الله، في ما تمثله القرابة في حياته في خطوط القرب والبعد، من حيث علاقة ذلك بالسير على خط الرسالة والابتعاد عنه، ولهذا أمكن أن نستوحي الآية في كل شخص تمتد حياته إلى أبعد من حدود ذاته، كما أكّد رسول الله من خلال القرآن الكريم على بعد أبي لهب عنه مع قربه من نسبه، وأثار قرب سلمان الفارسي منه، من خلال‏ الحديث المأثور عنه: (وإنما صار سلمان من العلماء لأنه امرؤ منا أهل البيت فلذلك نسبه إلينا) مع بعده عن نسبه، وهذا هو الأساس الذي تتحرك فيه العاطفة الإسلاميّة، وتنطلق منه الروابط الإسلاميّة، فيكون الإسلام هو الذي يربطك بالآخرين، كأقوى ما تكون الرابطة، بحيث تعلو عن سائر الروابط الأخرى من عائلية أو إقليمية أو قوميّة، في كل ما تفرضه الرابطة القويّة من نصرة وتأييد وحركة وانتماء، وهذا هو المفهوم الإسلامي الذي نستوحيه من الآية في ضوء ملاحظة الإمام علي عليه السّلام.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/84.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

ورد في الروايات أن علماء اليهود ونصارى نجران جاؤوا إلى النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخذوا يجادلونه في إبراهيم، فقالت اليهود: أنه كان يهوديا، وقالت النصارى: أنه كان نصرانيا، وهكذا كلّ يدعي إبراهيم لنفسه لتكون له الغلبة والافتخار على خصمه، لأن إبراهيم عليه السّلام كان نبيا عظيما لدى جميع الأديان والمذاهب) فنزلت الآيات أعلاه لتبيّن كذب هذه الادّعاءات.

1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ هذه الآية تردّ على مزاعم اليهود النصارى، وتقول: إنّ جدلكم بشأن إبراهيم النبيّ المجاهد في سبيل الله جدل عقيم، لأنّه كان قبل موسى والمسيح بسنوات كثيرة، والتوراة والإنجيل نزلا بعده بسنوات كثيرة ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ أيعقل أن يدين نبيّ سابق بدين لاحق؟ ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾؟

2. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ هنا يوبّخهم الله قائلا إنّكم قد بحثتم فيما يتعلّق بدينكم الذي تعرفونه، وشاهدتم كيف أنّكم حتّى في بحث ما تعرفونه قد وقعتم في أخطاء كبيرة وكم بعدتم عن الحقيقة، فقد كان علمكم، في الواقع، جهلا مركّبا، فكيف تريدون أن تجادلوا في أمر لا علم لكم به، ثمّ تدّعون ما لا يتّفق مع أيّ تاريخ؟

3. في نهاية الآية يقول: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ توكيدا للموضوع السابق، وتمهيدا لبحث الآية التالية، أجل، إنه يعلم متى بعث إبراهيم عليه السّلام بالرسالة لا أنتم الذين جئتم بعد ذلك بزمن طويل وتحكمون في هذه المسألة بدون دليل.

4. ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ وهذا ردّ صريح على هذه المزاعم يقول إنّ إبراهيم لم يكن من اليهود ولا من المسيحيّين، وإنّما كان موحّدا طاهرا مخلصا أسلم لله ولم يشرك به أبدا.

5. (الحنيف) من الحنف، وهو الميل من شيء إلى شيء، وهو في لغة القرآن ميل عن الضلال إلى الاستقامة، يصف القرآن إبراهيم أنّه كان حنيفا لأنّه شقّ حجب التعصّب والتقليد الأعمى، وفي عصر كان غارقا في عبادة الأصنام، نبذ هو عبادة الأصنام ولم يطأ طيء لها رأسا، إلّا أنّ العرب الذين كانوا يعبدون الأصنام في العصر الجاهلي كانوا يعتبرون أنفسهم حنفاء على دين إبراهيم، وقد شاع هذا شيوعا حدا بأهل الكتاب إلى أن يطلقوا عليهم اسم (الحنفاء)، وبهذا اتّخذت لفظة (الحنيف) معنى معاكسا تماما لمعناها الأصلي، غدت ترادف عبادة الأصنام، لذلك فإنّ القرآن بعد أن وصف إبراهيم بأنّه كان‏ ﴿حَنِيفًا﴾ أضاف‏ ﴿مُسْلِمًا﴾ ثمّ أردف ذلك بقوله‏ ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ لإبعاد احتمال آخر.

6. سؤال وإشكال: قد يسأل سائل: إذا لم نكن نعتبر إبراهيم من أتباع موسى ولا من أتباع عيسى فنحن بطريق أولى لا نستطيع أن نعتبره مسلما أيضا، لأنّه كان قبل كلّ هذه الأديان، فكيف يصفه القرآن بأنّه كان مسلما؟ والجواب: هو أنّ (الإسلام) في القرآن لا يعني إتّباع رسول الإسلام فقط، بل الكلمة بالمعنى الأوسع تعني التسليم المطلق لأمر الله لتوحيد الكامل الخالص من كلّ شرك ووثنية، وكان إبراهيم حامل لواء ذلك الإسلام.

7. ممّا تقدّم يتّضح أن إبراهيم عليه السّلام لم يكن تابعا لهذه الأديان، ولكن يبقى شيء واحد، وهو من هم الذين يحقّ لهم ادعاء العلاقة والارتباط بالدين الإبراهيمي وبعبارة أخرى كيف يمكننا اتباع هذا النبي العظيم الذي يفتخر باتّباعه جميع أتباع الأديان السماوية؟ آخر آية من الآيات مورد البحث توضح هذا المطلب وتقول: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ لوضع حدّ لجدل أهل الكتاب حول إبراهيم، نبيّ الله العظيم، الذي كانت كلّ جهة تدّعي أنّه منها، وكانوا يستندون غالبا إلى قرابتهم منه، أو اشتراكهم معه في العنصر، أعاد القرآن مبدأ رئيسا إلى الأذهان وهو أنّ الارتباط بالأنبياء والولاء لهم إنّما يكون عن طريق الإيمان واتّباعهم فقط، وبناء على ذلك، فإنّ أقرب الناس لإبراهيم هم الذين يتّبعون مدرسته ويلتزمون أهدافه، سواء بالنسبة للذين عاصروه‏ ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ أو الذين بقوا بعده أوفياء لمدرسته وأهدافه، مثل نبيّ الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم وأتباعه‏ ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾

8. السبب واضح، فاحترام الأنبياء إنّما هو لمدرستهم، لا لعنصرهم وقبيلتهم ونسبهم، وعليه، إذا كان أهل الكتاب بعقائدهم المشركة قد انحرفوا عن أهم مبدأ من مبادئ دعوة إبراهيم، فقد بقي رسول الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون ـ بالاستناد إلى هذا المبدأ نفسه وتعميمه على جميع أصول الإسلام وفروعه ـ من أوفى الأوفياء له، فلا بدّ أن نعترف بأنّ هؤلاء هم الأقربون إلى إبراهيم، لا أولئك.

9. في ختام الآية يبشر الله تعالى الذين يتبعون رسالة الأنبياء حقيقة ويقول: ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾

10. ترى هذه الآية أنّ الرابط الوحيد الذي يربط الناس بالأنبياء هو اتّباع مدرستهم وأهدافهم، ليس غير، لذلك نجد أنّ النصوص المروية عن أئمة الإسلام تؤكّد هذا الموضوع بصراحة تامّة، من ذلك أنّه جاء في تفسير مجمع البيان ونور الثقلين، نقلا عن الإمام عليّ عليه السّلام أنّه قال: إنّ أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاؤوا به ـ ثمّ تلا الآية المذكورة ثمّ قال ـ (إنّ وليّ محمّد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإنّ عدوّ محمّد من عصى الله وإن قربت قرابته)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/545.

35. أهل الكتاب والكفر والتضليل

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈35⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 69 ـ 71]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ تعرفون، وتجحدون، وتعلمون أنه الحق(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٧.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ تشهدون أن نعت نبي الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابكم، ثم تكفرون به، وتنكرونه، ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل النبي الأمي(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ يكتمون شأن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٩١.

(2) ابن جرير: ٥/٤٩٣.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ معناه تكذّبون بكتب الله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ معناه تقرون(1).

3. روي أنّه قال: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ معناه تخلطون الحقّ بالباطل(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ قال محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ قال تشهدون أنه الحق، تجدونه مكتوبا عندكم(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٩٢.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره الإسلام(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٩٣.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ قال بالحجج، ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أن القرآن حق، وأن محمدا رسول الله تجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ تعلمون أن الدين عند الله الإسلام، وأمر محمد حق(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٦.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٨.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: نزلت في عمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وذلك أن اليهود جادلوهما، ودعوهما إلى دينهم، وقالوا: إن ديننا أفضل من دينكم، ونحن أهدى منكم سبيلا، فنزلت: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ إلى آخر الآية، ونزلت: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ يعني: لم تخلطون الحق: ﴿بِالْبَاطِلِ﴾(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ وذلك أن اليهود أقروا ببعض أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكتموا بعضا، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أن محمدا نبي ورسول صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٨٣.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٨٤.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ على أن الدين عند الله الإسلام، ليس لله دين غيره(1).

2. روي أنّه قال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾: الإسلام باليهودية والنصرانية، ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾: الإسلام، وأمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أن محمدا رسول الله، وأن الدين الإسلام(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٧٧.

(2) ابن جرير: ٥/٤٩٥.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ الحق: التوراة التي أنزل الله على موسى، والباطل: الذي كتبوه بأيديهم(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٩٤.

عيينة:

روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٢٤٨.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ ذكر في القصّة أن المشركين أخذوا عمارا وحذيفة، فقالوا لهم: ديننا أفضل من دينكم، وأفضل من الأديان كلها؛ فنزل هذا.

2. الأشبه أن يكون مثل هذا من رؤساء أهل الكتاب، وعلماؤهم هم الذين يتولون مثل هذا العمل، وأمّا الجهّال منهم والرذلة، فإنهم لا يفعلون هذا.

3. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ الإضلال، قيل فيه بوجوه:

أ. قيل: الإضلال هو الإخمال‏؛ أرادوا أن يخمل ذكرهم، ولا يذكرون بعدهم أبدا، كما ذكر أولئك.

ب. وقيل: الإضلال: الإهلاك.

ج. وقيل: الإضلال: هو التحير، وكل ضال طريقا فهو متحير تائه.

4. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: ما يهلكون إلا أنفسهم وما يخملون إلّا ذكر أنفسهم.

5. ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي: وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم، أو يحيرون، وما يشعرون ماذا عليهم فيما ودّوا من أليم العقاب‏

6. قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: وأنتم تشهدون تلك الآيات، وتعاينونها، وتعلمون أنها آيات، لكن تكابرون وتعاندون، ولا تؤمنون بها.

ب. ويحتمل: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أي: وأنتم تعلمون ما في التوراة والإنجيل من بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته ـ أنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أفضل المخلوقات، وأنه حق، ولكن لا تتبعونه.

ج. وقيل: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أي: تعلمون أنها آيات؛ والآيات تحتمل: القرآن، وتحتمل: رسول الله محمدا، وتحتمل غيرها من الآيات التي جاء بها.

د. وقال بعضهم: لم تكفرون بدين الله، وأنتم تعلمون بدلالة الخلقة، وشهادة كتبكم أن دين الله وتوحيده حق‏!؟

7. قوله‏ كان في ذلك تحذير لغيرهم عن مثله، وترغيب لهم في المحمود من الفعل، ثم فيه دلالة إثبات رسالة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنه يخبرهم عما كانوا يكتمون ويسرّون فيما بينهم، وذلك من اطلاع الله إياه على ذلك، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ذلك؛ ألا ترى أنهم لم يتعرضوا له بشيء من ذلك، فيقولوا: متى كتمنا الحق، ومتى لبسنا الحق بالباطل!؟ فدل‏ أنهم علموا أنه حق، وأنه رسول الله، وأن ذلك إنما علم بإله ـ عزّ وجل ـ وذلك قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ثم علم ذلك يكون بأن كان ذلك في كتابهم، أو علموا بالآيات المعجزة.

8. قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: ما جزاء من لبس الحق بالباطل وكتمه.

ب. ويحتمل: وأنتم تعلمون أنكم تلبسون الحق بالباطل‏.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/401.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ أي في تحريف التوراة والإنجيل، ويحتمل أن يكون الدعاء إلى إظهار الإسلام في أول النهار والرجوع عنه في آخره قصداً لتشكيك الناس فيه، ويجوز أن يكون بالتلبيس في الإيمان لموسى وعيسى ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

2. ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ أي ما وجدوا من صفته في التوراة والإنجيل والبشارة به ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أن ما عرفتموه من كتبكم.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/144.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة بها، وهذا قول قتادة، والربيع، والسدي.

ب. الثاني: وأنتم تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها.

ج. الثالث: وأنتم تشهدون بما عليكم فيه الحجة.

2. في قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: تحريف التوراة والإنجيل، وهذا قول الحسن، وابن زيد.

ب. الثاني: الدعاء إلى إظهار الإسلام في أول النهار والرجوع عنه في آخره قصدا لتشكيك الناس فيه، وهذا قول ابن عباس، وقتادة.

ج. الثالث: الإيمان بموسى وعيسى والكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

3. ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ يعني ما وجدوه عندهم من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والبشارة به في كتبهم عنادا من علمائهم، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يعني الحق بما عرفتموه من كتبكم.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/401.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ودت: تمنت وإذا كانت بمعنى التمني، فهي تصلح للماضي والحاضر والمستقبل فلذلك جاز ب (لو) وليس كذلك المحبة والارادة، لأنهما لا يتعلقان إلا بالمستقبل فلا يجوز أن يكون بمعنى أرادت‏ ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ كما يجوز ودت‏ ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾، لأن الارادة تجري مجرى الاستدعاء إلى الفعل أو مجرى العلة في ترتيب الفعل، فأما التمني، فهو تقدير شيء في النفس يستمتع بتقريره، والفرق بين ودّ لو يضله، وبين ود أن يضله: أن (أن) للاستقبال وليس كذلك (لو)

2. ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ فالاضلال: الإهلاك بالدخول في الضلال، وأصل الضلال الهلاك من قوله: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي هلكنا.

3. في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن المؤمنين لا يقبلون ما يدعونهم إليه من ترك الإسلام إلى غيره من الأديان فيحصل عليهم حينئذ الإثم والوبال، والاستدعاء إلى الضلال.

ب. الثاني: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ بفعل الضلال كما يقال ما أهلك إلا نفسه أي لا يعتد بهلاك غيره في عظم هلاكه.

4. الفرق بين أضله عن الطريق وبين أخرجه عن الطريق: أن أضله عنه يكون بالاستدعاء إلى غيره دون فعل الضلال، وأخرجه عنه قد يكون بفعل الخروج منه، والفرق بين الإضلال والاستدعاء إلى الضلال أن الإضلال لا يكون إلا إذا قبل المدعو، فأما الاستدعاء إلى الضلال، فيكون، قبل المدعو أم لم يقبل.

5. حقيقة الإضلال: الدعاء إلى الضلال الذي يقبله المدعو، وقال بعضهم: إنه لا يصح إضلال أحد بغيره، وإنما يقال ذلك على وجه المجاز ذهب إلى أنه يفعل فعل الضلال في غيره، لأنه لا يوصف بأنه مضل لغيره إلا إذا أضل المدعو باغوائه، قال الرماني: وهذا غير صحيح، لأنه يذم بالاستدعاء إلى الضلال الذي يقبله المدعو أكثر مما يذم بالاستدعاء إلى الضلال الذي لا يقبله المدعو، فلذلك فرق بين الاستدعاءين فوصف أحدهما بالإضلال ولم يوصف الآخر.

6. ﴿يَا أَهْلَ﴾ نصب، لأنه منادى مضاف، وقوله: (لم) أصله لما، لأنها (ما) التي للاستفهام دخلت عليها اللام وإنما حذفت لاتصالها بحرف الاضافة مع وقوعها ظرفا تدل عليها الفتحة، وكذلك قياسها مع سائر حروف الاضافة مثل {فيم تبشرون} ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ وإنما حذفت الالف من (ما) في الاستفهام، ولم تحذف من (ما) في الصلات لأن الظرف أقوى على التغيير من وسط الاسم كما يقوى على التغيير بالاعراب، والتنوين، والالف في الصلة بمنزلة حرف في وسط الاسم، لأنه لا يتم إلا بصلته، وليس كذلك الاستفهام، لأن الالف فيه منتهى الاسم، و(لم) أصلها (لما) وهي مخالفة عند البصريين ل (كم) على ما قاله الكسائي أن أصلها كما، لأن (كم) مخالفة (لما) في اللفظ، والمعنى: أما في اللفظ، فلأنه كان يجب أن تبقى الفتحة لتدل على الالف، كما بقيت في (لم) ونحوه، والامر بخلافه، وأما في المعنى، فلأن (كم) سؤال عن العدد، و(ما) سؤال عن الجنس، فليست منها في شيء، ولا لكاف التشبيه في (كم) معنى، ويلزمه في متى أن تكون أصلها (ما) إلا أنهم زادوا التاء، لأنه تغيير من غير دليل، فإذا لم يمنع في أحدهما لم يمنع في الآخر، وإنما بني على نظيره في حذف الالف، فلذلك يلزمه أن يبنى على نظيره في زيادة التاء قبل الالف، نحو (رهبوتى خير من رحمونى) قال الزجاج: قول الكسائي في هذا لا يعرج عليه.

7. ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ معناه لم تجحدون آيات الله، ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ قيل في معناه قولان:

أ. أحدهما: وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة بها في قول قتادة والربيع والسدي.

ب. الثاني: وأنتم تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها.

8. الشهادة الخبر بالشيء عن مشاهدة: إما للخبر به، وإما لما يظهر به ظهوره بالمشاهدة، فإذا شهد بالإقرار، فهو مشاهدة المخبر به، وإذا شهد بالملك، فهو يظهر به ظهوره بالمشاهدة، وإنما قيل: شهد بالباطل، لأنه يخبر عن مشاهدة في دعواه.

9. ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ فيه حذف، وتقديره ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ ما عليكم فيه الحجة فحذف للإيجاز مع الاستغناء عنه بالتوبيخ الذي تضمنه الكلام، والحجة في ذلك من وجهين:

أ. أحدهما: الإقرار بما فيه من البشارة من الكتاب.

ب. الثاني: الإقرار بمثله من الآيات.

10. في قوله تعالى: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: بتحريف التوراة والإنجيل في قول الحسن وابن زيد.

ب. الثاني: قال ابن عباس، وقتادة: بإظهار الإسلام، وإبطان النفاق، وفي قلوبهم من اليهودية والنصرانية مأمناً، لأنهم يداعوا إلى اظهار الإسلام في صدر النهار والرجوع عنه في آخره لتشكيك الناس فيه.

ج. الثالث: بالإيمان بموسى، وعيسى، والكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

11. الحق الذي كتموه ـ في قول الحسن، وغيره من المفسرين ـ: هو ما وجدوه من صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والبشارة به في كتبهم على وجه العناد من علمائهم.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾:

أ. قيل: فيه حذف وتقديره وأنتم تعلمون الحق، لأن التقريع قد دل على أنهم كتموا الحق وهم يعلمون أنه حق، ولو كتموه وهم لا يعلمون أنه حق لم يلائم معنى التقريع الذي دل على أنهم كتموا الحق وهم يعلمون أنه حق ولم يلائم معنى التقريع الذي دل عليه الكلام.. وهو أصح، لما بيناه من الذم على الكتمان.

ب. وقيل أيضاً: وأنتم تعلمون الأمور التي يصح بها التكليف.

13. سؤال وإشكال: إذا كانوا يعلمون الحق في الدين، فقد صح كونهم معاندين، فلم ينكر مذهب أصحاب المعارف الذين يقولون أن كل كافر معاند؟ والجواب: هذا في قوم مخصوصين يجوز على مثلهم الكتمان، فأما الخلق الكثير، فلا يصح ذلك منهم، كما يجوز الكتمان على القليل، ولا يجوز على الكثير فيما طريقه الاخبار، على أن في الآية ما يدل على فساد قول أصحاب المعارف، وهو الاخبار بأنهم كتموا الحق الذي علموا، فلو اشترك الناس فيه، لما صح الكتمان كما لا يصح في ما يعلمونه من المشاهدات والضروريات، لاشتراكهم في العلم به.

14. ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ رفع، لأنه معطوف على قوله: (تلبسون) وكان يجوز النصب، فتقول: وتكتموا الحق على الصرف، كما لو قلت لم تقوم وتقعد كان جائزاً أي لم تجمع الفعلين وأنت مستغن بأحدهما عن الآخر.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/495.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. أصل الضلال الهلاك، والأصل الإهلاك، قال تعالى: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ ثم يستعمل في الضلال في الدين؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك، ثم كثر استعماله حتى صار حقيقة فيه، والإضلال من الداعي هو الدعاء إلى الضلال الذي يقبله المدعو.

ب. المودة والمحبة والإرادة نظائر، ويستعمل ﴿وَدَّ﴾ بمعنى ﴿تمنّى﴾ حينئذ يصلح للماضي والمستقبل، فأما الإرادة فلا تتعلق إلا بالمستقبل، وقد تستعمل المحبة بمعنى الشهوة.

ج. الكفر في اللغة: هو الستر، وفي الشرع: من يستر الحق حتى استحق عقابًا لا عقاب أعظم منه.

د. الآيات: جمع آية، وهي العلامة والحجة.

هـ. الشهادة: الخبر عن الشيء عن مشاهدة، وأصله من المشاهدة.

و. اللبس: اختلاط الأمر، لبست عليه في الأمر لبسة أي ليس بواضح.

2. مما روي في سبب نزول الآيات الكريمة:

أ. قيل: نزلت الآية في معاذ وعمار وحذيفة، دعاهم اليهود إلى دينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾

ب. قال القاضي: نزل قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ في قوم من أهل الكتاب كانوا يعلمون ما في التوراة والإنجيل والبشارة بمحمد، صلّى الله عليه وآله وسلّم وبنبوته، وكانوا يُلَبِّسُونَ على العوام.

3. ثم بَيَّنَ تعالى أنهم كما ضلوا أضلوا، ودعوا إلى الضلال، فقال سبحانه ﴿وَدَّتْ﴾:

أ. قيل: أرادت.

ب. وقيل: تمنت.

والأول هو الوجه لأنه حقيقة، والثاني توسع ومجاز.

4. ﴿طَائِفَةٌ﴾ جماعة ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾:

أ. قيل: من اليهود.

ب. وقيل: من اليهود والنصارى.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾:

أ. قيل: يصدونكم عن الإسلام يردونكم إلى ما هم عليه من الكفر فيهلكونكم.

ب. وقيل: يشككونكم في دين محمد فتهلكون.

ج. وقيل: يهلكونكم.

6. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ وما يهلكون إلا أنفسهم كأنه لا يعتد بهلاك غيره في عظم هلاكه.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾:

أ. قيل: ما يعلمون مقدار ما يأتون من الضلال بذلك.

ب. وقيل: لا يعلمون أن الله يطلعكم على سرائرهم في ذلك.

ج. وقيل: لا يعلمون أن وبال ذلك يعود عليهم.

د. وقيل: لا يعلمون أنهم ضلال لجهلهم، عن أبي علي.

8. ثم عاد الخطاب إلى تقريع الفريقين في كتمان الحق فقال سبحانه: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ تجحدون ﴿بِآيَاتِ اللهِ﴾:

أ. قيل: الآيات هو ما في كتبهم من الإشارة بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقوله: ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾

ب. وقيل: الآيات ما في كتبهم أن إبراهيم كان حتيفًا مسلمًا.

ج. وقيل: ما في كتبهم أن الدين هو الإسلام.

د. وقيل: الآيات ما يتلو عليهم من غرائب أخبارهم وغوامض أسرارهم التي يعلمون أنها في كتبهم، ولم يكن يعلم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا قومه شيئًا من ذلك، فلما أخبرهم بها علم أنه عرف ذلك عن وحي وأنه نبي، عن أبي مسلم.

هـ. وقيل: بحججه وبيناته كذبتم مع العلم، عن الأصم.

و. ويحتمل أن يريد بالآيات القرآن يعلمون أنه حق منزل، ثم يجحدونه.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾:

أ. قيل: نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابكم، عن قتادة والربيع والسدي.

ب. وقيل: الشاهدون في كتبكم أن دين الإسلام حق.

ج. وقيل: تشهدون الحجج الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

د. وقيل: تشهدون التوراة فتعلمون ما يستحق بالكفر من العذاب.

هـ. وقيل: وأنتم تشهدون بمثلها للأنبياء الَّذِينَ تقرون بهم.

10. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ أي تخلطون، واختلفوا:

أ. قيل: أراد تحريف التوراة تخلطون المنزل بالمحرف، عن الحسن وابن زيد.

ب. وقيل: بإظهار الإسلام وإبطان خلافه من اليهودية والنصرانية؛ لأنهم تداعوا إلى إظهار الإسلام أول النهار والرجوع عند آخره تسكينًا للناس، عن ابن عباس وقتادة.

ج. وقيل: الإيمان بموسى وعيسى والكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وتخلطون النفاق بالإيمان.

د. وقيل: يخلطون ما يعلمون بقلوبهم من كتبهم أن محمدًا حق بما يظهرونه من تكذيبه، عن أبي علي وأبي مسلم.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾:

أ. قيل: نبوة محمد.

ب. وقيل: إن الحق هو الإسلام.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾:

أ. قيل: وأنتم تعلمون الحق، وفيه محذوف دل الكلام عليه.

ب. وقيل: تعلمون ما على الكاتم من العقوبة والإثم.

ج. وقيل: وأنتم تعلمون الأمور التي يصح بها التكليف، والوجه الأول؛ لأن التقريع دل على أنهم كتموا الحق، وهم يعلمون أنه الحق.

13. قراءة العامة ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ﴾ بالتخفيف، وعن أبي مجلز ﴿تَلْبِسُونَ﴾ بالتشديد من لبّسَ يُلَبِّسُ تلبيسًا، وعن عبيد بن عمير: يلبسوا ويكتموا، بغير نون.

14. مسائل نحوية:

أ. ﴿مِنَ﴾ ههنا للتبعيض، وإنما ذكر بعضهم ولم يعمهم؛ لأن منهم من آمن، وأثنى الله عليه بقوله: ﴿أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾، و﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾

ب. أصل ﴿لِم﴾ لما؛ لأنها مع الاستفهام دخلت عليه اللام، وإنما حذفت لاتصالها بحذف الإضافة مع وقوعها طرفًا وتدل عليها الفتحة، وكذلك قياسها مع سائر وجوه الإضافة كقوله: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ و﴿عَمَّ يَتَسَائَلُونَ﴾ وقيل: حذف للفرق بين الخبر والاستفهام، ورفع {يكتمونه} لأنه معطوف تقديره: لم تلبسون، ولم تكتمون.

ج. يجوز في العربية (وتكتموا) على الظرف، لو قلت: لِمَ يقوم ويفعل جاز؛ أي لم تجمع بين الفعلين وأنت مستغن بأحدهما، والرفع الوجه؛ لأنه تقريع على كل واحد منهما.

15. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أن الداعي إلى الضلال يوصف بأنه مضل، ويستحق الذم بذلك، ثم اختلفوا:

فقيل: إنه مجاز؛ لأنه لو كان يضل حقيقة لكان فعله ضلالاً، عن أبي علي وأبي هاشم.

ومنهم من قال: يوصف بأنه مضل حقيقة إذا صادف دُعَاؤُهُ القبول.

ب. أن الدعاء إلى الضلال كبيرة، ثم ينظر، فالدعاء إلى الكفر كفر، والدعاء إلى الفسق فسق.

ج. يدل قوله: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ على أن المعارف مكتسبة، فيبطل قول أصحاب المعارف.

د. أن العاصي قد يهلك بمعصيته وإن لم يعلم، متى كان متمكنًا من العلم، بخلاف ما ذهب إليه جماعة من المتكلمين.

هـ. أنهم كانوا معاندين، وهذا إنما يصح في علمائهم لاستحالة مواطأة كثير من الناس على كتمان ما يعلمون.

و. يدل قوله تعالى: {وتلبسون} أن المعارف مكتسبة، فلذلك صح التلبيس.

ز. أن تلبيس الحق بالباطل لَبسٌ قبيح، واللبس إنما يكون بإيراد الشبه.

ح. أن اللبس لا يرتفع إلا بالدليل دون التقليد.

ط. وجوب التمييز؛ لأن اللبس إنما منع منه.

ي. وجوب التمييز وذلك يوجب على العلماء أن يميزوا بين الحق والباطل، ويرفعوا اللبس ويجلوا الشبه، ويبينوا الدليل.

ك. أن كتمان الحق قبيح لذلك ذمهم عليه، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه والفتيا والشهادات ونحوها.

ل. أن الكتمان مع المعرفة أشد من ذلك؛ لذلك قال: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، فأما الكتمان فهو ألا يظهر الحق عند الحاجة، فأما مع فقد الحاجة، فلا يعد كتمانًا وإن لم يظهر.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/271.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

ودت أي: تمنت، فلما كان بمعنى تمنى صلح للماضي والحال والاستقبال، فذلك جاز بلو، وليس كذلك المحبة والإرادة، لأنهما لا يتعلقان إلا بالمستقبل، فلا يجوز أن يقال: أرادوا لو يضلونكم، لان الإرادة يجري مجرى الاستدعاء إلى الفعل، أو مجرى العلة في ترتيب الفعل، فأما التمني فهو تقرير شيء في النفس يستمتع بتقريره، والفرق بين ود لو تضله وبين ود أن تضله أن أن للاستقبال، وليس كذلك لو.

2. ثم بين سبحانه أن هؤلاء كما ضلوا، دعوا إلى الضلال، فقال ﴿وَدَّتْ﴾ أي تمنت، وقيل: أرادت ﴿طَائِفَةٌ﴾ أي جماعة ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾:

أ. أي: من اليهود والنصارى.

ب. وقيل: من اليهود خاصة.

3. {لو يضلوكم} أي: يهلكونكم بادخالكم في الضلال، ودعائكم إليه، ويستعمل الضلال بمعنى الهلاك نحو قوله: (أإذا أضللنا في الأرض) ومعناه: هلكنا وبطلت صورنا.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾:

أ. قيل: معناه: لا يرجع وبال إضلالهم إلا على أنفسهم، ولا يلحق ضررهم إلا بهم، فإن المسلمين لا يجيبونهم إلى ما يدعونهم إليه من ترك الاسلام إلى غيره من الأديان، فيبقى عليهم إثم الكفر، ووبال الدعاء إلى الكفر.

ب. وقيل: معناه وما يهلكون إلا أنفسهم أي: لا يعتد بما يحصل لغيرهم من الهلاك، في جنب ما يحصل لهم.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾:

أ. قيل: أي: وما يعلمون أن وبال ذلك يعود إليهم.

ب. وقيل: وما يشعرون أن الله تعالى يدل المؤمنين على ضلالهم وإضلالهم.

ج. وقيل: وما يشعرون أنهم ضلال لجهلهم، عن أبي الجبائي.

6. ثم خاطب الله الفريقين، فقال ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ ‌بما يتلى عليكم من ﴿آيَاتِ اللهِ﴾ يعني: القرآن ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾:

أ. قيل: أي: تعلمون وتشاهدون ما يدل على صحتها ووجوب الإقرار بها من التوراة والإنجيل، إذ فيهما ذكر النبي، والإخبار يصدق نبوته، وبيان صفته.

ب. وقيل: يعني بآيات الله ما في كتبهم من البشارة بنبوته، وأنتم تشهدون الحجج الدالة على نبوته.

ج. وقيل: يعني بالآيات ما في كتبهم أن إبراهيم كان حنيفا مسلما، وأن الدين هو الاسلام، وأنتم تشاهدون ذلك، وقيل: يعني بها ما يتلى عليهم من غرائب أخبارهم التي علموا أنها في كتبهم، عن أبي مسلم.

د. وقيل: يعني بالآيات الحجج الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنتم تشهدون أن الأول لمعجزة يدل على صدق الرسالة، وثبوت النبوة.

هـ. وقيل: وأنتم تشهدون إذا خلوتم بصحة دين الإسلام.

7. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ معناه: لم تخلطون الحق بالباطل، وفيه أقوال:

أ. أحدها: إن المراد به تحريفهم التوراة والإنجيل، عن الحسن وابن زيد.

ب. ثانيها: إن المراد به إظهارهم الاسلام، وابطانهم النفاق، وفي قلوبهم من اليهودية والنصرانية، لأنهم تداعوا إلى إظهار الاسلام في صدر النهار، والرجوع عنه في آخره تشكيكا للناس، عن ابن عباس وقتادة.

ج. ثالثها: إن المراد به الإيمان بموسى وعيسى، والكفر بمحمد.

د. رابعها: إن المراد ما يعلمونه في قلوبهم من أن محمدا أحق بما يظهرونه من تكذيبه، عن الجبائي، وأبي مسلم.

8. ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ أي: نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما وجدتموه في كتبكم من نعته والبشارة به ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾:

أ. أنه حق، وإنما نزلت هذه في طائفة من علمائهم، لأن الكتمان إنما يجوز على الطائفة القليلة دون الكثيرة.

ب. وقيل: معناه وأنتم تعلمون الأمور التي تصح بها التكليف.

والأول أصح لما في الآية من الذم على الكتمان.

9. ﴿لِم﴾: أصله لما حذفت الألف لاتصالها بالحرف الجار، مع وقوعها ظرفا، ولدلالة الفتحة عليها، وكذلك بم وعم.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/771.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ سبب نزولها أن اليهود قالوا لمعاذ بن جبل، وعمّار بن ياسر: تركتما دينكما، واتبعتما دين محمّد، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

2. الطّائفة: اسم لجماعة مجتمعين على اجتمعوا عليه من دين، ورأي، ومذهب، وغير ذلك، وفي هذه الطائفة قولان:

أ. أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: اليهود والنّصارى، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

3. الضّلال: الحيرة، وفيه هاهنا قولان:

أ. أحدهما: أنه الاستنزال عن الحقّ إلى الباطل، وهو قول ابن عباس، ومقاتل.

ب. الثاني: الإهلاك، ومنه‏ ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ قاله ابن جرير، والدّمشقيّ.

4. في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: وما يشعرون أنّ الله يدلّ المؤمنين على حالهم.

ب. الثاني: وما يشعرون أنهم يضلّون أنفسهم.

5. ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ قال قتادة: يعني: محمّدا والإسلام‏ ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أنّ بعث محمّد في كتابكم، ثم تكفرون به.

6. ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ قال اليزيديّ: معناه: لم تخلطون الحقّ بالباطل؟ قال ابن فارس: واللبس: اختلاط الأمر، وفي الأمر لبسة، أي: ليس بواضح.

7. في الحق والباطل أربعة أقوال:

أ. أحدها: أن الحق: إقرارهم ببعض أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والباطل: كتمانهم بعض أمره.

ب. الثاني: الحق: إيمانهم بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم غدوة، والباطل: كفرهم به عشيّة، رويا عن ابن عباس.

ج. الثالث: الحق: التّوراة، والباطل: ما كتبوه فيها بأيديهم، قاله الحسن، وابن زيد.

د. الرابع: الحق: الإسلام، والباطل: اليهودية والنّصرانية، قاله قتادة.

8. ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ قال قتادة: كتموا الإسلام، وكتموا محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم.

__________

(1) زاد المسير: 1/293.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بيّن الله تعالى أن من طريقة أهل الكتاب العدول عن الحق، والإعراض عن قبول الحجة بيّن أنهم لا يقتصرون على هذا القدر، بل يجتهدون في إضلال من آمن بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بإلقاء الشبهات كقولهم: إن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم مقر بموسى وعيسى ويدعي لنفسه النبوّة، وأيضاً إن موسى عليه السلام أخبر في التوراة بأن شرعه لا يزول، وأيضاً القول بالنسخ يفضي إلى البداء، والغرض منه تنبيه المؤمنين على أن لا يغتروا بكلام اليهود، ونظير قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ [البقرة: 109]، وقوله‏ ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء: 89]

2. (من) هنا للتبعيض، وإنما ذكر بعضهم ولم يعمهم لأن منهم من آمن وأثنى الله عليهم بقوله‏ ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ [المائدة: 66]، و﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: 113]

قيل: نزلت هذه الآية في معاذ وعمّار بن ياسر وحذيفة دعاهم اليهود إلى دينهم.

3. إنما قال: ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ ولم يقل أن يضلوكم، لأن (لو) للتمني فإن قولك لو كان كذا يفيد التمني ونظيره قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: 96]

4. ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ وهو يحتمل وجوهاً:

أ. منها إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قصدهم إضلال الغير وهو كقوله:‏ ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [البقرة: 57]، وقوله‏ ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: 13]، ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل: 25]

ب. ومنها إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق لأن الذاهب عن الاهتداء يوصف بأنه ضال.

ج. ومنها أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين، ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فهم قد صاروا خائبين خاسرين، حيث اعتقدوا شيئاً ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوروه.

5. ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي ما يعلمون أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين.

ثم لما بيّن الله تعالى حال الطائفة التي لا تشعر بما في التوراة من دلالة نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، بيّن أيضاً حال الطائفة العارفة بذلك من أحبارهم، فقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾

6. ﴿لِمَ﴾ أصلها لما، لأنها: ما، التي للاستفهام، دخلت عليها اللام فحذفت الألف لطلب الخفة، ولأن حرف الجر صار كالعوض عنها ولأنها وقعت طرفاً ويدل عليها الفتحة وعلى هذا قوله‏: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [النبأ: 1]، و﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر: 54] والوقف على هذه الحروف يكون بالهاء نحو: فبمه، ولمه.

7. في قوله تعالى: ﴿بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ وجوه:

أ. الأول: أن المراد منها الآيات الواردة في التوراة والإنجيل.. فأما قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ فالمعنى على هذا القول أنهم عند حضور المسلمين، وعند حضور عوامهم، كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم إذا خلا بعضهم مع بعض شهدوا بصحتها، ومثله قوله تعالى: ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ [آل عمران: 99]، وتفسير الآية بهذا القول، يدل على اشتمال هذه الآية على الإخبار عن الغيب لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبرهم بما يكتمونه في أنفسهم، ويظهرون غيره، ولا شك أن الإخبار عن الغيب معجز.. وعلى هذا القول فيه وجوه: أحدها: ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومنها ما في هذين الكتابين، أن إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً مسلماً، ومنها أن فيهما أن الدين هو الإسلام، وعلى هذا القول المحتمل لهذه الوجوه نقول: إن الكفر بالآيات يحتمل وجهين:

أحدهما: أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة بل كانوا كافرين بما يدل عليه التوراة فأطلق اسم الدليل على المدلول على سبيل المجاز.

الثاني: أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة لأنهم كانوا يحرفونها وكانوا ينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. الثاني: في تفسير آيات الله أنها هي القرآن وقوله‏ ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ يعني أنكم تنكرون عند العوام كون القرآن معجزاً ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزاً.

ج. الثالث: أن المراد بآيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلى هذا القول فقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ معناه أنكم إنما اعترفتم بدلالة المعجزات التي ظهرت على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدالة على صدقهم، من حيث أن المعجز قائم مقام التصديق من الله تعالى فإذا شهدتم بأن المعجز إنما دل على صدق سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من هذا الوجه، وأنتم تشهدون حصول هذا الوجه في حق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إصرار كم على إنكار نبوته ورسالته مناقضاً لما شهدتهم بحقيته من دلالة معجزات سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على صدقهم.

8. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ علماء اليهود والنصارى كانت لهم حرفتان:

أ. إحداهما: أنهم كانوا يكفرون بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أنهم كانوا يعلمون بقلوبهم أنه رسول حق من عند الله والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في الآية الأولى.

ب. وثانيتهما: إنهم كانوا يجتهدون في إلقاء الشبهات، وفي إخفاء الدلائل والبينات والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في هذه الآية الثانية ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، فالمقام الأول مقام الغواية والضلالة والمقام الثاني مقام الإغواء والإضلال.

9. قرئ‏ ﴿تَلْبِسُونَ﴾ بالتشديد، وقرأ يحيى بن وثاب‏ ﴿تَلْبِسُونَ﴾ بفتح الباء، أي تلبسون الحق مع الباطل، كقوله عليه السلام: (كلابس ثوبي زور) وقوله‏: (إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا)

10. الساعي في إخفاء الحق لا سبيل له إلى ذلك إلا من أحد وجهين: إما بإلقاء شبهة تدل‏ على الباطل، وإما بإخفاء الدليل الذي يدل على الحق، فقوله‏ ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ إشارة إلى المقام الأول وقوله‏ ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ إشارة إلى المقام الثاني.

11. لبس الحق بالباطل يحتمل هاهنا وجوهاً:

أ. أحدها: تحريف التوراة، فيخلطون المنزل بالمحرف، عن الحسن وابن زيد.

ب. ثانيها: إنهم تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار، ثم الرجوع عنه في آخر النهار، تشكيكاً للناس، عن ابن عباس وقتادة.

ج. ثالثها: أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم من البشارة والنعت والصفة ويكون في التوراة أيضاً ما يوهم خلاف ذلك، فيكون كالمحكم والمتشابه فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعله كثير من المشبهة، وهذا قول القاضي.

د. رابعها: أنهم كانوا يقولون محمداً معترف بأن موسى عليه السلام حق، ثم إن التوراة دالة على أن شرع موسى عليه السلام لا ينسخ وكل ذلك إلقاء للشبهات.

12. ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ المراد أن الآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان الاستدلال بها مفتقراً إلى التفكر والتأمل، والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي كان بمجموعها يتم هذا الاستدلال مثل ما أن أهل البدعة في زماننا يسعون في أن لا يصل إلى عوامهم دلائل المحققين.

13. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وجوه:

أ. أحدها: إنكم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عناداً وحسداً.

ب. ثانيها: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي أنتم أرباب العلم والمعرفة لا أرباب الجهل والخرافة.

ج. ثالثها: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أن عقاب من يفعل مثل هذه الأفعال عظيم.

14. ذهب المعتزلة، ومن وافقهم إلى أن قوله تعالى: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ و﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ دال على أن ذلك فعلهم، لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم(2)، ثم يقول: لم فعلتم؟ وجوابه: أن الفعل يتوقف على الداعية فتلك الداعية إن حدثت لا لمحدث لزم نفي الصانع، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى وإن كان محدثها هو الله تعالى لزمكم ما ألزمتموه علينا.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/256.

(2) الكلام هنا للقاضي

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمن وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود من بني النضير وقريظة وبني قينقاع إلى دينهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا﴾ [البقرة]

2. ﴿مِن﴾ على هذا القول للتبعيض، وقيل: جميع أهل الكتاب، فتكون ﴿مِن﴾ لبيان الجنس، ومعنى ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ أي يكسبونكم المعصية بالرجوع عن دين الإسلام والمخالفة له، وقال ابن جريج: ﴿يُضِلُّونَكُمْ﴾ أي يهلكونكم، ومنه قول الأخطل:

çكنت القذى في موج أكدر مزبد...قذف الأتي به فضل ضلالاé

أي هلك هلاكا.

3. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ نفي وإيجاب، ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي يفطنون أنهم لا يصلون إلى إضلال المؤمنين، وقيل: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي لا يعلمون بصحة الإسلام وواجب عليهم أن يعلموا، لأن البراهين ظاهرة والحجج باهرة.

4. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أي بصحة الآيات التي عندكم في كتبكم، عن قتادة والسدي، وقيل: المعنى وأنتم تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي أنتم مقرون بها. ‌

5. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ اللبس الخلط، وقد تقدم في البقرة.

6. معنى هذه الآية والتي قبلها معنى ذلك، ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ ويجوز ﴿تَكْتُمُوا﴾ على جواب الاستفهام، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملة في موضع الحال.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/111.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الطائفة من أهل الكتاب هم: يهود بني النضير، وقريظة، وبني قينقاع، حين دعوا جماعة من المسلمين إلى دينهم.. وقيل: هم جميع أهل الكتاب، فتكون: من، لبيان الجنس.

2. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ جملة حالية، للدلالة على ثبوت قدم المؤمنين في الإيمان، فلا يعود وبال من أراد فتنتهم إلا عليه.

3. المراد بآيات الله: ما في كتبهم من دلائل نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ ما في كتبكم من ذلك، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء الذين تقرّون بنبوّتهم، أو المراد، كتم كل الآيات عنادا وأنتم تعلمون أنها حق، ولبّس الحق بالباطل: خلطه بما يعتمدونه من التحريف‏ ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملة حالية.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/403.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَدَّت﴾ أحبَّت أو تمنَّت، ﴿طَّآئِفَةٌ مِّنَ اَهْلِ الْكِتَابِ﴾ اليهود، ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ (لَوْ) مصدريَّة، أي: إضلالكم؛ أو ودَّت ضلالكم لو يضلُّونكم لسَرَّهم ذلك، فـ (لَوْ) شرطيَّة؛ أو بيان لتمنِّيهم، كأنَّهم قالوا: ليتنا أضللناكم فـ (لَوْ) للتمنِّي، ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَآ أَنفُسَهُمْ﴾ بالسعي في إضلال غيرهم إذ لم يُتابَعوا، كما روي أنَّ اليهود دعوا عمَّارا وحذيفة ومعاذ إلى اليهوديَّة فلم يوافقوهم، والآية تعمُّ المسلمين، ولو خُصَّ سبب النزول بهؤلاء، فسعيهم في إضلال هؤلاء المسلمين زيادة في إضلال أنفسهم، وذلك إخبار بالغيب، قيل: لم يتهوَّد مسلم قطُّ؛ أو ما يهلكون إِلَّا أنفسهم، فذكر الإهلاك بذكر سببه وملزومه وهو الإضلال، وَوِزرُه عليهم خاصَّة، أو لا يضلُّون عمَّارًا ومن معه، بل يضلُّون أمثالهم من الأشقياء، أي: يزيدون في ضلالهم، أو يضلُّون من شارف الإضلال فسمَّى الأمثال أو من شارف بلفظ الأنفس، كأنَّهم هم، لعلاقة التمادي في الكفر.

2. لَمَّا هاجر المسلمون إلى النجاشيِّ تبعهم عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط، فقالا جاءوا ليفسدوا دينك ويأخذوا ملكك، فجمع قسِّيسيه ورهابينه والترجمان، فسألهم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقالوا: إنَّه يأمر بالتوحيد، ويأمر بالمعروف وحسن الجوار، وصلة الرحم، ونحو ذلك، وأنزل الله عليه القرآن، فقرؤوا له الروم والعنكبوت والكهف ومريم، وقال عمرو: إنَّهم يشتمون عيسى! فسألهم، فقالوا: عبد الله ورسوله، فقال: ما خالفتم ولو قَدرَ ما يقذي العين، محمَّد على الحقِّ، وهو وأصحابه حزب إبراهيم؛ قال عمرو: ما حزب إبراهيم؟ قال: الذين اتَّبعوه، فنزل في المدينة: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ﴾

3. ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أنَّ سعيهم في إضلال المؤمنين لا يوثِّر فيهم، وأنَّ عليهم وزر ذلك، مع أنَّهم لا ينالون مرادهم.

4. ﴿يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَايَاتِ اللهِ﴾ بالآيات التي في التوراة والإنجيل، الشاهدات على نبوءة محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ورسالته، وبالقرآن وبالحجج الدالَّة على نبوءته صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ﴿وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ تعترفون بأنَّ التوراة والإنجيل حقٌّ، وهما مشتملان على نعت محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وكتابه القرآن؛ أو لِمَ تكفرون بالقرآن وأنتم تشهدون حقِّـيَّته من التوراة والإنجيل وبمعجزاته صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ أو تشهدون له إذا خلوتم.

5. ﴿يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ﴾ تخلطون، ﴿الْحَقَّ﴾ المنزَّل، ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ الذي تأتون به كذبا، فهما لا يُفَرَّق بينهما، وذلك بتبديل الباطل مكان الحقِّ، وبالتأويل الزائغ، وبإسقاط ما أنزل، ويكذبون ويحسِّنون كذبهم، وبإظهار الإسلام أحيانا للنفاق، فيتوصَّلوا إلى غرض، وكما قالوا: ﴿ءَامِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا ءَاخِرَهُ﴾ إلخ [آل عمران: 71]، فإنَّهم إذا فعلوا ذلك فقد نافقوا، ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ ما في التوراة والإنجيل من نعت محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن، ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنَّه حقٌّ، وتقرُّون به إذا خلوتم، وربَّما أمرتم به من سألكم من غريب ومن مِلتُم إليه.

6. روى البخاريُّ عن أسماء بنت أبي بكر أنَّه جاءت امرأة وقالت: يا رسول الله، إنَّ لي جارة ـ أي: ضرَّة ـ فهل عليَّ جناح أن أتشبَّع من مال زوجي بما لم يعطني، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (المتشبِّع بما لم يملك كلابس ثوبي زور)، وأصل المتشبِّع من يظهر أنَّه شبعان وليس كذلك، ولابس ثوبي زور: من استعار ثوبين يتجمَّل أو يتنسَّك بهما لتُقبل شهادته يتأزَّر بأحدهما، ويرتدي بالأخرى، ومن عادة العرب أن لا يقبلوا شهادة من ليس لابسَ حلَّةٍ، فكان أحدهم إذا لم يجدها استعارها، وأضاف الثوبين للزور لأنَّهما يلبسان لأجله، وقد شهد زورا وأظهر أنَّ الثوبين له وليسا له، أو هو المرائي يلبس ثياب الزُّهـَّاد وباطنه مملوء بالفساد.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/296.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَدَّتْ﴾ أي تمنت‏ ﴿طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ بالرجوع إلى دينهم حسدا وبغيا ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي وما يتخطاهم الإضلال، ولا يعود وباله إلا عليهم، إذ يضاعف به عذابهم‏ ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي أن وزره خاص بهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ [البقرة: 109]، وقوله: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء: 89]

2. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ أي المنزلة على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أي تعلمون حقيقتها.

3. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ أي تسترون الحق المنزل بتمويهاتكم الباطلة ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ أي الذي لا يقبل تمويها ولا تحريفا ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي عالمين بما تكتمونه من حقيته وقد كانوا يعلمون ما في التوراة والإنجيل من البشارة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونبوته، ويلبسون على الناس في ذلك، كدأبهم في غيره، وفي الآية دلالة على قبح كتمان الحق، فيدخل في ذلك أصول الدين وفروعه والفتيا والشهادة؛ وعلى قبح التلبيس، فيجب حل الشبهة وإبطالها.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/335.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاءت هذه الآيات بعد دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء لبيان حالهم في ذلك، وقد قال المفسرون إن اليهود دعوا معاذا وحذيفة وعمارا إلى دينهم، فأنزل الله: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ الآية، ولا شك أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين سواء دعوا بعض الصحابة إلى دينهم أم لا، وليس الإضلال خاصا بالدعوة بل كانوا يلقون ضروبا من الشك في النفوس ليصدوها عن الإسلام، من أغربها ما في الآية الآتية، وكان النزاع بين الفريقين مستمرا وهو ما لا بد منه في وقت الدعوة وقد قال تعالى في بيان حال هذه الطائفة المضللة، ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، قال محمد عبده: معناه أنهم بتوجههم إلى الإضلال واشتغالهم به ينصرفون عن النظر في طرق الهداية وما أوتيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من الآيات البينات على كونه نبيا هاديا، فهم يعبثون بعقولهم ويفسدون فطرتهم باختيارهم ولا وجه لمن قال: إن معنى إضلال أنفسهم هو كون عاقبته شرا عليهم ووبالا في الآخرة لأنهم يعذبون عليه فإن الكلام في المحاجة وبيان اعوجاج طريقة المضلين، وأما العقاب في الآخرة على الإضلال فهو مبين في مواضع من الكتاب، وليس هذا محله وهو لا يفيد هنا في الاحتجاج لأنه إنذار لغير مؤمن بالنذير، ولكل مقام مقال.

2. أورد الرازي نحو ما قاله محمد عبده ووجها ثالثا هو أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم صاروا خائنين خاسرين حيث اعتقدوا شيئا ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوروه، ولكن ينافي هذا قوله ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ وهم قد شعروا بخيبتهم في الإضلال، ولكنهم لانهماكهم فيه لم يشعروا بأنه كان صارفا لهم عن معرفة الحق والهدى لأن المنهمك في الشيء لا يكاد يفطن لعواقبه وآثاره.

3. ثم إنه تعالى ناداهم مبينا لهم حقيقة ما هم فيه من الضلال لعلهم يلتفتون إلى أنفسهم التي شغلوا عنها بمحاولة إضلال غيره فقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾، ذهب الرازي على أن هذه الآية موجهة إلى الطائفة العارفة بما في التوراة من دلائل نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما قبلها موجهة إلى غير العارفين بذلك، فآيات الله على هذا هي البشارات التي في التوراة ومثلها بشارات الإنجيل، واللفظ عام يشمل ما في الكتابين، والكفر بها عبارة عن عدم العمل بها، والمختار عندي أن الخطاب هنا موجه إلى جميع أهل الكتاب والآيات عامة في كل ما يدل على نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحقيقة ما جاء به من القرآن وغيره، وقد كانوا يشهدون هذه الآيات معنى وحسا، وفي الاستفهام من التوبيخ لهم والنعي عليهم ما يليق بمن يكابر الوجود ويجحد المشهود.

4. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ أي تخلطون الحق الذي جاء به الأنبياء ونزلت به الكتب وهو عبادة الله وحده وعمل البر والخير والبشارة بنبي من بني إسماعيل يعلم الناس الكتاب والحكمة لم تخلطون هذا بالباطل الذي ألحقه به أحباركم ورهبانكم من التأويلات والآراء وتجعلون كل ذلك دينا يجب اتباعه ويحسب أنه من عند الله كما قال تعالى في آية أخرى تأتي: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 78] فلبس الحق بالباطل عام يشمل كل ما ذكر وقيل هو خاص بالعقائد والأحكام.

5. ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ خاص بالبشارة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والصواب أن هذا عام أيضا، فإنهم كانوا يكتمون بعض الأحكام اتباعا للهوى، فيجعلون الكتاب قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ويأكلون بذلك السحت وقد بين الله لهم على لسان رسوله كثيرا مما يخفون من الكتاب كما سيأتي في سورة المائدة وغيرها إن شاء الله تعالى.

6. الآية حجة على الحشوية المقلدين من هذه الأمة الذين يخلطون الحق المنزل بآراء الناس ويجعلون كل ذلك دينا سماويا وشرعا إلهيا.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/332.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن بين سبحانه أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد أن يتبين لهم، ولا يجدى معهم الدليل والبرهان، فدعوتهم إلى دين الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده لا تجد منهم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية، ذكر هنا شأنا آخر لهم، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين، فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، وقد كان النزاع بالغا أشده بين الفريقين ولا غرابة في ذلك، فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب ومن المشركين، أما أهل الكتاب فلأن فيه هدما لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون فلأن للإلف والعادة سلطانا على النفوس، وهذه الدعوة دكّت حصون المعتقدات التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين، ووجدوا عليها آباءهم من قبل كما حكى الله عنهم ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾، روى أن هذه الآية نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية.

2. ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ أي أحبت طائفة من الأحبار والرؤساء أن يوقعوكم في الضلال بإلقاء الشبهات التي تشكّككم في دينكم، وتردكم إلى ما كنتم عليه من الكفر.

3. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ إذ أنهم بعنايتهم بالإضلال، واشتغالهم به ينصرفون عن النظر في طرق الهداية، ويغضّون أبصارهم عما أوتيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من الآيات البينات الدالة على نبوته، فهم يعبثون بعقولهم، ويفسدون فطرتهم باختيارهم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي وما يفطنون إلى سوء حالهم، وأنهم ألغوا عقولهم، فلم تفكر في الحجج التي آتاها الله لنبيه، ولم تنظر إلى نور الحق الساطع الذي يهدى صاحبه إلى الصراط المستقيم، وفي نفى الشعور عنهم نهاية الذم والاحتقار لهم.

4. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أي لأى سبب تكفرون بما ترونه من البراهين الواضحة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنتم تشهدون بصحتها بما جاء في كتبكم من نعته والبشارة به؟

5. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ أي لم تخلطون الحق الذي جاء به النبيون، ونزلت به كتبهم من عبادة الله وحده، والبشارة بنبىّ من بنى إسماعيل يعلّم الناس الكتاب والحكمة بالباطل الذي لفّقه أحباركم ورؤساؤكم بتأويلاتهم الفاسدة، وتجعلون ذلك دينا يجب اتباعه كما جاء في آية أخرى {يَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ}

6. ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي وتكتمون شأن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو مكتوب عندكم في التوراة والإنجيل، وأنتم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/184.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم يكشف للجماعة المسلمة عما يريده بها أهل الكتاب من وراء كل جدال وكل مراء، ويواجه أهل الكتاب بألاعيبهم وكيدهم وتدبيرهم على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة أيضا، وهو يمزق عنهم الأردية التي يتخفون تحتها، فيقفهم أمام الجماعة المسلمة عراة مفضوحين: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾

2. إن الإحنة التي يكنها أهل الكتاب للجماعة المسلمة هي الإحنة المتعلقة بالعقيدة، إنهم يكرهون لهذه الأمة أن تهتدي، يكرهون لها أن تفيء إلى عقيدتها الخاصة في قوة وثقة ويقين، ومن ثم يرصدون جهودهم كلها لإضلالها عن هذا المنهج، والإلواء بها عن هذا الطريق: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾، فهو ود النفس ورغبة القلب والشهوة التي تهفو إليها الأهواء من وراء كل كيد، وكل دس، وكل مراء، وكل جدال، وكل تلبيس.

3. وهذه الرغبة القائمة على الهوى والحقد والشر، ضلال لا شك فيه، فما تنبعث مثل هذه الرغبة الشريرة الآثمة عن خير ولا عن هدى، فهم يوقعون أنفسهم في الضلالة في اللحظة التي يودون فيها إضلال المسلمين، فما يحب إضلال المهتدين إلا ضال يهيم في الضلال البهيم: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، والمسلمون مكفيون أمر أعدائهم هؤلاء ما استقاموا على إسلامهم وما لهم عليهم من سبيل، والله سبحانه يتعهد لهم ألا يصيبهم كيد الكائدين، وأن يرتد عليهم كيدهم ما بقي المسلمون مسلمين.

4. وهنا يقرع أهل الكتاب بحقيقة موقفهم المريب المعيب: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ولقد كان أهل الكتاب وقتها ـ وما يزالون حتى اليوم ـ يشهدون الحق واضحا في هذا الدين، سواء منهم المطلعون على حقيقة ما جاء في كتبهم عنه من بشارات وإشارات ـ وكان بعضهم يصرح بما يجد من هذا كله وبعضهم يسلم بناء على هذا الذي يجده في كتبه ويشهده متحققا أمامه ـ وسواء كذلك غير المطلعين، ولكنهم يجدون في الإسلام من الحق الواضح ما يدعو إلى الإيمان.. غير أنهم يكفرون.. لا لنقص في الدليل، ولكن للهوى والمصلحة والتضليل.. والقرآن يناديهم: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾.. لأنها الصفة التي كان من شأنها أن تقودهم إلى آيات الله وكتابه الجديد.

5. كذلك يناديهم مرة أخرى ليفضح ما يقومون به من لبس الحق بالباطل لإخفائه وكتمانه وتضييعه في غمار الباطل، على علم وعن عمد وفي قصد.. وهو أمر مستنكر قبيح! وهذا الذي ندد الله به ـ سبحانه ـ من أعمال أهل الكتاب حينذاك، هو الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة.. فهذا طريقهم على مدار التاريخ.. اليهود بدؤوا منذ اللحظة الأولى، ثم تابعهم الصليبيون! وفي خلال القرون المتطاولة دسوا ـ مع الأسف ـ في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون! ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله ـ اللهم إلا هذا الكتاب المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه أبد الآبدين ـ والحمد لله على فضله العظيم.. دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله، ودسوا ولبّسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود، ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيها لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق، ودسوا ولبسوا في الرجال أيضا، فالمئات والألوف كانوا دسيسة على التراث الإسلامي ـ وما يزالون في صورة المستشرقين وتلاميذ المستشرقين الذين يشغلون مناصب القيادة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها: إنهم مسلمون، والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على عين الصهيونية والصليبية، ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين! وما يزال هذا الكيد قائما ومطردا، وما تزال مثابة الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ؛ والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/414.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الشرّ يعمل دائما على أن يتحكّك بالخير، وأن يدير وجهه إليه، ليرصد كل حركاته وسكناته، وذلك ليطمئن على وجوده القائم على الباطل، وحتى يطفئ تلك الشعاعات المضيئة المسلطة عليه من الحق، والتي تهدده بفضح موقفه وسوء مصيره، وهكذا أهل الباطل والضلال دائما، في كل أمة، ومن كل جيل، يهاجمون الحق في كل سانحة تسنح لهم، ويدبّرون له العدوان حيث وجدوا إلى ذلك سبيلا.. لأنهم يستشعرون أنهم مهددون بالضياع، وأن تلك الخيوط الواهية التي تشدّهم إلى الباطل، وتقيمهم على الضلال، هي في معرض الانحلال والتفكك، لأدنى لمسة تلمسها بها يد الحق! فهم بهذه المحاولات التي يتهجمون بها على مواطن الحق إنما يريدون أن يدفعوا خطرا ـ متوهّما أو متحققا ـ يطلّ عليهم من آفاق الحق ومواطنه.

2. وقد كشف الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم كثيرا من مكايد أهل الكتاب، وما يدبرون للمسلمين من شر، وما يبيّتون من عدوان، والسلاح الأول الذي يعتمد عليه أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ في المعركة التي يدبّرونها مع الإسلام، هو التشكيك في رسالة الرسول، وفي الكتاب الذي نزل عليه.. ذلك أنهم لو كسبوا المعركة في هذه الميدان، لأغناهم‏ ذلك عن لقاء الإسلام والمسلمين في أي ميدان آخر.. حيث لا يكون إسلام ولا مسلمون، متى قام الدليل على بطلان دعوة (محمد) وبطلان ما نزل عليه من عند الله.

3. ذلك هو تقدير بعض أهل الكتاب، وهو في ذاته تقدير سليم لو أنه صادف النبيّ والكتاب الذي نزل عليه، كما توهموا وقدروا.. ولكن، في كل مرة ساق فيها أهل الكتاب كيدا إلى النبي وإلى القرآن، رجمتهم صواعق الحق، فولوا مدبرين، يجرّون ثوب الخزي والخسران.

4. في قوله تعالى: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ ما يكشف عن بعض هذه النوايا الخبيثة، التي تنطوي عليها بعض النفوس الضالة من أهل الكتاب.. إنهم يريدون أن يفسدوا على المسلمين دينهم، وأن يقيموهم منه على الشك، بما يتأوّلون لهم من متشابه القرآن، وما يصدرون لهم من شبهات، يحيكونها من خيوط البهتان والضلال.. فبهذا إنما هم يضلّون أنفسهم، إذ اتخذوا الضلال مركبا، والزور طريقا، والجدل سلاحا، في تلك المعركة التي اشتبكوا فيها مع الإسلام والمسلمين.. إنهم قد خسروا أنفسهم من أول الطريق، إذ كانوا على ضلال وفي ضلال.. فإن كسبوا المعركة واستطاعوا أن يضلوا غيرهم، فحسبهم من الغنيمة أنهم خسروا معها أنفسهم مرتين.. مرة قبل المعركة ومرة بعدها!

5. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ قصر الله تعالى الضلال عليهم وحدهم في سعيهم الذي سعوه لإضلال المؤمنين.. فكيف يقصر الضلال عليهم وحدهم، مع أنه من الممكن أن يكونوا قد أضلّوا غيرهم، بما فعلوا حين احتكاكهم بضعاف الإيمان، ممن أسلموا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، من الأعراب وغيرهم.. فكيف هذا؟ والجواب: أن هؤلاء الضالين من أهل الكتاب، إذ يسعون إلى إضلال غيرهم الذين استقام طريقهم على الهدى ـ هؤلاء إنما يضلون أنفسهم، أي يغرقونها في الضلال، وأما هؤلاء الذين أغواهم هؤلاء الضالون، وأركبوهم معهم مركب الضلال، فإنهم عبء جديد يثقل هؤلاء الضلال، ويغلظ جريمتهم، ويضاعف إثمهم،! فالواقع ـ والأمر كذلك ـ أنهم لم يضلّوا إلا أنفسهم، فيما سعوا فيه، من إضلال غيرهم، وأنهم حملوا فوق ظهورهم أوزار هؤلاء الذين أضلوهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾

6. ثم بعد أن كشفت الآية السابقة عن بعض النوايا السيئة التي يعيش فيها فريق من أهل الكتاب، الذين يتربصون بالمؤمنين، ليضلّوهم، وليفسدوا عليهم دينهم الذي ارتضوا ـ بعد هذا التفت ـ سبحانه ـ إلى هؤلاء الضّالين المضلّين من أهل الكتاب، وخاطب فيهم أهل الكتاب جميعا، إذ كان هؤلاء هم علماؤهم وأهل الكلمة فيهم.. فقال سبحانه: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ أي يا من منّ الله عليهم بكتاب من عنده فيه رحمة وهدى ونور، فكفروا هذه النعمة، وعموا عن هذا الهدى والنور اللذين يشعّان منها: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أي وأنتم تشهدون ما في آيات الله من عبر وعظات، وما فيها من دلائل على قدرة الله، وحكمته، وعلمه.. إنها تنطق بالحق لو وجدت من يسمع، وإنها لتشعّ بالنور لو وجدت من يبصر.

7. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ ونداؤهم مرة أخرى ونسبتهم إلى الكتاب توكيد لهذه التذكرة، إن كانوا ممن يتذكرون.

8. في قوله تعالى: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ عرض لبعض أفاعيلهم وفضح لما هم فيه من ضلال.. إنّهم يلبسون الحق بالباطل، أي يغطّون وجه الحق، ويسترونه بدخان الباطل والضلال، فيشتبه على الناس وجه الحق، وتتفرق بهم السبل إليه.. وإنهم ليكتمون الحقّ الذي يعرفونه من أمر محمد والقرآن الذي نزل عليه، وليس ذلك الكتمان عن جهل، وإلا لكان لهم ما يعذرون به، ولكن كتمانهم هذا عن علم ومعرفة، وتلك هي مصيبة المتكبرين، وآفة الحاسدين، الحاقدين، ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؟

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/491.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ استئناف مناسبته قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: 64 ـ 68]، والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة، ولذلك عبّر عنهم بطائفة من أهل الكتاب لئلّا يتوهم أنهم أهل الكتاب الذين كانت المحاجة معهم في الآيات السابقة، والمراد بالطائفة جماعة منهم من قريظة، والنضير، وقينقاع، دعوا عمّار بن ياسر، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، إلى الرجوع إلى الشرك.

2. جملة ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ مبينة لمضمون جملة ﴿وَدَّتْ﴾، على طريقة الإجمال والتفصيل، فلو شرطية مستعملة في التمنّي مجازا لأنّ التمنّي من لوازم الشرط الامتناعي، وجواب الشرط محذوف يدل عليه فعل ودّت تقديره: (لو يضلونكم لحصل مودودهم)، والتحقيق أنّ التمنّي عارض من عوارض لو الامتناعية في بعض المقامات، وليس هو معنى أصليا من معاني لو، وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ في سورة البقرة [96]

3. ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ أي ودّوا إضلالكم وهو يحتمل أنهم ودّوا أن يجعلوهم على غير هدى في نظر أهل الكتاب: أي يذبذبوهم، ويحتمل أنّ المراد الإضلال في نفس‏ الأمر، وإن كان ودّ أهل الكتاب أن يهوّدوهم، وعلى الوجهين يحتمل قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ أن يكون معناه: إنهم إذا أضلوا الناس فقد صاروا هم أيضا ضالين؛ لأنّ الإضلال ضلال، وأن يكون معناه: إنهم كانوا من قبل ضالين برضاهم بالبقاء على دين منسوخ وقوله: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ يناسب الاحتمالين لأنّ العلم بالحالتين دقيق.

4. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ التفات إلى خطاب اليهود، والاستفهام إنكاري، والآيات: المعجزات، ولذلك قال: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾، وإعادة ندائهم بقوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ ثانية لقصد التوبيخ وتسجيل باطلهم عليهم، ولبس الحق بالباطل تلبيس دينهم بما أدخلوا فيه من الأكاذيب والخرافات والتأويلات الباطلة، حتى ارتفعت الثقة بجميعه.

5. كتمان الحق يحتمل أن يراد به كتمانهم تصديق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويحتمل أن يراد به كتمانهم ما في التوراة من الأحكام التي أماتوها وعوّضوها بأعمال أحبارهم وآثار تأويلاتهم، وهم يعلمونها ولا يعملون بها.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/126.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ إن اليهود والنصارى كانوا يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا﴾ [البقرة] فأولئك الكتابيون كانوا يشعرون أنهم فوق مستوى سائر العرب، فلما جاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بهديه فيهم ارتفع مستوى العرب فلم يذعنوا للحق الذي كان عليهم أن يؤمنوا له، بل تمردوا عليه، ولعظم المنزلة التي يعلمونها فيما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا يتمنون أن يضل المؤمنون، وأن يتركوا الحق؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ أي تمنت طائفة من أهل الكتاب ضلالكم، فلو هنا مصدرية تدل على التمني، أي ودت هذه الطائفة ضلالكم ولم يكن ذلك منهم أمنية يتمنونها فقط، بل كانوا يقرنون القول بالعمل، فكانوا يلقون بالظنون والشكوك والأوهام حول الدعوة المحمدية ليرتاب الذين آمنوا، وكان منهم منافقون ينبثون بين المسلمين باسم أنهم مسلمون، ويلقون بالريب والتشكيك في النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به كما يفعل اليوم أخلافهم من بعدهم؛ ولقد كان منهم من يجرؤ على الدعوة إلى اليهودية، حتى إنه ليروى أن يهود المدينة دعوا حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر إلى اليهودية، ولكن ضل سعيهم، وباؤوا بالخسران المبين.

2. إن الذي يعلم الحق، ويحاول أن يضلل غيره يزداد ضلالا ويعمى عن طريق الهداية، حتى ينته الأمر به إلى أن يجهل الذي كان يعلمه، وكذلك كان هؤلاء؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي أنهم بسبب غوايتهم وعمايتهم واستيلاء الهوى على قلوبهم أخذوا يثيرون الشك على أهل اليقين، فما أثّر الشك في أهل الحق، ولكن تأثرت نفوسهم هم بهذا الشك الذي أثاروه ليضلوا غيرهم، فضلوا، فهم حاولوا إضلال المؤمنين، فأكد الله سبحانه أنهم ما أضلوا إلا أنفسهم، وكان ضلالهم لأنفسهم من ناحيتين:

أ. إحداهما ما ذكرناها من أن إيرادهم للشك في الأمر الذي كانوا يعلمون الحق فيه قد أوجد فيهم هم أنفسهم حيرة بعد أن كانوا يعلمون، ومثل هذا مثل الكذوب الذي يكذب ويكرر كذبته حتى يعتقد صدقها.

ب. الثانية: أنهم كلما لجوا في الدعوة إلى الباطل الذي استمسكوا به بعدوا عن الإذعان للحق، فبمقدار ما كانوا يثيرون حول الحق من أكاذيب كانوا يبتعدون من الإيمان والإذعان، فيزدادون ضلالا فوق ضلالهم؛ وتلك حال نفسية يقيمون فيها ولا يشعرون بها.

3. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ وجه الله سبحانه وتعالى بهذه الآية النداء إلى أهل الكتاب يدعوهم إلى الإيمان مبينا لهم في صيغة استفهام إنكاري توبيخي أن دواعي الإيمان قائمة، ودواعى الكفر غير ثابتة، ولذا يستفهم عنها، إنكارا وتوبيخا، وابتدأهم بهذا النداء الكريم، إذ قال: ﴿يَا أَهْلَ﴾ وفي هذا النداء إشارة إلى أن ما أعطوه كان يقتضى أن يسارعوا إلى‏ الإيمان لا أن يكفروا، ثم وجه إليهم ذلك الاستفهام الإنكاري: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ أي لقد كفرتم بآيات الله وبيناته الدالة على صدق الرسالة المحمدية وعندكم علم بها، وأنتم تعلمون صدقها، فالآيات هنا هي آيات نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهى القرآن الكريم، وما اشتمل عليه، والاستفهام لإنكار هذا الواقع الذي وقع منهم وهو الكفر مع قيام دلائله.

4. ولقد أكد سبحانه وتعالى الاستنكار بقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أي وأنتم تعلمون صدق الرسول علما يقينيا كعلم المشاهدة والعيان، بما أخبر به في كتابكم، أو: وأنتم تشهدون كل يوم الدلائل الصادقة التي تثبت الرسالة المحمدية.

5. ولكن اليهود والنصارى الذين عاصروا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كانوا يكتفون بالكفر، بل كانوا يحاولون أن يلبسوا الحق بالباطل، ليفسدوا الإيمان على أهله؛ ولذا قال سبحانه: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ صدّر للنداء هنا بـ ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ زيادة في التوبيخ، وكل توبيخ لهم يعد قليلا مهما يتكاثر وتترادف عباراته، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار ما وقع منهم؛ ذلك بأنهم لبسوا وخلطوا الحق بالباطل، وكتموا الحق الذي يشهد لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصدق وهم يعلمون به، فكان الاستفهام للتوبيخ على هذا الذي وقع منهم؛ فقد وقع منهم أمران، وثبت فيهم أمر ثالث:

أ. أما الأمر الأول: فهو خلط الحق بالباطل، بأن حاولوا أن يزيفوا الحق، فألبسوه ثوب الباطل، وأظهروه بمظهره إمعانا منهم في التضليل، وقد فسر الكثيرون كلمة ﴿تَلْبِسُونَ﴾ بمعنى تخلطون، وهى في المؤدى كذلك، ولكن لا بد أن يلاحظ معنى الستر واللباس في الكلمة، ذلك بأنهم جاؤوا إلى الحق المبين فألبسوه ثوب الباطل ليستبهم؛ ولقد قال في هذا المعنى الأصفهاني: أصل اللبس ستر الشيء، ويقال ذلك في المعاني يقال لبست عليه أمره، قال: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام‏]، وقال: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ [آل عمران‏]

ب. الأمر الثاني: كتمان الحق الذي عندهم فهم يسترون الحق الذي يقدمه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بلباس الباطل الذي يخترعونه، ويكتمون الذي عندهم، ويشهد بصدق النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا أقصى ما يمكن أن يصل إليه الكفر بالحق، يكون عند الكافر دليل الحق، ومع ذلك ينكر الدليل الذي يقدمه صاحب الحق، ويحاول أن يزيفه بالباطل، وكل ذلك وهم يعلمون الحق في ذاته، ولكنهم أضلهم الله على علم.

6. اللهم اكتبنا فيمن هديتهم، وامنحنا التوفيق؛ وأنقذنا من الضلال، ووفقنا لإدراك الحق، والإذعان له، والإيمان به، إنك سميع الدعاء.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1269.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، المراد بطائفة من أهل الكتاب جماعة من رؤساء أديانهم.. وتنطبق هذه الآية كل الانطباق على المبشرين المسيحيين.. انهم يحاولون جهد المستطيع أن ينصّروا المسلم، فإن استعصى عليهم حاولوا تضليله وتشكيكه في الإسلام، مكتفين أن يكون لا دينيا.. ولكنهم بهذا يسيئون إلى أنفسهم، من حيث لا يشعرون، لأن ضعف الإسلام كدين يوجه الناس إلى الايمان بوجود مدبر حكيم وراء هذا الكون يعني انهزام جميع الأديان ورؤوسها الذين يسيرون في هذا الاتجاه، ومنهم القائمون على الديانة المسيحية.. وبهذا نجد تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾

2. لا أدري لماذا لم يتنبه المفسرون إلى هذا المعنى مع وضوحه، حيث قالوا: ان المراد بإضلال أهل الكتاب لأنفسهم هو عقابهم غدا على محاولتهم إضلال المسلمين، أما الشيخ محمد عبده والرازي فقد فسرا ضلالهم لأنفسهم بأن محاولة إضلال المؤمنين لم تجدهم نفعا، بل تعود عليهم بالخيبة والفشل، إذ ما من مسلم‏ يستجيب لهم، وينخدع بأضاليلهم.. والصحيح ما ذكرناه من ان ضعف الإسلام هو ضعف للاديان السماوية وأهلها.

3. على أية حال، فإن الإسلام بأصوله ومبادئه أقوى من أن تهزمه الديانة المسيحية وغيرها من الديانات، فلقد دخل في دين الإسلام أفواج من الوثنيين وأهل الكتاب عن رضى واقتناع، وفيهم العلماء والمتنورون، وما عرفنا واعيا واحدا ترك الإسلام بعد أن اعتنقه وعرف حقيقته، قال الكونت الفرنسي هنري دي كاستري في كتاب (الإسلام سوانح وخواطر) فصل (الإسلام في الجزائر)، ما نصه بالحرف: (لقد شاهدنا الإسلام يبرهن على قوته وحياته باكتساب الوثنيين في افريقيا، وتجنيدهم تحت راية القرآن.. وليس من أهل الإسلام من يمرق عنه إلى غيره.. ومن الصعب على أحد المسيحيين أن ينصّر مسلما، والسبب هو إعجاب المسلم كل الاعجاب بكونه من الموحدين)

4. بالمناسبة أشير إلى هذه النادرة الطريفة: في العشرة الثالثة من هذا القرن، أعني القرن العشرين ذهب جماعة من المبشرين المسيحيين إلى مدينة العمارة بالعراق؛ وجميع أهلها شيعة مسلمون، ذهبوا إلى هذه المدينة بقصد تحويل أهلها أو البعض منهم إلى النصرانية، وأنشأوا لهذه الغاية مدرسة ومستوصفا في المدينة، وبثوا الدعايات، وأقاموا الحفلات، وبذلوا الأموال الطائلة.. وكان خطيبهم يعتلي المنبر، ويعدد، ويردد معجزات السيد المسيح عليه السلام.. ولكن كلما ذكر معجزة صاح المسلمون بأعلى أصواتهم: صلوات الله على محمد وآل بيت محمد.. ولما تكرر ذلك مرات ومرات، ولم تجدهم الأموال والمدرسة والمستوصف نفعا يئسوا وعادوا من حيث أتوا خائبين خاسرين.

5. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾، المراد بآيات الله هنا الدلائل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصدق القرآن، وسمو تعاليم الإسلام: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، المراد بالحق هنا ما استبان لأهل الكتاب من صدق الإسلام ونبيه.. وقد كان بعض أهل الكتاب، وما زالوا يدسون ويكيدون للمسلمين ودينهم، وينسبون إلى نبيهم وإليهم والى قرآنهم الأكاذيب والافتراء.. من ذلك على سبيل المثال: (ان محمدا كان‏ يدعو الناس إلى عبادته في صورة وثن من ذهب، وانه كان يضرب بالطبل والزمر، وانه مختل الأعصاب مضطرب العقل) إلى غير هذه الألفاظ التي تدل على الحقد والضعة والخساسة، وقال الدكتور زكي نجيب محمود في كتاب (أيام في أمريكا): انه حضر في الولايات المتحدة تمثيلية كلها سخرية من القرآن، وازدراء للإسلام، واستخفاف وتحقير لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. هذه هي بلاد النور والحضارة، والتي تزعم انها تحمل شعار الدين، وتلقي قنابلها على المستضعفين باسم محاربة الإلحاد.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/84.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، الطائفة الجماعة من الناس، وكان الأصل فيه أن الناس وخاصة العرب كانوا أولا يعيشون شعوبا وقبائل بدويين يطوفون صيفا وشتاء بماشيتهم في طلب الماء والكلإ، وكانوا يطوفون وهم جماعة تحذرا من الغيلة والغارة فكان يقال لهم جماعة طائفة، ثم اقتصر على ذكر الوصف (الطائفة) للدلالة على الجماعة.

2. أما كون أهل الكتاب لا يضلون إلا أنفسهم فإن أول الفضائل الإنسانية الميل إلى الحق واتباعه فحب صرف الناس عن الحق إلى الباطل من جهة أنه من أحوال النفس وأخلاقها رذيلة نفسانية ـ وبئست الرذيلة ـ وإثم من آثامها ومعاصيها وبغيها بغير حق، وما ذا بعد الحق إلا الضلال فحبهم لإضلال المؤمنين وهم على الحق إضلال بعينه لأنفسهم من حيث لا يشعرون، وكذا لو تمكنوا من بعضهم بإلقاء الشبهات فأضلوه بذلك فإنما يضلون أولا أنفسهم‏ لأن الإنسان لا يفعل شيئا من خير أو شر إلا لنفسه كما قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾

3. أما ضلال من ضل بإضلالهم فليس بتأثير منهم بل هو بسوء فعال الضال الغاوي وشامة إرادته بإذن من الله، قال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾، وقال تعالى: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}، وقد مر شطر من الكلام في خواص الأعمال في الكلام على قوله تعالى: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾

4. هذا الذي ذكرناه من المعارف القرآنية التي يفيدها التوحيد الأفعالي الذي يتفرع على شمول حكم الربوبية والملك، وبه يوجه ما يفيده قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، من الحصر، أما ما ذكره المفسرون من التوجيه لمعنى الآية فلا يغني في الحصر المذكور طائلا ولذلك أغمضنا عن نقله.

5. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾، قد مر أن الكفر بآيات الله غير الكفر بالله تعالى، وأن الكفر بالله هو الالتزام بنفي التوحيد صريحا كالوثنية والدهرية، والكفر بآيات الله إنكار شيء من المعارف الإلهية بعد ورود البيان ووضوح الحق، وأهل الكتاب لا ينكرون أن للعالم إلها واحدا، وإنما ينكرون أمورا من الحقائق بينتها لهم الكتب السماوية المنزلة عليهم وعلى غيرهم كنبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكون عيسى عبدا لله ورسولا منه، وأن إبراهيم ليس بيهودي ولا نصراني، وأن يد الله مبسوطة، وأن الله غني، إلى غير ذلك، فأهل الكتاب في لسان القرآن كافرون بآيات الله غير كافرين بالله، ولا ينافيه قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، حيث نفى الإيمان عنهم صريحا، وليس إلا الكفر وذلك أن ذكر عدم تحريمهم للحرام وعدم تدينهم بدين الحق في الآية يشهد بأن المراد من توصيفهم بعدم الإيمان هو التوصيف بلازم الحال فلازم حالهم من الكفر بآيات الله عدم الإيمان بالله واليوم الآخر وإن لم يشعروا به، وليس بالكفر الصريح.

6. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ ـ والشهادة هو الحضور والعلم عن حس ـ دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله إنكارهم كون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو النبي الموعود الذي بشر به التوراة والإنجيل مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه، ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن لفظ الآيات عام شامل لجميع الآيات ولا وجه لتخصيصه بآيات النبوة بل المراد كفرهم بجميع الآيات الحقة والوجه في فساده ظاهر.

7. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ إلى آخر الآية، اللبس‏ بفتح اللام إلقاء الشبهة والتمويه أي تظهرون الحق في صورة الباطل.

8. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ دلالة أو تلويح على أن المراد باللبس والكتمان ما هو في المعارف الدينية غير ما يشاهد من الآيات كالآيات التي حرفوها أو كتموها أو فسروها بغير ما يراد منها.

9. هاتان الآيتان أعني قوله‏ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ ـ إلى قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ـ تتمة لقوله تعالى: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ﴾ الآية، وعلى هذا فعتاب الجميع بفعال البعض بنسبته إليهم من جهة اتحادهم في العنصر والنسل والصفة، ورضاء البعض بفعال البعض وهو كثير الورود في القرآن.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/255.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ جماعة منهم ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ ﴿لَوْ﴾ في هذا السياق تقوم مقام (أن) المصدرية، إلا أنها تدل على أنه مع الطمع فيه مما يؤيس منه ولذلك يقال أنها للتمني.

2. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ بما هم فيه من الضلالات ومن ضلالهم هذا الطمع الفارغ الذي يبعثهم عليه الحقد على المسلمين والحسد لهم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أنهم ما يضلون إلا أنفسهم؛ لفرط خذلانهم وعمى بصائرهم.

3. لسيد قطب هنا كلام جيّد في دس أهل الكتاب، منه قوله: (دسوا ولبّسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله، ودسوا ولبّسوا في الحديث النبوي، حتى قيض الله رجاله الذين حققوه وحرروه، إلا ما ندّ عن الجهد الإنساني المحدود، ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيهاً لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق، ودسوا ولبسوا في الرجال ـ أيضاً ـ فالمئات والألوف كانوا دسيسة على التراث الإسلامي..)، وقد يسر الله لهذا الدين من يدافع عنه كما في الحديث الذي رواه الإمام زيد بن علي عليهما السلام في (مجموعه): عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)، كما حفظ الله دينه بحفظ القرآن الكريم الذي ﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9] وجعله الله حاكماً بين الناس، ووصاهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتمسك به، وبأهل بيته لئلا يضلوا، وروى الإمام أبو طالب عليه السلام في (أماليه) بإسناده عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (إن عند كل بدعة تكون بعدي يكاد بها الإيمان، ولياً من أهل بيتي موكَلاً يذبّ عنه، يعلن الحق وينوِّرُهُ، ويردّ كيد الكائدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على الله)، وهو موافق لـ (حديث الثقلين) وكذلك (حديث السفينة) و(حديث النجوم) وقد بسطت في ذلك في (تحرير الأفكار)

4. الحصر في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ إن كان حقيقياً مطلقاً، فمعناه: أن هذه الطائفة لا يقبل منها أحد لا من المسلمين ولا غيرهم؛ لأنها لا يرغب أحد في موافقتها لحقارتها وهوانها، وسوء ظن الناس فيها، وإن كان الحصر إضافياً، فالمعنى: ما يضلون إلا أنفسهم لا إياكم، وهذا أقرب، والله أعلم.

5. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ ﴿لم﴾ سؤال عن الباعث على الكفر، وهل هو إلا الحسد والكبر وحب الرئاسة، وهذه معايب يستحي العاقل أن تعرف فيه، وكفرهم بآيات الله منه الكفر بالقرآن الكريم وإنكار أنه من الله، وهم يشهدون تلاوته، ويشهدون تعجيز العرب عن الاتيان بسورة من مثله، فهي جرأة قبيحة أن يحضروا الآيات التي جاء بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويشاهدوها، ثم يكفروا بها، فالحجة عليهم أعظم ممن بلغته الآيات ولم يشهد حين جاء بها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن المشاهد علمه ضروري، أما الغائب فقد يحتاج إلى الإستدلال على صدق الأخبار.

6. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ﴾ ألِلْحسد والكبر وحب الرئاسة تتورطون في هذه الجرائم، فأين عقولكم!؟ ولبس الحق بالباطل: خلط الحق بالباطل ومثال ذلك: أن يعترفوا بشيء مما في (التوراة) مخلوطاً بغيره مما ينسبونه إليها وليس منها، وكتمانهم للحق مثل: أن يكتموا شيئاً في (التوراة) من أوصاف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو من غيرها كرجم الزاني ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه موجود وتعلمون إثم ذلك.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/481.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وذلك من خلال تمنياتهم التبشيرية بأفكارهم التضليلية وأساليبهم الملوّنة، ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ وذلك من خلال ما يملكونه من وسائل التضليل الفكري بالشبهات المتنوعة، التي تثير في عقولكم الريبة، وتحرك الشكّ في عملية استغلال للطهارة الذاتية المتمثلة في أخلاقكم الطبية التي قد تشعر بالثقة بالآخرين، فتستسلم لها في حركة العلاقة الإنسانية، فتقع تحت تأثير مكائدهم الشيطانية من دون شعور، فإن الطيبة قد تصنع للإنسان الغفلة عن تعقيدات الواقع الذاتي لهذا الشخص أو ذاك، أو لهذا الاتجاه أو ذاك، ولهذا لا بد للإنسان المؤمن من أن يكون الإنسان الواعي الذي يدرس‏ الواقع في ساحته، من خلال طبيعة الظروف الموضوعية المتصلة بالأشخاص والأحداث والأوضاع والأشياء، حتى يعرف كيف يحرّك مواقعه ومواقفه في علاقته بالناس وبالحياة في عالم الصراع بين الأفكار أو بين الناس.

2. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لأنهم يستغرقون في تأكيد خطتهم في إضلال الآخرين بالأوهام التي يختلقونها، والأكاذيب التي يحركونها، والأوضاع المنحرفة التي يصنعونها.. فتتحول بفعل الحالة الاستغراقية إلى قناعات ذاتية تجعلهم يستغرقون في الضلال في تأثيراته اللاشعورية، ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ تماما كالكثيرين من الناس الذين يعيشون الغفلة عن ذواتهم عندما يلتقون ببعض الأشياء التي تترك آثارها في نفوسهم بغير اختيار، وذلك هو قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ التي أنزلها على محمد في القرآن‏ ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ من خلال ثقافتكم التوراتية أو الإنجيلية التي تؤكد صدق النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في دعوته، وذلك من خلال البشارة بنبوته، ومن خلال الحجج الكثيرة الدالة على ذلك التي استمعتم إليها من رسول الله.

3. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ وتلعبون على الموقف فتقومون ببعض الأساليب التي قد تخلط الحق بالباطل، للإيحاء بالاستبعاد عن الالتزام بالإسلام، وذلك كما في تحريفكم التوراة والإنجيل، فتقدمونهما إلى الناس باعتبار أنّهما من وحي الله، ولكن من دون تقديم الصبغة الأصلية للآية هنا أو هناك، وكما في تقديم التوراة أو الإنجيل مع تحريف الكلم عن مواضعه من حيث وضع الكلمة في غير موضعها، أو إبعاد الكلام عن معناه بالإيحاء بأن المراد به معنى آخر، أو بإخفاء بعض الآيات المبشرة بالنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإظهار أن التوراة خالية من ذلك، أو بالدخول في الإسلام صدر النهار والخروج منه آخره، لإيجاد حالة من الاهتزاز العقيدي في نفوس المسلمين، لما يثيره ذلك في نفوسهم من الشك، باعتبار دلالته على أنهم اطلعوا على ما يوجب اعتقادهم بالبطلان، مع أنهم كانوا مقبلين على الإسلام بإخلاص، أو غير ذلك‏ ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الذي تعرفونه فلا تبينونه للناس فأنتم على علم بأنه الحق من ربكم، وقد أراد الله من كل عالم بالكتاب أن يبينه للناس، لأن الحق أمانة الله عندهم، بحيث تكون عملية الإخفاء والكتمان خيانة للأمانة.

4. لقد وقف المعقّدون الحاقدون من أهل الكتاب موقف الحقد والعداوة من الإسلام والمسلمين في كيدهم المستمر للإسلام من خلال ما يثيرونه من أفكار الضلال وأساليب التضليل، وذلك من أجل أن ينحرفوا بالمسلمين عن الخط المستقيم، انطلاقا من العقدة، لا من القناعة المرتكزة على وضوح الرؤية، وبذلك كانت القضية تمثل لديهم أمنية، فهم يودون للمسلمين الضلال، فيتحيّنون الفرصة لإثارة التشكيك لديهم في شؤون العقيدة والشريعة والحياة، وليست القضيّة لديهم أنهم يريدون تحويلهم إلى صفوفهم، بل كل ما هناك أنهم يضلونهم عن طريقهم الحق.

5. يؤكد القرآن الكريم بأن هذه المحاولات لن تنجح ولن تصل إلى أهدافها الشيطانية، بل سترتدّ ضلالا على أصحابها، لأنهم كلما أمعنوا في أساليبهم تلك، كلّما ابتعدوا بأنفسهم عن خطّ الهدى، فإن السائر على خط الضلال والعامل على إضلال الآخرين، لا بدّ له من العمل على الامتداد بعيدا في أجواء الضلال، ومن ابتداع أفكار وأساليب متنوعة للضلال بحيث يختزنها في أعماقه، ويؤمن بها في فكره، ويعيشها في حياته وخطواته، الأمر الذي يجعلهم يمتدون في الضلال والانحراف من ناحية ذاتية.. وبذلك يضلّون أنفسهم، ولا يضلّون المؤمنين الواعين الذين يرصدون خطوات الأعداء جيّدا فيتنبهون لما يحاولونه من إبعادهم عن دينهم الحق.. بينما يكون أولئك مندمجين في اللعبة، غارقين في الحقد، فلا يشعرون بنتائجها الوخيمة عليهم.

6. ثم إنّ الله يخاطب أهل الكتاب الذين أنكروا رسالة النبّي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيواجههم بآياته البينات التي يشهدونها ويرونها رأي العين، ويعيشونها في أفكارهم بعمق، ليتساءل بتأنيب وإنكار وتوبيخ: لماذا هذا الكفر بالحقائق الواضحة التي لا لبس فيها ولا ارتياب؟ كيف يمكن للإنسان أن يكفر بما يشهد به وجدانه ثم يؤكده مجددا، عندما يقف وقفة صراحة أمام الوجدان؟ وهذا فيه إشارة إلى الأساليب التي كانوا يمارسونها ضد الرسول، فهم يعرفون الحق من خلال ما تصرّح به التوراة من صدق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكنهم يكتمونه عن النّاس، فإذا ظهر للنّاس شيء من ذلك أو أقبلوا عليه، حاولوا أن يضيفوا إليه بعض الباطل من أجل أن يجعلوا القضية في موقع الالتباس والشك لدى البسطاء من النّاس الذين لا يستطيعون في كثير من الحالات تمييز الحق من الباطل في مواقع الشبهات.

7. لاحظنا في خطوات أهل الكتاب من اليهود والنصارى في حركة التبشير التي قادها المبشرون والمستشرقون الذين ساروا في الكتائب الأولى للاستعمار، أنهم حاولوا أن يثيروا الأكاذيب والافتراءات ضد الإسلام ورسوله، وعملوا على تشوية وجه الصورة الحقيقية بما يضيفونه من شبهات تبعث الريب في ما لا ريب فيه، وتثير الشك في ما لا يترك مجالا للشك، وما زالت الإثارة الحاقدة تتنوّع وتتلوّن بأساليب مختلفة، من خلال ما يحققونه من نصوص، وما يفسرونه من تفسيرات، وما يطلقونه من أبحاث ودراسات يلبسون فيها الحق بالباطل معتمدين على الأوضاع السلبيّة التي يمرّ بها المسلمون، وعلى الثقة العلمية التي يحصلون عليها من خلال أكذوبة الحياد الفكري، والموضوعية العلمية التي يتظاهرون بها بإزاء الضعف النفسي والفكري والروحي‏ لدى الجمهرة المثقّفة والمتعلمة من المسلمين، مما يجعلهم لا يلتفتون إلى الخديعة العلمية، في ما ينطلق به هؤلاء من بعض قضايا الحق في الإسلام التي لا تمس الجوهر، بينما يعملون ـ في مقابل ذلك ـ على تشوية القضايا الأصيلة الحيّة، بكثير من ألوان الباطل وأساليبه.

8. ربما كانت هذه الآية ـ من خلال ما توحيه إلينا ـ تمثل أسلوبا من أساليب التوعية القرآنية التي تفتح أعين المسلمين على ما حولهم من خطوات الضلال ومؤامرات التضليل، وعلى من حولهم من فئات الضلال التي تختبئ وراء الحكم تارة، وخلف المراكز العلمية أخرى، وفي إغراءات المال والشهوات والأطماع ثالثة، ليخرجوا من جوّ السذاجة في تعاملهم مع الآخرين، فيكون الحذر هو الذي يطبع علاقاتهم في ما يسمعونه ويتحركون فيه من علاقات ومعاملات ومشاريع للثقافة وللحياة، فإذا تمّ لهم ذلك أمكنهم أن يحققوا الحماية لأنفسهم من كيد الكائدين وحقد الحاقدين، فإن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/94.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ﴾ سعى أعداء الإسلام، وعلى الأخصّ اليهود، كما جاء في سبب النزول أن‏ يباعدوا بين المسلمين والإسلام، ولم يتوانوا في سبيل ذلك في بذل كلّ جهد، حتّى أنّهم طمعوا في إغراء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المقرّبين لعلّهم يستطيعون صرفهم عن الإسلام، ولا شكّ أنّهم لو نجحوا في التأثير على عدد منهم، أو حتّى على فرد واحد منهم، لكان ذلك ضربة شديدة على الإسلام تمهّد الطريق لتضليل الآخرين أيضا.

2. هذه الآية تكشف خطّة الأعداء، وتنذرهم بالكفّ عن محاولاتهم العقيمة استنادا إلى التربية التي نشأ عليها هذا الفريق من المسلمين في مدرسة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بحيث لا يمكن أن يكون هناك أيّ احتمال لارتدادهم، إنّ هؤلاء قد اعتنقوا الإسلام بكلّ وجودهم، ولذلك فإنّهم يعشقون هذه المدرسة الإنسانية بمجامع قلوبهم ويؤمنون بها، وبناء على ذلك لا سبيل للأعداء إلى تضليلهم، بل أنّهم إنّما يضلّون أنفسهم.

3. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ وذلك لأنّهم بإلقاء الشبهات حول الإسلام وعلى رسول الإسلام واتّهامهما بشتّى التهم، إنّما يربّون في أنفسهم روح سوء الظن، وبعبارة أوضح: إن العيّاب الذي يتصيّد الهفوات يعمى عن رؤية نقاط القوّة، أو بسبب تعصّبه وعناده يرى النقاط المضيئة الإيجابية نقاطا مظلمة سلبية، وكلّما ازداد إصرارا على هذا، إزداد بعدا عن الحقّ.

4. لعلّ تعبير ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ إشارة إلى هذه الحالة النفسية، وهي أنّ الإنسان يقع دون وعي منه تحت تأثير أقواله هو أيضا، وفي الوقت الذي يحاول فيه بالسفسطة والكذب والافتراء أن يضلّ الآخرين، لا يكون هو نفسه بمنأى عن التأثير بأكاذيبه، فتروح هذه الاختلافات تؤثّر بالتدريج في روحه وتتمكّن فيه بعد فترة وجيزة بصورة عقيدة راسخة، فيصدّقها ويضلّ نفسه بها.

5. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ تعقيبا للحديث عن الأعمال التخريبية لأهل الكتاب الواردة في الآية السابقة، توجّه هاتان الآيتان الخطاب لأهل الكتاب وتلومهم على كتمانهم للحقائق وعدم التسليم لها، فتقول: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾، والسؤال هنا أيضا موجه إلى أهل الكتاب عمّا يدعوهم إلى العناد واللجاجة والإصرار عليهما بعد أن قرؤوا علامات نبي الإسلام في التوراة والإنجيل ويعلمون ما فيهما، فلما ذا ينكرونها؟

6. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ مرّة أخرى يستنكر القرآن قيامهم بالخلط بين الحقّ والباطل، وإخفاءهم الحقّ مع علمهم به، فهم على علمهم بالأمارات الواردة في التوراة والإنجيل عن رسول الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم يخفونها.. إنّه يوبّخهم أوّلا على انحرافهم عن طريق الحقّ مع علمهم به، ثمّ يوبّخهم في الآية الثانية على تضليلهم الآخرين‏.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/550.

36. أهل الكتاب والإيمان المخادع

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈36⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [آل عمران: 72 ـ 74]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لعلهم يتوبون(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٨٠.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ﴾ الآية، كانوا يكونون معهم أول النهار ويجالسونهم ويكلمونهم، فإذا أمسوا وحضرت الصلاة كفروا به وتركوه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لعلهم ينقلبون عن دينهم(2).

3. روي أنّه قال: قال عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف؛ بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل الله على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم؛ لعلهم يصنعون كما نصنع، فيرجعون عن دينهم، فأنزل الله فيهم: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ إلى قوله: ﴿والله وَاسِعٌ عَلِيم﴾(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ﴾ الآية: إن طائفة من اليهود قالت: إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم، لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب، وهم أعلم منا، لعلهم ينقلبون عن دينهم(4).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٢٥١.

(2) ابن جرير: ٥/٤٩٩.

(3) ابن جرير: ٥/٤٩٣.

(4) ابن جرير: ٥/٤٩٧.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ يعني: الوافر(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٨٣.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قالت اليهود بعضهم لبعض: آمنوا معهم بما يقولون أول النهار، وارتدوا آخره، لعلهم يرجعون معكم، فاطلع الله على سرهم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ﴾ الآية(1).

2. روي أنّه قال: كانت اليهود تقول أحبارها للذين من دينهم: ائتوا محمدا وأصحابه أول النهار، فقولوا: نحن على دينكم، فإذا كان بالعشي فأتوهم، فقولوا لهم: إنا كفرنا بدينكم، ونحن على ديننا الأول؛ إنا قد سألنا علماءنا، فأخبرونا أنكم لستم على شيء، وقالوا: لعل المسلمين يرجعون إلى دينكم فيكفرون بمحمد، ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ فأنزل الله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾(2).

__________

(1) سعيد بن منصور: ٥٠٢.

(2) ابن المنذر: ١/٢٥٤.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: إن اليهود قالوا: إنا لنحاج عند ربنا من خالفنا في ديننا(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٩٣.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ يهود تقوله، صلت مع محمد صلاة الفجر، وكفروا آخر النهار مكرا منهم؛ ليروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد إذ كانوا اتبعوه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ يرجعون عن دينهم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ حسدا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادة أن يتابعوا على دينهم(3).

4. روي أنّه قال: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ النبوة يختص بها من يشاء(4).

5. روي أنّه قال: هذا في شأن القبلة؛ لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود لمخالفتهم، فقال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة، وصلوا إليها أول النهار، ثم اكفروا بالكعبة آخر النهار، وارجعوا إلى قبلتكم الصخرة؛ لعلهم يقولون: هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم منا، فربما يرجعون إلى قبلتنا، فحذر الله تعالى نبيه مكر هؤلاء، وأطلعه على سرهم، وأنزل: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾(5).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٩٧.

(2) ابن جرير: ٥/٤٩٩.

(3) ابن جرير: ٥/٥٠١.

(4) ابن جرير: ٥/٥٠٧.

(5) الواحدي في أسباب نزول القرآن،/٢٣٣.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ رحمته: الإسلام، يختص بها من يشاء(1).

2. روي أنّه قال: تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عرينة، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا به في آخر النهار، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمدا ليس بذلك، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم، وقالو: إنهم أهل كتاب، وهم أعلم به منا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبر به نبيه محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين(2).

3. روي أنّه قال: بايع اليهود رجالا من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم بقيمة أموالهم، فقالوا: ليس لكم علينا حق، ولا عندنا قضاء لكم، تركتم الدين الذي كنتم عليه، وانقطع العهد بيننا وبينكم، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، فكذبهم الله تعالى، فقال: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٨٣.

(2) الواحدي في أسباب نزول القرآن،/٢٣٣.

(3) تفسير الثعلبي: ٣/٩٧.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قدم المدينة وهو يصلي نحو بيت المقدس، أعجب ذلك اليهود، فلما صرفه الله عن بيت المقدس إلى البيت الحرام وجدت اليهود من ذلك، وكان صرف القبلة صلاة الظهر، فقالوا: صلى محمد الغداة واستقبل قبلتنا، فآمنوا بالذي انزل على محمد وجه النهار، واكفروا آخره، يعنون القبلة حين استقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المسجد الحرام: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ إلى قبلتنا(1).

__________

(1) تفسير القمّي: 1/105.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾، فقال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضا بدينهم أول النهار، واكفروا آخره؛ فإنه أجدر أن يصدقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لعلهم يدعون دينهم، ويرجعون إلى الذي أنتم عليه(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ هذا قول بعضهم لبعض(3).

4. روي أنّه قال: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ يقول: لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم، وبعث نبيا كنبيكم؛ حسدتموه على ذلك، ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾(4).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/١٢٣.

(2) ابن جرير: ٥/٤٩٩.

(3) ابن جرير: ٥/٥٠٠.

(4) ابن جرير: ٥/٥٠٣.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾ معناه أوله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ معناه ولا تصدّقوا(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لعلهم يشكون(1).

2. روي أنّه قال: قال الله لمحمد: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ يا أمة محمد، ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ يقول اليهود: فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة، حتى أنزل علينا المن والسلوى، فإن الذي أعطيتكم أفضل، فقولوا: ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٩٩.

(2) ابن جرير: ٥/٥٠٢.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يختص بالنبوة من يشاء(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥٠٧.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عن محمد، وعما جاء به(1).

2. روي أنّه قال: كتبت يهود خيبر إلى يهود المدينة: أن آمنوا بمحمد أول النهار، واكفروا آخره؛ أي: اجحدوا آخره، ولبسوا على ضعفة أصحابه، حتى تشككوهم في دينهم، فإنهم لا علم لهم ولا دراسة يدرسونها(2).

__________

(1) تفسير يحيى بن سلام كما في تفسير ابن أبي زَمَنين: ١/٢٩٥.

(2) تفسير ابن أبي زَمَنين: ١/٢٩٥.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف اليهوديان لسفلة اليهود: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني: صدقوا بالقرآن، ﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾ أول النهار، يعني: صلاة الغداة، وإذا كان العشي قولوا لهم: نظرنا في التوراة، فإذا النعت الذي في التوراة ليس بنعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذلك قوله سبحانه: ﴿وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ يعني: صلاة العصر، فلبسوا عليهم دينهم؛ لعلهم يشكون في دينهم، فذلك قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، يعني: لكى يرجعوا عن دينهم إلى دينكم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾ أول النهار، يعني: صلاة الغداة، ﴿وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ يعني: صلاة العصر(1).

3. روي أنّه قال: وقالوا لهم: لا تخبروهم بأمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيحاجوكم، يعني: فيخاصموكم عند ربكم، قالوا ذلك حسدا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن تكون النبوة في غيرهم؛ فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾(1).

4. روي أنّه قال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿إِنَّ الْفَضْلَ﴾ يعني: الإسلام والنبوة ﴿بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ والله وَاسِعٌ﴾ لذلك، ﴿عَلِيمٌ﴾ بمن يؤتيه الفضل(1).

5. روي أنّه قال: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ﴾ يعني: بتوبته ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ فاختص الله تعالى به المؤمنين(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٨٤.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ هذا الأمر الذي أنتم عليه ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ قال بعضهم لبعض: لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ﴾ ليخاصموكم به عند ربكم، فتكون لهم حجة عليكم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ القرآن، والإسلام(2).

3. روي أنّه قال: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾ الإسلام(3).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥٠٤.

(2) ابن جرير: ٥/٥٠٧.

(3) ابن جرير: ٥/٥٠٦.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ لا تؤمنوا إلا لمن آمن بدينكم، من خالفه فلا تؤمنوا به(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥٠١.

المرتضى:

قال الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ): ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ هذا قول من أهل الكتاب، أهل الكفر والارتياب، يأمر بذلك بعضهم بعضا: أن آمنوا وجه النهار واكفروا آخره؛ استهزاء بالدين، وجراءة على المؤمنين؛ أراد بذلك: أن يراهم الناس والجهال، وأهل الكفر والضلال يؤمنون به حينا ويقبلونه، ويكفرون به وقتا ويجحدونه، ويوهمون بذلك أنما هم عليه باطل، وأنهم بعد أن دخلوا في الإيمان خرجوا منه؛ تمردا وعصيانا، وتنهيدا لمن لا دين له ولا حقيقة معه على الكفر، قال بعض المفسرين: إنهم كانوا يؤمنون ضحى، ويكفرون عشيا(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/165.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ وجوه:

أ. قيل: قوله: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ يعنى: بأول أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا النهار نفسه، وذلك ما روي في القصّة أن بعضهم كان يقول لبعض: إن محمدا كان على قبلتنا وقبلته بيت المقدس، ويصلي إليها، فآمنوا أنتم به، ﴿وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ يعني: آخر أمره، يعنون قبلة: البيت الحرام الكعبة، أي: اكفروا بقبلته التي يصلى إليها الآن، وهي‏ الكعبة.

ب. وقيل: إن بعضهم يقول لبعض: آمنوا بمحمد في أول أمره؛ حتى يؤمن به جميع العرب، ثمّ اكفروا به في آخر أمره؛ فيقولون لنا: لم كفرتم به ورجعتم عن دينه؟ فنقول لهم: إنا وجدنا في التوراة نعت نبي وصفته، فحسبنا أنه هذا؛ فآمنا به، ثم نظرنا فإذا ذلك لم يكن نعته ولا صفته؛ فرجعنا عن دينه وكفرنا به؛ حتى يرجعوا جميعا عن دينه؛ فذلك قوله: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾

ج. وقيل ـ أيضا ـ: إن رؤوس اليهود قالوا للسّفلة: صدقوا بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وجه النهار، يعنى: أول النهار، يعنى: صلاة الغداة، فإذا كان صلاة العصر اكفروا به، فقولوا لهم: إن قبلة بيت المقدس كانت حقّا؛ فماذا بعد الحق إلا الضلال!؟ ليرجعوا عن‏ دينهم‏.

د. ويحتمل قوله: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ أي: أظهروا لهم الإسلام والموافقة، ولا تؤمنوا به في الحقيقة؛ يدل على ذلك قوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ في الحقيقة، أي: آمنوا به ظاهرا، وأمّا في الحقيقة فلا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم.

2. لا ندرى كيف كانت القصة؟ ولكن فيه دلالة رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لما ذكرنا أنه كان يخبرهم بما يضمرون في أنفسهم ويسرون، فذلك من اطلاع الله إياه.

3. قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: حقيقة النهار، ثم يتوجه وجهين:

أحدهما: أمر القبلة خاصّة، فيريدون بذلك المحاجة بالموافقة في أحد الوقتين عليهم فيما خالفوا في ذلك، وإن علموا أن ذلك حق؛ ليشبهوا على الضعفة أنه لا تزال تنتقل من دين إلى دين، ومذهب إلى مذهب، وأن من لزم الدين الأول والمذهب الأول أحق للموافقة فيه مرة، ولما لا يؤمن البقاء على الثاني، وهو كقوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 142]؛ وعلى ذلك أنكروا جواز نسخ الشرائع سفها منهم‏؛ إذ ليس معنى التناسخ إلا اختلاف العبادات، لا اختلاف الأوقات، وذلك المعنى قائم، وما التناسخ إلا ما عليه تناسخ الأحوال في كل، على أن العبادات فيها المصلحة، ومن تعبّدهم عالم بالذي به الأصلح في كل وقت، فله ذلك.

الثاني: أن يكون الذي أوّل النهار لعله أنزل بما فيه وصف رسلهم وكتبهم من الهدى والبيان، أو وصف أوائلهم في رعاية الحق، وتعاهد الدين؛ فأمروا بالإيمان بذلك؛ ليروا قومهم أن قد ثبت وصف من تقدم بما ذكر، وأنهم على ذلك، ومنه جاء فيما أخبر من تبديل من بدّل من أوائلهم وتحريفهم، إلا إن كانوا كذلك؛ ليلزموهم التقليد في الأمرين وحقه أنه إذا عرف حال الأوائل لا يهم؛ فعلى ذلك أمر الآخر ومن به كانت المعرفة ألزمهم التصديق في الأمرين جميعا، ومع ما أن في القرآن وصفا بتصديق كتبهم، فحقهم فيما هووا مقابلة كتب أنبيائهم؛ لتكون هي القاضية والمثبتة للحق أنه على ما ادعوا أو ادّعى عليهم، وقد ظهر تعنتهم بمظاهرتهم للمنكرين لكتبهم، المكذبين برسلهم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد تصديقه إياهم وشهادة كتابه بذلك؛ ليعلم المتأمل عنادهم بغيا وحسدا، كما أخبر الله تعالى عنهم.

ب. الوجه الآخر من تأويل الآية: أن يراد بما أخبر عنهم أول أمره وآخره، لا حقيقة بياض النهار، ثم ذلك يخرج على وجهين:

أ. أحدهما: أن يكون دعاه في أول الأمر إلى التوحيد، والإيمان بالكتب المتقدمة، وهم يدعون إلى ذلك؛ وعلى ذلك كانوا قبل ظهور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وآخر ذلك بما تبين من تحريفهم وتعنتهم، لما أخذهم البغي وغلبهم الحسد، وخافوا على رياستهم، وأشفقوا على ملكهم، وجزاء الشح، وإظهار كثير مما قد كتم أوائلهم؛ فكذبوه في هذا.

ب. ويحتمل أن يكون ذلك من أئمتهم اصطلاح على الإيمان بذلك؛ حتى يعلم محلهم وحرصهم على قبول الحق، ثم يكفرون به؛ ليكون الأوّل ذريعة لهم في الثاني؛ أنهم إذ ظنوا أنه على الحق أذعنوا له؛ فلما تبين لهم باطله رجعوا عن ذلك، فأطلع الله نبيه عليه السلام على ما أسرّوا؛ ليصير ما ظنّوا أنه حجة لهم حجة عليهم، وجملة ذلك: أنا لا ندري ما السبب الذي كان منهم القول وفيما كان، ولكنه قد بان أن ذلك كان منهم إسرارا أطلع الله نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم عليه؛ ليكون حجة له، وزجرا لهم عن كل أنواع التبديل في شأن رسوله ـ عليه أفضل الصلوات ـ بما يهتك عليهم؛ فيفتضحون‏ عند من راموا ستر أمرهم، وتسقط رياستهم.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾:

أ. قيل: هو على التقديم والتأخير؛ قوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ ـ كان على أثر قوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ يقول بعضهم لبعض: ما أنزل الله كتابا مثل كتابكم، ولا بعث نبيّا مثل نبيّكم؛ قالوا ذلك حسدا منهم‏.

ب. وقيل: إن هذا قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للمسلمين: لما نزل قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ ـ قال لهم: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ يقول: دين الله الإسلام هو الدّين‏ ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ يقول: لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من دين الإسلام، والكتاب الذي فيه الحلال والحرام

ج. ويحتمل أن يكون قال: لن يؤتى أحد من الأنبياء قبلي من الآيات مثل ما أوتيت أنا؛ لأن آياتهم كانت كلها حسّية يفهمها كل أحد، وآيات رسول الله كانت حسّية وعقلية لا يفهمها إلا الخواصّ من الناس وخيرتهم‏.

5. قوله تعالى: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ راجع إلى قوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ فـ ﴿يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ أنهم قد آمنوا به مرة وأقروا له؛ وهو كقوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: 76]: أنهم كانوا يظهرون لهم الإسلام والإيمان، ثم إذا خلوا قالوا: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14]؛ فقال بعضهم لبعض: لا تظهروا لهم الإسلام؛ فيحاجوكم عند ربكم في الآخرة!؟.

6. ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ هذه الآية، ليس له أن يؤتى أحدا فضلا، ولا له أن يختص أحدا برسالة، إلا من هو مستحق لذلك مستوجب له؛ فذلك الفضل والاختصاص إنما استوجبوا بأنفسهم لا بالله، على قولهم، ففي الحقيقة الفضل عندهم كان بيدهم لا بيد الله، فأكذبهم‏ الله بذلك؛ إذ الفضل عند الخلق هو فعل ما ليس عليه لا ما عليه؛ فنعوذ بالله من السرف في القول، والزيغ عن الرشد.

7. قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل أن يكون في السرّ، وإن أعطيتم لهم الظاهر.

ب. ويحتمل: أن يكون بعد ما أظهرتم اكفروا آخره.

ج. ويحتمل: لا تؤمنوا بما جاء به، إلا لأجل من تبع دينكم؛ فيكون عندهم قدوة، يتقرر عندهم ـ بالذي فعلتم ـ أنكم أهل الحق؛ فيتبعكم كيفما تصيرون إليه.

د. ويحتمل: ﴿لَا تُؤْمِنُوا﴾ لا تصدّقوا فيما يخبركم عن أوائلكم، ﴿إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ على المنع عن تصديق الرسول فيما يخبرهم من التحريف والتبديل

8. قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: البيان هو ما بين الله؛ إذ هو الحق، وكل ما فيه الصرف عنه فهو تلبيس وتمويه.

ب. ويحتمل: أن يكون الدين هو الذي دعا إليه بما أوضحه وأنار برهانه، لا الدين الذي دعا إليه أولئك المنحرفون‏.

9. قوله تعالى: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ يحتمل وجوها:

أ. أي: لن يؤتى ـ والله أعلم ـ من الكتاب والحجج.

ب. ويحتمل أن يكون صلة قوله: ﴿إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ وهو دينه، أو ما دعا إليه، ثم يقول: ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ بمعنى: لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أهل الإسلام من الحجج والبينات، التي توضح أن الحق في أيديكم.

10. قوله تعالى: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ يحتمل وجوها:

أ. إن كان هو صلة الأوّل، ف (أو) بمعنى: (ليحاجوكم)، أو: (حتى يحاجوكم) إذا آمنتم بما دعوا إليه؛ فيحاجوكم بذلك عند ربكم، أي: إنما آمنتم بالذي جاء لكم من عند ربكم؛ فيصير ذلك لهم حجة عليكم.

ب. وإن كان صلة الثاني، فهو على أنهم لا يؤتون مثل ما أوتيتم من الحجج؛ ليحاجوكم بها عند ربّكم في أن الذي هو عليه حق؛ لما قد ظهر تعنتهم وتحريفهم ـ والله أعلم ـ ثم بين السبب الذي هو نيل كل خير وفضل، والله أعلم‏.

11. قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ وقوله: ﴿وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ ينقض على المعتزلة قولهم بوجهين:

أ. أحدهما: أنهم لا يرون لله أن يختص أحدا ـ بشيء فيه صلاح ـ غيره صرفه عن ذلك الغير، بل إن فعل ذلك كان محابيا عندهم بخيلا، بل في الابتداء لم يكن له ذلك؛ وإنما يعطى بالاستحقاق، وذلك حق يلزمه، وقد ذكر بحرف الامتنان، وعندهم ـ أيضا ـ: ليس له ألا يشاء أو لا يعطى؛ فلا معنى لذكره الذي ذكر مع ما صار ذلك، بيد غيره إذ يلزم ذلك

ب. الثاني: أن الذي يحق عليه ـ أن يبذل كلا الأصلح في الدين، وأنه إن قصر أحدا عن ذلك كان جائزا، ثم الأفضل للعبد شيء مما أعطى حتى يعطيه فيما أمره؛ فيكون الفضل في الحقيقة في يد العبد: يؤتى نفسه إن شاء ويمنع إن شاء.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/403.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾، هذه حيلة علمها الله من أهل الكتاب فأخبر بها المؤمنين لئلا يقبلوا بنفاقهم، لأنهم قالوا ـ عليهم لعنة الله ـ: أعطوا المسلمين الرضى بدينهم في أول النهار ثم أكفروا في آخر النهار، ليقول الناس قد تبين لليهود والنصارى سبب أوجب الوقوف.

2. معنى ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾: فهذا من التقديم والتأخير، والمعنى في ذلك: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، لا يؤتى أحد ولا يعطى مثل ما أعطيتم من العلم، أو يحاجوكم في ربكم، ـ ولكن عند تقوم مقام في ـ وهذا قول اليهود والنصارى إلا إنهم تواصوا أن لا يؤمنوا، فيكون غيرهم في العلم مثلهم حسداً للمؤمنين، فرد الله عليهم سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ ولكن الآية على ما ذكرنا من التقديم والتأخير.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 261.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ أي لا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم والقائل بهذا اليهود قال بعضهم لبعض، وفي سبب نهيهم أن يؤمنوا إلا لمن تبع دينهم لئلا يعترفوا به فيلزمهم العمل بدينه لإقرارهم بصحته ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ أيها المسلمون، فيه قولان أحدهما أن في الكلام حذفاً وتقديره قل إن الهدى هدى الله أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيها المسلمون فحذف لا من الكلام بدليل الخطاب كما قال ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: 176]، أي لئلا تضلوا وهذا معنى الكلام، ويحتمل أن يكون معنى الكلام قل إن الهدى هدى الله فلا تجحدوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ على طريقة التعبد كما يقال لا تلقاه أو تقوم الساعة.

2. ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ الرحمة في هذا الموضع النبوة والإمامة ويجوز أن تكون الإسلام والنبوة فليست مستحقة على جزاء عمل أي تفضل من الله عز وجل.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/145.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: معناه لا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم.

ب. الثاني: لا تعترفوا بالحق إلا لمن تبع دينكم.

2. اختلف في تأويل ذلك على قولين:

أ. أحدهما: أنهم كافة اليهود، قال ذلك بعضهم لبعض، وهذا قول السدي، وابن زيد.

ب. الثاني: أنهم يهود خيبر قالوا ذلك ليهود المدينة، وهذا قول الحسن.

3. اختلف في سبب نهيهم أن يؤمنوا إلا لمن تبع دينهم على قولين:

أ. أحدهما: أنهم نهوا عن ذلك لئلّا يكون طريقا لعبدة الأوثان إلى تصديقه، وهذا قول الزجاج.

ب. الثاني: أنهم نهوا عن ذلك لئلّا يعترفوا به فيلزمهم العمل بدينه لإقرارهم‏ بصحته.

4. في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن في الكلام حذفا، وتقديره: قل إن الهدى هدى الله ألّا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيّها المسلمون، ثم حذف (لا) من الكلام لدليل الخطاب‏ عليها مثل قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: 176] أي لا تضلوا، وهذا معنى قول السدي، وابن جريج.

ب. الثاني: أن معنى الكلام: قل إن الهدى هدى الله فلا تجحدوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.

5. في قوله تعالى: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: يعني ولا تؤمنوا أن يحاجّوكم عند ربكم لأنه لا حجة لهم، وهذا قول الحسن، وقتادة.

ب. الثاني: أن معناه حتى يحاجّوكم عند ربكم، على طريق التبعيد، كما يقال: لا تلقاه أو تقوم الساعة، وهذا قول الكسائي، والفراء.

6. في قوله تعالى: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها النبوة، وهو قول الحسن، ومجاهد، والربيع.

ب. الثاني: القرآن والإسلام، وهذا قول ابن جريج.

7. اختلفوا في النبوة هل تكون جزاء على عمل؟ على قولين:

أ. أحدهما: أنها جزاء عن استحقاق.

ب. الثاني: أنها تفضل لأنه قال: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/401.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الطائفة الجماعة، وقيل في أصلها قولان:

أ. أحدهما: أنه كالرفقة التي من شأنها أن تطوف البلاد في السفر الذي يقع عليه الاجتماع.

ب. والآخر: أنها جماعة يستوي بها حلقة يطاف حولها، وإنما دخلت هاء التأنيث فيها لمعنى المضاعفة اللازمة كما دخلت في الجماعة، لأن في أصل التأنيث معنى التضعيف من أجل أنه مركب على التذكير.

2. في قوله تعالى: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أولها: أظهروا الايمان لهم في أول النهار وارجعوا عنه في آخره، فإنه أحرى أن ينقلبوا عن دينهم.. وهو قول أكثر أهل العلم.

ب. الثاني: آمنوا بصلاتهم إلى بيت المقدس في أول النهار، واكفروا بصلاتهم إلى الكعبة في آخره ليرجعوا بذلك عن دينهم.

ج. الثالث: أظهروا الايمان في صدر النهار لما سلف لكم من الإقرار بصفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم ارجعوا في آخره لتوهموهم أنه كان وقع عليكم غلط في صفته.

3. وجه النهار هو أوله عند جميع المفسرين، كقتادة، والربيع، ومجاهد، وإنما سمي أول النهار بأنه وجهه لأحد أمرين:

أ. أحدهما: لأنه أول ما يواجه منه كما يقال، لأول الثوب وجه الثوب.

ب. الثاني: لأنه كالوجه في أنه أعلاه وأشرف ما فيه قال ربيع ابن زياد:

çمن كان مسروراً بمقتل مالك‏...فليأت نسوتنا بوجه نهارé

وقيل في معنى البيت: انه كان من عادتهم أن لا تنوح نساؤهم على قتلاهم إلا بعد أن يؤخذ بثاره، فأراد الشاعر أن يبين أنهم أخذوا بثار مالك بأن النساء ينحن عليه، ولذلك قال في البيت الذي بعده: (يجد النساء حواسراً يندبنه‏)

4. ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ فيه حذف وتقديره: لعلهم يرجعون عن دينهم في قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد.

5. قال الحسن: القائلين‏ {لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} هم يهود خيبر ليهود المدينة، وقال قتادة، والربيع، والسدي، وابن زيد: هم بعض اليهود لبعض، وقيل في معنى الآية ستة أقوال:

أ. أحدها: قال الحسن، ومجاهد: أعرض بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ وتقديره: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ ولا تؤمنوا ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ ولا تؤمنوا ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ لأنه لا حجة لهم، وقال أبو علي الفارسي، وتقديره ولا تصدقوا بـ ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ ﴿إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾

ب. الثاني: قال السدي، وابن جريج: هو على الاتصال بالهدى دون الاعتراض، والمعنى‏ ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ﴾ لا ﴿يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ أيها المسلمون، كقوله‏ ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ وأن لا ﴿يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ لأنه لا حجة لهم.

ج. الثالث: قال الكسائي، والفراء: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ بمعنى حتى‏ ﴿يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ على التبعيد كما يقال لا تلتقي معه أو تقوم الساعة.

د. الرابع: قال أبو علي: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ فلا تجحدوا ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾

هـ. الخامس: قال الزجاج: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ لئلا تكون طريقاً لعبدة الأوثان إلى تصديقه.

و. السادس ـ ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ ان اعترفتم به، فيلزمكم العمل به منهم، لاقراركم بصحته.

6. في دخول اللام في قوله: ﴿إِلَّا لِمَنْ﴾ قيل فيه قولان:

أ. أحدهما: أن تكون زائدة كاللام في قوله: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ أي ردفكم بمعنى لا تصدقوا إلا من تبع دينكم، قال المبرد: إنما يسوغ ذلك على تقدير المصدر بعد تمام الكلام، فأما قام لزيد بمعنى قام زيد، فلا يجوز، لأنه لا يحمل على التأويل إلا بعد التمام.

ب. الثاني: لا تعترفوا بالحق‏ ﴿إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ فتدخل للتعدية، وقال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن يتعلق اللام في قوله: ﴿لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ بقوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾، لأنه قد تعلق به حرف الجر في قوله: (بأن يؤتى) كما لا يتعلق مفعولان بفعل واحد، فان قيل: لم جاز حذف (لا) من قوله تعالى‏ ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ على قول من قال ذلك؟ قلنا: الدلالة عليها كالدلالة في‏ جواب القسم، نحو والله أقوم أي لا أقوم قال امرؤ القيس:

çفقلت يمين الله أبرح قاعدا...ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي‏é

أي لا أبرح، والدليل عليه في الآية اتصاله بالعرض في اختصاص أهل الايمان.. فلا يتبعه في المعنى إلا على (أن لا) ﴿يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ وكذلك‏ ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ لأن البيان لا يكون طريقاً إلى الضلال، وقال المبرد تقديره كراهة (أن تضلوا)، وكراهة ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ فحمله على الأكثر، لأن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أكثر من حذف (لا)

7. ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ معناه واسع الرحمة عليم بالمصلحة، فمن صلح له ذلك من غيركم فهو يؤتيه تفضلا عليه.

8. ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ الاختصاص: انفراد بعض الأشياء بمعنى دون غيره، كالانفراد بالملك أو الفعل أو العلم أو السبب أو الطلب أو غير ذلك، ويصح الانفراد بالنفس وغير النفس، وليس كذلك الاختصاص، لأنه نقيض الاشتراك، والانفراد نقيض الازدواج، والفرق بين الاختصاص، والخاصة: أن الخاصة تحتمل الاضافة وغير الاضافة، لأنها نقيض العامة، فأما الاختصاص، فلا يكون إلا على الاضافة، لأنه اختصاص بكذا دون كذا.

9. قيل في معنى الرحمة هاهنا قولان:

أ. أحدهما: قال الحسن، ومجاهد، والربيع، والجبائي: إنها السورة.

ب. وقال ابن جريج: هي القرآن، والإسلام، ووجه هذا القول أنه يختصهم بالإسلام بما لهم من اللطف فيه.

10. في الآية دلالة على أن النبوة ليست مستحقة بالافعال، لأنها لو كانت جزاء، لما جاز أن يقول يختص بها من يشاء، كما لا يجوز أن يختص بعقابه من يشاء من عباده.

11. سؤال وإشكال: اللطف مستحق، وهو يختص به من يشاء من عباده؟ والجواب: لأنه قد يكون لطفاً على وجه الاختصاص دون الاشتراك وليس كذلك الثواب.

12. ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، فالفضل الزيادة عن الإحسان وأصله على الطلاق الزيادة يقال في بدنه فضل أي زيادة، والفاضل: الزائد على غيره في خصال الخير، فأما التفضل، فزيادة النفع على مقدار الاستحقاق ثم كثر استعماله حتى صار لكل نفع قصد به فاعله أن ينفع صاحبه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/499.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. وجه النهار: أوله، قال الشاعر:

çمن كان مسرورًا بمقتل مالك... فليأت نسوتنا بوجه نهارé

واختلفوا لم سمي بذلك فقيل: لأنه أول ما يواجه منه، كما يقال لأول ما يواجه من الثوب: وجه الثوب، وقيل: لأنه كالوجه في أنه أعلاه، وأشرف ما فيه.

ب. الطائفة: الجماعة، وقيل: في أصله قولان: أحدهما: أنه كالرفقة من شأنها أن تطوف البلاد في السفر الذي يقع عليه الاجتماع.. والآخر: أنها جماعة تستوي بها حلقة يطوف حولها.

ج. الإيتاء: الإعطاء، أوتي فلان مالاً أي أُعْطي.

د. اليد: الجارحة المعروفة، واليد: القوة، واليد: النعمة، واليد تذكر صلة، والجارحة لا تجوز على الله تعالى، فما ورد في القرآن محمول على الأوجه الثلاثة.

هـ. الفضل: الزيادة من الإحسان، وأصله الزيادة، يقال: في يده فضل أي زيادة، ويسمى الفاضل لزيادته على غيره في خصال الخير.

و. الاختصاص: انفراد بعض الأشياء بمعنى دون غيره كالانفراد بالملك والعلم والعطاء والنسب، وأصله يَخْتَصِصُ أدغم أحد الصادين في الآخر، دليله الاختصاص، ويقع ﴿يَخْتَصُّ﴾ لازما ومتعديًا.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: تواطأ اثنا عشر حبرًا من يهود خيبر وقرى عرينة، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد واكفروا آخره، وقولوا: نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدًا أنه ليس بنبيٍّ، وظهر لنا كذبه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم، وقالوا: هم أهل الكتاب، وهم أعلم به، فيرجعون عن الإسلام، عن الحسن والسدي.

ب. وقيل: كان هذا في شأن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة، وصلوا إليها أول النهار، وارجعوا إلى قبلتكم آخره لعلهم يقولون: هَؤُلَاءِ أهل كتاب فيشكون، عن مجاهد ومقاتل.

3. ثم بَيَّنَ تعالى كيفية تلبيسهم بعد ما تقدم أنهم يلبسون فقال تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ﴾ جماعة:

أ. قيل: أحبار خيبر وقرى عرينة، عن الحسن.

ب. وقيل: كعب بن الأشرف قال لجماعة من اليهود، عن مجاهد.

ج. وقيل: علماؤهم، وقال بعضهم لبعض، عن الأصم.

4. ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ أظهروا التصديق بالذي أنزل على محمد وأصحابه أول النهار واكفروا آخره، واختلفوا في معناه على أقوال:

أ. أولهما: أظهروا الإيمان أول النهار، وارجعوا عنه آخره، فإنه أحرى أن ينقلبوا عن دينهم، عن الحسن وجماعة.

ب. وثانيها: قال بعضهم لبعض: إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن ضعفاءكم يعلمون أن كثيرًا مما جاء به حق، فيبين لهم أنكم أنكرتم ما كنتم به مؤمنين، فصدقوه في بعض، وكذبوه في بعض ليشك الناس، عن الأصم.

ج. وثالثها: آمنوا بصلاتهم إلى الكعبة أول النهار، واكفروا آخره ليرجعوا بذلك في دينهم، عن مجاهد.

د. ورابعها: أظهروا الإيمان في صدر النهار لما سلف منكم من الإقرار بصفة محمد، ثم ارجعوا في آخره لتوهموا أنه بانَ غلط منكم.

هـ. وخامسها: أظهروا الإيمان إذا لقيتموه، وارجعوا إلى الكفر إذا انقلبتم عنهم استهزاء بهم وإضلالاً للناس، عن أبي مسلم.

﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي عن دينهم، وهو دين الإسلام، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾:

أ. قيل: قائله يهود خيبر ليهود المدينة، عن الحسن.

ب. وقيل: قال بعض اليهود لبعض، عن قتادة والربيع والسدي وابن زيد، وهو عطف على ما مضى أي لا تصدقوا {إِلَّا لِمَنْ تَبِحَ دِينَكُمْ}

ج. وقيل: لا تصدقوه يعني محمدًا إلا عند من تبع دينكم ويكون منكم، ولا تصدقوه عند المشركين فيؤمنوا، عن الأصم.

6. في تقدير قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ ومعناه أقوال:

أ. الأول: أن قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ اعتراض بين كلامين: فالأول ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾، والآخر ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ كلاهما حكاية كلام اليهود، وقيل: ﴿إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ كلام الله تعالى جوابًا لهم وردًّا عليهم، فعلى هذا التقدير اختلفوا:

وقيل: تقديره: ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم، ولا تصدقوا من خالف دينكم، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من النبوة والعلم والحجة، ولا تصدقوا أنهم يحاجوكم به عند ربكم؛ لأنه لا حجة لهم، ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء في معنى قول الحسن وأبي مسلم والأخفش.

وقيل: تقديره: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فأضمر كراهة أي كراهة أن يؤتى غيركم ما أوتيتم، فأي فضل يكون لكم عليهم إذا علموا ما علمتم، وحينئذ يحاجونكم عند ربكم فيقولون: أقررتم أن ديننا حق قل: إن الهدى هدى الله، في معنى قول أبي العباس، ويحتمل على هذا أن يضمر بدل كراهة، كقوله: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي لئلا تضلوا، وتقديره: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم؛ لئلا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والعلم، ولئلا يحاجوكم بأنكم اعترفتم، عن ابن جريج واليمان بن رباب.

وقيل: تقديره: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم بمحمد ونبوته؛ يعني كما تعرفونه لا يعرفه غيركم، فلا تظهروه لغيركم، فيحتج عليكم به.

وقيل: يحاجوكم باعترافكم قبل مبعثه، ثم حجوكم به بعد مبعثه، عن الأصم.

ب. الثاني: أن يكون قوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ كلام اليهود، ثم بعد ذلك كلام الله تعالى خطابًا لليهود وردًا عليهم، ثم على هذا التقدير اختلفوا:

فقيل: الخطاب من الله تعالى لليهود وتقديره: قالت اليهود: ولا تؤمنوا لمن تبع دينكم، ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿إِنَّ الْهُدَى﴾ إلى الخير ﴿هُدَى اللهِ﴾ فلا تجحدوا أيها اليهود ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ أي سواكم من النبوة مثل ما أوتي أنبياؤكم، وأن يحاجوكم به عند ربكم إن لم تقبلوا ذلك منهم، في معنى قول قتادة والربيع وأبي علي.

وقيل: قوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾ حكاية كلام اليهود وما بعده على نسق واحد كلام الله تعالى، ولكنه خطاب للمؤمنين تقديره: وقالت اليهود بعضهم لبعض: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، قل يا محمد إن الهدى هدى الله أن لا يؤتى أحد، فأضمر ﴿لَا﴾ معناه: لا يؤتى أيها المسلمون مثل ما أوتيتم ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ أي ولا يحاجوكم ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ لأنه لا حجة لهم، عن السدي وابن جريج.

وقيل: على هذا التقدير في ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ معنى إلى أن يحاجوكم يعني إلى أن يجادلكم اليهود بالباطل؛ لأنه لا حجة لهم، ولكن يجادلونكم بالباطل.

وقيل: على هذا التقدير: إن الهدى الذي أوتيتم، يعني الحجج أيها المؤمنون، لا يؤتى أحدٌ ممن خالفكم؛ لأنه لا يظهركم على سرائرهم أن يؤتى أحد مثل حجتكم، فلا يحاجونكم بمثلها، حكاه الأصم.

وقيل: على هذا التقدير إن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا تقديره: قالت اليهود: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، قال الله تعالى: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤمنين، حسدوكم، فقل: إن الفضل بيد الله، وإن يحاجوكم فقل: إن الهدى هدى الله.

ج. الثالث: أن يكون الكلام من أول الآية إلى آخرها كلام الله وتقديره: ولا تؤمنوا أيها المؤمنون إلا لمن تبع دينكم، وهو دين الإسلام، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين والفضل فلا نبي بعد نبيكم، ولا شريعة بعد شريعتكم، ولا تصدقوا أن يحاجكم في دينكم أحد بأن دينه خير من دينكم.

7. ﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾:

أ. قيل: ما أوتيت هدى الله ودينه، فلا يضر كيدكم فإنه تعالى سيظهره، عن الأصم.

ب. وقيل: الهدى إلى الخير، والدلالة على الصواب، عن أبي علي.

ج. وقيل: المراد بالهدى ههنا النعمة، والمراد ما خص به محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم من النبوة، عن أبي مسلم.

د. وقيل: المراد به اللطف والتوفيق أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو يعطى أحد مثل ما أعطيتم أو يحاجوكم يخاصموكم عند ربكم، قيل: عند إعطائه إياكم ما أعطاكم.

هـ. وقيل: عند الله يوم القيامة.

8. ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾:

أ. قيل: النبوة، عن أبي علي.

ب. وقيل: الحجج التي أوتي محمد ومن تبعه، عن الأصم.

ج. وقيل: نعم الدين والدنيا، وهو الوجه.

9. ﴿بِيَدِ اللهِ﴾ يعني في ملكه وهو القادر عليه العالم محله، وليس المراد باليد الجارحة؛ لأن الجارحة جسم، يتعالى الله عن ذلك، ولأن النبوة لا تكون باليد ﴿يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ ممن يعلم فيه الصلاح.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ﴾:

أ. قيل: واسع الرحمة أي جواد.

ب. وقيل: واسع المقدور، يفعل ما يشاء.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلِيمٌ﴾:

أ. قيل: بما يصلح لعباده من نعمة ورحمة، عن أبي علي.

ب. وقيل: يعلم حيث يجعل رسالاته، ويعلم قبل إرسالهم نهوضهم بالتبليغ؛ عن أبي مسلم.

12. ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يعني يختص برحمته:

أ. قيل: النبوة، عن الحسن ومجاهد والربيع والأصم وأبي علي وأبي مسلم.

ب. وقيل: القرآن والإسلام، عن ابن جريج، والمراد اللطف والتمكين وإزاحة العلة.

ج. وقيل: أراد أن النبوة غير مقصورة على قوم دون قوم كما زعمت اليهود أنه يجب أن تكون في بني إسرائيل، ولكن يعطيها من يشاء ممن يصلح لها وَاللهُ ذُوالْفَضلِ الْعَظِيمِ) ذو العطاء الجزيل والمن الكثير.

13. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أن اليهود عجزوا عن إبطال أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحجة فانقطعوا إلى الحيلة، فأطلع الله نبيه على أسرارهم، وكفى المسلمين مكرهم.

ب. معجزة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من حيث أخبر عن أسرارهم، فأزال المضرة بها، ففيه معجزة ومنفعة ودفع مضرة.

ج. أنه تعالى يلطف للمؤمنين في الثبات على الحق؛ لأن إظهار كيدهم لطف لهم.

د. أنهم أَمَرُوا بالنفاق.

هـ. أن الكفر يدخل في أفعال القلب.

و. يدل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾ أن نعم الدين والدنيا منه.

ز. أن النبوة ليست باستحقاق وجزاء؛ لأنه علقه بالمشيئة مطلقًا، وكذلك الإمامة.

ح. أن تلك المكيدة فعل اليهود؛ لذلك ذمهم عليها، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.

14. قرأ ابن كثير ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ بمد الألف على الاستفهام، والباقون بفتح الألف من غير مد ولا استفهام، ووجه الاستفهام أن بعضهم قال لبعض: أوتي أحد مثل ما أوتيتم!؟ منكرًا، ووجه القراءة الأخرى الإخبار، وقرأ الحسن والأعمش بكسر الألف على أنه كلام الله تعالى، وتمت الحكاية عن اليهود عند قوله: ﴿دِينُكُمْ﴾ والقراءة الظاهرة بالفتح.

15. مسائل نحوية:

أ. اللام في قوله: ﴿لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ قيل: زائدة كاللام في ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ أي ردفكم، وتقديره: لا تصدقوا إلا من تبع دينكم، وقيل: لأنه للتعدية، أي لا تعترفوا بالحق إلا لمن تبع دينكم.

ب. هاء التأنيث في ﴿طَائِفَةٌ﴾ بمعنى المضاعفة اللازمة كما دخلت في الجماعة؛ لأنه في أصل التأنيث معنى التضعيف من أجل أنه مركب على التذكير.

ج. ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ نصب؛ لأنه معطوف على ﴿أَنْ﴾ تقديره: أن يؤتى وأن يحاجوكم، ولو كان رفعًا لكان يحاجونكم.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/276.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الطائفة: الجماعة، وفي أصلها قولان: أحدهما: إنه كالرفقة التي من شأنها أن تطوف البلاد في السفر الذي يقع عليه الاجتماع والآخر: إنها جماعة يستوي بها حلقة، يطاف حولها.

ب. وجه النهار: أوله وسمي وجها لأنه أول ما يواجهك منه، كما يقال لأول الثوب: وجه الثوب، وقيل: لأنه كالوجه في أنه أعلاه، وأشرف ما فيه، قال الربيع بن زياد:

çمن كان مسرورا بمقتل مالك... فليأت نسوتنا بوجه نهارé

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر وقرى عرينة، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا به آخر النهار، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمدا ليس بذلك، وظهر لنا كذبه، وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينه: وقالوا: إنهم أهل الكتاب، وهم أعلم به منا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم.

ب. وقال مجاهد ومقاتل الكلبي: كان هذا في شأن القبلة، لما حولت إلى الكعبة، شق ذلك على اليهود، فقال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بالله وبما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من أمر الكعبة، وصلوا إليها أول النهار، وارجعوا إلى قبلتكم آخره، لعلهم يشكون.

3. لما ذكر تعالى صدرا من كياد القوم، عقبه بذكر هذه المكيدة الشديدة، فقال: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ﴾ أي: جماعة ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أي: بعضهم لبعض ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعنون النبي وأصحابه.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ على أقوال:

أ. أحدها: أظهروا الإيمان لهم أول النهار، وارجعوا إلى قبلتكم في آخره، فإنه أحرى أن ينقلبوا عن دينهم، عن الحسن وجماعة.

ب. وثانيها: آمنوا بصلاتهم إلى الكعبة أول النهار، واكفروا آخره، ليرجعوا بذلك عن دينهم، عن مجاهد.

ج. وثالثها: أظهروا الإيمان في صدر النهار بما سلف لكم من الإقرار بصفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم ارجعوا في آخره، لتوهموهم أنه كان قد وقع غلط في صفته.

5. ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عن دينهم الاسلام، عن ابن عباس وجماعة ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾ أي: ولا تصدقوا ﴿إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ اليهودية، وقام بشرائعكم، وهو عطف على ما مضى.

6. اختلف في معنى الآية على أقوال:

أ. أحدها: إن معناه ولا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة، والبيان والحجة، ولا لمن تبع دينكم من أهل الكتاب:

قيل: إنما قال ذلك يهود خيبر، ليهود المدينة، لئلا يعترفوا به، فيلومونهم به، لإقرارهم بصحته.

قيل: معناه لا تعترفوا بالحق إلا لمن تبع دينكم، وقوله: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ لأنكم أصح دينا منهم، فلا تكون لهم الحجة عليكم عند الله، فيكون هذا كله من كلام اليهود، وقوله ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾، و﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ كلام الله جوابا لليهود، وردا عليهم أي: قل يا محمد! إن الهدى هدى الله، وقل: إن الفضل بيد الله، فلا ينبغي لهم أن ينكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا، وهذا معنى الحسن، وأبي علي الفارسي.

ب. وثانيها: أن يكون قوله ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ كلام اليهود وما بعده من الله:

ويكون المعنى: قل إن الهدى هدى الله يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيها المسلمون، كقوله ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي: أن لا تضلوا وان لا يحاجوكم عند ربكم، لأنه لا حجة لهم، ويكون ﴿هُدَى اللهِ﴾ بدلا من الهدى، والخبر: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهذا قول السدي، وابن جريج.

وقال أبو العباس المبرد: إن ﴿لَا﴾ ليست مما تحذف هاهنا، ولكن الإضافة هنا معلومة، فحذفت الأول، وأقيمت الثانية مقامه، والمعنى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ كراهة ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ أي: مما خالف دين الله، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين، وكذلك تقدير قوله يبين الله لكم كراهة أن تضلوا.

وقال قوم: إن تقديره قل يا محمد إن الهدى إلى الخير هدى الله، فلا تجحدوا أيها اليهود، أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من النبوة ﴿أَوْ﴾ أن ﴿يُحَاجُّوكُمْ﴾ بذلك ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ إن لم تقبلوا ذلك منهم، عن قتادة والربيع والجبائي.

وقيل: إن الهدى هدى الله معناه: إن الحق ما أمر الله به، ثم فسر الهدى فقال ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾، فالمؤتى هو الشرع، وما يحاج به هو العقل، وتقدير الكلام: إن هدى الله ما شرع، أو ما عهد به في العقل.. فهذه أربعة أقوال.

ج. وثالثها: أن يكون الكلام من أول الآية إلى آخرها لله تعالى، وتقديره ولا تؤمنوا أيها المؤمنون إلا لمن تبع دينكم وهو دين الاسلام، ولا تصدقوا بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين، فلا نبي بعد نبيكم، ولا شريعة بعد شريعتكم، إلى يوم القيامة، ولا تصدقوا بان يكون لاحد حجة عليكم عند ربكم، لان دينكم خير الأديان، وان الهدى هدى الله، وان الفضل بيد الله، فتكون الآية كلها خطابا للمؤمنين من الله تعالى عند تلبس اليهود عليهم، لئلا يزلوا، ويدل عليه ما قاله الضحاك: ان اليهود قالوا: إنا نجاح عند ربنا من خالفنا في ديننا، فبين الله تعالى أنهم هم المدحضون المغلبون، وان المؤمنين هم الغالبون.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾:

أ. قيل: يريد به النبوة.

ب. وقيل: الحجج التي أوتيها محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه.

ج. وقيل: نعم الدين والدنيا.

8. ﴿بِيَدِ اللَّهِ﴾ أي في ملكه، وهو القادر عليه، العالم بمحله، ﴿يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ وفي هذه دلالة على أن النبوة ليست بمستحقة وكذلك الإمامة، لان الله سبحانه علقه بالمشية.

9. ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ﴾ الرحمة جواد، وقيل: واسع المقدور، يفعل ما يشاء ﴿عَلِيمٌ﴾ بمصالح الخلق، وقيل: يعلم حيث يجعل رسالته.

10. ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ مر تفسيره في سورة البقرة في العشر التي بعد المائة.

11. في هذه الآيات معجزة باهرة لنبينا إذ فيها اخبار عن سرائر القوم التي لا يعلمها إلا علام العيوب، وفيها دفع لمكائدهم، ولطف للمؤمنين في الثبات على عقائدهم.

12. قرأ ابن كثير ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ ممدودا، والباقون ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ بغير مد واستفهام.. قال أبو علي: من قرأ ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾: فتقديره لا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، إلا لمن تبع دينكم، لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، إلا لمن تبع دينكم، كما تقول: أقررت لزيدا بألف، فيكون اللام متعلقا بالمعنى، ولا تكون زائدة على حد ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ ولكن يتعلق بالإقرار، وإن شئت عملت الكلام على معنى الجحود فكأنه قال: اجحدوا الناس إلا لمن تبع دينكم، فيكون اللام على هذا زائدة، وقد تعدى ﴿أَمَّنْ﴾ باللام في غير هذا، قال الله تعالى: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ﴾، وقال ﴿آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ وقال ﴿يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ فتعدى مرة بالباء، ومرة باللام، ووجه قراءة ابن كثير ﴿أَنْ﴾ في موضع رفع بالابتداء، لأنه لا يجوز أن يحمل على ما قبله من الفعل، لقطع الاستفهام بينهما، وخبره تصدقون به، وتعترفون به، ونحو ذلك مما دل عليه قوله ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ هذا على قول من قال: أزيد ضربته، ومن قال: أزيدا ضربته، كان ﴿أَنْ﴾ عنده في موضع نصب، ويجوز أن يكون موضع ﴿أَنْ﴾ نصبا على معنى تذكرون أو يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو تشيعون، ويدل على ذلك قوله تعالى ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ فحديثهم بذلك إشاعة منهم وإفشاء، وبخ بعضهم بعضا بالحديث، لما علموه من أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعرفوه من وصفه، فهذه الآية في معنى قراءة ابن كثير، ولعله اعتبرها في قراءته.

13. مسائل نحوية:

أ. ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾: اعترض بين المفعول وفعله، وإذا حذفت الجار من أن كان على الخلاف يكون في قول الخليل جرا وفي قول سيبويه نصبا.

ب. اللام في قوله ﴿لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾: لا يسهل أن تعلقه بتؤمنوا، وأنت قد أوصلته بحرف آخر جار، فتعلق بالفعل جارين، كما لا يستقيم أن تعديه إلى مفعولين، إذا كان يتعدى إلى مفعول واحد، ألا ترى أن تعدية الفعل بالجار كتعديته بالهمز، وتضعيف العين، فكما لا يتكرر هذان كذلك لا يتكرر الجار، فإذا لم يسهل تعليق المفعولين به، حملته على المعنى.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/773.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحاب محمّد أول النهار، فآمنوا، وإذا كان آخره، فصلّوا صلاتكم لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب، وهم أعلم منا، فينقلبون عن دينهم، رواه عطيّة عن ابن عباس، وقال الحسن والسّدّيّ: تواطأ اثنا عشر حبرا من اليهود، فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمّد باللسان أول النهار، واكفروا آخره، وقولوا: إنّا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمّدا ليس بذلك، فيشكّ أصحابه في دينهم، ويقولون: هم أهل الكتاب، وهم أعلم منّا، فيرجعون إلى دينكم، فنزلت هذه الآية، وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور.

ب. الثاني: أن الله تعالى صرف نبيّه إلى الكعبة عند صلاة الظّهر، فقال قوم من علماء اليهود: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ يقولون: آمنوا بالقبلة التي صلّوا إليها الصّبح، واكفروا بالتي صلّوا إليها آخر النهار، لعلّهم يرجعون إلى قبلتكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.

قال مجاهد وقتادة، والزجّاج في آخرين: وجه النهار: أوّله، وأنشد الزجّاج‏:

çمن كان مسرورا بمقتل مالك‏...فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النّساء حواسرا يندبنه‏...قد قمن قبل تبلّج الأسحارé

2. ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾، اختلف العلماء في توجيه هذه الآية على أربعة أقوال:

أ. أحدها: أن معناه: ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم، ولا تصدّقوا أن يؤتى أحد مما أوتيتم من العلم، وفلق البحر، والمنّ والسّلوى، وغير ذلك، ولا تصدّقوا أن يجادلوكم عند ربّكم، لأنكم أصحّ دينا منهم، فيكون هذا كلّه من كلام اليهود بينهم، وتكون اللام في (لمن) صلة، ويكون قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ كلاما معترضا بين كلامين، هذا معنى قول مجاهد، والأخفش.

ب. الثاني: أن كلام اليهود تامّ عند قوله: ﴿لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ والباقي من قول الله تعالى، لا يعترضه شيء من قولهم، وتقديره: قل يا محمّد: إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمّة محمّد، إلّا أن تجادلكم اليهود بالباطل، فيقولون: نحن أفضل منكم، هذا معنى قول الحسن، وسعيد بن جبير، وقال الفرّاء: معنى: ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾: أن لا يؤتى.

ج. الثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، إلا من تبع دينكم، فأخّرت (أن)، وهي مقدّمة في النّية على مذهب العرب في التّقديم والتّأخير، ودخلت اللام على جهة التّوكيد، كقوله تعالى: ﴿عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ﴾ أي: ردفكم، وقال الشاعر:

çما كنت أخدع للخليل بخلّة...حتّى يكون لي الخليل خدوعاé

أراد: ما كنت أخدع الخليل، وقال الآخر:

çيذمّون للدّنيا وهم يحلبونها...أفاويق حتّى ما يدرّ لها ثعل‏é

أراد: يذمّون الدنيا، ذكره ابن الأنباريّ.

د. الرابع: أن اللام غير زائدة، والمعنى: لا تجعلوا تصديقكم النبيّ في شيء مما جاء به إلا لليهود، فإنكم إن قلتم ذلك للمشركين كان عونا لهم على تصديقه، قاله الزجّاج، وقال ابن الأنباريّ: لا تؤمنوا أنّ محمّدا وأصحابه على حق، إلا لمن تبع دينكم، مخافة أن يطّلع على عنادكم الحق، ويحاجّوكم به عند ربّكم، فعلى هذا يكون معنى الكلام: لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، وقد ذكر هذا المعنى مكيّ بن أبي طالب النّحويّ.

3. قرأ ابن كثير: (أأن يؤتى) بهمزتين: الأولى مخفّفة، والثانية مليّنة على الاستفهام، مثل: أأنتم أعلم.. قال أبو علي: ووجهها أن (أن) في موضع رفع بالابتداء، وخبره: يصدقون به، أو يعترفون به، أو يذكرونه لغيركم، ويجوز أن يكون موضع (أن) نصباً، فيكون المعنى: أتشيعون، أو أتذكرون أن يؤتى أحد، ومثله في المعنى: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرّف: (إن يؤتى)، بكسر الهمزة، على معنى: ما يؤتى.

4. في قوله تعالى‏ ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن معناه: ولا تصدّقوا أنهم يحاجّوكم عند ربكم، لأنهم لا حجة لهم، قاله قتادة.

ب. الثاني: أن معناه: حتى يحاجّوكم عند ربكم على طريق التّعبّد، كما يقال: لا يلقاه أو تقوم السّاعة، قاله الكسائيّ.

5. ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾ قال ابن عباس: يعني النبوّة، والكتاب، والهدى‏ ﴿يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ لا ما تمنّيتموه أنتم يا معشر اليهود من أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.

6. ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ في الرّحمة ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها الإسلام، قاله ابن عباس ومقاتل.

ب. الثاني: النّبوّة، قاله مجاهد.

ج. الثالث: القرآن والإسلام، قاله ابن جريج.

__________

(1) زاد المسير: 1/294.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما حكى الله تعالى عنهم أنهم يلبسون الحق بالباطل أردف ذلك بأن حكى عنهم نوعاً واحداً من أنواع تلبيساتهم، وهو المذكور في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾

2. قول بعضهم لبعض‏ ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل أن يكون المراد كل ما أنزل(2).

ب. ويحتمل: أن يكون المراد بعض ما أنزل، والقائلون بهذا القول حملوه على أمر القبلة وذكروا فيه وجهين:

الأول: قال ابن عباس: وجه النهار أوله، وهو صلاة الصبح واكفروا آخره: يعني صلاة الظهر وتقريره أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلي إلى بيت المقدس بعد أن قدم المدينة ففرح اليهود بذلك وطمعوا أن يكون منهم، فلما حوله الله إلى الكعبة كان ذلك عند صلاة الظهر قال كعب بن الأشرف وغيره‏ ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ يعني آمنوا بالقبلة التي صلّى إليها صلاة الصبح فهي الحق، واكفروا بالقبلة التي صلّى إليها صلاة الظهر، وهي آخر النهار، وهي الكفر.

الثاني: أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم، فقال بعضهم لبعض صلوا إلى الكعبة في أول النهار، ثم اكفروا بهذه القبلة في آخر النهار وصلوا إلى الصخرة لعلّهم يقولون إن أهل الكتاب أصحاب العلم فلولا أنهم عرفوا بطلان هذه القبلة لما تركوها فحينئذ يرجعون عن هذه القبلة.

3. في الاحتمال الأول ـ أن يكون المراد كل ما أنزل ـ وجوه:

أ. الأول: أن اليهود والنصارى استخرجوا حيلة في تشكيك ضعفه المسلمين في صحة الإسلام، وهو أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من الشرائع في بعض الأوقات، ثم يظهروا بعد ذلك تكذيبه، فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب، قالوا: هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد، وإلا لما آمنوا به في أول الأمر وإذا لم يكن هذا التكذيب لأجل الحسد والعناد وجب أن يكون ذلك لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكروا في أمره واستقصوا في البحث عن دلائل نبوته فلاح لهم بعد التأمل التام، والبحث الوافي أنه كذاب، فيصير هذا الطريق شبهة لضعفة المسلمين في صحة نبوته، وقيل: تواطأ اثنا عشر رجلًا من أحبار يهود خيبر على هذا الطريق، وقوله‏ ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ معناه أنا متى ألقينا هذه الشبهة فلعل أصحابه يرجعون عن دينه.

ب. الثاني: يحتمل أن يكون معنى الآية أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين، ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب، فإن أمر هؤلاء المؤمنين في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم ويرجعوا إلى دينكم، وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني ويدل عليه وجهان:

الأول: أنه تعالى لما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ [النساء: 137] أتبعه بقوله‏ ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ [النساء: 138] وهو بمنزلة قوله‏ ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14]

الثاني: أنه تعالى اتبع هذه الآية بقوله‏ ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ فهذا يدل على أنهم نهوا عن غير دينهم الذي كانوا عليه فكان قولهم‏ ﴿آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ أمر بالنفاق.

ج. الثالث: قال الأصم: قال بعضهم لبعض إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم، لأن كثيرا مما جاء به حق ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض حتى يحمل الناس تكذيبكم له على الإنصاف لا على العناد فيقبلوا قولكم.

4. الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه:

أ. الأول: أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم، وما أطلعوا عليها أحداً من الأجانب، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخباراً عن الغيب، فيكون معجزاً.

ب. الثاني: أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإعلان لكان ربما أثرت هذه الحيلة في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف.

ج. الثالث: أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعاً لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس.

5. وجه النهار هو أوله، والوجه في اللغة هو مستقبل كل شيء، لأنه أول ما يواجه منه، كما يقال لأول الثوب وجه الثوب، روى ثعلب عن ابن الأعرابي: أتيته بوجه نهار وصدر نهار، وشباب نهار، أي أول النهار، وأنشد الربيع بن زياد فقال:

çمن كان مسروراً بمقتل مالك‏...فليأت نسوتنا بوجه نهارé

6. ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ اتفق المفسرون على أن هذا بقية كلام اليهود، وفيه ووجهان:

أ. الأول: المعنى: ولا تصدقوا إلا نبياً يقرر شرائع التوراة، فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه، وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم، وعلى هذا التفسير تكون (اللام) في قوله‏ ﴿إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ﴾ صلة زائدة فإنه يقال صدقت فلاناً، ولا يقال صدقت لفلان، وكون هذه اللام صلة زائدة جائز، كقوله تعالى: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ [النمل: 72] والمراد ردفكم.

ب. الثاني: أنه ذكر قبل هذه الآية قوله‏ ﴿آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾

7. ثم قال في هذه الآية: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ أي لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم، كأنهم قالوا: ليس الغرض من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم، فالمعنى ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم، فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته.

8. ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ قال ابن عباس، معناه: الدين دين الله ومثله في سورة البقرة {قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَالْهُدى‏} [البقرة: 120]، ولا بد من بيان أنه كيف صار هذا الكلام جواباً عما حكاه عنهم:

أ. أما على الوجه الأول، وهو قولهم (لا دين إلا ما هم عليه)، فهذا الكلام إنما صلح جواباً عنه من حيث أن الذي هم عليه إنما ثبت ديناً من جهة الله، لأنه تعالى أمر به وأرشد إليه وأوجب الانقياد له وإذا كان كذلك، فمتى أمر بعد ذلك بغيره، وأرشد إلى غيره، وأوجب الانقياد إلى غيره كان نبياً يجب أن يتبع، وإن كان مخالفا لما تقدم، لأن الدين إنما صار ديناً بحكمه وهدايته، فحيثما كان حكمه وجبت متابعته، ونظيره قوله تعالى جواباً لهم عن قولهم:‏ ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ [البقرة: 142] يعني الجهات كلها لله، فله أن يحول القبلة إلى أي جهة شاء.

ب. أما على الوجه الثاني، فالمعنى أن الهدى هدى الله، وقد جئتكم به فلن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف.

9. ثم قال تعالى: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾، وهذه الآية من المشكلات الصعبة، فهذا إما أن يكون من جملة كلام الله تعالى أو يكون من جملة كلام اليهود، ومن تتمة قولهم:‏ ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾، وقد ذهب إلى كل واحد من هذين الاحتمالين قوم من المفسرين.

10. الاحتمال الأول، وهو أن يكون من جملة كلام الله تعالى، وفيه وجوه:

أ. الأول: قرأ ابن كثير (أن يؤتى) بمد الألف على الاستفهام والباقون بفتح الألف من غير مد ولا استفهام، فإن أخذنا بقراءة ابن كثير، فالوجه ظاهر وذلك لأن هذه اللفظة موضوعة للتوبيخ كقوله تعالى: ﴿أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [القلم: 14، 15]، والمعنى أمن أجل أن يؤتي أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه؟ ثم حذف الجواب للاختصار، وهذا الحذف كثير يقول‏ الرجل بعد طول العتاب لصاحبه، وتعديده عليه ذنوبه بعد كثرة إحسانه إليه أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت؟ ونظيره قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: 9] وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر، أما قراءة من قرأ بقصر الألف من (أن) فقد يمكن أيضاً حملها على معنى الاستفهام كما قرئ‏ ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ [البقرة: 6] بالمد والقصر، وكذا قوله‏ ﴿أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾ قرئ بالمد والقصر، وقال امرؤ القيس:

çتروح من الحي أم تبتكر؟...وماذا عليك ولم تنتظرé

أراد أروح من الحي؟ فحذف ألف الاستفهام، وإذا ثبت أن هذه القراءة محتملة لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى.

ب. الثاني: أن أولئك لما قالوا لأتباعهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقول لهم: إن الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتي أحد سواكم من الهدى مثل ما أوتيتموه‏ ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ يعني هؤلاء المسلمين بذلك‏ ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ إن لم تقبلوا ذلك منهم، أقصى ما في الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار قوله فلا تنكروا لأن عليه دليلًا وهو قوله‏ ﴿إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ فإنه لما كان الهدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار.

ج. الثالث: إن الهدى اسم للبيان كقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: 17] فقوله‏ ﴿إِنَّ الْهُدَى﴾ مبتدأ وقوله‏ ﴿هُدَى اللهِ﴾ بدل منه وقوله‏ ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ خبر بإضمار حرف لا، والتقدير: قل يا محمد لا شك أن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان وأن لا يحاجوكم يعني هؤلاء اليهود عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم محقون وأنهم مضلون، وهذا التأويل ليس فيه إلا أنه لا بد من إضمار حرف (لا) وهو جائز كما في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: 44] أي أن لا تضلوا.

د. الرابع: ﴿الْهُدَى﴾ اسم و﴿هُدَى اللهِ﴾ بدل منه و﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ خبره والتقدير: إن هدى الله هو أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم، وعلى هذا التأويل فقوله‏ ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ لا بد فيه من إضمار، والتقدير: أو يحاجوكم عند ربكم فيقضى لكم عليهم، والمعنى: أن الهدى هو ما هديتكم به من دين الإسلام الذي من حاجكم به عندي قضيت لكم عليه، وفي قوله‏ ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ ما يدل على هذا الإضمار ولأن حكمه بكونه رباً لهم يدل على كونه راضياً عنهم وذلك مشعر بأنه يحكم لهم ولا يحكم عليهم.

11. الاحتمال الثاني، وهو أن يكون من جملة كلام اليهود، ومن تتمة قولهم:‏ ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، قل إن الهدى هدى الله، وأن الفضل بيد الله، قالوا، والمعنى لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم، وأسروا تصديقكم، بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام.

12. ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ فهو عطف على أن يؤتى، والضمير في يحاجوكم لأحد، لأنه في معنى‏ الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة، وعندي أن هذا التفسير ضعيف، وبيانه من وجوه:

أ. الأول: إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم وأشياعهم عنه، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضاً بالإقرار بما يدل على صحة دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عند أتباعهم وأشياعهم، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب؟ هذا في غاية البعد.

ب. الثاني: أن على هذا التقدير يختل النظم ويقع فيه تقديم وتأخير لا يليق بكلام الفصحاء.

ج. الثالث: إن على هذا التقدير لا بد من الحذف فإن التقدير: قل إن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله، ولا بد من حذف (قل) في قوله‏ ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾

د. الرابع: إنه كيف وقع قوله‏ ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ فيما بين جزأى كلام واحد؟ فإن هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم، قال القفال: يحتمل أن يكون قوله‏ ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ كلام أمر الله نبيه أن يقوله عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولًا باطلًا لا جرم أدب رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يقابله بقول حق، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولًا فيه كفر، فيقول: عند بلوغه إلى تلك الكلمة آمنت بالله، أو يقول لا إله إلا الله، أو يقول تعالى الله ثم يعود إلى تمام الحكاية فيكون قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ من هذا الباب، ثم أتى بعده بتمام قول اليهود إلى قوله‏ ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ ثم أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمحاجتهم في هذا وتنبيههم على بطلان قولهم، فقيل له‏ ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾ إلى آخر الآية.

هـ. الخامس: أن الإيمان إذا كان بمعنى التصديق لا يتعدى إلى المصدق بحرف اللام لا يقال صدقت لزيد بل يقال: صدقت زيداً، فكان ينبغي أن يقال: ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم، وعلى هذا التقدير يحتاج إلى حذف اللام في قوله‏ ﴿لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ ويحتاج إلى إضمار الباء أو ما يجري مجراه في قوله‏ ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ لأن التقدير: ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم، بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فقد اجتمع في هذا التفسير الحذف والإضمار وسوء النظم وفساد المعنى، قال أبو علي الفارسي: لا يبعد أن يحمل الإيمان على الإقرار فيكون المعنى: ولا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، وعلى هذا التقدير لا تكون اللام زائدة، لكن لا بد من إضمار حرف الباء أو ما يجري مجراه على كل حال، فهذا محصل ما قيل في تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده.

13. ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، حكى الله تعالى عن اليهود أمرين:

أ. أحدهما: أن يؤمنوا وجه النهار، ويكفروا آخره، ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام، فأجاب عنه بقوله‏ ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ والمعنى: أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر.

ب. الثاني: أنه حكى عنهم أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة، فأجاب عنه بقوله‏ ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ والمراد بالفضل الرسالة، وهو في اللغة عبارة عن الزيادة، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان، والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير، ثم كثر استعمال الفضل لكل نفع قصد به فاعله الإحسان إلى الغير وقوله‏ ﴿بِيَدِ اللهِ﴾ أي إنه مالك له قادر عليه، وقوله‏ ﴿يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي هو تفضل موقوف على مشيئته، وهذا يدل على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق، لأنه تعالى جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله، ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز، وقوله:‏ ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ ﴿عَلِيمٌ﴾ مؤكد لهذا المعنى، لأن كونه واسعاً، يدل على كمال القدرة، وكونه عليماً على كمال العلم، فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء، ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب.

14. ثم قال الله تعالى: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ وهذا كالتأكيد لما تقدم، والفرق بين هذه الآية وبين ما قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادة، ثم إن الزيادة من جنس المزيد عليه، فبيّن بقوله‏: ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾ إنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاهم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها، ثم قال: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ والرحمة المضافة إلى الله سبحانه أمر أعلى من ذلك الفضل، فإن هذه الرحمة ربما بلغت في الشرف وعلو الرتبة إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم، بل تكون أعلى وأجل من أن تقاس إلى ما آتاهم، ويحصل من مجموع الآيتين إنه لا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده، وأن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة، وعلى أشخاص معينين جهل بكمال الله في القدرة والحكمة.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/258.

(2) تفاصيله في المسألة التالية

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصف وغيرهما، قالوا للسفلة من قومهم: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار، يعني أوله، وسمي وجها لأنه أحسنه، وأول ما يواجه منه أوله، قال الشاعر:

çوتضيء في وجه النهار منيرة...كجمانة البحري سل نظامهاé

وقال آخر:

çمن كان مسرورا بمقتل مالك...فليأت نسوتنا بوجه نهارé

وهو منصوب على الظرف، وكذلك ﴿آخِرَهُ﴾، ومذهب قتادة أنهم فعلوا ذلك ليشككوا المسلمين.

2. الطائفة: الجماعة، من طاف يطوف، وقد يستعمل للواحد على معنى نفس طائفة، ومعنى الآية:

أ. أن اليهود قال بعضهم لبعض: أظهروا الإيمان بمحمد في أول النهار ثم اكفروا به آخره، فإنكم إذا فعلتم ذلك ظهر لمن يتبعه ارتياب في دينه فيرجعون عن دينه إلى دينكم، ويقولون إن أهل الكتاب أعلم به منا.

ب. وقيل: المعنى آمنوا بصلاته في أول النهار إلى بيت المقدس فإنه الحق، واكفروا بصلاته آخر النهار إلى الكعبة لعلهم يرجعون إلى قبلتكم، عن ابن عباس وغيره.

ج. وقال مقاتل: معناه أنهم جاءوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم أول النهار ورجحوا من عنده فقالوا للسفلة: هو حق فاتبعوه، ثم قالوا: حتى ننظر في التوراة ثم رجعوا في آخر النهار فقالوا: قد نظرنا في التوراة فليس هو به، يقولون إنه ليس بحق، وإنما أرادوا أن يلبسوا على السفلة وأن يشككوا فيه.

3. ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ هذا نهي، وهو من كلام اليهود بعضهم لبعض، أي قال ذلك الرؤساء للسفلة، وقال السدي: من قول يهود خيبر ليهود المدينة، وهذه الآية أشكل ما في السورة:

أ. فروي عن الحسن ومجاهد: أن معنى الآية (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنهم لا حجة لهم فإنكم أصح منهم دينا)، و﴿أَنْ﴾ و﴿يُحَاجُّوكُمْ﴾ في موضع خفض، أي بأن يحاجوكم أي باحتجاجهم، أي لا تصدقوهم في ذلك فإنهم لا حجة لهم، ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ من التوراة والمن والسلوى وفرق البحر وغيرها من الآيات والفضائل، فيكون ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ مؤخرا بعد ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾، وقوله ﴿إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ اعتراض بين كلامين.

ب. وقال الأخفش: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا تصدقوا أن يحاجوكم، يذهب إلى أنه معطوف.

ج. وقيل: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فالمد على الاستفهام أيضا تأكيد للإنكار الذي قالوه أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتوه، لأن علماء اليهود قالت لهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أي لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فالكلام على نسقه، و﴿أَنْ﴾ في موضع رفع على قول من رفع في قولك أزيد ضربته، والخبر محذوف تقديره أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم تصدقون أو تقرون، أي إيتاء موجود مصدق أو مقربة، أي لا تصدقون بذلك، ويجوز أن تكون ﴿أَنْ﴾ في موضع نصب على إضمار فعل، كما جاز في قولك أزيدا ضربته، وهذا أقوى في العربية لأن الاستفهام بالفعل أولى، والتقدير أتقرون أن يؤتى، أو أتشيعون ذلك، أو أتذكرون ذلك ونحوه، وبالمد قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد، وقال أبو حاتم: ﴿أَنْ﴾ معناه ﴿الْآنَ﴾، فحذفت لام الجر استخفافا وأبدلت مدة، كقراءة من قرأ ﴿أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ﴾ [القلم] أي ألأن، وقوله ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين، أو تكون ﴿أَوْ﴾ بمعنى ﴿أَنْ﴾ لأنهما حرفا شك وجزاء يوضع أحدهما موضع الآخر، وتقدير الآية: وأن يحاجوكم عند ربكم يا معشر المؤمنين، فقل: يا محمد إن الهدى هدى الله ونحن عليه، ومن قرأ بترك المد قال: إن النفي الأول دل على إنكارهم في قولهم ولا تؤمنوا، فالمعنى أن علماء اليهود قالت لهم: لا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أي لا إيمان لهم ولا حجة، فعطف على المعنى من العلم والحكمة والكتاب والحجة والمن والسلوى وفلق البحر وغيرها من الفضائل والكرامات، أي أنها لا تكون إلا فيكم فلا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم، فالكلام فيه تقديم وتأخير على هذه القراءة واللام زائدة، ومن استثنى ليس من الأول، وإلا لم يجز الكلام، ودخلت ﴿أَحَدٌ﴾ لأن أول الكلام نفي، فدخلت في صلة ﴿أَنْ﴾ لأنه مفعول الفعل المنفي، فأن في موضع نصب لعدم الخافض، وقال الخليل: ﴿أَنْ﴾ في موضع خفض بالخافض المحذوف، وقيل: إن اللام ليست بزائدة، و﴿تُؤْمِنُوا﴾ محمول على تقروا،

د. وقال ابن جريج: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.

هـ. وقيل: المعنى لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا لمن تبع دينكم لئلا يكون طريقا إلى عبدة الأوثان إلى تصديقه.

و. وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قول تعالى: ﴿إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ ثم قال لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾، أي إن البيان الحق هو بيان الله تعالى: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ بين ألا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، و﴿لَا﴾ مقدرة بعد ﴿أَنْ﴾ أي لئلا يؤتى، كقوله: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء] أي لئلا تضلوا، فلذلك صلح دخول ﴿أَحَدٌ﴾ في الكلام، و﴿أَوْ﴾ بمعنى ﴿حَتَّى﴾ و﴿إِلَّا أَنْ﴾، كما قال امرؤ القيس:

çفقلت له لا تبك عينك إنما...نحاول ملكا أو نموت فنعذراé

وقال آخر:

çوكنت إذا غمزت قناة قوم...كسرت كعوبها أو تستقيماé

ومثله قولهم: لا نلتقي أو تقوم الساعة، بمعنى ﴿حَتَّى﴾ أو ﴿إِلَى أَنْ﴾، وكذلك مذهب الكسائي، وهي عند الأخفش عاطفة على ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾ وقد تقدم، أي لا إيمان لهم ولا حجة، فعطف على المعنى.

ز. ويحتمل أن تكون الآية كلها خطابا للمؤمنين من الله تعالى على جهة التثبيت لقلوبهم والتشحيذ لبصائرهم، لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم، والمعنى أوتيتم من الفضل والدين، ولا تصدقوا أن يحاجكم في دينكم عند ربكم من خالفكم أيقدر على ذلك، فإن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله، قال الضحاك: إن اليهود قالوا إنا نحاج عند ربنا من خالفنا في ديننا، فبين الله تعالى أنهم هم المدحضون المعذبون وأن المؤمنين هم الغالبون، ومحاجتهم خصومتهم يوم القيامة، ففي الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن اليهود والنصارى يحاجونا عند ربنا فيقولون أعطيتنا أجرا واحدا وأعطيتهم أجرين فيقول هل ظلمتكم من حقوقكم شيئا قالوا لا قال فإن ذلك فضلي أوتيه من أشاء، قال علماؤنا: فلو علموا أن ذلك من فضل الله لم يحاجونا عند ربنا، فأعلم الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنهم يحاجونكم يوم القيامة عند ربكم، ثم قال: قل لهم الآن: ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾

4. قرأ ابن كثير ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ بالمد على الاستفهام، كما قال الأعشى:

çأأن رأت رجلا أغشى أضر به...ريب المنون ودهر متبل خبلé

وقرأ الباقون بغير مد على الخبر، وقرأ سعيد بن جبير ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ بكسر الهمزة، على معنى النفي، ويكون من كلام الله تعالى كما قال الفراء، والمعنى: قل يا محمد إن الهدى هدى الله إن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم يعني اليهود ـ بالباطل فيقولون نحن أفضل منكم، ونصب ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ يعني بإضمار ﴿أَنْ﴾ و﴿أَوْ﴾ تضمر بعدها ﴿أَنْ﴾ إذا كانت بمعنى ﴿حَتَّى﴾ و﴿إِلَّا أَنْ﴾، وقرأ الحسن أن يؤتي) بكسر التاء وياء مفتوحة، على معنى أن يؤتي أحد أحدا مثل ما أوتيتم، فحذف المفعول.

5. في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ قولان:.

أ. أحدهما: إن الهدى إلى الخير والدلالة إلى الله تعالى بيد الله جل ثناؤه يؤتيه أنبياءه، فلا تنكروا أن يؤتى أحد سواكم مثل ما أوتيتم، فإن أنكروا ذلك فقل لهم: ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾

ب. الآخر: قل إن الهدى هدى الله الذي آتاه المؤمنين من التصديق بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا غيره، وقال بعض أهل الإشارات في هذه الآية: لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم فإن من لا يوافقكم لا يرافقكم.

6. ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ أي بنبوته وهدايته، عن الحسن ومجاهد وغيرهما، ابن جريج: بالإسلام والقرآن ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾، قال أبو عثمان: أجمل القول ليبقى معه رجاء الراجي وخوف الخائف، ﴿وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/112.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ هم رؤساؤهم وأشرافهم، قالوا للسفلة من قومهم هذه المقالة، ووجه النهار: أوّله، وسمي: وجها، لأنه أحسنه، قال:

çوتضي‏ء في وجه النّهار منيرة...كجمانة البحريّ سلّ نظامهاé

وهو منصوب على الظرف، أمروهم بذلك لإدخال الشك على المؤمنين، لكونهم يعتقدون أن أهل الكتاب لديهم علم، فإذا كفروا بعد الإيمان وقع الريب لغيرهم، واعتراه الشك، وهم لا يعلمون أن الله قد ثبت قلوب المؤمنين، ومكن أقدامهم، فلا تزلزلهم أراجيف أعداء الله، ولا تحركهم ريح المعاندين.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾:

أ. قيل: هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض، أي: قال ذلك الرؤساء للسفلة: لا تصدقوا تصديقا صحيحا إلا لمن تبع دينكم من أهل الملة التي أنتم عليها، وأما غيرهم ممن قد أسلم فأظهروا لهم ذلك خداعا ﴿وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ ليفتتنوا، ويكون قوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ على هذا: متعلقا بمحذوف، أي: فعلتم ذلك لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، يعني: أن ما بكم من الحسد والبغي؛ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب؛ دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم، وقوله: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ معطوف على: أن يؤتى، أي: لا تؤمنوا إيمانا صحيحا، وتقروا بما في صدوركم إقرارا صادقا لغير من تبع دينكم، إن فعلتم ذلك ودبرتموه فإن المسلمين يحاجوكم يوم القيامة عند الله بالحق، ﴿إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ جملة اعتراضية.

ب. وقال الأخفش: المعنى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ولا تصدقوا أن يحاجوكم، فذهب إلى أنه معطوف.

ج. وقيل: المراد: لا تؤمنوا وجه النهار وتكفروا آخره إلا لمن تبع دينكم، أي: لمن دخل في الإسلام وكان من أهل دينكم قبل إسلامه، لأن إسلام من كان منهم هو الذي قتلهم غيظا وأماتهم حسرة وأسفا، ويكون قوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ على هذا: متعلقا بمحذوف كالأوّل.

د. وقيل: إن قوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ متعلق بقوله: ﴿لَا تُؤْمِنُوا﴾ أي: لا تظهروا إيمانكم بـ ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ أي: أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا لأتباع دينكم.

هـ. وقيل: المعنى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، بالمدّ على الاستفهام، تأكيدا للإنكار الذي قالوه أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتوه، فتكون على هذا: أن وما بعدها: في محل رفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره تصدّقون بذلك، ويجوز أن تكون: في محل نصب على إضمار فعل تقديره: تقرون أن يؤتى، وقد قرأ (آن يؤتى) بالمدّ ابن كثير وابن محيصن، وحميد، وقال الخليل: أن في موضع خفض، والخافض محذوف.

و. وقال ابن جريج: المعنى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى.

ز. وقيل: المعنى: لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا من تبع دينكم، لئلا يكون ذلك سببا لإيمان غيرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ح. وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله: ﴿إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ ثم قال الله لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ أي: إن البيان الحق بيان الله، بين أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، على تقدير: لا، كقوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي: لئلا تضلوا، و(أو) في قوله: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ بمعنى: حتى، وكذلك قال الكسائي، وهي عند الأخفش: عاطفة، كما تقدم.

ط. وقيل: إن هدى الله بدل من الهدى، وأن يؤتى خبر إن، على معنى: قل: إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.

3. وقد قيل: إن هذه الآية أعظم آي هذه السورة إشكالا وذلك صحيح.

4. ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ قيل: هي النبوّة؛ وقيل: أعم منها، وهو ردّ عليهم ودفع لما قالوه ودبروه.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/403.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٌ﴾ جماعة قدر ما تستدير ويطاف حولها، فهو فاعل بمعنى مفعول، وتظهر الاستدارة بخمسة ويطاف حولها، ﴿مِنَ اَهْلِ الْكِتَابِ﴾ التوراة، تواطأ اثنا عشر رجلا من خيبر أو منها ومن غيرها، فقال بعض ـ ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ـ لبعض: (اُدخُلوا في دين محمَّد أوَّل النهار بألسنتكم دون قلوبكم، صلُّوا معه الفجر والظهر والعصر واستقبلوا الكعبة ـ وقد شقَّ على اليهود نسخ بيت المقدس إلى الكعبة ـ وأظهِروا الكفر به آخر النهار وقولوا: نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدناه كاذبًا ليس الموصوف، فيشكُّ أصحابه ويقولوا: اليهود أهل كتاب وهم أعلم فيرجعوا معنا إلى ديننا وقبلتنا، فأخبر الله نبيئه صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم يوثِّر عقد حيلتهم في قلب مَن ضَعُفَ إيمانه لهذا الإِخبار، ولم يفعلوها أو فعلوها ولم توثِّر لذلك.

2. ﴿ءَامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ بالقرآن، فقد أقرُّوا أنَّ الله أنزله، أو أنزل على الذين آمنوا في زعم الذين آمنوا ﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾ أوَّله، ووجه كلِّ شيء مستقبِلُه، وهو أوَّل ما يواجَه منه، ﴿وَاكْفُرُواْ﴾ أَظهِروا الكفر به، الذي في قلوبكم، ﴿ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ﴾ لعلَّ الذين آمنوا، ﴿يَرْجِعُونَ﴾ عن دينهم إلى دينكم ويقولون: ما رجع اليهود عنه إِلَّا لخلل بانَ لهم.

3. ﴿وَلَا تُومِنُواْ﴾ لا تذعنوا وتنقادوا، ﴿إِلَّا لِمَن تَبِـعَ دِينَكُمْ﴾ أو لا تصدِّقوا إِلَّا من تبع دينكم، والمراد: التصديق في الظاهر، وإلَّا فكيف يصدِّقون من اتبَّع وهم عالمون بأنَّهم على باطل، أو لا تظهروا إيمانكم وجه النهار إِلَّا لمن كان على دينكم فيما مضى، ثمَّ أسلم من الأوس والخزرج وغيرهم، فإنَّ رجوعهم عن الإسلام أقرب لذلك وأهمُّ.

4. ﴿قُل﴾ لهم يا محمَّد، ﴿اِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللهِ﴾ الإسلام، وأمَّا اليهوديَّة وغيرها فضلال، ﴿أَنْ يُّوتَىآ﴾ قيل: متعلِّق بـ (تُومِنُوا) على تقدير الباء، وزيادة اللَّام في (لِمَنْ)، و(مَنْ) مستثـنًى مقدَّم، و(أَحَدٌ) مستثنى منه مؤخَّر، أي: لا تؤمنوا بأن يؤتى، ﴿أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُم﴾ من الكتاب والعلم والفضائل، كالمنِّ والسلوى وفَلْقِ البحر، إِلَّا من تبع دينكم اليهوديَّ، وأمَّا غيره فلا كتاب له ولا علم ولا فضيلة، وعلى أنَّ اللَّام غير زائدة يكون المعنى: لا تقرُّوا لأحد بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إِلَّا لمن تبع دينكم، فالمستثنى (لِمَن تَبِعَ)، والمستثنى منه محذوف تقديره: (لأحد) كما رأيت، والمراد: كذِّبوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو قد أوتي مثله محمَّد وأصحابه، لكن لا تعترفوا بهذا إِلَّا لمن هو من أشياعكم، ولا تعترفوا به للمشركين فيسلموا، ولا للمسلمين فيزيدوا ثباتا، أو يقدَّر: قلتم آمنوا أوَّل النهار واكفروا آخره حذر اعتقاد غيرهم أنَّ أحدا أوتي مثل ما أوتيتم، وهذا أولى لسلامته من تقديم ما بعد (أَنْ) المصدريَّة عليها، وفي الوجه الأوَّل ذلك بناء على أن لا صدر لها وهو قول الكوفيِّين، وإذا جعلنا الاستثناء منقطعا لم يرد ما قيل: إنَّ المعنى لا تصدِّقوا بأن يؤتى أحد من المسلمين مثل ما أوتيتم، إِلَّا إن كان ذلك الأحد الذي من المسلمين موافقا لكم في دينكم، وإذا قلنا: العامل (إِلَّا) لم يلزم أيضًا تقديم معمول الصلة، أو (هُدَى اللهِ) بدل أو بيان، و(أَنْ يُّوتَى) خبر (إِنَّ)، فتكون (أَوْ) بمعنى حتَّى، وسببيَّة فلا يختصُّ (عِندَ رَبِّكُمْ) بيوم القيامة.

5. ﴿أَوْ يُحَآجُّوكُمْ﴾ الواو لـ (أَحَدٌ)، والعطف على (يُوتَى)، أي: لا تؤمنوا، أي: لا تعترفوا بأن يؤتى أحد ـ وهم المسلمون ـ مثل ما أوتيتم، أو بأن يحاجُّوكم إِلَّا لمن هو على دينكم، والمحاجَّة: المخاصمة، ﴿عِندَ رَبِّكُمْ﴾ يوم القيامة فيغلبوكم، لا تخبروا بهذا أحدًا غير من تبع دينكم، ويجوز كون (أَوْ) بمعنى إلى، وذلك محضُ عناد، فإنَّ المسلمين عالمون بذلك، ومحاجُّوهم وغالبوهم، ولو لم يخبروا أحدا بذلك.

6. ﴿قُلِ اِنَّ الْفَضْلَ﴾ الإسلام والنبوءة، أو الحجج التي أوتيها صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنون، أو نِعَم الدين والدنيا، فيدخل فيها ما المقام له أوَّلاً وبالذات، ﴿بِيَدِ اللهِ يُوتِيهِ مَنْ يَّشَآءُ﴾ تفضُّلا وتوفيقا لا يمكن رفعه ولا ردُّه، ومن يهد الله فما له من مضلٍّ، ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ﴾ كثير الفضل عظيم القدرة، ﴿عَلِيمٌ﴾ بمستحقِّه، ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ﴾ [الأنعام: 124]، وبمصالح العباد.

7. ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَّشَآءُ﴾ وهي النبوءة والإسلام والقرآن، قيل: وكثرة الذكر، وقد خصَّها بمحمَّد وأصحابه دونكم، ﴿وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ لا ضيق ولا بخل عنده، إِنَّمَا مَنَع من مَنَع منه لحكمة، والنبوءة من جملة الفضل.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/298.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ أي‏ أوله‏ ﴿وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ هذه الآية حكاية لنوع آخر من تلبيساتهم، وهي مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من المؤمنين أمر دينهم، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلّوا مع المسلمين، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم، فيظن الضعفاء أنه لا غرض لهم إلا الحق، وأنه ما ردهم عن الدين بعد اتباعهم له وترك العناد، وهم أولو علم وأهل كتاب، إلا ظهور بطلانه لهم، ولهذا قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي عن الإسلام كما رجعتم.

2. ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ من تتمة كلامهم أي ولا تصدقوا إلا نبيا تابعا لشريعتكم، لا من جاء بغيرها، أو ولا تؤمنوا ذلك الإيمان المتقدم، وهو إيمانهم وجه النهار، إلا لأجل حفظ أتباعكم وأشياعكم وبقائهم على دينكم‏.

3. ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ أي الذي هو الإسلام وقد جئتكم به، وما عداه ضلال فلا ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف ولا تقدرون على إضلال أحد منا بعد أن هدانا الله، ثم وصل به‏ تقريعهم فقال: ﴿أن﴾ بمد الألف على الاستفهام، في قراءة ابن كثير، وتقديرها في قراءة غيره، أي دعاكم الحسد والبغي حتى قلتم ما قلتم ودبرتموه ألأن‏ ﴿يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ من الشرائع والعلم والكتاب، ﴿أَوْ﴾ كراهة أن‏ ﴿يُحَاجُّوكُمْ﴾ أي الذين أوتوا مثل ما أوتيتم‏ ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ أي بالشهادة عليكم يوم القيامة أنهم آمنوا وكفرتم بعد البيان الواضح فيفضحكم.

4. ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ﴾ أي بإنزال الآيات وغيرها ﴿بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ فلا يمكنكم منعه‏ ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ﴾ كثير العطاء ﴿عَلِيمٌ﴾ ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ فيزيده فضلا عليكم‏ ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/335.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ قال محمد عبده: هذا النوع الذي تحكيه الآية من صد اليهود عن الإسلام مبني على قاعدة طبيعية في البشر وهي أن من علامة الحق أن لا يرجع عنه من يعرفه، وقد فقه هذا هرقل صاحب الروم فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شؤون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما دعاه إلى الإسلام: هل يرجع عنه من دخل في دينه؟ فقال أبو سفيان: لا.. وقد أرادت هذه الطائفة أن تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا: لولا أن أظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه، واطلعوا على باطنه وخوافيه، إذ لا يعقل أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته، ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب.

2. سؤال وإشكال: إن بعض الناس قد ارتدوا عن الإسلام بعد الدخول فيه رغبة لا حيلة ومكيدة، كما كاد هؤلاء، فماذا تقول في هؤلاء؟ والجواب: هذا يرجع إلى قاعدة أخرى، وهي أن بعض الناس قد يدخل في الشيء رغبة فيه لاعتقاده أن فيه منفعة له، لا لاعتقاده أنه حق في نفسه، فإذا بدا له في ذلك ما لم يكن يحتسب وخاب ظنه في المنفعة فإنه يترك ذلك الشيء، ويظهر لي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما أمر بقتل المرتد إلا لتخويف أولئك الذين كانوا يدبرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه، لأن مثل هذه المكايد إذا لم يكن لها أثر في نفوس الأقوياء من الصحابة الذين عرفوا الحق ووصلوا فيه إلى عين اليقين، فإنها قد تخدع الذين يدخلون في الإسلام لتفضيله على الوثنية في الجملة قبل أن تطمئن قلوبهم بالإيمان كالذين كانوا يعرفون بالمؤلفة قلوبهم، وبهذا يتفق الحديث الآمر بذلك مع الآيات النافية للإكراه في الدين والمنكرة له فيما رأى، وقد أفتيت بذلك كما ظهر لي.

3. ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ هذا من قول الكائدين من أهل الكتاب، وآمن له: صدقه وسلم له ما يقول قال تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ [العنكبوت: 26] وقال حكاية عن إخوة يوسف: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ [يوسف: 17] وقال محمد عبده: إن الإيمان يتعدى باللام إذا أريد بالتصديق الثقة والركون كقوله: ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي فيكون تصديقا خاصا تضمن معنى زائدا.

4. وذلك أن اليهود حصروا الثقة بأنفسهم لزعمهم أن النبوة لا تكون إلا فيهم بل غلوا في التعصب والغرور حتى حقروا جميع الناس فجعلوا كل ما يكون من أنفسهم حسنا وما يكون من غيرهم قبيحا، وهذا من الانتكاس الذي يحول بين أهله وبين كل خير، وإننا نرى من الناس من يحاول تغرير قومه بحملهم على أن يكونوا كذلك يحقرون كل ما لم يأت منهم وإن كان حسنا، فنعوذ بالله من الخذلان، وعسى أن يعتبر هؤلاء بما رد الله به على أهل الكتاب إذ قال لنبيه: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ لا هدى شعب معين هو لازم من لوازم ذاته فهو سبحانه يبين هداه على لسان من شاء من عباده لا تتقيد مشيئته بأحد ولا بشعب، أما قوله: {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم به عند بربكم} وقد قرأه ابن كثير (أآن) بهمزتين مع تليين الثانية والباقون بهمزة واحدة ففيه وجهان: أحدهما: أنه متصل بما حكاه تعالى من قول اليهود وجملة ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ اعتراضية بينه وبين ما سبقه، والمعنى ولا تصدقوا غير من تبع دينكم بأن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم أو يقيموا عليك الحجة عند ربكم، أي لا تعترفوا أمام العرب مثلا بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبي من غير بني إسرائيل إلخ وهذا مبني على أنهم كانوا ينكرون جواز بعثة نبي من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا اعتقادا وأنهم كانوا لا يصرحون باعتقاده المستكن في أنفسهم إلا لمن آمنوا له من قومهم لما هم عليه من المكر والمخادعة، وهذا الوجه ظاهر على قراءة الجمهور، هذا ما ظهر لي وهو نحو ما جرى عليه الزمخشري في الكشاف كما رأيته بعد قال: (أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، أرادوا: أسروا تصديقك بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام)، قال: (أو ﴿يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ عطف على ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ والضمير في يحاجوكم لأحد في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة، فإن قلت فما معنى الاعتراض؟ قلت معناه أن الهدى هدى الله من شاء أن يلطف به حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام كان كذلك ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيفكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين، وكذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يريد الهداية والتوفيق)، أي فهو مؤكد للاعتراض الأول أو هو اعتراض آخر يجيء بعد تمام الكلام، كقوله: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ بعد قوله: {إن الملوك إذ دخلوا قرية أفسدوها} [النمل: 34]

5. سؤال وإشكال: فإن قيل إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم عنه فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضا بالإقرار بما يدل على صحة دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عند أتباعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب؟ والجواب: قال النيسابوري: ليس المراد من هذا النهي الأمر بإفشاء هذا التصديق فيما بين أتباعهم بل المراد أنه إن اتفق منكم تكلم بهذا فلا يكن إلا عند خويصتكم وأصحاب أسراركم، على أنه يحتمل أن يكون شائعا، ولكن البغي والحسد كان يحملهم على الكتمان عن غيرهم، هذا ما قاله وهو مبني على أن المراد من الإيمان إظهاره والظاهر أن المراد به النهي عن تصديق من يقول ذلك من غيرهم أي الاعتراف له بأنه صادق كأنهم قالوا إذا قال لكم قائل إنه يجوز أن يؤتى غيركم من النبوة ما أوتيتم فكذبوه ولا تؤمنوا له، والمفهوم مسكوت عنه وهو مفهوم مخالفة، فيه من الخلاف في الأصول ما هو مشهور وإذا قلنا به فإنه يصدق بأن يؤمنوا لبعض أهل دينهم إذا قالوا بهذا الجواز كالمتفقين معهم على المكابرة والمكايدة للتنفير عن الإسلام، وأهل الجحود والكيد لا يكابد بعضهم بعضا فيما هو حجة للمخالف عليهم جميعا وإنما يكابرون المخالفين.

6. سؤال وإشكال: كيف وقع قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ بين جزئي كلام واحد وهذا لا يليق بكلام الفصحاء؟ والجواب: قال القفال: (يحتمل أن يكون هذا كلاما أمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم ن يقوله عندما وصل الكلام إلى هذا الحد كأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولا باطلا لا جرم أدب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يقابله بقول حق ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولا فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة: آمنت بالله، أو لا إله إلا الله، أو تعالى الله، ثم يعود إلى تلك الحكاية)، ويجوز على هذا الوجه أن تكون الباء المحذوفة من ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ للسببية ويكون المعنى آمنوا وجه النهار مخادعة واكفروا آخره مكايدة ولا تؤمنوا إيمانا حقيقا ثابتا إلا لمن تبع دينكم وأقركم على ما أنت عليه من التوراة بسبب إتيان أحد كمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مثل ما أوتيتم من النبوة والوحي، أو بسبب ما يخشى من محاجته لكم عند ربكم في الآخرة، والسببية معلقة بالنهي، أي لا يكون إتيان محمد بدين حق وشرع إلهي كالذي أوتيتموه على لسان موسى سببا في الإيمان له.

7. أما قراءة ابن كثير بالاستفهام: فأقرب ما تفسر به على هذا الوجه أي وجه كون الكلام حكاية عن اليهود أن يقال: إن المصدر الذي يؤخذ من ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ مبتدأ خبر محذوف للعلم به من قرينة الحال والخطاب، والمعنى أإتيان أحد بمثل ما أوتيتم يحملكم على الإيمان له وإن لم يتبع دينكم؟ أي إن هذا منكر لا ينبغي أن يكون، ولم أر هذا ولا ما قبله لأحد.. والوجه الثاني: أن يكون قوله ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ من كلام الله تعالى بناء على أن حكاية كلام اليهود قد انتهت بقوله {دينك} وعلى هذا تكون قراءة ابن كثير أظهر، وتقرير المعنى عليها: أتكيدون هذا الكيد كراهة أن يؤتى أحد ما أوتيتم؟ أو: أإيتاء أحد مثل ما أوتيتم يحملكم على ذلك الباطل؟ ويحتمل على هذا أن يكون قوله: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ بمعنى حتى يحاجوكم إذ وردت (أو) بمعنى (حتى) أو بمعنى الواو كما قيل، أو التقدير الأجل أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يتصل بذلك محاجتكم عند ربكم كدتم ذلك الكيد؟ ينكر عليهم ذلك.

8. أما قراءة الجمهور فيجوز أن تحمل على هذه القراءة لأن أداة الاستفهام يجوز حذفها استغناء عنها بلحن القول وكيفية الأداء، ويجوز فيها وجوه أخرى أظهرها أن يكون المعنى: قل إن الهدى الذي هو هدى الله هو أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ويحاجوكم به عند ربكم في الآخرة، أي وذلك جائز داخل في مشيئة الله فلا وجه لإنكاره ولذلك أعقبه بقوله ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ فالكلام كله رد عليهم من الله تعالى، وأقوى هذه الوجوه ما يوافق القراءتين وهو ان قوله تعالى ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى﴾ إلى آخر الآية رد عليهم وإن قوله ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ استفهام إنكاري على القراءتين، والمعنى: أتفعلون ما تفعلون من الكيد للمؤمنين ومن كتمان الحق عن غير أبناء دينكم كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلخ.

9. عندي أن في الكلام لفا ونشرا مرتبا، وهو أن كراهتهم أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا هو سبب كيدهم للمؤمنين ليرجعوا، وكراهتهم أن يحاجهم بعض المؤمنين عند ربهم هو سبب كتمانهم ذلك عمن لم يتبع دينهم أو عدم الإيمان لهم إذا هم ادعوه، ويشهد لهذا الأخير قوله تعالى حكاية عنهم: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: 76] هذا ما فتح الله علي به وله الحمد، وما عدا هذا مما أكثروا فيه فانتزاع بعيد من البلاغة لا يقبله الذوق إلا باستكراه وتكلف.

10. ختم الآية بقوله: ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ لبيان سعة فضله وإحاطة علمه بالمستحق له وللإشعار بأن اليهود قد ضيقوا بزعمهم حصر النبوة فيهم هذا الفضل الواسع وجهلوا كنه هذا العلم المحيط.

11. ثم بين تعالى أن فضله الواسع ورحمته العامة تابعة لمشيئته لا لوساوس المغرورين من أهل الكتاب الذين حجروهما بجهلهم فقال: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ فهو يجعل من يشاء نبيا ويبعثه رسولا ومن اختصه بذلك فإنما يختصه بمحض فضله العظيم لا بعمل قدمه، ولا لنسب شرفه، وإن جهل ذلك الذين يظنون أنه تعالى يحابي الأفراد أو الشعوب بذلك وبغيره، تعالى الله عن ذلك.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/334.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مقصد هذه الطائفة أن تفسد الناس فيقولوا: لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه، إذ ليس من المعقول أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته ويرجع عنه بلا سبب، وليتهم وقف الأمر بهم إلى حد القول، بل هم قد فعلوا ذلك.

2. ليس بالغريب منهم أن يلجئوا إلى مثل هذه الحيلة، إذ هم يعلمون أن من علامة الحق ألا يرجع عنه من يعرفه، يرشد إلى هذا قول هرقل صاحب الروم لأبي سفيان حين سأله عن شؤون محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما دعاه إلى الإسلام: هل يرجع عنه من دخل في دينه؟ فقال أبو سفيان (لا)، وقد حذر الله نبيه مكر هؤلاء، وأطلعه على سرهم حتى لا تؤثر هذه الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين، ولأنهم إذا افتضحوا فيها لا يقدمون على أمثالها، ويكون ذلك وازعا لهم، وفي هذا إنباء بالغيب فيكون معجزة لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

3. ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ هذا من كلام اليهود الذين حصروا الثقة في أنفسهم زعما منهم أن النبوة لا تكون إلا فيهم، بل لقد تغالوا وحقّروا جميع الطوائف، وجعلوا أن كل ما يصدر منهم حسن، وما يصدر من سواهم قبيح، وخلاصة المعنى ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أوّلا، وهم الذين أسلموا منهم، ومقصدهم من ذلك رجوعهم عن إسلامهم لأنهم كانوا راغبين فيه جد الرغبة طامعين فيه، فلهم من إسلامهم حنق وغيظ عظيم.

4. ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ أي ليس الهدى مقصورا على شعب معين أو واحد بذاته، بل الله سبحانه يهدى من يشاء من عباده على لسان من يريد من أنبيائه، ومن يهد الله فلا مضلّ له، فكيدهم لا يضير من أراد الله به الخير، بل يحبط تدبيرهم له.

5. ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ هذا من كلام اليهود، وجملة ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ اعتراضية بينه وبين ما سبقه، والمعنى ـ لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم.

6. تلخيص المراد: لا تعترفوا أمام العرب أو غيرهم بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبيّ من غير بنى إسرائيل، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة، وهذا مبنى على أنهم كانوا ينكرون جواز بعثة نبيّ من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا اعتقادا، وأنهم كانوا لا يصرحون بهذا الاعتقاد إلا لمن آمنوا به من قومهم لما هم عليه من المكر والمخادعة.

7. صفوة القول: ولا تظهروا إيمانكم بأن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، بل أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ذلك ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام.

8. ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي قل لهم: إن الرسالة فضل من الله ومنة، والله واسع العطاء وهو العليم بالمستحق، فيعطيه من هو له أهل، وفي هذا إيماء إلى أن اليهود قد ضيّقوا هذا الفضل الواسع بزعمهم حصر النبوة فيهم وجهلوا الحكم والمصالح التي لأجلها يعطى النبوة من يشاء.

9. ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ أي إن فضله الواسع ورحمته العامة يعطيهما بحسب مشيئته، لا كما يزعم أهل الكتاب من قصرها على الشعب المختار من بنى إسرائيل، فهو يبعث من يشاء نبيا ويبعثه رسولا، ومن اختصه بهذا فإنما يختصه بمزيد فضله وعظيم إحسانه، لا بعمل قدّمه ولا لنسب شرّفه، فالله لا يحابى أحدا لا فردا ولا شعبا، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/186.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كذلك يعرض بعض المحاولات التي يبذلها فريق من أهل الكتاب لبلبلة الجماعة المسلمة في دينها، وردها عن الهدى، من ذلك الطريق الماكر اللئيم: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾

2. وهي طريقة ما كرة لئيمة كما قلنا، فإن إظهارهم الإسلام ثم الرجوع عنه، يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته.. يوقعهم في بلبلة واضطراب، وبخاصة العرب الأميين، الذين كانوا يظنون أن أهل الكتاب أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب، فإذا رأوهم يؤمنون ثم يرتدون، حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص في هذا الدين، وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال.

3. وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم، في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل، ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة.

4. إن لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشا جرارا من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين ـ وأحيانا كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين ـ يحملون أسماء المسلمين، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة! وبعضهم من (علماء) المسلمين! هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة، وتوهين قواعدها من الأساس، والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء، وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق، والدق المتصل على (رجعيتها)! والدعوة للتلفت منها، وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها! وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها، وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية، وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخر في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثرا! ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص! وهم بعد مسلمون! أليسوا يحملون أسماء المسلمين؟ وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار، وبهذه المحاولات المجرمة يكفرون آخره.. ويؤدون بهذه وتلك دور أهل الكتاب القديم، لا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم! وكان أهل الكتاب يقول بعضهم لبعض: تظاهروا بالإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم.

5. وليكن هذا سرا بينكم لا تبدونه ولا تأتمنون عليه إلا أهل دينكم: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾، وفعل الإيمان حين يعدّى باللام يعني الاطمئنان والثقة، أي ولا تطمئنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تفضوا بأسراركم إلا لهؤلاء دون المسلمين!

6. وعملاء الصهيونية والصليبية اليوم كذلك.. إنهم متفاهمون فيما بينهم على أمر.. هو الإجهاز على هذه العقيدة في الفرصة السانحة التي قد لا تعود.. وقد لا يكون هذا التفاهم في معاهدة أو مؤامرة، ولكنه تفاهم العميل مع العميل على المهمة المطلوبة للأصيل! ويأمن بعضهم لبعض فيفضي بعضهم إلى بعض.. ثم يتظاهرون ـ بعضهم على الأقل ـ بغير ما يريدون وما يبيتون.. والجو من حولهم مهيأ، والأجهزة من حولهم معبأة.. والذين يدركون حقيقة هذا الدين في الأرض كلها مغيبون أو مشردون! ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾

7. وهنا يوجه الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يعلن أن الهدى هو وحده هدى الله؛ وأن من لا يفيء إليه لن يجد الهدى أبدا في أي منهج ولا في أي طريق: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾، ويجيء هذا التقرير ردا على مقالتهم: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ تحذيرا للمسلمين من تحقيق الهدف اللئيم، فهو الخروج من هدى الله كله، فلا هدى إلا هداه وحده، وإنما هو الضلال والكفر ما يريده بهم هؤلاء الماكرون.

8. يجيء هذا التقرير قبل أن ينتهي السياق من عرض مقولة أهل الكتاب كلها.. ثم يمضي يعرض بقية تآمرهم بعد هذا التقرير المعترض: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾، بهذا يعللون قولهم: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾.. فهو الحقد والحسد والنقمة أن يؤتي الله أحدا من النبوة والكتاب ما آتى أهل الكتاب، وهو الخوف أن يكون في الاطمئنان للمسلمين واطلاعهم على الحقيقة التي يعرفها أهل الكتاب، ثم ينكرونها، عن هذا الدين، ما يتخذه المسلمون حجة عليهم عند الله! ـ كأن الله سبحانه لا يأخذهم بحجة إلا حجة القول المسموع! ـ وهي مشاعر لا تصدر عن تصور إيماني بالله وصفاته؛ ولا عن معرفة بحقيقة الرسالات والنبوات، وتكاليف الإيمان والاعتقاد!

9. ويوجه الله سبحانه رسوله الكريم ليعلمهم ـ ويعلم الجماعة المسلمة ـ حقيقة فضل الله حين يشاء أن يمن على أمة برسالة وبرسول: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، وقد شاءت إرادته أن يجعل الرسالة والكتاب في غير أهل الكتاب؛ بعد ما خاسوا بعهدهم مع الله؛ ونقضوا ذمة أبيهم إبراهيم؛ وعرفوا الحق ولبسوه بالباطل؛ وتخلوا عن الأمانة التي ناطها الله بهم؛ وتركوا أحكام كتابهم وشريعة دينهم؛ وكرهوا أن يتحاكموا إلى كتاب الله بينهم، وخلت قيادة البشرية من منهج الله وكتابه ورجاله المؤمنين.. عندئذ سلم القيادة، وناط الأمانة، بالأمة المسلمة، فضلا منه ومنة، ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾

10. ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾.. عن سعة في فضله وعلم بمواضع رحمته.. ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.. وليس أعظم من فضله على أمة بالهدى ممثلا في كتاب، وبالخير ممثلا في رسالة.. وبالرحمة ممثلة في رسول، فإذا سمع المسلمون هذا أحسوا مدى النعمة وقيمة المنة في اختيار الله لهم، واختصاصه إياهم بهذا الفضل، واستمسكوا به في إعزاز وحرص، وأخذوه بقوة وعزم، ودافعوا عنه في صرامة ويقين، وتيقظوا لكيد الكائدين وحقد الحاقدين، وهذا ما كان يربيهم به القرآن الكريم والذكر الحكيم، وهو ذاته مادة التربية والتوجيه للأمة المسلمة في كل جيل.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/416.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من مكر بعض الطوائف من أهل الكتاب، وكيدهم للإسلام والمسلمين، تلك التجربة التي أرادوا أن يفسدوا بها على المسلمين دينهم، وأن يدخلوا الشك عليهم من جهته، وهذه الطائفة هي من جماعة اليهود، الذين يكيدون للإسلام ويتربصون به، وانظر كيف سوّلت لهم أنفسهم، وإلى أين قادهم الحقد ودفع بهم الحسد؟ لقد ائتمروا فيما بينهم، وتخيروا جماعات منهم يدسونهم في الإسلام، ويدخلونهم مع المسلمين، على حساب أنهم دخلوا في الإسلام، وصاروا من المسلمين.

2. هذه هي المرحلة الأولى من مراحل التجربة، وإذا دخلت هذه الجماعة في الإسلام، وحسبت في المسلمين، فإن لها أن تحدّث عن الإسلام، وأن تقول قولتها فيه، وفيما وجدت منه! وما ذا لو أنّها قالت في الإسلام قولة السوء؟ وما ذا لو رمت الإسلام بكل نقيصة ومعيبة؟ أليست لسانا من ألسنة المسلمين؟ وأليس ما تقوله عن علم وتجربة؟ ومن ذاق عرف، كما يقولون؟ إن ذلك من شأنه أن يحدث اضطرابا وخلخلة في المجتمع الإسلامي، وأن يثير شكوكا في قلوب الضعفاء والجهلة، وعند من لم ترسخ أقدامهم بعد على طريق الإسلام.

3. ذلك ما قدره أصحاب هذه (اللعبة) لتجربتهم الصبيانية تلك، وقد جاء أمرهم على غير ما قدروا ودبّروا! فبدلا من أن يثيروا البلبلة والاضطراب في محيط الإسلام والمسلمين، وقع الاضطراب والبلبلة في جماعتهم هم، وإذا كثير من هؤلاء الذين أرسلوهم ليكونوا كلاب صيد في حمى الإسلام، صادهم الإسلام، وعلقوا في حباله.. فما أن عاش بعضهم في الإسلام ساعات حتى استولت عليه روح الإسلام، وطردت من كيانه نوازع الزيغ والضلال، فدخل في الإسلام عن يقين، بعد أن كان قد غشى حماه للكيد والإفساد.

4. ومن غلبت عليه شقوته من كلاب الصيد هذه، فلم يدخل الإسلام ولم يعتقده، عاد إلى جماعته مثخنا بالجراح، فلم يصبح مسلما، ولم يعد كافرا.. بل تحوّل إلى منافق، يتردد أمره بين الإيمان والكفر..! من أجل هذا كان من وصاة تلك الجماعة المتآمرة، لمن ترسلهم من كلاب الصيد هذه ـ كانت وصاتهم لهم: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ يحذّرونهم من أن يلقوا أسماعهم إلى المسلمين، وأن يفتحوا قلوبهم إلى ما يحدّثونهم به من الإسلام، وإلا ساءت العاقبة، وفسد التدبير!

5. وقد شاء الله أن تسيء العاقبة، عاقبة تلك الجماعة المتآمرة، وأن يفسد تدبيرها، ويسوء مصيرها، فتعلو كلمة الإسلام، ويموت الشانئون والكائدون، غيظا وكمدا!

6. في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ رد على أولئك الذين اعتقدوا أنهم على الحق، وهم الضالون المضلون، ولم يقع في تصورهم أن‏ يكون لله سبحانه وتعالى فضل على غيرهم، أو أن يؤتى ـ سبحانه ـ أحدا غيرهم كتابا، كما أتاهم كتابا، فمكروا به وحرّفوه، لهذا أمر الله نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبطل هذا التصور الفاسد الذي تصوروه، وأن يقول لهم كلمة الحق التي ألقاها الله إليه: ﴿إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ أي إن الهدى هو ملك لله، لا ملك لأحد معه فيه، وأنه نعمة من نعمه، ورزق من أرزاقه، يضعه حيث يشاء، ويهدى به من يشاء، وأنه ليس محبوسا على اليهود وحدهم، مقصورا عليهم، لا ينال منه أحد غيرهم.

7. في قوله تعالى: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ ما يكشف عن ظن اليهود بأنفسهم، وأنهم فوق العالمين، وأن الله هو ربّهم وحدهم، وأن رحمته ونعمته لا تنزلان إلا عليهم، وهم لهذا ينكرون كل نعمة تصيب غيرهم، وكل فضل يناله سواهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم‏: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ ويقول سبحانه فيهم: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ المصدر المؤول من أن وما بعدها في قوله تعالى: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ هو معمول للام التعليل المتعلق بفعل محذوف قبله، تقديره: فلا تقتلوا أنفسكم حسدا لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ركبتم الضلال وعميتم عن الحق، وفقدتم عقولكم فأهلكتم أنفسكم؟

8. قوله تعالى: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ معطوف على قوله تعالى‏ ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ والمعنى: ألأن أوتى المسلمون كتابا من عند الله فاهتدوا، كما أوتيتم أنتم كتابا من عند الله فلم تنتفعوا به، وقامت الحجة به عليكم، ولأن أصبح للمسلمين الحجة عليكم بهذا الكتاب الذي في أيديهم، والذي يحدّث عنه كتابكم الذي في أيديكم ـ ألهذا وذاك جحدتم الحق، وتنكرتم له، وحرّفتم كتابكم ليلتقي ما فيه مع أهوائكم، وليطفئ داء الحسد المتقد في صدوركم؟

9. ولقد مكر اليهود بأنفسهم، وأفسدوا الكتاب الذي في أيديهم، والذي يحدّث عن محمد، ويبشر به وبكتابه الذي أنزله الله عليه، حتى لا يكون للمسلمين حجة عليهم يلزمونهم بها، وما تنطق به التوراة من تصديق بمحمد وبكتاب الله الذي معه، في هذا يقول الله تعالى عنهم: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ ذلك أن اليهود كانوا يعلمون ما في التوراة عن (محمد) وعن رسالته، وأنّهم قد استقبلوا محمدا من أول الأمر بالتكذيب، وبادءوه بالعداوة والبغضاء، فلم يكن لهم ـ والشأن كذلك ـ إلّا يمضوا في الشوط إلى نهايته، بل وأن يمعنوا في التكذيب، وأن يتطاولوا في العداوة والبغضاء.. وكان من أسلحتهم في تلك الحرب أن يطمسوا ما في التوراة من الحق الذي تتحدث به عن (محمد) ورسالته.

10. قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ هو ردّ آخر على اليهود الذين أرادوا أن يحتجزوا فضل الله، وأن يجعلوه خالصا لهم.. شحّا وحسدا أن يصيب أحد خيرا غيرهم.. ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ يسع فضله النّاس جميعا، دون أن ينقص من فضل الله شيء.. ولكن‏ اليهود يرون الله وكأنه أحد أغنيائهم، وأنه بقدر ما ينفق، يكون النقص فيما بين يديه من مال، ولو استمر في الإنفاق لنفد ما بين يديه.. وفيهم يقول الله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا﴾، وللإنسان أن يذهب مذهب التقتير، لأنه إنسان، ملكه محدود وإن بلغ ما بلغ من كثرة واتساع، وتعالى الله علوا كبيرا أن ينظر إليه وإلى فضله هذا النظر الذي يجعله والناس على سواء وقد كشف الله سبحانه وتعالى عن هذا الخلق اللئيم المندس في طبيعة اليهود، وهو الحسد القاتل، الذي يأكل صدورهم، إذا نال أحد من الناس خيرا.. يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾.. إنها كزازة نفس، وسوء خلق، وفساد ضمير، وأنانية فاتلة، وشحّ لئيم.

11. قوله تعالى: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ رد ثالث على اليهود بأن فضل يقع حيث يشاء، وينزل حيث أراد الله أن ينزل: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ وفضل الله عظيم، ورحمته واسعة {فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/494.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ عطف على‏ ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ﴾ [آل عمران: 69]، فالطائفة الأولى حاولت الإضلال بالمجاهرة، وهذه الطائفة حاولته بالمخادعة، قيل أشير إلى طائفة من اليهود منهم كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وغيرهما من يهود خيبر، أغواهم العجب بدينهم فتوهموا أنهم قدوة للناس فلما أعيتهم المجاهرة بالمكابرة دبروا للكيد مكيدة أخرى، فقالوا لطائفة من أتباعهم: (آمنوا بمحمد أول النهار مظهرين أنكم صدّقتموه ثم اكفروا آخر النهار ليظهر أنكم كفرتم به عن بصيرة وتجربة فيقول المسلمون ما صرف هؤلاء عنا إلّا ما انكشف لهم من حقيقة أمر هذا الدين، وأنّه ليس هو الدين المبشر به في الكتب السالفة) ففعلوا ذلك.

2. قوله تعالى: ﴿عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يحتمل أنه من لفظ الحكاية بأن يكون اليهود قالوا آمنوا بالذي أنزل على أتباع محمد فحوّله الله تعالى فقال على الذين آمنوا تنويها بصدق إيمانهم، ويحتمل أنه من المحكيّ بأن يكون اليهود أطلقوا هذه الصلة على أتباع محمد إذ صارت علما بالغلبة عليهم.

3. وجه النهار أوله وتقدم آنفا عند قوله تعالى: ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [آل عمران: 45]

4. ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ من كلام الطائفة من أهل الكتاب قصدوا به الاحتراس ألا يظنوا من قولهم آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار أنه إيمان حقّ، فالمعنى ولا تؤمنوا إيمانا حقا إلّا لمن تبع دينكم، فأما محمد فلا تؤمنوا به لأنه لم يتبع دينكم فهذا تعليل للنهي، وهذا اعتذار عن إلزامهم بأنّ كتبهم بشرت بمجيء رسول مقفّ فتوهموا أنه لا يجيء إلّا بشريعة التوراة، وضلوا عن عدم الفائدة في مجيئه بما في التوراة لأنه من تحصيل الحاصل، فينزّه فعل الله عنه، فالرسول الذي يجيء بعد موسى لا يكون إلّا ناسخا لبعض شريعة التوراة فجمعهم بين مقالة: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وبين مقالة: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾ مثل‏ ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ [الأنفال: 17]

5. ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ كلام معترض، أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقوله لهم، كناية عن استبعاد حصول اهتدائهم، وأنّ الله لم يهدهم، لأنّ هدى غيره أي محاولته هدى الناس لا يحصل منه المطلوب، إذا لم يقدّره الله، فالقصر حقيقي: لأنّ ما لم يقدّره الله فهو صورة الهدى وليس بهدى وهو مقابل قولهم: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ﴾ ـ ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾، إذ أرادوا صورة الإيمان، وما هو بإيمان، وفي هذا الجواب إظهار الاستغناء عن متابعتهم.

6. ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ أشكل موقع هذه الآية بعد سابقتها وصف نظمها، ومصرف معناها: إلى أي فريق، وقال القرطبي: إنها أشكل آية في هذه السورة، وذكر ابن عطية وجوها ثمانية، ترجع إلى احتمالين أصليين:

أ. الاحتمال الأول: أنها تكملة لمحاورة الطائفة من أهل الكتاب بعضهم بعضا، وأن جملة ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ معترضة في أثناء ذلك الحوار، وعلى هذا الاحتمال تأتي‏ وجوه نقتصر منها على وجهين واضحين:

أ. أحدهما: أنهم أرادوا تعليل قولهم: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ على أن سياق الكلام يقتضي إرادتهم استحالة نسخ شريعة التوراة، واستحالة بعثة رسول بعد موسى، وأنه يقدّر لام تعليل محذوف قبل (أن) المصدرية وهو حذف شائع مثله، ثم إما أن يقدر حرف نفي بعد (أن) يدل عليه هذا السياق ويقتضيه لفظ (أحد) المراد منه شمول كلّ أحد: لأنّ ذلك اللفظ لا يستعمل مرادا منه الشمول إلّا في سياق النفي، وما في معنيّ النفي مثل استفهام الإنكار، فأما إذا استعمل (أحد) في الكلام الموجب فإنه يكون بمعنى الوصف بالوحدة، وليس ذلك بمناسب في هذه الآية، فتقدير الكلام لأن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وحذف حرف النفي بعد لام التعليل، ظاهرة ومقدّرة، كثير في الكلام، ومنه قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: 176]، أي لئلّا تضلوا، والمعنى: أنّ قصدهم من هذا الكلام تثبيت أنفسهم على ملازمة دين اليهودية، لأن اليهود لا يجوّزون نسخ أحكام الله، ويتوهمون أنّ النسخ يقتضي البداء.

ب. الثاني: أنهم أرادوا إنكار أن يؤتى أحد النبوءة كما أوتيها أنبياء بني إسرائيل فيكون الكلام استفهاما إنكاريا حذفت منه أداة الاستفهام لدلالة السياق؛ ويؤيده قراءة ابن كثير قوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ بهمزتين، وأما قوله: أو يحاجوكم عند ربكم فحرف (أو) فيه للتقسيم مثل‏ ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: 24] (أو) معطوف على النفي، أو على الاستفهام الإنكاري: على اختلاف التقديرين، والمعنى: ولا يحاجوكم عند ربكم ـ أو ـ وكيف يحاجونكم عند ربكم، أي لا حجة لهم عليكم عند الله، وواو الجمع في‏ ﴿يُحَاجُّوكُمْ﴾ ضمير عائد إلى (أحد) لدلالته على العموم في سياق النفي أو الإنكار، وفائدة الاعتراض في أثناء كلامهم المبادرة بما يفيد ضلالهم لأنّ الله حرمهم التوفيق.

ب. الاحتمال الثاني أن تكون الجملة مما أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يقوله لهم بقية لقوله: ﴿إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾، والكلام على هذا ردّ على قولهم: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ ـ وقولهم ـ ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ على طريقة اللفّ والنشر المعكوس، فقوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ إبطال لقولهم: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ أي قلتم ذلك حسدا من أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم وقوله: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ ردّ لقولهم: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ على طريقة التهكم، أي مرادكم التنصّل من أن يحاجوكم أي الذين آمنوا عند الله يوم القيامة، فجمعتم بين الإيمان بما آمن به المسلمون، حتى إذا كان لهم الفوز يوم القيامة لا يحاجونكم عند الله بأنكم كافرون، وإذا كان الفوز لكم كنتم قد أخذتم بالحزم إذ لم تبطلوا دين اليهودية، وعلى هذا فواو الجماعة في قوله: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ عائد إلى الذين آمنوا، وهذا الاحتمال أنسب نظما بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾، ليكون لكلّ كلام حكي عنهم تلقين جواب عنه: فجواب قولهم: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية، قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾، وجواب قولهم: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾.. قوله: قل إنّ الفضل بيد الله إلخ، فهذا ملاك الوجوه، ولا نطيل باستيعابها إذ ليس من غرضنا في هذا التفسير.

7. كلمة ﴿أَحَدٌ﴾ اسم نكرة غلب استعمالها في سياق النفي ومعناها شخص أو إنسان وهو معدود من الأسماء التي لا تقع إلّا في حيّز النفي فيفيد العموم مثل عريب وديّار ونحوهما وندر وقوعه في حيّز الإيجاب، وهمزته مبدلة من الواو وأصله وحد بمعنى واحد ويرد وصفا بمعنى واحد، وقرأ الجمهور ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ بهمزة واحدة هي جزء من حرف (أن)، وقرأه ابن كثير بهمزتين مفتوحتين أولاهما همزة استفهام والثانية جزء من حرف (أن) وسهل الهمزة الثانية.

8. ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ زيادة تذكير لهم وإبطال لإحالتهم أن يكون محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم رسولا من الله، وتذكير لهم على طرح الحسد على نعم الله تعالى أي كما أعطى الله الرسالة موسى كذلك أعطاها محمدا، وهذا كقوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [النساء: 54]، وتأكيد الكلام ب (إنّ) لتنزيلهم منزلة من ينكر أنّ الفضل بيد الله ومن يحسب أنّ‏ الفضل تبع لشهواتهم.

9. جملة ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ عطف على جملة أنّ الفضل بيد الله.. أي أنّ الفضل بيد الله وهو لا يخفى عليه من هو أهل لنوال فضله، و﴿وَاسِعُ﴾ اسم فاعل الموصوف بالسعة، وحقيقة السعة امتداد فضاء الحيّز من مكان أو ظرف امتدادا يكفي لإيواء ما يحويه ذلك الحيز بدون تزاحم ولا تداخل بين أجزاء المحويّ، يقال أرض واسعة وإناء واسع وثوب واسع، ويطلق الاتساع وما يشتقّ منه على وفاء شيء بالعمل الذي يعمله نوعه دون مشقة يقال: فلان واسع البال، وواسع الصدر، وواسع العطاء، وواسع الخلق، فتدلّ على شدّة أو كثرة ما يسند إليه أو يوصف به أو يعلق به من أشياء ومعان، وشاع ذلك حتى صار معنى ثانيا.

10. ﴿وَاسِعُ﴾ من صفات الله وأسمائه الحسنى وهو بالمعنى المجازي لا محالة لاستحالة المعنى الحقيقي في شأنه تعالى، ومعنى هذا الاسم عدم تناهي التعلقات لصفاته ذات التعلق فهو واسع العلم، واسع الرحمة، واسع العطاء، فسعة صفاته تعالى أنها لا حدّ لتعلقاتها، فهو أحقّ الموجودات بوصف واسع، لأنه الواسع المطلق، وإسناد وصف واسع إلى اسمه تعالى إسناد مجازي أيضا لأنّ الواسع صفاته ولذلك يؤتى بعد هذا الوصف أو ما في معناه من فعل السعة بما يميز جهة السعة من تمييز نحو: ﴿وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾، ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾، فوصفه في هذه الآية بأنه واسع هو سعة الفضل لأنه وقع تذييلا لقوله: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وأحسب أنّ وصف الله بصفة واسع في العربية من مبتكرات القرآن.

11. ﴿عَلِيمٌ﴾ صفة ثانية بقوة علمه أي كثرة متعلّقات صفة علمه تعالى، ووصفه بأنه عليم هنا لإفادة أنه عليم بمن يستأهل أن يؤتيه فضله ويدل على علمه بذلك ما يظهر من آثار إرادته وقدرته الجارية على وفق علمه متى ظهر للناس ما أودعه الله من فضائل في بعض خلقه، قال تعالى: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]

12. جملة ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ بدل بعض من كل لجملة ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ فإنّ رحمته بعض مما هو فضله، وجملة ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ تذييل وتقدم تفسير نظيره عند قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ واللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/127.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بيّن الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن أهل الكتاب يودون أن يضل المؤمنون، ويعملون على إضلالهم، وكلما أمعنوا في هذا الطريق ازدادوا ضلالا، وما ازداد المؤمنون إلا إيمانا، وإن وجدوا في ضعاف الإيمان ما يشبع نهمتهم وقتيا فإنهم سرعان ما يقوى إيمانهم بالحق، ويرتد أولئك المضلون في طغيانهم يعمهون، وفي هذه الآيات يبين سبحانه طريق طائفة منهم في إضلال المؤمنين، وإثارة الشك في قلوب ضعاف المؤمنين، وهى أن يظهروا الإيمان والإذعان والاطمئنان‏ إلى الحقائق الإسلامية، ليظن فيهم الظن الحسن من لم يعرف مكرهم وكيدهم، حتى إذا اطمأن الناس إليهم أعلنوا كفرهم، بعد مظهر الإيمان ليوهموا المؤمنين أنهم كانوا مخلصين في إيمانهم طالبين الحق بهذا الإيمان، فلما تبين لهم البطلان خرجوا، فقد يخرج بهذا الخروج ضعاف الإيمان، ويلقون بذلك بين المسلمين شكا عمليا.

2. وقد حكى الله سبحانه وتعالى عمل هذه الطائفة الماكرة الخبيثة فقال عزّ من قائل: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾، والروايات في هذا كثيرة، وكلها متلاقية في المعنى غير متنافرة(2)، وخلاصتها: أن أولئك المضللين الذين أكل الحسد قلوبهم دعا بعضهم أن يظهروا الإسلام ليبدوا طلاب حقيقة، فإن رجعوا استطاعوا أن يجتذبوا معهم بعض ضعفاء الإيمان.

3. المراد بوجه النهار ما يقابل آخره، وهو أول النهار، وعبر عنه بالوجه؛ لأن أول النهار هو وقت إقباله، والوجه هو مظهر الإقبال، والوجه أيضا كناية عن الظهور، وأول النهار هو وقت الظهور ووقت الوضوح، بعكس آخره.

4. سؤال وإشكال: هل معنى الاتفاق الذي اتفقوا عليه هو أن يبدؤوا في الضحى فيسلموا ثم يكفروا في المساء؟ والجواب: ظاهر اللفظ ذلك، ولكن يبدو للمتأمل البصير أنهم يريدون أن يسلموا حينا من الزمان حتى تتم الثقة بهم والاطمئنان إليهم، ثم يكفروا من بعد ذلك، على ألا يستغرق إظهارهم الإسلام إلا أمدا يستطيعون فيه جلب الثقة إليهم؛ ويكون حينئذ التعبير كله من قبيل الاستعارة التمثيلية، سيقت لتصور حالهم التي اتفقوا عليها، وهى أنهم يظهرون الإيمان ثم يكفرون بعد أمد قصير، فالاستعارة لتصوير سرعة الرجوع وإظهار الكفر، وتأكد التعاقب بين إظهار الكفر وإظهار الإسلام، كما يتعاقب ظهور آخره بعد أوله.

5. وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم مقصدهم ومكرهم السيئ بقوله تعالت كلماته: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ فهذا التعبير يفيد بيان مقصدهم وهو رجاء أن يرجع بعض المؤمنين إلى الكفر بعد الإيمان، ولكنهم عبروا عن البعض باسم الكل، فإنه لا يمكن أن يرجعوا جميعا، بل الذي يرجى رجوعه من المسلمين هو الضعيف غير القوى في دينه، غير المطمئن في يقينه، ولكن كفر هذا الفريق بعد إيمان يحدث اضطرابا في جماعة المسلمين، فيكون التظنن فيهم، وحيث جرى الشك في الجماعة كان وراءه التفرق وفقد الثقة، وكان وراءهما الفشل الذريع، وإنهم من بعد ذلك يطمعون أن تعود الجزيرة العربية إلى الشرك بعد هذا الإيمان الذي هددهم في كيانهم؛ وكذلك سولت لهم نفوسهم، فإن الذي يركب رأسه الشيطان توسوس له نفسه بالشر، ويتسع أفق تصوره حتى يتمنى الأماني البعيدة القاصية كأنها قريبة دانية.

6. إن تلك الطريقة التي سلكوها من أقوى ما تفتق عنه التدبير الإبليسى؛ فإن إظهار الكفر بعد إظهار الإيمان مع التذرع بتلبيسات مضللة من شأنه أن يدخل الشك في ضعفاء الإيمان، وقد يكون معه الجهر بما يثير الريب حتى في أقوى الحقائق صدقا وأجدرها باليقين؛ ولذلك كانت عقوبة الردة التي ثبتت بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من بدّل دينه فاقتلوه)، هي القتل؛ وذلك لقطع السبيل على الذين يدخلون في الإسلام ظاهرا، وهم يريدون إثارة الشك حول حقائقه، وليس في ذلك منافاة للحرية الدينية التي قررها الإسلام في قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة] ولقد كان أولئك الذين أخذوا بذلك الطريق الخبيث لإفساد العقائد يظهرون في عصور الإسلام الوقت بعد الآخر، وهم الزنادقة، فهم كانوا في باطنهم كفارا يستترون بستار الإسلام ليفسدوا الأمر على أهل الإسلام، ويشككوا الناس في عقائدهم، وإن الفقهاء كانوا يحذرون الناس من سمومهم التي ينفثونها، وقرر جمهورهم أن كل مرتد يستتاب إلا من عرف بالزندقة، فإنه يتخذ التوبة ستارا ليستطيع بها الكيد للإسلام وأهله، فيرد عليه كيده في نحره، وإن ظهر منه الكفر الذي يحاول ستره يؤخذ بالنواصى والأقدام.

7. إن أهل الكتاب ليبالغون في التدبير للاحتياط من أن يذهب منهم إلى المسلمين من يؤمنون بالإسلام، فهم يحاولون من جهة بث الشّك في الإسلام بين أهله، ومن جهة أخرى يعملون على الاحتياط من أن يدخل أحد منهم في الإسلام، ولذلك يثيرون العصبية الدينية فيما بينهم، ويتداعون ألا يذعن أحد منهم لغير طائفته؛ ولذلك يقولون: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾، أي لا تذعنوا مصدقين مقرين بالحق إلا لمن تبع دينكم، أي لا تنطقوا بالحق الذي تعلمونه مذعنين له إلا لمن تبع دينكم؛ وذلك لأنهم يعرفون محمدا كما يعرفون أبناءهم، وبين أيديهم الأدلة الصادقة الناطقة بصحة دعوته؛ فهم يعرفون ذلك ويتذاكرونه فيما بينهم، ولكنهم يتناهون عن أن يقولوه لغيرهم.

8. ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ فيها قراءتان، إحداهما: بهمزة واحدة، والأخرى بهمزتين إحداهما سهلة، والثانية قراءة ابن كثير، وإحدى الهمزتين على هذه القراءة تكون للاستفهام الإنكاري.

9. ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ يحتمل أن تكون معترضة، ويكون قوله تعالى: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ متصلا بقوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾ ويحتمل أن تكون غير معترضة، وتكون متصلة بما بعدها:

أ. على الاحتمال الأول مع قراءة الهمزة الواحدة يكون تخريج القول هكذا: ولا تصدقوا مذعنين ومقرين إلا لمن تبع دينكم كراهة أن يؤتى أحد بمثل ما أوتيتم من كتاب منزل من السماء ومنزلة دينية بين الناس، وكراهة أن يحاجوكم بسبب ذلك الإذعان وذلك الأمر من عند ربكم، وقد اعترض سبحانه وتعالى بين قولهم بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ أي إن هداية الله تعالى ملك له وحده يعطيها لمن يشاء، فليست حكرا لأحد، ولا أمرا مقصورا على أحد، بل يعطيها من يشاء، وسبب ذلك الاعتراض هو المسارعة ببيان بطلان زعمهم من أنهم ذوو المنزلة الدينية وحدهم، ولبيان أن المنزلة منشؤها الهداية، والهداية طريقها وحدها فلهم أن يتبعوها، ولبيان أنهم بذلك التفاهم على الشر والتواصى على الباطل قد خرجوا عن نطاق الهداية فحقت لغيرهم، وعلى قراءة الهمزتين لا يتغير المؤدى، ويكون تقرير القول هكذا: ولا تذعنوا مصدقين إلا لمن تبع دينكم، أتقرون بذلك لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، هذا هو تخريج الآية الكريمة على احتمال أن قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ جملة معترضة بين متلازمين.

ب. أما تخريجها على احتمال أنها متصلة بما يليها فهو هكذا: لا تذعنوا مصدقين إلا لمن تبع دينكم، بذلك ينته قولهم، فيرد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ ثم يبين سبحانه وتعالى أن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم بأن ينزل بينهم وحى السماء كما نزل بينكم، أو يحاجوكم به عند ربكم، و(أو) هنا تكون بمعنى الواو، وعلى قراءة الاستفهام يكون المعنى: أتنكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم.

10. ذانك الاحتمالان؛ وإني أميل إلى الاحتمال الأول، وأن تكون الجملة السامية ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ معترضة، وأن قوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ من قولهم، وذلك ليستقيم أمر الله بعد ذلك لنبيه بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾ فإنه لا يتضح معناه إلا إذا كان عقب قولهم، ليكون معنى جديد للأمر الثاني بعد الأمر الأول؛ إذ لو كان قوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ من كلام الله تعالى المأمور به ما اتضح لنا معنى الأمر الثاني: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾ إلا إذا كان لتكرار هدايته وفضله، والتأسيس أولى من التأكيد.

11. لقد بين سبحانه بعد ذلك أن الهداية هي فضل من الله تعالى يتفضل به على من يشاء من عباده؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، فهداية الله تعالى، والنبوة والرسالة التي تنبعث منها هداية المؤمنين الذين يذعنون للحق؛ ذلك كله فضل من الله تعالى لعباده، فليس حقا عليه لهم، بل هو منه تكرم وعطاء، والمتفضل المتكرم ليس بملزم بالعطاء لأحد، فإن كان قد جعل الرسالة حينا في بنى إسرائيل فبفضل منه وبرحمة، وليس ذلك بملزم له، ولا بمسوغ لهم بأن يمنعوها عن غيرهم، ويستنكروا أن تكون في قوم أميين؛ وعليهم أن يذعنوا للحق أينما كان، ومن أي جهة كان النداء به، فالله أعلم حيث يجعل رسالته؛ وليس فوق إرادة الله سبحانه وتعالى إرادة، وليس من حق طائفة من الناس أن تقول نحن أبناء الله وأحباؤه.

12. ثم بين سبحانه وتعالى سعة فضله وجليل حكمته، وإحاطة علمه، فقال عزّ من قائل: ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي أن رحمة الله تعالى واسعة، وفضله عظيم، لا يكون لقبيل دون قبيل، وإن تعدد من يؤتون فضلا لا يغض من قدر الفضل عند غيرهم، فالذين يريدون أن يحتكروا الهداية، أو يحتكروا بينهم وفي أوساطهم رسالة الله إلى أهل الأرض، إنما يضيّقون واسعا، ويحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله من غير أن يعود عليهم من هذا الحسد شيء، ووصف سبحانه وتعالى ذاته بأنه واسع مع أن الظاهر سعة فضله؛ لبيان أن شمول فضله شأن من شؤونه سبحانه، يظهر آثاره في خلقه، فما من شيء في هذا الوجود إلا وهو بفضله سبحانه وتعالى.

13. اقترن وصف السعة هنا بوصف العلم، للإشارة إلى أن فضله تعالى هو على مقتضى علمه، فهو يعطى من يشاء بمقتضى فضله وعلمه، فما من شيء يكون من الله تعالى لعباده إلا بميزان، وكل شيء عند ربك بمقدار؛ وإنه بمقتضى هذا يختص هذا برحمته، ويختص آخر بنوع آخر؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ اختص تستعمل لازمة ومتعدية، فيقال اختصه الله بفضله، ويقال اختص بفضل الله، والله سبحانه وتعالى بمقتضى علمه وحكمته يختص برحمة معينة من رحماته خلقا من خلقه.

14. سؤال وإشكال: إن كل من في الوجود في رحمة الله تعالى، ما من أحد من خلق الله تعالى إلا ناله نصيب من رحمة الله، ومنهم من يشكر، ومنهم من يكفر، فلم عبر سبحانه وتعالى بهذا الاختصاص، ولا عام أعم من رحمة الله، ولا عموم إلا في فضل الله تعالى؟ والجواب: أن الرحمة التي يختص الله تعالى بعض عباده بها هي الرحمة النوعية، فيختص سبحانه هذا بالعلم، وذلك بالمال، وهذا بالجاه، وذلك‏ بالراحة، وهذا الفريق بالرسالة والهداية، وذلك الفريق بالغلب والسلطان؛ و(كل ميسر لما خلق له)، فإذا كان بنو إسرائيل وأشباههم قد نفسوا على بنى إسماعيل‏ أن تكون فيهم النبوة الكبرى التي تختتم بها رسالة السماء إلى الأرض، فذلك مما اختص به سبحانه وتعالى بعض عباده بالرحمة، وليس لأحد أن يعترض على فعل الله، فإن فضله على من اختصه عميم؛ وفضله أيضا على من لم يمنحه هذا النوع من الرحمة عظيم؛ ولذا ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ فلا عظمة تساوى عظمة فضل الله تعالى على خلقه، فالاختصاص النوعى لبعض الرحمات لا يعارضه عموم الفضل على خلقه، ولا عظمة هذا الفضل.

15. اللهم منّ علينا بتوفيقك لنعرف فضل نعمتك، ونشكرك ولا نكفرك، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1272.

(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، أي يرجع المسلمون عن الإسلام، وتشير الآية إلى خدعة تواطأ عليها جماعة من رؤساء أهل الكتاب، وخلاصتها أن يظهروا الإسلام أول النهار، ويرتدوا عنه في آخره عسى أن يقع بعض ضعاف النفوس والعقول من المسلمين في الشك والبلبلة، ويقول لولا ما ظهر لهم من عدم صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكفروا بعد أن آمنوا به.

2. سؤال وإشكال: هل نفذوا هذه الحيلة التي تواطئوا عليها، أو ان الله سبحانه أخبر نبيه وفضحهم قبل أن يقدموا على التنفيذ؟ والجواب: ان كل ما دلت عليه الآية انهم قالوا، أما وقوفهم عند حد القول، أو تجاوزهم عنه إلى الفعل فقد سكتت عنه، ونحن أيضا نسكت عما سكت الله عنه.. وعليه فلا وجه لما جاء في كثير من التفاسير انهم صلوا مع النبي صلاة الصبح، ثم رجعوا آخر النهار، وصلوا صلاتهم، ليرى الناس انه قد بدت لهم ضلالة الدين، اللهم الا أن يصح النقل بذلك.

3. ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾، كثيرا ما يساء فهم هذه الآية، ويستشهد بها على انها من كلام الله سبحانه، لا من كلام اليهود، بل سمعت أكثر من واحد يلفظ بها (ولا تأمنوا) معتقدا ان الله سبحانه أراد بهذه الآية أن لا نأتمن إلا من كان على ديننا، والصحيح ان الآية بقية من كلام المعاندين الماكرين من أهل الكتاب.. وقد نقلها الله تعالى حكاية لكلامهم، أي ان بعض أهل الكتاب قالوا لبعضهم الآخر: آمنوا أول النهار، واكفروا في آخره، وقالوا أيضا: {لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}، والمراد من لا تؤمنوا، الاطمئنان، لا الأمانة ولا الاعتقاد، وإلا تعدت بالباء لا باللام، والمعنى ان بعض أهل الكتاب قال لبعض: لا تطمئنوا لأحد إلا لمن اتبع دينكم، تماما كقوله تعالى: ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، أي يطمئن لهم.

4. ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾، هذه جملة معترضة خاطب الله بها نبيه قبل أن ينتهي من حكاية أقوال أهل الكتاب، والقصد من قوله: ﴿الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ الرد على محاولة أهل الكتاب المجرمة، وخديعتهم بإظهار الإسلام، ثم اظهار الارتداد عنه، ليشككوا بذلك ضعاف العقول من أتباع الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، القصد الرد عليهم بأن هذه الخديعة لا تجديهم شيئا، لأن الإسلام هداية من الله لا تزيله ولا تزعزعه المكائد والمصائد.. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ﴾

5. ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾، هذا آخر ما حكاه هنا من كلام أهل الكتاب، وخلاصة المعنى ان رؤوس أهل الكتاب كانوا يعتقدون بينهم وبين أنفسهم بأنه يجوز أن يرسل الله نبيا من غير بني إسرائيل، وان النبوة ليست وقفا عليهم.. ولكنهم بعد ان جاء محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أظهروا أمام الناس، حسدا وبغيا، ان كتبهم وديانتهم تحتم أن يكون النبي من بني إسرائيل وحدهم، دون غيرهم، أظهروا هذا، وهم يعلمون بأنهم كاذبون ومعاقبون، ومحجوجون غدا عند الله، وخافوا أن يصل علمهم بأنهم كاذبون محجوجون عند الله، أن يصل إلى المسلمين، فيزدادوا تمسكا بالإسلام، لذلك قال بعضهم لبعض: إياكم أن تقولوا أمام المسلمين: انّا نحن أهل الكتاب نعتقد بأنه يجوز أن يؤتي الله النبوة لغير اسرائيلي، أو تقولوا أمام المسلمين: انّا محجوجون غدا ومغلوبون، لكتماننا الحق ومعاندته، وبتعبير ثان ان أهل الكتاب، وبخاصة اليهود، قد علموا علما أكيدا انهم على ضلال بتكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وخافوا أن يخبر المسلمين مخبر منهم بهذه الحقيقة، فتواصوا بالتستر على ضلالهم، واظهار ان النبي لا يكون ولن يكون عربيا.

6. هذا هو خلق اليهود منذ وجدوا، حتى اليوم، والى آخر يوم.. يكذبون ويعلمون انهم يكذبون، ويتخذون ستارا واهيا من التلبيس والتمويه، ولكن سرعان ما يفتضحون.. وليس القرآن الكتاب الوحيد الذي سجل رذائلهم وجرائمهم فإن كتب الأديان، وبخاصة الإنجيل، وكتب التاريخ والصحف والاذاعات كلها تردد وتكرر تاريخهم المجرم الآثم.. وهذا هو السر في اضطهاد الأمم لهم، والتنكيل بهم من عهد فرعون إلى عهد هتلر.. وما استطاعت أمة على وجه‏ الأرض قديما وحديثا ان تحتملهم الا الولايات المتحدة.. لأن شبه الشيء منجذب اليه.

7. ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، قال المفسرون: المراد بالفضل هنا خصوص النبوة والرسالة، وانها بيد الله تعالى يختار لها من هو جدير بها، وكفؤ لها، سواء أكان اسرائيليا، أو عربيا، وانه سبحانه قد رد بذلك على اليهود الذين أعلنوا بأن الله لا يبعث نبيا الا منهم، هذا ما قاله أهل التفسير، واستدلوا بأن السياق يدل عليه، لأنه بصدد الحديث عن أهل الكتاب ومزاعمهم الكاذبة، وخدعهم الباطلة، والذي نراه ان الفضل في الآية باق على عمومه، وانه يشمل النبوة والحكمة والهداية والإسلام، وغيره من الفضائل، وكما يتحقق الرد على اليهود مع ارادة خصوص النبوة من الفضل كذلك يتحقق مع ارادة العموم، لأن النبوة من جملة أفراد الفضل والفضيلة.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/87.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ﴾ إلى آخر الآية، المراد بوجه النهار بقرينة مقابلته بآخره هو أوله فإن وجه الشيء ما يبدو ويظهر به لغيره وهو في النهار أوله، وسياق قولهم يكشف عن نزول وحي على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في وجه النهار يوافق ما عليه أهل الكتاب وآخر في آخره يخالف ما هم عليه فإنما هو الذي دعاهم إلى أن يقولوا هذا القول، وعلى هذا فقوله: ﴿بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أريد به شيء خاص من وحي القرآن يوافق ما عند أهل الكتاب، وقوله: ﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾ منصوب على الظرفية ومتعلق بقوله: ﴿أَنْزَلَ﴾، لا بقوله: ﴿آمَنُوا﴾ (صيغة الأمر) لأنه أقرب، وقوله: ﴿وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ في معنى واكفروا بما أنزل في آخره فيكون من وضع الظرف موضع المظروف بالمجاز العقلي نظير قوله تعالى: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾

2. وبذلك يتأيد ما ورد في سبب النزول عن أئمة أهل البيت: أن هذه كلمة قالتها اليهود حين تغيير القبلة حيث صلى رسول الله صلاة الصبح إلى بيت المقدس وهو قبلة اليهود، ثم حولت القبلة في صلاة الظهر نحو الكعبة فقالت طائفة من اليهود: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ يريدون استقبال بيت المقدس، ﴿وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ يريدون استقبال الكعبة، ويؤيده قولهم بعده على ما حكاه الله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾، أي لا تثقوا بمن لا يتبع دينكم بالإيمان به فتفشوا عنده شيئا من أسراركم والبشارات التي عندكم وكان من علائم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه يحول القبلة إلى الكعبة.

3. ذكر بعضهم أن قوله: ﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾ متعلق بقوله: ﴿آمَنُوا﴾ (بصيغة الأمر) والمراد به أول النهار، وقوله: ﴿آخِرَهُ﴾ ظرف بتقدير في، ومتعلق بقوله‏ ﴿وَاكْفُرُوا﴾، والمراد بقولهم: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ﴾ الآية أن يظهر عدة منهم الإيمان بالقرآن ويلحقوا بجماعة المؤمنين ثم يرتدوا في آخر النهار بإظهار أنهم إنما آمنوا أول النهار لما كاد يلوح لهم من أمارات الصدق والحق من ظاهر الدعوة الإسلامية، وإنما ارتدوا آخر النهار لما تبين لهم من شواهد البطلان وعدم انطباق ما عندهم من بشارات النبوة وعلائم الحقانية على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيكون ذلك مكيدة تكاد بها المؤمنون فيرتابون في دينهم، ويهنون في عزيمتهم فينكسر بذلك سورتهم وتبطل أحدوثتهم، وهذا المعنى في نفسه غير بعيد وخاصة من اليهود الذين لم يألوا جهدا في الكرة على الإسلام لإطفاء نوره من أي طريق ممكن غير أن لفظ الآية لا ينطبق عليه.

4. قال بعضهم: إن المراد آمنوا بصلاتهم إلى الكعبة أول النهار واكفروا به آخره لعلهم يرجعون وقال آخرون: المعنى أظهروا الإيمان في صدر النهار بما أقررتم به من صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واكفروا آخره بإبداء أن ما وصف به النبي الموعود لا ينطبق عليه لعلهم يرتابون بذلك فيرجعوا عن دينهم، وهذان الوجهان لا شاهد عليهما، وكيف كان المراد، لا إجمال في الآية.

5. ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ الآية، الذي يعطيه السياق هو أن تكون هذه الجملة من قول أهل الكتاب تتمة لقولهم: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وكذا قوله تعالى: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾، ويكون قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ جملة معترضة هو جواب الله سبحانه عن مجموع ما تقدم من كلامهم أعني قولهم: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ﴾ إلى قوله‏ ﴿دِينُكُمْ﴾، على ما يفيده تغيير السياق، وكذا قوله تعالى‏ ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾ جوابه تعالى عن قولهم: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ إلى آخره، هذا هو الذي يقتضيه ارتباط أجزاء الكلام واتساق المعاني في الآيتين أولا، وما تناظر الآيتين من الآيات الحاكية لأقوال اليهود في الجدال والكيد ثانيا.

6. المعنى ـ والله أعلم ـ أن طائفة من أهل الكتاب ـ وهم اليهود ـ قالت أي قال بعضهم لبعض: صدقوا النبي والمؤمنين في صلاتهم وجه النهار إلى بيت المقدس ولا تصدقوهم في صلاتهم إلى الكعبة آخر النهار، ولا تثقوا في الحديث بغيركم فيخبروا المؤمنين أن من شواهد نبوة النبي الموعود تحويل القبلة إلى الكعبة فإن في تصديقكم أمر الكعبة وإفشائكم ما تعلمونه من كونها من أمارات صدق الدعوة محذور أن يؤتى المؤمنون مثل ما أوتيتم من القبلة فيذهب به سوددكم ويبطل تقدمكم في أمر القبلة، ومحذور أن يقيموا عليكم الحجة عند ربكم أنكم كنتم عالمين بأمر القلبة الجديدة شاهدين على حقيته ثم لم تؤمنوا:

أ. فأجاب الله تعالى عن قولهم في الإيمان بما في وجه النهار والكفر في آخره وأمرهم بكتمان أمر القبلة لئلا يهتدي المؤمنون إلى الحق بأن الهدى الذي يحتاج إليه المؤمنون الذي هو حق الهدى إنما هو هدى الله دون هداكم، فالمؤمنون في غنى عن ذلك فإن شئتم فاتبعوا وإن شئتم فاكفروا وإن شئتم فأفشوا وإن شئتم فاكتموا.

ب. وأجاب تعالى عما ذكروه من مخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا أو يحاجوهم عند عند ربهم بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا بيدكم حتى تحبسوه لأنفسكم وتمنعوا منه غيركم.

ج. وأما حديث الكتمان مخافة المحاجة فقد أعرض عن جوابه لظهور بطلانه كما فعل كذلك في قوله تعالى في هذا المعنى بعينه: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾، فقوله: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ﴾، إيذان بأن هذا القول بعد ما علموا أن الله لا يتفاوت فيه السر والعلانية كلام منهم لا يستوي على تعقل صحيح، وليس جوابا لمكان الواو في قوله: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ﴾

7. على ما مر من المعنى فقوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾ معناه، لا تثقوا ولا تصدقوا لهم الوثاقة وحفظ السر على حد قوله تعالى: ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، والمراد بقوله‏ ﴿لِمَنْ تَبِعَ﴾، اليهود، والمراد بالجملة النهي عن إفشاء ما كان عندهم من حقية تحويل القبلة إلى الكعبة كما مر في قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ ـ إلى أن قال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ـ إلى أن قال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

8. في معنى الآية أقوال شتى دائرة بين المفسرين:

أ. كقول بعضهم: إن قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾ إلى آخر الآية كلام لله تعالى لا لليهود، وخطاب الجمع في قوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾ وقوله: ﴿مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ جميعا للمؤمنين، وخطاب الإفراد في قوله: ﴿قُلْ﴾، في الموضعين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. وقول آخرين بمثله إلا أن خطاب الجمع في قوله: ﴿أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾، لليهود في الكلام عتاب وتقريع.

ج. وقول آخرين إن قوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ من كلام اليهود، وقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ الآية كلام لله تعالى جوابا عما قالته اليهود.

د. وكذا الخلاف في معنى الفضل أن المراد به الدين أو النعمة الدنيوية أو الغلبة أو غير ذلك.

وهذه الأقوال على كثرتها بعيدة عما يعطيه السياق كما قدمنا الإشارة إليه، ولذا لم نشتغل بها فضل اشتغال.

9. ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، الفضل‏ هو الزائد عن الاقتصاد، ويستعمل في المحمود كما أن الفضول يستعمل في المذموم، قال الراغب: (وكل عطية لا تلزم من يعطي يقال لها فضل نحو قوله: {وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ‏} ـ ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ﴾ ـ ﴿ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، وعلى هذا قوله: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ﴾ ـ ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ﴾)، وعلى هذا فقوله: ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾، من قبيل الإيجاز بالقناعة بكبرى البيان‏ القياسي، والتقدير: قل إن هذا الإنزال والإيتاء الإلهي الذي تحتالون في تخصيصه بأنفسكم بالتظاهر على الإيمان والكفر، والإيصاء بالكتمان أمر لا نستوجبه معاشر الناس على الله تعالى بل هو من الفضل، والفضل بيد الله الذي له الملك وله الحكم فله أن يؤتيه من يشاء والله واسع عليم، ففي الكلام نفي ما يدل عليه قولهم وفعلهم من تخصيص النعمة الإلهية بأنفسهم بجميع جهاته المحتملة فإن تنعم بعض الناس بفضل الله تعالى دون البعض كتنعم اليهود بنعمة الدين والقبلة، وحرمان غيرهم:

أ. إما أن يكون لأن الفضل منه تعالى يمكن أن يقع تحت تأثير الغير فيزاحم المشية الإلهية، ويحبس فضله عن جانب، ويصرفه إلى آخر، وليس كذلك فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

ب. وإما أن يكون لأن الفضل قليل غير واف والمفضل عليهم كثيرون فيكون إيتاؤه على البعض دون البعض يحتاج إلى انضمام مرجح فيحتال إلى إقامة مرجح لتخصيص البعض الذي ينعم عليه، وليس كذلك فإن الله سبحانه واسع الفضل والمقدرة.

ج. وإما أن يكون لأن الفضل وإن كان واسعا وبيد الله لكن يمكن أن يحتجب المفضل عليه عنه تعالى بجهل منه فلا ينال الفضل فيحتال في حجبه وستر حاله عنه تعالى حتى يحرم من فضله، وليس كذلك فإن الله سبحانه عليم لا يطرأ عليه جهل.

10. ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، فلما كان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وكان واسعا عليما أمكن أن يختص بعض عباده ببعض نعمه فإن له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، وليس إذا لم يكن ممنوع التصرف في فضله وإيتائه عباده أن يجب عليه أن يؤتي كل فضله كل أحد فإن هذا أيضا نوع ممنوعية في التصرف بل له أن يختص بفضله من يشاء.

11. وقد ختم الكلام بقوله: ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ وهو بمنزلة التعليل لجميع المعاني السابقة فإن لازم عظمة الفضل على الإطلاق أن يكون بيده يؤتيه من يشاء، وأن يكون واسعا في فضله، وأن يكون عليما بحال عباده وما هو اللائق بحالهم من الفضل، وأن يكون له أن يختص بفضله من يشاء.

12. في تبديل الفضل بالرحمة في قوله: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، دلالة على أن‏ الفضل وهو العطية غير الواجبة من شعب الرحمة، قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾، وقال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ﴾

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/257.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ قال في (المصابيح): (قال الإمام الحسين بن القاسم عليهما السلام: هذه حيلة قد علمها الله من أهل الكتاب فأخبر بها المؤمنين لئلا يقبلوا نفاقهم)

2. ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ لتظهروا أنكم منصفون ما تريدون إلا الحق ولذلك آمنتم ﴿وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ ليشكوا في دينهم إذا كفرتم، بدعوى: أنه بدا لكم أنكم غلطتم بالإيمان، وأنكم ما كفرتم إلا لذلك، بحجة أنكم قد آمنتم أول النهار ولو كان الباعث الحسد أو التعصب ما آمنتم أول النهار لكنكم عرفتم أنه غلط.

3. قولهم: ﴿بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فرار من أن يقولوا: (أنزل على محمد) ودعوى أنه ومن معه سواء في دعوى الوحي، كما قدمت في قولهم: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ [البقرة: 142]

4. ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ هذا من تمام الحيلة، أي اكفروا آخره ولا تؤمنوا بعد هذا الكفر، لأنكم إذا ترددتم مرة أخرى ذهب اعتباركم، فابقوا على كفركم ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾ مرة أخرى ﴿إِلَّا لِمَنْ﴾ هو ﴿تُبَّعٍ﴾ لكم في ﴿دِينُكُمْ﴾ يوافقكم على الكفر، وعلى جحد الحق الذي تعلمونه، فهو يعلم أن الحق مع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لما في (التوراة) من نعته، فإذا آمنتم له بذلك فهو لا يؤديه إلى الدخول في الإسلام، لأنه تابع لكم في دينكم لا يريد خلافكم.

5. ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ فلن تستطيعوا بحيلتكم ولا غيرها أن تضلوا من هدى الله، وهذه الجملة معترضة بين حكاية كلامهم جاءت عند تمام حكاية الحيلة ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ تعليل لاستعمال الحيلة ومحاولة أن يرتد المؤمنون ليبطل أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلا يكون للعرب مثل ما لبني إسرائيل كتاب يتبعونه ودين يجمعهم ومكانة ظاهرة بين الأمم باسم دين وعلم، بل ليبقوا كما كانوا، وكذلك غيرهم من الأمم، عليكم أن تسعوا في أن لا يكون لهم مثل ما لكم.

6. ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ لو آمنتم بعد كفركم مرة أخرى لأنها تبطل دعواكم أنه أنكشف لكم الخطأ في الإيمان وجه النهار، فإذا كفرتم بعد ذلك لم يبق لكم ما تحاجونهم به عند ربكم؛ لأنكم قد أقررتم لهم مرتين وأبطلتم دعواكم انكشاف الخطأ، فالتعليل الأول لاستعمال الحيلة والعطف عليه لتعليل الثبات عليها وحياطتها بدوام الكفر بعد الإيمان وجه النهار.

7. ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ هذا جواب يردّ عليهم في استعمال الحيلة لئلا يؤتى أحد مثل ما أوتوا في الدنيا، ولئلا يحاجوهم في الآخرة فيسعدوا بالحكم لهم على أهل الكتاب، فهو يبين: أن حسدهم للمسلمين خير الدنيا والآخرة وكيدهم لهم لإبطال نعمتهم لا يفيدهم، لأن فضل الله ليس بيد غيره ممن يُتصورُ الاحتيال عليه ليحوله عمن شاء، بل هو ﴿بِيَدِ اللهِ﴾ الواسع الذي هو رب العالمين المنعم عليهم كلهم المربي لهم العليم الذي يعلم حيث يجعل رسالاته يؤتيه من يشاء، فلا يمسكه أحد عمن آتاه الله، لأنه {اللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21] ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ لكرمه وقدرته على العطاء الكبير لا ينقصه البذل والجود، كما لا يفره المنع والجمود سبحانه وتعالى، فمنه الخير كله وبيده الخير كله.

8. ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 105] لأن له الملك وحده لا شريك له، وليس لأحد أن يعارضه في اختصاصه، لأنه لا دخل لهم في الملك، وما أعظم فضله على بني إسماعيل الأمة المسلمة بالرسول والقرآن، بل فضله بذلك على العالمين من اتبع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن، فأداهم ذلك إلى الفوز العظيم الذي هو السلامة من النار وإدخالهم الجنة خالدين فيها أبداً.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/483.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في أسباب النزول، وعلق عليها بقوله: نلاحظ أن هؤلاء المتحدثين عن أسباب النزول لم يستندوا في ذلك إلى رواية، بل انطلقوا في اجتهاداتهم في فهم الآية ومحاولة تطبيقها ممّا يفهمونه من الجو العام لليهود في الوقوف المضاد للإسلام، أو ممّا جاء في آية تحويل القبلة والقضية واردة في مسألة الإيمان بالإسلام والكفر به، لا في مورد خاص كالقبلة ونحوها.

2. هذا أسلوب جديد من أساليب التضليل والتشكيك التي كان بعض أهل الكتاب يمارسونها ضدّ الإسلام والمسلمين، فقد طلبوا من بعض جماعتهم أن يدخلوا في الإسلام في أوّل النهار، ليحرزوا الثقة لدى المسلمين بذلك، لأنه يدلّ على عدم التعصب لليهودية، بل يوحي بالحياد الفكري الذي يجعل الإنسان مستعدا للانتماء إلى غير دينه وفكره من موقع الحجّة والقناعة، ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهم المسلمون‏ ﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾ أي: أوله، ﴿وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عن دينهم من خلال حالة الاهتزاز التي تثيرها هذه الحركة في وجدانهم الديني، وذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ أي: لا تطمئنوا إلّا لليهود في الحديث عن قضاياكم الخاصة وأسراركم الخفية، لأن الوثوق بالآخرين قد يفضح الكثير من الأوضاع الداخلية الذاتية أو الخطط الخفية التي يدبرها اليهود للمسلمين مما يؤدي إلى انكشاف السرّ، وإحباط الخطط، وسقوط الموقف.

3. فإذا حصلوا على هذه الثقة وأحرزوها، وضمنوا لأنفسهم امتدادا روحيّا وجوّا حميما في علاقتهم بالمسلمين، قاموا بتغيير الموقف في آخر النهار، فرجعوا إلى ما كانوا عليه من رفض للإسلام، للإيحاء للمسلمين بأنّهم اطّلعوا على عقيدة الإسلام من خلال دخولهم فيه، فظهر لهم ـ بحسب دعواهم ـ ما فيه‏ من نقائص ومفاسد وقضايا باطلة، لم يكونوا مدركين لها من قبل، ولهذا كفروا به بعد أن آمنوا به، لأنهم طلاب حق وصدق، ولولا ذلك لما انحازوا إلى خط المؤمنين في البداية، ليدفع ذلك المؤمنين إلى التراجع عن الإسلام، أو يدعوهم إلى الشكّ فيه على أبعد التقادير.

4. ولما كانت هذه الخطة التي وضعوها، بحاجة إلى السرّية التي تحمي لها نجاحها، كان لا بدّ من أن يضرب حولها نطاق من السريّة، ولهذا انطلقت التوجيهات اليهوديّة لجماعتهم الذين يراد منهم تنفيذ الخطة، أن لا يؤمنوا، أي: لا يطمئنوا ـ بقرينة التعدي باللام ـ إلّا لليهود التابعين، لأنهم الذين يحافظون على السرّ بإدراكهم خطورته عليهم وعلى طبيعة الخطة الموضوعة.

5. وهذا ما نستظهره من الآية، بأن تكون الجملة تابعة لما قبلها لأنها من مستلزمات نجاح الخطة؛ وربما كانت جملة مستقلة تدعو اليهود إلى الحذر من غيرهم في ما لديهم من أسرار في هذا الموضوع وغيره.. وهذه من خصال اليهود في سائر العصور من خلال ما يمثلونه من المجتمع المنغلق على قضاياه الذي وضع بينه وبين الآخرين حاجزا نفسيا ومادّيا من موقع الشعور بالرفعة على من عداه ومن موقع الإخلاص لسلامة القضايا التي يعملون من أجلها.

6. ذلك هو حديثهم في ما أرادوه من الكيد للإسلام، ولكنّ الله يريد لرسوله أن يردّ عليهم بالكلمة الحاسمة التي تضع القضية في نصابها الصحيح، فليس الهدى حالة طارئة يحصل عليها الإنسان بأيّ ثمن، بل هو الينابيع الروحية التي تتفجّر في قلب الإنسان، فتملأ حياته خصبا وحيوية وإيمانا، والإشراقات الإلهية التي تفتح قلبه على الحق وتضي‏ء له طريق الهدى، والفكر النيّر المنفتح الذي‏ يحلّق نحو الحقيقة لينطلق معها في رحاب الله، ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ فمن الذي يستطيع أن يقف أمامه، أو يطفئ نوره!؟ ويقول الرسول كلمته، أو هكذا يريد الله منه أن يقول إذا قام هؤلاء بما يريدون القيام به.

7. ثم يتابع الحديث في ما يتناجون به، فقد كانوا يقولون لأتباعهم: لا تطمئنوا إلّا لمن تبع دينكم، ولا تحدثوهم بما لا ينبغي الحديث عنه مما تعرفونه من قضايا الحق والباطل، فإذا حدثتموهم به، فقد يكون ذلك عليكم حجّة عند ربّكم يحاجّوكم به، لأنكم أقررتم به، وقد أشار القرآن إلى أن من جملة ذلك هو الإقرار بأن يؤتى أحد من غير بني إسرائيل مثل ما أوتيتم من النبوّة والرسالة ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾، فقد أريد لهم أن ينكروا ذلك، وهم يعرفونه، ولذا كانوا يزعمون بأن النبوّة مختصة ببني إسرائيل، فينكرون رسالة الرسول من خلال ذلك.

8. لكن الله يريد من رسوله أن يردّ عليهم كيدهم وضلالهم، فيعرّفهم أن القضية ليست بيدهم، فالله هو الذي أعطى الرسالة لأنبياء بني إسرائيل، وهو الذي أعطاها لمحمد رسوله، ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، ويعطيه لمن يريد ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ﴾ في عطائه الذي لا يضيق فضله عن أحد، ﴿عَلِيمٌ﴾ يعرف ما يصلح الإنسان وما يفسده، فيوجهه إلى ما فيه الخير له في الدنيا والآخرة، انطلاقا من رحمته التي وسعت كل شيء، فهو الذي‏ ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ بحسب حكمته‏ ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، وهو صاحب الفضل العظيم على الناس كافة، وليس لأحد غيره أيّ فضل، فمنه الفضل وإليه يرجع كل شيء سبحانه وتعالى عمّا يشركون.

9. أمّا ما نستوحيه من هذه الآيات فهو التحرك الواعي من أجل رصد النماذج المماثلة في الساحة الدينيّة والاجتماعية والسياسية، فقد يحاول الكثيرون أن يخلقوا الارتباك والتشويش والبلبلة في صفوف المسلمين بالأساليب المماثلة لهذا الأسلوب؛ فلا بدّ لنا من الوقوف أمام ذلك كله بالمنطق القرآني الذي يبعث الثقة في نفوس المؤمنين ويوجههم إلى الاعتماد على الله في ذلك كله، ويوحي إليهم بأن هذه الأساليب لا تضرّ أحدا إذا كان على بيّنة من أمره، ويدفعنا إلى التأكيد على أسلوب التوعية للمسلمين في عقائدهم ومفاهيمهم لئلا يضلوا من حيث لا يعلمون.

10. قد نستطيع أن نستفيد من هذا كله أنّ أعداء الله قد يكتمون كثيرا من حقائق الإيمان الموجودة في الساحة من أجل أن لا تكون حجّة عليهم في الدنيا والآخرة، أو لا يبرز لخطوط الإسلام فضل من فكر أو عمل؛ ليظهروا أمام النّاس أنهم أصحاب الفضل، فلا فضل لغيرهم في أيّ جانب من جوانب الحياة، وفي هذه الحالة لا بدّ لنا من أن نحتفظ لأنفسنا بجوّ الثقة الذي نستطيع من خلاله أن لا ننهزم نفسيا أمام هذا الإنكار للخصائص الذاتية الكامنة فينا، عندما نلتفت إلى الله، فنعرف أنه صاحب الفضل علينا وعلى الآخرين، فهم لا يستطيعون أن يقدّموا أو يؤخروا شيئا في الموضوع، ولا يمكنهم إخفاء ما يريد الله إظهاره، أو إظهار ما يريد الله كتمانه؛ فإنه ولي الأمر في كل شيء.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/100.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تكشف هذه الآية عن خطّة هدّامة أخرى من خطط اليهود، وتقول إنّ هؤلاء لكي يزلزلوا بنية الإيمان الإسلامي توسّلوا بكلّ وسيلة ممكنة، من ذلك أنّ‏ ﴿طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ اتّفقوا أن يؤمنوا بما أنزل على المسلمين في أوّل النهار ويرتدّوا عنه في آخره‏ ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾

2. لعلّ المقصود من أوّل النهار وآخره قصر المدة بين إيمانهم وارتدادهم، سواء أكان ذلك في أوّل النهار حقّا أم في أيّ وقت آخر، إنّما قصر هذه المدّة يوحي إلى الآخرين أن يظنّوا أنّ هؤلاء كانوا يرون الإسلام شيئا عظيما قبل الدخول فيه، ولكنّهم بعد أن أسلموا وجدوه شيئا آخر قد خيّب آمالهم، فارتدّوا عنه.

3. لا شكّ أن مثل هذه المؤامرة كانت ستؤثّر في نفوس ضعفاء الإيمان، خاصّة وأنّ أولئك اليهود كانوا من الأحبار العلماء، وكان الجميع يعرفون عنهم أنّهم عالمون بالكتب السماوية وبعلائم خاتم الأنبياء، فإيمانهم ثمّ كفرهم كان قادرا على أن يزلزل إيمان المسلمين الجديد، لذلك كانوا يعتمدون كثيرا على خطّتهم الماهرة هذه، وقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ دليل على أملهم هذا، وكانت خطّتهم تقتضي أن يكون إيمانهم بالإسلام ظاهريا، وأن يبقى ارتباطهم باتّباع دينهم.

4. ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ يستفاد من بعض التفاسير أنّ يهود خيبر أوصوا يهود المدينة بذلك لئلّا يقع القريبون من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تحت تأثيره فيؤمنوا به حقّا، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ النبوّة يجب أن تكون في العنصر اليهودي، فإذا ظهر نبيّ فلا بدّ أن يكون يهوديا.

5. يرى بعض المفسّرين أنّ جملة ﴿لَا تُؤْمِنُوا﴾ من الإيمان الذي يعني (الوثوق والاطمئنان) كما هو أصل الكلمة اللغوي، وبناء على ذلك يكون المعنى: هذه المؤامرة يجب أن تبقى مكتومة وسرّية، وأن لا يعلم بها أحد من غير اليهود، حتّى المشركين، لئلّا تنكشف وتحبط، ففضح الله هذه المؤامرة في هذه الآيات وفضحهم، ليكون ذلك درس عبرة للمؤمنين، ودرس هداية للمعاندين.

6. ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ هذه جملة معترضة جاءت ضمن كلام على لسان اليهود في ما قبلها وما بعدها من الآيات.. في هذه الآية التي تقع بين كلام اليهود، يردّ الله عليهم ردّا قصيرا ولكنه عميق المعنى:

أ. فأوّلا: الهداية مصدرها الله، ولا تختصّ بعنصر أو قوم بذاته، فلا ضرورة في أن يجيء النبيّ من اليهود فقط.

ب. وثانيا: إنّ الذين شملهم الله بهدايته الواسعة لا تزعزعهم هذه المؤامرات ولا تؤثّر فيهم هذه الخطط.

7. ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ هذه الآية استمرار لأقوال اليهود، بتقدير عبارة ولا تصدقوا قبلها، وعلى ذلك يصبح معنى الآية هكذا: (لا تصدّقوا أن ينال أحد ما نلتم من الفخر وما نزل عليكم من الكتب السماوية، وكذلك لا تصدّقوا أن يستطيع أحد أن‏ يجادلكم يوم القيامة أمام الله ويدينكم، لأنكم خير عنصر وقوم في العالم، وأنتم أصحاب النبوّة والعقل والعلم والمنطق والاستدلال!)

8. بهذا المنطق الواهي كان اليهود يسعون لنيل ميزة يتميّزون بها، من حيث علاقتهم بالله، ومن حيث العلم والمنطق والاستدلال، على الأقوام الأخرى، لذلك يردّهم الله في الآية التالية بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، أي: قل لهم إنّ المواهب والنعم، سواء أكانت النبوّة والاستدلالات العقلية المنطقية، أم المفاخر الأخرى، هي جميعا من الله، يسبغها على من يشاء من المؤهّلين اللائقين الجديرين بها، إنّ أحدا لم يأخذ عليه عهدا ووعدا، ولا لأحد قرابة معه، إنّ جوده وعفوه واسعان، وهو عليم بمن يستحقّهما.

9. ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ هذا توكيد لما سبق أيضا: إنّ الله يخصّ من عباده من يراه جديرا برحمته ـ بما في ذلك مقام النبوّة والقيادة ـ دون أن يستطيع أحد تحديده فهو صاحب الأفضال والنعم العظيمة، ويستفاد ضمنا من هذه الآية الكريمة أن الفضل الإلهي إذا شمل بعض الناس دون بعض، فليس ذلك المحدودية الفضل الإلهي، بل بسبب تفاوت القابليات فيهم.

10. تعتبر هذه الآيات، في الواقع، من آيات إعجاز القرآن، لأنّها تكشف أسرار اليهود وأعداء الإسلام وتفضح خططهم لزعزعة مسلمي الصدر الأوّل، فتيقّظ المسلمون ببركتها، ووعوا وساوس الأعداء المغرية، ولكنّنا لو دقّقنا النظر لأدركنا أنّ تلك الخطط تجري في عصرنا الحاضر أيضا بطرق مختلفة، إنّ وسائل إعلام الأعداء القوية المتطوّرة مستخدمة الآن للغرض نفسه، فهم يحاولون هدم أركان العقيدة الإسلامية في عقول المسلمين، وبخاصة الجيل الشاب، وهم في هذا السبيل لا يتورّعون عن كلّ فرية، ويلجؤون إلى كلّ السبل ويتلبّسون بلبوس العالم والمستشرق والمؤرّخ وعالم الطبيعيات والصحفي، بل حتّى الممثّل السينمائي، إنّهم يصرّحون أنّ هدفهم ليس التبشير بالمسيحية وحمل المسلمين على اعتناقها، ولا اعتناق اليهودية، بل هدفهم هو هدم أسس المعتقدات الإسلامية في أفكار الشباب، وجعلهم غير مهتمّين بدينهم وتراثهم، إنّ القرآن اليوم يحذّر المسلمين من هذه الخطط كما حذّرهم في القديم.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/554.

37. أهل الكتاب والوفاء والأميين

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈37⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 75 ـ 76]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الأمانة تجرّ الرزق، والخيانة تجرّ الفقر(1).

2. روي أنّه قال: أدّ الأمانة إذا ائتمنت، ولا تتّهم غيرك إذا ائتمنته فإنّه لا إيمان لمن لا أمانة له(2).

3. روي أنّه قال: أصل الدين أداء الأمانة، والوفاء بالعهود(3).

4. روي أنّه قال: ثلاث من كانت فيه واحدة منها زوّجه الله من الحور العين: رجل ائتمن على أمانة خفيّة شهيّة فأدّاها مخافة من الله عزّ وجلّ، ورجل عفا عن قاتله، ورجل قرأ (قل هو الله أحد) عشر مرّات في دبر كلّ صلاة(4).

__________

(1) تحف العقول: ص221.

(2) غرر الحكم الفصل: 2 رقم: 171.

(3) غرر الحكم الفصل: 1 رقم: 1777.

(4) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: 2/226.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿قَائِمًا﴾ ملحا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون: ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء؛ لأنهم أميون، فذلك قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ إلى آخر الآية(2).

3. روي أنّه قال: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى﴾ اتقى الشرك ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ الذين يتقون الشرك(3).

4. روي أنّه قال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة، فقال ابن عباس أنّه قال: فتقولون ماذا؟ قالوا: نقول ليس علينا في ذلك من بأس، قال هذا كما قال أهل الكتاب: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم(4).

__________

(1) تفسير البغوي: ٣/٥٦.

(2) ابن جرير: ٥/٥١٢.

(3) ابن جرير: ٥/٥١٥.

(4) عبد الرزاق: ٦/٩١.

السجاد:

روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) أنّه قال: عليكم بأداء الأمانة، فو الّذي بعث محمّدا بالحقّ نبيّا لو أنّ قاتل أبي الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام ائتمنني على السيف الّذي قتله به لأدّيته إليه(1).

__________

(1) أمالي الصدوق: ص246.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: مرابطا(1).

2. روي أنّه قال: لما نزلت: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾؛ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كذب أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين؛ إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر(2).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٩٦.

(2) ابن جرير: ٥/٥١١.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ إلا ما طلبته واتبعته(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ هذا من النصارى، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ قال هذا من اليهود(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٢٥٧.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ كانت تكون ديون لأصحاب محمد عليهم، فقالوا: ليس علينا سبيل في أموال أصحاب محمد إن أمسكناها، وهم أهل الكتاب أمروا أن يؤدوا إلى كل مسلم عهده(1).

2. روي أنّه قال: كانوا يقولون: إنما كانت لهم هذه الحقوق وتجب علينا وهم على دينهم، فلما تحولوا عن دينهم لم يثبت لهم علينا حق(2).

3. روي أنّه قال: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى﴾ يعني: أدى الأمانة، وآمن: ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٨٣.

(2) تفسير ابن أبي زَمَنين: ١/٢٩٧.

(3) تفسير ابن أبي زَمَنين: ١/٢٩٧.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ تقتضيه إياه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل(2).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/١٢٣.

(2) ابن جرير: ٥/٥١٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ معناه ملازم، يقتضيه إيّاه(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ يعترف بأمانته ما دمت عليه قائما على رأسه، فإذا قمت ثم جئت تطلبه كافرك الذي يؤدي، والذي يجحد(1).

2. روي أنّه قال: فيقول على الله الكذب وهو يعلم ـ يعني: الذي يقول منهم ـ إذا قيل له: ما لك لا تؤدي أمانتك؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلها الله لنا(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥٠٩.

(2) ابن جرير: ٥/٥١١.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٨٤.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: قالت اليهود: إن الأموال كلها كانت لنا، فما كانت في أيدي العرب منها فهو لنا، وإنما ظلمونا وغصبونا عليها، ولا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٩٦.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يعني: أهل التوراة ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ يعني: عبد الله بن سلام وأصحابه، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ يعني: كفار اليهود، يعني: كعب بن الأشرف وأصحابه، منهم من يؤدي الأمانة ولو كثرت، ومنهم من لا يؤديها، ولو ائتمنته على دينار لا يؤده إليك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ﴾ استحلالا للأمانة، ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ يعني: في العرب: ﴿سَبِيلِ﴾، وذلك أن المسلمين باعوا اليهود في الجاهلية، فلما تقاضاهم المسلمون في الإسلام قالوا: لا حرج علينا في حبس أموالهم؛ لأنهم ليسوا على ديننا، يزعمون أن ذلك حلال لهم في التوراة، فذلك قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم كذبة، وأن في التوراة تحريم الدماء والأموال إلا بحقها، ولكن أمرهم بالإسلام وأداء الأمانة وأخذ على ذلك ميثاقهم(1).

4. روي أنّه قال: أمرهم بالإسلام، وأداء الأمانة، وأخذ على ذلك ميثاقهم، فذلك قوله سبحانه: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ الذى أخذه الله عليه في التوراة، وأدى الأمانة، ﴿وَاتَّقَى﴾ محارمه، ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ الذين يتقون استحلال المحارم(1).

5. روي أنّه قال: ﴿والله ذُو الْفَضْلِ﴾ يعني: الإسلام ﴿الْعَظِيمِ﴾ على المؤمنين(2).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٨٥.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٨٤.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، يعني: ادعاءهم أنهم وجدوا في كتابهم قولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾(1).

2. روي أنّه قال في الآية: بايع اليهود رجالا من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم ثمن بيوعهم، فقالوا: ليس علينا أمانة، ولا قضاء لكم عندنا؛ لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥١٤.

(2) ابن جرير: ٥/٥١٢.

أبو روق:

روي عن أبي روق عطية بن الحارث الهمداني (ت 150 هـ) أنّه قال: ليعترف بما دفعت إليه ما دمت قائما على رأسه، فإن سألته إياه في الوقت حين تدفعه إليه رده عليك، وإن أنظرته أو أخرته أنكر وذهب به(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٩٦.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: وأداء الأمانة والصدق يجلبان الرزق، والخيانة والكذب يجلبان الفقر والنفاق(1).

روي عن محمّد بن القاسم، قال سألت الإمام الكاظم عن رجل استودع رجلا مالا له قيمة، والرجل الّذي عليه المال رجل من العرب يقدر على أن لا يعطيه شيئا ولا يقدر له على شيء، والرجل الّذي استودعه خبيث خارجيّ، فلم أدع شيئا، فقال لي: (قل له: ردّه عليه، فإنّه ائتمنه عليه بأمانة الله)، قلت: فرجل أشتري من امرأة من العبّاسيّين بعض قطائعهم فكتب كتابا أنّها قد قبضت المال ولم تقبضه، فيعطيها المال أم يمنعها؟ قال: قل له: يمنعها أشدّ المنع، فإنّها باعته ما لم تملك(2).

__________

(1) تحف العقول: ص403.

(2) الكافي: 5/132.

المرتضى:

سئل الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) عن قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، فقيل: ما معنى ذلك، وما أراد بالقنطار؟، فقال: (قد أجاب في هذه المسألة جدي القاسم صلوات الله عليه، فقال: تأويل ذلك: أن من أهل الكتاب من يستحل كل مال المسلم، يهودي أو نصراني، ويقول: إن الأرض وما فيها من الله طعمة، وتفسير القنطار فقد يقولون: إنه الجبل الكبير، لا يصله جبل، والقنطار أيضا: ما يتعارف الناس بينهم من الوزن(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/166.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وصف ـ جلّ وعزّ ـ أهل الكتاب بعضهم بأداء الأمانة، وبعضهم بالخيانة، وليس المراد من الآية ـ والله أعلم ـ القنطار نفسه أو الدينار، ولكن وصفهم بأن فيهم أمانة وخيانة، قلّت الخيانة أو عظمت، وكذلك الأمانة؛ ألا ترى أنه يستحق الذم بدون القنطار والدينار إذا خان، وكذلك يستحق الحمد إذا أدى بدون ذلك!؟ دلّ أنه لم يرد به التقدير، ولكن على التمثيل، وهو كقوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7] ليس على إرادة الذرّة؛ ولكن على التمثيل أن لعمل الخير والشر جزاء وإن قل؛ فكذلك الأول.

2. فيه دلالة جواز العمل بالاجتهاد، ولما ذكرنا أنه لم يرد القدر الذي ذكره؛ ولكن لمعنى فيه: بالاجتهاد يعرف لا بالنصوص، وعن الشافعي: أن الدينار عنده مستكثر يحلف عليه مدّعيه عند المنبر، والله تعالى جعله مستقلّا.

3. فيه دلالة ـ أيضا ـ جواز شهادة بعضهم لبعض وعلى بعض، إن كانت فيهم‏ نزلت، على ما قاله بعض أهل التأويل؛ لأنه وصف ـ عزّ وجلّ ـ بعضهم بالأمانة في المال، وإن كانت الأمانة لهم في الدّين والشهادة أمانة

4. يحتمل: أن تكون الآية فيمن أسلم منهم وصف بالأمانة، ومن لم يسلم وصفهم بالخيانة؛ على ما ذكر ـ عزّ وجل ـ مثله في آية أخرى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: 159]: وصف ـ عزّ وجل ـ من آمن منهم بالعدالة والهدى، ووصف الكفار بالخيانة في غير آي من القرآن‏.

5. يحتمل أن تكون الآية فيما ائتمنوا، أو فيما جرى بينهم وبين المسلمين من المداينة من غير رهن‏ ولا كفالة؛ وهو كقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة: 283]: أمرهم بأداء الأمانة فيما ائتمنوا.

6. ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ قيل: ملازما، مواظبا، ملحا، دائما، متقاضيا، ومن عامل من المسلمين الناس هذه المعاملة يخاف دخوله في هذا النهي والوعيد.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾:

أ. قيل: قالوا ذلك؛ لأنهم كانوا يستحلون أموال المسلمين ظلما، يقولون: لم يجعل علينا في كتابنا لأموالهم حرمة أموالنا علينا؛ يقولون: نحن أبناء الله وأحبّاؤه، وأرادوا بالأمّيين: العرب؛ إذ ليس لهم كتاب.

ب. وقيل: ذلك الاستحلال بأن قالوا: ليس علينا لله فيهم سبيل، وأرادوا بالأميين: المسلمين؛ على ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (نحن أمّة أمّيّة؛ لا نحسب ولا نكتب)

ج. وقيل: قالوا: لا حرج علينا في حبس أموالهم في التوراة؛ فأكذبهم الله ـ عزّ وجلّ ـ بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ بأن ليس في كتابهم حرمة أموالهم، ولا لهم عليهم سبيل، وهم يعلمون أنهم يكذبون على الله، عزّ وجل‏.

قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل قوله: (بلى)؛ ردّا على قولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ بل عليكم سبيل فيهم، ثم ابتدأ الكلام فقال: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ أي: هؤلاء الّذين يحبّهم الله لا أنتم.

ب. ويحتمل قوله: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ الذي عليه في التوراة أمر بأداء الأمانة، وإظهار نعته صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته التي فيها، واتقاء محارمه وظلم الناس في ترك الوفاء، وفي نقض العهد، وصدق الله ورسوله، ولم يكتم نعته وصفته ـ فإن الله يحبّهم.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/408.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ ودخول الباء على القنطار والدينار يجوز أن يكون لإلصاق الأمانة كما دخلت في قوله: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج]، ويجوز أن تكون الباء بمعنى على، وتقدير الكلام: من إن تأمنه على قنطار ودينار ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ أي بالمطالبة والاقتضاء والملازمة.

2. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ يعني في أموال العرب لاختلاف قبلتهم فاستباحوا بذلك أموالهم، قيل: لما نزلت هذه الآية كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/145.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلفوا في دخول الباء على القنطار والدينار في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ على قولين:

أ. أحدهما: أنها دخلت لإلصاق الأمانة كما دخلت في قوله تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]

ب. الثاني: أنها بمعنى (على) وتقديره: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه على قنطار.

2. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: إلا ما دمت عليه قائما بالمطالبة والاقتضاء، وهذا قول قتادة، ومجاهد.

ب. الثاني: بالملازمة.

ج. الثالث: قائما على رأسه، وهو قول السدي.

3. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ يعني في أموال العرب، وفي سبب استباحتهم له قولان:

أ. أحدهما: لأنهم مشركون من غير أهل الكتاب، وهو قول قتادة، والسدي.

ب. الثاني: لأنهم تحولوا عن دينهم الذي عاملناهم عليه، وهذا قول الحسن، وابن جريج، وقد روى سعيد بن جبير قال لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كذّب الله أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهليّة إلّا وهو تحت قدميّ إلّا الأمانة فإنّها مؤدّاة إلى البرّ والفاجر)

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/403.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ قرأ أبو عمرو (يؤده إليك) بإسكان الهاء، الباقون باشباعها، قال الزجاج: هذا غلط من الراوي كما غلط في (بارئكم) بإسكان‏ الهمزة، وإنما كان أبو عمرو يختلس الحركة فيما رواه الضباط عنه كسيبويه وغيره، وإنما لم يجز حذف الحركة، كما لم يجز في هذا غلام فاعلم، لأنه لما حذفت الياء تركت الكسرة لتدل عليها.

2. القنطار: قد ذكرنا الخلاف في مقداره، فإنه على قول الحسن ألف ومأتا مثقال، وفي قول أبي نضرة ملأ مسك ثور ذهباً، وقيل سبعون ألفاً عن مجاهد، وعن أبي صالح أنه مائة رطل.

3. الفرق بين‏ ﴿تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ وتأمنه على قنطار أن معنى الباء الصاق الأمانة، ومعنى على استعلاء الأمانة، وهما يتعاقبان في هذا الموضع، لتقارب المعنى، كما يقال: مررت به ومررت عليه.

4. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ بالتقاضي والمطالبة في قول قتادة، ومجاهد.

ب. الثاني: قال السدي إلا ما دمت عليه قائماً بالاجتماع معه، والملازمة، ومعناه إلا ما دمت عليه قائماً على رأسه.

5. دِمت ودُمت لغتان مثل مت ومت لكن من كسر الدال والميم قال في المستقبل: تدام وتمات، وهي لغة أزد السراة، ومن جاورهم.

6. في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ قولان:

أ. أحدهما: قال قتادة والسدي: قالت اليهود ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل، لأنهم مشركون.

ب. الثاني: قال الحسن وابن جريج: لأنهم تحولوا عن دينهم الذي عاملناهم عليه وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.

7. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ معناه يعلمون هذا الكذب على الله تعالى، فيقدمون عليه، والحجة قائمة عليهم فيه.

8. قال قوم: قوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ يعني النصارى، لأنهم لا يستحلون أموال من خالفهم، وعنى بقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ﴾ اليهود لأنهم يستحلون مال كل من خالفهم في حل السبت، وعلى هذا يسقط سؤال من يقول أي فائدة في ذكر ذلك، لأن من المعلوم في كل حال من كل أمة أن فيها من يؤدي الامانة وفيها من لا يؤديها، فلا فائدة في ذلك؟ فان هذا ميز بين الفريقين.

9. من قال بالأول يمكنه أن يقول فائدة الآية القطع على أن فيهم هؤلاء، وهؤلاء وسائر الناس يجوز أن لا يكون فيهم إلا أحد الفريقين، فلذلك فائدة بينة، ويمكن أيضاً أن تكون الفائدة أن هؤلاء لا يؤدون الأمانة لاستحلالهم ذلك بقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ وسائر الفرق وإن كان منهم من لا يؤدي الامانة، لا نعلم أنه يستحلها وذلك فائدة.

10. الهاء في قوله: ﴿بِعَهْدِهِ﴾ في قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ تحتمل وجهين:

أ. يحتمل أن تكون عائدة على اسم الله في قوله: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾

ب. ويحتمل أن تكون عائدة على (من) في قوله: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ لأن العهد يضاف إلى الفاعل، والمفعول، تقول هذا عهد فلان الذي عُهد إليه به، وهذا عهد فلان الذي عهده إلى غيره، ووفى وأوفى لغتان، فأهل الحجاز يقولون أوفيت وأهل نجد يقولون وفيت.

11. قوله تعالى: ﴿بَلَى﴾ يحتمل معنيين:

أ. أحدهما: الاضراب عن الأول على وجه الإنكار للأول وعلى هذا الوجه‏ ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ تكون مكتفية، نحو قولك: ما قدم فلان، فتقول بلى أي بلى قد قدم، وقال الزجاج: بلى هاهنا وقف تام لأنهم لما قالوا ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ قيل (بلى) أي بلى عليهم سبيل.

ب. الثاني: الاضراب عن الأول والاعتماد على البيان الثاني وعلى هذا الوجه‏ لا تكون مكتفية، نحو ان تقول قد قدَّم زيد، حدساً لغواً من القول، بلى لو كان متيقناً لعمل على قوله، فكذلك الآية تدل على ما تقدم على ادعائهم خلاف الصواب في التقوى فقيل: (بلى) للإضراب عن الأول، والاعتماد على البيان الثاني.

12. الفرق بين بلى ونعم أن بلى جواب النفي، نحو قوله، ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ فأما أزيد في الدار فجوابه، نعم، أو، لا، وإنما جاز إمالة بلى لمشابهتها الاسم من وجهين:

أ. أحدهما: أنه يوقف عليها في الجواب، كما يوقف على الاسم نحو من رأيت من النساء، فيقول الحبلى، وكذلك إذا قال أليس زيد في الدار قلت بلى.

ب. ولأنها على ثلاثة أحرف وهي أصل العدة التي يكون عليها الاسم ولذلك خالفت (لا) في الامالة.

13. إنما قال: ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ ولم يقل فان الله يحبه فيرد العامل إلى اللفظ، لابانة الصفة التي تجب بها محبة الله وإن كان فيه معنى فان الله يحبهم.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/504.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. تَأْمَنْهُ تَفْعَلْهُ من الأمانة، فهو آمن، والدينار أصله دِنَّار بنونين، فقلبت إحدى النونين ياء طلبًا للخفة لكثرة الاستعمال؛ لأن كل واحد منهما من حروف الزيادة يدلك عليه الجمع تقول دنانير.

ب. القيام القيام المعروف، قام خلاف قعد، والقيام: الثبوت أيضًا، يقال: فلان يقيم على أمره أي يثبت عليه، وهو المراد به ﴿مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ أي ثابتًا مواظبًا.

ج. أمي منسوب إلى الأم، وسمي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أميًّا قيل: لأنه كان لا يكتب، وقيل: نسب إلى مكة، وهي أم القرى، والأم الأصل ممن لا يكتب، كأنه باق على أصله في ألا يكتب.

د. أوفيت العهد ووفيت به واحد في المعنى، فأوفيت: لغة أهل الحجاز، ووفيت: لغة نجد، ويصرفه كل فريق منهم على أصله.

2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾:

أ. قيل: نزلت الآية في اليهود، وأن فيهم خونة تحذيرًا للمؤمنين بأن يأمنوهم.

ب. وقيل: نزلت في مؤمنيهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وفي كفارهم نحو كعب بن الأشرف وأصحابه عن مقاتل.

ج. وقيل: نزلت في عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفًا ومائتي أوقية ذهبًا، فأداها إليه وفي فنحاص اليهودي أودعه قرشي دينارًا فخانه، عن ابن عباس.

د. وقيل: نزلت في اليهود والنصارى، فالَّذِينَ يؤدون الأمانة النصارى، والَّذِينَ لا يؤدون اليهود، عن أبي علي.

هـ. وقيل: قالت اليهود: الأموال كلها لنا فما في أيدي العرب لنا، ظلمونا وغصبونا، فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن الكلبي.

و. وقيل: بايع اليهود رجالاً في الجاهلية فلما أسلموا طالبوهم بذلك فقالوا: ليس لكم علينا حق؛ لأنكم تركتم دينكم، فانقطع العهد بيننا، فكذبهم الله تعالى وأنزل هذه الآية، عن الحسن وابن جريج ومقاتل.

ز. وقيل: قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، والخلق لنا عبيد، فلا سبيل علينا أن نأكل مال عبيدنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، حكاه الأصم.

3. ثم أخبر الله تعالى عن جرأة اليهود على المحارم وأكلهم السحت نسقًا على ما تقدم من سوء أفعالهم فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾:

أ. قيل: من اليهود عن أكثر المفسرين.

ب. وقيل: من اليهود والنصارى، عن أبي علي وجماعة.

4. ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ﴾ أمنته ﴿بِقِنْطَارٍ﴾ أي على قنطار، وعلى والباء بمعنى، كقولك: مررت بزيد، ومررت على زيد، القنطار: المال الكثير، وقد بينا ما قيل فيه ﴿يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ يرده عند المطالبة يعني الأمانة:

أ. قيل: هم بعض اليهود.

ب. وقيل: من أسلم منهم.

ج. وقيل: النصارى على ما تقدم في سبب نزول الآية.

5. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ﴾ أمنته ﴿بِدِينَارٍ﴾ أي على دينار، المراد إن أمنته على قليل من المال ﴿لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ لا يرده عند المطالبة وهم كفار اليهود بالإجماع.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾:

أ. قيل: إلا أن تدوم قائمًا بالتقاضي والمطالبة، عن قتادة ومجاهد.

ب. وقيل: إلا ما دمت عليه قائمًا بالاجتماع معه والملازمة، عن السدي قال: ما دمت عليه قائمًا على رأسه.

ج. وقيل: مُلِحَّا، عن ابن عباس.

د. وقيل: إلا قائم أن تدفعه وتطلبه وأنت قائم على رأسه فيؤده، فأما إن أخرته أنكر ولا يرد، عن أبي روق.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾:

أ. قيل: ﴿ذَلِكَ﴾ يعني ذلك الاستحلال والخيانة ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ يعني اليهود ﴿قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ فيما أصبنا من أموال العرب ﴿سَبِيلِ﴾؛ لأنهم مشركون، عن قتادة والسدي.

ب. وقيل: لأنهم تحولوا عن دينهم الذي عاملناهم عليه، وادعوا أنه في كتابهم، عن الحسن وابن جريج.

ج. وقيل: ليس لأحد علينا سبيل يعني محمدًا وأتباعه، فاستحلوا لأنهم رأوا أن الناس أتباع لهم، وأن من خالفهم يحل مالهم.

د. وقيل: هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون، ذكره القاضي ﴿سَبِيلِ﴾ أي إثم وحرج.

8. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ يعني قولهم: إن الله أحل ذلك لهم، ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾:

أ. أنه كذب على الله فيقدمون عليه مع العلم.

ب. وقيل: يعلمون التحريم.

ج. وقيل: يعلمون ما على فاعل ذلك من الإثم.

9. ثم رد الله عليهم قولهم، فقال تعالى: ﴿بَلَى﴾، وفيه نفي لما قالوا وإثبات لما بعده، كأنه قيل: لا يأمر بذلك ولا يحبه ولا يريده، بل يحب الوفاء بالعهد وأداء الأمانة ويريده ويأمر به ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾:

أ. قيل: بعهده لله بما أمرهم به في التوراة.

ب. وقيل: بجميع عهوده.

ج. وقيل: بعهد يعهده هو على نفسه قيل: هو الإيمان بمحمد.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاتَّقَى﴾:

أ. قيل: يعني اتقى الخيانة والظلم.

ب. وقيل: تكذيب الرسول.

11. ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، وهذه صفة المؤمنين دون صفة اليهود كأنه قيل: والله يحب المؤمنين، ولا يحب اليهود.

12. تدل الآيات الكريمة على:

أ. معجزة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث أخبر بأسرارهم واعتقاداتهم، وذلك لا يمكن إلا بإطلاع من الله تعالى.

ب. قبح الخيانة وحسن أداء الأمانة.

ج. أن في اليهود من كان يظهر العناد مع المعرفة، وإنما يجوز ذلك على طائفة يسيرة.

د. أنه يحب المؤمن دون الفاسق خلاف قول الْمُجْبِرَةِ، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه لما قرأ هذه الآية قال: (كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر)

هـ. أن أداء الأمانة والخيانة فيها فعل العبد، وأن الكذب فعلهم، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.

13. قراءات ووجوه:

أ. في ﴿يُؤَدِّهِ﴾ أربع قراءات:

قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر بسكون الهاء، وروي نحوه عن أبي عمرو، وقال الزجاج: ذلك غلط من الراوي عن أبي عمرو كما غلط في ﴿بَارِئِكُمْ﴾ بسكون الهمزة، وإنما كان أبو عمرو يختلس الحركة فيما رواه الضباط عنه.

الثاني: قرأ أبو جعفر ويعقوب بكسر الهاء مع الاختلاس، وهو الصحيح من مذهب أبي عمرو.

الثالث: بضم الهاء، ثم اختلفوا، فمنهم من يقرأ مختلسة، وهو المروي عن سلام القاري، ومنهم من يقرأ مشبعة، وهي قراءة الزهري.

الرابع: قراءة أكثر القراء في الكسر والإشباع، أما سكون الهاء، فأكثر النحاة على أنه لا يجوز حذف الحركة، كما لم يجز في ﴿هَذَا غُلَامٌ﴾؛ لأنه لما حذفت الياء تركت الكسرة لتدل عليها، وقال الفراء: هذا مذهب لبعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرك ما قبلها يقولون: ضَرَبْتُهْ، كما يسكنون ميم أنتمْ، وقمتمْ، فأما الاختلاس فإنه اكتفي بالضمة عن الواو وبالكسرة عن الياء، وأما الإشباع فعلى الأصل لما كان الحرف ضعيفًا قوي بالواو والضم، وبالياء في الكسر، فأما ضم الهاء فعلى الأصل كهو وهما وهم)، ومن كسر لأن قبله ياء وإن كان محذوفًا، ولأن ما قبلها مكسور، و﴿يُؤَدِّهِ﴾ جزم لأنه جواب المجازاة، والمجازاة قوله: ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ﴾، وعلامة الجزم حذف الياء؛ لأن أصله يؤديه.

ب. قراءة العامة ﴿دُمْتُ﴾ بضم الدال، وعن الأعمش ويحيى بن وثاب ﴿دُمْتُ﴾ بكسر الدال، والضم من دام يدوم) على مثل قرب يقرب)؛ لأن أصله دَوُمَ يَدْوُمُ، وأما الكسر فمن دام يدام مثل خفت أخاف، ومت أموت، وقال الأخفش: وليس في الثلاثي فَعِلَ بكسر العين في الماضي وضمها في المستقبل غير حرفين فَضِل يَفْضُل، ونَعِمَ ينعُم، وفي المعتل حرفان دِمْتُ أدوم، ومت أموت، وهما لغة تميم، وقال بعضهم: هو من باب فعِل يفعَل، بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل نحو: خاف يخاف، وهاب يهاب، فوزنه على هذا دام يدوم.

14. مسائل نحوية:

أ. الهاء في قوله: ﴿بِعَهْدِهِ﴾ قيل: يعود على اسم الله تعالى في قوله: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾، وقيل: يعود على ﴿مِنَ﴾ في ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ وذلك؛ لأن العهد مضاف الفاعل والمفعول، نحو قولهم: هذا عهد فلان الذي عهدته، وهذا عهد فلان الذي عهده لي غيره.

ب. في معنى ﴿بَلَى﴾ وجهان:

أحدهما: الإضراب عن الأول على جهة الإنكار، فعلى هذا الوجه من النفي تكون مكتفية، نحو قولك: ما قدم زيد، [فيقال]: بلى قَدِمَ، قال الزجاج: بلى ههنا وقف يأمره لما قالوا ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ قيل: بلى عليهم سبيل.

وثانيها: الإضراب عن الأول في الاعتماد على بيان الثاني، وعلى هذا لا تكون مكتفية تقديره: بلى كذا وكذا.

ج. الفرق بين ﴿بَلَى﴾ و﴿نِعْمَ﴾: ﴿بَلَى﴾ جواب النفي كقوله: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ جوابه ﴿بَلَى﴾، فأما أزيد في الدار؟ فجوابه نعم أو لا.

د. جاز إمالة ﴿بَلَى﴾ دون ﴿حَتَّى﴾: لأن ﴿بَلَى﴾ تشبه الاسم من وجهين: أحدهما: أنه يوقف عليها في الجواب بما يوقف على الاسم، تقول: من رأيت من النساء؟ فتقول: الحبلى، كما تقول: أليس زيد في الدار؟ فتقول: بلى.. والآخر: أنها على ثلاثة أحرف التي هي الأصل في الأسماء.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/282.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. القنطار: قد ذكرنا الخلاف في مقداره في أول السورة.

ب. الدينار: أصله دنر بنونين، فقلبت إحدى النونين ياء لكثرة الاستعمال، طلبا للخفة، وجمعه دنانير.

ج. دمت ودمت لغتان، مثل مت ومت، ولكن من كسر الدال والميم قال في المضارع تمات وتدام، وهي لغة أزاد السراة.

د. وفى وأوفى لغتان، وأهل الحجاز يقولون: أوفيت، وأهل نجد يقولون: وفيت.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. عن ابن عباس قال: يعني بقوله ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ عبد الله بن سلام، أودعه رجلا ألفا ومائتي أوقية من ذهب، فأداه إليه، فمدحه الله سبحانه، ويعني بقوله ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ فنحاص بن عازوراء، وذلك أن رجلا من قريش استودعه دينارا، فخانه.

ب. وفي بعض التفاسير: إن الذي يؤدي الأمانة النصارى، والذين لا يؤدونه اليهود.

3. ثم ذكر سبحانه معائب القوم، وأن فيهم من تحرج عن العيب، فقال: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ أي: تجعله أمينا على قنطار أي: مال كثير على ما قيل فيه من الأقوال التي مضى ذكرها في أول السورة ﴿يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ عند المطالبة، ولا يخون فيه، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ﴾ أي: على ثمن دينار، والمراد: تجعله أمينا على قليل من المال، ﴿لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ عند المطالبة، وهم كفار اليهود بالإجماع.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾:

أ. قيل: معناه: إلا أن تلازمه وتتقاضاه، عن الحسن وابن زيد.

ب. قيل: إلا أن تدوم قائما بالتقاضي والمطالبة، عن قتادة ومجاهد.

ج. وقيل: إلا ما دمت عليه قائما بالاجتماع معه والملازمة، عن السدي قال: ما دمت عليه قائما أي: ملحا عن ابن عباس.

5. ﴿ذَلِكَ﴾ أي: ذلك الاستحلال والخيانة، ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ هذا بيان العلة التي كانوا لأجلها لا يؤدون الأمانة، ويميلون إلى الخيانة:

أ. أي: قالت اليهود ليس علينا في أموال العرب التي أصبناها سبيل، لأنهم مشركون، عن قتادة والسدي.

ب. وقيل: لأنهم تحولوا عن دينهم الذي عاملناهم عليه، وذلك أنهم عاملوا جماعة منهم، ثم أسلم من له الحق، وامتنع من عليه الحق، من أداء الحق، وقالوا: إنما عاملناكم، وأنتم على ديننا، فإذا فارقتموه سقط حقكم، وادعوا أن ذلك في كتبهم فأكذبهم الله في ذلك بقوله ويقول على الله الكذب وهم يعلمون) أنهم يكذبون، لأن الله أمرهم بخلاف ما قالوا، عن الحسن وابن جريج.

6. إنما سموهم (أميين) لعدم كونهم من أهل الكتاب، أو لكونهم من مكة، وهي أم القرى.

7. ثم رد الله تعالى عليهم قولهم فقال: ﴿بَلَى﴾ وفيه نفي لما قبله، وإثبات لما بعده، كأنه قال: ما أمر الله بذلك، ولا أحبه، ولا أراده، بل أوجب الوفاء بالعهد، وأداء الأمانة ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾:

أ. يحتمل أن تكون الهاء في بعده، عائدة على اسم الله في قوله: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ فيكون معناه بعهد الله، وعهد الله إلى عباده: أمره ونهيه.

ب. ويحتمل أن تكون عائدة إلى ﴿مِنَ﴾ ومعناه: من أوفى بعهد نفسه، لأن العهد تارة إلى العاهد، وتارة إلى المعهود له.

8. ﴿وَاتَّقَى﴾ الخيانة، ونقض العهد ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ معناه: فإن الله يحبه، إلا أنه عدل إلى ذكر المتقين ليبين الصفة التي يجب بها محبة الله، وهذه صفة المؤمن، فكأنه قال: والله يحب المؤمنين، ولا يحب اليهود.

9. روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال، لما قرأ هذه الآية قال: (كذب أعداء الله! ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر)، وعنه قال: (ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من ائتمن على أمانة فأداها، ولو شاء لم يؤدها، زوجه الله من الحور العين ما شاء)

10. قرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم: (يؤده) بسكون الهاء وروي نحوه عن أبي عمرو، وقرأ أبو جعفر ويعقوب بكسر الهاء مع الاختلاس، وهو الصحيح من مذهب أبي عمرو، والباقون بالكسر والاشباع.. اما سكون الهاء فان أكثر النحويين على أنه لا يجوز، وغلط الزجاج الراوي فيه أبي عمروا قال: وحكى سيبويه عنه، وهو ضابط لمثل هذا أنه كان يكسر كسرا خفيفا، وقال الفراء: هذا مذهب لبعض العرب، يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها، يقولون: ضربته كما يسكنون ميم أنتم وقمتم، وأما الاختلاس فإنه للاكتفاء بالكسرة على الياء، وأما الإشباع فعلى الأصل.

11. مسائل نحوية:

أ. الفرق بين أن تقول ﴿تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾، وبين أن تقول (على قنطار): أن معنى الباء إلصاق الأمانة، ومعنى ﴿عَلَى﴾ استعلاء الأمانة، وهما يتعاقبان في هذا الموضع، لتقارب المعنى كما تقول: مررت به، ومررت عليه.

ب. بلى: يحتمل معنيين أحدهما: الإضراب عن الأول على جهة الانكار للأول، وعلى هذا الوجه يكون ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ مكتفية، نحو قولك: ما قدم زيد فيقال بلى أي: بلى قد قدم زيد، قال الزجاج: هاهنا وقف تام، ثم استأنف ﴿مَنْ أَوْفَى﴾ إلى الآخرة لأنهم لما قالوا ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ قيل: بلى عليهم في سبيل الثاني: الإضراب عن الأول، والاعتماد على البيان الثاني، وعلى هذا الوجه لا تكون مكتفية.

ج. الفرق بين بلى ونعم أن بلى: جواب النفي، ونعم: جواب الإثبات، وإنما جاز إمالة ﴿بَلَى﴾ لمشابهتها الاسم من وجهين: أحدهما: إنه توقف عليها كما توقف على الاسم، والآخر: إنها على ثلاثة أحرف ولذلك خالفت ﴿لَا﴾ في الإمالة.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/777.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ قال ابن عباس: أودع رجل ألفا ومائتي أوقية من ذهب عبد الله بن سلام، فأداها إليه، فمدحه الله بهذه الآية، وأودع رجل فنحاص بن عازوراء دينارا، فخانه‏، وأهل الكتاب: اليهود.

2. قيل، إن (الباء) في قوله: ﴿بِقِنْطَارٍ﴾ بمعنى (على)، فأما الدّينار، فقرأت على شيخنا أبي منصور اللّغويّ، قال: الدّينار فارسي معرّب، وأصله: دنّار، وهو وإن كان معرّبا، فليس تعرف له العرب اسما غير الدّينار، فقد صار كالعربيّ، ولذلك ذكره الله عزّ وجلّ في كتابه، لأنه خاطبهم بما عرفوا، واشتقّوا منه فعلا، فقالوا: رجل مدنّر: كثير الدّنانير، وبرذون‏ مدنّر: أشهب مستدير النّقش ببياض وسواد.

3. سؤال وإشكال: لم خصّ أهل الكتاب بأن فيهم خائنا وأمينا والخلق على ذلك، والجواب: أنهم يخونون المسلمين استحلالا لذلك، وقد بيّته في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ فحذّر منهم.

4. قال مقاتل: الأمانة إلى من أسلم منهم، والخيانة إلى من لم يسلم، وقيل: إن الذين يؤدّون الأمانة: النّصارى، والذين لا يؤدونها: اليهود.

5. ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ قال الفرّاء: أهل الحجاز يقولون: دمت ودمتم، ومتّ ومتّم، وتميم يقولون: متّ ودمت بالكسر، ويجتمعون في (يفعل) يدوم ويموت، وفي هذا القيام‏ قولان:

أ. أحدهما: أنه التّقاضي، قاله مجاهد، وقتادة، والفرّاء، وابن قتيبة، والزجّاج، قال ابن قتيبة: والمعنى: ما دمت مواظبا بالاقتضاء له والمطالبة، وأصل هذا أنّ المطالب بالشيء يقوم فيه ويتصرّف والتّارك له يقعد عنه، قال الأعشى:

çيقوم على الرّغم في قومه‏...فيعفو إذا شاء أو ينتقم‏é

أي: يطالب بالذّحل‏ ولا يقعد عنه، قال تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ أي: عاملة غير تاركة، وقال تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ أي: آخذ لها بما كسبت.

ب. الثاني: أنه القيام حقيقة، فتقديره: إلا ما دمت قائما على رأسه، فإنه يعترف بأمانته، فإذا ذهبت ثم جئت، جحدك، قاله السّدّيّ.

6. ﴿ذَلِكَ﴾ يعني: الخيانة، والسّبيل: الإثم والحرج، ونظيره‏ ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ قال قتادة: إنما استحلّ اليهود أموال المسلمين، لأنهم عندهم ليسوا أهل كتاب.

7. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ قال السّدّيّ: يقولون: قد أحلّ الله لنا أموال العرب.

8. في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: يعلمون أن الله قد أنزل في التّوراة الوفاء، وأداء الأمانة.

ب. الثاني: يقولون الكذب، وهم يعلمون أنه كذب.

9. ﴿بَلَى﴾ ردّ الله عزّ وجلّ عليهم قولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ بقوله: ﴿بَلَى﴾ قال الزجّاج: وهو عندي وقف التّمام، ثم استأنف، فقال: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾، ويجوز أن يكون استأنف جملة الكلام بقوله: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى﴾، والعهد: ما عاهدهم الله عزّ وجلّ عليه في التّوراة، وفي (هاء) ﴿بِعَهْدِهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى.

ب. الثاني: إلى الموفي.

__________

(1) زاد المسير: 1/296.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تعلق هذه الآية ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ بما قبلها من وجهين:

أ. الأول: أنه تعالى حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم ادعوا أنهم أوتوا من المناصب الدينية، ما لم يؤت أحد غيرهم مثله، ثم إنه تعالى بيّن أن الخيانة مستقبحة عند جميع أرباب الأديان، وهم مصرون عليها، فدل هذا على كذبهم.

ب. الثاني: أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا: {لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ‏} [آل عمران: 73] حكى في هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس، وهو إصرارهم على الخيانة والظلم وأخذ أموال الناس في القليل والكثير.

2. الآية الكريمة دالة على انقسامهم إلى قسمين: بعضهم أهل الأمانة، وبعضهم أهل الخيانة، وفيه أقوال:

أ. الأول: أن أهل الأمانة منهم هم الذين أسلموا، أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أنه يحل لهم قتل كل من خالفهم في الدين وأخذ أموالهم ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: 113] مع قوله‏ ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110]

ب. الثاني: أن أهل الأمانة هم النصارى، وأهل الخيانة هم اليهود، والدليل عليه ما ذكرنا، أن مذهب اليهود أنه يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان.

ج. الثالث: قال ابن عباس: أودع رجل عبد الله بن سلّام ألفاً ومائتي أوقية من ذهب فأدى إليه، وأودع آخر فنحاص بن عازوراء ديناراً فخانه فنزلت الآية.

3. يقال أمنته بكذا وعلى كذا، كما يقال مررت به وعليه، فمعنى الباء إلصاق الأمانة، ومعنى: على استعلاء الأمانة، فمن اؤتمن على شيء فقد صار ذلك الشيء في معنى الملتصق به لقربه منه، واتصاله بحفظه وحياطته، وأيضاً صار المودع كالمستعلي على تلك الأمانة والمستولي عليها، فلهذا حسن التعبير عن هذا المعنى‏ بكلتا العبارتين، وقيل إن معنى قولك أمنتك بدينار أي وثقت بك فيه، وقولك أمنتك عليه، أي جعلتك أميناً عليه وحافظاً له.

4. المراد من ذكر القنطار والدينار هاهنا العدد الكثير والعدد القليل، يعني أن فيهم من هو في غاية الأمانة حتى لو اؤتمن على الأموال الكثيرة أدى الأمانة فيها، ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى لو اؤتمن على الشيء القليل، فإنه يجوز فيه الخيانة، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ [النساء: 20] وعلى هذا الوجه، فلا حاجة بنا إلى ذكر مقدار القنطار وذكروا فيه وجوهاً:

أ. الأول: إن القنطار ألف ومائتا أوقية قالوا: لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلّام حين استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية من الذهب فرده ولم يخن فيه، فهذا يدل على القنطار هو ذلك المقدار.

ب. الثاني: روي عن ابن عباس أنه ملء جلد ثور من المال.

ج. الثالث: قيل القنطار هو ألف ألف دينار أو ألف ألف درهم، وقد تقدم القول في تفسير القنطار.

5. قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر يؤده بسكون الهاء، وروي ذلك عن أبي عمرو، وقال الزجاج: هذا غلط من الراوي عن أبي عمرو كما غلط في‏ ﴿بَارِئِكُمْ﴾ بإسكان الهمزة وإنما كان أبو عمرو يختلس الحركة، واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة بأن قال الجزاء ليس في الهاء وإنما هو فيما قبل الهاء والهاء اسم المكنى والأسماء لا تجزم في الوصل، وقال الفراء: من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها، فيقول: ضربته ضرباً شديداً كما يسكنون (ميم) أنتم وقمتم وأصلها الرفع، وأنشد: (لما رأى أن لا دعه ولا شبع‏)، وقرئ أيضاً باختلاس حركة الهاء اكتفاء بالكسرة من الياء، وقرئ بإشباع الكسرة في الهاء وهو الأصل.

6. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ في لفظ (القائم) وجهان:

أ. منهم من حمله على حقيقته، قال السدي: يعني إلا ما دمت قائماً على رأسه بالاجتماع معه والملازمة له، والمعنى: أنه إنما يكون معترفاً بما دفعت إليه ما دمت قائماً على رأسه، فإن أنظرت وأخرت أنكر.

ب. ومنهم من حمل لفظ (القائم) على مجازه ثم ذكروا فيه وجوهاً:

الأول: قال ابن عباس المراد من هذا القيام الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة، قال ابن قتيبة: أصله أن المطالب للشيء يقوم فيه والتارك له يقعد عنه، دليل قوله تعالى: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: 113] أي عامله بأمر الله غير تاركه، ثم قيل: لكل من واظب على مطالبة أمر أنه قام به وإن لم يكن ثم قيام.

الثاني: قال أبو علي الفارسي: القيام في اللغة بمعنى الدوام والثبات، وذكرنا ذلك في قوله تعالى: ﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: 3] ومنه قوله‏ ﴿دِينًا قِيَمًا﴾ [الأنعام: 161] أي دائماً ثابتاً لا ينسخ فمعنى قوله‏ ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ أي دائماً ثابتاً في مطالبتك إياه بذلك المال.

7. يدخل تحت قوله تعالى: ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ و﴿بِدِينَارٍ﴾ العين والدين، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقارضة وليس في الآية ما يدل على التعيين والمنقول عن ابن عباس أنه حمله على المبايعة، فقال منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك ونقلنا أيضاً أن الآية نزلت في أن رجلًا أودع مالًا كثيراً عند عبد الله بن سلام، ومالًا قليلًا عند فنحاص بن عازوراء، فخان هذا اليهودي في القليل، وعبد الله بن سلام أدى الأمانة، فثبت أن اللفظ محتمل لكل الأقسام.

8. ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ والمعنى إن ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل، وذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً:

أ. الأول: أنهم مبالغون في التعصب لدينهم، فلا جرم يقولون: يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان وروي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام: (كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر)

ب. الثاني: أن اليهود قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18] والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا اموال عبيدنا.

ج. الثالث: أن اليهود إنما ذكروا هذا الكلام لا مطلقاً لكل من خالفهم، بل للعرب الذين آمنوا بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، روي‏ أن اليهود بايعوا رجالًا في الجاهلية فلما أسلموا طالبوهم بالأموال فقالوا: ليس لكم علينا حق لأنكم تركتم دينكم.

9. من المحتمل أنه كان من مذهب اليهود أن من انتقل من دين باطل إلى دين آخر باطل كان في حكم المرتد، فهم وإن اعتقدوا أن العرب كفار إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كفر حكموا على العرب الذين أسلموا بالردة.

10. نفي السبيل المراد منه نفي القدرة على المطالبة والإلزام، قال تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [التوبة: 91] وقال: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141] وقال: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ﴾ [الشورى: 41، 42]

11. (الأمي) منسوب إلى الأم، وسمي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمياً قيل لأنه كان لا يكتب وذلك لأن الأم أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بقي على أصله في أن لا يكتب، وقيل: نسب إلى مكة وهي أم القرى.

12. ثم قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وفيه وجوه:

أ. الأول: أنهم قالوا: إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش.

ب. الثاني: أنهم يعلمون كون الخيانة محرمة.

ج. الثالث: أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم.

13. في‏ ﴿بَلَى﴾ في قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: أنه لمجرد نفي ما قبله، وهو قوله‏ ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ فقال الله تعالى راداً عليهم‏ ﴿بَلَى﴾ عليهم سبيل في ذلك وهذا اختيار الزجاج، قال وعندي وقف التمام على (بلى) وبعده استئناف.

ب. الثاني: أن كلمة (بلى) كلمة تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعده، وذلك لأن قولهم: ليس علينا فيما نفعل جناح قائم مقام قولهم: نحن أحباء الله تعالى، فذكر الله تعالى أن أهل الوفاء بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى لا غيرهم، وعلى هذا الوجه فإنه لا يحسن الوقف على (بلى) وقوله‏ ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ مضى الكلام في معنى الوفاء بالعهد والضمير في‏ ﴿بِعَهْدِهِ﴾ يجوز أن يعود على اسم‏ ﴿اللهُ﴾ في قوله‏: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ ويجوز أن يعود على (من) لأن العهد مصدر فيضاف إلى المفعول وإلى الفاعل.

14. سؤال وإشكال: بتقدير (أن) يكون الضمير عائداً إلى الفاعل وهو (من) فإنه يحتمل أنه لو وفي أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة، فإنهم يكتسبون محبة الله تعالى، والجواب: الأمر كذلك، فإنهم إذا أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الأعظم، وهو ما أخذ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة، لاتقوه في ترك الكذب على الله، وفي ترك تحريف التوراة.

15. سؤال وإشكال: أين الضمير الراجع من الجزاء إلى (من)؟ والجواب: عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير.

16. هذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد، وذلك لأن الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معاً، لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق، فهو شفقة على خلق الله، ولما أمر الله به، كان الوفاء به تعظيماً لأمر الله، فثبت أن العبارة مشتملة على جميع أنواع الطاعات والوفاء بالعهد، كما يمكن في حق الغير يمكن أيضاً في حق النفس لأن الوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات، لأن عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/263.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ مثل عبد الله بن سلام، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ وهو فنحاص بن عازوراء اليهودي، أودعه رجل دينارا فخانه، وقيل: كعب بن الأشرف وأصحابه.

2. قرأ ابن وثاب والأشهب العقيلي (من إن تيمنه) على لغة من قرأ ﴿نَسْتَعِينُ﴾ وهي لغة بكر وتميم، وفي حرف عبد الله (مالك لا تيمنا على يوسف) والباقون بالألف، وقرأ نافع والكسائي (يؤدهي) بياء في الإدراج، قال أبو عبيد: واتفق أبو عمرو والأعمش وعاصم وحمزة في رواية أبي بكر على وقف الهاء، فقرؤوا ﴿يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾، قال النحاس: بإسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين، وبعضهم لا يجيزه ألبتة ويرى أنه غلط ممن قرأ به، وإنه توهم أن الجزم يقع على الهاء، وأبو عمرو أجل من أن يجوز عليه مثل هذا، والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء، وهي قراءة يزيد بن القعقاع، وقال الفراء: مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرك ما قبلها، يقولون: ضربته ضربا شديدا، كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصلها الرفع، كما قال الشاعر:

çلما رأى ألا دعه ولا شبع...مال إلى أرطاة حقف فاضطجعé

وقيل: إنما جاز إسكان الهاء في هذا الموضع لأنها وقعت في موضع الجزم وهي الياء الذاهبة، وقرأ أبو المنذر سلام والزهري ﴿يُؤَدِّهِ﴾ بضم الهاء بغير واو، وقرأ قتادة وحميد ومجاهد (يؤدهو) بواو في الإدراج، اختير لها الواو لأن الواو من الشفة والهاء بعيدة المخرج، قال سيبويه: الواو في المذكر بمنزلة الألف في المؤنث ويبدل منها ياء لأن الياء أخف إذا كان قبلها كسرة أو ياء، وتحذف الياء وتبقى الكسرة لأن الياء قد كانت تحذف والفعل مرفوع فأثبتت بحالها.

3. أخبر تعالى أن في أهل الكتاب الخائن والأمين، والمؤمنون لا يميزون ذلك، فينبغي اجتناب جميعهم، وخص أهل الكتاب بالذكر وإن كان المؤمنون كذلك، لأن الخيانة فيهم أكثر، فخرج الكلام على الغالب.

4. مضى تفسير القنطار، وأما الدينار فأربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير، فمجموعه اثنتان وسبعون حبة، وهو مجمع عليه، ومن حفظ الكثير وأداه فالقليل أولى، ومن خان في اليسير أو منعه فذلك في الكثير أكثر، وهذا أدل دليل على القول بمفهوم الخطاب، وفيه بين العلماء خلاف كثير مذكور في أصول الفقه، وذكر تعالى قسمين: من يؤدي ومن لا يؤدي إلا بالملازمة عليه، وقد يكون من الناس من لا يؤدي وإن دمت عليه قائما، فذكر تعالى القسمين لأنه الغالب والمعتاد والثالث نادر، فخرج الكلام على الغالب، وقرأ طلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهما ﴿دُمْتُ﴾ بكسر الدال وهما لغتان، والكسر لغة أزد السراة، من دمت تدام) مثل خفت تخاف، وحكى الأخفش دمت تدوم، شاذا.

5. استدل أبو حنيفة على مذهبه في ملازمة الغريم بقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ وأباه سائر العلماء، وقد تقدم في البقرة، وقد استدل بعض البغداديين من علمائنا(2) على حبس المديان بقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ فإذا كان له ملازمته ومنعه من التصرف، جاز حبسه، وقيل: إن معنى ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ أي بوجهك فيهابك ويستحي منك، فإن الحياء في العينين، ألا ترى إلى قول ابن عباس: لا تطلبوا من الأعمى حاجة فإن الحياء في العينين، وإذا طلبت من أخيك حاجة فانظر إليه بوجهك حتى يستحي فيقضيها، ويقال: ﴿قَائِمًا﴾ أي ملازما له، فإن أنظرته أنكرك، وقيل: أراد بالقيام إدامة المطالبة لا عين القيام، والدينار أصله دنار فعوضت من إحدى النونين ياء طلبا للتخفيف لكثرة استعماله، يدل عليه أنه يجمع دنانير ويصغر دنينير.

6. الأمانة عظيمة القدر في الدين، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرحم على جنبتي الصراط، كما في صحيح مسلم، فلا يمكن من الجواز إلا من حفظهما، وروى مسلم عن حذيفة قال حدثنا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن رفع الأمانة، قال: (ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه) الحديث، وروى ابن ماجه عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن الله تعالى إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الإسلام، وقد مضى في البقرة معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا نحن من خانك)

7. ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم خلافا لمن ذهب إلى ذلك، لأن فساق المسلمين يوجد فيهم من يؤدي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ولا يكونون بذلك عدولا، فطريق العدالة والشهادة ليس يجزئ فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة، ألا ترى قولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران] فكيف يعدل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه، ولو كان ذلك كافيا في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين.

8. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ يعني اليهود ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ قيل: إن اليهود كانوا إذا بايعوا المسلمين يقولون: ليس علينا في الأميين سبيل ـ أي حرج في ظلمهم ـ لمخالفتهم إيانا، وادعوا أن ذلك في كتابهم، فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم فقال: ﴿بَلَى﴾ أي بلى عليهم سبيل العذاب بكذبهم واستحلالهم أموال العرب، قال أبو إسحاق الزجاج: وتم الكلام، ثم قال: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى﴾ [آل عمران]، ويقال: إن اليهود كانوا قد استدانوا من الأعراب أموالا فلما أسلم أرباب الحقوق قالت اليهود: ليس لكم علينا شي، لأنكم تركتم دينكم فسقط عنا دينكم، وادعوا أنه حكم التوراة فقال الله تعالى: ﴿بَلَى﴾ ردا لقولهم ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، أي ليس كما تقولون، ثم استأنف فقال: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى﴾ الشرك فليس من الكاذبين بل يحبه الله ورسوله.

9. قال رجل لابن عباس: إنا نصيب في العمد من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول: ليس علينا في ذلك بأس، فقال له: هذا كما قال أهل الكتاب ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم، ذكره عبد الرازق عن معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن صعصعة أن رجلا قال لابن عباس، فذكره.

10. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يدل على أن الكافر لا يجعل أهلا لقبول شهادته، لأن الله تعالى وصفه بأنه كذاب، وفية رد عل الكفرة الذين يحرمون ويحللون غير تحريم الله وتحليله ويجعلون ذلك من الشرع، قال ابن العربي: ومن هذا يخرج الرد على من يحكم بالاستحسان من غير دليل، ولست أعلم أحدا من أهل القبلة قاله، وفي الخبر: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر) ‌

11. ﴿مَنْ﴾ رفع بالابتداء وهو شرط، و﴿أَوْفَى﴾ في موضع جزم، و﴿اتَّقَى﴾ معطوف عليه، أي واتقى الله ولم يكذب ولم يستحل ما حرم عليه، ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ أي يحب أولئك، وقد تقدم معنى حب الله لأوليائه.

12. الهاء في قوله: ﴿بِعَهْدِهِ﴾ راجعة إلى الله تعالى، وقد جرى ذكره في قوله: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ويجوز أن تعود على الموفي ومتقي الكفر والخيانة ونقض العهد، والعهد مصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/116.

(2) يقصد المالكية

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا شروع في بيان خيانة اليهود في المال بعد بيان خيانتهم في الدين، والجار والمجرور في قوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: في محل رفع على الابتداء، على ما مرّ في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ وقد تقدم تفسير القنطار، وقوله: ﴿تَأْمَنْهُ﴾ هذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن وثاب، والأشهب العقيلي: تيمنه بكسر التاء الفوقية على لغة بكر وتميم، ومثله: قراءة من قرأ: نستعين بكسر النون، وقرأ نافع والكسائي:

2. ﴿يُؤَدِّهِ﴾ بكسر الهاء في الدرج، قال أبو عبيد: واتفق أبو عمرو، والأعمش، وحمزة، وعاصم في رواية أبي بكر: على إسكان الهاء، قال النحاس: إسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين، وبعضهم لا يجيزه ألبتة، ويرى أنه غلط من قرأ به، ويوهم أن الجزم يقع على الهاء وأبو عمرو أجلّ من أن يجوز عليه شيء من هذا، والصحيح عنه: أنه كان يكسر الهاء، وقال الفراء: مذهب بعض العرب يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها، فيقولون: ضربته ضربا شديدا، كما يسكنون ميم أنتم وقمتم، وأنشد:

çلمّا رأى أن لا دعه ولا شبع‏...مال إلى أرطاة حقف فاضطجع‏é

وقرأ أبو المنذر سلام، والزهري: يؤده بضم الهاء بغير واو، وقرأ قتادة وحمزة ومجاهد: يؤدّ هو بواو في الإدراج، ومعنى الآية: أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدي أمانته وإن كانت كثيرة، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة، ومن كان أمينا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائنا في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى.

3. ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ استثناء مفرغ، أي: لا يؤده إليك في حال من الأحوال إلا ما دمت عليه قائما مطالبا له، مضيقا عليه، متقاضيا لردّه، والإشارة بقوله: ذلك، إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله: ﴿لَا يُؤَدِّهِ﴾

4. الأميون: هم العرب الذين ليسوا أهل كتاب، أي: ليس علينا في ظلمهم حرج لمخالفتهم لنا في ديننا، وادّعوا ـ لعنهم الله ـ أن ذلك في كتابهم، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى﴾ أي: بلى عليهم سبيل لكذبهم، واستحلالهم أموال العرب، فقوله: ﴿بَلَى﴾ إثبات لما نفوه من السبيل، قال الزجاج: تمّ الكلام بقوله: ﴿بَلَى﴾ ثم قال: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى﴾ وهذه جملة مستأنفة: أي: من أوفى بعهده واتقى فليس من الكاذبين، أو فإن الله يحبه.

5. الضمير في قوله: ﴿بِعَهْدِهِ﴾ راجع إلى: من، أو إلى: الله تعالى، وعموم المتقين قائم مقام العائد إلى: من، أي: فإن الله يحبه، قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ﴾ أي: يستبدلون، كما تقدّم تحقيقه غير مرة، وعهد الله: هو ما عاهدوه عليه من الإيمان بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والأيمان: هي التي كانوا يحلفون أنهم يؤمنون به وينصرونه.

6. ﴿أُولَئِكَ﴾ أي: الموصوفون بهذه الصفة ﴿لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ أي: لا نصيب‏ ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾ بشيء أصلا، كما يفيده حذف المتعلق من التعميم، أو لا يكلمهم بما يسرهم‏ ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ نظر رحمة، بل يسخط عليهم، ويعذبهم بذنوبهم، كما يفيده قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/405.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمِنَ اَهْلِ الْكِتَابِ مَنِ اِن تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ﴾ ألف ومائتا أوقية، أو مائة ألف دينار، أو ملء جلد ثور، أو غير ذلك من أقوال مرَّت في السورة، أو المال الكثير، ﴿يُوَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ لأمانته، كعبد الله بن سلَام، أودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقيَّة ذهبا فأدَّاها إليه، وكالنصارى، فإنَّ الغالب فيهم الأمانة على الكثيرِ، والقليلُ أولى بأدائه، والقنطار تمثيل للكثير لا قيد.

2. ﴿وَمِنْهُم مَّنِ اِن تَامَنْهُ بِدِينَارٍ﴾ تمثيل لا قيد، وهو أربعة وعشرون قيراطا، كلُّ قيراط ثلاث شعيرات معتدلة، فالمجموع اثنان وسبعون حبَّة، قيل: لم يختلف جاهليَّة ولا إسلاما، وأصله: دِنَّار ـ بتشديد النون ـ قلبت الأولى ياء، بدليل: دنانير ودُنَيْنِر، فإنَّ التكسير والتصغير يَرُدَّانِ الشيء إلى أصله، وما قيل عن مالك بن دينار: (إنَّ أصله دَين ونار لمن أخذه بحقِّه، ولمن أخذه بغير حقِّه، وكذا كنزه، أو ذو نار) تكلُّمٌ بالإشارة، ولا صحَّة له في اللُّغة.

3. ﴿لَا يُوَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ لخيانته، بل يأخذه كلَّه أو بعضه ويُنكِر، كفِنحَاص بن عازوراء بوزن (قِرطاس) اليهوديِّ، أو كعب بن الأشرف اليهوديِّ، استودعه قرشيٌّ دينارا فجحده، وكسائر اليهود، فالغالب فيهم الخيانة في القليل، ولا سيما الكثير، وكيف وقد استحلُّوا مال من لم يتهوَّد؟، ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا﴾ رقيبا خوف الجحد، أو مُلحًّا، أو ملازما، والمصدر ظرف، ففرغ إليه، أي: لا يؤدِّه إليك وقتا إِلَّا دوامك عليه قائما، أي: إلَّا وقت دوامك.

4. ﴿ذَالِكَ﴾ المذكور من انتفاء التأدية، ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ لأنَّهم، ﴿قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الاُمِّيِّينَ﴾ من لا كتاب له من العرب وغيرهم، ﴿سَبِيلٌ﴾ إلى العقاب واللَّوم والتأثيم على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، كلُّ ذلك حلال لأنَّهم لم يتهوَّدوا، وما قال ذلك واعتقده دينا إِلَّا اليهود، فهم المراد في الآية، بخلاف قوله: ﴿مَنِ اِن تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ﴾ فإنَّه لا يختصُّ بالنصارى إذ لم يذكر ما يخصُّهم، وقد شمل عبد الله بن سلام فإنَّه لا يخون ولو قبل إسلامه.

5. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ إذ قالوا: إنَّ الله أباح في التوراة لنا دماء من لم يتهوَّد وماله وعرضه، أو نحن أبناء الله وأحبَّاؤه وغيرنا عبيدنا، ومال العبد لسيِّده، أو مَالُ العرب غُصِبَ منَّا فهو حلال لنا، أو أسلم من كان من العرب في دينهم فقاضوهم ديونا، فقالوا: إنَّا لا نؤدِّيها لكم لنقضكم العهد بإسلامكم، وإنَّ ذلك في التوراة، وروي أنَّهم قالوا لمن بدَّل دينه بالإسلام أيضًا ولو لم يكن أوَّلاً على دينهم.

6. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّهم كاذبون، لو قالوا: ذلك عن جهل لم يعذروا فكيف وقد قالوه عمدا، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم عند نزول الآية: (كذب أعداء الله، ما من شيء في الجاهليَّة إِلَّا وهو تحت قدمي (أي متروك) إِلَّا الأمانة فإنَّها مؤدَّاة إلى البرِّ والفاجر) رواه الطبرانيُّ وغيره من حديث سعيد بن جبير مرسلا.

7. ﴿بَلَى﴾ إثبات للسبيل، أي: عليهم سبيل للذمِّ والعقاب والعتاب، ﴿مَنَ اَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ﴾ أي: بعهد نفسه الذي عاهد به الله، أو بعهد نفسه الذي عاهده به الله، أو بعهد الله الذي عاهده الله به، أو بعهد الله الذي عاهد اللهَ به من الإيمان بما أنزل.

8. ﴿وَاتَّقَىٰ﴾ حذر العقاب، أو حذر المعاصي مِن فعل المحرَّم وتركِ الواجب، والتقوى ملاك الأمر، وذكْرُها بعد الإيفاء تعميمٌ بعد تخصيص، وخصَّ الإيفاء بالذكر لأنَّه أخصُّ بالمقام، أو الإيفاء: فعل الواجب، والتقوى: ترك ما قال: لا تفعلوه.

9. ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبَّ الْمُتَّقِينَ﴾ يثيب المتَّقين عموما، كما أنَّ من أوفى واتَّقى هو على العموم، فمقتضى الظاهر: فإنَّ الله يحبُّهم، أو من أوفى واتَّقى من الأمِّـيِّين فإنَّ الله يحبُّهم، ووضع الظاهر موضع المضمر، أي: يحِبُّ المتَّقين عموما، فيدخلون دخولا أوَّليًّا، وذلك ليذكِّرهم باسم التقوى لا ليفيد العموم، فإنَّ (مَن) للعموم، إِلَّا إن أريد بـ (مَن) مَن أوفى من أهل الكتاب، فإنَّه ذكر المتَّقين ليعمَّ غيرهم أيضًا، والربط يحصل بالظاهر الموضوع موضع المضمر ويحصل بالعموم، وفي البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أربع من كنَّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة واحدة منهنَّ، كان فيه خصلة من النفاق حتَّى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فجر)، والحديث نصٌّ في أنَّ الموحِّد منافق بفعل الكبيرة لا يقبل التأويل بشبه المضمِر للشرك؛ لأنَّه قال: (خالصًا)، أيقول قومنا: هو مضمر للشرك خالصًا؟ لا يجدون ذلك؛ فالنفاق يكون بفعل الكبيرة مع ثبوت التوحيد في القلب ويكون بإضمار الشرك.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/301.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ بالمطالبة والترافع وإقامة البينة، فلا يبعد منه الخيانة مع الله بكتمان ما أمر بإظهاره طمعا في إبقاء الرئاسة والرشا عليه.

2. ثم استأنف علة الخيانة بقوله‏: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ أي ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب عقاب ومؤاخذة فهم يخونون الخلق.

3. ﴿وَيَقُولُونَ﴾ أي في الاعتذار عنه‏ ﴿عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ بادعائهم ذلك وغيره فيخونونه أيضا ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنه كذب محض وافتراء لتحريم الغدر عليهم، كما هو في التوراة، وقد مضى نقله في البقرة في آية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ [البقرة: 62]

4. ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (بلى) إما لإثبات‏ ما نفوه من السبيل عليهم في الأميين، أي بلى عليهم سبيل، فالوقف حينئذ على (بلى) وقف التمام، وقوله‏ ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ جملة مقررة للجملة التي سدت (بلى) مسدّها؛ وإما لابتداء جملة بلا ملاحظة كونها جوابا للنفي السابق، فإن كلمة (بلى) قد تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعدها ـ كما نقله الرازيّ ـ وهذا هو الذي أرتضيه، وإن اقتصر الكشاف ومقلدوه على الأول، وقد ذكروا في (نعم) أنها تأتي للتوكيد إذا وقعت صدرا، نحو: نعم هذه أطلالهم، فلتكن (بلى) كذلك، فإنهما أخوان، وإن تخالفا في صور، وعلى هذا فلا يحسن الوقف على (بلى)

5. الضمير في‏ ﴿بِعَهْدِهِ﴾ إما لاسم (الله) في قوله‏ ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ على معنى إن كل من أوفى بعهد الله واتقاه في ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه، وإما ل ﴿مَنْ أَوْفَى﴾ على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقاه فإنه يحبه، قال الزمخشريّ: (فإن قلت فهذا عام، يخيل أنه ولو وفي أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله، قلت: أجل، لأنهم إذا وفوا بالعهود، وفوا أول شيء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه)

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/337.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا بيان حال أخرى من أحوال أهل الكتاب، تمثلها طائفة أخرى تخون الأمانة وتستحب أكل أموال من ليس من الإسرائيليين بالباطل، غرورا في الدين وتأويلا للكتاب، وهي قد جاءت في مقابل الطائفة التي تكيد للمسلمين ليرجعوا عن دينهم، وقال محمد عبده في قوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ الخ هذه الآية جاءت ببعض التفصيل لما أجمل في الآيات السابقة من غرور أهل الكتاب وزعمهم أنهم شعب الله الخاص، وأن الدين والحق من خصائصهم، وابتداؤها بالعطف يشعر بمعطوف محذوف حذف إيجازا، لأن السياق لا يقتضي ذكره وهو مبين في آيات أخرى كقوله تعالى: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: 113] الخ فكأنه ههنا يعطف على ما هنالك أي منهم كذا ومنهم كذا، وإنما قال: كأنه لأن آية ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ الخ في هذه السورة وهي متأخرة عن هذه الآيات، ولعل جعله معطوفا على ما قبله باعتبار المفهوم أقرب، فكأنه قال منهم طائفة تكيد للمسلمين ومنهم من يستحل أكل أموالهم وأموال غيرهم، وقد أرشدنا إلى ذلك آنفا.

2. إنما أعاد ذكر ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ ولم يبتدئ الآية بقوله ﴿وَمِنْهُمْ﴾ والكلام فيهم للإشعار بأنهم فعلوا ذلك باسم الكتاب الذي حرفوا نهيه عن أكل أموال الناس بالباطل فزعموا أنه لم ينههم إلا عن خيانة إخوتهم الإسرائيليين.

3. ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ معناه إلا مدة دومك أيها المؤتمن له قائما على رأسه تلح بالمطالبة، أو تلجأ إلى التقاضي والمحاكمة، {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا الأميين سبيل} أي ذلك الترك للأداء بسبب قولهم: ليس علينا في أكل أموال الأميين أي العرب تبعة ولا ذنب، فكأنه يقول إن استحلال هذه الخيانة جاءهم من الغرور بشعبهم والغلو في دينهم، فإن ذلك يستتبع احتقار المخلف احتقارا يهضم به حقه الثابت في المعاملة، قال محمد عبده: كأنهم يقولون: إن كل من ليس من شعب الله الخاص وليس من أهل دينه فهو ساقط من نظر الله ومبغوض عنده، فلا حقوق له ولا حرمة لماله، فيحل أكله متى أمكن.

4. رد الله عليهم هذه المزاعم بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أن ذلك كذب عليه لأن ما كان منه فهو ما جاء في كتابه، وليس في التوراة التي عندهم إباحة خيانة الأميين وأكل أموالهم بالباطل وهم يعلمون أن ذلك ليس فيها، ولكنهم لا يأخذون الدين من الكتاب وإنما لجؤوا إلى التقليد فعدوا كلام أحبارهم دينا ينسبونه إلى الله، وهؤلاء يقولون في الدين بآرائهم ويحرفون الكلم عن مواضعه ليؤيدوا بذلك أقوالهم، فكل هذه الدواهي جاءتهم من هذه الناحية: ناحية التقليد والأخذ بكلام العلماء في الحلال والحرام، وهو مما لا يؤخذ فيه إلا بكتاب الله ووحيه، وانظر كيف أنصفهم الكتاب فبين أن منهم الوفي والخائن ولا يكون أفراد جميع الأمة خائنين وناهيك بأمة منها السموأل.

5. في خبر هؤلاء المحرفين من العبرة لنا معشر المسلمين ما فيه، فإن فينا من يقول الآن إنه يجوز أكل أموال غير المسلمين بل والمسلمين في دار الحرب مطلقا، ثم إن هؤلاء يفسرون دار الحرب كما يشاؤون حتى رأيت بعض الناس يحلون لعمال مركبات الترام بمصر أن يخونوا أصحابها بيبع تذكرة الركوب فيها مرتين أو أكثر ويساعدونهم على ذلك وإن استلزمت مساعدتهم الكذب فهم بهذا يحلون الخيانة والسرقة والكذب وهي من كبائر المعاصي التي لا تحل في دين ويتناولهم وعيد اليهود في الآية ووعيد قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ما جرأهم على ذلك إلا سوء التقليد للفقهاء الذين قالوا بجواز أكل مال الحربي في داره بالعقود الفاسدة التي لا تحل في دار الإسلام كالربا والبيع والفاسد، لكن هؤلاء الفقهاء لا يحلون الغش ولا الخيانة ولا السرقة ولا الكذب والاحتيال لذلك، وإنما يقولون يجوز أكل ماله برضاه في مثل تلك العقود، على أن المسألة خلافية لم يتفق الفقهاء عليها، فلينظر المسلم الصادق المستنير بالدليل إلى سوء مغبة التقليد وكيف أنه استلزم الاجتهاد الباطل إذ صار الجاهلون المقلدون يقيسون أكل المال بالغش والخيانة والسرقة على أكله بالعقود الفاسدة مع التراضي وبينهما فرق عظيم.

6. ثم قال تعالى في بيان الحق في المعاملة: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ العهد ما تلتزم الوفاء به لغيرك، فإذا اتفق اثنان على أن يقوم كل منهما للآخر بشيء مقابلة ومجازاة، يقال إنهما تعاهدا، ويقال عاهد فلانا فلان عهدا، فيدخل فيه العقود المؤجلة والأمانات، فمن ائتمنك على شيء أو أقرضك مالا إلى أجل أو باعك بثمن مؤجل وجب عليك الوفاء بالعهد وأداء حقه إليه في وقته من غير أن تلجئه إلى التقاضي والإلحاح في الطلب، بذلك تقتضي الفطرة وتحتمه الشريعة، وهذا مثال العهد مع الناس وهو المراد هنا أولا وبالذات للرد على أولئك اليهود الذين لم يجعلوا العهد مما يجب الوفاء به لذاته وإنما العبرة عندهم بالمعاهد: فإن كان إسرائيليا وجب الوفاء له لأنه إسرائيلي ومن كان غير إسرائيلي فلا عهد له ولا حق يجب الوفاء به، ويدخل في الإطلاق عهد الله تعالى وهو يلتزم المؤمن الوفاء له به من أتباع دينه والعمل بما شرعه على لسان رسوله وعهد العمل به وهو حجة على اليهود أيضا، فإنهم ما كانوا يوفون بهذا العهد مع أنهم يقولون بوجوب الوفاء، ولو أوفوا به لآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واتبعوا النور الذي أنزل معه كما أوصاهم الله وعهد إليهم على لسان موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم.

7. لفظ ﴿بَلَى﴾ جاء لإثبات ما نفوه في قولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ فهو يقول: بلى عليكم سبيل وأي سبيل، إذ فرض عليكم الوفاء بالعهد والتقوى، ثم ذكر جزاء أهل الوفاء والتقوى فقال: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ الذي عاهد به الله أو الناس واتقى الإخلاف والغدر والاعتداء فإن الله يحبه فيعامله معاملة المحبوب بأن يجعله محل عنايته ورحمته في الدنيا والآخرة، قال محمد عبده ما معناه: إن ورود الجواب بهذه العبارة أفادنا قاعدة عامة من قواعد الدين، وهي أن الوفاء بالعهود واتقاء الإخلاف وسائر المعاصي والخطايا هو الذي يقرب العبد من ربه، ويجعله أهلا لمحبته، لا كونه من شعب كذا، ومن هذه القاعدة يعلم خطأ اليهود في زعمهم أنه ليس عليهم في الأميين سبيل، وفيه تعريض بأن أصحاب هذا الرأي ليسوا من أهل التقوى التي هي الركن الركين لكل دين قويم.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/339.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن بين سبحانه خيانة أهل الكتاب في الدين وكيدهم للمسلمين، ليرجعوا عن دينهم، وصدّهم عن الدعوة لذلك الدين الجديد بكل وسيلة يستطيعونها، زعما منهم أنهم شعب الله المختار، وأن الدين الحق خاصّ بهم لا يعدوهم إلى شعب آخر، ولا إلى أمة أخرى، أردف ذلك ذكر حال طائفة أخرى منهم تخون الأمانات، وتستحلّ أكل أموال الناس بالباطل، تأويلا للكتاب وغرورا في الدين.

2. ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ أي ومن أهل الكتاب طائفة تشاكس المسلمين وتكيد لهم ليرجعوا عن دينهم، ومنهم طائفة أخرى تستحل أكل أموالهم وأموال غيرهم زعما منهم أن الكتاب لم ينههم إلا عن خيانة إخوتهم من بنى إسرائيل، والخلاصة إن أهل الكتاب طائفتان:

أ. طائفة تؤمن على الكثير والقليل كعبد الله بن سلام استودعه قرشىّ ألفا ومائتى أوقية من ذهب فأداها إليه.

ب. طائفة أخرى تخون الأمانة، فلو استودعتها القليل جحدته ولا تؤديه إليك إلا إذا أدمت الوقوف على رأسها ملحّا في المطالبة أو لاجئا إلى التقاضي والمحاكمة، ومن هؤلاء كعب بن الأشرف استودعه قرشي دينارا فجحده.

3. ثم بين السبب في فعلهم هذا فقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ أي إن ذلك الترك لأداء الأمانة من قبل أنهم زعموا أنه لا تبعة ولا ذم في أكل أموال العرب، وخلاصة هذا: إن كل من ليس من شعب الله المختار وليس من أهل دينهم فلا يأبه الله له، بل هو مبغض عنده محتقر لديه فلا حقوق له ولا حرمة لماله، فكل ما يستطاع أخذه منه فلا ضير فيه، ولا شك أن هذا من الصلف والغرور والغلوّ في الدين واحتقار المخالف الذي يستتبع اهتضام حقوقه.

4. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي وهم يعلمون كذبهم في ذلك لأن ما جاء من عند الله فهو في كتابه، والتوراة التي بين أيديهم ليس فيها خيانة الأميين، ولا أكل أموالهم بالباطل، وهم يعلمون ذلك حق العلم، لكنهم لما لم يكتفوا بالكتاب ولجئوا إلى التقليد وعدّوا كلام أحبارهم دينا، وهؤلاء قالوا في الدين بالرأي والهوى، وحرفوا الكلم عن مواضعه ليؤيدوا آراءهم، وجدوا من هذه الأقوال ما يساعدهم على ما يدّعون.

5. روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت‏ ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله‏ ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: كذب أعداء الله، ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمىّ هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر)

6. ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ أي بلى عليكم في الأميين سبيل، وعليكم الوفاء بعقودكم المؤجلة والأمانات، فمن أقرضك مالا إلى أجل، أو باعك بثمن مؤجل أو ائتمنك على شيء وجب عليك الوفاء به، وأداء الحق له في حينه دون حاجة إلى الإلحاف في الطلب أو إلى التقاضي، وبذلك قضت الفطرة وحتّمت الشريعة، وفي هذا إيماء إلى أن اليهود لم يجعلوا الوفاء بالعهد حقا واجبا لذاته، بل العبرة عندهم بالمعاهد، فإن كان إسرائيليا وجب الوفاء له، ولا يجب الوفاء لغيره، والعهد ضربان:

أ. عهد المرء لأخيه في العقود والأمانات كما تقدم.

ب. عهد الله تعالى، وهو ما يلتزم به المؤمن لربه من اتباع دينه والعمل بما شرعه على لسان رسوله.

7. واليهود لم يفوا بشيء منهما، إذ لو وفّوا بعهد الله لآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ واتبعوا النور الذي أنزل معه، كما وصاهم بذلك كتابهم على لسان رسولهم موسى صلوات الله عليه وقد جعل الله جزاء الموفين بالعهد المتقين الإخلاف والغدر ـ محبته تعالى ورحمته لهم في الدنيا والآخرة، وفي هذا إيماء إلى أن الوفاء بالعهود، واتقاء الإخلاف فيها وفي سائر المعاصي والخطايا هو الذي يقرب العبد من ربه، ويجعله أهلا لمحبته، أما الانتساب إلى شعب بعينه فلا قيمة له عند الله، وفي هذا تعريض بأن أصحاب هذا الرأي من اليهود ليسوا على حظ من التقوى، وهى الدعامة الأساسية في كل دين قويم.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/189.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم يمضي السياق يصف حال أهل الكتاب؛ ويبين ما في هذه الحال من نقائص؛ ويقرر القيم الصحيحة التي يقوم عليها الإسلام دين المسلمين، ويبدأ فيعرض نموذجين من نماذج أهل الكتاب في التعامل والتعاقد.

2. إنها خطة الإنصاف والحق وعدم البخس والغبن يجري عليها القرآن الكريم في وصف حال أهل الكتاب الذين كانوا يواجهون الجماعة المسلمة حينذاك؛ والتي لعلها حال أهل الكتاب في جميع الأجيال، ذلك أن خصومة أهل الكتاب للإسلام والمسلمين، ودسهم وكيدهم وتدبيرهم الماكر اللئيم، وإرادتهم الشر بالجماعة المسلمة وبهذا الدين.. كل ذلك لا يجعل القرآن يبخس المحسنين منهم حقهم، حتى في معرض الجدل والمواجهة، فهو هنا يقرر أن من أهل الكتاب ناسا أمناء، لا يأكلون الحقوق مهما كانت ضخمة مغرية: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾

3. ولكن منهم كذلك الخونة الطامعين المماطلين، الذين لا يردون حقا ـ وإن صغر ـ إلا بالمطالبة والإلحاح والملازمة، ثم هم يفلسفون هذا الخلق الذميم، بالكذب على الله عن علم وقصد: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وهذه بالذات صفة يهود، فهم الذين يقولون هذا القول؛ ويجعلون للأخلاق مقاييس متعددة، فالأمانة بين اليهودي واليهودي، أما غير اليهود ويسمونهم الأميين وكانوا يعنون بهم العرب (وهم في الحقيقة يعنون كل من سوى اليهود) فلا حرج على اليهودي في أكل أموالهم، وغشهم وخداعهم، والتدليس عليهم، واستغلالهم بلا تحرج من وسيلة خسيسة ولا فعل ذميم!

4. ومن العجب أن يزعموا أن إلههم ودينهم يأمرهم بهذا، وهم يعلمون أن هذا كذب، وأن الله لا يأمر بالفحشاء، ولا يبيح لجماعة من الناس أن يأكلوا أموال جماعة من الناس سحتا وبهتانا، وألا يرعوا معهم عهدا ولا ذمة، وأن ينالوا منهم بلا تحرج ولا تذمم، ولكنها يهود! يهود التي اتخذت من عداوة البشرية والحقد عليها ديدنا ودينا: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

5. هنا نجد القرآن الكريم يقرر قاعدته الخلقية الواحدة، وميزانه الخلقي الواحد، ويربط نظرته هذه بالله وتقواه: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، فهي قاعدة واحدة من راعاها وفاء بعهد الله وشعورا بتقواه أحبه الله وأكرمه، ومن اشترى بعهد الله وبأيمانه ثمنا قليلا ـ من عرض هذه الحياة الدنيا أو بالدنيا كلها وهي متاع قليل ـ فلا نصيب له في الآخرة، ولا رعاية له عند الله ولا قبول، ولا زكاة له ولا طهارة، وإنما هو العذاب الأليم.

6. نلمح هنا أن الوفاء بالعهد مرتبط بالتقوى، ومن ثم لا يتغير في التعامل مع عدو أو صديق، فليس هو مسألة مصلحة، إنما هو مسألة تعامل مع الله أبدا، دونما نظر إلى من يتعامل معهم، وهذه هي نظرية الإسلام الأخلاقية بصفة عامة، في الوفاء بالعهد وفي سواه من الأخلاق: التعامل هو أولا تعامل مع الله، يلحظ فيه جناب الله، ويتجنب به سخطه ويطلب به رضاه، فالباعث الأخلاقي ليس هو المصلحة؛ وليس هو عرف الجماعة، ولا مقتضيات ظروفها القائمة، فإن الجماعة قد تضل وتنحرف، وتروج فيها المقاييس الباطلة، فلا بد من مقياس ثابت ترجع إليه الجماعة كما يرجع إليه الفرد على السواء، ولا بد أن يكون لهذا المقياس فوق ثباته قوة يستمدها من جهة أعلى.. أعلى من اصطلاح الناس ومن مقتضيات حياتهم المتغيرة.. ومن ثم ينبغي أن تستمد القيم والمقاييس من الله؛ بمعرفة ما يرضيه من الأخلاق والتطلع إلى رضاه والشعور بتقواه.. بهذا يضمن الإسلام تطلع البشرية الدائم إلى أفق أعلى من الأرض؛ واستمدادها القيم والموازين من ذلك الأفق الثابت السامق الوضيء.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/418.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الأحكام التي جاء بها القرآن في شأن اليهود، والتي كشف بها ما في نفوسهم من ضلال، وما في قلوبهم من حسد وبغضاء للناس عامة، ولأهل الإيمان خاصة ـ هذه الأحكام وإن شملت غالبية اليهود، ودمغت أحبارهم وعلماءهم وأصحاب الكلمة فيهم، إلا أنها ليست على إطلاقها، فليس هناك شر محض، ولا خير خالص، فمهما استشرى الشر فإن فيه لمعا من الخير لا تكاد ترى، ومهما صفا الخير فإن فيه غشاوات من الشر لا تكاد تبين! واليهود وإن كانوا الشرّ كله، من الرأس إلى القدم ـ ففيهم الضالون، وفيهم المؤمنون.. كما يقول الله تعالى: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وفي هذا المدخل الضيق إلى الإحسان والإيمان ما يسمح لأىّ من هذه الجماعة الضالة أن ينجو بنفسه، وأن يتحول إلى تلك القلة القليلة من المحسنين المؤمنين فيهم.

2. في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ استثناء من الحكم العام الذي حكم به الله على اليهود.. وهذا باب رحمة لمن أراد الله له التوفيق والهداية منهم، ففي تلك الجماعة الضالة المعربدة أفراد قليلون يخافون الله ويرعون الأمانة التي في أيديهم، سواء أكانت من الله أم من الناس، فلم يخونوا أمانة الله، ولم يكتموا ما في أيديهم من التوراة عن النبيّ (محمد) ورسالته، ولم يخونوا الناس في الأمانات التي اؤتمنوا عليها، وإن كانت القناطير المقنطرة من الذهب والفضة.

3. هؤلاء النفر القليل هم الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في قوله سبحانه‏: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، أما أكثر هذه الجماعة فهي على الضلال والعمى، وفي العداوة والبغضاء والحسد للناس جميعا، ولأهل الإيمان بخاصة.. فهذه الكثرة لا ترعى أمانة الله، ولا تحفظ أمانة الناس.. أما حسابهم مع الله فقائم على أنهم أبناؤه وأحباؤه، لهم أن يفعلوا معه ما يشاءون ويشاء لهم الهوى، دون أن ينالهم بشيء من عقابه وعذابه.. وأما حسابهم مع الناس، فالناس في نظرهم وتقديرهم في درجة دون درجتهم، وبينهم وبين الناس حجاز في الفضائل وفي التكوين الجسدي والخلقي والروحي، كهذا الحجاز الذي بين الناس وفصائل القردة والحيوانات القريبة الشبه بالإنسان، فالناس ـ في تقدير اليهود ـ قطيع من الحيوان، وإن لهم ـ بهذا التقدير ـ أن يستغلّوا هذا القطيع الآدمي، كما يستغلّون الحيوان، وألا يرتبطوا معه بروابط العقود والوثائق، وإن ارتبطوا فلهم أن يتحلّلوا منها ما وسعهم‏ الحول والحيلة.

4. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ أي لا حرج علينا، ولا حائل من خلق أو دين يحول بيننا وبين أن نستغلّ الأميين، بشتى الصور ومختلف الأساليب! والأميون هم غير اليهود، وهم العرب خاصة، إذ كانوا ولا كتاب لهم.. وقد منّ الله على هؤلاء الأميين ـ أي العرب ـ إذ بعث فيهم رسولا منهم، فقال تعالى:‏ {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}

5. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ تكذيب لا دعائهم بأن ليس عليهم حرج، فيما نقضوا من عهود، أو ضيّعوا من حقوق فيما بينهم وبين غيرهم، فقد أقاموا هذه الدعوى على أساس من دينهم وشريعتهم، إذ كانوا أهل دين وأصحاب شريعة، وليس في دينهم الذي أنزله الله على أنبيائهم ولا في الشريعة التي حملها هذا الدين ـ إباحة للبغى والعدوان، ولا دعوة للسلب والنهب والسرقة، ولا تفرقة بين الناس والناس في الحقوق والواجبات! وإنما بدل اليهود في التوراة وغيّروا، ودسوا فيها من الأحكام والشرائع ما يغذّى غرورهم الزائف، ويرضى شعورهم المريض، نحو الإنسانية كلها، وأهل الأديان خاصة.

6. ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، قوله تعالى: ﴿بَلَى﴾ هو لفظ يجاب به على سؤال في معرض النفي، فيجعل المنفىّ واقعا مثبتا، وعلى هذا فإنّ قبل لفظة (بلى) سؤال منفى، وهذه اللفظة وما بعدها جواب عن هذا السؤال، والسؤال محذوف.. وتقديره: ألم يكن هؤلاء الذين إذا ائتمنوا على قنطار أدوه.. ألم يكونوا من جماعة اليهود، تلك الجماعة الضالة التي حكم الله عليها باللعنة والطرد..؟ والجواب: بلى.. إنهم منهم، ولكن لكلّ حسابه وجزاؤه.. فمن أوفى بعهده فيهم، واتقى الله في الأمانة التي اؤتمن عليها، فلن يأخذه الله بجناية قومه، بل هو ممن أحبهم الله ورضى عنهم‏ ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ فكيف لا يتقبل عملهم؟ وكيف يجعلهم والمجرمين على سواء؟ ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/500.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ عطف على قوله: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: 72] أو على قوله: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ [آل عمران: 69] عطف القصة على القصة والمناسبة بيان دخائل أحوال اليهود في معاملة المسلمين الناشئة عن حسدهم وفي انحرافهم عن ملة إبراهيم مع ادّعائهم أنهم أولى الناس به، فقد حكى في هذه الآية خيانة فريق منهم.

1. ذكر الله هنا أنّ في أهل الكتاب فريقين: فريقا يؤدّي الأمانة تعففا عن الخيانة وفريقا لا يؤدّي الأمانة متعلّلين لإباحة الخيانة في دينهم، قيل: ومن الفريق الأول عبد الله بن سلام، ومن الفريق الثاني فنحاص بن عازوراء وكلاهما من يهود يثرب، والمقصود من الآية ذمّ الفريق الثاني إذ كان من دينهم في زعمهم إباحة الخون قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ فلذلك كان المقصود هو قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾.. ولذلك طوّل الكلام فيه.

2. إنما قدّم عليه قوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ إنصافا لحقّ هذا الفريق، لأنّ الإنصاف مما اشتهر به الإسلام، وإذ كان في زعمهم أنّ دينهم يبيح لهم خيانة غيرهم، فقد صار النعي عليهم، والتعبير بهذا القول لازما لجميعهم أمينهم وخائنهم، لأنّ الأمين حينئذ لا مزية له إلّا في أنّه ترك حقا يبيح له دينه أخذه، فترفّع عن ذلك كما يترفع المتغالي في المروءة عن بعض المباحات.

3. تقديم المسند في قوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ في الموضعين للتعجيب من مضمون صلة المسند إليهما: ففي الأول للتعجيب من قوة الأمانة، مع إمكان الخيانة ووجود العذر له في عادة أهل دينه، وفي الثاني للتعجيب من أن يكون الخون خلقا لمتبع كتاب من كتب الله، ثم يزيد التعجيب عند قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ فيكسب المسند إليهما زيادة عجب حال.

4. عدّي‏ ﴿تَأْمَنْهُ﴾ بالباء مع أنّ مثله يتعدّى بعلي كقوله: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ﴾ [يوسف: 64]، لتضمينه معنى تعامله بقنطار ليشمل الأمانة بالوديعة، والأمانة بالمعاملة على الاستيمان، وقيل الباء فيه بمعنى على كقول أبي ذرّ أو عباس بن مرداس: (أربّ يبول الثعلبان برأسه)، وهو محمل بعيد، لأنّ الباء في البيت للظرفية كقوله تعالى: ﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ [الفتح: 24]

5. قرأ الجمهور ﴿يُؤَدِّهِ﴾ إليك بكسر الهاء من يؤدّه على الأصل في الضمائر، وقرأه أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر: بإسكان هاء الضمير في يؤدّه، فقال الزجاج: هذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيّن لأنّ الهاء لا ينبغي أن تجزم وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تكسر في الوصل (هكذا نقله ابن عطية ومعناه أنّ جزم الجواب لا يظهر على هاء الضمير بل على آخر حرف من الفعل ولا يجوز تسكينها في الوصل كما في أكثر الآيات التي سكنوا فيها الهاء)، وقيل هو إجراء للوصل مجرى الوقف وهو قليل، قال الزجاج: وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسر فغلط عليه من نقله وكلام الزجاج مردود لأنه راعى فيه المشهور من الاستعمال المقيس، واللغة أوسع من ذلك، والقراءة حجة، وقرأه هشام عن ابن عامر، ويعقوب باختلاس الكسر، وحكى القرطبي عن الفرّاء: أنّ مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرّك ما قبلها يقولون ضربته كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصله الرفع وهذا كما قال الراجز:

çلما رأى ألّا دعه ولا شبع‏...مال إلى أرطاة حقف فاضطجع‏é

6. القنطار تقدم آنفا في قوله تعالى: ﴿وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾ [آل عمران: 14]، والدينار اسم للمسكوك من الذهب الذي وزنه اثنتان وسبعون حبة من الشعير المتوسط وهو معرّب دنّار من الرومية.

7. جعل القنطار والدينار مثلين للكثرة والقلة، والمقصود ما يفيده الفحوى من أداء الأمانة فيما هو دون القنطار، ووقوع الخيانة فيما هو فوق الدينار.

8. ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ أطلق القيام هنا على الحرص والمواظبة، كقوله: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18] أي لا يفعل إلّا العدل، وعديّ (قائما) بحرف (على) لأنّ القيام مجاز على الإلحاح والترداد فتعديته بحرف الاستعلاء قرينة وتجريد للاستعارة.

9. (ما) من قوله: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ حرف مصدري يصير الفعل بعده في تأويل مصدر، ويكثر أن يقدر معها اسم زمان ملتزم حذفه يدل عليه سياق الكلام فحينئذ يقال ما ظرفية مصدرية، وليست الظرفية مدلولها بالأصالة ولا هي نائبة عن الظرف، ولكنها مستفادة من موقع (ما) في سياق كلام يؤذن بالزمان، ويكثر ذلك في دخول (ما) على الفعل المتصرّف من مادة دام ومرادفها، و(ما) في هذه الآية كذلك فالمعنى: لا يؤدّه إليك إلّا في مدة دوام قيامك عليه أي إلحاحك عليه، والدوام حقيقته استمرار الفعل وهو هنا مجاز في طول المدة، لتعذر المعنى الحقيقي مع وجود أداة الاستثناء، لأنه إذا انتهى العمر لم يحصل الإلحاح بعد الموت.

10. الاستثناء من قوله: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ يجوز أن يكون استثناء مفرّغا من أوقات يدل عليها موقع (ما) والتقدير لا يؤدّه إليك في جميع الأزمان إلّا زمانا تدوم عليه فيه قائما فيكون ما بعد (إلّا) نصبا على الظرف، ويجوز أن يكون مفرّغا من مصادر يدل عليها معنى (ما) المصدرية، فيكون ما بعده منصوبا على الحال لأنّ المصدر يقع حالا.

11. قدّم المجرور على متعلقه في قوله: ﴿عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ للاهتمام بمعنى المجرور، ففي تقديمه معنى الإلحاح، أي إذا لم يكن قيامك عليه لا يرجع لك أمانتك.

12. الإشارة في قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ إلى الحكم المذكور وهو ﴿إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ وإنما أشير إليه لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الشأن العجيب، والباء للسبب أي ذلك مسبب عن أقوال اختلقوها، وعبّر عن ذلك بالقول، لأنّ القول يصدر عن الاعتقاد، فلذا ناب منابه فأطلق على الظنّ في مواضع من كلام العرب.

13. أرادوا بالأميين من ليسوا من أهل الكتاب في القديم، وقد تقدم بيان معنى الأمي في سورة البقرة، وحرف (في) هنا للتعليل، وإذ قد كان التعليل لا يتعلق بالذوات، تعيّن تقدير مضاف‏ مجرور بحرف (في) والتقدير في معاملة الأمّيّين.

14. معنى ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ ليس علينا في أكل حقوقهم حرج ولا إثم، فتعليق الحكم بالأميين أي ذواتهم مراد منه أعلق أحوالهم بالغرض الذي سبق له الكلام، فالسبيل هنا طريق المؤاخذة، ثم أطلق السبيل في كلام العرب مجازا مشهورا على المؤاخذة قال تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [التوبة: 91] وقال: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ [التوبة: 93] وربما عبّر عنه العرب بالطريق قال حميد بن ثور:

çوهل أنا إن علّلت نفسي بسرحة...من السرح موجود عليّ طريق‏é

وقصدهم بذلك أن يحقروا المسلمين، ويتطاولوا بما أوتوه من معرفة القراءة والكتابة من قبلهم، أو أرادوا الأميين بمعرفة التوراة، أي الجاهلين: كناية عن كونهم ليسوا من أتباع دين موسى عليه السلام، وأيّاما كان فقد أنبأ هذا عن خلق عجيب فيهم، وهو استخفافهم بحقوق المخالفين لهم في الدين، واستباحة ظلمهم مع اعتقادهم أنّ الجاهل أو الأمّي جدير بأن يدحض حقه، والظاهر أنّ الذي جرّأهم على هذا سوء فهمهم في التوراة، فإنّ التوراة ذكرت أحكاما فرّقت فيها بين الإسرائيلي وغيره في الحقوق، غير أنّ ذلك فيما يرجع إلى المؤاساة والمخالطة بين الأمة، فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الخامس عشر: (في آخر سبع سنين تعمل إبراء يبرئ كل صاحب دين يده ممّا أقرض صاحبه، الأجنبيّ تطالب، وأما ما كان لك عند أخيك فتبرئة) وجاء في (الإصحاح) 23 منه: (لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام وللأجنبي تقرض بربا) ولكن شتان بين الحقوق وبين المؤاساة فإنّ تحريم الربا إنما كان لقصد المؤاساة، والمؤاساة غير مفروضة مع غير أهل الملّة الواحدة، وعن ابن الكلبي قالت اليهود: الأموال كلّها كانت لنا، فما في أيدي العرب منها فهو لنا، وإنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم، وهذا الخلقان الذميمان اللذان حكاهما الله عن اليهود قد اتصف بهما كثير من المسلمين، فاستحلّ بعضهم حقوق أهل الذمة، وتأوّلوها بأنهم صاروا أهل حرب، في حين لا حرب ولا ضرب.

15. وقد كذّبهم الله تعالى في هذا الزعم فقال: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ قال المفسرون: إنهم ادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، وروى عن سعيد بن جبير أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ قال‏ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلّا وهو تحت قدميّ هاتين إلّا الأمانة فإنها مؤدّاة إلى البرّ والفاجر)

16. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ حال أي يعتمدون الكذب: إما لأنهم علموا أنّ ما قاسوه على ما في كتابهم ليس القياس فيه بصحيح، وإما لأنّ التأويل الباطل بمنزلة العلم بالكذب، إذ الشبهة الضعيفة كالعهد.

17. (بلى) حرف جواب وهو مختص بإبطال النفي فهو هنا لإبطال قولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، و(بلى) غير مختصّة بجواب الاستفهام المنفي بل يجاب بها عند قصد الإبطال، وأكثر مواقعها في جواب الاستفهام المنفي، وجيء في الجواب بحكم عام ليشمل المقصود وغيره: توفيرا للمعنى، وقصدا في اللفظ، فقال: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ أي لم يخن، لأنّ الأمانة عهد، ﴿وَاتَّقَى﴾) ربه فلم يدحض حق غيره‏ ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 13] أي الموصوفين بالتقوى، والمقصود نفي محبة الله عن ضدّ المذكور بقرينة المقام.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/132.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة استهانة بعض أهل الكتاب الذين عاصروا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحق وتلبيسهم الحق بالباطل، وكذبهم وافتراءهم على النبيين وعلى رأسهم أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ثم بين تعصبهم، وحرصهم على أن يظهروا بين الناس بأن الهداية في حوزتهم وحدهم، وأن الناس ما عداهم دونهم، ثم ذكر ما يتواصون به فيما بينهم من النفاق بأن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره، لعلهم يفسدون بذلك عقائد المؤمنين؛ وهكذا مما يدل على فساد اعتقادهم وعدم إذعانهم للحق، وكذبهم فيما يدّعون، والكذب والخيانة توأم، كما أن الصدق والأمانة توأم، وفساد النفس يترتب عليه فساد العمل، وعدم الإذعان للحق في الاعتقاد يترتب عليه عدم الإذعان للحق في المادة، فإذا كان بعض أهل الكتاب قد كان منهم ذلك النفاق الديني، فإنهم قد بدت منهم الخيانة المادية.

2. ولذا قال سبحانه: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ قسمان متقابلان:

أ. أحدهما يبلغ الغاية من الأمانة، فيعطيها عند طلبها مهما تكن قيمتها؛ ومهما تكن نفاستها، وعبر عن الكثرة بالقنطار من الذهب، ولم يذكر كونه من الذهب؛ لأنه مفهوم من السياق؛ لأن الدينار لا يكون إلا من الذهب، فلا بد أن يكون القنطار الذي يكون في يد الأمين من الذهب، وهذا القسم الذي يكون على هذا القدر من الأمانة هو الذي يجيب داعى الحق ويؤمن به إذا دعي إليه؛ لأن التسليم بالحق في الماديات التي تصورها الأمانة لا ينشأ إلا من ينبوع النفس التي تؤمن بالحق في المعنويات؛ بل إن هذا في الحق ينته إلى معنى الأمانة؛ لأن نصر الحق والإذعان له بعد قيام الدليل عليه نوع من الأمانة، إذ إن الله سبحانه أودعنا هذه القوى المدركة لنجعلها للحق وللنفع، فذو العلم عليه أن يؤدى أمانة العلم، وذو المال عليه أن يؤدى أمانة المال، ومن قام بين يديه الدليل على صدق دعوة إلى الحق لا يكابر ولا يمارى، وكانت الأمانة أن يعلن تلك الحقيقة ويناصرها ويؤيدها، ولذلك قال كثيرون من العلماء: إن الأمانة التي حملها الله للإنسان بمقتضى الفطرة هي إدراكه لمعنى التكليفات الإنسانية والإلهية وقيامه بحقها، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب‏]، هذا هو القسم الأول، وقد قال العلماء إنهم أهل الكتاب الذين آمنوا برسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، كعبد الله بن سلام، وغيره من اليهود الذين سارعوا إلى الإسلام، وكذلك الشأن في كل كتابي علم الحق في رسالة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأذعن له؛ لأنه يكون ممن يؤدى الأمانة.

ب. والقسم الثاني هو الذي لا يؤدى الأمانة، وهو في مقابل الأول؛ لأن الأول في السماك الأعزل، وهذا في الحضيض الأوهد، وصور الله سبحانه الفرق بينهما ذلك التصوير الحكيم البين الواضح بأن الأول لو ائتمن على قنطار من ذهب لأداه، والثاني إن ائتمن على دينار لا يؤده إلا بالملازمة الدائمة، والتتبع والإلحاف الشديد، وعبر الله سبحانه وتعالى عن هذه الملازمة بقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ أي إلا إذا استمررت مطالبا له مصمما على أن يؤدى مشرفا عليه في غدوه ورواحه، ودام معناها استمر، وقائما معناها ملازما متتبعا؛ ذلك لأن (قام) في استعمال القرآن الكريم لها تكون كما قال الراغب في مفرداته: (على أضرب، قيام بالشخص إما بتسخير أو اختيار، وقيام للشيء وهو المراعاة للشيء، والحفظ له، وقيام هو بمعنى العزم على الشيء.. ومن المراعاة للشيء قوله تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة] وقوله تعالى: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران‏] وقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد] وقوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران‏] وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ أي ثابتا على طلبه.

3. إن هؤلاء الذين لا يؤدون الأمانة المادية إلا بهذه المطالبة الدائمة، والملازمة المستمرة ـ هم الذين لا يتركون التضليل كما أشرنا، فلا يأمن أهل الحق شرهم إلا برقابة مستمرة لمنع تضليلهم، وفتنة الناس عن دينهم، ثم هم يخونون العهود، وطالما خانوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في حروبه مع المشركين، حتى اضطر لإجلائهم عن المدينة وما حولها، وإن هؤلاء يبررون خيانتهم للأمانة المادية بقولهم كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، أي ذلك الامتناع عن وفاء الحق، وأداء الأمانة والإذعان لبواعث الهداية الذي هو أداء الأمانة المعنوية سببه زعمهم الذي قالوه، ونطقوا به وهو أنهم ليس عليهم سبيل أي تبعة أو ملام أو عتاب في شأن الأميين وأموالهم، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾

4. الأميون هم العرب، وسموا أميّين؛ لأنهم لم يكن عندهم علم ولا حضارة، وكانت تغلب عليهم الأمية، وهى الجهل بالكتابة والقراءة، فكان هذا الاسم لهم لغلبة الأمية عليهم؛ ومعنى سبيل حجة ملزمة؛ لأن السبيل هو الطريق، وهو يطلق بمعنى الحجة باعتبارها طريق الإلزام وتحمل التبعات، وقد قال الزمخشري في تفسير هذه الجملة السامية ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾: (أي لا يتطرق علينا عتاب وذم في شأن الأمّيين، يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب، وما فعلنا بهم ما فعلنا من حبس أموالهم والإضرار بهم؛ إلا لأنهم ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم، ويقولون لم يجعل لهم في كتابنا حرمة، وقيل: (بايع اليهود رجالا من قريش، فلما أسلموا تقاضوهم قالوا ليس لكم علينا حق، حيث تركتم دينكم)

5. هذه أخلاق الذين يظنون في أنفسهم العلو المطلق، ويستخدمون ذلك الظن الباطل، لأكل أموال الناس بالحق، وليفسدوا في الأرض وهو ما عليه أهل أوروبا؛ يقومون بالحق في بلادهم، ويثبتون دعائمه في عشائرهم لا يضيع عندهم‏ حق؛ فإذا تجاوز الحق أقطارهم أنكروه، ولم يذعنوا له؛ وتقوّلوا الأقاويل وادّعوا أنه ليس للأمم المتخلفة في الحضارة حق كحق غيرها، وأنه ليس للملونين حق كحق غيرهم.. وإن هذا مبدأ اليهود، وهم مغرقون فيه، فقد كانت التوراة تحرم الربا تحريما مطلقا، وكان النص فيه: (لا تأخذ ربا من أخيك إذا أقرضته)، فزادوا كلمة أخيك الإسرائيلي لأنهم لا يشعرون بالأخوة الإنسانية في ذاتها.

6. المبادئ الخلقية الفاضلة لا تعرف جنسا ولا لونا ولا ثقافة؛ ولذا قال تعالى ردا عليهم مبينا كذبهم: {يَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وهُمْ يَعْلَمُونَ‏} في هذه الجملة السامية رد عليهم بأن ما قالوه من أنه ليس عليهم في الأمّيين سبيل كلام لا أصل له في شرع سماوي فهو ليس دينا، وإذا كانوا قد قالوه على الله تعالى فقد كذبوا على الله تعالى، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في قضية عامة تدل على أن من شأنهم أن يقولوا الكذب على الله تعالى، وهم يعلمون أنه كذب، فقد كذبوا فادّعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وكذبوا فادعوا أن إبراهيم كان يهوديا، وكذبوا فادّعوا أنه لا نبيّ إلا من بنى إسرائيل، فكان الكذب على الله تعالى شأنا من شؤونهم، ولذلك عبر بالمضارع، أي أن شأنهم أن يقولوا الكذب على الله، قالوه في الماضي ويقولونه في الحاضر، وسيقولونه في المستقبل، وذلك شأن الذين يحتكرون لأنفسهم حق التكلم في الدين، ويحسبون غيرهم ليس من حقهم أن يتكلموا فيه.

7. الأمانة كانت توجب عليهم ألا يقولوا إلا الحق، ولكنهم خانوها في الماديات، وما ذلك إلا لأنهم فقدوها في المعنويات، فكان هذا هو أساس ذلك الضلال البعيد، ولقد روى سعيد بن جبير أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في أهل الكتاب عندما نزل قوله تعالى عنهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كذب أعداء الله، ما من شيء في الجاهلية، إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة، فإنها مؤداة إلى البر والفاجر)، ويروى أن رجلا سأل ابن عباس، فقال: (إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة، والشاة، فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا بذلك بأس، فقال حبر هذه الأمة: (هذا كما قال أهل الكتاب: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم)

8. الحق الثابت المقرر أن الفضائل الدينية هي حق على المؤمن لكل إنسان، ويأثم إن لم يؤدها لكل إنسان، ولذا قال تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، هذا تأكيد لبيان كذبهم على الله تعالى، وبلى هنا معناها إثبات ما نفوه؛ لأنها تجيء في القول لإثبات المنفى؛ لقد نفوا أنه ليس عليهم في الأمّيين سبيل، فقال سبحانه: بل عليكم فيهم سبيل، وأنتم معذبون بما تجرمون في شأنهم، ومثابون إن أوفيتم لهم بعهدهم وآمنتم.

9. وقد علل سبحانه ذلك الحكم العادل بقضية دينية عامة ثابتة، وهى قوله سبحانه: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، وإن معنى هذا النص السامي أن الذي ينال محبة الله تعالى ورضاه سبحانه، لا بد أن يتحقق فيه وصفان:

أ. أولهما الوفاء بالعهد، فكل ما يلتزمه من عهود، سواء أكان موضوعها أمرا ماديا كأداء الأمانات أم كان الموضوع أمرا معنويا كالقيام بحق من الحقوق ـ الوفاء به يستوجب رضا الله سبحانه، وكل غدر يكون فيه إبعاد عن رضوان الله سبحانه ومحبته، ويدخل في العهود ما أودعه الله سبحانه قلب كل إنسان من إدراك للحق، وفهم له وإدراك لمعنى الدليل، فإذا لم يذعن له ويعلنه لا يكون موفيا للعهد.

ب. الوصف الثاني المستوجب لرضا الله ومحبته ـ هو التقوى بأن يشعر بحق الغير عليه ويؤمن به، ويجعل بينه وبين الاعتداء أيا كان نوعه وقاية.

10. هذان هما الوصفان اللذان يستوجبان محبة الله تعالى، وقد خلا اليهود منهما، فليسوا من محبة الله في شيء، وإن هذين الوصفين متداخلان فالوفاء بالعهد داخل في التقوى، ولذلك قال سبحانه في جزاء الوصفين معا: ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ أي من أوفى بعهده واتقى فقد استحق محبة الله، لأن محبة الله تعالى لا يعطيها إلا لأهل التقوى الذين يجعلون بينهم وبين غضب الله تعالى وقاية، فيوفون بالعهد ويعطون كل ذي حق حقه، ويخشون مقت الله وعذابه.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1279.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المراد ان في أهل الكتاب من هو في غاية الأمانة، حتى لو ائتمنته على الأموال الكثيرة أدى الأمانة، وفيهم من هو في غاية الخيانة لا يؤتمن على الدينار الواحد.. وذكر الأمانة على المال دون غيره، لأنه هو المحك الصحيح الذي يميز بين السليم والسقيم.

2. ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾، الخائن يطلب أكثر من حقه، ولا يؤدي ما عليه، أو بعض ما عليه بدافع من نفسه، لأنه ميت الضمير، ولا وسيلة لانتزاع الحق منه الا القيام عليه، كما قال جلت حكمته، ومعنى القيام على الخائن المغتصب أن تثور عليه، وتجاهده وتناضله بكل ما لديك من قوة.. وقديما قيل: (الاستقلال يؤخذ، ولا يعطى)، والثورة على الخائن المبطل فرض وحتم، والا عم الفساد في الأرض.. ان جريمة المظلوم القادر على دفع الظلم عن نفسه، تماما كجريمة الظالم من حيث ان كلا منهما يمهد لاشاعة الظلم والفساد.. ولو علم الظالم ان بين جوانح المظلوم عاطفة تدفعه إلى الاستماتة دون حقه لتحاماه.. وقد دلتنا التجارب انه لا حق في الأمم المتحدة، ولا في مجلس الأمن الا للقوة، وانه لا حياة للإنسان في القرن العشرين، بخاصة الشرقي، وبوجه أخص العربي الا للمستميت.

3. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، والمعنى ان أهل الكتاب انما استحلوا أموال العرب لأنهم زعموا بأن الله سبحانه لا يعاقبهم على اغتصابها، فرد الله افتراءهم هذا بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وليس من شك ان من كذب على الله عامدا متعمدا كانت خيانته أعظم، وجريمته أفحش.

4. سؤال وإشكال: ان كل الطوائف، وأهل الأديان، بل والملحدين أيضا فيهم الأمين والخائن والصادق والكاذب.. وكم من ملحد هو أصدق لهجة، وأوفى ذمة من كثير من الصائمين المصلين.. اذن ما هو الوجه لتخصيص أهل الكتاب بهذا التقسيم؟، والجواب:

أ. أولا: سبق ان الله سبحانه قال: ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم، ثم قال أيضا: وقالت طائفة من أهل الكتاب: آمنوا أول النهار، واكفروا آخره، وبيّن في هذه الآية ان منهم الخائن والأمين، ولم ينف هذا التقسيم عن غيرهم، حتى يرد الاعتراض.

ب. ثانيا: انه من الجائز ان يتوهم متوهم بأن جميع أهل الكتاب خونة، فدفع الله هذا الوهم بأنهم كسائر الطوائف، وأهل الأديان فيهم، وفيهم.

5. ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، بلى اثبات لما نفاه أهل الكتاب بقولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، وانهم كاذبون في هذا الزعم.. وبعد ان أثبت سبحانه السبيل على من يستحل أموال الناس أخبر بأن‏ من يفي بالعهد، ويتقي المحرمات فهو محبوب عند الله.. وجاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال: (ما من شيء في الجاهلية الا هو تحت قدمي الا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر)، وقال الإمام زين العابدين عليه السلام: (لو ان قاتل أبي الحسين ائتمنني على السيف الذي قتل به أبي لأديته اليه).. وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (ثلاثة لا عذر فيها لأحد: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا، أو فاجرين، والوفاء بالعهد إلى البر والفاجر).. ومن هنا اتفق فقهاء الشيعة الإمامية على ان الكافر إذا أعلن الحرب على المسلمين يحل دمه، ولا تجوز خيانته، فلو افترض انه كان قد أودع مالا عند مسلم وجب على المسلم أن يرد له أمانته، مع العلم بأنه يجوز له قتله، ونهب أمواله غير الأمانة.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/90.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ إشارة إلى اختلافهم في حفظ الأمانات والعهود اختلافا فاحشا آخذا بطرفي التضاد وأن هذا وإن كان في نفسه رذيلة قومية ضارة إلا أنه ناش بينهم فاش في جماعتهم من رذيلة أخرى اعتقادية وهي ما يشتمل عليه قولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، فإنهم كانوا يسمون أنفسهم بأهل الكتاب، وغيرهم بالأميين فقولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ معناه نفي أن يكون لغير إسرائيلي على إسرائيلي سبيل، وقد أسندوا الكلمة إلى الدين، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى﴾ الآية.

2. فقد كانوا يزعمون ـ كما أنهم اليوم على زعمهم ـ أنهم هم المخصوصون بالكرامة الإلهية لا تعدوهم إلى غيرهم بما أن الله سبحانه جعل فيهم نبوة وكتابا وملكا فلهم السيادة والتقدم على غيرهم، واستنتجوا من ذلك أن الحقوق المشرعة عندهم اللازمة المراعاة عليهم كحرمة أخذ الربا وأكل مال الغير: وهضم حقوق الناس إنما هي بينهم معاشر أهل الكتاب فالمحرم هو أكل مال الإسرائيلي على مثله، والمحظور هضم حقوق يهودي على أهل ملته، وبالجملة إنما السبيل على أهل الكتاب لأهل الكتاب، وأما غير أهل الكتاب فلا سبيل له على أهل الكتاب فلهم أن يحكموا في غيرهم ما شاءوا ويفعلوا في من دونهم ما أرادوا، وهذا يؤدي إلى معاملتهم مع غيرهم معاملة الحيوان العجم كائنا من كان.

3. وهذا وإن لم يوجد فيما عندهم من الكتب المنسوبة إلى الوحي كالتوراة وغيرها لكنه أمر أخذوه من أفواه أحبارهم فقلدوهم فيه ثم لما كان الدين الموسوي لا يعدو بني إسرائيل إلى غيرهم جعلوه جنسية بينهم، وتولد من ذلك أن هذه الكرامة والسؤدد أمر جنسي خص بذلك بنو إسرائيل خاصة فالانتساب الإسرائيلي هو مادة الشرف وعنصر السؤدد والمنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره، وهذه الروح الباغية إذا دبت في قالب قوم بعثتهم إلى إفساد الأرض وأماته روح الإنسانية وآثارها الحاكمة في الجامعة البشرية.

4. نعم أصل هذه الكلمة ـ وهو سلب الحقوق العامة عن بعض الأفراد والجوامع ـ مما لا مناص عنه في الجامعة الإنسانية لكن الذي يعتبره المجتمع الإنساني الصالح هو سلب الحقوق عمن يريد إبطال الحقوق وهدم المجتمع، والذي يعتبره الإسلام في ثبوت الحق هو دين التوحيد من الإسلام أو الذمة فمن لا إسلام له ولا ذمة، فلا حق له من الحياة وهو الذي ينطبق على الناموس الفطري الذي سمعت أنه المعتبر إجمالا عند المجتمع الإنساني.

5. ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في الآية فقوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، كان الظاهر أن يقال: ومنهم، فهو من وضع الظاهر موضع الضمير والوجه فيه دفع أن يتوهم أن هؤلاء بعض من الطائفة المذكورة في الآيتين السابقتين التي قالت: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ﴾ الآية ولذلك لما اندفع التوهم المذكور قيل في الآية الآتية: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ الآية.

6. وهناك وجه آخر وهو أن ذكر الوصف ـ وهو كونهم‏ ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ مشعر بنوع من التعليل، وذلك أن صدور هذا القول والفعل منهم ـ أعني قولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، وأكلهم مال الناس بذلك لم يكن بذاك البعيد المستغرب لو كانوا أميين لأخبر عندهم من النبوة والوحي لكنهم أهل الكتاب وعندهم الكتاب فيه حكم الله، وهم يعلمون أن الكتاب لا يحكم لهم بذلك، ولا يبيح لهم مال غيرهم لأنه غيرهم فهذا الذي قالوه ثم فعلوه، وهم أهل الكتاب منهم أغرب وأبعد، والتوبيخ والتقبيح عليهم أوجه وألزم.

7. القنطار والدينار معروفان والمقابلة بينهما ـ على ما فيها من المحسنات البديعية ـ والمقام مقام يذكر فيه الأمانة تفيد أنه كنى بهما عن الكثير والقليل، والمراد أن منهم من لا يخون الأمانة وإن كثرت وثقلت قيمتها، ومنهم من يخونها وإن قلت وخفت، وكذا الخطاب الموضوع في الكلام بقوله: ﴿إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾، غير متوجه إلى مخاطب معين بل هو للتكنية عن أي مخاطب يمكن أن يخاطب بهذا الكلام للإشعار بأن الحكم عام غير مقصور على واحد دون واحد، والكلام في معنى قولنا: إن يأمنه مؤتمن أي مؤتمن كان بقنطار يؤده إليه.

8. (ما) في قوله: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾، مصدرية على ما قيل، والتقدير إلا أن تدوم قائما عليه، وذكر القيام عليه للدلالة على الإلحاح والاستعجال فإن قيام المطالب على ساقه عند المطالبة من غير قعود دليل على ذلك وربما قيل: إن‏ ﴿مَا﴾ ظرفية، وليس بشيء.

9. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، ظاهر السياق أن ذلك إشارة إلى مجموع المضمون المأخوذ من سابق القول أي كون بعضهم يؤدي الأمانة وإن كانت خطيرة مهمة، وبعضهم لا يؤديها وإن كانت حقيرة لا يعبأ بها إنما هو لقولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ فأوجب ذلك اختلافا بينهم في الصفات الروحية كحفظ الأمانات والاتقاء عن تضييع حقوق الناس، والاغترار بالكرامة مع أنهم يعلمون أن الله لم يسن لهم ذلك في الكتاب ولا رضي بمثل هذه الأفعال منهم، ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى حال الطائفة الثانية المذكورة بقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾، ويكون ذكر الطائفة الأولى الأمينة لاستيفاء تمام الأقسام، والتحفظ على النصفة، ويجوز حينئذ أن تكون ضمائر الجمع في قوله: ﴿وَيَقُولُونَ﴾ وفي قوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ راجعة إلى أهل الكتاب أو راجعة إلى قوله: ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ﴾، بحسب المعنى وكذا يجوز على التقدير الثاني أن يكون المراد بضمير التكلم في قوله: ﴿عَلَيْنَا﴾، جميع أهل الكتاب أو خصوص البعض، ويختلف المعنى باختلاف المحتملات إلا أن الجميع صحيحة مستقيمة، وعليك بالتدبر فيها.

10. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ إبطال لدعواهم أنه‏ ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، ودليل على أنهم كانوا ينسبون ذلك إلى الوحي السماوي والتشريع الديني كما مر.

11. ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، رد لكلامهم وإثبات لما نفوه بقولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، وإيفاء العهد تتميمه بالتحفظ من العذر والنقص، والتوفية البذل والإعطاء وافيا، والاستيفاء الأخذ والتناول وافيا، والمراد بالعهد ما أخذ الله الميثاق عليه من عباده أن يؤمنوا به ويعبدوه على ما يشعر به قوله في الآية التالية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، أو مطلق‏ العهد الذي منه عهد الله تعالى.

12. ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ من قبيل وضع الكبرى موضع الصغرى إيثارا للإيجاز، والتقدير فإن الله يحبه لأنه متق والله يحب المتقين، والمراد أن كرامة الله لعباده المتقين حبه لهم لا ما زعمتموه من نفي السبيل، فمفاد الكلام أن الكرامة الإلهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول حتى ينالها كل من انتسب إليه انتسابا أو يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوى في الدين فإذا تمت الشرائط حصلت الكرامة وهي المحبة والولاية الإلهية التي لا تعدو عبادة المتقين، وأثرها النصرة الإلهية، والحياة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها، وترفع درجات الآخرة، فهذه هي الكرامة الإلهية لا أن يحمل قوما على أكتاف عباده من صالح وطالح ويطلقهم ويخلي بينهم وبين ما يشاءون وما يعملون فيقولوا يوما: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، ويوما نحن أولياء لله من دون الناس‏، ويوما: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ فيهديهم ذلك إلى إفساد الأرض، وإهلاك الحرث والنسل.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/262.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ تأمنه بأن تدفع إليه قنطاراً قرضاً أو وديعة، والقنطار مقدار كبير، قال في (الصحاح): (والقنطار معيار، ويروى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال هو ألف ومائتا أُوْقِيَّة، ويقال: هو مائة وعشرون رِطلاً، ويقال: ملء مسك الثور ذهباً، ويقال: غير ذلك ـ والله أعلم ـ ومنه قولهم: قناطير مقنطرة)، فأما الراغب ففسره: (بما فيه عبور الحياة، أي ما يكفي الحي لإستمرار حياته ـ ثم قال ـ: وذلك غير محدود القدر في نفسه، وإنما هو بحسب الإضافة ـ ثم قال ـ: ولما قلنا: اختلفوا في حده، فقيل: أربعون أوقية، وقال الحسن: ألف ومائتا دينار، وقيل: ملء مسك ثور ذهباً.. إلى غير ذلك، وذلك كاختلافهم في حد الغنى)، ففهمنا من ذلك: أنه مقدار كبير، إذا أمنت به هذا البعض من أهل الكتاب أداه إليك ولم يجحده ولم يمطل، ولعلهم الذين أسلموا إما بعد أن أسلموا أو قبل؛ لأنهم لا يستحلون أموال الأميّين.

2. الدينار قليل بالنسبة إلى القنطار، وهو عملة من الذهب، ولعله وزن ستين حبة من الشعير ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ﴾ بهذا المقدار يغلبه الحرص عليه فيجحده أو يمطله ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ فهو يرجو نفعك ولو جحد أو مطل انقطع عنه نفعك، وذلك مثل من يقترض فيوفي، لأنه يحتاج إليك ويخشى لو مطلك أن تمنعه حاجته، فمادمت قائماً عليه بقضاء حاجاته فإنه يوفيك لذلك، أما من لا يحتاج إليه فإنه يمطله إذا كان من الأميين، وقد فسر بالقيام على رأسه بالمطالبة والمحاكمة، وهو عندي غير مناسب لقوله تعالى: ﴿مَا دُمْتُ﴾ ولو كان المراد لكان ـ والله أعلم ـ يقال: إلا إذا قمت عليه، وذلك لأن تسليم الدينار لا يكون وقته ممتداً بامتداد وقت المطالبة والمحاكمة بل يؤدى في لحظة.

3. ﴿ذَلِكَ﴾ أي ترك الإيفاء بالدينار ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ أي المذكورين من أهل الكتاب ﴿قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا﴾ سبيل لتعذيبنا أو معاقبتنا ﴿فِي﴾ أكل مال ﴿الْأُمِّيِّينَ﴾ بغير حق، قال الشرفي في (المصابيح): (عن الإمام المرتضى محمد بن الإمام الهادي، عن جده الإمام القاسم بن إبراهيم عليهم السلام: تأويل ذلك أن من أهل الكتاب من يستحل كل مال المسلم يهودي أو نصراني، وقال: إن الأرض وما فيها من الله طعمة)، يعني عطية لهم، أي لليهود إن كان يهودياً، أو للنصارى إن كان نصرانياً، والحاصل: أنهم يقولون: لا إثم علينا في الأميين، لأنهم وما ملكوا عطية لنا من الله.

4. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنه كذب، فيتعمدون الكذب على الله، أو وهم يعلمون أنه كذب ويعلمون إثم الكذب على الله.

5. ﴿بَلَى﴾ كلمة إبطال لكلامهم الذي هو كذب على الله ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ هذا تفصيل لردّ قولهم.

6. ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ يفيد: أن على المسلمين عهداً، ولعله عهدهم على الجهاد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ﴾ وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 10] أو هو قولهم: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [المائدة: 7] فهو بيعتهم على السمع والطاعة ﴿وَاتَّقَى﴾ أي أتقى الله ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ فكيف يجعلهم طعمة لأعدائه المغضوب عليهم بل دماؤهم وأموالهم حرام.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/485.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآيات تقرير عن مفهوم خاطئ يحمله أهل الكتاب عن طبيعة النظرة إلى أموال الآخرين من غيرهم من الشعوب في ما يضعونه عندهم من أمانات، أو ما يقع تحت أيديهم من أموالهم، وخلاصتها أن الله قد رخص لهم في استحلال هذه الأموال لأنفسهم، فيجوز لهم الامتناع عن إرجاع الودائع إلى أصحابها، كما يجوز لهم أخذها غيلة وسرقة وبغير ذلك من الأساليب، وذلك انطلاقا من المفهوم العامّ الذي يعيشونه في داخل أنفسهم من احتقار الأميين، وهم العرب على تفسير، أو غير اليهود على تفسير آخر، مما يعني عدم احترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم.. وفي ضوء ذلك، لا يمكن أن تأتمن أحدا منهم على شيء من مالك، لأن الائتمان يتحرك من خلال المفهوم النفسي والروحي والأخلاقي الذي يعتبر الأمانة في داخل الذات في مركز القاعدة الروحية والأخلاقية التي تتفرع عنها الممارسات، فإن الأخلاق ليست عملا طارئا يمارسه الإنسان في مظاهر معينة من أفعاله، بل هو ملكة نفسية دافعة للعمل، فإذا كانت القاعدة لديهم عدم احترام أموال الآخرين فكيف يمكن أن يتحقق الائتمان بشكل طبيعي!؟

2. لكن ليس معنى ذلك أن أهل الكتاب بأجمعهم هم ممّن يخونون الأمانات ولا يؤدّونها، بل ربما تجد بعض النماذج الأمينة من موقع تربية ذاتية معيّنة، تغرس في داخله روح الأمانة بعيدا عن مفهوم الرخصة الدينيّة المتوهّمة، فإذا ائتمنته على قنطار ـ وهو المال الكثير ـ أداه إليك، كما تجد النموذج الذي لا تستطيع أن تأتمنه على أيّ مال مهما كان قليلا كالدينار، لأنه سوف ينكره ولا يؤدّيه إلّا إذا كنت قائما عليه، بكل ما تملكه من أساليب الضغط والمقاومة والمحافظة على المال، فإن مثل هذا النموذج لا يشعر بعقدة الذنب في ممارسته هذه، لاعتقاده بأنّ ذلك حقّ له وحلال عليه.

3. لكنّ الله سبحانه ينكر عليهم هذا الزعم وهذه الرخصة، لأنّه سبحانه يعتبر الأمانة عهدا بين الأمين وصاحب الأمانة، وبذلك يكون استحلالها خيانة لها والله لا يحبّ الخائنين، فكيف إذا جمعوا في أنفسهم الخيانة والكذب على الله في ما ينسبونه إليه من قول باطل يعلمون بطلانه، إن الله لا يحبّ هؤلاء، بل إنه يحبّ المتقين الذين يعتبرون العهد مسئولية في أيّ جانب من جوانب الحياة، سواء كان ذلك في المال أو في الشؤون الأخرى الحياتية، فيرون الوفاء بعهده جزءا من مسئوليتهم تجاهه، وتجاه النّاس من خلال ما يكلفهم به من شؤون النّاس، وذلك هو الأساس في حبّ الله لعباده، في ما ينطلقون فيه من أعمال، وما ينطلقون منه من ملكة التقوى في ما يريد وما لا يريد، وتلك هي قصّة الأمانة في التشريع الديني، أيّ تشريع كان، فإن الله لم يبعث نبيا إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر، حتى الكافر الذي يحل لك قتاله لكفره وعدوانه، لا يحل لك خيانة أمانته، وقد ورد في حديث الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: (ثلاثة لا عذر لأحد فيها: أداء الأمانة إلى البر والفاجر والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبرّ الوالدين برين كانا أو فاجرين‏)

4. ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ من خلال التزام ذاتي لا علاقة له بالخط الديني الذي ينتمي إليه، بل قد تكون المسألة ناشئة من بعض المؤثرات البيئية الاجتماعية التي قد تربي الإنسان على بعض المفاهيم الإيجابية في قضايا الأمانة المالية، بحيث تتحول القضية لديه إلى ما يشبه الخلق الراسخ في شخصيته، وقد تكون ناشئة من مصلحة اقتصادية في الحركة التجارية العامة، باعتبار أن الإنسان الأمين في معاملته مع الآخرين يحصل على الثقة العامة في الوسط الاقتصادي، الأمر الذي يمنحه أكثر من فرصة للحصول على الأرباح من خلال المبادرات التي يقدمها إليه الآخرون من أصحاب رؤوس الأموال في استثمار أموالهم عنده، وفي الدخول معه في شركة تجارية أو غيرها.

5. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ إذا طالبته به لأنه لا يملك أي التزام نفسي في موضوع الأمانة، فليست القضية لديه قضية مصلحة اجتماعية تتصل بمصالحه ليلتزم على أساس ذلك، بل القضية قضية عقدة ذاتية تدفعه للخيانة الصغيرة والكبيرة، ليحصل على بعض المكاسب المادية من خلال ذلك، مستغلا غفلة الآخرين عنه وثقتهم به؛ ولذا فإنه يبقى في عملية انتهاز للفرص السانحة، فلا يمتنع عن الخيانة لك.

6. ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ بحيث تلازمه وتراقبه وتتقاضاه وتلحّ عليه، فلا تترك له أيّة فرصة للهروب أو للإنكار، بل يبقى في حصارك الذي يطبق عليه من خلال شهادة الناس من حوله أو نحو ذلك.

7. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ وهم غير اليهود، ﴿سَبِيلِ﴾ أي: مسئولية دينية في أخذها عدوانا وخيانة، لأن القانون الديني لم يجعله الله ليقيّد اليهود في التزاماتهم ومعاملاتهم مع غيرهم، فقد أباح الله لهم أموال الآخرين ممن لا يدينون بدينهم، فهم الشعب المختار لله الذي جعل الدنيا امتيازا لهم، وأراد للناس أن يكونوا خدما لهم في مواقع الاستغلال المشؤوم، فلهم الحرية في تصرفاتهم بأن يأخذوا ما يريدون ويدعوا ما لا يريدونه تبعا لمصالحهم الذاتية بعيدا عن مسألة القيم الأخلاقية، لأنها لا تحكمهم في علاقاتهم بغير اليهود، بل تحكمهم في المجتمع اليهودي في الداخل.

8. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ في نسبتهم له هذا التشريع الظالم وهذه الإباحة للخيانة المالية للآخرين‏ ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أن الله أمرهم بأن يكونوا مثال الأمانة مع الناس كلهم، لأن القيمة الأخلاقية لا تتجزأ لتكون إيجابية مع جماعة من الناس وسلبية مع جماعة أخرى، لأن علاقتها إنما هي بذات الإنسان في التزاماته الأخلاقية في نفسه بقطع النظر عن العناوين الأخرى المتصلة بالناس؛ فالله أراد للإنسان أن يكون صادقا، لأنه أراد له الارتباط بالحق، فليس له أن يكذب على الكافرين، كما لا يجوز له الكذب على المؤمنين.

9. ﴿بَلَى﴾ إنهم يتحملون المسؤولية كاملة في الالتزام بالوفاء للآخرين بأداء الأمانة، ولا يملكون الحجّة في الخيانة بحجة شرعته كما يقولون، ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ أي أن الإنسان الذي وفي بعهده من خلال مراقبته لله‏ ﴿وَاتَّقَى﴾ الله في أموره كلها، بحيث كان يعيش الإحساس بالرقابة الإلهية الضاغطة على قراراته وحركاته، هو الذي يحصل على محبة الله ورضوانه، ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ الذين يتحركون في الحياة على أساس أنهم عباد الله، الذين يلتزمون أوامره ونواهيه، ويخشون عقابه، ويرجون ثوابه، ولذلك كانت التقوى في التزاماتها الروحية والعملية هي مضمون حياتهم.

10. لا بدّ لنا في هذه الآيات من أن نقف وقفة قصيرة أمام المفهوم الذي نستوحيه منها، ومنها أن الثقة بالإنسان، أيّ إنسان كان، لا بدّ من أن تستند إلى القاعدة الفكرية والروحية والأخلاقية الموجودة في نفسه، لأن الإنسان ليس هو ما يتحرك فيه من أعمال، بل هو ما ينطلق منه من منطلقات، لأنها هي التي تكوّن الدوافع القويّة الضاغطة بشكل شعوري أو غير شعوري عليه؛ فعلينا أن ندرس منطلقات كل إنسان قبل أن نتعامل معه، أو نتعاهد معه، أو نأتمنه على مال أو نفس أو عرض أو قضية من قضايا الحياة العامّة والخاصّة، لأن العهد لا يمثل شيئا لدى الذين لا يرون الوفاء بالعهد مع بعض النّاس قيمة أخلاقية مهمّة، مما يجعل من التعاهد لديهم أسلوبا من أساليب استغفال البسطاء والوصول إلى استغلالهم من خلال الثقة الساذجة، وهذا هو الأساس في ما يجب أن يسير عليه المسلمون في علاقاتهم مع الأفراد والدول والشعوب، لئلا يقعوا تحت تأثير القيم التي يؤمنون بها بحجّة أنّ الآخرين لا يمكن أن ينفصلوا عنها، فقد لا يؤمن الآخرون بشيء، ولكنهم يرفعون شعاره، ليكون ذلك هو الطعم الذي يصطادون به الشعوب الضعيفة الفقيرة؛ كما نجده في الدول الكبرى التي تعتبر المعاهدات وسيلة لاستغلال الدول الصغرى، لتحصل على ما تريده من ثروات ومواقف، ثم عندما يأتي وقت الوفاء بالتزاماتها الذاتية تجاه تلك الدول الصغيرة، تبدأ في خلق المشاكل والمعوّقات والأوضاع السياسيّة والاقتصادية الاستثنائية التي تجعلها في حلّ من الوفاء، إن هذه الآيات تتحرك في خط التوعية التي تفتح عيون المؤمنين على الحياة، ليكونوا في موقع القوّة من الوعي، ولا يكونوا في موقف الضعف من الغفلة.

11. ربما نستوحي من تنديد الله باليهود في نظرتهم إلى الآخرين وعدم مسئوليتهم عن أموال الآخرين، فلهم أخذها من دون مقابل، أنّ الله سبحانه لا يريد للمسلمين أن يأخذوا بهذه النظرة في تعاملهم مع غير المسلمين، فيحللوا لأنفسهم مصادرة أموالهم وسرقتها بحجة عدم احترام الكافر، من حيث المبدأ، في نفسه وماله، إلا أن يكون ذميا أو معاهدا، بلحاظ قانون الذمة والعهد، وهذا ما درج عليه بعض الفقهاء الذين لا يرون العنوان الحربي أساسا لحلية أموال الكافرين للمسلمين، بل يرون الأصل عدم الاحترام إلا في صورة الذمة والعهد، أخذا ببعض الإطلاقات المتضمنة قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، حقن بها ماله ودمه وعرضه)، وأمثال ذلك من الأحاديث التي تربط الاحترام بالإسلام، مما يجعل الكافر ممن لا حرمة له لكفره، ولكننا ذكرنا في أبحاثنا أن هذه الإطلاقات ليست واردة في مقام البيان من هذه الجهة ليؤخذ بمضمونها الإطلاقي، بل هي واردة في مقام بيان إهدار الإسلام مال الكافر ونفسه وعرضه بالحرب عن طريق الغنائم التي يحصل عليها المسلمون من الأموال المنقولة وغير المنقولة، وعن طريق الأسر والاسترقاق، أو القتل في حالة الحرب وفي الجرائم التي تتصل بها.. فإذا نطق الكافر بالشهادتين فليس للمسلمين سبيل عليه في نفسه وماله وعرضه، فالقضية ـ حسب فهمنا ـ تتحرك في دائرة إعلان الحرب عليهم في حالة البقاء على الكفر، وترك إعلانها ضدهم في صورة الإسلام، وربما يتأيد هذا الرأي في قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: 8 ـ 9]؛ فإن الظاهر من هاتين الآيتين أن الكافر الذي لم يعلن القتال على المسلمين ولم يخرجهم من ديارهم، بل كان موقفه موقف اللاحرب في خط السّلام الطبيعي الذي يعيشه الناس مع بعضهم البعض ـ من دون معاهدة أو ذمة بالمعنى المصطلح العقدي للمسألة ـ يستحق التعامل معه بالبرّ في تقديم الخير له بكل ألوانه، وبالعدل ـ بمفهومه العام ـ الذي يقتضي أن له الحق في ذلك، باحترام ماله ونفسه وعرضه وعدم الاعتداء عليه إلا بالحق، ومقتضى ذلك أن الكفر لا يساوي عدم الاحترام، بل الحرب بمضمونها المباشر وغير المباشر هي التي تقتضي ذلك.

12. هذه الآية تحمل الكثير من الإيحاء بأن الخلاف في الدين لا يبرر ـ بمجرده ـ إهدار حرمة الآخرين، فإن الله ذمّ اليهود على ذلك، سؤال وإشكال: ربما يرى بعض الفقهاء أن الآية لا تدل على أكثر من وجوب أداء الأمانة لا وجوب احترام المال، ونحن نرى للأمانة خصوصية في المسألة لأنها تتضمن التزاما عقديا من‏ الشخص المؤتمن بأن يؤدي الأمانة إلى من ائتمنه عليه من خلال مبدأ الوفاء بالالتزام العقدي مع الآخر، ولهذا فإنا لا نجد علاقة بين موضوع الآية وإهدار احترام مال الكافر، والجواب: أن الأمانة لم تذكر موضوعا في الآية بلحاظ خصوصيتها العقدية، وإنما لوحظت ـ في سلوك اليهود ـ من حيث إنهم لا يحترمون أموال غير اليهود بقرينة قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، فهم يخونون الأمانة على أساس عدم احترامهم أموال الآخرين لا على أساس أنهم لا يقومون بالوفاء بالتزاماتهم العقدية، فإذا قام المسلمون بمثل ذلك في سلوكهم استحقوا الذم على ذلك، وربما نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن هناك عقدا إنسانيا بين العقلاء يلتزمونه في سلوكهم الاجتماعي وسيرتهم العملية أن لا يأخذ الإنسان مال غيره بدون حق، لأن مبدأ احترام الأموال لديهم من أكثر الالتزامات قوّة وقداسة وتأثيرا في العلاقات العامة، ولذلك نراهم يذمون الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويعاقبون اللصوص، ولا يخرجون عن ذلك إلا في حالة الحرب من دون فرق بين الناس الذين يدينون بدين واحد أو بأكثر من دين.

13. إن هذه النظرة الفوقية الاستعلائية التي يمارسها اليهود على غيرهم من الناس قد أصبحت تتحرك في نظرة الاستكبار العالمي الذي تمثله دول الغرب إلى العالم الثالث، وهو عالم المستضعفين الذي يضم الدول العربية والإسلامية وغيرها، فهي لا تنظر إليها نظرة إنسانية تحفظ لها حقوقها في ثرواتها الطبيعية، وفي حريتها في تقرير مصيرها، وفي استقلالها السياسي، ونحو ذلك.. بل تحاول أن تفرض عليها نظامها العالمي الذي يملك السيطرة على مقدرات الشعوب، وتعمل على أن تجعل لنفسها الحق في ما لا تجعله لها، فهي في الوقت الذي تتحدث فيه عن حقوق الإنسان، لا تحترم إنسانية المستضعفين في ذلك، بل تحترم مصالحها في الدّول التي تطالب فيها بتطبيق هذه الحقوق بما ينسجم مع مصالحها، ولا ترى لهذه الشعوب الحق في أن‏ تطالب لنفسها بتلك المطالب بعيدا عن المصالح الاستكبارية، وهذا مما ينبغي للمسلمين وللمستضعفين في العالم أن يدرسوه ويفهموه ويتعرفوا على خصائصه وعناصره، من أجل حماية أنفسهم من أخطاره وخططه، والحصول على المكاسب الاقتصادية والسياسية والأمنية والثقافية في حركتهم الواعية القوية المتمردة على منطق الاستكبار في واقع المستضعفين في الأرض.

تؤكد الآية الكريمة على أن الوفاء بالعهود والالتزام بالتقوى هما اللذان يمكن لهما أن يؤكدا ثبات المصلحة الإنسانية في حركة الإنسان في الواقع، ولذلك يحصل السائرون في اتجاههما على محبة الله، لأن الله يحب الناس الذين يحبون إخوانهم ويحبون الحياة باسم الله، وهذا ما يوحي بشمولية القيمة الإيجابية في شخصية الإنسان المسلم، الذي ينظر إلى الناس بعين واحدة بعيدا عن الازدواجية والاهتزاز، فإذا دخل المسلمون في معاهدة مع الآخرين، فإن الآخرين يشعرون بالأمن في علاقاتهم بالمسلمين، ويضمنون لأنفسهم الثبات في المواقع التي تثبتها هذه المعاهدة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/106.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نزلت هذه الآية بشأن يهوديّين أحدهما أمين وصادق، والآخر وخائن منحط، الأوّل هو (عبد الله بن سلام) الذي أودع عنده رجل 1200 أوقية من الذهب أمانة، ثمّ عندما استعادها ردّها إليه، والله يثني عليه في هذه الآية لأمانته، واليهوديّ الثاني هو (فنحاص بن عازورا) ائتمنه رجل من قريش بدينار، فخانه فيه، والله يذمّه في هذه الآية لخيانته الأمانة، وقيل إنّ القسم الأوّل من الآية يقصد جمعا من النصارى، وأمّا الذين خانوا الأمانة فهم جمع من اليهود، وقد تشير الآية إلى الحالتين، إذ أنّنا نعلم أنّ الآيات ـ وإن كان لبعضها سبب نزول خاص ـ لها طابع عامّ وسبب النزول لا يخصّصها.

2. ترسم الآية ملامح أخرى لأهل الكتاب، كان جمع من اليهود يعتقدون أنّهم لا يكونون مسئولين عن حفظ أمانات الناس، بل لهم الحقّ في تملّك أماناتهم! كانوا يقولون: إنّنا أهل الكتاب، وأن النبيّ والكتاب السماوي نزلا بين ظهرانينا، لذلك فأموال الآخرين غير محترمة عندنا، لقد تغلغلت فيهم هذه الفكرة بحيث غدت عقيدة دينية راسخة، وهذا ما يعبّر عنه القرآن بقوله‏ {يَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ‏} قال اليهود: إنّ لنا حقّ التصرّف بأموال العرب واغتصابها لأنّهم مشركون ولا يتّبعون دين موسى، وقيل أيضا إن اليهود كانت لهم مع العرب اتفاقات اقتصادية وتجارية وعند ما أسلم العرب، امتنع اليهود عن ردّ حقوقهم، قائلين: إنكم عند عقد الاتفاق لم تكونوا من مخالفينا، أما وقد أتخذتم دينا جديدا فقد سقط حقّكم.

3. من الجدير بالذكر أنّ هذه الآية تعلن أنّ أهل الكتاب لم يكونوا جميعا ينهجون هذا الطراز من التفكير غير الإنساني، بل كان فيهم جماعة ترى أنّ من واجبها أن تؤدّي حقّ الآخرين، ولذلك فإنّ القرآن لم يدنهم جميعا ولم يلق تبعة أخطاء بعضهم على الجميع، ولذلك يقول‏ ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ ﴿يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾

4. إنّ تعبير ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ أي واقفا ومسيطرا، يشير إلى مبدأ أصيل في‏ نفسيّة اليهود، فكثير منهم لا يجدون أنفسهم ملزمين بردّ حقّ إلّا بالقوّة، ليس أمام المسلمين لاسترجاع حقوقهم منهم سوى هذا السبيل، سبيل السعي للحصول على القوّة التي تجعلهم يردّون حقوقهم.

5. إنّ الحوادث التي جرت في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ القرارات الدولية والرأي العام العالمي، وقضايا الحقّ والعدالة وأمثالها، لا قيمة لها في نظر الصهاينة ولا معنى، وما من شيء يحملهم على الخضوع للحقّ سوى القوّة، وهذه من المسائل التي تنبّأبها القرآن.

6. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ هذه الآية تبيّن منطقهم في أكل أموال الناس، وهو قولهم بأنّ (لأهل الكتاب) أفضلية على (الأميّين) أي على المشركين والعرب الذين كانوا أمّيّين غالبا أو أن المقصود كلّ من ليس له نصيب من قراءة التوراة والإنجيل، لذلك يحقّ لهم أن يستولوا على أموال الآخرين، وليس لأحد الحقّ أن يؤاخذهم على ذلك، حتّى أنّهم ينسبون إلى الله تقرير التفوّق الكاذب.

7. لا شكّ أنّ هذا المنطق كان أخطر بكثير من مجرّد خيانة الأمانة، لأنّهم كانوا يرون هذا حقّا من حقوقهم، فيشير القرآن إلى هذا قائلا: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، هؤلاء يعلمون أنّه ليس في كتبهم السماوية أيّ شيء من هذا القبيل بحيث يجيز لهم خيانة الناس في أموالهم، ولكنّهم لتسويغ أعمالهم القبيحة راحوا يختلقون الأكاذيب وينسبونها إلى الله.

8. الآية التالية تنفي مقولة اليهود ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ التي قرّروا فيها لأنفسهم حرّية العمل، فاستندوا إلى هذا الزعم المزيّف للاعتداء على حقوق الآخرين بدون حقّ، حيث يتلاعبون بمصائر شعوب العالم، ولا يتورّعون عن ارتكاب كلّ اعتداء على حقوق الإنسان، ويرون القوانين مجرّد العوبة بيدهم لتحقيق مصالحهم، فتقول: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، تقرر هذه الآية أنّ مقياس الشخصية والقيمة الإنسانية ومحبّة الله يتمثّل في الوفاء بالعهد وفي عدم خيانة الأمانة خاصّة، وفي التقوى بشكل عامّ، أجل، إن الله يحب هؤلاء، لا الخوانة الكذابين الذين يبيحون لأنفسهم غصب حقوق الآخرين ويتجرءون كذلك على نسبتها إلى الله تعالى.

9. سؤال وإشكال: إنّ الإسلام قرّر أيضا مثل هذا الحكم بالنسبة لأموال الأجانب، إذ أنّه يجيز الاستيلاء على أموالهم، والجواب: إنّ اتّهام الإسلام بهذا افتراء لا شكّ فيه، إذ أنّ من أحكام الإسلام القاطعة الواردة في كثير من الأحاديث، هو (ليس من الجائز خيانة الأمانة سواء أكانت الأمانة تخصّ مسلما أم غير مسلم، وحتّى المشرك وعابد الأصنام)، وفي حديث معروف عن الإمام السجاد عليه السّلام قال: (عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمّدا بالحقّ نبيا لو أنّ قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه)، وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال: (إنّ الله لم يبعث نبيّا قط إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة مؤدّاه إلى البرّ والفاجر)، بناء على ذلك فإنّ ما جاء في هذه الآية عن اليهود وخيانتهم الأمانة ومنطقهم في تسويغ تلك الخيانة لم يسمح به الإسلام بأيّ شكل من الأشكال، فالمسلمون مكلّفون أن لا يخونوا الأمانة في جميع الأحوال.

10. كلمة (بلى) تستعمل في اللغة العربية ردّا على النفي أو جوابا على استفهام مقترن بالنفي، كقوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ و﴿نِعْمَ﴾ جوابا للاستفهام المثبت، مثل‏ ﴿فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ﴾

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/559.

38. الناقضون للعهد الإلهي وعقوبتهم

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈38⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 77]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كنا نعد من الذنب الذي ليس له كفارة اليمين الغموس، قيل: وما اليمين الغموس؟ فقال: الرجل يقتطع بيمينه مال الرجل(1).

2. روي أنّه قال: كنا نرى ـ ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن من الذنب الذي لا يغفر يمين فجر فيها صاحبها(2).

__________

(1) أحمد بن منيع في مسنده كما في المطالب العالية: ١٩٤٢.

(2) ابن جرير: ٥/٥٢١.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: هو الذي يربي علمه بعمله(1).

2. روي أنّه قال: في قوله: ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾) يعني لا ينظر إليهم بخير، أي لا يرحمهم، وقد يقول العرب للرجل السيد أو الملك: لا تنظر إلينا، يعني أنك لا تصيبنا بخير، وذلك النظر من الله إلى خلقه(2).

3. روي أنّه قال: (ألا أخبركم بأكبر الزنا؟) قالوا: بلى يا أمير المؤمنين، قال: هي المرأة تفجر ولها زوج، فتأتي بولد فتلزمه زوجها، فتلك التي لا يكلمها الله، ولا ينظر إليها، ولا يزكيها، ولها عذاب أليم(3).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٠٢.

(2) تفسير العيّاشي: 1/180.

(3) تفسير العيّاشي: 1/178.

ابن أبي أوفى:

روي عن عبد الله بن أبي أوفى (ت 47 هـ): أن رجلا أقام سلعة له في السوق، فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه؛ ليوقع فيها رجلا من المسلمين؛ فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ إلى آخر الآية(1).

__________

(1) البخاري: ٣/٦٠.

المسيب:

روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ هي اليمين الفاجرة، يقتطع بها الرجل مال أخيه، واليمين الفاجرة من الكبائر، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾(1).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/١٢٤.

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: من قرأ القرآن يتأكل الناس به أتى الله يوم القيامة ووجهه بين كتفيه، وذلك بأن الله يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾: هو الرجل يقتطع مال الرجل بيمينه(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٨٦.

(2) ابن أبي شيبة: ص٦٦.

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: إن رجلا أقام سلعته من أول النهار، فلما كان آخره جاء رجل يساومه، فحلف لقد منعها أول النهار من كذا، ولولا المساء ما باعها به، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥١٩.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ هؤلاء أقوام باعوا خلاقهم بالدنيا، أنبأكم الله كيف يصنع بهم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٨٨.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ما من رجل يشهد بشهادة زور على مال رجل مسلم ليقطعه، إلا كتب الله له مكانه صكا إلى النار(1).

2. روي أنّه قال: (أنزل في العهد ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ والخلاق: النصيب، فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شيء يدخل الجنة!؟(2).

3. روي أنّه قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، ومقل مختال، وملك جبار(3).

4. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المرخي ذيله من العظمة، والمزكي سلعته بالكذب، ورجل استقبلك بود صدره فيواري وقلبه ممتلئ غشا(3).

__________

(1) الكافي: 7/383/1.

(2) الكافي: 2/27.

(3) تفسير العيّاشي: 1/179.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ إلى ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: أنزلهم الله بمنزلة السحرة(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥٢٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿لَا خَلَاقَ لَهُمْ﴾ معناه لا نصير لهم(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: أن الأشعث بن قيس اختصم هو ورجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أرض كانت في يده لذلك الرجل أخذها في الجاهلية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أقم بينتك)، قال الرجل: ليس يشهد لي أحد على الأشعث، قال: فلك يمينه)، فقال الأشعث: نحلف، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ﴾ الآية، فنكل الأشعث، وقال: إني أشهد الله وأشهدكم أن خصمي صادق، فرد إليه أرضه، وزاده من أرض نفسه زيادة كثيرة(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥١٨.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، يعني: عرضا من الدنيا يسيرا، يعني: رؤوس اليهود(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾، يعني: لا نصيب لهم في الآخرة(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ بعد العرض والحساب، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يعني: وجيع(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٨٥.

الرسّي:

ذكر الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال الله جل ذكره، وهو يذكر أهل النار: ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؛ تأويل ذلك: أنهم لا يرجون من الله جل ثناؤه ثوابا، ولا يفعل بهم خيرا، وأهل الجنة ينظر الله إليهم، وينظرون إلى الله جل ثناؤه، ومعنى ذلك: أنهم يرجون من الله خيرا، ويأتيهم منه خير، ويفعله بهم، وليس معنى ذلك: أنهم ينظرون إليه جهرة بالأبصار، عز ذو الجلال والإكرام، وكيف يرونه بالأبصار، وهو لا محدود ولا ذو أقطار، كذلك جل ثناؤه لا تدركه الأبصار، ومن أدركته الأبصار فقد أحاطت به الأقطار، ومن أحاطت به الأقطار كان محتاجا إلى الأماكن، وكانت محيطة به، والمحيط أكبر من المحاط به، وأقهر بالإحاطة.

2. قول الله سبحانه: ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، ليس يريد بذلك: أنه يدركهم ولا يراهم، وإنما يخبرهم سبحانه عن هوانهم عليه، واطراحه لهم، وأنه لا ينظر إليهم بثواب ولا رحمة، وأنه يزيل عنهم ذلك اليوم كل رضا وكل نعمة.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/166.

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تبارك وتعالى: ﴿لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ هو: لا نصيب لهم في ثواب الله في الآخرة.. وأما قوله: {لا يكلمهم الله} فمعناها: لا يبشرهم الله برحمته، ولا يخصهم بمغفرته، ولا ينظر إليهم بنعمته.

2. أما قوله: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ هو: لا يحكم لهم بتزكية، ولا يختم لهم برحمة ولا بركة، ولا يجعلهم في حكمه من الزاكين، ولا عنده من الفائزين.

3. هذه الآية نزلت في رجل حلف لرجل عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يمينا فاجرة باطلة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من حلف على مال أخيه فاقتطعه ظالما لقي الله يوم القيامة وهو معرض عنه.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/167.

الناصر:

قال الإمام الناصر بن الإمام الهادي (ت 325 هـ): ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، النظر على ثلاثة أوجه: نظر البصر، وذلك لا يجوز على الله تبارك وتعالى، ونظر العلم والذكر، ونظر العطف كقول الرجل للرجل: (أنظر إلي نظر الله إليك)، أي: أحسن إلي أحسن الله إليك، ونظر العلم هو: ما يكون من العلوم، مثل: نظر العين، والذكر: فيقول: (ذكرني فلان بخير)، أي أحسن بي النظر، و(أنظر إلي نظر الله إليك)، أي: بخير مثله، ويقول الرجل لصاحبه: (لا سمع الله لك)، والله عز وجل يسمع، وإنما يعني به الداعي: لا استجاب له دعاه، وكذلك قوله: (سمع الله لمن حمده)، والله عز وجل يسمع من حمده ومن لم يحمده، قال الشاعر:

çدعوت الله حتى خفت أن لا... يكون الله يسمع ما أقولé

يعني: أن لا يستجيب لي دعائي.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ﴾ قيل: عهد الله: أمره ونهيه، يحتمل هذا العهد فيما عهدوا في التوراة ألا يكتموا نعته وصفته؛ ولكن يظهرون ذلك للناس ويقرون به.

2. قوله تعالى: ﴿وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أيمانهم التي حلفوا كذبا أن ليس نعته وصفته فيه؛ مخافة ذهاب منافعهم.

ب. ويحتمل: أن حلفوا كذبا، فأخذوا أموال الناس بالباطل والظلم؛ وعلى ذلك روي عن‏ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من حلف على يمين؛ ليقطع بها مال امرئ مسلم لقى الله تعالى وهو عليه غضبان) وتلا هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ الآية، والعهد والأيمان سواء؛ ألا ترى إلى قوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ﴾ [النحل: 91] الآية.

ج. ويحتمل عهد الله: ما قبلوا عن الله‏، وما ألزمهم الله، والأيمان: ما حلفوا.

3. ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ أي: لا نصيب لهم في الآخرة مما ذكروا أن لهم عند الله من الخيرات والحسنات؛ كقوله: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [البقرة: 217]

4. قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أنه أراد بذلك كلام الملائكة الذين يأتون المؤمنين بالتحية والسلام من ربهم؛ كقوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 23، 24]، وقوله: (لا تكلمهم) الملائكة؛ على ما تكلم المؤمنين، أضاف ذلك إلى نفسه، على ما ذكرنا فيما تقدم من إضافة النصر إليه على إرادة أوليائه؛ فكذلك هذا، أو أن يكون الله ـ عزّ وجل ـ كان قد كلمهم بتكليم الملائكة إياهم؛ لأنهم رسله؛ فكان كقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا﴾ [الشورى: 51]: صيّره ببعث الرسل كأن قد كلمهم هو؛ فكذلك الأوّل.

ب. ويحتمل: أن يكون الله ـ عزّ وجل ـ يكرم المؤمنين في الجنة بكلامه على ما كلم موسى في الدنيا؛ فلا يكلمهم كما يكلم المؤمنين.

ج. ويحتمل: لا يكلمهم بالرحمة سوى أن يقول لهم: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: 108]؛ وكقوله‏: ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

5. ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ نظر رحمة، كما ينظر إلى المؤمنين بالرحمة.

6. قوله تعالى: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أي: لا يجعل لخيراتهم ثوابا.

ب. ويحتمل: أن يكون هذا في قوم علم الله منهم أنهم لا يؤمنون أبدا؛ فقال: لا يزكيهم، أي: لا تزكو أعمالهم.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/412.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ الآية: أي ولا يكلمهم على ألسن الملائكة صلوات الله عليه بالبشارات، ولا ينظر لهم برحمة ولا يريدها لهم بشيء من الخيرات، ولا يطهرهم ولا ينزههم في ذلك اليوم من السيئات(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 261.

الديلمي:

قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ والعهد هو ما أوجب الله من طاعة وكف عن معصية، ويحتمل أن يكون ما ركبه في الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد للحق ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ أي لا نصيب لهم ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾ أي لا يسمعون من الكلام ما يسرهم بل ما يسوؤهم ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ أي لا يرحمهم.. هذه الآية نزلت في قوم من أحبار اليهود في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب كتبوا كتاباً بأيديهم ثم حلفوا أنه من عند الله فيما ادعوا أنه ليس عليهم في الأميين سبيل(1).

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/145.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلفوا في سبب نزول هذه الآية:

أ. فقال مجاهد، وعامر الشعبي: إنها نزلت في رجل حلف يميناً فاجرة في تنفيق سلعته.

ب. وقال ابن جريج: إنها نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له في أرض قام ليحلف عند رسول الله، فنزلت الآية فنكل الأشعث، واعترف بالحق، ورد الأرض.

ج. وقال عكرمة: نزلت في جماعة من‏ اليهود: حي بن أحطب، وكعب بن الأشرف، وأبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وقال الحسن كتبوا كتاباً بأيديهم ثم حلفوا أنه من عند الله فيما ادعوا من أنه ليس علينا في الأميين سبيل.

2. عهد الله هو ما يلزم الوفاء به، ويستحق بنقضه الوعيد، وهو ما أخذه على العبد وأوجبه عليه بما جعل في عقله من قبح تركه، وذلك في كل واجب عليه، فإنه يلزم بنقضه الوعيد إلا أن يتوب أو يجتنب الكبيرة، والعهد: هو العقد الذي تقدم به إلى العبد بما يجده في عقله من الزجر عن خلاف الحق، والدعاء إلى التمسك به، والعمل عليه.

3. إنما وصف ما اشتروه من عرض الدنيا بأنه ثمن قليل مع ما قرن به الوعيد لأمرين:

أ. أحدهما: لأنه قليل في جنب ما يؤدي إليه من العقاب والتنكيل.

ب. الثاني: هو أنه مع كونه قليلا، الاقدام فيه على اليمين مع نقض العهد عظيم.

4. ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ﴾ معناه لا نصيب وافر لهم، وقيل في أصل الخلاق قولان:

أ. أحدهما: الخلق: التقدير، فيوافق معناه، لأن النصيب: الوافر من الخير بالتقدير لصاحبه يكون نصيباً له.

ب. والآخر: من الخلق، لأنه نصيب مما يوجبه الخلق الكريم.

5. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: (لا يكلمهم) بما يسرهم بل بما يسوؤهم وقت الحساب لهم، لأن الغرض إنما هو الوعيد، فلذلك تبعه معنى لا يكلمهم بما يسر مع أن ظاهر قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ أنه يكلمهم بما يسوؤهم في محاسبته لهم، هذا قول أبي علي.

ب. الثاني: لا يكلمهم أصلا، وتثبت المحاسبة بكلام الملائكة لهم عليه السلام بأمر الله إياهم، فيكون على العادة في احتقار إنسان على أن يكلمه الملك لنقصان المنزلة.

6. ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ أي لا يرحمهم، كما يقول القائل لغيره: انظر إلي يريد ارحمني وفي ذلك دلالة على أن النظر مع تعديته بحرف (إلى) لا يفيد الرؤية، لأنه لا يجوز حملها في الآية على أنه لا يراهم بلا خلاف.

7. ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ معناه لا يحكم بزكاتهم دون أن يكون معناه لا يفعل الايمان الذي هو الزكاء لهم، لأنهم في ذلك، والمؤمنين سواء، فلو أوجب ما زعمت المجبرة، لكان لا يزكيهم، ولا يزكي المؤمنين أيضاً في الآخرة وذلك باطل.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/507.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. ﴿اشْتَرَى﴾ افتعل من الشراء، واشترى السلعة بالثمن، وشرى: باع، ومن ذلك سمت الخوارج نفسها شُرَاة، يعني باعوا أنفسهم من الله تعالى من قوله: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾

ب. العهد: العقد، والعهد: الوصية، وعهد الله على العبد يكون بشيئين: أحدهما: ما أوجبه في عقله، والثاني: بما أوجب في الشرع.

ج. الأيمان جمع يمين، اختلفوا في أصله قيل: من اليمين التي هي الجارحة، وكانوا يتصافحون عند الحلف، فسمي الحلف يمينًا، ثم كثر استعماله حتى صار حقيقة، وقيل: أخذ من القوة، ومنه: (تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِاليمينِ)، فكأنه يقوي كلامه بالقسم.

د. الخَلاق: النصيب قيل: أخذ من الخَلْق، وهو التقدير والنصيب من الخير بالتقدير لصاحبه يكون نصيبًا له، وقيل: من الخُلُق؛ لأنه نصيب مما يوجبه الخلق الكريم.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت الآية في قوم من أحبار اليهود أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا أنه من عند الله لئلا تفوتهم الرشا، وما كان لهم على أتباعهم، عن عكرمة.

ب. وقيل: نزلت في رؤساء اليهود كتبوا بأيديهم كتابًا ثم حلفوا أنه من عند الله فيما ادعوا أنه ليس علينا في الأميين سبيل، عن الحسن.

ج. وقيل: نزلت في ناس أولي فاقة من علماء اليهود أصابتهم سنة، فقدموا على كعب بن الأشرف يستميرونه، فسألهم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: إنا نشهد أنه رسول الله فحرمهم، فقالوا: إنه شبه لنا رويدًا حتى نلقاه فانطلقوا وكتبوا كتابًا سوى صفته، وأتوه به، ففرح كعب ومارهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن الكلبي.

د. وقيل: نزلت في الأشعث بن قيس، وخصم له في أرض اختصما إلى رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال للرجل: أَقِمْ بَيِّنَتَكَ)؟ فقال: ليس لي بينة، قال: فلك يمينه) فقام الأشعث يحلف فأنزل الله تعالى هذه الآية، فنكل الأشعث عن اليمين فرد عليه أرضه، واعترف بالحق، عن ابن جريج، وروي عن الأشعث أنه اختصم هو وخصم له إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: شاهداك أو يمينه)، قلت: إنه يحلف ولا يبالي فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: من حلف على يمين يستحق بها مالاً هو فيها فاجر لقي الله تعالى وهو عليه غضبان) فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن أبي وائل عن الأشعث، قال: فِيَّ نَزَلَتْ.

هـ. وقيل: نزلت في رجل حلف يمينًا فاجرة في تنفيق سلعة، عن مجاهد وعامر.

و. وقيل: نزلت في عبدان وامرئ القيس اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أرض، فتوجه اليمين على امرئ القيس، فقال: أنظرني إلى الغد، ثم جاء من الغد، وأقر له بالأرض.

3. لما حكى الله تعالى عنهم من أفعالهم الخبيثة، وأنهم أضافوا ذلك إلى الله تعالى وحلفوا عليه عقبه بذكر الوعيد فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ﴾ يستبدلون ﴿بِعَهْدِ اللهِ﴾:

أ. قيل: أوامره لهم في كتبهم فتركوها.

ب. وقيل: كتمانهم أمر الله في إظهار نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

4. ﴿وَأَيْمَانِهِمْ﴾ يقتطعون بأيمانهم الكاذبة أموال الناس ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ عوضًا نزرًا، وسماه قليلاً:

أ. أنه قليل في جنب ما يفوتهم من ثواب الله تعالى واستوجبوا من عقابه.

ب. وقيل: لأن ما أخذوه يفنى، وما فاتهم دائم يبقى.

5. ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ أي لا نصيب لهم في نعيم الآخرة ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾:

أ. قيل: لا يكلمهم بما يسرهم، ولا يجيبهم كما يفعل بالمؤمنين، بل يكلمهم بما يسوؤهم، عن أبي علي.

ب. وقيل: لا يكلمهم أصلاً، والمحاسبة موكولة إلى الملائكة.

6. ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي لا يرحمهم ولا يحسن إليهم ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾:

أ. أي لا يطهرهم، ولا يطهروا أعمالهم مما يحبطها.

ب. وقيل: لا ينزلهم منزلة الأذكياء عن أبي علي.

ج. وقيل: لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة، بل يعاقبهم.

د. وقيل: لا يحكم بأنهم أذكياء، ولا يسميهم بذلك، بل يحكم بأنهم كفرة فجرة، عن أبي علي والقاضي.

7. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ موجع.

8. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن من نقض عهد الله بغرض دنيوي، أو حلف كاذبًا أنه ارتكب كبيرة تستحق العقوبة.

ب. أن المُقْدِمَ على ذلك من أهل النار، بخلاف قول المرجئة.

ج. أن لا شفاعة لأهل الكبائر؛ إذ لو كانت لكان لهم أكبر نصيب، فيبطل قول المرجئة، ولا يقال: إن الآية وردت في الكفار، ولأن المعتبر عموم اللفظ لا خصوص السبب.

د. بطلان قول الْمُجْبِرَةِ أن تزكيتهم فعل الإيمان فيهم؛ لأنه لو كان ذلك كذلك لكان هم والمؤمنون سواء؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف، عن أبي علي.

هـ. بطلان قولهم من وجه آخر، وهو أن ذلك الشراء فعلهم، فيبطل قولهم في المخلوق.

9. نصب ﴿لَا خَلَاقَ﴾ لأنك نفيته بـ ﴿لَا﴾، تقول: لا رجل عندي.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/287.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في جماعة من أحبار اليهود أبي رافع، وكنانة بت أبي الحقيق، وحيي بن الأخطب، وكعب بن الأشرف، كتموا ما في التوراة من أمر محمد، وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا أنه من عند الله، لئلا تفوتهم الرياسة، وما كان لهم على أتباعهم، عن عكرمة.

ب. وقيل: نزلت في الأشعث بن قيس، وخصم له في أرض، قام ليحلف عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما نزلت الآية نكل الأشعث، واعترف بالحق، ورد الأرض عن ابن جريج.

ج. وقيل: نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة، في تنفيق سلعة، عن مجاهد والشعبي.

2. ثم ذكر تعالى الوعيد لهم على أفعالهم الخبيثة، فقال ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ﴾ أي: يستبدلون ﴿بِعَهْدِ اللهِ﴾:

أ. أي: بأمر الله، وما يلزمهم الوفاء به.

ب. وقيل: معناه إن الذين يحصلون بنكث عهد الله، ونقضه.

3. ﴿وَأَيْمَانِهِمْ﴾ أي: وبالايمان الكاذبة ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: عوضا نزرا، وسماه ﴿قَلِيلًا﴾:

أ. لأنه قليل في جنب ما يفوتهم من الثواب، ويحصل لهم من العقاب.

ب. وقيل: العهد ما أوجبه الله على الانسان من الطاعة، والكف عن المعصية.

ج. وقيل: هو ما في عقل الانسان من الزجر عن الباطل، والانقياد للحق.

4. ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ﴾ أي: لا نصيب وافر لهم ﴿فِي﴾ نعيم ﴿الْآخِرَةِ﴾

5. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: إنه لا يكلمهم بما يسرهم، بل بما يسوءهم وقت الحساب لهم، عن الجبائي.

ب. والآخر: إنه لا يكلمهم أصلا، وتكون المحاسبة بكلام الملائكة لهم، بأمر الله إياهم، استهانة بهم.

6. ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ معناه: لا يعطف عليهم ولا يرحمهم، كما يقول القائل للغير: انظر إلي يريد: ارحمني، وفي هذا دلالة على أن النظر إذا عدي بحرف ﴿إِلَى﴾ لا يفيد الرؤية، لأنه لا يجوز حملها هنا على أنه لا يراهم بلا خلاف.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾:

أ. قيل: أي: لا يطهرهم.

ب. وقيل: لا ينزلهم منزلة الأزكياء، عن الجبائي.

ج. وقيل: لا يطهرهم من دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة، بل يعاقبهم.

د. وقيل: لا يحكم بأنهم أزكياء، ولا يسميهم بذلك، بل يحكم بأنهم كفرة فجرة، عن القاضي.

8. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مؤلم موجع:

أ. في تفسير الكلبي عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (من حلف على يمين كاذبة، ليقطع بها مال أخيه المسلم، لقي الله تعالى وهو عليه غضبان)، وتلا هذه الآية.

ب. وروى مسلم بن الحجاج في الصحيح بإسناده من عدة طرق، عن أبي ذر الغفاري، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منة، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره.

ج. وعن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من حلف على يمين صبر، يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر، لقي الله وهو غضبان)، أورده مسلم أيضا فط الصحيح.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/779.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن الأشعث بن قيس خاصم بعض اليهود في أرض، فجحده اليهوديّ فقدّمه إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال له: (ألك بيّنة)؟ قال لا، قال لليهودي: (أتحلف)؟ فقال الأشعث: إذا يحلف فيذهب بمالي، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاريّ ومسلم.

ب. الثاني: أنها نزلت في اليهود، عهد الله إليهم في التوراة تبيّن صفة النبيّ عليه السلام، فجحدوا، وخالفوا لما كانوا ينالون من سفلتهم من الدنيا، هذا قول عكرمة، ومقاتل.

ج. الثالث: أنّ رجلا أقام سلعته في السّوق أوّل النهار، فلما كان آخره، جاء رجل يساومه، فحلف: لقد منعها أول النهار من كذا، ولولا المساء لما باعها به، فنزلت هذه الآية، هذا قول الشّعبيّ، ومجاهد.

2. على القول الأول، والثالث، العهد: لزوم الطّاعة، وترك المعصية، وعلى الثاني: ما عهده إلى اليهود في التّوراة.

3. اليمين: الحلف، وإن قلنا: إنها في اليهود، والكفار، فإن الله لا يكلّمهم يوم القيامة أصلا، وإن قلنا: إنها في العصاة، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا يكلّمهم الله كلام خير.

معنى‏ ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾، أي: لا يعطف عليهم بخير مقتا لهم، قال الزجّاج: تقول: فلان لا ينظر إلى فلان، ولا يكلّمه معناه: أنه غضبان عليه.

4. ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ أي: لا يطهّرهم من دنس كفرهم وذنوبهم.

5. اختلفوا فيمن نزل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا﴾ على قولين:

أ. أحدهما: أنها نزلت في اليهود، رواه عطيّة عن ابن عباس.

ب. الثاني: في اليهود والنّصارى، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.

__________

(1) زاد المسير: 1/298.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في تعلق هذه الآية ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ بما قبلها وجوه:

أ. الأول: أنه تعالى لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس، ثم من المعلوم أن الخيانة في أموال الناس لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة لا جرم ذكر عقيب تلك الآية هذه الآية المشتملة على وعيد من يقدم على الأيمان الكاذبة.

ب. الثاني: أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم‏ {يَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏} [آل عمران: 75] ولا شك أن عهد الله على كل مكلف أن لا يكذب على الله ولا يخون في دينه، لا جرم ذكر هذا الوعيد عقيب ذلك.

ج. الثالث: أنه تعالى ذكر في الآية السابقة خيانتهم في أموال الناس، ثم ذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وخيانتهم في تعظيم أسمائه حين يحلفون بها كذباً.

2. من الناس من قال هذه الآية ابتداء كلام مستقل بنفسه في المنع عن الأيمان الكاذبة، وذلك لأن اللفظ عام والروايات الكثيرة دلت على أنها إنما نزلت في أقوام أقدموا على الأيمان الكاذبة، وإذا كان كذلك وجب اعتقاد كون هذا الوعيد عاماً في حق كل من يفعل هذا الفعل وأنه غير مخصوص باليهود.

3. اختلف الروايات في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾:

أ. فمنهم من خصها باليهود الذين شرح الله أحوالهم في الآيات المتقدمة.. وفيه وجهان:

الأول: قال عكرمة إنها نزلت في أحبار اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من‏ أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا، واحتج هؤلاء بقوله تعالى في سورة البقرة {أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏} [البقرة: 40]

الثاني: أنها نزلت في ادعائهم أنه‏ ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران: 75] كتبوا بأيديهم كتاباً في ذلك وحلفوا أنه من عند الله وهو قول الحسن.

ب. ومنهم من خصها بغيرهم.. وفيه وجوه:

الأول: أنها نزلت في الأشعث بن قيس، وخصم له في أرض، اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال للرجل: (أقم بيّنتك) فقال الرجل: ليس لي بينة فقال للأشعث (فعليك اليمين) فهم الأشعث باليمين فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم واعترف بالحق، وهو قول ابن جريج‏.

الثاني: قال مجاهد: نزلت في رجل حلف يميناً فاجرة في تنفيق سلعته.

الثالث: نزلت في عبدان وامرئ القيس اختصما إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في أرض، فتوجه اليمين على امرئ القيس، فقال: أنظرني إلى الغد، ثم جاء من الغد وأقر له بالأرض.

4. الأقرب الحمل على الكل، فقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ﴾ يدخل فيه جميع ما أمر الله به ويدخل فيه ما نصب عليه الأدلة ويدخل فيه المواثيق المأخوذة من جهة الرسول، ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه، لأن كل ذلك من عهد الله الذي يلزم الوفاء به، قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ [التوبة: 75] الآية، وقال: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34]، وقال: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ [الإنسان: 7]، وقال: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: 23]

5. ذكرنا في سورة البقرة معنى الشراء، وذلك لأن المشتري يأخذ شيئاً ويعطي شيئاً فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر، وأما الأيمان فحالها معلوم وهي الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد، أو وعيد، أو إنكار، أو إثبات.

6. ثم قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فرّع الله تعالى على ذلك الشرط وهو الشراء بعهد الله والأيمان ثمنا قليلًا، خمسة أنواع من الجزاء أربعة منها في بيان صيرورتهم محرومين عن الثواب، والخامس في بيان وقوعهم في أشد العذاب، أما المنع من الثواب فاعلم أن الثواب عبارة عن المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم:

أ. فالأول: وهو قوله‏ ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ إشارة إلى حرمانهم عن منافع الآخرة.

ب. وأما الثلاثة الباقية: وهي قوله‏ {لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ‏}.. ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ فهو إشارة إلى حرمانهم عن التعظيم والإعزاز.

ج. وأما الخامس: وهو قوله‏ ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فهو إشارة إلى العقاب.

7. ﴿لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ المعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها، وهذا العموم مشروط بإجماع الأمة بعدم التوبة، فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا(2) مشروط أيضاً بعدم العفو، فإنه تعالى قال: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]

8. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾ سؤال، وهو أنه تعالى قال: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر: 92، 93]، وقال: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: 6] فكيف‏ الجمع بين هاتين الآيتين، وبين تلك الآية؟ والجواب:

أ. قال القفال في الجواب: المقصود من كل هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا، فإنما ذلك بسخط الله عليه وإذا سخط إنسان على آخر، قال له لا أكلمك، وقد يأمر بحجبه عنه ويقول لا أرى وجه فلان، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل فثبت أن هذه الكلمات كنايات عن شدة الغضب نعوذ بالله منه، وهذا هو الجواب الصحيح.

ب. ومنهم من قال: لا يبعد أن يكون إسماع الله جلّ جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفاً عالياً يختص به أولياءه، ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة.

ج. ومنهم من قال: معنى هذه الآية أنه تعالى لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم والمعتد هو الجواب الأول.

9. ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ المراد إنه لا ينظر إليهم بالإحسان، يقال فلان لا ينظر إلى فلان، والمراد به نفي الاعتداد به وترك الإحسان إليه، والسبب لهذا المجاز أن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاد نظره إليه مرة بعد أخرى، فلهذا السبب صار نظر الله عبارة عن الاعتداد والإحسان، وإن لم يكن ثم نظر، ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية، لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماساً لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام، وتعالى إلهنا عن أن يكون جسماً، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف (إلى) ليس للرؤية وإلا لزم في هذه الآية أن لا يكون الله تعالى رائياً لهم وذلك باطل.

10. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ وجوه:

أ. الأول: أن لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة بل يعاقبهم عليها.

ب. الثاني: لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء والتزكية من المزكى للشاهد مدح منه له، وتزكية الله عباده:

قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 23، 24]، وقال: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: 103]، ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [فصلت: 21]

وقد تكون بغير واسطة، أما في الدنيا فكقوله‏ ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ﴾ [التوبة: 112]، وأما في الآخرة فكقوله‏ ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: 58]

11. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ لما بيّن الله تعالى حرمانهم من الثواب بيّن كونهم في العقاب الشديد المؤلم.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/266.

(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. روى الأئمة عن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: هل لك بينة؟ قلت لا، قال لليهودي: (احلف) قلت: إذا يحلف فيذهب بمالي، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ إلى آخر الآية، وروى الأئمة أيضا عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: (وإن كان قضيبا من أراك)

2. دلت هذه الآية والأحاديث أن حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه، وقد روى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة)، وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما ناقض أبو حنيفة وغلا وقال: إن حكم الحاكم المبني على الشهادة الباطلة يحل الفرج لمن كان محرما عليه، كما تقدم في البقرة، وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما فإن فرجها يحل لمتزوجها ممن يعلم أن القضية باطل، وقد شنع عليه بإعراضه عن هذا الحديث الصحيح الصريح، وبأنه صان الأموال ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة، ولم يصن الفروج عن ذلك، والفروج أحق أن يحتاط لها وتصان، وسيأتي بطلان قوله في آية اللعان إن شاء الله تعالى.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/120.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ﴾ أي يستبدلون‏ ﴿بِعَهْدِ اللهِ﴾ أي بما أخذهم عليه في كتابه، أو بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم‏ ﴿وَأَيْمَانِهِمْ﴾ أي التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل‏ ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ من الدنيا الزائلة الحقيرة التي لا نسبة لجميعها إلى أدنى ما فوتوه‏.

2. ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ﴾ أي لا نصيب ثواب‏ ﴿لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وذلك لحجبهم عن مقامات قربه كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾،

3. ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ أي ولا يثني عليهم كما يثني على أوليائه، أو لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي بالنار.

4. قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أن من نقض عهدا لله لغرض دنيويّ، أو حلف كاذبا، فإنه قد ارتكب كبيرة.

5. في الجمع بين قوله تعالى هنا: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾، وقوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: 92]، قال القفال: المقصود من هذه الآية بيان شدة سخط الله عليهم، لأن من منع غيره كلامه فإنما ذلك بسخط عليه، وإذا سخط إنسان على آخر قال له: لا أكلمك، وقد يأمر بحجبه عنه، ويقول: لا أرى وجه فلان، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل، فثبت أن الآية كناية عن شدة الغضب، نعوذ بالله منه، ومنهم من قال لا يبعد أن يكون إسماع الله جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفا عاليا يختص به أولياءه، ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة، ومنهم من قال معنى الآية لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم، والكل حسن.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/338.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ﴾ يستبدلون، ﴿بِعَهْدِ اللهِ﴾ يتركون ما عهد الله إليهم من الإيمان بالنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم وأداء الواجب، وترك المحرَّم، وأداء الأمانة، وقيل: ما في عقل الإنسان من الإعراض عن الباطل والانقياد إلى الحقِّ، ﴿وَأَيْمَانِهِمْ﴾ حلفهم بالله كاذبين، أو ما حلفوا به إذ قالوا: والله لنومننَّ به ولننصرنَّه، وذلك من قوله تعالى: ﴿وَإِذَ اَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيئِينَ﴾ الآية [آل عمران: 81]

2. ﴿ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ من الدنيا زائلا مسترذلاً بالنسبة إلى ما في الآخرة، مكدَّرا ولو كثر في ذاته وجلَّ من الرشا والأعواض التي لا تجوز.

3. ﴿أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ﴾ لا نصيب، ﴿لَهُمْ فِي الَاخِرَةِ﴾ لا نصيب نافع لهم في زمان الآخرة، أو لا نصيب لهم في نعيم الآخرة.

4. ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾ يوم القيامة بشيء أصلا، وإنَّما يكلِّمهم الملائكة في أثناء الحساب بإذن الله العامِّ في الملائكة لا بخصوص الوحي إليهِم، أو لا يكلِّمهم بما يسرُّهم ولو أوحي إليهم بكلام يسوءهم، وذلك إهانة لهم وغضب عليهم، وقد قال الله جلَّ وعلا: ﴿فَوَرَبـِّكَ لَنَسْأَلَنـَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر: 92 ـ 93]، أي: سؤالَ توبيخ وتقريع، أو من الملائكة بالإذن العامِّ، أو ذلك كناية عن غضب الله عليهم، وهو أولى، ويضعف أن يكون المعنى: لا ينتفعون بكلمات الله المنزَّلة فكأنَّه لم يكلِّمهم.

5. ﴿وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لا يرحمهم، فإنَّ من تحبُّه وترحمه تنظر إليه، بخلاف مَن سخطتَ عليه فإنَّك لا تلتفت إليه، أو ذلك إهانة، ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ لا يطهِّرهم من ذنوبهم بالغفران، أو لا يذكرهم بخير في الدنيا ولا في الآخرة، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ﴾ في النار دائم لفعلهم، أو في الدنيا والآخرة، ومن عذاب الدنيا ضربُ الجزية على أهلها.

6. نزلت الآية في امرئ القيس المسلم المعاصر للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ورجلٍ من حضرموت تخاصما، فقال للحضرميِّ: (بيِّنَتُك وإلَّا فيَمينُه)، فقال: يا رسول الله، إن حلف ذهب بأرضي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها حقَّ أخيه لقي الله تعالى وهو عليه غضبان)، فقال امرؤ القيس: يا رسول الله، فما لمن تركها وهو يعلم أنَّها حقٌّ؟ قال: الجنَّة، قال: فإنِّي أشهدك أنِّي قد تركتها، وفي أبي رافع اليهوديِّ ولبابة بن أبي الحقيق وحُيي بن أخطب اليهوديِّين وغيرهم من أحبار اليهود، حرَّفوا التوراة وبدَّلوا نعت سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأخذوا الرشى على ذلك، وقال البخاريُّ من حديث عبيد الله بن أبي أوفى: إنَّ رجلا أقام سلعة في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين، ونزلت هذه الآية في ذلك، وفي أيمان اليهود في أَيمانهم المذكورة قبل هذا، وفي ترافع كان بين أشعث بن قيس ويهوديٍّ في بئر أو أرض، وتوجَّه الحلف على اليهوديِّ، ولا بيان للأشعث، فقال: إذَن يحلف كاذبا يا رسول الله ولا يبالي! رواه البخاريُّ ومسلم وأبو داود وابن ماجه والنسائيُّ والترمذيُّ وغيرهم، قلت: لعلَّ الآيَة نزلت بعد ذلك كلِّه فتعمُّ ذلك، وهكذا تقول في مثل ذلك من الروايات عن ابن مسعود.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/305.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم بين تعالى جزاء أهل الغدر والإخلاف مع بيان السبب الذي يحملهم على ذلك فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾

2. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في سبب النزول.. ويحتمل أن الآية كانت تذكر عند ذكر تلك الوقائع فيظن من لم يكن سمعها أنها نزلت فيها، وهي على كل حال متصلة بما قبلها متممة له.

3. الأيمان فيها جمع يمين وهو في الأصل اسم لليد التي تقابل الشمال ثم سمي الحلف والقسم يمينا لأن الحالف في العهد يضع يمينه في يمين من يعاهده عند الحلف لتأكيد العهد وتوثيقه، حتى إن اللفظ يطلق على العهد نفسه.

4. أضاف العهد ههنا إلى الله لأنه تعالى عهد إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون ويتعاقدون عليه، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، كما عهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ويتقوه في جميع الأمور، فعهد الله يشتمل كل ذلك.

5. لما كان الناكث للعهد لا ينكث إلا لمنفعة يجعلها بدلا منه عبر عن ذلك بالشراء الذي هو معاوضة ومبادلة، وسمى العوض ثمنا قليلا مع العلم بأن بعض الناس لا ينكثون العهد في الأمور الكبيرة إلا إذا أوتوا عليه أجرا كبيرا وثمنا كثيرا، لأجل أن يبين للناس أن كل ما يؤخذ بدلا من عهد الله فهو قليل، لا سيما إذا أكد باليمين، لأن العهود إذا خزيت اختل أمر الدين؛ إذ الوفاء آيته البينة بل محوره الذي عليه مداره، وفسدت مصالح الدنيا إذ تبطل ثقة الناس بعضهم ببعض، والثقة روح المعاملات وسلك النظام وأساس العمران.

6. لأجل هذا كان الوعيد على نكث العهد ولو لأجل المنفعة أشد ما نطق به الكتاب وأغلظه، وأي عقاب أشد من عقاب من لا خلاق له في الآخرة أي لا نصيب له من النعيم فيها ولا يكلمه الله كلام إعتاب ولا ينظر عطف ورحمة ولا يزكيه بالثناء على عمل له صالح أو لا يطهره من ذنوبه بالعفو والمغفرة وله عذاب أليم.

7. لم يكتف تعالى بحرمان بائعي العهد بالثمن من النعيم وبما أعد لهم من العذاب الأليم حتى بين مع ذلك أنهم يكونون في دركة من الغضب الإلهي لا ترجى لهم فيها رحمة ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة فعدم النظر والكلام كناية عن عدم الاعتداد ومنتهى الغضب الذي لا رجاء معه ولا أمل.

8. إن الزنا وشرب الخمر والميسر والربا وعقوق الوالدين من الكبائر، ولكن الله تعالى لم يتوعد مرتكبي هذه الموبقات بمثل ما توعد به ناكثي العهود وخائني الأمانات، لأن مفاسد النكث والخيانة أعظم من جميع المفاسد التي حرمت لأجلها تلك الجرائم فما بال كثير من الناس يدعون التدين ويتسمون بسمة الإسلام وهم لا يبالون بالعهود ولا يحفظون الأيمان ويرون ذلك صغيرا من حيث يكبرون أمر المعاصي التي لم يتعودوها لأنهم لم يتعودوها، الإيمان بالله لا يجتمع مع الخيانة والنكث في نفس، وقد عد تعالى أخص وصف لزعماء الكفر يبيح قتالهم كونهم لا وفاء لهم بالعهود إذ قال: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ [التوبة: 12] وقال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (آية المنافق ثلاث وفي رواية لمسلم: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان) رواه الشيخان وغيرهما وفي رواية لهما (وإذا عاهد غدر)، وروى أحمد والبزار والطبراني في الأوسط عن أنس أنه قال: ما خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا وقال: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/342.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي إن الذين يستبدلون بعهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة بأن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ويتقوه في جميع الأمور وبما حلفوا عليه من قولهم: لنؤمننّ به ولننصرنّه ـ ثمنا قليلا هو العوض أو الرّشا ـ أولئك لا نصيب لهم في منافع الآخرة ونعيمها، ويغضب عليهم ربهم ولا ينظر إليهم ولا يثنى عليهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم هو الغاية في الألم، قال القفال: هذه الكلمات يراد بها بيان شدة سخط الله عليهم، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا فإنما ذلك لسخطه عليه، وقد يأمره بحجبه عنه، ويقول لا أكلمك ولا أرى وجهك، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ا ه.

2. صفوة القول: إن الله توعد الناكثين للعهد، المخلفين للوعد بالحرمان من النعيم وبالعذاب الأليم، وبأنهم يكونون في غضب الله بحيث لا ترجى لهم رحمة، ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة، ولم يتوعد الله مرتكبى الكبائر من الزناة وشاربى الخمر، ولا عبى الميسر وعاقّى الوالدين بما توعد به ناكثى العهود وخائنى الأمانات، لأن مفاسدهما أعظم من جميع المفاسد التي لأجلها حرمت تلك الجرائم، فالوفاء بها آية الدين البينة، والمحور الذي تدور عليه مصالح العمران، فمتى نكث الناس في عهودهم زالت ثقة بعضهم ببعض، والثقة روح المعاملات وأساس النظام، والإيمان بالله لا يجتمع مع الخيانة والنكث بالعهد، ألا ترى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعله علامة النفاق‏، فقال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وروى الطبراني في الأوسط عن أنس قال: (ما خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)، فما بال كثير من المسلمين حتى المتدينين منهم استهانوا بالعهود، وأصبحوا لا يحفظون الإيمان ويرون ذلك شيئا صغيرا، مع كل ما رأوا من شديد التهديد والوعيد ويكبرون أمر المعاصي التي لم يتعودوها لعدم الإلف والعادة فقط، مع أنها دون ذلك عند الله كما تدل عليه هذه الآية.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/192.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من ثم يجعل الذين يخيسون بالعهد ويغدرون بالأمانة.. ﴿يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾.. فالعلاقة في هذا بينهم وبين الله قبل أن تكون بينهم وبين الناس.. ومن هنا فلا نصيب لهم في الآخرة عنده، أن كانوا يبغون بالغدر والنكث بالعهد ثمنا قليلا هو هذه المصالح الدنيوية الزهيدة! ولا رعاية لهم من الله في الآخرة جزاء استهانتهم بعهده ـ وهو عهدهم مع الناس ـ في الدنيا.

2. نجد هنا أن القرآن قد سلك طريقة التصوير في التعبير، وهو يعبر عن إهمال الله لهم وعدم رعايتهم، بأنه لا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يطهرهم.. وهي أعراض الإهمال التي يعرفها الناس.. ومن ثم يتخذها القرآن وسيلة لتصوير الموقف صورة حية تؤثر في الوجدان البشري أعمق مما يؤثر التعبير التجريدي، على طريقة القرآن في ظلاله وإيحاءاته الجميلة.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/419.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن عزل الله سبحانه المتقين من أهل الكتاب، وضمّهم إلى أهل رحمته ومرضاته ـ كشف سبحانه وتعالى عن المصير السيّئ الذي ينتظر الجماعة الباغية الضالة من اليهود، وهم الكثرة الغالبة فيهم.. فوصفهم الله سبحانه وصفا كاشفا، ودمغهم بجرائمهم الشنيعة، التي يحملونها على ظهورهم إلى يوم‏ الحساب، فقال تعالى‏ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾.. فهم قد نقضوا عهد الله، وما عاهدهم عليه في قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ وقد كذب أهل الكتاب هؤلاء على الله، وبدلوا آياته، وأنطقوا كتابه بما أملته أهواؤهم، وحلفوا على هذا البهتان، وأكّدوا هذا الزور بأيمان بالغة.

2. وهم بهذا الإثم الذي ارتكبوه قد باعوا آخرتهم، لقاء قليل من حطام الدنيا، فإذا كانت الآخرة جيء بهم إليها وليس لهم نصيب من نعيمها، وإنما لهم ما ينتظرهم من نكال وعذاب.. ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ والخلاق الحظ والنصيب‏.

3. ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ فهم مطرودون من رحمة الله، مبعدون من مواطن رضاه ومغفرته.. لا يكلمهم الله، حين يكلم عباده الذين رضى عنهم، لأنهم ليسوا أهلا لأن يسمعوا كلام رب العالمين، إذ أصمّوا آذانهم عن سماع كلماته التي حملها إليهم رسله الكرام، ولا ينظر إليهم، نظر رحمة ومودة.. لأنهم أغمضوا أعينهم عن النظر في آيات الله وتدبر ما فيها من هدى ونور.. ولا يزكيهم ـ أي ولا يطهرهم من الآثام التي حملوها معهم، ولا ينالهم بمغفرته ورحمته، كما يتجاوز لأهل مودته عن سيئاتهم، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فتلك هي عقبى الذين كذبوا على الله، وبدّلوا نعمة الله كفرا وأحلّوا قومهم دار البوار.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/503.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ في خيانة الأمانة إبطالا للعهد، وللحلف الذي بينهم، وبين المسلمين، وقريش، والكلام استئناف قصد منه ذكر الخلق الجامع لشتات مساوئ أهل الكتاب من اليهود، دعا إليه قوله: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وما بعده، وقد جرت أمثال هذه الأوصاف على اليهود مفرّقة في سورة البقرة [40]: {أَوْفُوا بِعَهْدِي‏}، ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: 41]، ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ [البقرة: 102]، ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 174]، فعلمنا أنهم المراد بذلك هنا، وقد بينا هنالك وجه تسمية دينهم بالعهد وبالميثاق، في مواضع، لأنّ موسى عليه السلام عاهدهم على العمل به، وبينا معاني هذه الأوصاف والأخبار.

2. معنى‏ ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ غضبه عليهم إذ قد شاع نفي‏ الكلام في الكناية عن الغضب، وشاع استعمال النظر في الإقبال والعناية، ونفي النظر في الغضب فالنظر المنفي هنا نظر خاص، وهاتان الكنايتان يجوز معهما إرادة المعنى الحقيقي.

3. ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ أي لا يطهرهم من الذنوب ولا يقلعون عن آثامهم، لأنّ من بلغ من رقّة الديانة إلى حدّ أن يشتري بعهد الله وأيمانه ثمنا قليلا، فقد بلغ الغاية القصوى في الجرأة على الله، فكيف يرجى له صلاح بعد ذلك، ويحتمل أن يكون المعنى ولا ينميهم أي لا يكثر حظوظهم في الخيرات.

4. في مجيء هذا الوعيد، عقب الصلة، وهي ﴿يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ الآية، إيذان بأنّ من شابههم في هذه الصفات فهو لاحق بهم، حتى ظنّ بعض السلف أنّ هذه الآية نزلت فيمن حلف يمينا باطلة، وكلّ يظنّ أنها نزلت فيما يعرفه من قصة يمين فاجرة(2).

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/136.

(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الذي يسهل عدم الوفاء بالعهد أعراض الدنيا، وهى ثمن لا يساوى شيئا في جانب عدم رضا الله تعالى؛ ولذا قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾، أي إن الذين يتركون عهد الله تعالى في مقابل عرض من أعراض الدنيا يستبدلون ثمنا قليلا بأمر جليل إذ إن من يترك عهد الله الذي عاهد الناس عليه ويمين الله التي وثق بها ذلك العهد يفقد ثقة الناس، ومن فقد ثقة الناس لا يأمنونه، وتلك خسارة كبيرة، وإذا فقد المجتمع الثقة بين آحاده صار كل واحد ينظر إلى الآخر كما ينظر الوحش إلى فريسته، فيذهب الاطمئنان، فتكون الجماعة كقطيع من الذئاب.

2. عهد الله تعالى يشتمل معنيين:

أ. أحدهما ما التزمه بمقتضى فطرته والتكاليف الدينية والمدارك العقلية من أداء الحقوق والواجبات ومراعاة الأمانات.

ب. الثاني ما يعطيه هو من عهود يذكر فيها اسم الله تعالى، ويوثقه بيمين الله تعالى أو لا يوثقه.

3. ترك هذه العهود له أثر في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فالنبذ والطرد، وأما أثره في الآخرة، فذكر سبحانه بعضه بقوله: ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ أي أولئك الذين ينكثون بالعهود ولا يحترمون يمين الله لا نصيب لهم في الآخرة من ثواب؛ ولكن مغبتهم حساب وعقاب، فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.

4. ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أربعة أنواع من الجزاء تنالهم:

أ. أولها: أن الله لا يكلمهم، وهذا كناية عن عدم محبته، لأن المحب مقبل على حبيبه، متحدث إليه، ومن فقد محبة الله فقد فقد معنى الوجود.

ب. ثانيها: أنه لا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يرعاهم؛ لأنهم إذا فقدوا النظر إليهم منه سبحانه فقدوا كلاءته وحمايته، فعدم النظر كناية عن أنه لا يحميهم من العقاب، ولا ينزل بهم نعيما، والنوع.

ج. الثالث: أنه لا يزكيهم، وذلك كناية عن عدم رضاه سبحانه؛ لأن من يرضى عن شخص يزكيه ويطريه ويثنى عليه.

د. الرابع: الذي هو نتيجة ما سبق من بغض الله، وسخطه، ومنع حمايته هو أن لهم عذابا مؤلما.. اللهم قنا عذاب النار، وامنحنا رضاك واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1285.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال الرازي في تفسير هذه الآية: (يدخل فيها جميع ما أمر الله به، ويدخل ما نصب عليه الأدلة، ويدخل المواثيق المأخوذة من جهة الرسول، ويدخل ما يلزم الرجل به نفسه، لأن كل ذلك من عهد الله الذي يلزم الوفاء به)، وفي الحديث ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما خطب خطبة الا وقال فيها: (لا ايمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)

2. تدلنا هذه الآية وهذا الحديث، وغيرهما كثير من الآيات والأحاديث، ان الإسلام يرتبط بالأخلاق ارتباطا وثيقا، ومن ثم أوجب الوفاء بكل التزام وتعامل يقع مع الغير، واعتبره تعاملا مع الله والتزاما له بالذات، حتى ولو كان الطرف الثاني ملحدا، على شريطة ان لا يتنافى الالتزام مع المبادئ الأخلاقية، والا وقع باطلا.

3. وكذلك الحال بالنسبة إلى القضاء وفصل الخصومات، حيث أوجب الإسلام على القاضي أن يصغي إلى صوت الضمير وحجة الأخلاق قبل أن يستمع إلى أقوال المتخاصمين.. ان النظرية الأخلاقية هي الركيزة الأولى للشريعة الإسلامية بجميع قواعدها وأحكامها، دون استثناء، ومن أجل هذا هدد الله الذين ينكثون بالعهد، ويغدرون بالأمانة بما لم يهدد به أحدا من مرتكبي الكبائر والجرائم، وذلك حيث يقول عز من قائل: ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، أما السر لهذا الحرص الشديد على الوفاء، والتهديد على مخالفته فهو الحفاظ على المصالح، وتبادل الثقة بين الناس، وصيانة الحقوق التي هي أساس الأمن والنظام.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/93.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ تعليل للحكم المذكور في الآية السابقة، والمعنى أن الكرامة الإلهية خاصة بمن أوفى بعهده واتقى لأن غيرهم ـ وهم‏ ﴿الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ ـ لا كرامة لهم.

2. لما كان نقض عهد الله وترك التقوى إنما هو للتمتع بزخارف الدنيا وإيثار شهوات الأولى على الأخرى كان فيه وضع متاع الدنيا موضع إيفاء العهد والتقوى، وتبديل العهد به، ولذلك شبه عملهم ذلك بالمعاملة فجعل عهد الله مبيعا يشترى بالمتاع، وسمي متاع الدنيا وهو قليل بالثمن القليل والاشتراء هو البيع فقيل: ﴿يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، أي يبدلون العهد والأيمان من متاع الدنيا.

3. ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾ إلى آخر الآية، الخلاق‏ النصيب، والتزكية هي الإنماء نموا صالحا، ولما كان الوصف المأخوذ في بيان هذه الطائفة من الناس مقابلا للوصف المأخوذ في الطائفة الأخرى المذكورة في قوله: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى﴾، ثم كانت التبعات المذكورة لوصفهم أمورا سلبية أفاد ذلك:

أ. أولا: أن الإتيان في الإشارة بلفظ أولئك الدال على البعد لإفادة بعد هؤلاء من ساحة القرب كما أن الموفون بعهدهم المتقون مقربون لمكان حب الله تعالى لهم.

ب. وثانيا: أن آثار محبة الله سبحانه هي الخلاق في الآخرة، والتكليم والنظر يوم القيامة، والتزكية والمغفرة، وهي رفع أليم العذاب.

4. الخصال التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء الناقضين لعهد الله وأيمانهم أمور ثلاثة:

أ. أحدها: أنهم لا نصيب لهم في الآخرة، والمراد بالآخرة هي الدار الآخرة (من قيام الوصف مقام الموصوف) ويعني بها الحياة التي بعد الموت كما أن المراد بالدنيا هي الدار الدنيا وهي الحياة الدنيا قبل الموت، ونفي النصيب عنهم في الآخرة لاختيارهم نصيب الدنيا عليه، ومن هنا يظهر أن المراد بالثمن القليل هو الدنيا، وإنما فسرناه فيما تقدم بمتاع الدنيا لمكان توصيفه تعالى إياه بالقليل، وقد وصف به متاع الدنيا في قوله ـ عز من قائل ـ: (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ)، على أن متاع الدنيا هو الدنيا.

ب. ثانيها: أن الله لا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة، وقد حوذي به المحبة ـ الإلهية للمتقين من حيث إن الحب يوجب تزود المحب من المحبوب بالاسترسال بالنظر والتكليم عند الحضور والوصال، وإذ لا يحبهم الله فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة وهو يوم الإحضار والحضور، والتدرج من التكليم إلى النظر لوجود القوة والضعف بينهما، فإن الاسترسال في التكليم أكثر منه في النظر فكأنه قيل: لا نشرفهم لا كثيرا ولا قليلا.

ج. ثالثها: أن الله لا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وإطلاق الكلام يفيد أن المراد بهما ما يعم التزكية والعذاب في الدنيا والآخرة.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/265.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَشْتَرُونَ﴾ يستفيدون ﴿بِعَهْدِ اللهِ﴾ ثمناً قليلاً ﴿وَأَيْمَانِهِمْ﴾ أو يستبدلون بعهد الله ثمناً قليلاً وأيمانهم:

أ. فالأول: من يحلف فاجراً ليحكم له بمال على خصمه.

ب. الثاني: من عاهد وحلف ثم نكث لغرض دنيوي يستفيده بالنكث.

2. الأولى أن الآية عامة للفريقين فالأول بقوله: ﴿وَأَيْمَانِهِمْ﴾ والثاني بقوله تعالى: ﴿بِعَهْدِ اللهِ﴾ والاستفادة والاستبدال كُلُّهُ اشتراءٌ مجاز، قال الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام) في (كتاب الأَيمَان) بعد أن ذكر هذه الآية ما لفظه: (وقوله تعالى: ﴿لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ فهو لا نصيب لهم في ثواب الله في الآخرة، وأما قوله: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾ فمعناه: لا يبشرهم برحمة، ولا يخصهم منه بمغفرة، ولا ينظر إليهم بنعمة، وأما قوله: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ فهو لا يحكم لهم بتزكية، ولا يختم لهم برحمة ولا بركة، ولا يجعلهم في حكمه من الزاكين، ولا عنده من الفائزين)، قال: وهذه الآية نزلت في رجل حلف لرجل عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يميناً فاجرة باطلة فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من حلف على مال أخيه فاقتطعه ظالماً، لقي الله يوم القيامة وهو معرض عنه)

3. ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ﴾ أي لا نصيب لهم، والنصيب: هو المفروض ولو لم يكن أجراً كما في المواريث، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ مجاز عن الغضب، وخصه الإمام الهادي عليه السلام بكلام الرضى عنهم، وهو صحيح لأنه المقصود في السياق، ولأن كلام الاحتجاج عليهم وارد في القرآن، قال تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ [يس: 59 ـ 62] وقال تعالى: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 108 ـ 115]

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/488.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في سبب النزول.

2. إننا ـ في منهجنا التفسيري ـ لا نجد لدينا أيّة نصوص موثقة كثيرة مما رواه الرواة في أسباب النزول، لضعف أسانيد بعضها وإرسال بعضها الآخر فيمكن أن تكون أمورا اجتهادية طرحت بشكل رواية، وأن تكون منطلقة من أجواء معينة، لذلك فإننا لا نعتمدها كموثقة تفسيرية ـ في تفسير القرآن ـ ولكننا نقف عندها، باعتبارها نموذجا من نماذج ذهنية بعض المفسرين القدامى في فهم النص القرآني وتحليله.

3. من خلال هذه الملاحظة نجد أن الروايتين الأوليين(2) أقرب إلى جو النص في الآية من الرواية الثالثة، لأن سياق الآيات هو سياق الحديث عن أهل الكتاب في موقفهم من الرسالة الإسلامية ومن نبوّة النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنكارهم ما جاء في صفته في التوراة في محاولتهم لإخفاء ذلك كله، خلافا لما عاهدوا الله عليه في إيمانهم الديني من تبيانهم الحق الذي أوصى الله به وعدم كتمانه، وهو مظهر لتمردهم على الله في أيمانهم المغلظة ضد النبي والقرآن، ليحصلوا من خلال ذلك على الموقع المميز بين اليهود، لأن دخلوهم في الإسلام وإقرارهم بالحث قد يعرّضهم لفقدان ذلك، لأن جماعتهم سوف يرتبطون بالنبي بشكل مباشر دون غيره من هؤلاء الزعماء الذي عرفوهم بالانحراف والخداع؛ والله العالم.

4. إنّ الحياة الاجتماعية، في كل مجالاتها الحيويّة، ترتكز على أساس المواثيق والعهود التي يفرضها الفرد على نفسه من خلال قناعاته ومرتكزاته وحاجاته، أو تفرضها المجتمعات على نفسها للآخرين، في نطاق الدول أو المؤسسّات أو الجماعات.. وليس لهذه المواثيق والعهود قيمة في الوصول إلى توازن الحياة من خلالها، إلا في نطاق الالتزام بها والوفاء بمقتضياتها، وقد أكّد الله على ذلك في هذه الآية باعتبارها عهدا لله، فمن ينقض أيّ التزام في يمين أو عهد، فإنه ينقض عهد الله وذلك من خلال ما أمر الله به من الوفاء بالعقود في قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]

5. كنّى عن نقض العهد واليمين بالاشتراء بهما ثمنا قليلا، لأنّ الإنسان لا ينقض عهده إلّا لمصلحة مالية أو ذاتية في نطاق آخر، فكأنه يأخذ عوض العهد واليمين ثمنا من مال أو جاه أو شهوة أو غير ذلك مما يريده النّاس من عرض الحياة الدنيا.

6. نلاحظ اهتمام الإسلام الكبير بالعهد أنه ـ في سورة براءة ـ أعلن البراءة من المشركين كافة، واستثنى المعاهدين منهم، وذلك قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾ [التوبة: 4] وقوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ [التوبة: 7] مما يوحي بأن قضية الوفاء بالعهد في الإسلام لا تنظر إلى طبيعة من عاهدته من حيث عقيدته أو التزامه أو سلوكه، وذلك هو قوله تعالى: ﴿لَا خَلَاقَ لَهُمْ﴾، بل تنظر إلى طبيعة التزام المسلم به كخلق إسلامي أصيل يفرض عليه مسئولية لا بدّ له من القيام بها والوقوف عندها؛ مما يعني أن معنى أن تكون مسلما هو أن تلتزم بعهدك لأيّ إنسان كان، فإذا لم تفعل ذلك، فإن عليك أن تتلقى هذا التنديد من الله، فتكون ممن لا خلاق لهم ولا نصيب في الآخرة، لأن نصيب الآخرة هو للّذين حملوا مسئولية الإيمان في الدنيا في‏ ما للناس عليهم من حقوق وواجبات، وتكون ممن لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، بل يطردهم من رحمته، ولا يزكيهم لأنهم لا يملكون أساسا للتزكية، بعد أن كانت نفوسهم غارقة في أجواء الخيانة، ولهم عذاب أليم بما قاموا به من أعمال وجرائم في نقضهم عهد الله وخيانتهم له.

7. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ﴾ الذي عاهدوا الله عليه من حيث إعلانهم التزام الدين الذي آمنوا به من خلال أخلاقيته في الوقوف مع الحق، وإبلاغه للناس، وعدم كتمانه على أساس العقدة الذاتية والطائفية.

8. ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ فاختاروا المتاع الزائل من المال أو الجاه وغيرهما من متاع الدنيا الفانية، وفضلوه على الوفاء بعهد الله والالتزام بالتقوى، لأنهم لم يفكروا تفكيرا دقيقا في نتائج هذا الموقف وتأثيراته السلبية على مستقبلهم في علاقاتهم بالله في الدنيا والآخرة، وأقبلوا على شهواتهم وأطماعهم في عملية استغراق في الذات بعيدا عن الله وميثاقه، ممّا لا يتناسب من حيث حجمه في ذاته مع نعيم الآخرة ولذاتها، لأن ما عند الله خير وأبقى، ورضوان الله أكبر، ولهذا عبّر عن خيارهم الفردي بأنهم أخذوا به الثمن القليل، ولعل التعبير بالاشتراء في اختيارهم جاء على سبيل الكناية من حيث مشابهة ذلك الموقف لعملية البيع والشراء، وإن لم يكن ذلك واردا بالمعنى المصطلح.

9. ﴿أُولَئِكَ﴾ الناس الموجودون في كل زمان ومكان‏ ﴿لَا خَلَاقَ لَهُمْ﴾ في سلوكهم العملي المنحرف على مستوى العقيدة أو على مستوى القضايا العامة والخاصة في العلاقات المالية والاجتماعية بين الناس، ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ أي في الدار الآخرة التي يحصل كل إنسان فيها على نتائج مسئوليته في عمله في الدنيا، إن كان خيرا فخير وإن كان شرّا فشّر، أي لا نصيب لهم ولا حظ في يوم القيامة، مما يحقق للإنسان سعادته وراحته، لأن ذلك هو الجائزة التي ينالها الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق على هدى‏.

10. ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾، فلا يكرمهم بالتكلم معهم بالطريقة الحميمة التي يكلم بها أولياءه، فربما كان التعبير واردا على سبيل الكناية، لأن الكلام مع الشخص يعبّر عن الإقبال عليه والاهتمام به، بينما يمثل ترك الكلام معه إهماله واعتباره شيئا مهملا لا يوحي بأيّة عناية أو رعاية؛ بل قد يكون مظهرا من مظاهر السخط والعقاب.

11. ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي لا يلتفت إليهم التفات المحبّ لمن يحبّه، لأن النظر يمثل الانفتاح على المنظور إليه والاعتناء به، فالفقرة واردة مورد الكناية للتعبير عن الاستهانة بهم والسخط عليهم كما تقول: فلان لا ينظر إلى فلان، تريد بذلك نفي الاهتمام والاعتناء به والاعتداد بوجوده، تماما كما لو لم يكن موجودا كلّيا، وقد أثار صاحب تفسير الكشاف سؤالا حول الموضوع، باعتبار أن الله لا يجوز عليه النظر كما يجوز على الإنسان لأنه ليس جسدا بالمعنى الحسّي للجسد، قال: (فإن قلت: أي فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه؟ قلت: أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان، وإن لم يكن ثمّ نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرّدا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر)

12. ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ أي: لا يثني عليهم، لأن الثناء على المؤمنين العاملين بطاعة الله في خط الاستقامة، وربما جاء في كلام بعض المفسرين أن المراد من التزكية المعنى العملي، أي: لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة، بل تبقى هذه القذارة عليهم ليتحملوا نتائجها السيئة، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الدنيا والآخرة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/115.

(2) يقصد قولالكلبي: إن ناسا من علماء اليهود أولي فاقة أصابتهم سنة فاقتحموا إلى كعب بن الأشرف بالمدينة فسألهم كعب: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله في كتابكم؟.. إلى آخر الرواية.. وكذلك ما قاله عكرمة: نزلت في أبي رافع، ولبابة بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وغيرهم من رؤساء اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من شأن محمد وبدّلوه، وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا أنه من عند الله لئلا يفوتهم الرّشا والمآكل التي كانت لهم على أتباعهم

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جمع من أحبار اليهود وعلمائهم مثل (أبي رافع) و(حي بن أخطب) و(كعب بن أشرف) حين لاحظوا أنّ مراكزهم الاجتماعية بين اليهود معرّضة للخطر، عمدوا إلى العلامات الموجودة في التوراة بشأن خاتم الأنبياء والتي كانوا هم أنفسهم قد دوّنوها بأيديهم في نسخ التوراة، فحرّفوها وأقسموا على أنّ تلك الكتابات المحرّفة من الله، لذلك نزلت هذه الآية وفيها إنذار شديد لهم، وهناك مفسّرون آخرون ذهبوا إلى أنّ هذه الآية نزلت في (أشعث بن قيس) الذي كان يريد استملاك أرض لغيره عن طريق الكذب والتزوير، وعند ما تهيّألأداء اليمين لتوثيق ادّعائه نزلت الآية، فاستولى الخوف على أشعث واعترف بالحقّ وأعاد الأرض لصاحبها.

2. تشير الآية إلى جانب آخر من آثام اليهود وأهل الكتاب، ولكونها وردت بصيغة عامّة، فإنّها تشمل كلّ من تنطبق عليه هذه الصفات.

3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي الذين يجعلون عهودهم مع الله والقسم باسمه المقدّس موضع بيع وشراء لقاء مبالغ مادّية، سيكون جزاءهم خمس عقوبات:

أ. أحدها: أنّهم سوف يحرمون من نعم الله التي لا نهاية لها في الآخرة ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ﴾

ب. ثمّ إنّ الله يوم القيامة يكلّم المؤمنين ولكنّه لا يكلّم أمثال هؤلاء ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾

ج. كما إنّ الله سوف لا ينظر إليهم بنظر الرحمة واللطف يوم القيامة ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، ومن ذلك يعلم أن الله تعالى في ذلك اليوم يتكلم مع عباده المؤمنين (سواء مباشرة أو بتوسط الملائكة) ممّا يجلب لهم السرور والفرح ويكون دليلا على عنايته بهم ورعايته لهم، وكذلك النظر إليهم، فهو إشارة إلى العناية الخاصّة بهم، وليس المقصود انظر الجسماني كما توهم بعض الجهلاء، أمّا الأشخاص الذين باعوا آيات الله بثمن مادي فلا يشملهم الله تعالى بعنايته، ولا بمحادثته.

د. ولا يطهّرهم من ذنوبهم‏ ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾

هـ. وأخيرا سيعذّبهم عذابا شديدا ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾

4. ليس المقصود من (الثمن القليل) أن الإنسان إذا باع العهد الإلهي بثمن كثير فيجوز له ذلك، بل المقصود أي ثمن مادّي يعطى مقابل ارتكاب هذه الذنوب الكبيرة، حتّى وإن كان هذا الثمن يتمثّل في رئاسات كبيرة وواسعة، فهي مع ذلك قليلة.

5. بديهيّ أنّ كلام الله ليس نطق اللسان، لأنّ الله منزّه عن التجسّد، إنّما الكلام عن طريق الإلهام القلبي، أو عن طريق إحداث أمواج صوتية في الفضاء، كالكلام الذي سمعه موسى عليه السّلام من شجرة الطور.

6. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه العواقب الخمس المترتّبة على (نقض العهد) و(الأيمان الكاذبة) المذكورة في هذه الآية ربّما تكون إشارة إلى مراحل (القرب والبعد) من الله.. فمن يقترب من الله ويدنو من ساحة قربه تشمله مجموعة من النعم الإلهيّة المعنوية، فإذا ازداد اقترابا كلّمه الله، وإن دنا أكثر نظر إليه الله نظرة الرحمة، وإن اقترب أكثر طهّره الله من آثار ذنوبه، وأخيرا ينجو من العذاب الأليم وتغمره نعم الله، أمّا الذين يسيرون في طريق نقض العهود واستغلال اسم الله بشكل غير مشروع، فيحرمون من كلّ تلك النعم ويتراجعون مرحلة بعد مرحلة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/564.

39. المحرفون والكذب على الله

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈39⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 78]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ هم اليهود، كانوا يزيدون في كتاب الله ما لم ينزل الله(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥٢٢.

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ يحرفونه عن مواضعه(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٢٦٥.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ هم أهل الكتاب، كلهم قد كذبوا على الله، وحرفوا الكلم عن مواضعه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٩٠.

منبه:

روي عن وهب بن منبه (ت 114 هـ) أنّه قال: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله لم يغير منهما حرف، ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم، ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾، فأما كتب الله فهي محفوظة لا تحول(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٢٦٦.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ هم أعداء الله اليهود، حرفوا كتاب الله، وابتدعوا فيه، وزعموا أنه من عند الله(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥٢٢.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ معناه يقلبونها ويحرّفونها(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: إن ناسا من علماء اليهود أولي فاقة أصابتهم سنة، فاقتحموا إلى كعب بن الأشرف بالمدينة، فسألهم كعب: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله في كتابكم؟ قالوا: نعم، وما تعلمه أنت؟ قال لا، فقالوا: فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله، قال لقد حرمكم الله خيرا كثيرا، لقد قدمتم علي وأنا أريد أن أميركم، وأكسو عيالكم، فحرمكم الله وحرم عيالكم، قالوا: فإنه شبه لنا، فرويدا حتى نلقاه، فانطلقوا، فكتبوا صفة سوى صفته، ثم انتهوا إلى نبي الله، فكلموه وسألوه، ثم رجعوا إلى كعب، وقالوا: لقد كنا نرى أنه رسول الله، فلما أتيناه إذا هو ليس بالنعت الذي نعت لنا، ووجدنا نعته مخالفا للذي عندنا، وأخرجوا الذي كتبوا، فنظر إليه كعب، ففرح، ومارهم، وأنفق عليهم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية(1).

__________

(1) الواحدي في أسباب النزول،/٢٣٧.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ فريق من أهل الكتاب يلوون ألسنتهم، وذلك تحريفهم إياه عن موضعه(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥٢٣.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ﴾ يعني: من اليهود ﴿لَفَرِيقًا﴾ يعني طائفة، منهم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وأبو ياسر، وجدي بن أخطب، وشعبة بن عمرو ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ يعني باللي: التحريف بالألسن في أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني: التوراة، ﴿وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ كتبوا ـ يعني: من التوراة ـ غير نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومحوا نعته، ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ﴾ هذا النعت ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ ولكنهم كتبوه، ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم كذبة، وليس ذلك نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٨٦.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ أي: كانوا يحرفون ألسنتهم بالكتاب على التعظيم والتبجيل، ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي: كانوا يحرفون نعته ـ عليه أفضل الصلوات ـ وصفته، ثم يتلونه على التعظيم والتبجيل؛ ليحسبوه من الكتاب المنزل من السماء، وما هو من الكتاب الذي أنزل من السماء.

2. {وَيَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ‏} وهو كقوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: 79]، ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم يكذبون على الله، وأن ذلك ليس هو من عند الله.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/415.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في العهد في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: ما أوجب الله تعالى على الإنسان من طاعته وكفّه عن معصيته.

ب. الثاني: ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق.

2. ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾، وفي أصل الخلاق قولان:

أ. أحدهما: أن أصله من الخلق بفتح الخاء وهو النفس، وتقدير الكلام لا نصيب لهم.

ب. الثاني: أن أصله الخلق بضم الخاء لأنه نصيب مما يوجبه الخلق الكريم.

3. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: لا يكلمهم الله بما.

ب. الثاني: لا يمن عليهم.

4. ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ أي لا يقضي بزكاتهم.

5. اختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنها نزلت في قوم من أحبار اليهود: أبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب كتبوا كتابا بأيديهم، ثم حلفوا أنه من عند الله فيما ادعوا به ليس عليهم في الأميين سبيل، وهو قول الحسن، وعكرمة.

ب. الثاني: أنها نزلت في الأشعث وخصيم له تنازعا في أرض، فقام ليحلف، فنزلت هذه الآية، فنكل الأشعث واعترف بالحق.

ج. الثالث: أنها نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة في تنفيق سلعته في البيع، وهذا قول عامر، ومجاهد.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/404.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ﴾ الكناية بالهاء والميم راجعة على أهل الكتاب في قوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ} في قول جميع المفسرين: الحسن وغيره.

2. ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾ قال مجاهد، وقتادة، وابن جريج، والربيع: معناه يحرفونه بالتغيير والتبديل، وأصل الليّ: الفتل من قولك لويت يده إذا فتلتها قال الشاعر: (لوى يده الله الذي هو غالبه)، ومنه لويت العمود إذا ثنيته وقال الآخر: (نحون مالي ظالماً ولوى يدي!)، ومنه لويت الغريم لياً ولياناً إذا مطلته حقه قال الشاعر:

çتطيلين لياني وأنت ملية...واحسن يا ذات الوشاح التقاضياé

فقيل لتحريف الكلام بقلبه عن وجهه: ليّ اللسان به، لأنه قتله عن جهته.

3. ﴿لَفَرِيقًا﴾ نصب بأنه اسم (ان) واللام لام التأكيد ويجوز دخولها على اسم (ان) إذا كان مؤخراً، فان قدم لم يجز دخولها عليه، لا تقول: ان لزيداً في الدار، وإنما امتنع ذلك لئلا يجتمع حرفا التأكيد، لأن (ان) للتأكيد واللام للتأكيد أيضاً فلم يجز الجمع بينهما لئلا يتوهم اختلاف المعنى، كما لم يجز دخول التعريف على التعريف، والتأنيث على التأنيث، فأما قولهم: جاءني القوم كلهم أجمعون، فكل تأكيد للقوم وأجمعون تأكيد لكل.

4. ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ معناه لتظنوه، والفرق بين حسبت وزعمت: أن زعمت يحتمل أن يكون يقيناً أو ظناً، وحسبت لا يحتمل اليقين أصلا.

5. ﴿أَلْسِنَتُهُمْ﴾ جمع لسان على التذكير كحمار وأحمرة، ويقال ألسن على التأنيث كعناق وأعنق.

6. في قوله تعالى: {وَما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله بخلاف ما تقوله المجبرة، ولا من فعله، لأنها لو كانت من فعله، لكانت من عنده، وليس لهم أن يقولوا إنها من عنده خلقاً وفعلا، وليست من عنده إنزالا ولا أمراً، وذلك أنها لو كانت من عنده فعلا أو خلقاً، لكانت من عنده على آكد الوجوه فلم يجز إطلاق النفي بأنها ليست من عند الله، وكما لا يجوز أن تكون من عند الله من وجه من الوجوه، لإطلاق النفي بأنه ليس من عند الله، فوجب العموم فيها بإطلاق النفي.

7. سؤال وإشكال: أليس الايمان عندكم من عنده، ومع ذلك ليس من عنده من كل الوجوه، فهلا جاز مثل ذلك في تأويل الآية؟ والجواب: لا يجوز ذلك، لأن اطلاق النفي يوجب العموم، وليس كذلك اطلاق الإثبات ألا ترى أنك تقول: ما عندي طعام، فإنما تنفي القليل، والكثير، وليس كذلك إذا قلت عندي طعام، لأنه لا يجب أن يكون عندك جميع الطعام فبان الفرق بين النفي والإثبات.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/509.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 497 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. اللَّيُّ: الفتل، يقال: لويت بيده إذا فتلتها، ومنه لويت الغريم إذا مطلته؛ لأنك فتلته عنه، قال أبو مسلم: ولي اللسان: أخرجه مخرج الذم لهم، ولولا ذلك لوصفهم بالتلاوة والقراءة، وقد يكون لفظ ذمٍّ، ولفظ مدحٍ، كما تقول لمن أكثر الكلام: خطيبٌ مِسْقَعٌ، فيكون مدحًا، ويقال: مَهذار، فيكون ذمّاً، قال الشاعر: (لوى يده الله الذي هو غَالِبُهْ)

ب. الألسنة: جمع لسان كحمار وأَحْمِرَة، وهو جمع التذكير، وألسن على التأنيث كعناق وأعنق.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وجماعة من أحبار اليهود وأشرافهم.

ب. وقيل: نزلت في اليهود والنصارى حرفوا التوراة والإنجيل، وألحقوا به ما ليس منه، وأسقطوا منه الدين الحنيف، وأضافوها إلى الله تعالى فكذبهم الله، عن ابن عباس.

3. ثم أعلم الله تعالى نبيه ما هم عليه من المخالفة والكذب فقال تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ﴾ يعني من أهل الكتاب، وقد مضى ذكرهم عند قوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ عن الحسن وسائر أهل العلم ﴿لَفَرِيقًا﴾ طائفة، وهم أحبارهم ورؤساؤهم.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾:

أ. قيل: يحرفونه بالتغيير والتبديل، عن مجاهد وقتادة وابن جريج والربيع.

ب. وقيل: يفسرونه بخلاف الحق.

ج. وقيل: يحرفون الكلام ويعدلونه عن القصد.

5. ﴿بِالْكِتَابِ﴾ يعني بالتوراة فيغيرون صفة محمد وآية الرجم ونحوه، ويقرؤونه في أثناء التوراة ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾ لتظنوه ﴿مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ وما هو المنزل على موسى ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ أي هو أنزلَه ﴿وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ أي لم ينزله ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ في ذلك ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾:

أ. قيل: يعلمون أنهم كاذبون.

ب. وقيل: يعلمون ما عليهم في ذلك من العقاب.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. عظيم إثم من يلبس ما في الدين؛ لذلك ذمهم على التحريف، ثم التحريف على ضربين: تحريف في اللفظ، وتحريف في المعنى:

أمَّا التحريف في اللفظ فلا بد أن يحصل من جماعة يجوز عليهم التواطؤ.

وأما في المعنى بأن يفسر على خلاف الصواب، فيجوز لأجل الشبهة أن يذهب إليه جماعة كبيرة، كما حصل من مبتدعة هذه الأمة في معاني القرآن.

ب. قبح التلبيس في جميع ما يتعلق بأمور الدين والحقوق وما يوهم الكذب؛ لأن جميعه من باب التحريف.

ج. بطلان الجبر من حيث نفى أن يكون ذلك من المحرف عنده، ولو كان ذلك خَلْقَهُ وإرادَتَه لكان من عنده حقيقة، وكان لا يصح فيه.

د. أن المعارف ليست ضرورة لذلك خص فريقًا بالعناد.

هـ. أن العالم بالشيء قد يكابر، ويظهر خلاف ما يعلم، وقد ثبت أنه يجوز على الجماعة اليسيرة دون الكثير.

7. قراءة العامة ﴿يَلْوُونَ﴾ بواوين وسكون اللام وفتح الياء، وعن بعضهم ﴿يَلْوُونَ﴾ بضم الياء وفتح اللام وتشديد الواو، وعن حميد: (يَلون) بواو واحدة على نية الهمز، ثم تركت الهمزة، ونقلت حركتها إلى اللام.

8. اللام في قوله: ﴿لَفَرِيقًا﴾ هو اللام الذي يدخل في جواب ﴿أَنْ﴾، و﴿أَنْ﴾ تدخل للتأكيد، وكذلك اللام للتأكيد، ولا يجمع بين تأكيدين في كلام واحد، فنقل اللام إلى الخبر في اسم ﴿أَنْ﴾ فقيل: إن زيدًا لعالم، ومتى فصل بين حرف ﴿أَنْ﴾ وبين اسمه بشيء جاز إدخال اللام في الاسم؛ لأنه لا يؤدي إلى الجمع بين تأكيدين، فلذلك أدخل اللام في قوله: ﴿لَفَرِيقًا﴾

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/287.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. أصل اللي: القتل من قولك: لويت يده: إذا فتلتها، ومنه لويت الغريم لويا وليانا: إذا مطلته حقه، قال الشاعر: تطيلين لياني، وأنت ملية... وأحسن، يا ذات الوشاح، التقاضيا ومنه الحديث: لي الواجد ظلم.

ب. الألسنة: جمع اللسان على التذكير، كحمار وأحمرة، ويقال: ألسن على التأنيث، كعناق وأعنق.

ج. الفرق بين حسبت وزعمت: أن زعمت يحتمل أن يكون يقينا وظنا، وحسبت لا يحتمل اليقين أصلا.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في جماعة من أحبار اليهود، كتبوا بأيديهم ما ليس في كتاب الله، من نعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وغيره وأضافوه إلى كتاب الله.

ب. وقيل: نزلت في اليهود والنصارى، حرفوا التوراة والإنجيل، وضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وألحقوا به ما ليس منه، وأسقطوا منه الدين الحنيف، عن ابن عباس.

3. ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ﴾ أي: من أهل الكتاب، وهو عطف على قوله: (وإن من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار)، ﴿لَفَرِيقًا﴾ أي: طائفة ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾:

أ. قيل: معناه: يحرفون الكتاب عن جهته، ويعدلون به عن القصد بألسنتهم، فجعل الله تحريف الكتاب عن الجهة ليا باللسان، وهذا قول مجاهد وقتادة وابن جريج والربيع.

ب. وقيل: يفسرونه بخلاف الحق.

4. ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي: لتظنوه أيها المسلمون من كتاب الله تعالى، ﴿وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ المنزل على موسى، ولكنهم يخترعونه ويبتدعونه، ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ وفي هذا دليل على أن المعاصي ليست من عند الله، ولا من فعله، لأنها لو كانت من فعله، لكانت من عنده، على آكد الوجوه، فلم يجز إطلاق النفي بأنها ليست من عند الله، وكما لا يجوز أن يكون من الكتاب على وجه من الوجوه لإطلاق النفي بأنه ليس من الكتاب كله، لا يجوز أن يكون من عند الله، لإطلاق النفي بأنه ليس من عند الله.

5. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ في نسبتهم ذلك إلى الكتاب، ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾:

أ. أن ذلك كذب.

ب. وقيل: وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من العقاب.

6. ﴿لَفَرِيقًا﴾: نصب بأنه اسم ﴿إنّ﴾، واللام: للتأكيد على اسم ﴿أَنْ﴾ إذا كان مؤخرا، ولا يجوز: إن لزيدا في الدار، لئلا يجتمع حرفا تأكيد، كما لا يجوز دخول التعريف على التعريف، فأما قولهم: جاءني القوم كلهم أجمعون، فكلهم: تأكيد للقوم، وأجمعون: تأكيد للكل.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/780.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ﴾ هي كلمة مؤكّدة، واللام في قوله: (لفريقا) توكيد زائد على توكيد (إنّ)، قال ابن قتيبة: ومعنى‏ ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾: يقلبونها بالتّحريف والزّيادة.

2. الألسنة: جمع لسان، قال أبو عمرو: اللسان يذكّر ويؤنّث، فمن ذكّره جمعه: ألسنة، ومن أنّثه، جمعه: ألسنا، وقال الفرّاء: اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكّرا، وتقول: سبق من فلان لسان، يعنون به الكلام، فيذكّرونه، وأنشد ابن الأعرابيّ:

çلسانك معسول ونفسك شحّة...وعند الثّريّا من صديقك مالكاé

وأنشد ثعلب‏:

çندمت على لسان كان منّي‏...فليت بأنّه في جوف عكم‏é

والعكم: العدل، ودلّ بقوله: كان منّي، على أن اللسان الكلام، وأنشد ثعلب:

çأتتني لسان بني عامر...أحاديثها بعد قول نكرé

فأنّث لسان، لأنه عنى الكلمة والرّسالة.

__________

(1) زاد المسير: 1/298.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَمِنَ الْكِتابِ} تدل على أن الآية المتقدمة نازلة في اليهود بلا شك لأن هذه الآية نازلة في حق اليهود وهي معطوفة على ما قبلها، فهذا يقتضي كون تلك الآية المتقدمة نازلة في اليهود أيضاً.

2. (اللي) عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج، يقال: لويت يده، والتوى الشيء إذا انحرف والتوى فلان علي إذا غير أخلاقه عن الاستواء إلى ضده، ولوى لسانه عن كذا إذا غيره، ولوى فلاناً عن رأيه إذا أماله عنه، وفي الحديث: (لي الواجد ظلم)، وقال تعالى: ﴿وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ [النساء: 46]

3. في تأويل الآية وجوه:

أ. الأول: قال القفال قوله‏ ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾ معناه وأن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفاً يتغير به المعنى، وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية، فلما فعلوا مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من التوراة كان ذلك هو المراد من قوله تعالى: ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾ وهذا تأويل في غاية الحسن.

ب. الثاني: نقل عن ابن عباس أنه قال إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم كتبوا كتاباً شوشوا فيه نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم قالوا ﴿هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾

4. لي اللسان تثنيه بالتشدق والتنطع والتكلف وذلك مذموم فعبّر الله تعالى عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلى اللسان ذماً لهم وعيباً ولم يعبر عنها بالقراءة، والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد، فيقولون في المدح: خطيب مصقع، وفي الذم: مكثار ثرثار، فقوله:‏ ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ المراد قراءة ذلك الكتاب الباطل، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله:‏ ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ [البقرة: 79] ثم قال: {وَما هُوَمِنَ الْكِتابِ‏} أي وما هو الكتاب الحق المنزّل من عند الله.

5. سؤال وإشكال: إلى ما يرجع الضمير في قوله‏ ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾؟ والجواب: إلى ما دل عليه قوله‏ ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾ وهو المحرّف.

6. سؤال وإشكال: كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس؟، والجواب: لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل، يجوز عليهم التواطؤ على التحريف، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكنا، والأصوب عندي في تفسير الآية وجه آخر وهو أن الآيات الدالة على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب، والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين، واليهود كانوا يقولون: مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم، فكان هذا هو المراد بالتحريف وبلي الألسنة وهذا مثل ما أن المحق في زماننا إذا استدلّ بآية من كتاب الله تعالى، فالمبطل يورد عليه الأسئلة والشبهات ويقول: ليس مراد الله ما ذكرت، فكذا في هذه الصورة.

7. ثم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} من الناس من قال إنه لا فرق بين قوله: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَمِنَ الْكِتابِ} وبين قوله: {وَيَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} [آل عمران: 78] وكرر هذا الكلام بلفظين مختلفين لأجل التأكيد، أما المحققون فقالوا: المغايرة حاصلة:

أ. وذلك لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله، فإن الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب، وتارة بالسنة، وتارة بالإجماع، وتارة بالقياس والكل من عند الله، فقوله: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَمِنَ الْكِتابِ} هذا نفي خاص، ثم عطف عليه النفي العام فقال: {وَيَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ}

ب. وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة، ويكون المراد من قولهم: هو من عند الله، أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أشعياء، وأرمياء، وحيقوق، وذلك لأن القوم في نسبة ذلك التحريف إلى الله كانوا متحيرين، فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبله الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنه من التوراة، وإن وجدوا قوما عقلاء أذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين جاؤوا بعد موسى عليه السلام.

8. احتج الجبائي والكعبي به على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى فقالا: لو كان لي اللسان بالتحريف والكذب خلقاً لله تعالى لصدق اليهود في قولهم: إنه من عند الله ولزم الكذب في قوله تعالى: إنه ليس من عند الله، وذلك لأنهم أضافوا إلى الله ما هو من عنده، والله ينفي عن نفسه ما هو من عنده، ثم قال وكفى خزياً لقوم يجعلون اليهود أولى بالصدق من الله قال ليس لأحد أن يقول المراد من قولهم {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَمِنَ الْكِتابِ} وبين قوله: {وَيَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} فرق، وإذا لم يبق الفرق لم يحسن العطف، وأجاب الكعبي عن هذا السؤال أيضاً من وجهين آخرين:

أ. الأول: أن كون المخلوق من عند الخالق أوكد من كون المأمور به من عند الآمر به، وحمل الكلام على الوجه الأقوى أولى.

ب. الثاني: أن قوله {وَما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} نفي مطلق لكونه من عند الله وهذا ينفي كونه من عند الله بوجه من الوجوه، فوجب أن لا يكون من عنده لا بالخلق ولا بالحكم.

9. قول الجبائي لو حملنا قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ على أنه كلام الله لزم التكرار، فجوابه ما ذكرنا أن قوله {وَما هُوَمِنَ الْكِتابِ} معناه أنه غير موجود في الكتاب وهذا لا يمنع من كونه حكماً لله تعالى ثابتاً بقول الرسول أو بطريق آخر فلما قال: {وَما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} ثبت نفي كونه حكماً لله تعالى وعلى هذا الوجه زال التكرار.

10. الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما الكعبي فجوابه، أن الجواب لا بد وأن يكون منطبقاً على السؤال، والقوم ما كانوا في ادعاء أن ما ذكروه وفعلوه خلق الله تعالى، بل كانوا يدعون أنه حكم الله ونازل في كتابه، فوجب أن يكون قوله: ﴿وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ عائداً إلى هذا المعنى لا إلى غيره، وبهذا الطريق يظهر فساد ما ذكره في الوجه الثاني.

11. ثم قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ والمعنى أنهم يتعمدون ذلك الكذب مع العلم، واعلم أنه إن كان المراد من التحريف تغيير ألفاظ التوراة، وإعراب ألفاظها، فالمقدمون عليه يجب أن يكونوا طائفة يسيرة يجوز التواطؤ منهم على الكذب، وإن كان المراد منه تشويش دلالة تلك الآيات على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بسبب إلقاء الشكوك والشبهات في وجوه الاستدلالات لم يبعد إطباق الخلق الكثير عليه.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/270.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ أبو جعفر وشيبة ﴿يَلْوُونَ﴾ على التكثير، إذا أماله، ومنه والمعنى يحرفون الكلم ويعدلون به عن القصد، وأصل اللي الميل، لوى بيده، ولوى برأسه قوله تعالى: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ [النساء] أي عنادا عن الحق وميلا عنه إلى غيره، ومعنى ﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ [آل عمران] أي لا تعرجون عليه، يقال لوى عليه إذا عرج وأقام، واللي المطل، لواه بدينه يلويه ليا وليانا مطله، قال:

çقد كنت داينت بها حسانا...مخافة الإفلاس واللياناé

يحسن بيع الأصل والعيانا، وقال ذو الرمة:

çتريدين لياني وأنت ملية...وأحسن يا ذات الوشاح التقاضياé

وفي الحديث: (لي الواحد يحل عرضه وعقوبته)

2. ألسنة جمع لسان في لغة من ذكر، ومن أنث قال ألسن.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/122.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ أي: طائفة من اليهود يلوون، أي: يحرّفون ويعدلون به عن القصد، وأصل الليّ: الميل، يقول لوى برأسه: إذا أماله، وقرئ: يلوّون بالتشديد، ويلون بقلب الواو همزة، ثم تخفيفها بالحذف.

2. الضمير في قوله: ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾ يعود إلى ما دل عليه‏ ﴿يَلْوُونَ﴾ وهو المحرف الذي جاؤوا به، قوله: {وَما هُوَمِنَ الْكِتابِ‏} جملة حالية، وكذلك قوله: {وما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ‏} وكذلك قوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي: أنهم كاذبون مفترون.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/407.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال ابن كثير: يخبر تعالى عن اليهود، عليهم لعائن الله، أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون كلام الله، ويزيلونه عن المراد به ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك، وينسبونه إلى الله، وهو كذب على الله، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله، ولهذا قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

2. قال مجاهد والشعبيّ والحسن وقتادة والربيع بن أنس: يلوون ألسنتهم بالكتاب، ويحرفونه، وهكذا روى البخاريّ عن ابن عباس‏ أنهم يحرفون: ويزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله عز وجل، ولكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله، وقال وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منها حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، فأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول، رواه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير:

أ. إن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك، فلا شك أنه‏ قد دخلها التبديل والتحريف والزّيادة والنقص، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ونقصان ووهم فاحش، وهو من باب تفسير المعرّب المعبّر، وفهم كثير منهم فاسد.

ب. وأما إن عنى كتب الله التي هي كتبه من عنده، فتلك كما قال محفوظة لم يدخلها شيء.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/340.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ﴾ من أهل الكتاب، ﴿لَفَرِيقًا﴾ ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحُيي بن الأخطب بالتصغير، وأبي ياسر، وشعبة بن عامر الشاعر، ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ﴾ التوراة، ينطقون بكلمة من عندهم من الباطل بدل كلمة من الحقِّ فيها، أو يضمُّونها إليها بحيث يتغيَّر المعنى، ويوهمون أنَّ ذلك من التوراة إذ صوَّروه مثلها، أو يُسقِطون كلمة بلا زيادة أخرى، أو بالتأويل الباطل، والباء للملابسة، أو بمعنى (في)، أو صلة، أو للآلة.

2. واللَّيُّ: التحريف عند مجاهد، وقيل: أصله الفتل، ومنه لويت الغريم، أي: مطلته؛ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لَيُّ الواجدِ ظُلمٌ)، يلوون ألسنتهم بالتحريف، قيل: يميلون ألسنتهم بالمتشابه.

3. ﴿لِتَحْسِبُوهُ﴾ أي: لتظنُّوا أيُّها المؤمنون أو أيُّها الناس مطلقا ما فعلوا، ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ التوراة، ﴿وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ﴾ تارة يقولون: هو من الكتاب، وتارة يقولون: هو من عند الله، أي: من التوراة المنزلة من عند الله، أو من سائر وحي الله من مطلق كتبه، أو في غير كتاب، يعالجون إيهام الناس بكلِّ وجه أمكن، ﴿وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ﴾ أمرا أو إنزالا في كتاب، ولو كان من عنده خلقا؛ لأنَّ أفعال الخلق ولو معاصي مخلوقةٌ من الله، ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ المذكور وغيره من سائر ما يفترونه على الله، ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّهم كاذبون فيما قالوا، ردَّ عليهم لعنهم الله بقوله: ﴿لِتَحْسِبُوهُ﴾، وقوله: ﴿وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾، وقوله: ﴿وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ﴾، وقوله: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾، وشنَّع عليهم بتصريحهم بأنَّه من عند الله زيادة على تلويحهم وإيهامهم، وبأنَّهم عامدون الكذب، وقيل: الآية في النصارى أيضًا، لأنَّهم حرَّفوا أيضًا الإنجيل.

4. الآية ظاهرة في أنَّ الكذب يكون بعمد وبلا عمد، وفي قوله: ﴿وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ﴾ تأكيد لقوله: ﴿وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾، وعن ابن عبَّاس: هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيَّروا التوراة وكتبوا كتابا بدَّلوا فيه صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (شرار الناس شرار العلماء)، فإنَّ هذا الإفساد نشأ من الأحبار والرهبان، والتحريف في بعض نسخ التوراة دون بعض، وتارة يحرِّفون بالكتابة فيها وتارة بالنطق دونها، وكذا الإنجيل إذا جاءهم ما يكرهون غيَّروا معناه بالخطِّ عليه، أو بزيادة ما أرادوا، أو بأن لا يقرؤوه، كما قال عبد الله بن سلام لقارئ التوراة عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في شأن الرجم: (اِرفع يدك)، وقد غطَّى بها على آية الرجم، فرفع فظهرت، لا كما زعم بعض أنَّه لا يقع التحريف إِلَّا باللسان، وبسطتُّ في (قذى العين على أهل الغين) كلامًا ردًّا على كافر إنكليزي.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/306.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)::

1. ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ بيان لحال طائفة أخرى من أهل الكتاب والجمهور، على أن المراد بهذا الفريق بعض علماء اليهود الذين كانوا حوالي المدينة وإن كان التشنيع عليهم يتناول كل من كان على شاكلتهم منهم ومن غيرهم، ويروون عن ابن عباس أن هذا الفريق هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف أحد زعمائهم الملحين في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإيذائه والإغراء به، غيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم وجعلوا يلوون ألسنتهم بقراءته يوهمون الناس أنه من التوراة.

2. هذا العمل ينبئ بفساد اعتقادهم وعدم استمساكهم بكتابهم، وذلك أنهم جعلوا الدين جنسية وصار الانتصار له عندهم عبارة عن مقاومة من لم يكن من جنسهم وإن كان أقرب منهم إلى ما جاء في كتابهم بل إنهم يخرجون عن كتابهم ويحرفونه لمقاومة الغريب ويعدون ذلك انتصارا له.

3. وهكذا يفعل أشباههم من المسلمين اليوم، فقد يعدون من أنصار الدين والمتعصبين له من لا معرفة له بعقائده وأصوله ولا بفروعه إلا ما هو مشهور عند العامة، ولا هو يعمل بما يعلم من ذلك وإنما يعدونه كذلك إذا هو عادى من لا يعدون من المسلمين ولو بسبب سياسي أو دنيوي لا علاقة له بالإسلام، بل يعدون من أنصار الدين من يطعن في بعض المصلحين من المسلمين لمخالفتهم ما عليه العامة، والمقلدون فيما يعدونه من الإسلام لأنهم اعتادوه لا لأن كتاب الله جاء به، وقد يحرفون القرآن بالتأويل لتأييد تقاليدهم وبدعهم أو يعرضون عنه اعتذارا بأنهم غير مطالبين بأخذ دينهم منه بل من كلام العلماء.

4. لَيُّ اللسان بالكتاب هو فتله للكلام وتحريفه بصرفه عن معناه إلى معنى آخر، وقد وصف تعالى به اليهود في سورة النساء بقوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ [النساء: 46] فهذا مثال من لي اللسان بالكلام وإن لم يكن من الكتاب، ذلك أنهم وضعوا كلمة ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ مكان جملة (لا أسمعت مكروها) الدعائية التي تقال عادة عند ذكر السماع، وكلمة ﴿رَاعِنَا﴾) مكان كلمة ﴿انْظُرْنَا﴾ التي يقولها الناس لمن يطلبون معونته ومساعدته وإنما قالوا ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ لأنها تستعمل في الدعاء على المخاطب بمعنى (لا سمعت)، وقالوا: ﴿رَاعِنَا﴾ لأن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها كما قال المفسرون وسيأتي تفصيل ذلك في محله، ومثل هذا ما ورد في كتب الحديث والسير من أنهم كانوا إذا سلموا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يمضغون كلمة السلام فيخفون اللام قائلين (السام عليكم) غير مفصحين بالكلمة والسام الموت.

5. اللي والتحريف قد كان يكون منهم أحيانا بتغيير في اللفظ وأحيانا بصرفه إلى غير المعنى المراد منه، ومنه أن يقرأ القارئ شيئا بالكيفية التي يقرأ بها الكتاب من جرس الصوت وطريقة النغم وإظهار الخشوع ليحسبه السامع من الكتاب فيقبله، ولا أذكر أن أحدا نبه عليه، ولفظ اللي يتناوله وهو مما يتبادر إلى أذهان الموهمين، وقد رأينا من المتساهلين في المسلمين من يأتيه مازحا بأن يقرأ من كتاب ما جملا بالتجويد الذي يقرأ به القرآن ليوهم الجاهل أو يختبره، ويروى أن عبد الله بن رواحة أوهم امرأته بمثل ذلك وهو مما لا يصدق على صحابي جليل مثله.

6. قال محمد عبده: هذا اللي هو أن يعطي الناس للفظ معنى آخر غير المعنى الذي يظهر منه، مثال ذلك الألفاظ التي جاءت على لسان سيدنا عيسى عليه السلام ككلمة ابن الله وتسمية الله أبا وأبا للناس فقد كان ذلك استعمالا مجازيا، ولواه بعضهم فنقله إلى الحقيقة بالنسبة إلى المسيح وحده أي فهم يفسرون لفظا بغير معناه المراد في الكتاب يوهمون الناس أن الكتاب جاء بذلك كما قال: ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

7. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم كاذبون، أكد الخبر بتعمدهم التحريف وسجل الكذب الصريح عليهم، كأنه يقول إنهم لا يعرضون ولا يورون وإنما يصرحون بالكذب تصريحا لفرط جراءتهم وعدم خوفهم من الله تعالى، لأن الدين عندهم رسم ظاهر وجنسية هي مصدر الغرور، إذ يعتقدون أنهم يغفر لهم جميع ما يجترمون لأنهم من أهل هذا الدين، ومن سلالة أولئك النبيين، وهكذا حال الذين اتبعوا سننهم من المسلمين، يقولون إن المسلم من أهل الجنة حتما، مهما كانت سيرته سيئة وعمله قبيحا، فإن لم تدركه الشفاعات أدركته المغفرة، ويعنون بالمسلم من اتخذ الإسلام جنسا له، وإن لم يصدق عليه ما جاء في الكتاب والأحاديث من صفات المؤمنين الصادقين، بل صدق عليه ما جاء في وصف الكافرين والمنافقين.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/345.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله تعالى في هذه الآية حال طائفة ثالثة من أهل الكتاب، وهم بعض علماء اليهود الذين كانوا حول المدينة، ومن لفّ لفّهم وسار على طريقهم افتعلوا نوعا آخر من الخيانة في الدين بالافتراء على الله ما لم يقله.

2. ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي وإن طائفة من اليهود ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما، يفتلون ألسنتهم‏ بقراءته فيميلونها عن المنزّل إلى المحرّف لتظنوا أيها المسلمون أن ذلك المحرف من كلام الله وتنزيله وما هو من عند الله، ولكنه من عند أنفسهم، وقد جاء في كتب السيرة والحديث أن اليهود كانوا إذا سلموا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يمضغون كلمة (السلام) فيخفون اللام، ويقولون (السام عليكم) غير مفصحين بالكلمة لأنهم يريدون معنى السام وهو الموت، وجاء في سورة النساء قوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ فهؤلاء وضعوا (غير مسمع) مكان (لا أسمعت مكروها) التي تقال عادة عند الدعاء (وراعنا) مكان (انظرنا) التي يقولها الناس لمن ينتظرون معونته ومساعدته، وإنما قالوا (غير مسمع) لأنها قد تستعمل في الدعاء على المخاطب بمعنى لا سمعت وقالوا (راعنا) لأن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابّون بها.

3. ثم أكد ما سبق بقوله: {ويَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} أي إنهم كاذبون فيما يقولون، وفي هذا تشنيع عليهم بأن الجرأة قد بلغت بهم حدا عظيما، فهم لم يكتفوا بالتعريض والتورية بل يصرحون بنسبته إلى الله كذبا لعدم خوفهم منه، واعتقادهم أنه يغفر لهم جميع ما يجترحون من الذنوب لأنهم من أهل ذلك الدين، وليس ذلك بالغريب عليهم، فإنا نرى كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم من أهل الجنة حتما مهما أصاب من الذنوب، لأنه إن لم تدركه الشفاعة أدركته المغفرة، ويجلى اعتقادهم ذلك قولهم: (أمة محمد بخير)، فالمسلم في نظرهم من اتخذ الإسلام دينا، وإن لم يعمل بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من صفات المسلمين الصادقين، بل فعل فعل الكافرين والمنافقين.

4. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم كاذبون، وهذا تسجيل عليهم بأن ما افتروه على الله كان عن عمد لا عن خطأ.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/194.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم يمضي في عرض نماذج من أهل الكتاب؛ فيعرض نموذج المضللين، الذي يتخذون من كتاب الله مادة للتضليل، يلوون ألسنتهم به عن مواضعه، ويؤولون نصوصه لتوافق أهواء معينة، ويشترون بهذا كله ثمنا قليلا.. عرضا من عرض هذه الحياة الدنيا: ومن بين ما يلوون ألسنتهم به ويحرفونه ويؤولونه ما يختص بمعتقداتهم التي ابتدعوها عن المسيح عيسى بن مريم، مما اقتضته أهواء الكنيسة وأهواء الحكام سواء.

2. آفة رجال الدين حين يفسدون، أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين، وهذه‏ الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب، نعرفها نحن جيدا في زماننا هذا، فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم، ويلوونها ليا، ليصلوا منها إلى مقررات معينة، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص، وأنها تمثل ما أراده الله منها، بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها، معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يلجئون إليها النصوص إلجاء.

3. ونحن اليوم نعرف هذا النموذج جيدا في بعض الرجال الذين ينسبون إلى الدين ظلما! الذين يحترفون الدين، ويسخرونه في تلبية الأهواء كلها؛ ويحملون النصوص ويجرون بها وراء هذه الأهواء حيثما لاح لهم أن هناك مصلحة تتحقق، وأن هناك عرضا من أعراض هذه الحياة الدنيا يحصل! يحملون هذه النصوص ويلهثون بها وراء تلك الأهواء، ويلوون أعناق هذه النصوص ليا لتوافق هذه الأهواء السائدة؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه ليوافقوا بينه وبين اتجاهات تصادم هذا الدين وحقائقه الأساسية، ويبذلون جهدا لاهثا في التمحل وتصيد أدنى ملابسة لفظية ليوافقوا بين مدلول آية قرآنية وهوى من الأهواء السائدة التي يهمهم تمليقها.

4. {وَيَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ ويَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وهُمْ يَعْلَمُونَ}.. كما يحكي القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب سواء، فهي آفة لا يختص بها أهل الكتاب وحدهم، إنما تبتلى بها كل أمة يرخص دين الله فيها على من ينتسبون إليه حتى ما يساوي إرضاء هوى من الأهواء التي يعود تمليقها بعرض من أعراض هذه الأرض! وتفسد الذمة حتى ما يتحرج القلب من الكذب على الله، وتحريف كلماته عن مواضعها لتمليق عبيد الله، ومجاراة أهوائهم المنحرفة، التي تصادم دين الله.. وكأنما كان الله ـ سبحانه ـ يحذر الجماعة المسلمة من هذا المزلق الوبيء، الذي انتهى بنزع أمانة القيادة من بني إسرائيل.

5. هذا النموذج من بني إسرائيل ـ فيما يبدو من مجموع هذه الآيات ـ كانوا يتلمسون في كتاب الله الجمل ذات التعبير المجازي؛ فيلوون ألسنتهم بها ـ أي في تأويلها واستخراج مدلولات منها هي لا تدل عليها بغير ليها وتحريفها ـ ليوهموا الدهماء أن هذه المدلولات المبتدعة هي من كتاب الله؛ ويقولون بالفعل: هذا ما قاله الله، وهو ما لم يقله ـ سبحانه ـ وكانوا يهدفون من هذا إلى إثبات ألوهية عيسى عليه السلام ومعه (روح القدس).. وذلك فيما كانوا يزعمون من الأقانيم: الأب والابن والروح القدس، باعتبارها كائنا واحدا هو الله ـ تعالى الله عما يصفون ـ ويروون عن عيسى عليه السلام كلمات تؤيد هذا الذي يدعونه، فرد الله عليهم هذا التحريف وهذا التأويل، بأنه ليس من شأن نبي يخصه الله بالنبوة ويصطفيه لهذا الأمر العظيم أن يأمر الناس أن يتخذوه إلها هو والملائكة، فهذا مستحيل.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/419.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية تكشف عن فريق آخر من أهل الكتاب، من جماعة اليهود، بعد أن كشفت الآيات السابقة عن جماعة من أهل العلم فيهم، يتّجرون بما عندهم من علم، ويبيعونه لمن يشترى.

2. أما هذا الفريق فهم، ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ أي يتلون آيات الكتاب تلاوة تلوكها ألسنتهم، وتلتوى بها شفاههم، فلا تخرج الكلمات إلا متآكلة متكسرة، يختلط بعضها ببعض، لا يدرى أحد ما مدلولها، ولا يهتدى أحد إلى وجه الحقّ فيها.. فهي أقرب إلى الرمز منها إلى الكلام.

3. {وَيَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ ويَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وهُمْ يَعْلَمُونَ} أنه الكذب.. أي أن كذبهم هذا على علم، وهو شرّ ما عرف من الكذب، وأبغض ما ظهر للناس من وجوهه.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/505.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أي من اليهود طائفة تخيل للمسلمين أشياء أنها مما جاء في التوراة، وليست كذلك، إما في الاعتذار عن بعض أفعالهم الذميمة، كقولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، وإما للتخليط على المسلمين حتى يشككوهم فيما يخالف ذلك مما ذكره القرآن، أو لإدخال‏ الشك عليهم في بعض ما نزل به القرآن، فاللّيّ مجمل، ولكنه مبين بقوله: ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾، وقوله: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾

2. اللّيّ في الأصل: الإراغة أي إدارة الجسم غير المتصلب إلى غير الصوب الذي هو ممتدّ إليه: فمن ذلك ليّ الحبل، وليّ العنان للفرس لإدارته إلى جهة غير صوب سيره، ومنه ليّ العنق، وليّ الرأس بمعنى الالتفات الشزر والإعراض قال تعالى: {لَوَّوْا رؤوسهم‏} [المنافقون: 5]، واللّي في هذه الآية يحتمل أن يكون حقيقة بمعنى تحريف اللسان عن طريق حرف من حروف الهجاء إلى طريق حرف آخر يقاربه لتعطي الكلمة في أذن السامع جرس كلمة أخرى، وهذا مثل ما حكى الله عنهم في قولهم ﴿رَاعِنَا﴾ وفي الحديث من قولهم في السلام على النبي: (السام عليكم) أي الموت أو (السّلام ـ بكسر السين ـ عليك)، وهذا اللّي يشابه الإشمام والاختلاس، ومنه إمالة الألف إلى الياء، وقد تتغير الكلمات بالترقيق والتفخيم وباختلاف صفات الحروف.

3. الظاهر أنّ الكتاب هو التوراة فلعلهم كانوا إذا قرؤوا بعض التوراة بالعربية نطقوا بحروف من كلماتها بين بين ليوهموا المسلمين معنى غير المعنى المراد، وقد كانت لهم مقدرة ومراس في هذا، وقريب من هذا ما ذكره المبرّد في الكامل أنّ بعض الأزارقة أعاد بيت عمر ابن أبي ربيعة في مجلس ابن عباس.

çرأت رجلا أما إذا الشمس عارضت‏...فيضحى وأما بالعشي فيخصرé

فجعل يضحى يحزى وجعل يخصر يخسر بالسين ليشوّه المعنى لأنه غضب من إقبال ابن عباس على سماع شعره، وفي الأحاجي والألغاز كثير من هذا كقولهم: (إنّ للّاهي إلها فوقه) فيقولها أحد بحضرة ناس ولا يشبع كسرة اللّاهي يخالها السامع لله فيظنه كفر، أو لعلهم كانوا يقرؤون ما ليس من التوراة بالكيفيات أو اللحون التي كانوا يقرؤون بها التوراة ليخيلوا للسامعين أنهم يقرؤون التوراة.

4. ويحتمل أن يكون اللّي هنا مجازا عن صرف المعنى إلى معنى آخر كقولهم لوى الحجة أي ألقي بها على غير وجهها، وهو تحريف الكلم عن مواضعه: بالتأويلات الباطلة، والأقيسة الفاسدة، والموضوعات الكاذبة، وينسبون ذلك إلى الله، وأياما كان فهذا اللّيّ يقصدون منه التمويه على المسلمين لغرض، حكما فعل ابن صوريا في إخفاء حكم رجم الزاني في التوراة وقوله: نحمم وجهه.

5. المخاطب بـ ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾ المسلمون دون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو هو والمسلمون في ظنّ اليهود، وجيء بالمضارع في هاته الأفعال: يلوون، ويقولون، للدلالة على تجدّد ذلك وأنه دأبهم.

6. تكرير الكتاب في الآية مرتين، واسم الجلالة أيضا مرتين، لقصد الاهتمام بالاسمين، وذلك يجر إلى الاهتمام بالخبر المتعلق بهما، والمتعلقين به، قال المرزوقي في شرح الحماسة في باب الأدب عند قول يحيى بن زياد:

çلما رأيت الشيب لاح بياضه‏...بمفرق رأسي قلت للشيب مرحباé

كان الواجب أن يقول: (قلت له مرحبا) لكنهم يكرّرون الأعلام وأسماء الأجناس كثيرا والقصد بالتكرير التفخيم)، ومنه قول الشاعر:

çلا أرى الموت يسبق الموت شيء...قهر الموت ذا الغنى والفقيراé

وقد تقدم تفصيل ذلك عند قوله تعالى في سورة البقرة [282]: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾

7. القراءة المعروفة يلوون: بفتح التحتية وسكون اللام وتخفيف الواو مضارع لوى، وذكر ابن عطيّة أنّ أبا جعفر قرأه: يلوون بضم ففتح فواو مشدّدة مضارع لوّى بوزن فعل للمبالغة ولم أر نسبة هذه القراءة إلى أبي جعفر في كتب القراءات.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/137.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة كذب اليهود والنصارى الذين عاصروا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين سبقوه، ومن جاء بعد هؤلاء وأولئك؛ كيف كانوا يكذبون في الوقائع البدهية، فيدّعون أن إبراهيم أبا الأنبياء كان يهوديا أو نصرانيا وكيف كان اليهود وغيرهم يدعون أن هداية الله حكر احتكروه، وهى في حرزهم لا تخرج عنهم إلى غيرهم، وقد اندفعوا إلى النفاق بإظهار الإيمان وإبطال الكفر، ثم اندفعوا إلى خيانة الأمانات المادية، وأكل أموال الناس باسم أنهم الصنف الممتاز في هذه الأرض الذي يباح له كل شيء، وفي هذه الآيات التي نتكلم الآن في معانيها السامية قد أعظموا في البطلان كما يحكى رب العالمين، فكذبوا على الله تعالى، وهذا الكذب هو أصل الداء، وأبعد غايات الافتراء، كذبوا على الله فحرفوا الكتاب، وقرؤوا أهواءهم على أنها من عند الله، وما هي من عند الله، وعلى أنها من الكتاب وما هي من الكتاب ولذا قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وما هُوَمِنَ الْكِتابِ‏} هذا من عدل القرآن الكريم في حكمه على الطوائف والجماعة، لا يعمّم الحكم على الجماعة كلها، ولكن يخص بالذكر الذين ارتكبوا ابتداء كبر الشر، وإن عم ضلالهم من بعد الطائفة كلها، ولهذا نسب التحريف ابتداء إلى طائفة منهم، وإن كان الضلال شاملا.

2. ليّ اللسان معناه، فتله عند النطق لتوجيه الكلام نحو معنى لا يقصد من ظاهر اللفظ؛ وهذا يشمل معانى كثيرة؛ فيشمل:

أ. إخفاء بعض الحروف عند النطق بكلمة، فيتغير المعنى؛ كمن يقول: (السلام عليكم) فيخفى (اللام) فتصير الكلمة (السام عليكم) ويكون المعنى مناقضا للمعنى الأصلي إذ السلام هو: الأمن، والسام هو: الموت، والأول دعاء له، والثاني دعاء عليه.

ب. ومن اللّى، أن يغير لفظا بلفظ آخر، ويومئ اللفظ الثاني إلى معنى غير المقصود من الأول، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن بعض أهل الكتاب: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ هاتين اللغتين، وبذلك يطعنون في الدين، ويسبون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم

ج. ومن لىّ اللسان، أن تقرأ عبارات في الكتاب بنغمته، وهى ليست منه.

د. ومن اللّىّ المعنوي، تحريف المعاني بتوجيهها إلى غير المراد منها.

3. بهذه الأنواع الأربعة كان بعض اليهود والنصارى يلوون ألسنتهم بالكتاب أي عند قراءته.

4. (الباء) في قوله تعالى: بـ ﴿الْكِتَابِ﴾: بمعنى (في) فهم ينظرون إلى الصحائف التي تحوى التوراة، ويقرؤون غير ما فيها بلىّ ألسنتهم إما بحذف حروف يغير المعنى حذفها، أو بتغيير كلماتها، أو بقراءة كلام غيرها بنغمتها وتجويده، أو بتحريف معانيها، ليتجهوا إلى معان ليست فيها؛ وليس شيء من هذا في الكتاب الذي يوهمون سامعيه أنه منه، وليس منه، وبذلك ضلّوا وأضلّوا كثيرا، وضلّوا عن سواء السبيل، وإن ذلك هو أصل الشر فيهم، وأصل فساد الاعتقاد عندهم.

5. الضمير في قوله سبحانه: ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ وفى: {وما هُوَمِنَ الْكِتابِ‏} يعود إلى مالووا به ألسنتهم؛ وتكرار الكتاب في النفي.. لبيان شدة براءة الكتاب المنزل على موسى وعيسى عليهما السلام مما يدعون ويفترون.

6. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ في هذا النص السامي بيان مدى الخطورة في لىّ ألسنتهم بالكتاب، وإيهام الناس أن ما يقرؤون وما يقولون من كتاب الله حتى يحسبه الناس كذلك، فإنهم إذ يفعلون ذلك ينسبون لله تعالى ما لم يقله فيقولون: إن كلامهم هو من عند الله، وليس من عند الله.

7. ذكر (هو) في كلامهم يفيد إصرارهم على ما يدعون مع علمهم بأنهم يكذبون ويفترون وذكره في نفى ادعائهم لتأكيد هذا النفي وبيان أنّه منصبّ على كلامهم، لا على أصل الكتاب، ويقول الزمخشري: (في قوله تعالى: {ويَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ‏} تأكيد لقوله: ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ وزيادة تشنيع عليهم، وتسجيل بالكذب، ودليل على أنهم لا يعرّضون، ولا يورون، وإنما يصرحون بأنه في التوراة هكذا، وقد أنزله الله تعالى على موسى عليه السلام كذلك؛ لفرط جراءتهم على الله تعالى، وقساوة قلوبهم، ويأسهم من الآخرة)

8. سجل سبحانه وتعالى عليهم الكذب بقوله سبحانه: {وَيَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ‏} في هذه الجملة السامية بيان مقدار جرأتهم في الباطل، وكذبهم على الحق، فهم يكذبون على الله، وهم يعلمون أنهم كاذبون، وقد أكد سبحانه وتعالى شناعة تصرفهم وتبجحهم بأربعة مؤكدات:

أ. أولها: أن كذبهم لم يكن تعريضا، ولا بلسان الفعال، بل كان بالقول الصريح.

ب. ثانيها: أن المفترى عليه هو الله سبحانه وتعالى، فهم لا يفترون على بشر مثلهم، ربما لا يعلم افتراءهم عليه، بل إنهم يكذبون على علام الغيوب الذي يعلم ما تنطق به الألسنة وما تكنه القلوب، وإذا كانوا ينكرون علمه واطلاعه، فقد كفروا بهذا الإنكار قبل أن يكفروا بهذا البهتان.

ج. ثالثها: أنهم يعلمون الحق، وينطقون بالباطل، ويعلمون حكم الله تعالى، ويكذبون عليه، ويتقولون الأقاويل، وهم يعلمون أنها غير صادقة.

د. رابعها: أنه أكد علمهم بذكر الضمير، في قوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي هم بأعيانهم وأشخاصهم يعرفون كذبهم، وذلك هو الضلال البعيد.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1286.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. {وإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وما هُوَمِنَ الْكِتابِ}، هذه الآية عطف على الآية التي قبلها، وهي‏ {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ}

2. الليّ معناه عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج، والمراد به هنا التحريف، وقد سجل الله على أهل الكتاب انهم حرّفوا كلام الله وسجل ذلك عليهم في العديد من الآيات، منها: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾، ومنها: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، ومن اطلع على التوراة جزم بأنها افتراء على الله، حيث نسبت اليه تعالى الأكل والمصارعة، كما نسبت إلى الأنبياء السكر والخمر والزنا ببناتهم، ثم ان التحريف يتحقق بالتطعيم والتقليم، كأن يزاد في الكتاب، أو يحذف منه، وأيضا يتحقق بتحريف الحركات تحريفا يغير المعنى، فيجعل الفاعل مفعولا، والمفعول فاعلا، وأيضا يتحقق التحريف بالتفسير، فيفسر ـ مثلا ـ يد الله باليد الحقيقية، لا باليد المجازية، وهي القدرة.

3. اختلف المفسرون في نوع التحريف المراد بهذه الآية على أقوال، وذهب الشيخ محمد عبده إلى أن المراد بالتحريف هنا تحريف التفسير، وإعطاء اللفظ معنى غير المعنى المراد منه، وضرب مثلا على ذلك بلفظ (أبانا الذي في السماء) الذي جاء على لسان السيد المسيح فإن المراد منه رأفة الله ورحمته بعباده، ولكن بعض الرؤوس فسّره بأن الله أب حقيقي لعيسى عليه السلام.

4. الذي نميل اليه في تفسير هذه الآية ان ذاك الفريق من أهل الكتاب كان يلوك ألفاظا من عندياته، ويخترعها من مخيلته، ويوهم الناس انها من كتاب الله، كي يعتقدوا بالباطل.. وعلى هذا يكون لفظ الكتاب الأول الوارد في الآية موصوفا بصفة محذوفة، وهي المزعوم، ولفظ الكتاب الثاني والثالث موصوفا بصفة محذوفة أيضا، وهي الحقيقي، والتقدير يلوون ألسنتهم بالكتاب المزعوم المحرّف لتحسبوا أيها الناس هذا المحرّف المزعوم من الكتاب الحقيقي الأصيل، وما هو من الكتاب الأصيل في شيء.

5. {ويَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} تأكيد لقوله: {وما هُوَمِنَ الْكِتابِ}، وقيل: بل هو من باب عطف العام على الخاص، لأن الكتاب مختص بالوحي المنزل على النبي، أما الذي من عند الله فيكون وحيا منزلا على النبي، ويكون سنة نبوية، ويكون حكما عقليا.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/94.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾، اللي هو فتل الحبل، ولي الرأس واللسان إمالتهما، قال تعالى: ﴿لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾، والظاهر أن المراد بذلك أنهم يقرؤون ما افتروه من الحديث على الله سبحانه بألحان يقرؤون بها الكتاب تلبيسا على الناس ليحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب.

2. تكرار لفظ الكتاب ثلاث مرات في الكلام لدفع اللبس فإن المراد بالكتاب الأول هو الذي كتبوه بأيديهم ونسبوه إلى الله سبحانه، وبالثاني الكتاب الذي أنزله الله تعالى بالوحي، وبالثالث هو الثاني كرر لفظه لدفع اللبس وللإشارة إلى أن الكتاب بما أنه كتاب الله أرفع منزلة من أن يشتمل على مثل تلك المفتريات، وذلك لما في لفظ الكتاب من معنى الوصف المشعر بالعلية، ونظيره تكرار لفظ الجلالة في قوله: {وَيَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ}، فالمعنى وما هو من عند الله الذي هو إله حقا لا يقول إلا الحق قال تعالى: ﴿وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾

3. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ تكذيب بعد تكذيب لنسبتهم ما اختلقوه من الوحي إلى الله سبحانه فإنهم كانوا يلبسون الأمر على الناس بلحن القول فأبطله الله بقوله: ﴿وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ﴾ ثم كانوا يقولون بألسنتهم هو من عند الله فكذبهم الله:

أ. أولا بقوله: ﴿وَما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ﴾

ب. وثانيا بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾

4. وزاد في الفائدة أولا أن الكذب من دأبهم وديدنهم، وثانيا أن ذلك ليس كذبا صادرا عنهم بالتباس من الأمر عليهم بل هم عالمون به متعمدون فيه.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/266.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَمِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (فريقاً) بعضاً مفارقاً لبعض آخر.

2. ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾ يفتلونها، أي يحولونها عن قراءة (التوراة) على الصواب إلى القراءة المزيفة ﴿بِالْكِتَابِ﴾ الذي يكتبونه بأيديهم ليوهموا أنه من التوراة فيجعلون هذا الكتاب المزيف آلة للعدول عن التوراة بأن يقرؤوه كما يقرؤون التوراة.

3. {وَيَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} بدعوى أنه حق وصواب ليوهموا مع قراءتهم الموهمة إيهاماً مؤكداً أنه من الكتاب أي من التوراة وما هو من الكتاب ولا هو من عند الله لا من (التوراة) ولا من غيرها.

4. ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم كاذبون على الله آثمون بالكذب على الله، وكأنهم مع تعمدهم للكذب على الله يفرون من الكذب الصريح بأنه من التوراة، إما لئلا يفتضحوا في العاجل، وإما لخوف عذاب عاجل.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/489.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ﴾ أي: من اليهود، ﴿لَفَرِيقًا﴾ أي: طائفة لا كلّهم، ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ من خلال محاولة إيجاد بعض عناصر الشبه به في اللفظ أو المعنى، {وما هُوَمِنَ الْكِتابِ ويَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ‏}

2. هذه ظاهرة من ظواهر الانحراف العملي لدى أهل الكتاب، من خلال ما كانوا يقومون به من تحريف كلام الله، وهو الذي أشارت إليه الآية بكلمة: ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ فإن اللّيّ هو عطف الشيء، ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج على سبيل الكناية عن التحريف.. وذلك بالأساليب الفنيّة التي يتقنونها، بحيث يعطون الكلمة المحرّفة بالزيادة أو النقصان، جوّا يقترب بها من أجواء التوراة، فيخيّل للسامع أنها من الكتاب لشبهها بكلماته وأجوائه، ولكن المتأمّل المتدبر الذي يعرف كتاب الله في أسلوبه ومضمونه ومقاصده يستطيع أن يجزم بأنّ ذلك ليس من الكتاب، لأنه يبتعد عنه في ما يثيره من قضايا أو ما يتجه إليه من أهداف.

3. تلك هي طريقة القرآن في توجيهه للمسلمين ولغيرهم لاستيعابهم للقرآن، ليستطيعوا أن ينطلقوا من خلال ذلك في معرفة معانيه من جهة، وفي التمييز بين كلام الخالق وكلام المخلوق من جهة أخرى، وفي ضوء ذلك يمكننا أن نلاحظ أنّ التحريف الذي ينسبه البعض إلى‏ القرآن لم يتقبله إلّا الذين أغلقوا عقولهم عن التفكير انطلاقا من قداسة لا قداسة لها، أو من رواية لا أساس لها، أو من غفلة مطبقة لا يقظة بها.. أمّا المفكرون الذين يحلّلون الفكرة والكلمة والأسلوب فإنهم يكتشفون الزيف بعقولهم من أقرب طريق، لأن الفكر يقود إلى النور الذي يفضح كل ضباب الشك والوهم المتحرك في العيون والأفئدة والأعماق.

4. تتحرك الآية في رصدها للظاهرة، وفي تأكيدها على زيف مضمونها؛ فتكرر الفكرة بأسلوب آخر: {ويَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ‏} وتنفي ما قالوه بتأكيد: {وما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ‏}، ويتحوّل التأكيد إلى مهاجمة للشخصية الكاذبة التي تختبئ خلف قناع من الصدق: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، ولا شيء أعظم خطرا من الكذب على الله، لأنه يجعل الحياة السائرة في طريقة تحت رحمة المفاهيم المزيّفة المنحرفة المتحركة في مسيرة البسطاء باسم الله وأنبيائه ورسله.

5. ذهب بعض المفسرين إلى تفسير الآية بوجه آخر، فاعتبر التحريف الذي تشير إليه الآية، تحريفا في المعنى والتفسير وإعطاء اللفظ معنى غير المعنى المراد، ولكن هذا غير ظاهر من اللفظ، وإن كان الوجه صحيحا في نفسه، فإن التحريف في التفسير وإبعاد الكلمة عن معناها وصرفها عن وجهها، لا يقلّ خطورة عن التحريف في الكلمة ذاتها، بالنظر إلى وحدة النتيجة في ما يريده الله سبحانه من وضع الكلمة في موضعها، من حيث اللفظ والمعنى، من أجل أن يصل الإنسان إلى وعي الحقيقة الدينية التي أوحى بها الله إلى رسله، في صفاء ونقاء، وليرتبط بها من منطق الصدق والواقع، لا من موقع الكذب والباطل.

6. عانت الكتب السماوية من المحرّفين الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه، ممن يسيئون إلى الدين بالإساءة إلى صفاء معانيه الأصيلة، فيحمّلون اللفظ غير ما يتحمل، ويضيفون إلى الكلام ما لم يوح به الله.

7. من خلال ذلك، انطلقت المذاهب الفكرية المتنوعة من التفسير المنحرف والتأويل بالباطل، فحاولت كل فئة أن تجعل الكتب السماوية دليلها على ما تحاولها من فكر وسلوك، وذلك بالأساليب الخادعة التي تستغل غموض الكلمة وقابليتها للحمل على أكثر من معنى، فتبعدها عن معناها الأصيل ومصاديقها الصحيحة.. وقد عاش القرآن الكريم هذه المشكلة، كما عاشتها الكتب السماوية الأخرى، فقد تحوّل لدى البعض من النّاس ـ من المتقدمين والمتأخرين ـ إلى معرض للأفكار المختلفة، فحاول كل فريق أن يحمله على ما يريد، وذلك بالتحوير والتغيير والتأويل في المعنى، إذا لم يستطع ممارسة ذلك باللفظ.

8. لا تزال القضية ـ المشكلة تفرض نفسها على الساحة القرآنية الإسلامية في ما يعانيه المسلمون من حركة المبادئ المنحرفة عن خط الإسلام، التي تحاول أن تدخل إلى حياة المسلمين وأفكارهم على أساس تضمين القرآن الكريم في آياته بعضا من أفكارها الضالّة، للإيحاء لهم بأن الإسلام يتبنى مثل هذه الأفكار ويتعاطف معها، فيكون ذلك لهم حجّة على صحة ما يذهبون إليه من خط سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي في الحياة، فينبغي للمسلمين أن يدققوا النظر في ذلك ويتأمّلوا فيه، على أساس القواعد اللفظية اللغوية والفكرية في فهم القرآن في حقائقه ومجازاته، فإن المجازات تحتاج إلى المناسبة القريبة بين المعنى الذي وضع له اللفظ وبين المعنى الجديد الذي يراد استعمال اللفظ فيه مجازا، ولا يجوز استعمال اللفظ فيها من دون مناسبة، أو بمناسبة لا يتحملها الذوق السليم.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/121.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية التي تؤكّد ما بحثته الآيات السابقة بشأن خيانة بعض علماء أهل الكتاب وتقول: إنّ فريقا من هؤلاء يلوون ألسنتهم عند تلاوتهم الكتاب، وهذا كناية عن تحريفهم كلام الله، و(يلون) من مادة (ليّ) على وزن حيّ، وهو الإمالة، وهو تعبير بليغ عن تحريف كلام الله، وكأنهم حين تلاوتهم للتوراة وعند ما يصلون إلى الآيات التي فيها صفات رسول الله والبشارة بظهوره يغيّرون لحن كلامهم.

2. وتضيف: إنّهم في تحريفهم هذا من المهارة بحيث إنّكم تحسبون ما يقرؤونه آيات أنزلها الله، وهو ليس كذلك‏ ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾

3. ولكنّهم لا يقنعون بذلك، بل يشهدون علانية بأنّه من كتاب الله، وهو ليس كذلك‏ {ويَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ‏}

4. مرّة أخرى يقول القرآن: إنّهم في عملهم هذا ليسوا ضحية خطأ، بل هم يكذبون على الله بوعي وبتقصّد، وينسبون إليه هذه التهم الكبيرة وهم عالمون بما يفعلون‏ ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/567.

40. الربانيون والتوحيد

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈40⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 79 ـ 80]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

سلمان:

روي عن سلمان الفارسي (ت 34 هـ) أنّه قال: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: الأشمط الزاني، ورجل مفلس مرح مختال، ورجل اتخذ يمينه بضاعة فلا يشتري إلا بيمين، ولا يبيع إلا بيمين(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/179.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿رَبَّانِيِّينَ﴾ حكماء، علماء(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٢٦٧.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ يعني: محمدا ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ﴾ أي: القرآن(1).

2. روي أنّه قال: الحكم: العلم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ حلماء، علماء، حكماء(3).

__________

(1) تفسير البغوي: ٣/٦٠.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٩٠.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٦٩١.

أبو رزين:

روي عن أبي رزين مسعود (ت 85 هـ) أنّه قال: ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ مذاكرة الفقه، كانوا يتذاكرون الفقه كما نتذاكره نحن(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٩٢.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ يعني: عيسى عليه السلام، وذلك أن نصارى نجران كانوا يقولون: إن عيسى أمرهم أن يتخذوه ربا، فقال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ يعني: عيسى: ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ﴾ الإنجيل(1).

2. روي أنّه قال: لا يعذر أحد حر، ولا عبد، ولا رجل، ولا امرأة لا يتعلم من القرآن جهده ما بلغ منه؛ فإن الله يقول: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾(2).

3. روي أنّه قال: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيها(3).

__________

(1) تفسير البغوي: ٣/٦٠.

(2) الدرّ المنثور: عَبد بن حُمَيد.

(3) الدارمي: ١/٣٥٣.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ)

1. روي أنّه قال: الحكم: اللب(1).

2. روي أنّه قال: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ﴾: حقيقة ما علموه حتى علموا(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٩٠.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٩٢.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ ما كان لمؤمن أن يفعل ذلك، يأمر الناس أن يتخذوه أربابا من دون الله، كان القوم يعبد بعضهم بعضا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٩١.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ معناه حلماء وعلماء تعلمون النّاس الخير(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ يقول: ما كان لنبي: ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ﴾، كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم، بتحريفهم كتاب الله عن موضعه، فقال الله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾، ثم يأمر الناس بغير ما أنزل الله في كتابه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا﴾ ولا يأمركم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٩١.

(2) ابن جرير: ٥/٥٣٥.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ يعني: عيسى ابن مريم ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ﴾ يعني: أن يعطيه الله ﴿الْكِتَابِ﴾ يعني: التوراة والإنجيل، ﴿وَالْحُكْمَ﴾ يعني: الفهم، ﴿وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ﴾ يعني: بني إسرائيل ﴿كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ يعني: عيسى، وعزير، ولو أمركم بذلك لكان كفرا، فذلك قوله: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ﴾ يعني: بعبادة الملائكة والنبيين، ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ يعني: مخلصين له بالتوحيد(1).

3. روي أنّه قال: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ يعني: التوراة والإنجيل، ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ يعني: تقرؤون(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٨٦.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: الربانيون: الذين يربون الناس، ولاة هذا الأمر، يربونهم: يلونهم، قال تعالى: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾ [المائدة: ٦٣] الربانيون: الولاة، والأحبار: العلماء(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥٢٩.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ أي: ما كان لبشر اختاره الله للذي قال وتبين أنهم إنما أضافوا دينهم الذي فيه عبادة غير الله إلى أنبيائهم كذبة، وأن الله يجعل رسالته عند من يعصمه عن مثله بقوله: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، لا يجعلها حيث يخان ويكتم.

2. هذه الآية تنقض على الباطنية قولهم؛ لأنهم يقولون: إن الله لا يؤتى النفس‏ البشرية الكتاب ولا النبوة؛ إنما يؤتى النفس البسيطة، وهي الروحانية، ليأتى تخيل في قلوب الأنبياء، ويؤيدهم حتى يؤلفوا؛ كقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 193 ـ 195]، فإذا ثبت ذلك في قلوب الرسل ألفوا هم الكتب والصحف، لا يقدر غير الرسل على ذلك، ثم الناس يأخذون ذلك منهم؛ فالآية تكذبهم وترد عليهم قولهم؛ حيث أخبر أنه يؤتي البشر الكتاب والحكم والنبوة بقوله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ وكذلك قال عيسى عليه السلام في المهد: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾

3. في الآية دليل عصمة الرسل والأنبياء ـ عليهم السلام ـ عن الكفر بقوله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وخاصّة في عصمة رسولنا ـ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [الأحزاب: 57]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ [الأحزاب: 58]: شرط في المؤمنين اكتساب ما يستوجبون به الأذى، ولم يشترط في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ دل أنه لا يكون منه اكتساب ما يستوجب به الأذى، ويكون من المؤمنين بشرطه فيهم ذلك.

4. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا﴾ معناه، أي: ولكن يقول لهم: كونوا ربّانيين؛ وكأنه على الابتداء والاستئناف ويقول لهم: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾، ثم اختلف في‏ ﴿رَبَّانِيِّينَ﴾:

أ. قيل: متعبدين لله بالذي يعلّمون الكتاب، وبالذي يدرسونه.

ب. وقيل: الربانيون‏: العلماء الحكماء، وقيل: حكماء علماء، وقيل: علماء فقهاء، وهو واحد.

5. ثم فيه دلالة أن الرجل قد يدرس ويعلّم آخر بما لا يفقه ولا يعلم، معناه: إلا كل من يدرس شيئا أو يعلّم آخر يكون فقيها فيه، ويعرف ما أودع فيه من المعنى، وفيه دلالة جواز الاجتهاد؛ لأنه إنما يوصل إلى ما فيه من المعنى والفقه بالاجتهاد.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾:

أ. قيل: ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة أربابا؛ لأنهم يقولون: إن الله أمرهم بذلك؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ [الأعراف: 28]

ب. وقيل: إن عيسى وعزيرا ومن ذكر لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا من دون الله، وقد عصمهم الله بالنبوة.

7. قوله تعالى: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: أيأمركم الله بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون له بالخلقة؛ لما يشهد خلقة كل أحد على وحدانيته؛ كقوله: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران: 83]

ب. ويحتمل: ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي: أسلموا له، وأقروا به مرة، ثم كفروا بعد ما كانوا مخلصين له بالتوحيد.

ج. ويحتمل قوله: ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ بعد إذ دعاكم إلى الإسلام فأجاب بعضكم‏.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/414.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾: أي علماء معلمين، بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 261.

الديلمي:

قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وسبب ذلك أن قوماً من اليهود قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أتدعونا إلى عبادتك كما دعي المسيح النصارى فنزلت هذه الآية ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ أي فقهاء علماء حكماء أتقياء يدينون أمور الناس بحسن تدبيرهم، قال الشاعر:

çوكنت امرءاً أفضت إليك ربابتي... وقبلك ربتني فضعت ربوبé

فسمي العالم ربانياً لأنه بالعلم يدين الأمور(1).

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/145.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سبب نزولها ما روى ابن عباس أن قوما من اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أتدعونا إلى عبادتك كما دعا المسيح النصارى، فنزلت هذه الآية.

2. في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: فقهاء علماء، وهو قول مجاهد.

ب. الثاني: حكماء أتقياء، وهو قول سعيد بن جبير.

ج. الثالث: أنهم الولاة الذين يربّون أمور الناس، وهذا قول ابن زيد.

3. في أصل (الرباني) قولان:

أ. أحدهما: أنه الذي يربّ أمور الناس بتدبيره، وهو قول الشاعر:

çوكنت امرأ أفضت إليك ربابتي‏...وقبلك ربتني ـ فضعت ـ ربوب‏é

فسمي العالم ربّانيا لأنه بالعلم يدبر الأمور.

ب. الثاني: أنه مضاف إلى عالم الرب، وهو علم الدين، فقيل لصاحب العلم الذي أمر به الرب ربّاني.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/406.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِبَشَرٍ﴾ يقع على القليل والكثير وهو بمنزلة المصدر مثل الخلق وغيره، تقول: هذا بشر وهؤلاء بشر كما تقول: هذا خلق وهؤلاء خلق، وإنما وقع المصدر على القليل، والكثير، لأنه جنس الفعل كما وجب في اسماء الأجناس كالماء والتراب ونحوه وقوله: ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ﴾ معناه أعطاه‏ ﴿الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾، أن‏ ﴿يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ﴾ يقول لهم: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾، وحذف يقول لدلالة الكلام عليه، ومعناه في قول الحسن: علماء فقهاء، وقال سعيد بن جبير: حكماء أتقياء، وقال ابن أبي رزين: حكماء علماء، وقال الزجاج: معناه معلمي الناس، وقال غيره: مدبري أمر الناس في الولاية بالإصلاح.

2. في أصل رباني قولان:

أ. أحدهما: الربان وهو الذي يربّ أمر الناس بتدبيره له وإصلاحه إياه، يقال رب أمره يربه ربابة، وهو ربان: إذا دبره، وأصلحه، ونظيره نعس ينعس، فهو نعسان، وأكثر ما يجيء فعلان من فعل يفعل، نحو عطش يعطش، فهو عطشان، فيكون العالم ربانياً، لأنه بالعلم يدبر الأمر ويصلحه.

ب. الثاني: إنه مضاف إلى علم الرب تعالى، وهو على الدين الذي أمر به إلا أنه غير في الاضافة، ليدل على هذا المعنى، كما قيل: بحراني، وكما قيل للعظيم الرقبة: رقباني، وللعظيم اللحية: لحياني، وكما قيل لصاحب القصب: قصباني، فكذلك صاحب علم الدين الذي أمر به الرب رباني.

3. من قرأ بالتخفيف أراد بما كنتم تعلمونه أنتم، ومن قرأ بالتشديد أراد تعلمونه، لسواكم، وقوله: ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ يقوي قراءة من قرأ بالتخفيف، والتشديد أكثر فائدة، لأنه يفيد أنهم علماء، وأنهم يعلمون غيرهم، والتخفيف لا يفيد أكثر من كونهم عالمين.

4. إنما دخلت الباء في قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ﴾ لأحد ثلاثة أشياء:

أ. أحدها: كونوا معلمي الناس بعلمكم، كما تقول: انفعوهم بمالكم.

ب. الثاني: كونوا ممن يستحق أن يطلق عليه صفة عالم بعلمه على جهة المدح له‏ بإخلاصه مما يحبطه.

ج. الثالث: كونوا ربانيين في علمكم ودراستكم ووقعت الباء في موضع في.

5. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ قرأ عاصم وحمزة وابن عامر (ولا يأمركم) بنصب الراء، الباقون برفعها فمن نصب عطف على ما عملت فيه (أن) على تقدير ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ﴾ كذا (ولا يأمركم) بكذا ومن رفع استأنف الكلام، لأنه بعد انقضاء الآية، وتمامها.

6. في الآية دلالة على أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز أن يقع منهم ما ذكره دون أن يكون ذلك اخباراً عن أنه لا يقع منهم، لأنها خرجت مخرج التنزيه للنبي عن ذلك كما قال: ﴿مَا كَانَ لله أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ ومعناه لا يجوز ذلك عليه، وكذلك قوله: ﴿مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾ يدل على أن ذلك غير جائز عليه، ولو جاز أن يحمل على نفي الوقوع دون الامتناع، لجاز أن يحمل على التحريم دون الانتفاء، لأن اللفظ يصلح له، لولا ما قارنه من ظاهر التعظيم للأنبياء، والتنزيه لهم عن الدعاء إلى الفساد أو اعتقاد الضلال، ويجب حمل الكلام على ظاهر الحال إلا أن يكون هناك ما يقتضي صرفه عن ظاهره، على أنه لو حمل على النفي لما كان فيه تكذيب للمخالف، والآية خرجت مخرج التكذيب لهم في‏ دعواهم أن المسيح أمرهم بعبادته.

7. الالف في قوله: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ﴾ ألف انكار وأصلها الاستفهام، وإنما استعملت في الإنكار، لأنه مما لو أقر به المخاطب به، لظهرت صحته وبان سقوطه، فلذلك جاء الكلام على السؤال، وإن لم يكن الغرض تعرف الجواب.

8. إنما لم تجز العبادة إلا لله تعالى، لأنها تستحق بأصول النعم من خلق القدرة، والحياة، والعقل، والشهوة، وغير ذلك مما لا يقدر عليه سواه، وليس في الآية ما يدل على أن في أفعال الجوارح كفراً، لأن قوله: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ﴾ معناه الامر باعتقاد أن الملائكة والنبيين أرباب، وذلك كفر لا محالة، ولم يجر في الآية، لتوجيه العبادة إليهم ذكر، فأما من عند غير الله فانا نقطع على أن فيه كفراً هو الجحد بالقلب، لأن نفس هذا الفعل كفر، فسقطت شبهة المخالف.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/511.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. البشر من البشَرَة سمي بذلك لظهوره، ويقع على الواحد والجمع؛ لأنه بمنزلة المصدر نحو الخلق، تقول: هذا خلق، وهَؤُلَاءِ خلق، كذلك هذا بشر وهَؤُلَاءِ بشر.

ب. الرباني: قيل: في أصله قولان:

الأول: الرُّبّان، وهو مَن يرب أمر الناس بتقديره لهم وإصلاحه إياه رَبَّ أمره يَرُبُّهُ، وهو رُبّان إذا دبره، وسمي العالِم ربانيًّا؛ لأنه بالعلم يدبر الأمور، ويصلحها.

الثاني: أنه مضاف إلى الرب وعلمه، وهو علم الدين الذي أمر به إلا أنه عبر بالإضافة ليدل على هذا المعنى، كما يقال: نجراني ولحياني، واشتقاقه من الرب، وهو الذي يربه ويدبر أمره، ومنه قول بعض قريش: لأن يربني رجل من قريش أحب إليّ من رجل من هوازن.

ج. تدرسون من الدرس، وفي التنزيل ﴿وَدَرَسُوا مَا فِيهِ﴾

2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾:

أ. قيل: إن أبا رافع القرظي من اليهود، ورئيس وفد نجران قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أتريد أن نعبدك ونتخذك إلهًا، فقال: معاذ الله أن أعبد غير الله وآمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني) فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن ابن عباس وعطاء.

ب. وقيل: إن رجلاً قال: يا رسول الله، نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم، واعرفوا الحق لأهله) فأنزل الله تعالى هذه، عن الحسن.

ج. وقيل: نزلت في نصارى نجران لما ادعوا عبادة المسيح، عن الضحاك ومقاتل.

3. لما تقدم ذكر الكتاب، وأنهم أضافوا ما يدينون به من الشرك إلى الأنبياء نزههم الله تعالى عن ذلك فقال سبحانه: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾:

أ. قيل: يعني ما ينبغي له أن يقول ذلك، كقوله: ﴿مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا﴾

ب. وقيل: اللام منقولة، و﴿أَنْ﴾ بمعنى الألف واللام تقديره: ما كان البشر ليقول، نظيره قوله: ﴿مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا﴾ ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي ما كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليغل.

ج. وقيل: ما كان من صفة الأنبياء هذا، عن أبي مسلم.

د. وقيل: ما كان لنبي أن يقول له ذلك؛ لأنه يحيل بينه وبين ذلك، ولم يكن الله يوحي إليه لو كان يقول ذلك، عن الأصم.

هـ. وقيل: ما كان الله ليصطفي لرسالته الكَذَبَةَ.

4. الكل متقارب، قال أبو علي: هذا إخبار بأنه لا يقول ذلك، يعني أنه ليس له ذلك؛ لأنه منهي عنه محرم عليه، وعلى جميع العباد والبشر.

5. اختلف في المعني بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾:

أ. قيل: هو عيسى والكتاب الإنجيل، عن الضحاك ومقاتل وأبي علي وأبي مسلم.

ب. وقيل: هو محمد والكتاب القرآن، عن ابن عباس وعطاء والحسن.

ج. وقيل: هو عام أي ما كان لنبي من البشر أن يؤتيه الله الكتاب فيقول كذا، عن الأصم.

6. ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ﴾ أي يعطيه ﴿وَالْحُكْمَ﴾:

أ. قيل: العلم والفهم.. وهو الوجه.

ب. وقيل: النبوة.

7. ﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ يعني الرسالة إلى الخلق ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ قيل: معناه اعبدوني من دونه، أو اعبدوني معه، عن أبي علي، قال القاضي: ومعنى عباد خلاف معنى عبيد؛ لأنه لا يمتنع أن يكونوا عبيدًا لغير الله، ويمتنع كونهم عبادًا لغيره فيدل على أن فيه معنى العبادة، ﴿وَلَكِنْ﴾ يقول ﴿كُونُوا﴾ فيه حذف تقديره ولكن يقول: كونوا ﴿رَبَّانِيِّينَ﴾

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿رَبَّانِيِّينَ﴾:

أ. قيل: علماء فقهاء، عن علي وابن عباس والحسن والضحاك.

ب. وقيل: حكماء علماء عن قتادة والسدي وابن زيد.

ج. وقيل: علماء أتقياء، عن سعيد بن جبير.

د. وقيل: مدبرين أمر الناس في الولاية بالإصلاح، عن أبي زيد.

هـ. وقيل: معلمين الناس، عن الزجاج.

و. وقيل: حكماء علماء معلمين، عن أبي مسلم.

ز. وقيل: مخلصين في العبادة.

ح. وقيل: علماء حكماء نصحاء لله في خلقه، عن عطاء، قال أبو عبيدة: سمعت رجلاً عالمًا يقول: الرباني: العالم بالحرام والحلال والأمر والنهي وما كان وما يكون.

9. قال أبو عبيدة: العرب لم تعرف الرباني، وهذا فاسد؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، وفيه الرباني، وروي عن محمد بن الحنفية أنه قال يوم مات ابن عباس: مات ربانيُّ هذه الأمة، وقد ذكر أهل اللغة اشتقاقه، وذلك يفسد ما قال.

10. ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾ قيل: بما أنتم كقوله: ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾

11. ﴿كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾:

أ. بالتخفيف يعني تَعلَمُون الكتاب، وما فيه من الحلال والحرام والأمر والنهي.

ب. وبالتشديد تعلِّمون غيركم مع علمكم.

12. ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ يعني تتلونه ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾:

أ. قيل: لا يأمركم الله، عن الزجاج.

ب. وقيل: لا يأمركم محمد، عن ابن جريج.

ج. وقيل: لا يأمركم عيسى.

د. وقيل: لا يأمركم الأنبياء.

13. ﴿أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ﴾ أربابًا، كما فعله قريش، ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾ كما فعلت اليهود والنصارى ﴿أَيَأْمُرُكُمْ﴾:

أ. قيل: استفهام، والمراد به الإنكار أي لا يأمركم.

ب. وقيل: تعجيب أي تعجيب من رسول يأمركم بهذا ﴿بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾

14. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أن الكفر لا يقع من الأنبياء؛ لأن المراد به الإخبار؛ لأنه لا يقع وذلك يدل على قولنا في عصمة الأنبياء.

ب. بطلان قول النصارى في المسيح وادعائهم أنه دعاهم، وذلك يدل إلى ما يدينون به.

ج. على بطلان قولهم وقول مشركي العرب في المسيح والملائكة.

د. أن الأنبياء يدعون إلى العلم والعمل؛ لأن القراءتين يعمل بهما، فكأنه قال: اعلموا واعملوا.

هـ. عظيم محل العلم وأهله وعظم محل التعليم؛ لأنه تعالى جعلهما من الرباني.

و. أن الكفر قد يكون بأفعال الجوارح، وهو عبادة غير الله تعالى خلاف من يقول إنها من أفعال القلب.

ز. وقوع الكفر بعد الإسلام خلافًا لبعضهم ممن يقول بالإرجاء.

ح. بطلان قول الْمُجْبِرَةِ؛ لأنه تعالى مَنَّ عليهم بأن يبعث من لا يدعوهم إلى الكفر، ومعلوم أن خلق الكفر فيهم وخلق القدرة الموجبة للكفر والإرادة الموجبة للكفر أعظم في المضرة؛ لأنه لو أجمع العالم على دعاء عبد إلى الكفر، ولا يخلقه هو لا يكون، ولو خلقه من غير دعاء أحد كان، فما معنى البعثة، وذم الداعي إلى الضلال!؟ كيف وعندهم ذلك الدعاء أيضًا لخلقه تعالى.

15. قراءات ووجوه:

أ. القراءة الظاهرة ﴿ثُمَّ يَقُولُ﴾ بنصب اللام، وروي عن أبي عمرو برفعها، أما النصب فعلى تقدير لا تجتمع النبوة، وهذا القول والعامل فيه ﴿أَنْ﴾ الذي، هو معطوف عليه، بمعنى ثم أن يقول، وأما الرفع فعلى الاستئناف،.

ب. قرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ﴿تَعْلَمُونَ﴾ بالتخفيف من عَلِمَ يَعْلَمُ اعتبارًا بقوله: ﴿تَدْرُسُونَ﴾ والباقون بالتشديد من علم يعلم تعليمًا؛ لأنها أكثر في الفائدة، لأنه فيه العلم والتعليم، وروي عن الحسن بفتح التاء والعين وتشديد اللام في معنى يتعلمون، وعن أبي حياة (يُدْرسون) بضم الياء والتخفيف من درس يدرس، وعن سعيد بن جبير ﴿تَدْرُسُونَ﴾ من التدريس، قراءة العامة ﴿تَدْرُسُونَ﴾ فتح التاء والتخفيف من درس يدرس)

ج. قرأ عاصم وحمزة وابن عامر ويعقوب ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ بنصب الراء عطفًا على ما عملت فيه ﴿أَنْ﴾ على تقدير: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب، ولا أن يأمركم بكذا، عن علي بن عيسى، وقيل: عطف على قوله: ﴿ثُمَّ يَقُولُ﴾، وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف؛ لأنه بعد انقضاء الآية وتمام الكلام.

16. مسائل نحوية:

أ. معنى الباء في قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾ فيه ثلاثة أقوال:

الأول: كونوا معلمين الناس بعلمكم، كما يقول: انفعه بمالك.

الثاني: كونوا ممن يستحق أن يطلق له صفة عالم بعلمه على جهة المدح بإخلاصه مما يحبطه.

الثالث: كونوا ربانيين في علمكم ودراستكم، وقعت الباء موقع (في)

ب. الألف في قوله: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ﴾ ألف استفهام، والمراد الإنكار.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/293.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. البشر يقع على القليل والكثير، فهو بمنزلة المصدر مثل الخلق، تقول: هذا بشر، وهؤلاء بشر، كما تقول: هذا خلق، وهؤلاء خلق، وإنما وقع المصدر على القليل والكثير، لأنه جنس الفعل، فصار كأسماء الأجناس، مثل الماء والتراب ونحوه.

ب. الرباني: هو الرب يرب أمر الناس بتدبيره واصلاحه إياه، يقال: رب فلان أمره ربابة، وهو ربان: إذا دبره وأصلحه، ونظيره نعس وينعس وهو نعسان، وأكثر ما يجئ فعلان من فعل يفعل، فيكون العالم ربانيا، لأنه بالعلم يرب الأمر ويصلحه، وقيل: إنه مضاف إلى علم الرب، وهو علم الدين الذي يأمره به، إلا أنه غير في الإضافة، ليدل على المعنى، كما قيل في الإضافة إلى البحرين: بحراني، وكما قيل للعظيم الرقبة: رقباني، وللعظيم اللحية: لحياني فقيل لصاحب علم الدين الذي أمر به الرب: رباني.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: إن أبا رافع القرضي من اليهود، ورئيس وفد نجران قالا: يا محمد! أتريد أن نعبدك ونتخذك إلها؟ فقال: معاذ الله أن أعبد غير الله، أو آمر بعبادة غير الله! ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني، فأنزل الله الآية، عن ابن عباس وعطاء.

ب. وقيل: نزلت في نصارى نجران، عن الضحاك ومقاتل.

ج. وقيل: إن رجلا قال: يا رسول الله! نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟قال: لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم، واعرفوا الحق لأهله، فأنزل الله الآية.

3. لما تقدم ذكر أهل الكتاب، وأنهم أضافوا ما يتدينون به إلى الأنبياء، نزههم الله عن ذلك، فقال ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾:

أ. يعني: ما ينبغي لبشر كقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾، و{ما كان لنا أن نتكلم بهذا} أي: لا ينبغي.

ب. وقيل: لا يجوز معناه لبشر، ولا يحل له.

4. ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ﴾ أن: يعطيه الله (الكتاب والحكمة والنبوة) أي: العلم أو الرسالة إلى الخلق.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾:

أ. قيل: أي: اعبدوني من دونه، أو اعبدوني معه، عن الجبائي.

ب. وقيل: معناه ليس من صفة الأنبياء الذين خصهم الله لرسالته، واجتباهم لنبوته، وأنزل عليهم كتبه، وجعلهم حكماء علماء، أن يدعوا الناس إلى عبادتهم، وإنما قال ذلك على جهة التنزيه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن مثل هذا القول، لا على وجه النهي.

6. ﴿عِبَادًا﴾ هو من العبادة، قال القاضي: وعبيد بخلافه، لأنه بمعنى العبودية، ولا يمتنع أن يكونوا عبادا لغيره.

7. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ فيه حذف أي: لا ينبغي لهذا القول أن يقول للناس اعبدوني، ولكن ينبغي أن يقول لهم كونوا ربانيين.

8. في قوله تعالى: ﴿رَبَّانِيِّينَ﴾ أقوال:

أ. أحدها: إن معناه كونوا علماء فقهاء، عن علي وابن عباس والحسن.

ب. وثانيها: كونوا علماء حكماء، عن قتادة والسدي وابن أبي رزين.

ج. وثالثها: كونوا حكماء أتقياء، عن سعيد بن جبير.

د. ورابعها: كونوا مدبري أمر الناس في الولاية بالإصلاح، عن ابن زيد.

هـ. وخامسها: كونوا معلمين للناس من علمكم، كما يقال: أنفق بمالك أي: أنفق من مالك، عن الزجاج، وروي عن النبي أنه قال: ما من مؤمن، ولا مؤمنة، ولا حر، ولا مملوك، إلا ولله عليه حق واجب أن يتعلم من العلم، ويتفقه فيه، وقال أبو عبيدة: سمعت رجلا عالما يقول: الرباني العالم بالحلال الحرام، والأمر والنهي، وما كان وما يكون.

9. قال أبو عبيدة: لم تعرف العرب الرباني، وهذا فاسد، لأن القرآن نزل بلغتهم، وروي عن محمد بن الحنفية أنه قال يوم مات ابن عباس: مات رباني هذه الأمة، وقد ذكرنا اشتقاقه قبل.

10. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ أي: القرآن ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ أي: الفقه، ومن قرأ بالتشديد أراد: تعلمونه لسواكم، فيفيد أنهم يعلمون ويعلمون غيرهم، والتخفيف لا يفيد أكثر من كونهم عالمين.

11. دخلت الباء في قوله تعالى: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ﴾ لأحد ثلاثة أشياء:

أ. إما أن يريد كونوا معلمي الناس بعلمكم، كما يقال: أنفقوهم بما لكم.

ب. أو يريد: كونوا ربانيين في علمكم ودراستكم، ووقعت الباء موقع في.

ج. أو يريد كونوا ممن يستحق أن يطلق له صفة عالم بعلمه على جهة المدح، بأن تعملوا بما علمتم، وذلك أن الانسان إنما يستحق الوصف لأنه عالم، إذا عمل بعلمه، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾:

أ. قيل: أي: ولا يأمركم الله، عن الزجاج.

ب. وقيل: ولا يأمركم محمد، عن ابن جريج.

ج. وقيل: ولا يأمركم عيسى.

13. من نصب الراء عطفه على أن يؤتيه الله فمعناه: ولا كان لهذا النبي أن يأمركم ﴿أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ أي: آلهة، كما فعله الصابئون والنصارى ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ألف إنكار أصله الاستفهام، وإنما استعمل في الانكار لأنه مما لو أقر به المخاطب، لظهرت فضيحته، فلذلك جاء على السؤال، وإن لم يكن الغرض تعرف الجواب ومعناه: إن الله تعالى إنما يبعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليدعوا الناس إلى الإيمان، فلا يبعث من يدعو المسلمين إلى الكفر.

14. قراءات ووجوه:

أ. قرأ ابن عامر وأهل الكوفة ﴿تَعْلَمُونَ﴾ بالتشديد، والباقون ﴿تَعْلَمُونَ﴾:

حجة من قال ﴿تَعْلَمُونَ﴾ بالتشديد أن التعليم أبلغ في هذا الموضع، لأنه إذا علم الناس، ولم يعمل بعمله، كان مع استحقاق الذم بترك عمله داخلا في جملة من وبخ بقوله ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾

وحجة من قرأ ﴿تَعْلَمُونَ﴾ أن العالم الدارس قد يدرك بعلمه ودرسه مما يكون داعيا إلى التمسك بعلمه، والعمل به ما لا يدركه العالم المعلم في تدريسه.

ب. قرء عاصم غير الأعشى والبرجمي وحمزة وابن عامر ويعقوب ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ بنصب الراء، والباقون بالرفع.. من قرأ ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ فعلى القطع من الأول، ولا يأمركم الله، ومن نصبه فعلى قوله: (وما كان لبشر أن يأمركم أن تتخذوا)، ومما يقوي الرفع ما روي في حرف ابن مسعود ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾، فهذا يدل على الانقطاع من الأول، ومما يقوي النصب ما جاء في السير أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا محمد! أتريد أن نتخذك ربا؟ فقال الله عز وجل ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ﴾: ولا أن يأمركم.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/781.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن قوما من رؤساء اليهود والنّصارى، قالوا: يا محمّد أتريد أن نتّخذك ربّا؟ فقال: معاذ الله، ما بذلك بعثني، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: أنّ رجلا قال للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألا نسجد لك؟ قال: لا، فإنّه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله) فنزلت هذه الآية، قاله الحسن البصريّ.

ج. الثالث: أنها نزلت في نصارى نجران حيث عبدوا عيسى، قاله الضّحّاك، ومقاتل.

2. فيمن عنى بـ ﴿لِبَشَرٍ﴾ قولان:

أ. أحدهما: محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والكتاب: القرآن، قاله ابن عباس، وعطاء.

ب. الثاني: عيسى، والكتاب: الإنجيل، قاله الضّحّاك، ومقاتل.

3. الحكم: الفقه والعلم، قاله قتادة في آخرين، قال الزجّاج: ومعنى الآية لا يجتمع لرجل نبوّة، والقول للناس: كونوا عبادا لي من دون الله، لأن الله لا يصطفي الكذبة.

4. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا﴾ أي: ولكن يقول لهم: كونوا، فحذف القول لدلالة الكلام عليه.

5. أما الرّبّانيّون:

أ. فروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: هم الذين يغذّون الناس بالحكمة، ويربّونهم عليها.

ب. وقال ابن عباس، وابن جبير: هم الفقهاء المعلّمون.

ج. وقال قتادة، وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء.

د. قال ابن قتيبة: واحدهم ربّاني، وهم العلماء المعلّمون.

هـ. قال أبو عبيد: أحسب الكلمة ليست بعربية، إنما هي عبرانية، أو سريانيّة، وذلك أن عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الرّبّانيين، وقال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاء، وأهل العلم، قال وسمعت رجلا عالما بالكتب يقول: هم العلماء بالحلال والحرام، والأمر والنّهي.

و. وحكى ابن الأنباريّ عن بعض اللغويين: الرّبّانيّ: منسوب إلى الرّبّ، لأن العلم: مما يطاع الله به، فدخلت الألف والنون في النّسبة للمبالغة، كما قالوا: رجل لحيانيّ: إذا بالغوا في وصفة بكبر اللحية.

6. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: (تعلمون)، بإسكان العين، ونصب اللام، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ: (تعلّمون) مثقلا، وكلهم قرؤوا: (تدرسون) خفيفة، وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين وسعيد بن جبير، وطلحة بن مصرّف، وأبو حياة: (تدرّسون)، بضم التاء مع التشديد، والدّراسة: القراءة، قال الزجّاج: ومعنى الكلام: ليكن هديكم في التعليم هدي العلماء والحكماء، لأنّ العالم إنما يستحقّ هذا الاسم إذا عمل بعلمه.

7. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ قرأ ابن عامر، وحمزة، وخلف، ويعقوب، وعاصم في بعض الرّوايات عنه وعبد الوارث، عن أبي عمرو، واليزيديّ في اختياره، بنصب الرّاء، وقرأ الباقون برفع الراء، فمن نصب كان المعنى: وما كان لبشر أن يأمركم، ومن رفع قطعه ممّا قبله، قال ابن جريج: ولا يأمركم محمّد.

__________

(1) زاد المسير: 1/299.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بيّن الله تعالى أن عادة علماء أهل الكتاب التحريف والتبديل أتبعه بما يدل على أن من جملة ما حرّفوه ما زعموا أن عيسى عليه السلام كان يدعي الإلهية، وأنه كان يأمر قومه بعبادته فلهذا قال ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ الآية.

2. في سبب نزول هذه الآية وجوه:

أ. الأول: قال ابن عباس: لما قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله نزلت هذه الآية.

ب. الثاني: قيل إن أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران من النصارى قالا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم (معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني؛ ولا بذلك أمرني) فنزلت هذه الآية

ج. الثالث: قال رجل يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله)

د. الرابع: أن اليهود لما ادعوا أن أحداً لا ينال من درجات الفضل والمنزلة ما نالوه، فالله تعالى قال لهم: إن كان الأمر كما قلتم، وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم ولكن يجب أن تأمروا الناس بالطاعة لله والانقياد لتكاليفه وحينئذ يلزمكم أن تحثوا الناس على الإقرار بنبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن ظهور المعجزات عليه يوجب ذلك، وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ مثل قوله اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة: 31]

3. اختلفوا في المراد بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ على وجوه:

أ. الأول: قال الأصم: معناه، أنهم لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الدليل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ [الحاقة: 44، 45]، وقال: ﴿لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾ [الإسراء: 74، 75]

ب. الثاني: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام موصوفون بصفات لا يحسن مع تلك الصفات ادعاء الإلهية والربوبية:

منها أن الله تعالى آتاهم الكتاب والوحي وهذا لا يكون إلا في النفوس الطاهرة والأرواح الطيبة، كما قال الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124]، وقال: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الدخان: 32]، وقال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: 75] والنفس الطاهرة يمتنع أن يصدر عنها هذه الدعوى.

ومنها أن إيتاء النبوّة لا يكون إلا بعد كمال العلم، وذلك لا يمنع من هذه الدعوى، وبالجملة فللإنسان قوتان: نظرية وعملية، وما لم تكن القوة النظرية كاملة بالعلوم والمعارف الحقيقية ولم تكن القوة العملية مطهرة عن الأخلاق الذميمة لا تكون النفس مستعدة لقبول الوحي والنبوّة، وحصول الكمالات في القوة النظرية والعملية يمنع من مثل هذا القول والاعتقاد.

ج. الثالث: أن الله تعالى لا يشرف عبده بالنبوّة والرسالة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل هذا الكلام.

د. الرابع: أن الرسول ادعى أنه يبلغ الأحكام عن الله تعالى، واحتج على صدقه في هذه الدعوى فلو أمرهم بعبادة نفسه فحينئذ تبطل دلالة المعجزة على كونه صادقاً، وذلك غير جائز، وليس المراد من قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ ذلك أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق، وظاهر الآية يدل على أنه إنما لم يكن له ذلك لأجل أن الله آتاه الكتاب والحكم والنبوّة، وأيضاً لو كان المراد منه التحريم لما كان ذلك تكذيباً للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح عليه السلام لأن من ادعى على رجل فعلًا فقيل له: إن فلان لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن تكذيباً له فيما ادعى عليه وإنما أراد في ادعائهم أن عيسى عليه السلام قال لهم: {اتخذوني إلهاً من دون الله} فالمراد إذن ما قدمناه، ونظيره قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ [مريم: 35] على سبيل النفي لذلك عن نفسه، لا على وجه التحريم والحظر، وكذا قوله تعالى: {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161] والمراد النفي لا النهي.

4. في قوله تعالى: ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ إشارة إلى ثلاثة أشياء ذكرها على ترتب في غاية الحسن، وذلك لأن الكتاب السماوي ينزل أولًا ثم إنه يحصل في عقل النبي فهم ذلك الكتاب وإليه الإشارة بالحكم، فإن أهل اللغة والتفسير اتفقوا على أن هذا الحكم هو العلم، قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مريم: 12] يعني العلم والفهم، ثم إذا حصل فهم الكتاب، فحينئذ يبلغ ذلك إلى الخلق وهو النبوّة فما أحسن هذا الترتيب.

5. ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ القراءة الظاهرة، ثم يقول بنصب اللام، وروي عن أبي عمرو برفعها، أما النصب فعلى تقدير: لا تجتمع النبوّة وهذا القول، والعامل فيه (أن) وهو معطوف عليه بمعنى ثم أن يقول وأما الرفع فعلى الاستئناف.

6. حكى الواحدي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: كُونُوا عِباداً لِي إنه لغة مزينة يقولون للعبيد عباداً.

7. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ في هذه الآية إضمار، والتقدير: ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [آل عمران: 106] أي فيقال لهم ذلك.

8. ذكروا في تفسير (الرباني) أقولًا:

أ. الأول: قال سيبويه: الرباني المنسوب إلى الرب، بمعنى كونه عالماً به، ومواظباً على طاعته، كما يقال: رجل إلهي إذا كان مقبلًا على معرفة الإله وطاعته وزيادة الألف والنون فيه للدلالة على كمال هذه الصفة، كما قالوا: شعراني ولحياني ورقباني إذا وصف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة، فإذا نسبوا إلى الشعر قالوا: شعري وإلى الرقبة رقبي وإلى اللحية لحيي.

ب. الثاني: قال المبرّد (الربانيون) أرباب العلم واحدهم رباني، وهو الذي يرب العلم ويرب الناس أي: يعلمهم ويصلحهم ويقوم بأمرهم، فالألف والنون للمبالغة كما قالوا: ربان وعطشان وشبعان وعريان، ثم ضمت إليه ياء النسبة كما قيل: لحياني ورقباني قال الواحدي: فعلى قول سيبويه الرباني: منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وبطاعته، وعلى قول المبرد (الرباني) مأخوذ من التربية.

ج. الثالث: قال ابن زيد: الرباني، هو الذي يرب الناس، فالربانيون هم ولاة الأمة والعلماء، وذكر هذا أيضاً في قوله تعالى: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾ [المائدة: 63] أي الولاة والعلماء وهما الفريقان اللذان يطاعان ومعنى الآية على هذا التقدير: لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواظبتكم على طاعته، قال القفال رحمه الله: ويحتمل أن يكون الوالي سمي ربانياً، لأنه يطاع كالرب تعالى، فنسب إليه.

د. الرابع: قال أبو عبيدة أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية، أو سريانية، وسواء كانت عربية أو عبرانية، فهي تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم، واشتغل بتعليم طرق الخير.

9. في قوله تعالى: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ قراءتان إحداهما: تعلمون من العلم، وهي قراءة عبد الله بن كثير، وأبي عمرو، ونافع والثانية: ﴿تَعْلَمُونَ﴾ من التعليم وهي قراءة الباقين من السبعة وكلاهما صواب، لأنهم كانوا يعلمونه في أنفسهم ويعلمونه غيرهم، واحتج أبو عمرو على أن قراءته أرجح بوجهين:

أ. الأول: أنه قال: ﴿تَدْرُسُونَ﴾ ولم يقل تدرسون بالتشديد.

ب. الثاني: أن التشديد يقتضي مفعولين والمفعول هاهنا واحد، وأما الذين قرؤوا بالتشديد فزعموا أن المفعول الثاني محذوف تقديره: بما كنتم تعلمون الناس الكتاب، أو غيركم الكتاب وحذف، لأن المفعول به قد يحذف من الكلام كثيراً، ثم احتجوا على أن التشديد أولى بوجهين:

الأول: أن التعليم يشتمل على العلم ولا ينعكس فكان التعليم أولى.

الثاني: أن الربانيين لا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم لله تعالى ألا ترى أنه تعالى أمر محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك فقال: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125] ويدل عليه قول مرة بن شراحيل: كان علقمة من الربانيين الذين يعلمون الناس القرآن.

10. نقل ابن جني في (المحتسب)، عن أبي حياة أنه قرأ تدرسون بضم التاء ساكنة الدال مكسورة الراء، قال ابن جني: ينبغي أن يكون هذا منقولًا من درس هو، أو درس غيره، وكذلك قرأ وأقرأ غيره، وأكثر العرب على درس ودرس، وعليه جاء المصدر على التدريس.

11. (ما) في القراءتين، هي التي بمعنى المصدر مع الفعل، والتقدير: كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب، ومثل هذا من كون (ما) مع الفعل بمعنى المصدر قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ [الأعراف: 51]، وحاصل الكلام أن العلم والتعليم والدراسة توجب على صاحبها كونه ربانياً والسبب لا محالة مغاير للمسبب، فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانياً، وأمراً مغايراً لكونه عالماً، ومعلماً، ومواظباً على الدراسة، وما ذاك إلا أن يكون بحيث يكون تعلمه لله، وتعليمه ودراسته لله، وبالجملة أن يكون الداعي له إلى جميع الأفعال طلب مرضاة الله، والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب الله، وإذا ثبت أن الرسول يأمر جميع الخلق بهذا المعنى ثبت أنه يمتنع منه أن يأمر الخلق بعبادته، وحاصل الحرف شيء واحد، وهو أن الرسول هو الذي يكون منتهى جهده وجده صرف الأرواح والقلوب عن الخلق إلى الحق، فمثل هذا الإنسان كيف يمكن أن يصرف عقول الخلق عن طاعة الحق إلى طاعة نفسه، وعند هذا يظهر أنه يمتنع في أحد من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يأمر غيره بعبادته.

12. دلّت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً، فمن اشتغل بالتعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع سعيه وخاب عمله وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع)

13. قرأ عاصم وحمزة وابن عامر ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ بنصب الراء، والباقون بالرفع أما النصب فوجهه أن يكون عطفاً على‏ ﴿ثُمَّ يَقُولُ﴾ وفيه وجهان:

أ. أحدهما: أن تجعل (لا) مزيدة والمعنى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة أن يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً، كما تقول: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي.

ب. الثاني: أن تجعل (لا) غير مزيدة، والمعنى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ينهى قريشاً عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح، فلما قالوا: أتريد أن نتخذك ربا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يجعله الله نبياً ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء، وأما القراءة بالرفع على سبيل الاستئناف فظاهر لأنه بعد انقضاء الآية وتمام الكلام، ومما يدل على الانقطاع عن الأولى ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ ولن يأمركم.

14. قال الزجاج: ولا يأمركم الله، وقال ابن جريج: لا يأمركم محمد، وقيل: لا يأمركم الأنبياء بأن تتخذوا الملائكة أرباباً كما فعلته قريش.

15. إنما خص الملائكة والنبيّين بالذكر لأن الذين وصفوا من أهل الكتاب بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح وعزير، فلهذا المعنى خصهما بالذكر.

16. الهمزة في‏ ﴿أَيَأْمُرُكُمْ﴾ استفهام بمعنى الإنكار، أي لا يفعل ذلك.

17. قال الزمخشري: في قوله تعالى: ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في أن يسجدوا له.

18. قال الجبائي: الآية دالة على فساد قول من يقول: الكفر بالله هو الجهل به، والإيمان بالله هو المعرفة به، وذلك لأن الله تعالى حكم بكفر هؤلاء، وهو قوله تعالى: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ﴾ ثم إن هؤلاء كانوا عارفين بالله تعالى بدليل قوله:‏ ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وظاهر هذا يدل على معرفتهم بالله فلما حصل الكفر هاهنا مع المعرفة بالله دل ذلك على أن الإيمان به ليس هو المعرفة والكفر به تعالى ليس هو الجهل به، ورد المخالفون: بأن قولنا الكفر بالله هو الجهل به لا نعني به مجرد الجهل بكونه موجوداً بل نعني به الجهل بذاته وبصفاته السلبية وصفاته الإضافية أنه لا شريك له في المعبودية، فلما جهل هذا فقد جهل بعض صفاته.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 8/270.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا كَانَ﴾ معناه ما ينبغي، كما قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء]، و﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ [مريم]، و﴿مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا﴾ [النور] يعني ما ينبغي.

2. البشر يقع للواحد والجمع لأنه بمنزلة المصدر، والمراد به هنا عيسى في قول الضحاك والسدي، والكتاب: القرآن، والحكم: العلم والفهم، وقيل أيضا: الأحكام، أي إن الله لا يصطفي لنبوته الكذبة، ولو فعل ذلك بشر لسلبه الله آيات النبوة وعلاماتها.

3. نصب ﴿ثُمَّ يَقُولُ﴾ على الاشتراك بين ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ﴾ وبين ﴿يَقُولُ﴾ أي لا يجتمع لنبي إتيان النبوة وقوله: ﴿كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾

4. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ أي ولكن جائز أن يكون النبي يقول لهم كونوا ربانيين، والربانيون واحدهم رباني منسوب إلى الرب:

أ. والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور، روي معناه عن ابن عباس.

ب. قال بعضهم: كان في الأصل ربي فأدخلت الألف والنون للمبالغة، كما يقال للعظيم اللحية: لحياني ولعظيم الجمة جماني ولغليظ الرقبة رقباني،

ج. وقال المبرد: الربانيون أرباب العلم، واحدهم ربان، من قولهم: ربه يربه فهو ربان إذا دبره وأصلحه، فمعناه على هذا يدبرون أمور الناس ويصلحونها، والألف والنون للمبالغة كما قالوا ريان وعطشان، ثم ضمت إليها ياء النسبة كما قيل: لحياني ورقباني وجماني، قال الشاعر:

çلو كنت مرتهنا في الجو أنزلني...منه الحديث ورباني أحباريé

فمعنى الرباني العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه، لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم.

د. وقال أبو رزين: الرباني هو العالم الحكيم، وروى شعبة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ قال: حكماء علماء.

هـ. وقال ابن جبير: حكماء أتقياء.

و. وقال الضحاك: لا ينبغي لأحد أن يدع حفظ القرآن جهده فإن الله تعالى يقول: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾

ز. وقال ابن زيد: الربانيون الولاة، والأحبار العلماء.

ح. وقال مجاهد: الربانيون فوق الأحبار، قال النحاس: وهو قول حسن، لأن الأحبار هم العلماء، والرباني الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة، مأخوذ من قول العرب: رب أمر الناس يربه إذا أصلحه وقام به، فهو راب ورباني على التكثير.

ط. قال أبو عبيدة: سمعت عالما يقول: الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي، العارف بأنباء الأمة وما كان وما يكون.

ي. وقال محمد بن الحنفية يوم مات أبن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة.

ك. وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حر ولا مملوك إلا ولله تعالى عليه حق أن يتعلم من القرآن ويتفقه في دينه ـ ثم تلا هذه الآية ـ ولكن كونوا ربانيين الآية، رواه ابن عباس.

5. هذه الآية قيل: إنها نزلت في نصارى نجران، وكذلك روي أن السورة كلها إلى قوله ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [آل عمران] كان سبب نزولها نصارى نجران، ولكن مزج معهم اليهود، لأنهم فعلوا من الجحد والعناد فعلهم.

6. {بما كنتم تعلمون تاب وبما كنتم تدرسون}) قرأه أبو عمرو وأهل المدينة بالتخفيف من العلم، واختار هذه القراءة أبو حاتم، قال أبو عمرو: وتصديقها ﴿تَدْرُسُونَ﴾ ولم يقل ﴿تَدْرُسُونَ﴾ بالتشديد من التدريس، وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة ﴿تَعْلَمُونَ﴾ بالتشديد من التعليم، واختارها أبو عبيد، قال: (لأنها تجمع المعنيين تعلمون، وتدرسون)، قال مكي: (التشديد أبلغ، لأن كل معلم عالم بمعنى يعلم وليس كل من علم شيئا معلما، فالتشديد يدل على العلم والتعليم، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط، فالتعليم أبلغ وأمدح وغيره أبلغ في الذم)، احتج من رجح قراءة التخفيف بقول ابن مسعود ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ قال: حكماء علماء، فيبعد أن يقال كونوا فقهاء حكماء علماء بتعليمكم، قال الحسن، كونوا حكماء علماء بعلمكم، وقرأ أبو حياة ﴿تَدْرُسُونَ﴾ من أدرس يدرس، وقرأ مجاهد ﴿تَعْلَمُونَ﴾ بفتح التاء وتشديد اللام، أي تتعلمون.

7. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بالنصب عطفا على ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ﴾، ويقويه أن اليهود قالت للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أتريد أن نتخذك يا محمد ربا؟ فقال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ ـ إلى قوله: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾، وفيه ضمير البشر، أي ولا يأمركم البشر يعني عيسى وعزيرا، وقرا والباقون بالرفع على الاستئناف والقطع من الكلام الأول، وفيه ضمير اسم الله تعالى، أي ولا يأمركم الله أن تتخذوا، ويقوي هذه القراءة أن في مصحف عبد الله (ولن يأمركم) فهذا يدل على الاستئناف، والضمير أيضا لله تعالى، ذكره مكي، وقاله سيبويه والزجاج، وقال ابن جريح وجماعة: ولا يأمركم محمد عليه السلام، وهذه قراءة أبي عمرو والكسائي وأهل الحرمين.

8. ﴿أَنْ تَتَّخِذُوا﴾ أي بأن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا، وهذا موجود في النصارى يعظمون الأنبياء والملائكة حتى يجعلوهم لهم أربابا.

9. ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ على طريق الإنكار والتعجب، فحرم الله تعالى على الأنبياء أن يتخذوا الناس عبادا يتألهون لهم ولكن ألزم الخلق حرمتهم، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي)، وفي التنزيل ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [يوسف]

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/122.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ أي: ما كان ينبغي ولا يستقيم لبشر أن يقول هذه المقالة وهو متصف بتلك الصفة، وفيه بيان من الله سبحانه لعباده: أن النصارى افتروا على عيسى عليه السلام ما لم يصح عنه، ولا ينبغي أن يقوله، والحكم: الفهم والعلم

2. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا﴾ أي: ولكن يقول النبي: كونوا ربانيين، والرباني: منسوب إلى الرب، بزيادة الألف والنون للمبالغة، كما يقال لعظيم اللحية: لحياني، ولعظيم الجمة: جماني، ولغليظ الرقبة: رقباني.

3. قيل: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، فكأنه يقتدي بالربّ سبحانه في تيسير الأمور، وقال المبرد: الربانيون: أرباب العلم، واحدهم رباني، من قوله: ربه، يربه، فهو ربان: إذا دبره وأصلحه، والياء للنسب، فمعنى الرباني: العالم بدين الربّ، القويّ التمسك بطاعة الله؛ وقيل: العالم الحكيم.

4. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ﴾ أي: بسبب كونكم عالمين، أي: كونوا ربانيين بهذا السبب، فإن حصول العلم للإنسان والدراسة له يتسبب عنهما الربانية التي هي التعليم للعلم، وقوة التمسك بطاعة الله.

5. قرأ ابن عباس وأهل الكوفة: (بما كنتم تعلّمون) بالتشديد، وقرأ أبو عمرو وأهل المدينة بالتخفيف، واختار القراءة بالتخفيف، واختار القراءة الأولى أبو عبيد، قال لأنها لجمع المعنيين، قال مكي: التشديد أبلغ لأن العالم قد يكون عالما غير معلم، فالتشديد يدل على العلم والتعليم، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط، واختار القراءة الثانية أبو حاتم، قال أبو عمرو: (وتصديقها: تدرسون بالتخفيف دون التشديد)، والحاصل: أن من قرأ بالتشديد لزمه أن يحمل الرباني على أمر زائد على العلم والتعليم، وهو أن يكون مع ذلك مخلصا أو حكيما أو حليما حتى تظهر السببية؛ ومن قرأ بالتخفيف جاز له أن يحمل الرباني على العالم الذي يعلم الناس، فيكون المعنى: كونوا معلمين بسبب كونكم علماء، وبسبب كونكم تدرسون العلم، وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم أن يعمل، وإن من أعظم العمل بالعلم تعليمه، والإخلاص لله سبحانه.

6. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ بالنصب عطفا على‏ ﴿ثُمَّ يَقُولُ﴾ و(لا) مزيدة لتأكيد النفي، أي: ليس له أن يأمر بعبادة نفسه، ولا يأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، بل ينتهي عنه، ويجوز عطفه على أن يؤتيه، أي: ما كان لبشر أن يأمركم بأن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا؛ وبالنصب قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وقرأ الباقون: بالرفع على الاستئناف والقطع من الكلام الأوّل، أي: ولا يأمركم الله أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا، ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود: ولن يأمركم.

7. الهمز في قوله: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ﴾ لإنكار ما نفي عن البشر.

8. ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ استدلّ به من قال إن سبب نزول الآية استئذان من استأذن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من المسلمين في أن يسجدوا له.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/408.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بين تعالى كذبهم عليه ـ جل ذكره ـ بين افتراءهم على رسله إذ زعموا أن عيسى عليه السلام أمرهم أن يتخذوه ربا، فردّ سبحانه عليهم بقوله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾

2. ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ أي ما صح ولا استقام، وفي التعبير ب (بشر) إشعار بعلة الحكم، فإن البشرية منافية لما افتروه عليهم‏.

3. ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ﴾ أي الفهم والعلم أو الحكمة ﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ وهي الخبر منه تعالى ليدعو الناس إلى الله بترك الأنداد ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ﴾ أي الذين بعثه الله إليهم ليدعوهم إلى عبادته وحده‏ ﴿كُونُوا عِبَادًا لِي﴾ أي اتخذوني ربّا ﴿مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ﴾ يقول لهم‏.

4. ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ أي منسوبين إلى الرب لاستيلاء الربوبية عليهم وطمس البشرية بسبب كونهم عالمين عاملين معلمين تالين لكتب الله، أي كونوا عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات، حتى تصيروا ربانيين بغلبة النور على الظلمة ـ أفاده القاشانيّ ـ

5. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ أي بسبب مثابرتكم على تعليم الناس الكتاب ودراسته، أي قراءته، فإن ذلك يجركم إلى الله تعالى بالإخلاص في عبادته.

6. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ﴾ أي بالعود إليه‏ وقد بعث لمحو الشرك‏ ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي بعد استقراركم على الإسلام.

7. إذا كان ما ذكر في الآية لا يصلح لنبيّ ولا لمرسل، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم، بطريق الأولى والأخرى، ولهذا قال الحسن البصريّ: لا ينبغي هذا لمؤمن، أن يأمر الناس بعبادته، قال: وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا ـ يعني أهل الكتاب ـ كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم، كما قال الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [التوبة: 31] الآية ـ وفي جامع الترمذيّ‏ ـ كما سيأتي ـ أن عديّ بن حاتم قال: يا رسول الله ما عبدوهم، قال: (بلى، إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم)، فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين، فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به وبلغتهم إياه الرسل الكرام، وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه وبلغته إياه رسله الكرام ـ قاله ابن كثير ـ.

8. في هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل، وأن من أعظم العمل بالعلم تعليمه والإخلاص لله سبحانه، والدراسة مذاكرة العلم والفقه، فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيّا، فمن اشتغل بها، لا لهذا المقصود، فقد ضاع سعيه وخاب عمله، وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها، ولا منفعة بثمرها، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم‏: (نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع) كذا في فتح البيان والرازيّ.

9. قرئ في السبع‏ ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ بالرفع على الاستئناف أي ولا يأمركم الله أو النبيّ، وبالنصب عطفا على ثم يقول، و(لا) مزيدة لتأكيد معنى النفي.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/341.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا كَانَ﴾ ما صحَّ، أو ما استقام، أو ما ثبت شرعًا ولا عقلا، والآية ردٌّ على من قال من المسلمين: يا رسول الله، دعنا نسجد لك أو: إنا نُسَلِّمُ عليك كما يسلِّم بعضُنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ فقال: (لو أُمِرَ بشرٌ أن يسجد لبشر لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها، ولا سجود إِلَّا لله، ولكن أكرموا نبيئكم، واعرفوا الحقَّ لأهله)، وردٌّ على نصارى نجران وغيرها إذ قالوا: إنَّ عيسى أمرهم أن يتَّخذوه ربًّا، وَعَلَى النصارى واليهود إذ نهاهم صلّى الله عليه وآله وسلّم عن عبادة عزير والمسيح والأحبار والرهبان، فقالوا: أنتَّخذك ربًّا؟ أتريد ذلك؟ والمتبرِّز في ذلك أبو رافع القرظيُّ من اليهود، ورجل من نصارى العرب يلقَّب: السيِّد النجرانيّ، قال: يا محمَّد أتريد أن نجعلك ربًّا؟ فقال: (معاذ الله أن يعبد غير الله، وأن نأمر بعبادة غير الله!)، وردٌّ على قريش إذ نهاهم عن عبادة الملائكة فقالوا له مثل ذلك، أو: دعنا نفعل، فقال:

2. ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ اَن﴾ يجعله الله نبيئا، ثمَّ يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء وغيرهم، بل يقتصر على الأمر بطاعة الله وعبادته، فَنَفْيُ اللياقة غير متسلِّط على قوله: ﴿يُوتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ﴾ الآمر بالتوحيد، الناهي عن الإشراك، كالتوراة والإنجيل والقرآن، وكلُّ كتب الله كذلك، ﴿وَالْحُكْمَ﴾ الفهم للحكمة التي تكمل بها النفوس الموجبة لاعتقاد أنَّ ما سوى الله مربوب، ﴿وَالنُّبُوءَةَ﴾ التي هي أعلى المراتب الداعية إلى التوحيد والعبادة لله 8 والآداب، بل متسلِّط على قوله: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ﴾ أي: عبادا لي خاصَّة لا لله، أو عبادًا لي على استقلال وعبادًا لله على استقلال، ولم يقل: (عبيد) لأنَّه لا يختصُّ بالعبادة بل بمعنى الملك، بخلاف (عباد) لا يقال: عباد زيد بل عبيده، و(ثُمَّ) لمجرَّد الترتيب، أو على أصلها، بمعنى أنَّه إذا كان لا يليق على مهلة فأولى أن لا يليق بعجل، وقيل: المعنى: ما كان لبشر أن يؤتى النبوءة ثمَّ يترتَّب على ذلك أمره بعبادة نفسه، ونهيه عن عبادة الملائكة والنبيئين على استواء الكلِّ في عدم استحقاق العبادة، ولم يقل: ما كان لأحد بل لبشر، إيذانا بأنَّ البشريَّة تنافي المعبوديَّة.

3. ﴿وَلَكِن﴾ كان لبشر، أي: يستقيم له شرعًا وعقلا أن يقول لهم، ﴿كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ﴾ وهذا أولى من العطف على (يَقُولَ) باعتبار أنَّ معنى (مَا كَانَ...) إلخ: لا يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربَّانيِّين، كقولك: لا تقل: قام زيد لكن قعد عمرو، أي: لكن قل: قعد عمرو؛ والعاطف الواو، وأولى من اعتبار أنَّ المعنى لا يكونون قائلين لذلك، ولكن كونوا ربَّانيِّين لأنَّه خلاف الظاهر.

4. الربَّانيون نسب للربِّ بزيادة الألف والنون شذوذا قياسا، كالتحتانيِّ والفوقانيِّ واللَّحيانيِّ والرقبانيِّ لعظيم اللِّحية والرقبة، والصمدانيِّ والجسمانيِّ والجمَّانيِّ العظيم الجمَّة، ومعنى الربَّانيِّ: الكاملُ علما وعملا، أو علما وحكمة؛ أو نسب إلى ربَّان وربَّان وصف شعبان، فالنسب مبالغة كقولك في أحمر: أحمريٌّ، تريد أنَّه شديد الحمرة لا النسب إلى من هو أحمر، فيكون النسب قياسا، وزعم بعض أنَّه سريانيٌّ.

5. ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ لكونكم تعلمون التوراة أو الإنجيل أو كليهما، ﴿وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ وبكونكم تدرسونه، و(ال) للحقيقة، وفائدة العلم معرفة الحقِّ والعمل به واعتقاده، وأهل الكتاب يعرفون الحقَّ ولا يعتقدونه ولا يعملون به، فمن جمع علما ولم يجعله وسيلة إلى العمل أشبههم، وكان كغارس شجر معجبة لا ينتفع بثمرها، والاعتقاد نسبة الخبر بالصدق باختباره، والمعرفة أعمُّ، والدرس تكرير العلم لئلَّا ينسى، والباءان متعلِّقتان بـ (كُونُوا)، ويجوز تعليقهما بـ (رَبَّانِيِّينَ)، وقدَّم العلم لفضله على الدرس، ولأنَّ علم كتاب الله أفضل من درس الفقه إن كان الدرس درس الفقه.

6. ﴿وَلَا يَامُرُكُم﴾ أي: الله، أو البشر على معنى: (ولكن يقول كونوا...) إلخ، (ولا يأمركم...) إلخ، فكيف يأمركم بعبادة نفسه، والعطف على (مَا كَانَ)، أو الواو للحال، ولا أُثبِت واو الاستئناف؛ لأنَّ الواو حرف معنى في مثل ذلك، والاستئناف ليس معنى يوضع له الحرف، والأنسب بالاستئناف ترك الواو.

7. ﴿أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَآئِكَةَ وَالنَّبِيئِينَ أَرْبَابًا﴾ كما اتَّخذت الصابئة الملائكة أربابا فيما قيل، واليهود عزيرا، والنصارى المسيح، ﴿اَيَامُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذَ اَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ بعد وقت إسلامكم، والاستفهام توبيخ على كفرهم وما يبنى على قولهم من التهاون بالكفر والتلويح بالبهت به، أو تعجيب للمسلمين.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/307.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في سبب النزول.

2. قال محمد عبده: ما روي من أن بعض الصحابة طلب أن يسجدوا للرسول هو من الروايات التي لم يق الله المسلمين شرها ولا حاجة إليها في القرآن، فإن الآية متصلة بما قبلها فهي في سياق الرد على أهل الكتاب إبطال لما ادعاه بعضهم من أن لله تعالى ابنا أو أبناء حقيقة، وأن بعض الأنبياء أثبت ذلك لنفسه، وصرح بأن هذه الدعوى مما يدخل في لي اللسان بالكتاب وتحريفه بالتأويل، ويصح أن يكون ردا على أصحاب هذه الدعوى ابتداء مستأنفا بيانيا كأن النفس تتشوف بعد بيان حال فرق اليهود إلى بيان حال النصارى وما يدعون في المسيح فجاءت الآيتان في ذلك.

3. ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ نفي للشأن وهو أبلغ من نفي الوقوع خاصة، لأنه نفي للوقوع مع بيان السبب والدليل، وهو أن هذا غير ممكن ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ﴾ به والعمل بإرشاده، قال في الكشاف: الحكم الحكمة التي هي السنة، ووافقه محمد عبده قائلا: إن عبارات الكتاب ربما تذهب النفس فيها مذاهب التأويل فالعمل هو الذي يقرر الحق فيها، وقد تقدم عنه تفسير الحكمة بفقه الكتاب ومعرفة أسراره وأن ذلك يستلزم العمل به، وإنما قال: ﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ بعد قوله يؤتيه الله الكتاب لأن المرسل إليهم يقال إنهم أوتوا الكتاب.

4. {ثم يقول للناس كونوا عباد لي} العباد: جمع عبد بمعنى عابد والعبيد جمع له بمعنى مملوك أي بأن تتخذوني إلها أو ربا لكم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي كائنين لي من دون الله، أو كونوا عابدين لي من دونه، وقيل معناه حال كونهم متجاوزين الله تعالى أي متجاوزين ما يجب من إفراده بالعبادة وتخصيصه بالعبودية، وقطع أبو السعود بأن ذلك يصدق بعبادة غيره استقلالا أو اشتراكا، وله عندي وجهان:

أ. أحدهما: أن العبادة الصحيحة لله تعالى لا تتحقق إلا إذا خلصت له وحده فلم تشبها شائبة ما من التوجه إلى غيره كما قال: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ [الزمر: 14] وقال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5] والآيات في هذا المعنى كثيرة، فمن دعا إلى عبادة نفسه فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله وإن لم ينههم عن عبادة الله، بل وإن أمرهم بعبادة الله، ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء فقد عبد هذه الواسطة من دون الله لأن هذه الوساطة تنافي الإخلاص له وحده، ومتى انتفى الإخلاص انتفت العبادة، ولذلك قال: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ [الزمر: 2] فلم يمنع توسلهم بالأولياء إليه تعالى أن يقول إنهم اتخذوهم من دونه، ويدل عليه أيضا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه وفي رواية فأنا منه بريء، هو للذي عمل له) رواه مسلم وغيره، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك) رواه أحمد.

ب. الثاني: إن من يتوجه بعبادته إلى غير الله تعالى على أنه وسيلة إليه ومقرب منه وشفيع عنده، أو على أنه متصرف بالنفع ودفع الضر لقربه منه فتوجهه هذا إليه عبادة له مقدرة بقدرها فهو عبد له في هذا القدر من التوجه إليه من دون الله، وهذا الوجه معقول في نفسه، والأول أقوى لأن النصوص مؤيدة له، وقد غفل عنه من أجازوا للعامة اتخاذ أولياء يتوجهون إليهم بالدعاء وطلب الحاجات ويسمون ذلك توسلا بهم إلى الله وإنما هو عبادة لهم من دون الله(2)، ففي الحديث الصحيح (الدعاء هو العبادة) وتلا صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي﴾ [318] [غافر: 60] رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم.

5. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ أي ولكن يأمرهم النبي الذي أوتي الكتاب والحكم بأن يكونوا منسوبين إلى الرب مباشرة من غير توسطه هو ولا التوسل بشخصه وإنما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك وهي تعليم الكتاب ودراسته، فبعلم الكتاب وتعليمه والعمل به يكون الإنسان ربانيا مرضيا عند الله تعالى، فالكتاب هو واسطة القرب من الله تعالى، والرسول هو الواسطة المبلغة للكتاب كما قال تعالى: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى: 48] فلا يمكن لأحد أن يتقرب إلى الله بشخص الرسول بل بما جاء به الرسول.. والآيات المقررة لهذه الحقيقة كثيرة جدا.

6. قال محمد عبده ما مثاله مفصلا: أفادت الآية أن الإنسان يكون ربانيا بعلم الكتاب ودرسه وبتعليمه للناس ونشره، ومن المقرر أن التقرب إلى الله تعالى لا يكون إلا بالعمل والعلم، والعلم الذي لا يبعث إلى العمل لا يعد علما صحيحا، لأن العلم الصحيح ما كان صفة للعالم وملكة راسخة في نفسه، وإنما الأعمال آثار الصفات والملكات، والمعلم يعبر عما رسخ في نفسه، ومن لم يحصل من علم الكتاب إلا صورا وتخيلات تلوح في الذهن ولا تستقر في النفس لا يمكنه أن يكون معلما له يفيض العلم على غيره، كما أنه لا يكون عاملا به على وجهه كما ثبت بالمشاهدة والاختبار أي في نحو العلوم الفنية، فإن من لا يعرف من الهندسة إلا بعض الاصطلاحات والمسائل الناقصة لا يمكنه أن يكون مهندسا بالفعل ولا أن يكون معلما للهندسة، ومراد الأستاذ أن العلم لما كان يستلزم العمل استغنى بذكره عن التصريح بالعمل كما يستغنى عن ذكر العلم عندما يعلق الجزاء على العمل، لأن العمل الصحيح لا يكون إلا عن العلم الصحيح فتارة يذكر الملزوم وتارة يذكر اللازم ولكل مقام مقال.

7. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب (يأمركم) بالنصب عطفا على (ثم يقول) و(لا) هذه هي التي يجاء بها لتأكيد النفي السابق، وهو هنا قوله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف، وقرأ أبو عمرو باختلاس الهمزة على الأصل عنده.

8. تُنقل عبادة الملائكة عن مشركي العرب وعن بعض أهل الكتاب، واتخذ بعض اليهود عزيرا والنصارى المسيح ابنا لله، فجاء الإسلام يبين أن كل ذلك مخالف لما جاء به الأنبياء من الأمر بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له والنهي عن عبادة غيره، ولذلك قال: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ بمقتضى الفطرة، وقال محمد عبده: معناه أنه ما كان للمسيح أن يأمر أهل الكتاب الذي بعث فيهم بعبادته بعد إذ كانوا موحدين بمقتضى ما جاءهم به موسى، وحمله أكثر من عرفنا من المفسرين على جواب من طلب السجود للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بناء على أنهم هم المسلمون دون غيرهم، وقد نسوا هنا أن الإسلام في عرف القرآن هو دين جميع الأنبياء كما أنه دين الفطرة.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/347.

(2) هذا غير صحيح، والأدلة الكثيرة تدل على جواز التوسل، وفي القرآن الكريم ما يشير إلى ذلك

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن بيّن سبحانه فيما سلف افتراء اليهود على الله الكذب ونسبتهم إليه ما لم يقله أردف ذلك بذكر افترائهم على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

2. ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ أي لا ينبغي لأحد من البشر أن ينزل الله عليه كتابه، ويعلمه فقه دينه ومعرفة أسراره ويعطيه النبوة، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله، لأن من آتاه الله ذلك فإنما يدعوهم إلى العلم به، ويحثهم على معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا القدوة في طاعته وعبادته، ومعلمى الناس الكتاب.

3. معنى قوله: ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: أي متجاوزين ما يجب من إفراده تعالى بالعبادة، فإن العبادة الصحيحة لا تتحقق إلا إذا أخلصت له وحده، ولم تشبها شائبة من التوجه إلى غيره كما قال تعالى: ﴿قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾، ومن دعا إلى عبادة نفسه فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله وإن لم ينههم عن عبادة الله، بل وإن أمرهم بعبادة الله، ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء، فقد عبد هذه الواسطة من دون الله، لأن هذه الواسطة تنافى الإخلاص له وحده، وحين ينتفى الإخلاص تنتفى العبادة، ومن ثم قال تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ الآية، فتوسلهم بالأولياء جعله تعالى يقول إنهم اتخذوا من دونه أربابا، ويقول صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيرى تركته وشركه، وفي رواية: فأنا منه بريء هو للذي عمله) رواه مسلم وغيره، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا جمع الله الناس يوم القيامة نادى مناد: من أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك) رواه أحمد.

4. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ أي ولكن يأمرهم النبي الذي أوتى الكتاب والحكم بأن يكونوا منسوبين إلى الرب مباشرة من غير توسطه هو ولا التوسل بشخصه، وإنما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك وهى تعليم الكتاب ودراسته، فبعلم الكتاب وتعليمه والعمل به يكون الإنسان ربّانيا مرضيا عند الله، إذ العلم الذي لا يبعث على العمل لا يعد علما صحيحا، ومن ثم استغنى بذكره عن ذكر التصريح بالعمل.

5. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه، ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، ومثال ذلك أن تقول: ما كان لمحمد أن أكرمه، ثم يهيننى ويستخفّ بي، وقد نقل عن مشركي العرب عبادة الملائكة (وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله) فجاء الإسلام فبين أن هذا مخالف لما جاء به الأنبياء من الأمر بعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له والنهى عن عبادة غيره، ومن ثم قال: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي أيأمركم بعبادة الملائكة والسجود للأنبياء بعد توحيدهم لله والإخلاص له، إذ لو فعل ذلك لكفر، ونزعت منه النبوة والإيمان، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس بالله، فإن الله لا يؤتى وحيه إلا نفوسا طاهرة، وأرواحا طيبة، فلا تجتمع نبوة ودعاء إلى عبادة غير الله، وأثر عن على كرم الله وجهه أنه قال: (قصم ظهرى رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسّك)، لأن العالم ينفّر الناس عن العلم بتهتكه، والجاهل يرغّب الناس في الجهل بتنسكه، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ (نعوذ بالله من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع)

__________

(1) تفسير المراغي: 3/196.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن النبي يوقن أنه عبد، وأن الله وحده هو الرب، الذي يتجه إليه العباد بعبوديتهم وبعبادتهم، فما يمكن أن يدعي لنفسه صفة الألوهية التي تقتضي من الناس العبودية، فلن يقول نبي للناس: ﴿كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾.. ولكن قوله لهم: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾.. منتسبين إلى الرب، عبادا له وعبيدا، توجهوا إليه وحده بالعبادة، وخذوا عنه وحده منهج حياتكم، حتى تخلصوا له وحده فتكونوا ﴿رَبَّانِيِّينَ﴾.. كونوا ﴿رَبَّانِيِّينَ﴾ بحكم علمكم للكتاب وتدارسكم له، فهذا مقتضى العلم بالكتاب ودراسته.

2. النبي لا يأمر الناس أبدا أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا، فالنبي لا يأمر الناس بالكفر بعد أن يسلموا لله ويستسلموا لألوهيته، وقد جاء ليهديهم إلى الله لا ليضلهم، وليقودهم إلى الإسلام لا ليكفرهم! ومن ثم تتجلى استحالة هذا الذي ينسبه ذلك الفريق إلى عيسى عليه السلام كما يتجلى الكذب على الله في ادعائهم أن هذا من عند الله.. وتسقط في الوقت ذاته قيمة كل ما يقوله هذا الفريق وما يعيده لإلقاء الريب والشكوك في الصف المسلم، وقد عرّاهم القرآن هذه التعرية على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة! ومثل هذا الفريق من أهل الكتاب فريق ممن يدعون الإسلام، ويدعون العلم بالدين كما أسلفنا، وهم أولى بأن يوجه إليهم هذا القرآن اليوم، وهم يلوون النصوص القرآنية ليا، لإقامة أرباب من دون الله في شتى الصور، وهم يتصيدون من النصوص ما يلوونه لتمويه هذه المفتريات، {وَيَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ ويَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وهُمْ يَعْلَمُونَ}!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/420.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هاتين الآيتين يكشف الله سبحانه عن تلك المفارقات البعيدة بين دعوات الأنبياء، وبين ما يدخله أتباعهم على تلك الدعوات من افتراء وبهتان، فالنبىّ ـ وإن كان بشرا من البشر، وإنسانا من الناس ـ هو ممن اصطفاه الله، وتخيره من بين الناس، ليقوم بالسفارة بين الله وبين وعباده، والله سبحانه وتعالى، إنما يتخير سفراءه من صفوة خلقه، ثم يكملهم ويحمّلهم بما يفيض عليهم من نفحات رحمته، وغيوث بركاته، فإذا هم بعد هذا الأدب الربانيّ أكمل الناس كمالا، وأصدقهم قولا، وأبعدهم عن مواطن الشبه والريب.. بل هم الكمال كله، والصدق جميعه، والفضيلة في تمامها وكمالها.

2. فإذا جاء أتباع رسول من رسل الله، وبأيديهم كتاب يضاف إليه هذا الرسول، وعلى ألسنتهم كلمات يحسبونها عليه، ثم كان في هذا الكتاب ما ينقص من جلاله وكماله، وكان في تلك الكلمات ما يجعل لله ما لا ينبغي لذلك الجلال والكمال ـ فآفة ذلك هم الأتباع، الذين غيروا في الكتاب وبدّلوا، وتقوّلوا على الرسول، ونسبوا إليه ما نسبوا، زورا وبهتانا، ليجدوا لما تقوّلوا وزيّفوا طريقا إلى الآذان، حين ينسبونه إلى الرسول، ويضيفونه إلى ما تلقوا من كلماته التي هي كلمات الله.

3. هذا الموقف يظهر على تمامه، فيما كان بين المسيح وأتباعه.. فقد جاء المسيح ـ عليه السّلام ـ إلى الناس مرسلا من عند الله، برسالة قائمة على سنن الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه، كما ينقل ذلك عنه أتباعه في كلمات صريحة واضحة إذ يقول: (ما جئت لأنقض الناموس والأنبياء بل لأكمل)، ومع هذا الذي يقوله السيد المسيح، وينقله عنه أتباعه، ويؤمنون به ـ فإنهم يلتقون بالسيد المسيح في آخر المطاف، فإذا هو الله رب العالمين، تجسد في كائن بشرى، وعاش ما عاش بين الناس، ثم قدّم نفسه قربانا ليفتدى البشرية ويخلّصها من الخطيئة التي هي ميراث الناس جميعا من أبيهم آدم.. فكان أن عمل المسيح على إثارة ثائرة اليهود عليه، ليصلبوه، وليؤدّى بهذا الصلب الفداء المطلوب لخلاص البشر.. وقد تم له ما أراد، وقدّم إلى الصلب، وصلب! هكذا يقول أتباع المسيح عن المسيح وفيه! وهى مقولات تنقضها كلمات المسيح نفسه في الإنجيل أو الأناجيل التي في يد أتباعه، كما ينقضها تاريخ الرسل والأنبياء السابقين له، ونبي الإسلام الذي جاء من بعده، وينقضها قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله، المنطق السليم، والعقل المطلق من قيد الهوى، المتحرر من عبودية التقليد والمحاكاة.

4. في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾.. وفي ذكر (بشر) بدل (نبيّ) ما يشير إلى أن النبيّ بشر من البشر، وأنه إذا جاز على البشر الكذب والافتراء على الله وعلى الناس، فإن النبي ـ وهو بشر ـ لا يكون منه أبدا الكذب والافتراء على الله أو على الناس.. وإلا كان ذلك اتهاما لله، ورميا لعلمه بالقصور، ولقدرته بالعجز، ولحكمته بالنقص، حيث اصطفى واختار من يحمل رسالته، ويؤدّي أمانته، ثم لم يكن من هذا المصطفى المختار إلا أن زيف الرسالة وخان الأمانة.. وبدلا من أن يكون داعيا لله، هاديا إليه، تحول إلى داعية لنفسه، قائدا الناس إلى الهلاك والضلال.. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. وإنه لن يرضى أسوأ الحكام وأجهل الأمراء أن ينسب إليه مثل هذا العجز وسوء التقدير في اختيار أعوانه وسفرائه، فكيف بأحكم الحاكمين.. الله رب العالمين؟

5. في الآية حذف دل عليه سياق الكلام.. وتقديره: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ ليدعو الناس إلى الله، وإلى الإقرار بوحدانيته.. ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾

6. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ أي ولكنه يدعوكم إلى أن تكونوا ربانيين أي مؤمنين بالله، دعاة إلى الله، إذ كنتم علماء، وللناس‏ على العلماء حقّ هو أن يعلموهم ما علموا.

7. الالتفات هنا من الغيبة إلى الحضور، هو إمساك بمخانق علماء أهل الكتاب، وهم متلبسون بهذا الضلال الذي هم فيه، يطعمون منه ويطعمون أتباعهم من هذا الزاد الفاسد، الذي يهلك من يتناوله ويتزوّد منه.

8. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ معطوف على قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ﴾.. ويكون معنى القول هنا الأمر، أو يكون معنى الأمر في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ القول، أي ولا يقول لكم أن اتخذوا الملائكة والنّبيّين أربابا.

9. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ما يسأل عنه.. وهو: هل كانوا مسلمين قبل أن يجيئهم الرسول ويدعوهم إلى ما دعاهم إليه؟ وإذا كان كذلك فما داعية إرساله إليهم؟ والجواب: هو أن أتباع المسيح الذين التقوا به، وآمنوا بدعوته، كانوا على هدى وبصيرة من أمر تلك الرسالة الكريمة التي حملها عيسى عليه السلام، وهم بهذا كانوا مؤمنين، مسلمين، بل كان منهم الحواريون الذين أوحى الله إليهم! فهذه هي دعوة عيسى، وتلك هي رسالته، وهؤلاء هم أتباعه الذين آمنوا به وحقّ لهم الانتساب إليه، وإلى المسلمين! ومع الأيام، وانتقال الشريعة اليهودية المسيحية إلى مواطن غير موطنها دخل عليها كثير من الحذف والإضافة، والتأويل، والتخريج، حتى أصبح لها وجهان.. وجه بدأت به، ووجه آخر انتهت إليه، وبين الوجهين من الخلاف ما بين الأبيض والأسود من خلاف، وتضادّ:

أ. بدأت المسيحية بالمسيح رسولا وانتهت به إلها يدعو إلى عبادته وعبادة أمّه.. كما يقول الله تعالى‏ ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ﴾

ب. بدأت المسيحية إسلاما يدين بها المسلمون، وانتهت إلحادا يدين بها من يعبدون المسيح، ويؤلهون أم المسيح!

10. وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، أي أيدعوكم المسيح أيها الذين آمنوا به إلها، إلى الكفر بالله، بعد أن دعا آباءكم الأولين إلى الإيمان به فكانوا من عباده المسلمين؟ أيدعوكم إلى هذا الذي تدّعون؟ ذلك محال! إن دعوة المسيح هي تلك الدعوة التي دعا إليها آباءكم الأولين، فآمنوا وأسلموا عليها، فكيف تكون تلك الدعوة نفسها هي التي بين أيديكم، والتي تدعوكم إلى الإيمان به إلها من دون الله؟ ما تأويل هذا وما منطقه؟ إنه لا تأويل لهذا إلا أن تحريفا دخل على دعوة المسيح فغيّر وجهها، وقلب حقيقتها، وإنه لا منطق لهذا إلا أن يكون هناك مسيحيان: مسيح عرفه المسيحيون الأولون.. المؤمنون المسلمون، ومسيح عرفتموه أنتم وعبدتموه من دون الله! وأما وليس إلا مسيح واحد، فالكلمة الآن لكم، لتقيموا لهذا التناقض وجها، ولتجعلوا له منطقا، إن كان للجمع بين المتناقضين وجه أو منطق!.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/505.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ اعتراض واستطراد؛ فإنه لما ذكر ليّ اليهود ألسنتهم بالتوراة، وهو ضرب من التحريف، استطرد بذكر التحريف الذي عند النصارى لمناسبة التشابه في التحريف إذ تقوّل النصارى على المسيح أنه أمرهم بعبادته فالمراد بالبشر عيسى عليه السلام، والمقصود تنزيه عيسى عن أن يكون قال ذلك، ردّا على النصارى، فيكون رجوعا إلى الغرض الذي في قوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64]

2. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في أسباب النزول.

3. ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ نفي لاستحقاق أحد لذلك القول واللام فيه للاستحقاق، وأصل هذا التركيب في الكلام ما كان فلان فاعلا كذا، فلما أريدت المبالغة في النفي عدل عن نفي الفعل إلى نفي المصدر الدال على الجنس، وجعل نفي الجنس عن الشخص بواسطة نفي الاستحقاق إذ لا طريقة لحمل اسم ذات على اسم ذات إلّا بواسطة بعض الحروف، فصار التركيب: ما كان له أن يفعل، ويقال أيضا: ليس له أن يفعل، ومثل ذلك في الإثبات كقوله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى﴾ [طه: 118]، فمعنى الآية: ليس قول‏ ﴿كُونُوا عِبَادًا لِي﴾ حقا لبشر أيّ بشر كان، وهذه اللام هي أصل لام الجحود التي في نحو ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ [الأنفال: 33]، فتراكيب لام الجحود كلّها من قبيل قلب مثل هذا التركيب لقصد المبالغة في النفي، بحيث ينفى أن يكون وجود المسند إليه مجعولا لأجل فعل كذا، أي فهو بريء منه بأصل الخلقة ولذلك سميت جحودا.

4. المنفي في ظاهر هذه الآية إيتاء الحكم والنبوءة، ولكن قد علم أنّ مصبّ النفي هو المعطوف من قوله: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي﴾ أي ما كان له أن يقول كونوا عبادا لي إذا آتاه الله الكتاب إلخ.

5. العباد جمع عبد كالعبيد، وقال ابن عطية: (الذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع عبد لا يقصد معه التحقير، والعبيد يقصد منه، ولذلك قال تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ﴾ وسمّت العرب طوائف من العرب سكنوا الحيرة ودخلوا تحت حكم كسرى بالعباد، وقيل لأنهم تنصّروا فسموهم بالعباد، بخلاف جمعه على عبيد كقولهم: هم عبيد العصا، وقال حمزة بن المطلب: (هل أنتم إلّا عبيد لأبي؟)، ومنه قول الله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]؛ لأنّه مكان تشفيق وإعلام بقلة مقدرتهم وأنه تعالى ليس بظلّام لهم مع ذلك، ولما كان لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك آنس بها في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الزمر: 53] فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن على الطريقة العربية السلبية)

6. ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ قيد قصد منه تشنيع القول بأن يكونوا عبادا للقائل بأنّ ذلك يقتضي أنهم انسلخوا عن العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر، لأنّ حقيقة العبودية لا تقبل التجزئة لمعبودين، فإنّ النصارى لما جعلوا عيسى ربّا لهم، وجعلوه ابنا لله، قد لزمهم أنهم انخلعوا عن عبودية الله فلا جدوى لقولهم: نحن عبد الله وعبيد عيسى، فلذلك جعلت مقالتهم مقتضية أنّ عيسى أمرهم بأن يكونوا عبادا له دون الله، والمعنى أنّ الآمر بأن يكون الناس عبادا له هو آمر بانصرافهم عن عبادة الله.

7. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ أي ولكن يقول كونوا ربانيين أي كونوا منسوبين للربّ، وهو الله تعالى، لأنّ النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه، ومعنى ذلك أن يكونوا مخلصين لله دون غيره، والربّاني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال اللّحياني لعظيم اللحية، والشّعراني لكثير الشعر.

8. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ أي لأنّ علمكم الكتاب من شأنه أن يصدّكم عن إشراك العبادة، فإنّ فائدة العلم العمل، وقرأ الجمهور: بما كنتم تعلمون ـ بفتح المثناة الفوقية وسكون العين وفتح اللام ـ مضارع علم، وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف: بضم ففتح فلام مشدّدة مكسورة مضارع علّم المضاعف.

9. ﴿تَدْرُسُونَ﴾ معناه تقرؤون أي قراءة بإعادة وتكرير: لأنّ مادّة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرّر عمل يعمل في أمثاله، فمنه قولهم: درست الريح رسم الدار إذا عفته وأبلته، فهو دارس، يقال منزل دارس، والطريق الدارس العافي الذي لا يتبين، وثوب دارس خلق، وقالوا: درس الكتاب إذا قرأه بتمهّل لحفظه، أو للتدبّر، وفي الحديث: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلّا نزلت عليهم السكينة..) رواه الترمذي فعطف التدارس على القراءة فعلم أنّ الدراسة أخصّ من القراءة، وسموا بيت قراءة اليهود مدراسا كما في الحديث: إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج‏ في طائفة من أصحابه حتى أتى مدراس اليهود فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلخ، ومادة درس تستلزم التمكن من المفعول فلذلك صار درس الكتاب مجازا في فهمه وإتقانه ولذلك عطف في هذه الآية ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ على‏ ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ وفعله من باب نصر، ومصدره في غالب معانيه الدرس، ومصدر درس بمعنى قرأ يجيء على الأصل درسا ومنه سمي تعليم العلم درسا، ويجيء على وزن الفعالة دراسة وهي زنة تدل على معالجة الفعل، مثل الكتابة والقراءة، إلحاقا لذلك بمصادر الصناعات كالتجارة والخياطة.

10. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ التفات من الغيبة إلى الخطاب، وقرأ الجمهور (يأمركم) بالرفع على ابتداء الكلام، وهذا الأصل فيما إذا أعيد حرف النفي، فإنه لما وقع بعد فعل منفي، ثم انتقض نفيه بلكن، احتيج إلى إعادة حرف النفي، والمعنى على هذه القراءة واضح: أي ما كان لبشر أن يقول للناس كونوا.. ولا هو يأمرهم أن يتخذوا الملائكة أربابا، وقرأه ابن عامر، وحمزة ويعقوب، وخلف: بالنصب عطفا على أن يقول ولا زائدة لتأكيد النفي الذي في قوله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾، وليست معمولة لأن: لاقتضاء ذلك أن يصير المعنى: لا ينبغي لبشر أوتي الكتاب ألّا يأمركم أن تتخذوا، والمقصود عكس هذا المعنى، إذ المقصود أنه لا ينبغي له أن يأمر، فلذلك اضطرّ في تخريج هذه القراءة إلى جعل لا زائدة لتأكيد النفي وليست لنفي جديد، وقرأه الدّوري عن أبي عمرو باختلاس الضمة إلى السكون.

11. لعلّ المقصود من قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾: أنهم لما بالغوا في تعظيم بعض الأنبياء والملائكة، فصوّروا صور النبيئين، مثل يحيى ومريم، وعبدوهما، وصوّروا صور الملائكة، واقتران التصوير مع الغلوّ في تعظيم الصورة والتعبد عندها ضرب من الوثنية، قال ابن عرفة: (إن قيل نفي الأمر أعم من النهي فهلا قيل وينهاكم، والجواب أنّ ذلك باعتبار دعواهم وتقوّلهم على الرسل)، وأقول: لعلّ التعبير بلا يأمركم مشاكلة لقوله: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ﴾ لأنهم زعموا أنّ المسيح قال إنه ابن الله فلما نفي أنه يقول ذلك نفي ما هو مثله وهو أن يأمرهم باتخاذ الملائكة أربابا، أو لأنهم لما كانوا يدّعون التمسك بالدين كان سائر أحوالهم محمولة على أنهم تلقوها منه، أو لأنّ المسيح لم ينههم عن‏ ذلك في نفس الأمر، إذ هذا مما لا يخطر بالبال أن تتلبس به أمة متدينة فاقتصر، في الردّ على الأمة، على أنّ أنبياءهم لم يأمروهم به ولذلك عقب بالاستفهام الإنكاري، وبالظرف المفيد مزيد الإنكار على ارتكابهم هذه الحالة، وهي قوله: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، فهناك سببان لإنكار أن يكون ما هم عليه مرضيا أنبياءهم؛ فإنه كفر، وهم لا يرضون بالكفر، فما كان من حقّ من يتبعونهم التلبّس بالكفر بعد أن خرجوا منه.

12. الخطاب في قوله: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ التفات من طريقة الغيبة في قوله: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ فالمواجه بالخطاب هم الذين زعموا أنّ عيسى قال لهم: كونوا عبادا لي من دون الله، فمعنى‏ ﴿أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ يقتضي أنّهم كانوا مسلمين والخطاب للنصارى وليس دينهم يطلق عليه أنه إسلام، فقيل: أريد بالإسلام الإيمان أي غير مشركين بقرينة قوله‏ ﴿بِالْكُفْرِ﴾، وقيل الخطاب للمسلمين بناء على ظاهر قوله: ﴿إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ لأنّ اليهود والنصارى لم يوصفوا بأنهم مسلمون في القرآن، فهذا الذي جرّأمن قالوا: إنّ الآية نزلت لقول رجل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا نسجد لك)، ولا أراه ـ لو كان صحيحا ـ أن تكون الآية قاصدة إياه؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل: ثم يأمر الناس بالسجود إليه، ولما عرّج على الأمر بأن يكونوا عبادا له من دون الله ولا بأن يتّخذوا الملائكة والنبيين أربابا.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/139.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أعظم فرية افتراها بعض أهل الكتاب هي ادعاؤهم أن بعض النبيين دعوهم إلى أن يعبدوهم من دون الله تعالى، أو يتخذوهم أربابا، ولقد أشار الله سبحانه وتعالى ـ إلى هذه الفرية العظيمة ببيان أنها غير معقولة في ذاتها، وأعظم الافتراء ما كان منافيا لطبيعة من ينسب إليه؛ ولقد قال تعالى في بطلان هذه‏ الفرية: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾

2. لقد ادّعى النصارى أن المسيح إله وعبدوه، وادّعوا أن ذلك من رسالته، واتخذ اليهود والنصارى الأحبار والرهبان أربابا من دون الله تعالى بمعنى أنهم لم يتصلوا في معرفة الدين بنصوص كتابهم من غير حجاب، بل اتصلوا به عن طريق تفسير الأحبار والرهبان، وأولئك حرفوا وبدلوا، وكانوا ينشرون كلامهم على أنه من دين الله، وما هو منه.

3. ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ استعمال قرآني يفيد نفى الشأن وعدم اتفاق هذا المعنى مع الحقيقة المفروضة في الرسول، وقد قالوا إن كلمة ﴿مَا كَانَ﴾ في هذا المقام وما يشبهه في معنى ما ينبغي وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء]، وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لله أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ [مريم‏]، وقوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ﴾ [النور]

4. النفي في النص القرآني منصبّ على اجتماع الرسالة مع القول الذي يكذبون به على أنبياء الله، ومعنى النسق هذا، لا ينبغي لبشر أن يخاطبه الله تعالى ويعطيه الحكم والنبوة أن يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله فليس النفي بالبداهة منصبا على إيتاء الله الكتاب والحكم والنبوة، بل هو منصب على المعطوف، وهو أن يكون منه ـ مع ما آتاه الله ـ ذلك الادعاء فيدعو الناس إلى عبادته.

5. (الكتاب) المراد به سجل الشريعة التي جاءت، و(الحكم) قيل المراد به الحكمة، ومن ذلك قول أكثم بن صيفي: (الصمت حكم، وقليل فاعله)، وأنا أرجح أن المراد هو الشريعة المنزلة التي يحكم بها بين الناس، و(النبوة) هي الرسالة الإلهية التي حملها النبيّ من أنبياء الله تعالى، وتلك النعم التي أنعم الله بها على هذا النبيّ لا تتفق مع ما ينسب إليه، فالكتاب الذي آتاه حجة عليه والشريعة التى‏ جاء بها تتجافى عن هذا الادعاء، والأمانة التي تحملها برسالته عن الله تعالى تمنعه من أن ينطق بهذا البهتان الصريح؛ فإنه ليس في كتابه ولا شريعته، ولا يتفق مع معنى رسالته، وإذا كان من المستحيل أن يدعى تلك الدعوة فإن المعقول أن تكون دعوته متفقة مع هذه الأمور، ولذا قال سبحانه في دعوته: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ أي ولكن يقول أولئك الذين أوتوا علم الكتاب، وعلم الشريعة، وفضل النبوة والسفارة الإلهية للناس: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾

6. ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ الربانيون، نسبة إلى الرب سبحانه وتعالى وقويت النسبة بزيادة الألف والنون، ومعنى هذه النسبة إلى الله تعالى يتضمن أنوارا يتخلق بها المؤمن:

أ. أولها: ألا يعبد إلا الله وحده، فيكون بعقله وقلبه وأحاسيسه خالصا لله سبحانه وتعالى ولا يشرك فيها أحدا سواه.

ب. ثانيها: ألا يعرف حقيقة شرع إلا عن الله، فلا يوسط في تعرفها عبادا لهم أهواء وشهوات، يحرفون الكلم عن مواضعه إلا أن يكونوا ذوى فهم في كتاب الله تعالى قد حرم هو منه، فيستعين بهم على فهم كتابه سبحانه لا أن يأخذ أقوالهم على أنها دين الله.

ج. ثالثها: ألا ينفذ من الأحكام إلا أحكام الرب سبحانه وتعالى.

د. رابعها: أن تكون كل أعماله خالصة لوجه الله فلا يمارى ولا ينافق.

هـ. خامسها: أن يخضع للحق لذات الحق.

7. بين سبحانه ـ حكاية عما ينبغي أن يقوله الرسل وقد قالوه ـ كيف تتربى الربانية في نفس المؤمن، فذكر أنها علم الكتاب المنزل والعكوف على دراسته، فقال: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ أي أن الذي يربى الربانية هو الاستمرار والدءوب على أمرين اثنين:

أ. أولهما: دراسة الكتاب المنزل الذي بينه الرسول، فهو يدرسه مع شارحه، ويقطع كل الحجزات التي تحول بينه وبين هذه الدراسة، فلا يأخذ دين الله عن غير كتاب الله الذي بينه رسول الله تعالى.

ب. ثانيهما: استيعاب علم الكتاب وتعليمه من البعض ليتمكن الدارسون من أن يعرفوا حقيقة كتاب الله، والاهتداء بهديه.

8. قدّم الله تعالى تعليم علم الكتاب على دراسته لأمرين:

أ. أولهما: الإشارة إلى جرم أهل الكتاب الذين اتجهوا إلى تعليم الناس أهواءهم بدل أن يعلموهم كتاب الله.

ب. ثانيهما: أن بيان الدراسة من غير تعليم وتدريس خبط عشواء، وسير في ظلماء؛ كما يحاول ملاحدة اليوم الذين يريدون أن يفهموا القرآن من غير أن يعلموا شيئا حتى علم العربية.

9. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ في النص القرآنى‏ قراءتان إحداهما بضم الراء، ويكون الكلام بها مستأنفا، ومتمما بيان ما لا ينبغي لرسل الله تعالى، والثانية بفتح الراء؛ بالعطف على أن يؤتيه مع ملاحظة المعطوف الأول عليها، والمعنى: أنه لا ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب مع قوله كونوا عبادا لي من دون الله، ولا ينبغي له أيضا أن يأمرهم بأن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا بأن يعتقدوا أن الملائكة والنبيين يسيّرون الكون بغير إرادة الله، وأنهم يعبدون من دون الله أو مع الله، وقد وقع في عبادة الملائكة ـ الصابئة الذين كانوا يقيمون في بلاد الكلدان، وتبعهم بعض المشركين من العرب، والذين عبدوا بعض النبيين هم النصارى فقد اتخذوا المسيح إلها يعبد، وبعض اليهود فقد اتخذت طائفة منهم عزيرا إلها وزعموه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

10. ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ هذا استفهام إنكاري بمعنى النفي أي أن الرسل لا يمكن أن يأمروا بالكفر بالله، وقد أوتوا علم الكتاب وفضل السفارة، وتنفيذ شريعة الله تعالى، ذلك لأنهم يكونون مضللين ولا يكونون هادين.

11. ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ فيه إشارة إلى أن الناس بمقتضى فطرهم يسلمون ويخلصون وجوههم لله سبحانه وتعالى، فهذا شأن من شؤونهم، وطبيعة في فطرهم، حتى لقد قال بعض العلماء: إن معرفة الله تكون بالعقل؛ وأوجب‏ أبو حنيفة معرفة الله بالعقل؛ وما كان الرسل ليصرفوا الناس عن مقتضى الفطرة والعقل؛ فعبادة الله وحده في فطرة الله التي فطر عليها الناس.. اللهم جنبنا الهوى، واهدنا إلى الرشاد.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1289.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾، ليس من شك ان الذي يختاره الله للكتاب والحكم والنبوة يمتنع عليه أن يدعو الناس لعبادته، لأن هذا كفر، والله لا يختار الكافرين، قال تعالى: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾

2. الآية الكريمة رد على من يلصق بالأنبياء والأولياء صفة من صفات الربوبية، كما انها ـ أي الآية ـ شهادة منه تعالى بتنزيه الأنبياء، وتبرئتهم من الرضا بالغلو فيهم.. ان النبي يوقن بأنه عبد من عباد الله، وان الله وحده هو المعبود، فكيف يعقل أن يدعو الناس لعبادته، أو عبادة الملائكة.. وإنما يأمرهم أن يكونوا ربانيين، أي عالمين عاملين معلمين، وفي الحديث ان رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنسجد لك؟، فقال: لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، وقال له آخر: أتريد أن نعبدك، ونتخذك إلها؟، فقال: معاذ الله!، ما بذلك أمرت، ولا اليه دعوت.. أما حكاية إحراق الإمام علي في النار من نسب اليه الربوبية فأشهر من أن تذكر(2).. وكل من دعا الناس إلى عبادته فهو كافر، وكل من دعاهم إلى تعظيمه بقصد التعاظم والاستعلاء فهو فاسق.

3. سؤال وإشكال: لقد تضمنت الآية ثلاثة ألفاظ: الكتاب والحكم والنبوة، وكل لفظ منها واضح المعنى لا يحتاج إلى تفسير لو كان بمفرده، لكنها إذا اجتمعت في كلام واحد، وعطف بعضها على بعض فإنها تحتاج إلى تفسير، لأن معانيها متداخلة، بخاصة إيتاء الكتاب والنبوة، مع العلم بأن العطف يقتضي التغاير، فما وجه الفرق بين هذه الكلمات الثلاث الذي سوغ عطف بعضها على بعض؟ والجواب: المراد بالكتاب الكتاب المنزل من الله، كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن، والمراد بالحكم العلم والسنة النبوية، قال تعالى عن يحيى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾، أما النبوة فمعناها معروف، وهي وان كانت تستلزم معرفة الكتاب والسنة، ولكن معرفتهما لا تستلزم النبوة، فكل نبي عالم بالكتاب‏ والسنة، وليس كل عالم بالكتاب والسنة نبيا، ونظير هذه الآية قوله تعالى مشيرا إلى الأنبياء: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾

4. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾، أي ان النبي يقول للناس: (كونوا عالمين بكتاب الله، عاملين به، معلّمين إياه لغيركم)، قال الشيخ محمد عبده: (أفادت هذه الآية ان الإنسان يكون ربانيا بعلم الكتاب وتعليمه للناس ونشره، ومن المقرر ان التقرب إلى الله لا يكون بالعلم وحده، بل لا بد معه من العمل)

5. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾، أي ان النبي لا يأمر، ولن يأمر أحدا بأن يتخذ معبودا غير الله.. كيف؟، ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، هم مسلمون، لأنهم آمنوا بالنبي، وأخذوا بأقواله.. وكل من آمن بنبي من أنبياء الله في أي عصر من العصور فهو مسلم باصطلاح القرآن.

6. من تتبع آيات القرآن، والسنة النبوية يجد ان من أبرز المظاهر الأصيلة التي تميز بها الإسلام عن غيره من الأديان هي التأكيد على انه لا يجوز بحال أن تنسب صفة الألوهية إلى مخلوق نبيا كان أو ملكا أو وليا.. والسر في التكرار والتأكيد ان الإنسان ميّال بفطرته إلى الغلو، كما نشاهد ذلك في بعض أهل الأديان.

7. على الرغم من هذا التأكيد فقد وجد غلاة بين المسلمين.. وان كثيرا من مسلمي اليوم ـ ونحن في القرن العشرين ـ ينسبون إلى بعض الموتى ما لا تجوز نسبته الا إلى الله وحده لا شريك له.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/96.

(2) لا نرى صحة عقوبتهم بهذه العقوبة، والأدلة التاريخية ترد ذلك، والشهرة لا تدل على الصحة

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وقوع الآيات عقيب الآيات المرتبطة بأمر عيسى عليه السلام يفيد أنها بمنزلة الفصل الثاني من الاحتجاج على براءة ساحة المسيح مما يعتقده في حقه أهل الكتاب من النصارى، والكلام بمنزلة قولنا: إنه ليس كما تزعمون فلا هو رب ولا أنه ادعى لنفسه الربوبية:

أ. أما الأول: فلأنه مخلوق بشري حملته أمه ووضعته وربته في المهد غير أنه لا أب له كآدم عليه السلام فمثله عند الله كمثل آدم.

ب. وأما الثاني: فلأنه كان نبيا أوتي الكتاب والحكم والنبوة والنبي الذي هذا شأنه لا يعدو طور العبودية ولا يتعرى عن زي الرقية فكيف يتأتى أن يقول للناس اتخذوني ربا وكونوا عبادا لي من دون الله، أو يجوز ذلك في حق غيره من عباد الله من ملك أو نبي فيعطي لعبد من عباد الله ما ليس له بحق، أو ينفي عن نبي من الأنبياء ما أثبت الله في حقه من الرسالة فيأخذ منه ما هو له من الحق.

2. ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ البشر مرادف للإنسان، ويطلق على الواحد والكثير فالإنسان الواحد بشر كما أن الجماعة منه بشر، واللام للملك أي لا يملك ذلك أي ليس له بحق كقوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا﴾، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾

3. ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾، اسم كان إلا أنه توطئة لما يتبعه من قوله: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ﴾، وذكر هذه التوطئة مع صحة المعنى بدونها ظاهرا يفيد وجها آخر لمعنى قوله‏: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾، فإنه لو قيل ما كان لبشر أن يقول للناس، كان معناه أنه لم يشرع له هذا الحق وإن أمكن أن يقول ذلك فسقا وعتوا، ولكنه‏ إذا قيل: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ﴾ كان معناه أن إيتاء الله له العلم والفقه مما عنده وتربيته له بتربية ربانية لا يدعه أن يعدو طور العبودية، ولا يوسع له أن يتصرف فيما لا يملكه ولا يحق له كما يحكيه تعالى عن عيسى عليه السلام في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾، ومن هنا تظهر النكتة في قوله: ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ﴾ الآية دون أن يقال: ما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول.. فإن العبارة الثانية تفيد معنى أصل التشريع كما تقدم بخلاف قوله: ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ﴾ الآية فإنه يفيد أن ذلك غير ممكن البتة أي إن التربية الربانية والهداية الإلهية لا تتخلف عن مقصدها كما قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ﴾ (يعني قوم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾

4. فمحصل المعنى أنه لا يسع لبشر أن يجمع بين هذه النعم الإلهية وبين دعوة الناس إلى عبادة نفسه بأن يؤتى الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله، فالآية بحسب السياق بوجه كقوله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ ـ إلى أن قال ـ: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾، فإن المستفاد من الآية: أن المسيح وكذا الملائكة المقربون أجل شأنا وأرفع قدرا أن يستنكفوا عن عبادة الله فإن الاستنكاف عن عبادته يستوجب أليم العذاب، وحاشا أن يعذب الله كرام أنبيائه ومقربي ملائكته.

5. سؤال وإشكال: الإتيان بثم الدالة على التراخي في قوله: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ﴾، ينافي الجمع الذي ذكرته، والجواب: ما ذكرناه من معنى الجمع محصل المعنى، وكما يصح اعتبار الاجتماع والمعية بين المتحدين زمانا كذلك يصح اعتباره بين المترتبين والمتتاليين فهو نوع من الجمع.

6. ﴿كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾، فالعباد كالعبيد جمع عبد، والفرق بينهما أن العباد يغلب استعماله فيما إذا نسب إلى الله سبحانه، يقال: عباد الله، ولا يقال: غالبا عباد الناس، بل عبيد الناس وتقييد قوله: ﴿عِبَادًا لِي﴾ بقوله: ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ تقييد قهري فإن الله سبحانه لا يقبل من العبادة إلا ما هو خالص لوجهه الكريم كما قال تعالى: {أَلا لله الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى‏ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَكاذِبٌ كَفَّارٌ}، فرد عبادة من يعبد مع عبادته غيره حتى بعنوان التقرب والتوسل والاستشفاع، على أن حقيقة العبادة لا تتحقق إلا مع إعطاء استقلال ما للمعبود حتى في صورة الإشراك فإن الشريك من حيث إنه شريك مساهم ذو استقلال ما، والله سبحانه له الربوبية المطلقة فلا يتم ربوبيته ولا تستقيم عبادته إلا مع نفي الاستقلال عن كل شيء من كل جهة فعبادة غير الله عبادة له من دون الله وإن عبد الله معه.

7. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ الرباني‏ منسوب إلى الرب، زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال لحياني لكثير اللحية ونحو ذلك، فمعنى الرباني شديد الاختصاص بالرب وكثير الاشتغال بعبوديته وعبادته.

8. الباء في قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾، للسببية وما مصدرية، والكلام بتقدير القول والمعنى، ولكن يقول: كونوا ربانيين بسبب تعليمكم الكتاب للناس ودراستكم إياه فيما بينكم.

9. الدراسة أخص من التعليم فإنه يستعمل غالبا فيما يتعلم عن الكتاب بقراءته قال الراغب: (درس الدار بقي أثرها، وبقاء الأثر يقتضي انمحاءه في نفسه، فلذلك فسر الدروس بالانمحاء، وكذا درس الكتاب، ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ، لما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالحفظ، قال تعالى: ﴿وَدَرَسُوا مَا فِيهِ﴾، وقال: {بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ‏ وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها})، ومحصل الكلام أن البشر الذي هذا شأنه إنما يدعوكم إلى التلبس بالإيمان واليقين بما في الكتاب الذي تعلمونه وتدرسونه من أصول المعارف الإلهية، والاتصاف والتحقق بالملكات والأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها، والعمل بالصالحات التي تدعون الناس إليها حتى تنقطعوا بذلك إلى ربكم، وتكونوا به علماء ربانيين.

10. ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾، حيث اشتمل على الماضي الدال على التحقق لا يخلو عن دلالة ما على أن الكلام في الآية مسوق للتعريض بالنصارى من أهل الكتاب في قولهم: إن عيسى أخبرهم بأنه ابنه وكلمته على الخلاف في تفسير البنوة، وذلك أن بني إسرائيل هم الذين كان في أيديهم كتاب سماوي يعلمونه ويدرسونه وقد اختلفوا فيه اختلافا يصاحب التغيير والتحريف، وما بعث عيسى عليه السلام إلا ليبين لهم بعض ما اختلفوا فيه، وليحل بعض الذي حرم عليهم، وبالجملة ليدعوهم إلى القيام بالواجب من وظائف التعليم والتدريس وهو أن يكونوا ربانيين في تعليمهم ودراستهم كتاب الله سبحانه.

11. الآية وإن لم تأب الانطباق على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بوجه فقد كانت لدعوته أيضا مساس بأهل الكتاب الذين كانوا يعلمون ويدرسون كتاب الله لكن عيسى عليه السلام أسبق انطباقا عليه، وكانت رسالته خاصة ببني إسرائيل بخلاف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأما سائر الأنبياء العظام من أولي العزم والكتاب: كنوح وإبراهيم وموسى فمضمون الآية لا ينطبق عليهم وهو ظاهر.

12. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ عطف على قوله‏ ﴿يَقُولُ﴾ على القراءة المشهورة التي هي نصب يأمركم، وهذا كما كان طائفة من أهل الكتاب كالصابئين يعبدون الملائكة ويسندون ذلك إلى الدعوة الدينية، وكعرب الجاهلية حيث كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، وهم يدعون أنهم على دين إبراهيم عليه السلام هذا في اتخاذ الملائكة أربابا، وأما اتخاذ النبيين أربابا فكقول اليهود: عزير بن الله على ما حكاه القرآن ولم يجوز لهم موسى عليه السلام ذلك، ولا وقع في التوراة إلا توحيد الرب ولو جوز لهم ذلك لكان آمرا به حاشاه من ذلك.

13. اختلفت الآيتان: أعني قوله: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وقوله: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ من جهتين في سياقهما: الأولى: أن المأمور في الأولى ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ﴾ الناس، وفي الثانية هم المخاطبون بالآية..والثانية: أن المأمور به في الأولى العبودية له وفي الثانية الاتخاذ أربابا:

أ. أما الأولى فحيث كان الكلام مسوقا للتعريض بالنصارى في عبادتهم لعيسى عليه السلام وقولهم بألوهيته صريحا مسندين ذلك إلى دعوته كان ذلك نسبة منهم إليه أنه قال: ﴿كُونُوا عِبَادًا لِي﴾ بخلاف اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا بالمعنى الذي قيل في غير عيسى فإنه يضاد الألوهية بلازمه لا بصريحه فلذلك قيل: أربابا، ولم يقل: آلهة.

ب. وأما الثانية فالوجه فيه أن التعبيرين كليهما (﴿كُونُوا عِبَادًا لِي﴾ ـ {لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا} أمر لو تعلق بأحد تعلق بهؤلاء الذين يخاطبون بهذه الآيات من أهل الكتاب والعرب لكن التعبير لما وقع في الآية الأولى بالقول، والقول يقضي بالمشافهة ولم يكن الحاضرون في زمن نزول الآية حاضرين إذ ذاك لا جرم قيل: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ﴾، ولم يقل: ثم يقول لكم، وهذا بخلاف لفظ الأمر المستعمل في الآية الثانية فإنه لا يستلزم شفاها بل يتم مع الغيبة فإن الأمر المتعلق بالأسلاف متعلق بالأخلاف مع حفظ الوحدة القومية، وأما القول فهو لإفادته بحسب الانصراف إسماع الصوت يقضي بالمشافهة والحضور إلا أن يعني به مجرد معنى التفهيم، وعلى هذا فالأصل في سياق هذه الآيات الحضور وخطاب الجمع، كما جرى عليه قوله تعالى‏ ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ إلى آخر الآية.

14. ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ظاهر الخطاب أنه متعلق بجميع المنتحلين بالنبوة من أهل الكتاب أو المدعين للانتساب إلى الأنبياء كما كانت عرب الجاهلية تزعم أنهم حنفاء والكلام موضوع على الفرض والتقدير فالمعنى أنكم على تقدير إجابتكم هذا البشر الذي أوتي الكتاب والحكم والنبوة تكونون مسلمين لله متحلين بحلية الإسلام مصبوغين بصبغته فكيف يمكنه أن يأمركم بالكفر ويضلكم عن السبيل الذي هداكم إليه بإذن الله سبحانه.

15. ومن هنا يظهر أن المراد بالإسلام هو دين التوحيد الذي هو دين الله عند جميع الأنبياء على ما يدل عليه أيضا احتفاف الآيات بهذا المعنى من الإسلام أعني قوله تعالى من قبل: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾، وقوله تعالى من بعد: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ ـ إلى أن قال ـ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ}

16. ذكر بعض المفسرين أن المراد بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ﴾ إلى آخر الآيتين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بناء على ما روي في سبب النزول وحاصله أن أبا رافع القرظي ورجلا من نصارى نجران قالا لرسول الله ص: أتريد أن نعبدك يا محمد؟ فأنزل الله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ﴾ إلى آخر الآيتين الحديث ثم أيده بقوله في آخرهما ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ فإن‏ الإسلام‏ هو الدين الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفيه أنه خلط بين الإسلام في عرف القرآن وهو دين التوحيد الذي بعث به جميع الأنبياء وبين الإسلام بالاصطلاح الحادث بين المسلمين بعد عصر النزول، وقد تقدم الكلام فيه.

17. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالمسيح عليه السلام والنصرانية وعقائدها والردود عليها، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏3/274.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ يستعمل للدلالة على أن المنفي بعيد الوقوع شبه المستحيل، ألا ترى إلى قول إبليس نعوذ بالله منه: ﴿لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ﴾ [الحجر: 33] يعنى: أن هذا شبه المستحيل منه، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: 33] للدلالة على أن ذلك ينافي الحكمة لأن النذير يتقدم التعذيب ولا يقارنه لأن العذاب الحاضر الذي لا يمكن في الحكمة كشفه ولو آمنوا لا معنى لإنذاره، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء: 92] لأن قتل المؤمن عمداً ينافي إيمان القاتل لخوفه من الله وحبه لأخيه المؤمن في الله، ومن هذا الباب قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: 117]، فقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ الآية يدل على أن ذلك شبه المستحيل من هذا البشر الذي اختاره الله واصطفاه لإيتائه الكتاب والحكم والنبوة، لأن الله علام الغيوب فلو كان هذا البشر يدعو الناس إلى الشرك ما اختاره لذلك لأنه خلاف الحكمة، ثم إن ما آتاه الله من الكتاب والحكم والنبوة يزيده صلاحاً إلى صلاحه ونوراً إلى نوره ويدعوه إلى شكر النعمة كما هو شأنه، بدلالة قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: 53]، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاَتَهُ} [الأنعام: 124] فرسل الله صفوة من عباده يصطفيهم على علم بهم وبغيرهم، فالكتاب والحكم والنبوة يزيدهم هدى إلى هداهم، فبينهم وبين الباطل مسافات ومراحل، فلا يجوز أن ينسب إليهم أنهم دعوا عباد الله أن يكونوا عبيداً لهم من دون الله لأن ذلك شبه المستحيل منهم.

2. ﴿وَالْحُكْمَ﴾ هو الحكم بما أنزل الله ﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ هي الوحي بشريعة ودين كامل مصحوباً بآية تدل على أن ذلك وحي من الله تعالى.

3. ﴿كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ أي لأكون لكم وساطة بينكم وبين الله أقربكم إليه واشفع لكم عنده وتتوسلون بي إليه هذا معنى ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ ومعنى ﴿كُونُوا عِبَادًا لِي﴾ اتخذوني إلهاً وربّاً مالكاً لكم كما فعلت النصارى بعيسى عليه السلام، وقد تضمن هذا الكلام من قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ الدلالة على بطلان دعوى ذلك من النصارى وغيرهم، وقام هذا مقام النهي عن دعوى ذلك فعطف عليه قوله تعالى:

4. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ عابدين لرب العالمين، دعاة إلى عبادته، معلمين لعبادته، ناصحين له، موالين لأوليائه، معادين لأعدائه، مخلصين له، مكثرين لذكر رب العالمين، حتى تستحقوا هذا الاسم الكريم ﴿رَبَّانِيِّينَ﴾ الذي معناه النسبة إلى ربهم لكثرة لهجهم بذكره ونصحهم وإخلاصهم في عبادته ودعوة الناس إليه.

5. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ بسبب علمكم لكتاب الله، فإنه يدعوكم إلى أن تكونوا ربانيين بما فيه من الهدى والمواعظ، هذا على قراءة نافع ﴿تَعْلَمُونَ﴾ بالتخفيف، فأما على قراءة ـ ضم التاء، وفتح العين، وتشديد اللام ـ فالمعنى بسبب تكرار تعليمكم لكتاب الله، فإن المعلم أحق أن يعمل به وهو في حال التعليم يتذكر ما فيه من الهدى والمواعظ، والذي يعاود التذكر بتكرار التعليم واستمراره أحق أن يتذكر ولا يغفل ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ من كتب الهداية إما من كتب الله تعالى وإما من كتب العلماء الهداة التي فيها التذكير والمواعظ والإرشاد.

6. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ بشر علمه الله الكتاب والحكم وآتاه النبوة ﴿أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ فكما لا يتصور منه أن يقول للناس: ﴿كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ كذلك ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ لأن هذا ينافي دينه وعقيدته وحاله في اخلاصه لله.

7. ﴿أَيَأْمُرُكُمْ﴾ سؤال إنكار بمعنى يأمركم بالكفر بما جاء به من عند الله والعدول عنه إلى عبادة غير الله بعد إذ قد أجبتم دعوته وأسلمتم لربكم وجوهكم تعبدونه لا تشركون به، أيدعوكم إلى الضلال بعد الهدى، وإلى الفساد بعد الصلاح، والى الكفر بعد الإيمان، وإلى الشرك بعد الإسلام هذا كما نقول في لغتنا لا يتصور منه لمنافاته طريقته وحاله، ولأنه يهدم بذلك بنيانه الذي قد بناه وتعب في بناءه وتحمل المصاعب والشدائد والأذى والخوف حتى إذا تم بنيانه رجع لهدمه، ولأنه يكون كما قال شعيب عليه السلام: ﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ﴾ [الأعراف: 89] لأنه إن كان صادقاً في أول أمره فقد كذب في دعوته إلى الشرك، وإن كان صادقاً ـ والعياذ بالله من القول بذلك ـ في دعوته إلى الشرك فقد كشف كذبه فيما مضى منه من الدعوة إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/490.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد حدث في التاريخ الديني القديم، أنّ بعض الناس قد تطرّفوا في تعظيم الأنبياء الذين كانوا يملكون طاقات روحيّة كبيرة، وينطلقون في حياة الناس من خلال الدور العظيم الذي أوكل الله إليهم القيام به، مما استلزم صدور المعجزات على أيديهم لمواجهة التحدي الذي كان يوجّه إليهم من قبل الكافرين، ولإثبات علاقتهم بالله من خلال النبوّة فنشأ من بعدهم جماعة يؤلهونهم وينسبون إليهم صفات الربوبيّة من خلال ما يدّعونه لهم من أسرار خفيّة في طاقاتهم ترتفع بهم إلى هذا المستوى، كما حدث ذلك بالنسبة إلى عيسى عليه السّلام في ظاهرة التأليه والغلوّ التي امتدت إلى وقتنا هذا في ما يعتقده النصارى من فكرة المسيح ـ الإله.

2. حدثت ظاهرة أخرى للتأليه، وهي ما كان متعارفا لدى بعض العرب أو غيرهم من تأليه الملائكة، وذلك من خلال الأحاديث الدينية التي تتحدث عن طاقاتهم الخارقة وقدراتهم الكبيرة في أوضاعهم وأشكالهم وأسرارهم.

3. ربما يتعلل هؤلاء وأولئك بانتماء هذا الفكر إلى الأنبياء، فهم يدعون الناس إلى أن يكونوا عبادا لهم، بتقديم فروض العبادة لهم، وبتقديسهم بالمستوى العظيم الذي يرتفع بهم إلى مستوى الربوبيّة، وقد يحدث ذلك من خلال ما يريد النبي لنفسه من قداسة وتأليه، وقد يحدث ذلك من خلال ما يفرضه أحد الأنبياء من توجيه الناس إلى عبادة نبيّ آخر، أو في تأليه الملائكة، وذلك لما يثيره الأنبياء أمام الناس من قصص وتعليمات في عظمة الملائكة وقداستهم التي تصل بهم إلى مستوى التأليه والربوبيّة.

4. فكانت هاتان الآيتان من أجل أن يضع الله ـ سبحانه ـ الفكرة في موقعها السليم، ليدفعنا إلى التفكير في بطلان هذا التعلّل ببطلان الأساس الذي يرتكز عليه، ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ﴾ فإذا كان الله قد أرسل بشرا بالكتاب الذي يفصّل للناس حقائق الأشياء في شؤون العقيدة والشريعة والحياة، ليركّز لهم المفاهيم الحقّة على أساس من الوحي.. ﴿وَالْحُكْمَ﴾ وأتاه الحكم ليفصل بين الناس في ما اختلفوا فيه من خلال تطبيق الفكرة على حركة الواقع، لئلا يضيع الناس في متاهات النظريات بعيدا عن التطبيق، ﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ وأعطاه النبوّة التي هي سفارة النبي بين الله وبين خلقه من خلال الوحي الذي ينزل عليه.. ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ فلا يمكن أن يرسل الله مثل هذا الإنسان ويختاره من بين عباده، إلا إذا كان متمتعا بالصفات العظيمة التي تبعده عن كل انحراف في التصور والسلوك، وواعيا لدوره وموقعه وامتداد خطه الرسالي، وعظمة الله في نفسه، وضعة نفسه أمام الله، وشعوره العميق بالعبودية المطلقة أمام الألوهية المطلقة؛ لتكون رسالته منطلق خير وصلاح وإصلاح وتأكيد على الحقيقة في كل مجالاتها الفكرية والعملية.. وفي هذا الاتجاه لا يمكن أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه من دون الله، لأنه يعرف أن قدراته كلها، مهما كانت عظمتها، مستمدّة من الله ـ سبحانه ـ فإنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا بالله؛ ولا يمكن أن يدعوهم إلى اتخاذ الأنبياء الآخرين والملائكة أربابا من دون الله، لأن ذلك هو الكفر الصريح الذي لا يمكن أن يصدر من النبي الذي تتلخص رسالته في تحويل الناس من الكفر إلى الإسلام، لا في تحويلهم من الإسلام إلى الكفر.

5. إن النبي لا يمكن أن يدعو الناس إلى ذلك، بل لا بد من أن يدعوهم إلى أن يكونوا ربّانيين متألّهين، يعلمون كتاب الله ويعملون به ويعلّمونه للناس الآخرين ليكون العلم للعقيدة وللعمل وللهداية.

6. إن القرآن يناقش الفكرة بهذا الأسلوب الذي يصور القضية في مقام إثارتها بطريقة أن ذلك ليس من حق النبي، وليس من شأنه، من أجل الإيحاء بأنه لا يفعل ذلك، لأنه لا يتجاوز حدّه الذي حدده الله ـ سبحانه ـ له؛ وليس في مقام التنديد بمن يفعل ذلك من الأنبياء، فإن الآية واردة في مقام الكناية.

7. قد نستوحي من هاتين الآيتين أن الأنبياء عليهم السلام لا يتحدثون عن أنفسهم كثيرا للناس ليثيروا في حياتهم الشعور بالتعظيم والتقديس لهم، بل هم ـ على العكس من ذلك ـ يعملون على تأكيد جانب البشرية في ذواتهم بشكل صريح مؤكّد، ويبرزون نقاط الضعف البشري بطريقة واضحة.. كما نجد ذلك في ما حكاه الله عن رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حوارة مع المشركين، الذين طلبوا منه فعل بعض خوارق العادة التي يقترحونها للدلالة على نبوّته انطلاقا من عقيدتهم فيه بأنه مزوّد بطاقات هائلة يستطيع أن يقوم من خلالها بكل شيء يطلب منه، فقد أجابهم بقوله: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 93]؛ وقوله: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف: 188] ﴿إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي﴾ [الأعراف: 203]

8. وهكذا نلاحظ أن القرآن لم يتحدث عن الأنبياء إلا من خلال صفاتهم الذاتية المتصلة برسالتهم، كما حدثنا عن حركة الرسالة في حياتهم وما لاقوه من عنت واضطهاد وتشريد.. وعن بعض نقاط الضعف البشري التي عاشوها في واقعهم الداخلي والخارجي، من أجل إبعاد الناس عن الضلال والغلوّ، ليظلّ التصور في العقيدة مشدودا إلى الواقع، بعيدا عن كل ضروب الخيال والمثال الذي قد يطوف في أخيلة الكثيرين وأفكارهم.

9. ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ أي: ما ينبغي له، فليس ذلك من شأنه في ما جعله الله للبشر ـ أيا كان ـ من الشأن والموقع والدرجة ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ﴾ الذي أنزله عليه وكلفه بإبلاغه للناس، ﴿وَالْحُكْمَ﴾ الذي يرد منه التحرك في الساحة العامة للناس بإدارة أمورهم، وحل مشاكلهم وفصل القضايا في منازعاتهم، ليكون الحاكم في ذلك كله باعتبار أن الله جعل الرسول حاكما بين الناس كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ﴾ [النساء: 105]، وقوله تعالى: ﴿وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ﴾ [المائدة: 49]

10. ﴿النُّبُوَّةَ﴾ هي الرسالة التي أراد الله منه أن يحملها للناس ليبلغهم كلمات الله وتعاليمه وآياته ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ لأن الله يختار هؤلاء البشر من الصفوة الطيبة الخالصة من بين الناس، بحيث يعيشون التوحيد في كل وجودهم حتى يتحوّل إلى عنوان للذات في الفكر والعاطفة والحركة والحياة كلها، فلا مكان لغير التوحيد في ذواتهم، وينطلقون من قاعدة الصدق في التزاماتهم بالحق، في إحساسهم به في أنفسهم ومع الله ومع الناس، فهم الصادقون مع أنفسهم وربهم والناس من حولهم، فلا يتحدثون عن الله إلا بما بلغهم إياه، ولا يبلغونهم إلا ما أوحى به إليهم من دون زيادة ولا نقصان ولا تحريف، فلا يمكن ـ والحال هذه ـ أن يستغرقوا في عبادتهم لأنفسهم بحيث ينحرفون في التصور ليبتعدوا عن الإحساس بعبوديتهم لله وربوبيّته لهم، فيطلبوا من الناس أن يعبدوهم من دون الله، كما هو الحال عند بعض الناس الذين ينطلقون في البداية من موقع الإصلاح ورسالة تغيير الواقع على أساس الحق، ثم يكبر موقعهم، وترتفع درجتهم في الحياة الاجتماعية والسياسية أو غير ذلك، وتتضخم شخصيتهم عند الناس وعند أنفسهم؛ فيتصورون أنفسهم أربابا من دون الله، فيدعون الناس إلى عبادة ذواتهم بدلا عن الله.

11. إن الأنبياء لا يفعلون ذلك، بل لا يفكرون في ذلك، لأنهم المعصومون عن الخطأ والانحراف من خلال المستوى الأرفع للإيمان والطهارة والعصمة، مما يجعلهم بشرا يرتفعون بملكاتهم الروحية العملية عن البشر، وهذا ما حدثنا الله به في حوارة مع عيسى عليه السّلام ـ يوم القيامة ـ حول العقيدة التي حملها بعض النصارى في اعتبار عيسى عليه السّلام ربّا، وفي التعبد لأمه مريم عليها السّلام، كما لو كانت في موقع الألوهية، وذلك هو قوله تعالى: ﴿وإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ولا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأَنْتَ عَلى‏ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 116 ـ 117]، فنحن نلاحظ في هاتين الآيتين، أن عيسى عليه السّلام يؤكد أن دعوة الناس إلى عبادة ذاته ليس من حقه، لأنه عبد الله الذي هو ربه وربهم، وهو لم يفعل ذلك بل كان منطقه منطق الرسول الذي يدعو الناس إلى عبادة الله بمقتضى أمره له بذلك.

12. وهذا هو التعبير الحي عما توحي به هذه الآية، فلا يمكن لأي نبي أن يتحدث بذلك فيدعو إلى نفسه، بل إن حديثه أن يقول لهم ﴿ولكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ المنتسبين إلى الرب في انفتاحهم على الإيمان به، وعلى العلم المستمد من رسالاته، وعلى الالتزام به بعبادته وتعاليمه من خلال الوعي للحق في كل بنيانهم الفكري والروحي، وربما أريد من الكلمة أن يكونوا العلماء أو الحكماء أو الفقهاء الذين يربون الناس ويدبرونهم بما فيه صلاح أمرهم من خلال دعوتهم إلى الأخذ برسالة الله في ثقافتهم وفي عملهم وسلوكهم الخاص والعام ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ الذي أنزله الله على رسوله وتبيّنونه للناس وتقدمون لهم حقائقه ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ أسراره ومفاهيمه من خلال ما يبينه أمر عيسى أنه عبد الله ورسوله وروح منه وكلمته ألقاها إلى مريم، وأرسله إلى الناس ليبين لهم ما اختلفوا فيه من الكتاب الذي‏ أنزله الله على موسى عليه السّلام، فتفرق الناس من بني إسرائيل في تفاصيله؛ وليحل لهم بعض الذي حرّم عليهم، وليتحرك بهم في خط التغيير الرساليّ للحياة لتكون على الصورة التي يرضاها الله وليكونوا أنصاره إلى الله في الرحلة الطويلة التي تمثل مرحلة من مراحل مسيرة الأنبياء في مدى الحياة.

13. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ معطوف على قوله: ﴿ثُمَّ يَقُولُ﴾ على قراءة النصب، فلا يمكن للنبي الذي أرسله الله أن يأمر باتخاذ الملائكة أربابا كما نسب إلى بعض الناس، أو يدعو إلى اتخاذ النبيين أربابا كما هو الحديث عن أن عزيز ابن الله أو أن المسيح هو الله أو ابن الله ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ﴾ المتمثل بالدعوة إلى عبادة غير الله ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ مما تقودكم إليه الفطرة التي تفتح عقولكم وقلوبكم على توحيد الله، فيقف بينكم وبين فطرتكم حاجزا يبعدكم عن الإسلام التوحيدي الذين هو دين الله في جميع رسالاته؛ فإن الله لا يبعث من ينحرف بالناس عن فطرتهم التي فطر الناس عليها، بل يبعث من يقوّيها ويدعمها ويحرّك فيها كل المفردات التي تجعل الإنسان مستقيما على درب التوحيد في فكره وعمله.

14. قد نحتاج إلى استيحاء هذا الأسلوب التربوي في دراستنا وأبحاثنا التي ندرس فيها حياة الأنبياء والأئمة والأولياء، فنستغرق في الجوانب العملية من حركة الإسلام في حياتهم الشخصية والعامة، لنبقى في خط الارتباط بالشخص من خلال الفكرة والرسالة والعمل، فيزيدنا ذلك ارتباطا بالخط الصحيح، وابتعادا عن مواطن الخطأ والضلال في الطريق، ولا نستغرق في الأسرار الخفيّة الغامضة التي يثيرها البعض في حديثه عن هذه الشخصية أو تلك ممن نعظّم من شخصيات الأنبياء والأولياء، لأن الاستغراق في الجوانب الضبابية الغامضة التي‏ لا نستطيع فهمها ولا تعقّلها، قد يؤدي بنا إلى الانحراف في التصوّر أو الوصول إلى درجة الغلوّ.

15. إن القضية ليست في واقعية هذه الصفات الممنوحة لهذه الشخصية أو تلك أو عدم واقعيتها، ليتّجه الحديث إلى إثبات صحة ذلك بالرّوايات الصحيحة أو غير الصحيحة في عمليّة نقاش علمي طويل، بل القضية هي أن ذلك الأمر ليس من ضرورات العقيدة ولا من فروض العمل، فلما ذا نكلف أنفسنا الجهد والتعب في الدخول في أبحاث ليس لها قيمة عقيدية أو عملية، بل قد تؤدي ـ في بعض الحالات ـ إلى ما يشبه عبادة الشخصية إذا لم تؤد إلى الغلو المفرط؟ عصمنا الله من الزلل، ووقانا شر الانحراف عن الخط الإسلامي في العقيدة والعمل.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/125.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

16. في سبب نزول هذه الآية روايتان:

أ. الأولى: أنّ رجلا قال يا رسول الله نحن نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، ألا نسجد لك؟ قال لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيّكم واعرفوا الحقّ لأهله، فأنزل الله الآية.

ب. الثانية: أنّ أبا رافع من اليهود ومعه رئيس وفد نجران قالا للنبيّ: أتريد أن نعبدك ونتّخذك إلها؟ لعلّهم ظنّوا أن مخالفة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لالوهية المسيح عليه السّلام لأنه ليس له نصيب من ذلك، فلو أنهم رفعوا منزلته إلى مستوى الإله كما هو الحال بالنسبة إلى المسيح عليه السّلام لترك الخلاف معهم، ولعلّ هذا الاقتراح يستبطن مؤامرة دبّرت لتلويث سمعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ودفع الأنظار عنه، ولكن‏ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني، فأنزل الله الآية.

17. سبق أن قلنا إنّ واحدة من عادات أهل الكتاب القبيحة ـ اليهود والنصارى ـ كانت تزييف الحقائق، من ذلك قولهم بألوهية عيسى، زاعمين أنّه هو الذي أمرهم بذلك، وكان هذا ما يريد بعضهم أن يحقّقه بشأن رسول الإسلام أيضا، للأسباب التي ذكرناها في نزول الآية.

18. إنّ الآية ردّ حاسم على جميع الذين كانوا يقترحون عبادة الأنبياء، تقول الآية: ليس لكم أن تعبدوا نبيّ الإسلام ولا أيّ نبي آخر ولا الملائكة، ويخطئ من يقول إنّ عيسى قد دعاهم إلى عبادته.

19. الآية تنفي نفيا مطلقا هذا الأمر، أي أنّ الذين أرسلهم الله وأتاهم العلم والحكمة لا يمكن ـ في أيّة مرحلة من المراحل ـ أن يتعدّوا حدود العبودية لله، بل إنّ رسل الله هم أسرع خضوعا له من سائر الناس، لذلك فهم لا يمكن أن يخرجوا عن طريق العبودية والتوحيد ويجرّوا الناس إلى هوة الشرك.

20. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (الربّاني) هو الذي أحكم ارتباطه بالله، ولمّا كانت الكلمة مشتقّة من (ربّ) فهي تطلق أيضا على من يقوم بتربية الآخرين وتدبير أمورهم وإصلاحهم، وعلى هذا يكون المراد من هذه الآية: إنّ هذا العمل (دعوة الأنبياء الناس إلى عبادتهم) لا يليق بهم، إنّ ما يليق بهم هو أن يجعلوا الناس علماء إلهيّين في ضوء تعليم آيات الله وتدريس حقائق الدين، ويصيّروا منهم أفرادا لا يعبدون غير الله ولا يدعون إلّا إلى العلم والمعرفة.

21. يتّضح من ذلك أنّ هدف الأنبياء لم يكن تربية الناس فحسب، بل استهدفوا أكثر من ذلك تربية المعلّمين والمرّبين وقادة الجماعة، أي تربية أفراد يستطيع كلّ منهم أن يضيء بعلمه وإيمانه ومعرفته محيطا واسعا من حوله.

22. تبدأ الآية بذكر (التعليم) أوّلا ثمّ (التدريس)، تختلف الكلمتان من حيث اتّساع المعنى، فالتعليم أوسع ويشمل كلّ أنواع التعليم، بالقول وبالعمل، للمتعلّمين وللأمّيّين، أمّا التدريس فيكون من خلال الكتابة والنظر إلى الكتاب، فهو أخصّ والتعليم أعمّ.

23. ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ هذه تكلمة لما بحث في الآية السابقة، فكما أنّ الأنبياء لا يدعون الناس إلى عبادتهم، فإنّهم كذلك لا يدعونهم إلى عبادة الملائكة وسائر الأنبياء، وفي هذا جواب لمشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أنّ الملائكة هم بنات الله، وبذلك يسبغون عليهم نوعا من الالوهية، ومع ذلك كانوا يعتبرون أنفسهم من أتباع دين إبراهيم، كذلك هو جواب للصابئة الذين يقولون إنّهم أتباع (يحيى)، وكانوا يرفعون مقام الملائكة إلى حدّ عبادتهم، وهو أيضا ردّ على اليهود الذين قالوا إنّ (عزيرا) ابن الله، أو النصارى الذين قالوا إن (المسيح) ابن الله، وأضفوا عليه طابعا من الربوبية، فالآية تردّ هؤلاء جميعا وتقول إنّه لا يليق بالأنبياء أن يدعو الناس إلى عبادة غير الله.

24. في الختام تقول الآية: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، أيمكن أن يدعوكم النبيّ إلى الكفر بعد أن اخترتم الإسلام دينا؟ واضح أنّ (الإسلام) هنا يقصد به معناه الأوسع، كما هي الحال في مواضع كثيرة من القرآن، وهو التسليم لأمر الله والإيمان والتوحيد، أي كيف يمكن لنبيّ أن يدعو الناس أوّلا إلى الإيمان والتوحيد، ثمّ يدلّهم على طريق الشرك؟ أو كيف يمكن لنبيّ أن يهدم ما بناه الأنبياء في دعوتهم الناس إلى الإسلام، فيدعوهم إلى الكفر والشرك؟

25. تنوّه الآية ضمنيّا بعصمة الأنبياء وعدم انحرافهم عن مسير إطاعة الله‏.

26. تدين هذه الآيات بصراحة كلّ عبادة، وخاصّة عبادة البشر، سوى عبادة الله، وتربّي في الإنسان روح الحرّية واستقلال الشخصية، تلك الروح التي لا يكون بدونها جديرا بحمل اسم إنسان.

27. نعرف من خلال التاريخ العديد من الأشخاص الذين كانوا، قبل الوصول إلى السلطة، يتميّزون بالبراءة ويدعون الناس إلى الحقّ والعدالة والحرّية والإيمان، ولكنّهم ما إن صعدوا عروش السلطة والهيمنة على المجتمع غيّروا سيرتهم شيئا فشيئا وانحازوا إلى فكرة عبادة الشخصية ودعوا الناس إلى عبادتهم.

28. في الواقع، أنّ من أساليب تمييز (دعاة الحقّ) عن (دعاة الباطل) هو هذا، فدعاة الحقّ ـ وعلى رأسهم الأنبياء والأئمّة ـ كانوا وهم في قمّة السلطة، كما كانوا قبل أن تكون لهم أيّة سلطة، يدعون إلى الأهداف الدينية المقدّسة والإنسانية والتوحيد والحرّية، أمّا دعاة الباطل، فإنّ أوّل ما يبادرون إليه عند وصولهم السلطة هو الدعوة لأنفسهم وحثّ الناس على نوع من عبادتهم، نتيجة تملّق الناس الضعفاء المحيطين بهم، وكذلك نتيجة ضيق أفقهم وغرورهم.

29. هناك حديث عن الإمام علي عليه السّلام تظهر من خلاله شخصيّته الكبيرة الفذّة، ويعتبر دليلا وشاهدا على هذا البحث، عند وصول الإمام عليه السّلام إلى أرض الأنبار ـ إحدى مدن العراق الحدودية ـ خرّ جمع من الدهّاقين ساجدين أمامه، بحسب التقاليد التي اعتادوا عليها، فغضب الإمام من فعلتهم هذه وصرخ فيهم: ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خلق منّا نعظّم به أمراءنا، فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وأنّكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم وتشقّون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/569.