...
71. الوهن والحزن والبلاء والتمحيص
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈71⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 140 ـ 141]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي : (اللهم، لا يعلون علينا)، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ﴾ إن يصبكم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ فإنه كان يوم أحد بيوم بدر؛ قتل المؤمنون يوم أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المشركين يوم بدر، فجعل له الدولة عليهم(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ فإنه أدال المشركين على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، وبلغني: أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين رجلا عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين، وكان عدد الأسارى ثلاثة وسبعين رجلا(3).
5. روي أنّه قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ إن المسلمين كانوا يسألون ربهم: اللهم ربنا، أرنا يوما كيوم بدر؛ نقاتل فيه المشركين، ونبليك فيه خيرا، ونلتمس فيه الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء(4).
6. روي أنّه قال: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يبتليهم(5).
7. روي أنّه قال: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ ينقصهم(5).
8. روي أنّه قال: نام المسلمون وبهم الكلوم ـ يعني: يوم أحد ـ، وفيهم أنزلت: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، وفيهم أنزلت: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ [النساء: ١٠٤](6).
9. روي أنّه قال: لما كان قتال أحد، وأصاب المسلمين ما أصاب؛ صعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الجبل، فجاء أبو سفيان، فقال: يا محمد، يا محمد، ألا تخرج، ألا تخرج! الحرب سجال، يوم لنا، ويوم لكم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأصحابه: (أجيبوه)، فقالوا: لا سواء، لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: لنا عزى، ولا عزى لكم، فقال رسول الله : (قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم)، فقال أبو سفيان: اعل، هبل، فقال رسول الله : (قولوا: الله أعلى وأجل)، فقال أبو سفيان: موعدكم وموعدنا بدر الصغرى، وفيهم أنزلت: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾(3).
10. روي أنّه قال: ﴿الظَّالِمِينَ﴾ الكافرين(7).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧٩.
(2) ابن جرير: ٦/٨٢.
(3) ابن جرير: ٦/٨٤.
(4) ابن جرير: ٦/٨٨.
(5) ابن جرير: ٦/٨٩.
(6) ابن جرير: ٦/٨١.
(7) ابن أبي حاتم: ٣/٧٧٤.
السلماني:
روي عن عبيدة السلماني (ت 72 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ إلا يقتلوا لا يكونوا شهداء(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٧٣.
ابن صبيح:
روي عن أبي الضحى مسلم بن صبيح (ت 100 هـ) أنّه قال: نزلت: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾، فقتل منهم يومئذ سبعون، منهم أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير أخو بني عبد الدار، والشماس بن عثمان المخزومي، وعبد الله بن جحش الأسدي، وسائرهم من الأنصار(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٧٣.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ وأنتم الغالبون(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٧١.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ لا تضعفوا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ جراح، وقتل(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ليبتلي(3).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧٧.
(2) ابن جرير: ٦/٨٠.
(3) ابن جرير: ٦/٨٩.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: لما أبطأ على النساء الخبر خرجن يستخبرن، فإذا رجلان مقتولان على دابة أو على بعير، فقالت امرأة من الأنصار: من هذان؟ قالوا: فلان، وفلان، أخوها وزوجها، أو زوجها وابنها، فقالت: ما فعل رسول الله ؟ قالوا: حي، قالت: فلا أبالي؛ يتخذ الله من عباده الشهداء، ونزل القرآن على ما قالت: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٧٤.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يأمر محمدا يقول: ولا تهنوا أن تمضوا في سبيل الله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ إن يقتل منكم يوم أحد فقد قتلتم منهم يوم بدر(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ جعل الله الأيام دولا، مرة لهؤلاء، ومرة لهؤلاء، أدال الكفار يوم أحد من أصحاب النبي (3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ليمحص الله المؤمن حتى يصدق(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ يمحق الكافر حتى يكذبه(5).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧٧.
(2) ابن جرير: ٦/٨٠.
(3) ابن جرير: ٦/٨٣.
(4) ابن جرير: ٦/٨٩.
(5) ابن جرير: ٦/٩١.
ابن سيرين:
روي عن محمد بن سيرين (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه كان إذا تلا هذه الآية قال: اللهم، محّصنا، ولا تجعلنا كافرين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، يعني: الأمراء(2).
__________
(1) ابن سعد: ٧/٢٠٠.
(2) ابن جرير: ٦/٨٥.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن للحق دولة، وإن للباطل دولة من دولة الحق؛ إن إبليس أمر بالسجود لآدم، فأديل آدم على إبليس، وابتلي آدم بالشجرة فأكل منها، فأديل إبليس على آدم(1).
2. روي أنّه قال: ما من أحد يظلم مظلمة إلّا أخذه الله بها في نفسه وماله، فأمّا الظلم الّذي بينه وبين الله فإذا تاب غفر له(2).
3. روي أنّه قال: الظلم في الدنيا هو الظلمات في الآخرة(3).
__________
(1) ابن المنذر: ٩٥٩.
(2) أصول الكافي 2/332.
(3) عقاب الأعمال: ص321.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يعزي أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كما تسمعون، ويحثهم على قتال عدوهم، وينهاهم عن العجز والوهن في طلب عدوهم في سبيل الله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ والقرح: الجراحة، وذاكم يوم أحد، فشا في أصحاب نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يومئذ القتل والجراحة، فأخبرهم الله تعالى أن القوم قد أصابهم من ذلك مثل الذي أصابكم من أعدائكم عقوبة(2).
3. روي أنّه قال في الآية: والله، لولا الدول ما أوذي المؤمنون، ولكن قد يدال للكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر؛ ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ يكرم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوهم، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ فكان تمحيصا للمؤمنين، ومحقا للكافرين(5).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧٧.
(2) ابن جرير: ٦/٨٠.
(3) ابن جرير: ٦/٨٣.
(4) ابن جرير: ٦/٨٧.
(5) ابن جرير: ٦/٩٠.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ معناه لا تضعفوا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ القرح: الجراح والقتل(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 113.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: كثر في أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم القتل والجراح؛ حتى خلص إلى كل امرئ منهم اليأس؛ فأنزل الله القرآن، فآسى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قوما كانوا قبلهم من الأمم الماضية، فقال: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ إلى قوله: ﴿لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧٧.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ والقرح: هي الجراحات(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ يوما لكم، ويوما عليكم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يبتلي المؤمنين(3).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٨١.
(2) ابن جرير: ٦/٨٤.
(3) ابن جرير: ٦/٨٩.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ ولا تضعفوا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ ذلك يوم أحد، فشا في المسلمين القرح ـ والقرح: الجراح ـ، وفشا فيهم القتل، فذلك قوله: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾، يقول: إن كان أصابكم قرح فقد أصاب عدوكم مثله، يعزي أصحاب محمد ، ويحثهم على القتال(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ فأظهر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه على المشركين يوم بدر، وأظهر عليهم عدوهم يوم أحد، وقد يدال الكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر؛ ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب، وأما من ابتلي منهم ـ من المسلمين ـ يوم أحد فكان عقوبة بمعصيتهم رسول الله (3).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧٨.
(2) ابن جرير: ٦/٨١.
(3) ابن جرير: ٦/٨٣.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: نزلت هذه الآية بعد يوم أحد، حين أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه بطلب القوم وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم، فقال رسول الله : (لا يخرج من شهد معنا بالأمس)، فاشتد ذلك على المسلمين؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية(1).
__________
(1) أورده الثعلبي: ٣/١٧٢.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (إنّ الله عزّ وجلّ فوّض إلى المؤمن أموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، ألم تسمع لقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8]؛ فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزا ولا يكون ذليلا، يعزّه الله بالإيمان والإسلام(1).
2. روي أنّه قال: إنّ المؤمن أعزّ من الجبل، إنّ الجبل يستقلّ منه بالمعاول والمؤمن لا يستقلّ من دينه شيء(1).
3. روي أنّه قال: (لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه)، قيل له: وكيف يذلّ نفسه؟ قال: يتعرّض لما لا يطيق(2).
4. روي أنّه قال: أما إنّه ما ظفر بخير من ظفر بالظلم، أما إنّ المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر ممّا يأخذ الظالم من مال المظلوم، ثمّ قال: من يفعل الشرّ بالناس فلا ينكر الشرّ إذا فعل به(3).
__________
(1) الكافي ج 5 ص 63.
(2) الكافي ج 5 ص 64.
(3) أصول الكافي 2/334.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ فإن المسلمين كانوا يسألون ربهم: ربنا، أرنا يوما كيوم بدر؛ نقاتل فيه المشركين، ونبليك فيه خيرا، ونلتمس فيه الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء(1).
2. روي أنّه قال: انهزم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الشعب يوم أحد، فسألوا: ما فعل النبي ؟ وما فعل فلان؟ فنعى بعضهم لبعض، وتحدثوا: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قتل، فكانوا في هم وحزن، فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل، وكانوا على أحد مجنبتي المشركين، وهم أسفل من الشعب، فلما رأوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فرحوا، فقال النبي : (اللهم، لا قوة لنا إلا بك، وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النفر؛ فلا تهلكهم)، وثاب نفر من المسلمين رماة، فصعدوا، فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٨٧.
(2) ابن جرير: ٦/٧٨.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾: ولا تضعفوا عن عدوكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ على ما أصابكم من القتل والهزيمة يوم أحد(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ يعني: العالين؛ ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يعني: إن كنتم مصدقين(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ يوم لكم ببدر، ويوم عليكم بأحد، مرة للمؤمنين ومرة للكافرين، يديل للكافرين من المؤمنين، ويبتلي المؤمنين بالكافرين(2).
5. روي أنّه قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ﴾ يعني: وليرى إيمان: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ منكم عند البلاء، فيتبين إيمانهم؛ أيشكوا في دينهم أم لا؟: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾(2).
6. روي أنّه قال: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالبلاء؛ ليرى صبرهم(3).
7. روي أنّه قال: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾، يعني: ويذهب دعوة الكافرين؛ الشرك، يعني: المنافقين، فيبين نفاقهم وكفرهم(3).
8. روي أنّه قال: ﴿والله لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، يعني: المنافقين(2).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٣.
(2) تفسير مقاتل: ١/٣٠٣.
(3) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٤.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ ولا تأسوا على ما أصابكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ أي: لكم تكون العاقبة والظهور؛ ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: إن كنتم صدقتم نبيي بما جاءكم به عني(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، أي: نصرفها للناس بالبلاء والتمحيص(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، أي: ليميز بين المؤمنين والمنافقين، وليكرم من أكرم من أهل الإيمان بالشهادة(3).
5. روي أنّه قال: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، أي: يختبر الذين آمنوا حتى يخلصهم بالبلاء الذي نزل بهم، وكيف صبرهم ويقينهم(4).
6. روي أنّه قال: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾، أي: يبطل من المنافقين قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، حتى يظهر منهم كفرهم الذي يستترون به منكم(5).
7. روي أنّه قال: ﴿والله لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، أي: المنافقين الذين يظهرون بألسنتهم الطاعة وقلوبهم مصرة على المعصية(6).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧٨.
(2) ابن جرير: ٦/٨٥.
(3) ابن جرير: ٦/٨٧.
(4) ابن جرير: ٦/٩٠.
(5) ابن جرير: ٦/٩١.
(6) ابن جرير: ٦/٨٨.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ يمحق من محق في الدنيا، وكان بقية من يمحق في الآخرة في النار(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٩٠.
الرسّي:
ذكر الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، والأيام: أيام الدول، فهي بين الناس كما قال الله: عقبون، وما فيها من إحسان أو إساءة: فأعمال لمن عملها من العمال، يثاب المحسن منها على حسنته، ويعاقب المسيء فيها بسيئته.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/181.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، فقال بزعمه، وتوهم بجهله: أن الله يديل أهل الكفر والعصيان، على أهل الطاعة والإيمان، وأنه أدال يوم أحد المشركين، على النبي ومن كان معه من المؤمنين ـ فليس ذلك كما ذهب إليه، وسنشرح ذلك إن شاء الله تعالى، ونرد بالحق قوله عليه، فنقول: إن الله جل جلاله يديل المؤمنين على الكافرين، ولا يديل الكافرين على المهتدين، كذلك قال في يوم حنين: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾ [الإسراء: 6]، فكان برده الكرة للموحدين ـ هو المديل لهم على الكافرين، ولم يقل في شيء من كتابه وما نزله من آياته: إنه أدال أهل الشرك والنفاق، على أهل الدين والإحقاق.
2. أما ما ذكر الله من المداولة بالأيام، بين جميع الأنام، فإن مداولته للأيام هو: إتيانه بالليل تارة، وتارة بالنهار، وما يأتي به ويداول بين عباده وأرضه فيهما من الأمطار، التي يحيى بها الأرضين، ويعيش بها جميع العالمين؛ قال سبحانه: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ [ق: 9 ـ 11]؛ فسقى اليوم قوما هم إلى السقي محتاجون، وسقى غدا آخرين، وما يحدث في الأيام من الأرزاق للعباد، وإحياء ما شاء من البلاد؛ ومن المداولة بالأيام بين الأنام: ما ينزل بهم من المصائب الهائلات، وما يمن به عليهم من الآلاء والنعم السابغات؛ من ذلك: ما يأخذ من الأقارب والآباء، والأخوة والأبناء، وجماعة القربى، وما يهب عز وجل لمن يشاء من الأولاد الذكور، وما يصرف ويدفع من الشرور؛ فهذه الأشياء كلها التي تكون في لياليه سبحانه وأيامه ـ مداولة منه ـ لا شك ـ بين عباده.
3. أما ما يظن الجهال، وأهل التكمه في الضلال، من أن معنى هذه الآية هو: إدالة الفاسقين، على الحق والمحقين، وأنه يمكن في الأرض للفاجرين، ويمهد للفسقة العاصين، بما قد حرم عليهم، ولم يجعله بحمد الله لهم؛ بل شدده عليهم غاية التشديد، في ترك مشاقة أهل الحق والتسديد، وأمر في ذلك بالاتباع لهم، وترك الخلاف في جميع الأسباب عليهم ـ فهذا كذب منهم على رب العالمين، وكيف يجوز أن يديل ويمهد للعاصين؛ بل كيف يتوهم على الرحمن الكريم، الواحد ذي الجلال العظيم: أن يكون أدالهم، وأعطاهم ما عنه زجرهم ونهاهم!!؟ فتبارك ذو السلطان المبين، عن مقالة أهل الضلال الجاهلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
4. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ صدق الله سبحانه هو المكون لها، والمحدث لما كان من خلقها، وإنما أراد سبحانه بذلك ما يداول بينهم فيها من الغموم والهموم والأحزان، والفرح والسرور الذي تمر به على الإنسان، مما ينزل به السرور، بما يرزقون ويوهبون من الذكور، ويبسط لهم من الأرزاق، ويوسع عليهم من الأرفاق، ويبتلون من الثكل للأحياء، وما ينالهم من زوال السرور والرخاء، فمرة يستغني الفقير المعسر، ومرة يفتقر الغني الموسر، وتارة يفرح هذا بما يولد له من الأولاد، وتارة يغتم ويهتم بما يخافه من الضعة والفساد، والأيام بين المخلوقين، دُولٌ كما ذكر رب العالمين، بما يبسط لهم من الأرزاق، ويمن به عليهم من السعة والأرفاق، لا ما يتوهم الجاهلون، وينسب إلى الله الضالون، من إدالة الله للفاسقين، وتمكينه للفجرة العاصين، والإدالة فهي نصر وتمكين، والله فلا يُمكِّن إلا لعباده المؤمنين(2).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/181.
(2) تفسير الإمام الهادي: 1/166.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، قد قيل في ذلك: أنها مداولة بينهم في الملك والغلبة، وقيل: إن الله عز وجل جعل بينهم الدولة، وهذا عندي فقول مدخول، ليس هو بصواب؛ ولكن أقول، والله الموفق: إن معنى قوله سبحانه: ﴿نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ هو: إفناء قرون، وإحداث قرون، وأمور بعد أمور؛ ومداولتهم فيها هو: ما جعل الله لهم من البقاء في مدتها؛ فقوم يموتون، وخلق يحدثون إلى انقطاع الأيام؛ وآخر الآية يشهد على ما قلنا به؛ ليجزي الله سبحانه كلا بفعله، ويعطيه على إحسانه، ويعاقبه على سيئته.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/184.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾: القرح: الجراح في لغة العرب.
2. معنى قوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾: أي يمتحنهم بهذه الدول في الحياة، حتى يكتسبوا عند المحنة والاختبار من الطاعة قبل الوفاة، ما ينجون به من عذابهم أعظم النجاة، لأنه لم يعمرهم إلا ليمتحنهم بشكره، ويمحصهم بالصبر على طاعته وأمره.
3. معنى قوله: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾: أي يعطي كل قوم دولة من الأيام، فيحيي قوماً ثم يميتهم ويحيي آخرين، فلكل دولة من حياة الأنام، حتى يقبض الله عز وجل جميع الأنام، بمداولته بينهم لليالي والأيام.. ولا يشكل في تفسير هذه الآية على قول الطغام وما ذهبوا إليه من دول الجبارين، وسلطان ملك الظلمة الكافرين، لأن الله لم يجعل الدولة لأعدائه، ولم يُحَكِّمهم على أحد من أوليائه.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 263.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ولا تضعفوا في محاربة العدو، ولا تحزنوا بما يصيبكم من الجراحات والقروح؛ كقوله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ [آل عمران: 140]
ب. ويحتمل قوله عزّ وجل: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ في الحرب وأنتم تعملون لله؛ إذ هم لا يضعفون فيها، وهم يعملون للشيطان.
2. قوله عزّ وجل: ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: على ما فاتكم من إخوانكم الذين قتلوا.
ب. ويحتمل: ما أصابكم من القروح؛ أي: تلك القروح والجراحات لا تمنعكم عن قتال العدو؛ ولكم الآخرة والشهادة.
3. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ وجوه:
أ. قيل: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ في الآخرة.
ب. وقيل: ﴿الْأَعْلَوْنَ﴾ المحقون بالحجج.
ج. وقيل: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ في النصر؛ أي: ترجع عاقبة الأمر إليكم.
د. ويحتمل أن النصر لكم إن لم تضعفوا في الحرب، ولم تعصوا الله عزّ وجل ورسوله .
هـ. ويحتمل: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ لكم الشهادة إذا قتلتم؛ وأحياء عند الله، وهم أموات.
4. قوله عزّ وجل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ليس على الشرط؛ ولكن على الخبر؛ كقوله عزّ وجل: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ﴾ [البقرة: 228] أي: إذ كن يؤمن بالله، وإن كنتم مؤمنين بالوعد والخبر.
5. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ قيل: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ في آخر الأمر؛ يعني في أحد؛ فقد مسّ المشركين قرح مثله يوم بدر، يذكر هذا على التسكين؛ ليعلموا أنهم لم يخصوا بذلك.
6. قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ يحتمل: يوما للمؤمنين ويوما عليهم، وذلك أن الأمر بمجاهدة العدو والقتال معهم محنة من الله تعالى إياهم يمتحنهم ويبتليهم؛ مرة بالظفر لهم والنصر على عدوهم، ومرة بالظفر للعدوّ عليهم؛ كقوله عزّ وجل: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: 35]، وكقوله: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ﴾ [الأعراف: 168] يمتحن عباده المؤمنين إنما يصيب بمعصية سبقت منهم، أو خلاف كان منهم؛ من ترك أمر أو ارتكاب نهي.
7. سؤال وإشكال: إن طعن طاعن من الملاحدة في قوله عزّ وجل: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: 7]، وقوله عزّ وجل: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ [آل عمران: 160] أليس وعد أنكم إن نصرتم دينه ينصركم، وأخبر ـ أيضا ـ أنه إن نصركم فلا غالب لكم، فإذا نصرتم دينه فلم ينصركم؛ أليس يكون خلفا في الوعد؟ أو إن نصركم فغلبتم يكون كذبا في الخبر، والجواب: لهذا جواب من أوجه:
أ. قيل: يحتمل قوله عزّ وجل: إن تنصروا دين الله في الدنيا ينصركم في الآخرة بالحجج؛ كقوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية [غافر: 51]، وكقوله عزّ وجل: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141]
ب. وقيل: إن تنصروا دين الله ولم تعصوا الله فيه ـ ينصركم؛ فلا غالب لكم.
ج. وقيل: يحتمل: إن تنصروا دين الله جملة ـ ينصركم؛ كقوله عليه السلام: (لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة، كلمتهم واحدة) وكقوله عزّ وجل: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ [إبراهيم: 34]
د. وقيل: إن تنصروا دين الله ينصركم؛ أي: يجعل الظفر؛ والنصر في العاقبة لكم، وكذلك: وإن كان في ابتداء الأمر الغلبة على المؤمنين؛ فإن العاقبة لهم في الحروب كلّها، ومقدار ما كان عليهم إنما كان لأمر سبق منهم: إمّا إعجابا بالكثرة؛ كقوله تعالى: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾ [التوبة: 25]، وإمّا خلافا لرسول الله .
8. في قوله عزّ وجل: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ دلالة أن كان من الله معنى لديه تكون الغلبة لهم؛ بقوله عزّ وجل: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ ولكان هو يجعل أبدا الدولة لأحد الفريقين، وقد أخبر أنه يجعل لهما، ومعلوم إن كانت الدولة بالغلبة، فثبت أن من الله في صنع العباد ـ صنع له أضيف إليه صنيعهم، وفيها كل صلاح، فثبت أن ليس في المحنة شرط إعطاء الأصلح.
9. في قوله عزّ وجل: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ ردّ قول الأصلح؛ حيث قالوا: إن الله لا يفعل إلا الأصلح في الدين، يقال لهم: أي صلاح للمؤمنين في مداولة الكافرين على المؤمنين!؟
10. قوله عزّ وجل: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يحتمل وجهين:
أ. أي: ليعلم ما قد علم بالغيب أنه يؤمن بالامتحان مؤمنا شاهدا، وليعلم ما قد علم أنه يكون كائنا.
ب. وجائز أن يراد بالعلم: المعلوم؛ كقوله: الصلاة أمر الله، أي: بأمر الله.
11. في قوله عزّ وجل: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أوجه:
أ. أحدها: أن ما وصفت الله به إذا ذكرت معه الخلق ـ تذكر وقت كون الخلق؛ لئلا يتوهم قدمه، وإذا وصفت الله تعالى بلا ذكر الخلق وصفته به في الأزل؛ نحو أن تقول: عالم، قادر، سميع ـ في الأزل، فإذا ذكرت المسموع والمقدور عليه والمعلوم ـ ذكرت وقت كونه؛ لتزيل توهم القدم على الآخر؛ وعلى هذا عندنا القول بـ (خالق) (رازق) ونحو ذلك.
ب. الثاني: على تسمية معلومة علما في مجاز اللغة؛ وذلك كما سمّى عذاب الله في القرآن أمره، وسمى الناس الصلاة ـ وغيرها من العبادات ـ أمره، على معنى أنها تفعل بأمره؛ وكذلك ما سميت الجنة رحمته، على أن كان فيها؛ فيكون: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: ليكون الذين آمنوا على ما علمه يكون.
ج. الثالث: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في الغيب شهودا؛ إذ هو عالم الغيب والشهادة، وتحقيق ذلك لا يكون بحادث العلم، وذلك نحو من يعلم الغد يكون؛ يعلمه بعد الغد، وإن لم يكن له حدوث العلم قد كان؛ وعلى هذا قيل: ليعلمه كائنا لوقت كونه ما قد علمه يكون قبل كونه.
د. وقال بعض أهل التأويل: ليكون الذي علمه يكون بالمحنة ظاهرا موجودا، وهو يرجع إلى ما بيّنا.
هـ. وقال بعضهم: ليراه، وهذا من صاحبه ظن أن الكلام في الرؤية لعله أيسر، وعن التشبيه أبعد، وعند من يعرف الله حق المعرفة: هما واحد.
12. الأصل في هذا ونحوه في الإضافات إلى الله: أنها كانت بالأحرف المجعولة المتعارف في الخلق، ثم هي تؤدي عن كل ما يضاف إليه، ويشار إليه ما كان عرف من حال ذلك قبل الإضافة، لا أن يقدر عند الإضافة معنى لا نعرفه به لولا ذلك، على ما عرف من الاشتراك في اللفظ والاختلاف في المعنى؛ فعلى ذلك أمر الإضافة إلى الله تعالى ويوضح ذلك ما لم يفهم أحد من قوله عزّ وجل: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ﴾ [البقرة: 230] ما فهم من إضافة الحدود إلى غيره؛ وكذلك بيوت الله، وعباد الله، وروح الله وكلمته، ونحو ذلك، فمثله الذي نحن فيه، وجائز ـ في الجملة ـ أن يوصف الله بأنه لم يزل عالما بكون كل ما يكون كيف يكون؟ وفي وقت كونه كائنا؛ وبعد كونه قد مضى كونه؛ على تحقيق التغير في أحوال الذي يكون لا في الله ـ سبحانه وتعالى ـ إذ تغير الأحوال واستحالتها من آيات الحدث وأمارات الصنعة.
13. قوله عزّ وجل: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ قيل فيه بوجهين:
أ. أحدهما: (ولم يعلم)، وهو يخرج على وجهين:
• أحدهما: على إثبات أنه علم أنهم لم يجاهدوا؛ كقول الناس: ما شاء الله كان، [وما لم يشأ لم يكن]، أي: شاء ألا يكون، لا يكون.
• الثاني: أنه عالم بكل شيء، فلو كان منكم جهاد لكان يعلمه، وإنما لم يعلمه؛ لأنه لم يكن؛ وعلى ذلك قوله عزّ وجل: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ [المدثر: 48] أي: ليس لهم.
ب. الثاني: قوله عزّ وجل: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ بمعنى: إلا؛ كقوله: ﴿لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: 4] ـ بالتشديد ـ بمعنى: إلا عليها حافظ؛ فيكون معنى الآية: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾!؟ لا تدخلوها إلا أن يعلم الله مجاهدتكم، أي: حتى تجاهدوا فيعلم الله ذلك منكم موجودا، وكذلك قوله عزّ وجل: ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ أي: ليعلم ما قد علم أنه يصير صابرا؛ وكذلك قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 3] أي: ليعلمن الذين قد علم أنهم يصدقون ـ صادقين، وليعلمن الذين قد علم أنهم يكذبون ـ كاذبين، وكذلك قوله عزّ وجل: ﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ﴾ [محمد: 31] أي: حتى يعلم ما قد علم أنهم يجاهدون ـ مجاهدين، وأصله: قوله عزّ وجل: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الحشر: 22] ليعلم شاهدا ما قد علم غائبا.
14. قوله عزّ وجل: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أي: يستشهدون في سبيل الله بأيدي عدوهم.
ب. ويحتمل: ويتخذ منكم شهداء على الناس؛ كقوله عزّ وجل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: 143]، وفيه دلالة أنهم لا يستوجبون بنفس الإيمان الشهادة على الناس، حتى تظهر الصيانة والعدالة في أنفسهم.
15. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: يمحص ذنوبهم وسيئاتهم، ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ أي: يهلكهم ويستأصلهم.. وقوله عزّ وجل: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ما ذكرنا من تمحيص الذنوب على ما روي عن رسول الله : (السّيف محّاء للذّنوب)، ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ أي: يهلكهم، ولا يكون السيف تمحيصا لهم من الكفر، بل يهلكهم في النار.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/491.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ بفتح القاف وضمها والقرح بالفتح الجراح والقرح ألم الجراح فأما الفرق بين اللمس والمس فهو أن اللمس مباشرة بإحساس والمس مباشرة بغير إحساس وهذا مما ذكره للمؤمنين تسلية لهم بأن أصابهم يوم أحد قرح فقد أصاب المشركين يوم بدر مثله ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ والدولة لا تكون إلا للمؤمنين المطيعين لأن الله عز وجل لا يديل الكافرين ولكن يديل المؤمنين من الكافرين بأن جعل الكرة عليهم.
2. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني بالتمحيص التخليص من الذنوب ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ أي ينقصهم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/154.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ يعني أن يصيبكم قرح، قرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة، والكسائي بضم القاف، وقرأ الباقون بفتحها، وفيها قولان:
أ. أحدهما: أنها لغتان ومعناهما واحد.
ب. الثاني: أن القرح بالفتح: الجراح، وبالضم ألم الجراح، وهو قول الأكثرين.
2. الفرق بين المس واللمس فهو أن اللمس مباشرة بإحساس، والمس مباشرة بغير إحساس، وهذا ما ذكره الله تعالى للمؤمنين تسلية لهم فإن أصابهم يوم أحد قرح فقد أصاب المشركين يوم بدر مثله.
3. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ قال الحسن، وقتادة: أي تكون مرة لفرقة، ومرة عليها والدولة: الكرة، يقال أدال الله فلانا من فلان بأن جعل الكرة له عليه.
4. في قوله تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: معناه ليبتلي، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: يعني بالتمحيص تخليصه من الذنوب، وهو قول أبي العباس والزجاج، وأصل التمحيص عندهما التخليص.
ج. الثالث: معناه وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا، وهو قول الفراء ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ قال ابن عباس: ينقصهم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/427.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ أهل الكوفة إلا حفصاً (قرح) بضم القاف، الباقون بفتحها، والفرق بينهما أن القرح ـ بفتح القاف ـ الجراح، والقرح ـ بالضم ـ ألم الجراح على قول أكثر المفسرين، وقيل هما لغتان.
2. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾:
أ. قال ابن عباس، والحسن، والربيع: القرح ما أصاب المسلمين يوم أحد وأصاب المشركين يوم بدر.
ب. وقال الزهري، وقتادة، وابن أبي نجيح: هذه الآية نزلت تسلية للمسلمين لما نالهم يوم أحد من القتل، والجراح، وكان سبب نزول الآية ما قدمنا ذكره من أن الله تعالى أراد أن يرعب الكفار، فأمر المسلمين أن يتبعوا المشركين على ما بهم من الجراح، والألم وحثهم على ذلك ونهاهم عن الوهن والحزن، ووعدهم بأنهم الأعلون إن تمسكوا بالإيمان، لأن المشركين كانوا هموا بالعود إلى المدينة، والغارة فيها، فلما بلغهم عزيمة المسلمين على تتبعهم خافوهم، وقال بعضهم لبعض يوشك أن يكون انضم إليهم من كان قعد عنهم، وأعانهم أحلافهم من بني قريظة، والنضير فدسوا نعيم بن مسعود الأشجعي وبذلوا له عشر قلائص على أن يثبط المسلمين عن تتبعهم، ويقول: إنهم تجمعوا وانضم إليهم حلفاؤهم، وهم يريدونكم ولا طاقة لكم بهم، وأسرعوا المسير إلى مكة فأوحى الله بذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأعلمه ما قالوا لنعيم، فلما قال لهم ما قال قال المسلمون: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ وفيهم نزلت الآية.
3. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ وما بعده، وإنما قال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ مع أنهم كانوا مؤمنين:
أ. للبيان عن ان الايمان يوجب تلك الحال، وتقديره إن من كان مؤمناً يجب عليه ألا يهن ولا يحزن، لثقته بالله.
ب. ويحتمل أيضاً أن يكون معناه إن كنتم مصدقين بوعدي لكم بنصرتي إياكم حتى تستعلوا على عدوكم، وتظفروا بهم.
4. الوهن الضعف، وهن يهن وهنا، فهو واهن: إذا ضعف، وأوهنه يوهنه ايهاناً، وتوهن توهناً، ووهنه توهيناً، والوهن: ساعة تمضي من الليل، والواهن عرق مستبطن حبل العاتق إلى الكتف.
5. قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: كونه جملة في موضع الحال، كأنه قال: لا تحزنوا عالين أي منصورين على عدوكم.
ب. ويحتمل أن لا يكون لها موضع من الاعراب، لأنها اعتراض بوعد مؤكد، وتقديره ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَأَنْتُمْ﴾ مع ذلك ﴿الْأَعْلَوْنَ﴾
6. ﴿الْأَعْلَوْنَ﴾: أصل الأعلون الأعلوون، فحذفت احدى الواوين استثقالا، وهي الاصلية وبقيت واو الجمع، لأنها لمعنى، فأما في التثنية فتقول: أنتما الاعليان، فتقلب الواو ياء، ولا تحذفها، لأنه ليس هناك ضرورة.
7. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ﴾ المس هو اللمس بعينه، وقيل الفرق بينهما أن اللمس لصوق بإحساس والمس لصوق فقط.
8. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ قال الحسن، وقتادة، والربيع، والسدي، وابن إسحاق: يصرفها مرة لفرقة، ومرة عليها، والدولة: الكرة لفرقة بنيل المحبة، وأدال الله فلاناً من فلان: إذا جعل الكرة له عليه، وقال الحجاج: إن الأرض ستدال منا كما ادلنا منها.
9. ﴿ونداولها﴾ إنما هو بتخفيف المحنة تارة وتشديدها أخرى بدليل ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ ولو كانت المداولة بالنصر لا محالة، للمؤمنين تارة وللكافرين تارة، لكان محبهم من حيث هو ناصر لهم.
10. العامل في قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: ان يكون محذوفاً يدل عليه أول الكلام، وتقديره وليعلم الله الذين آمنوا نداولها.
ب. الثاني: أن يعمل فيه ﴿نُدَاوِلُهَا﴾ الذي في اللفظ، وتقديره نداولها بين الناس لضروب من التدبير ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾
11. خبر ﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: أن يكون محذوفاً وتقديره ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ متميزين بالإيمان من غيرهم، ولا يكون على هذا يعلم بمعنى يعرف، لأنه ليس المعنى على تعرف الذوات بل المعنى على أن يعلم تميزها بالإيمان.
ب. الثاني: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم أي يعاملهم معاملة من يريد أن يعرفهم الله بهذه الحال، وقال أبو علي: معناه وليصبروا فعبر عن الصبر بالعلم، وقال البلخي ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ﴾ ايمانكم موجوداً أي تفعلونها، فيعلمه الله كذلك.
12. في قوله تعالى: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال الحسن، وقتادة، وابن إسحاق، ليكرم بالشهادة من قتل يوم أحد.
ب. الثاني: ويتخذ منكم شهداء على الناس بما يكون منهم من العصيان، لما لكم فيه من التعظيم، والتبجيل ـ هذا قول البلخي والجبائي ـ والأول أقوى لأنه في ذكر القتل، فان قيل لم جعل الله مداولة الأيام بين الناس، وهلا كانت ابداً لأولياء الله دون أعدائه؟ قلنا ذلك تابع للمصلحة، وما تقتضيه الحكمة أن يكونوا تارة في شدة وتارة في رخاء فيكون ذلك داعياً لهم إلى فعل الطاعة، واحتقار الدنيا الفانية المنتقلة من قوم إلى قوم حتى يصير الغني فقيراً، والفقير غنياً، والنبيه خاملا، والخامل نبيهاً، فتقل حينئذ الرغبة فيها والحرص على جمعها، ويقوي الحرص على غيرها مما نعيمه دائم، وسروره غير منقطع، وقوله: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ معناه لا يريد منافعهم، وعلى مذهبنا ينبغي أن يكون ذلك مخصوصاً بالكفار، لأنهم إذا كانوا مؤمنين، فلهم ثواب، والله تعالى لا بد أن يريد فعل ذلك بهم ويحتمل أن يكون المراد بذلك ﴿لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ إذا كانوا مؤمنين محبة خالصة لا يشوبها إرادة عقابهم، لأن ذلك يختص من لا عقاب عليه.
13. في قوله تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: ليبتلي، ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ بنقصهم في قول ابن عباس، وقال غيره: يهلكهم.
ب. وقال الفراء: معنى ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ﴾ يعني ذنوب المؤمنين.
ج. وقال الزجاج: يخلصهم من الذنوب وهذا قريب من قول الفراء.
د. وقال الرماني: معناه ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ينجيهم من الذنوب بالابتلاء ويهلك الكافرين بالذنوب عند الابتلاء.
14. أصل التمحيص التخليص في قول أبي العباس تقول محصت الشيء أمحصه محصاً: إذا خصلته، وقال الخليل: المحص الخلوص من العيب، محصته محصاً أي خلصته من كل عيب، ومحص الجمل: إذا ذهب وبره يمحص، وجبل محص أي ملص، ومحص الظبي، ويمحص إذا عدا عدواً شديدا محصاً، ويستحب أن تمحص قوائم الفرس أي تخلص من الرهل، وتقول: اللهم محص عنا ذنوبنا أي اذهبها عنا، لأنه تخليص الحسنات بتكفير السيئات، ويقال تمحص الفرس: إذا ذهب شحمه الرديء، وبقي لحمه، وقوته بالضمور.
15. أصل المحق فناء الشيء حالا بعد حال، ولهذا دخله معنى النقصان، وأمحق الشيء امحاقاً، والمحاق: آخر الشهر إذا أمحق الهلال، فلم ير، لذهاب ضوئه حالا بعد حال، وامتحق الشيء وتمحق: إذا ذهبت بركته بنقصانها حالا بعد حال، ومحقه تمحيقاً، وإنما قابل بين التمحيص، والمحق، لأن محص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك باهلاك أنفسهم، وهذه مقابلة في المعنى.
16. قيل في تمحيص المؤمنين بالمداولة قولان:
أ. أحدهما: لما في تخليتهم مع تمكين الكافرين منهم من التعريض للصبر الذي يستحقون به عظيم الأجر، ويحط كثيراً من الذنوب.
ب. الثاني: لما في ذلك من اللطف الذي يعصم من اقتراف المعصية.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/600.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الوهن: الضعف، وَهَنَ يَهِنُ وهنًا فهو واهن إذا ضَعُفَ، وأوهنهَ غيرُهُ إيهانًا.
ب. الأعلى: من العلو وهو الارتفاع، وعلا فلان الشيء إذا أطاقه كأنه ارتفع عليه، ومنه العلوان عنوان الكتاب لارتفاعه، والأعلون واحدهم أعلى، والرجلان الأعليان، والمرأة العليا والعليتان والعُلَى والعليات، وعلا في المكارم يعلي علاء، وعلا في المكان يعلو علوًّا.
ج. الدولة: الكَرَّة لفرقة نيل المحبة، وأدال الله فلانًا من فلان إذا جعل الكرة له عليه، وتداول القوم الشيء إذا صار من بعضهم إلى بعض، والدولة بفتح الدال وضمها لغتان، وقيل: بل بالضم في المال، وبالفتح في الحرب.
د. التمحيص: قال أبو العباس: أصله التخليص، مَحَصْتُ الشيء أمْحَصْتُه محصًا، وقال الخليل: المَحْص الخلوص من العيب محصته محصًا أي أخلصته من كل عيب، ومَحَّصَ الله تعالى العبد من الذنب طهره، ومحصت الذهب بالنار خلصته مما يشوبه.
هـ. المحق النقصان، والمحاق آخر الشهر إذا امتحق الهلال، وامتحق الشيء ومُحِق إذا ذهبت بركته بنقصانها حالاً بعد حال، وأصله فناء الشيء حالاً بعد حال.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾
أ. قيل: نزلت الآية تسلية للمؤمنين لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، عن الزهري وقتادة وابن أبي نجيح.
ب. وقيل: لما انهزم المسلمون في الشِّعب أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال : لا يعلون علينا ولا قوة لنا إلا بك)، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن ابن عباس.
ج. وقيل: نزلت الآية بعد يوم أحد حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بطلب القوم وقد أصابهم ما أصابهم فقال : لا يخرج إلا من شهد معنا بالأمس)، فاشتد ذلك على المسلمين، فأنزل الله تعالى هذه الآية عن الكلبي، دليله قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾
د. وقيل: إنها نزلت حين انهزم المسلمون فنادوا قُتِلَ محمد، وعلا خالد بن الوليد على الجبل، والمسلمون في هَمٍّ وحزنٍ، فنزلت الآية.
3. ثم بَيَّن تعالى أنه ينصر المؤمنين، وأن العاقبة لهم وإن خلى بينهم وبين أعدائهم في بعض الأحايين مصلحة، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾:
أ. قيل: أي لا تضعفوا أيها المؤمنون، ولا تجبنوا عن جهاد عدوكم من الكفار بما نالكم ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ أي لا تغتموا بما لحقكم من الهزيمة وظهور أعدائكم.
ب. وقيل: لا تضعفوا بما نالكم من الجراح، ولا تحزنوا على ما نالكم من المصائب بقتل الإخوان.
ج. وقيل: لا تهنوا بما نالكم من الهزيمة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة.
4. ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ يعني الظاهرين الغالبين عليهم في العاقبة ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾:
أ. قيل: معناه الإيمان يوجب تلك الحال التي وصفت، يعني من كان مؤمنًا فلا يَهِنُ ولا يحزن.
ب. وقيل: إن كنتم مصدقين بوعد الله ووعد رسوله بالنصر لكم.
ج. وقيل: معناه إن كنتم مؤمنين؛ لأنهم لو لم يكونوا مؤمنين ما كانوا غالبين.
5. ثم زاد في تسلية المؤمنين وتسكين قلوبهم فقال تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ﴾:
أ. قيل: يصيبكم ﴿قَرْحٌ﴾ أي جراح، فقد أصاب القوم جراح عن ابن عباس.
ب. وقيل: إن مسكم يوم أحد فقد مسهم يوم بدر.
ج. وقيل: إن أصابكم يوم أحد جراح، فقد أصابهم أيضا في ذلك اليوم، فقد ساويتم الخصم، ومن ساوى خصمه لا ينبغي أن يضعف ويحزن.
د. وقيل: ما أصابكم من البلوى وأنتم على الحق مثل ما أصاب عدوكم، وهم على الباطل، وروي أن أبا سفيان صعد إلى الجبل يوم أحد، وقال: الحرب سجال يوم لنا ويوم لكم، فقال : أجيبوه، فقالوا: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال: لنا عزى ولا عزى لكم، فقال، : قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، فقال أبو سفيان: اعْلُ هبل، فقال : الله أعلى وأجل.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾:
أ. قيل: نصرفها مرة لفِرْقَةً ومرة عليها، عن الحسن وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق.
ب. وقيل: أيام الحرب دول.
ج. وقيل: تلك الأيام في الخير والشر دول نداولها يعني مرة يلقي الرعب في قلوب الكفار فينهزمون، ويثبت قلوب المؤمنين إذا أطاعوا الله ورسوله فيثبتون، ومرة يخلي بينهم إذا عصوا وبين عدوهم تأديبًا لهم، والمؤمنون على كل حال منصورون ولهم العاقبة.
د. وقيل: أيام الدنيا دول صحة وسقم، وسرور وغم، ولذة وألم، وفرحة وتَرْحَة، لا تدوم على حال بل يصرفه كذلك كما توجبه المصلحة.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ﴾:
أ. قيل: معناه ليظهر المعلوم من صبر من يصبر، وجزع من يجزع، وإيمان من يؤمن.
ب. وقيل: ليظهر المعلوم من الإخلاص والنفاق.
ج. وقيل: ليعلم أولياء الله، فأضاف إلي نفسه تفخيمًا.
د. وقيل: معناه ليميز، فوضع العلم موضع التمييز؛ لأن بالعلم يحصل التمييز.
هـ. وقيل: ليعلم ذلك واقعًا منهم كما كان يعلم أنه سيقع، كقوله: ﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ﴾ أي لنعلم واقعًا، وتحقيقه ليقع المعلوم فيصير موجودًا مشاهدا؛ لأن المجازات تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد.
و. وقيل: العلم عبارة عن الرؤية يعني لنرى، والرؤية طريق العلم فجاز أن تضع أحدهما موضع الآخر.
8. اختلف في الواو في قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ﴾:
أ. قيل: فيه زيادة أي ليعلم.
ب. وقيل: واو عطف، عطف به جملة على جملة.
ج. وقيل: المراد وليعلم المؤمن من المنافق، فاستغنى بذكر أحدهما عن الآخر.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾:
أ. قيل: ليكرم بالشهادة من قتل يوم أحد عن الحسن وقتادة وابن إسحاق.
ب. وقيل: يتخذ منكم شهداء على الناس بما يكون منهم من العصيان لما في ذلك من الرفعة وجلالة المنزلة، عن أبي علي وأبي القاسم.
10. اختلف لم سموا شهداء:
أ. قيل: لمشاهدتهم الأعمال التي يشهدون بها.
ب. وقيل: لأنهم يشهدون لله على خلقه يوم القيامة.
ج. وقيل: بذلوا الروح عند شهود الوقعة ولم يفروا.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾:
أ. قيل: أي لا يريد كرامة من عصاه بظلم نفسه لمخالفة أمره.
ب. وقيل: نبه بهذا أن هذه التخلية لم تكن لحبه إياهم، فإنه لا يحب الظالمين، بل مصلحة لكم وتأديبًا حين خالفتم أمر الرسول .
12. سؤال وإشكال: هل يجوز حصول الدولة للكافر علي المؤمن من جهته تعالى؟ والجواب: اختلفوا فيه:
أ. فمنهم من جوزه ابتلاء ومحنة تنبيهًا على احتقار الدنيا.
ب. فأما شيوخنا فامتنعوا أشد الامتناع، وقسموا أسباب الدنيا إلى قسمين:
• ما كان من ملك ونعمة وقوة وعدة، فيجوز أن يحصل للكافر من جهته تعالى، وجعلوا ذلك بمنزلة الآلات والتمكين.
• وما كان في ذلك أمر ونهي ونصرة وتأييد وأحكام، فلا يجوز؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾
ولذلك حملوا الآية على ما يحصل في الدنيا من المحن، وربما ينزل بالمؤمن، وربما ينزل بالكافر بحسب المصلحة، واتفق العلماء أن في الآخرة لا فوز للكافر.
13. لما تقدم أنه تعالى يداول الأيام بين الناس، بيّن وجه المصلحة ليعلم المؤمن، وليمحص، فقال تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾:
أ. قيل: لينجيهم من الذنوب بالابتلاء ويطهرهم منها، ويهلك الكافرين بالذنوب عند الابتلاء.
ب. وقيل: ليمحص ليبتلي، عن ابن عباس ومجاهد والسدي.
ج. وقيل: ليخلصهم من الذنوب، عن الزجاج.
د. وقيل: ليمحص ذنوب المؤمنين، عن الفراء، يعني بما صبروا، ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ قيل: ينقصهم، عن ابن عباس.
هـ. وقيل: يهلكهم.
و. وقيل: يستأصلهم في العاقبة، عن الأصم.
ز. وقيل: يحبط أعمالهم.
ح. وقيل: ينزع البركة منهم، عن أبي علي.
14. سؤال وإشكال: كيف يقابل التمحيصَ المَحْقُ؟ والجواب:
أ. قيل: محص هَؤُلَاءِ بإهلاك ذنوبهم كمحق أولئك بهلاك أنفسهم.
ب. وقيل: أنتم بين أمرين: إنْ تُقتلوا محص الله ذنوبكم، وإنْ تَقْتُلوا يمحق الكافرين، ويظهر الدين.
15. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن العاقبة الجنة للمتقين وإن نالهم في الحال ما يكره.
ب. أن الظفر والنصر وإن وجب للمؤمن ففي العاقبة، وأن ما ينال الكافر من الدنيا من أسبابها في الحال فهي خذلان في الحقيقة لما يؤدي إلى أليم العقاب، فهو كالطعام المسموم؛ لأنه لا يعد نعمة.
ج. أنه يخلي بين المؤمن والكافر في بعض الأحوال لضرب من المصلحة، وليعلموا أن أحوال الدنيا لا تستمر، ولا ينبغي أن يركن إليها، وأنه يجب العمل للدار التي يستمر سرورها.
د. أن الله تعالى لا يريد الظلم حيث لا يحب الظالم فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق والإرادة.
هـ. يدل قوله تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ على أن الله تعالى فعل المداولة لتمحيص ذنوب المؤمنين وتخليص ثوابهم وعلو منزلتهم، وليحصل في الكافر محق وتبدد وهلاك، وإنما تحصل المداولة بشيئين: إما أن يخلي بينهم فيصبروا ويجاهدوا، فيحصل الثواب العظيم، وفيه لطف لهم، أو يقتلوا، فيحصل ثواب المجاهد.
16. قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وعاصم ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ بضم القاف، وكذلك قوله: ﴿مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ وقرأ الباقون بفتح القاف فيهما، وقيل: معناهما واحد، وهما لغتان كالجَهد والجُهد: والوَجد والوُجد، وقيل: الفتح لغة تهامة والحجاز، وقيل: بالفتح المصدر، وأكثر أهل اللغة على القَرْح بفتح القاف الجراح، وبالضم ألم الجراح.
17. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ موضعه من الإعراب يحتمل النصب، فإنه في موضع الحال كأنه قيل: عالين أي منصورين على عدوكم، ويحتمل ألا يكون لها موضع؛ لأنه اعتراض بوعد مؤكد، كأنه قيل: فلا تهنوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين، وأنتم مع ذلك الأعلون، وقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ عامل الإعراب فيه محذوف، ويدل عليه أول الكلام، تقديره: وليعلم الله الَّذِينَ آمنوا يداولها، وقيل: يعمل فيه نداولها المذكور بتقدير: داولها بين الناس وبضروب من التدبير، ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾
ب. في خبر ﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ قولان:
• قيل: محذوف بتقدير: ليعلم الله الَّذِينَ آمنوا متميزين بالإيمان من غيرهم، وعلى هذا لا يكون ﴿يَعْلَمُ﴾ بمعنى ﴿يُعْرَفُ﴾؛ لأنه ليس على علم الذوات، إنما المعنى على علم التمييز بالإيمان.
• الثاني: ليعلم الله الَّذِينَ آمنوا بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم، والمراد يعاملهم معاملة من يريد أن يعرفهم بهذه الحالة، ﴿الْأَعْلَوْنَ﴾ أصله أَعْلَيُون أسقطوا الياء لأنها أخت الكسرة، والواو أخت الضمة، فكرهوا الجمع بين الكسرة والضمة، فحذفوا الكسرة وهو الياء.
ج. الواو في قوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ﴾ واو العطف، تقديره: وليعلم الله ويتخذ منكم شهداء وليمحص.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/392.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الوهن: الضعف، والوهن والموهن: ساعة تمضي في الليل.
ب. الأعلون: واحدة الأعلى، ومؤنثة العلياء، وجمعه العليات والعلى، والفرق بين اللمس والمس ان اللمس لصوق باحساس.
ج. المس: لصوق فقط.
د. الدولة: الكرة لفريق بنيل المراد، وأدال الله فلانا من فلان: إذا جعل الكرة له عليه، وتداول القوم الشيء: إذا صار من بعضهم إلى بعض، وضم الدال في الدولة وفتحها لغتان، وقيل: الضم في المال، والفتح في الحرب.
هـ. أصل التمحيص: التخليص، قال الخليل: المحص الخلوص من العيب، ومحصته أمحصه محصا: إذا خلصته من كل عيب، ويقال: اللهم محص عنا ذنوبنا أي: أذهبها عنا، لأنه تخليص الحسنات بتكفير السيئات.
و. أصل المحق: فناء الشيء حالا بعد حال، ولهذا دخله معنى النقصان، وانمحق الشيء انمحاقا، وامتحق الشيء وتمحق: إذا ذهبت بركته حالا بعد حال، والمحاق: آخر الشهر لذهاب ضوء الهلال، حالا بعد حال.
2. اختلف في سبب نزول الآيات الكريمة:
أ. قيل: نزلت تسلية للمؤمنين، لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، عن الزهري، وقتادة، وابن أبي نجيح.
ب. وقيل: لما انهزم المسلمون في الشعب، وأقبل خالد بن الوليد بخيل من المشركين، يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي: اللهم لا يعلن علينا، اللهم لا قوة لنا الا بك، اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة الا هؤلاء النفر، فأنزل الله تعالى الآية، وتاب نفر رماة، فصعدوا الجبل، ورموا خيل المشركين حتى هزموهم، وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ عن ابن عباس.
ج. وقيل: نزلت الآية بعد يوم أحد، حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه بطلب القوم، وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم، وقال : لا يخرج الا من شهد معنا بالأمس، فاشتد ذلك على المسلمين، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن الكلبي، ودليله قوله تعالى ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ في ابتغاء القوم الآية.
3. ثم حث الله تعالى المسلمين على النجدة، ونهاهم عن الوهن والحزن، ووعدهم الغلبة في الحال، وحسن العاقبة في المآل، فقال: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾:
أ. قيل: أي: ولا تضعفوا عن قتال عدوكم ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ بما يصيبكم في أموالكم وأبدانكم.
ب. وقيل: لا تضعفوا بما نالكم من الجراح، ولا تحزنوا على ما نالكم من المصائب بقتل الاخوان.
ج. وقيل: لا تهنوا بما نالكم من الهزيمة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾:
أ. قيل: أي: الظافرون المنصورون، الغالبون عليهم في العاقبة.
ب. وقيل: أراد وأنتم الأعلون في المكان.
5. قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ان من كان مؤمنا يجب أن لا يهن، ولا يحزن، لثقته بالله.
ب. ويحتمل أن يكون معناه: ان كنتم مصدقين بوعدي لكم بالنصرة والظفر على عدوكم، فلا تهنوا، ولا تحزنوا.
6. ثم أخذ سبحانه في تسلية المؤمنين، فقال: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾:
أ. قيل: معناه: ان يصبكم جراح، فقد أصاب القوم جراح مثله، عن ابن عباس.
ب. وقيل: إن يصبكم ألم وجراح يوم أحد، فقد أصاب القوم ذلك يوم بدر:
• قال أنس بن مالك: أتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعلي عليه السلام يومئذ، وفيه نيف وستون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يمسحها، وهي تلتئم بإذن الله، كأن لم تكن.
• وعن ابن عباس قال: لما كان يوم أحد، صعد أبو سفيان الجبل، فقال رسول الله : (اللهم انه ليس لهم أن يعلونا) فمكث أبو سفيان ساعة وقال: يوما بيوم، وان الأيام دول، وان الحرب سجال، فقال عليه السلام: أجيبوه، فقالوا: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال: لنا عزى، ولا عزى لكم! فقال النبي : (والله مولانا ولا مولى لكم)، فقال أبو سفيان: أعل هبل، فقال : (الله تعالى أعلى وأجل)
7. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ أي: نصرفها مرة لفرقة، ومرة عليها، عن الحسن وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق، وإنما يصرف الله الأيام بين المسلمين، وبين الكفار، بتخفيف المحنة عن المسلمين أحيانا، وتشديدها عليهم أحيانا، لا بنصرة الكفار عليهم، لان الله لا ينصر الكفار على المسلمين، لان النصرة تدل على المحبة، والله تعالى لا يحب الكافرين، وإنما جعل الله الدنيا متقلبة، لكيلا يطمئن المسلم إليها، ولتقل رغبته فيها، أو حرصه عليها، إذ تفنى لذاتها، ويظعن مقيمها، ويسعى للآخرة التي يدوم نعيمها، وإنما جعل الدولة مرة للمؤمنين، ومرة عليهم، ليدخل الناس في الايمان على الوجه الذي يجب الدخول فيه كذلك، وهو قيام الحجة، فإنه لو كانت الدولة أبدا للمؤمنين، لكان الناس يدخلون في الايمان على سبيل اليمن والفأل، على أن كل موضع حضره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يخل من ظفر، اما في ابتداء الامر، واما في انتهائه، وإنما لم يستمر ذلك لما بيناه.
8. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ المفعول الثاني ليعلم محذوف، وتقديره وتلك الأيام نداولها بين الناس لوجوه من المصالح، وضروب من الحكمة:
أ. قيل: ليعلم الله الذين آمنوا متميزين بالايمان من غيرهم، وعلى هذا لا يكون يعلم بمعنى يعرف، لأنه ليس المعنى أنه يعرف الذوات، بل المعنى أنه يعلم تميزها بالايمان.
ب. ويجوز أن يكون المعنى ليعلم الله الذين آمنوا بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم أي: يعاملهم معاملة من يعرفهم بهذه الحال، وإذا كان الله تعالى يعلمهم قبل إظهارهم الايمان، كما يعلمهم بعده، فإنما يعلم قبل الاظهار أنهم سيميزون، فإذا أظهروه علمهم متميزين، ويكون التغير حاصلا في المعلوم، لا في العالم، كما أن أحدنا يعلم الغد قبل مجيئه، على معنى أنه سيجئ، فإذا جاء علمه جائيا، وعلمه يوما لا غدا، فإذا انقضى، فإنما يعلمه الأمس، لا يوما، ولا غدا، ويكون التغير واقعا في المعلوم لا في العالم.
ج. وقيل: معناه وليعلم أولياء الله الذين آمنوا، وإنما أضاف إلى نفسه تفخيما.
د. وقيل: معناه ليظهر المعلوم من صبر من يصبر، وجزع من يجزع، وايمان من يؤمن.
هـ. وقيل: ليظهر المعلوم من الاخلاص والنفاق، ومعناه: ليعلم الله المؤمن من المنافق، فاستغنى بذكر أحدهما عن الاخر.
9. في قوله تعالى: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ان معناه ليكرم بالشهادة من قتل يوم أحد، عن الحسن وقتادة وابن إسحاق.
ب. والاخر: ويتخذ منكم شهداء على الناس، بما يكون منهم من العصيان، لما لكم في ذلك من جلالة القدر، وعلو المرتبة.
10. الشهداء يكون جمع شاهد، وجمع شهيد عن أبي علي الجبائي، وإنما سموا شهداء لمشاهدتهم الاعمال التي يشهدون بها، وأما في جمع الشهيد، فلأنهم بذلوا الروح عند شهود الوقعة، ولم يفروا.
11. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ ظاهر المعنى وفائدته: انه تعالى بين أنه لا يمكن الظالمين منهم لمحبته لهم، ولكن لأحد المعاني التي ذكرها، وليمحص ذنوب المؤمنين، كما قاله فيما بعد.
12. ثم بين تعالى وجه المصلحة في مداولة الأيام بين الناس، فقال: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قيل في معنى الآية أقوال:
أ. أحدها: وليمحص الله أي: وليبتلي الله الذين آمنوا ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ ينقصهم، عن ابن عباس ومجاهد والسدي.
ب. وثانيها: ليخلص الله ذنوب المؤمنين، عن (2).
ج. وثالثها: ينجي الله الذين آمنوا من الذنوب بالابتلاء، ويهلك الكافرين بالذنوب عند الابتلاء، عن علي بن عيسى.
13. إنما قابل بين التمحيص والمحق، لأن محص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم، نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم، وهذه مقابلة في المعنى.
14. في هذه الآية دلالة على أنه تعالى إنما يداول بين الناس لتمحيص ذنوب المؤمنين، ومحق الكافرين، وإنما يمحصهم بالمداولة لشيئين:
أ. أحدهما: إن في تخليتهم وتمكين الكافرين منهم، تعريضا لهم للصبر الذي يستحقون به عظيم الأجر، ويحط به عنهم كثيرا من أثقال الوزر.
ب. الثاني: إن في ذلك لطفا لهم يعصمهم عن اقتراف نفوسهم الإثم.
15. قرأ أهل الكوفة، غير حفص ﴿قَرْحٌ﴾ بضم القاف فيهما، وكذلك قوله ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾، والباقون: بفتح القاف.. قال أبو علي: قرح وقرح مثل ضعف وضعف، والكره والكره، والدف ء والدف ء، والشهد والشهد، قال أبو الحسن: قرح يقرح قرحا وقرحا، فهذا يدل على أنهما مصدران، ومن قال إن القرح: الجراحات بأعيانها، والقرح: ألم الجراحات قبل ذلك منه، إذا أتى فيه برواية، لان ذلك مما لا يعلم بالقياس.
16. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾: جملة في موضع الحال: كأنه قال: لا تحزنوا عالين أي: منصورين على الأعداء، ويحتمل أن يكون لا موضع لها في الاعراب، لأنها اعتراض بوعد مؤكد، وتقديره: ولا تهنوا، ولا تحزنوا ان كنتم مؤمنين وأنتم الأعلون مع ذلك.
ب. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ﴾: العامل في اللام محذوف، يدل عليه أول الكلام، وتقديره وليعلم الله الذين آمنوا نداولها، ويجوز أن يعمل فيه نداولها الذي في اللفظ، وتقديره نداولها بين الناس بضروب من التدبير، وليعلم الله الذين آمنوا.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/843.
(2) الكلام هنا للزجّاج
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا انهزموا يوم أحد، أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبيّ : (اللهمّ لا يعلون علينا، اللهمّ لا قوّة لنا إلا بك) فنزلت هذه الآيات، قاله ابن عباس.
2. قال ابن عباس، ومجاهد: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ أي: ولا تضعفوا.
3. فيما نهوا عن الحزن عليه أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه قتل إخوانهم من المسلمين، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: أنه هزيمتهم يوم أحد، وقتلهم، قاله مقاتل.
ج. الثالث: أنه ما أصاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من شجّه، وكسر رباعيّته، ذكره الماورديّ.
د. الرابع: أنه ما فات من الغنيمة، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوريّ.
4. ﴿وأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾، قال ابن عباس: يقول: أنتم الغالبون وآخر الأمر لكم.
5. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾، قال ابن عباس: أصابهم يوم أحد قرح، فشكوا إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ما لقوا، فنزلت هذه الآية، فأمّا المسّ، فهو الإصابة.
6. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع (قرح) بفتح القاف، وقرأ حمزة، والكسائيّ، وأبو بكر، عن عاصم (قرح) بضم القاف، واختلفوا هل معنى القراءتين واحد أم لا؟
أ. فقال أبو عبيد: القرح بالفتح: الجراح، والقتل، والقرح بالضّمّ: ألم الجراح.
ب. وقال الزجّاج: هما في اللغة بمعنى واحد، ومعناه: الجراح وألمها.
7. ﴿نُدَاوِلُهَا﴾ قال الزجّاج: معنى نداولها: أي: نجعل الدّولة في وقت للكفّار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون، فأمّا إذا أطاعوا، فهم منصورون.
8. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ قال الزجّاج: أي: ليعلم واقعا منهم، لأنّه عالم قبل ذلك، وإنما يجازي على ما وقع، وقال ابن عباس: معنى العلم هاهنا: الرّؤية.
﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ قال أبو الضّحى: نزلت في قتلى أحد، قال ابن جريج: كان المسلمون يقولون: ربّنا أرنا يوما كيوم بدر، نلتمس فيه الشّهادة، فاتّخذ منهم شهداء يوم أحد، قال ابن عباس: والظّالمون هاهنا: المنافقون، وقال غيره: هم الذين انصرفوا يوم أحد مع ابن أبيّ المنافق.
9. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال الزجاج: معنى الكلام: جعل الله الأيام مداولة بين الناس، ليمحّص المؤمنين، ويمحق الكافرين، وفي التّمحيص قولان:
أ. أحدهما: أنه الابتلاء والاختبار، وأنشدوا:
çرأيت فضيلا كان شيئا ملفّفا... فكشّفه التّمحيص حتى بدا لياé
وهذا قول الحسن، ومجاهد، والسّدّيّ، ومقاتل، وابن قتيبة في آخرين.
ب. الثاني: أنه التّنقية، والتّخليص، وهو قول الزجّاج، وحكي عن المبرّد، قال يقال: محص الحبل محصا: إذا ذهب منه الوبر حتى يتخلّص، ومعنى قوله: اللهم محّص عنا ذنوبنا: أذهبها عنا.
10. ذكر الزجّاج عن الخليل أن المحص: التّخليص، يقال: محّصت الشيء أمحّصه محصا: إذا أخلصته:
أ. فعلى القول الأول التّمحيص: ابتلاء المؤمنين بما يجري عليهم.
ب. وعلى الثاني: هو تنقيتهم من الذّنوب بذلك، قال الفرّاء: معنى الآية: وليمحّص الله بالذّنوب عن الذين آمنوا.
11. في قوله تعالى: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: يهلكهم، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: يذهب دعوتهم، قاله مقاتل.
ج. الثالث: ينقصهم ويقلّلهم، قاله الفرّاء.
د. الرابع: يحبط أعمالهم، ذكره الزجّاج.
__________
(1) زاد المسير: 1/329.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الذي قدّمه الله تعالى من قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ [آل عمران: 137] وقوله: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 138] كالمقدمة لقوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ كأنه قال: إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية علمتم أن أهل الباطل وإن اتفقت لهم الصولة، لكن كان مآل الأمر إلى الضعف والفتور، وصارت دولة أهل الحق عالية، وصولة أهل الباطل مندرسة، فلا ينبغي أن تصير صولة الكفار عليكم يوم أحد سبباً لضعف قلبكم ولجبنكم وعجزكم، بل يجب أن يقوى قلبكم فإن الاستعلاء سيحصل لكم والقوة والدولة راجعة إليكم.
2. ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ أي لا تضعفوا عن الجهاد، والوهن الضعف قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: ﴿إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ [مريم: 4] وقوله: ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ أي على من قتل منكم أو جرح.
3. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ وجوه:
أ. الأول: (أن حالكم أعلى من حالهم في القتل لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد)، وهو كقوله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ [آل عمران: 165] أو لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان، أو لأن قتالهم للدين الباطل وقتالكم للدين الحق، وكل ذلك يوجب كونكم أعلى حالًا منهم.
ب. الثاني: أن يكون المراد: (وأنتم الأعلون بالحجة والتمسك بالدين والعاقبة الحميدة)
ج. الثالث: أن يكون المعنى (وأنتم الأعلون من حيث إنكم في العاقبة تظفرون بهم وتستولون عليهم)، وهذا شديد المناسبة لما قبله، لأن القوم انكسرت قلوبهم بسبب ذلك الوهن فهم كانوا محتاجين إلى ما يفيدهم قوة في القلب، وفرحاً في النفس، فبشرهم الله تعالى بذلك.
4. في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وجوه:
أ. الأول: وأنتم الأعلون ان بقيتم على إيمانكم، والمقصود بيان أن الله تعالى إنما تكفل بإعلاء درجتهم لأجل تمسكهم بدين الإسلام.
ب. الثاني: وأنتم الأعلون فكونوا مصدقين لهذه البشارة إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة.
ج. الثالث: التقدير: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، فإن الله تعالى وعد بنصرة هذا الدين، فإن كنتم من المؤمنين علمتم أن هذه الواقعة لا تبقى بحالها، وأن الدولة تصير للمسلمين والاستيلاء على العدو يحصل لهم.
5. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ هذا من تمام قوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ [آل عمران: 139] فبين تعالى أن الذي يصيبهم من القرح لا يجب أن يزيل جدهم واجتهادهم في جهاد العدو، وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك، فإذا كانوا مع باطلهم، وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى.
6. قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ﴿قَرْحٌ﴾ بضم القاف وكذلك قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ [آل عمران: 172] والباقون بفتح القاف فيهما واختلفوا على وجوه:
أ. الأول: معناهما واحد، وهما لغتان: كالجهد والجهد، والوجد والوجد، والضعف والضعف.
ب. الثاني: أن الفتح لغة تهامة والحجاز والضم لغة نجد.
ج. الثالث: أنه بالفتح مصدر وبالضم اسم.
د. الرابع: وهو قول الفراء أنه بالفتح الجراحة بعينها وبالضم ألم الجراحة.
هـ. الخامس: قال ابن مقسم: هما لغتان إلا أن المفتوحة توهم أنها جمع قرحة.
7. في قوله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إن يمسسكم قرح يوم أحد فقد مسهم يوم بدر، وهو كقوله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ [آل عمران: 165]
ب. الثاني: أن الكفار قد نالهم يوم أحد مثل ما نالكم من الجرح والقتل، لأنه قتل منهم نيف وعشرون رجلا، وقتل صاحب لوائهم والجراحات كثرت فيهم وعقر عامة خيلهم بالنبل، وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار.
8. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين؟ والجواب: يجب أن يفسر القرح في هذا التأويل بمجرد الانهزام لا بكثرة القتلى.
9. ﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ و﴿الْأَيَّامِ﴾ صفة و﴿نُدَاوِلُهَا﴾ خبره ويجوز أن يقال: تلك الأيام مبتدأ وخبر كما تقول: هي الأيام تبلي كل جديد، فقوله: ﴿تِلْكَ الْأَيَّامُ﴾ إشارة إلى جميع أيام الوقائع العجيبة، فبين أنها دول تكون على الرجل حينا وله حينا والحرب سجال، قال القفال: المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر، يقال: تداولته الأيدي إذا تناقلته ومنه قوله تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: 7] أي تتداولونها ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً، ويقال: الدنيا دول، أي تنتقل من قوم إلى آخرين، ثم عنهم إلى غيرهم، ويقال: دال له الدهر بكذا إذا انتقل اليه، والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس لا يدوم مسارها ولا مضارها، فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوه، ويوم آخر بالعكس من ذلك، ولا يبقى شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها.
10. ليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارة ينصر المؤمنين، وأخرى ينصر الكافرين وذلك لأن نصرة الله منصب شريف وإعزاز عظيم، فلا يليق بالكافر، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه:
أ. الأول: أنه تعالى لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الايمان حق وما سواه باطل، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الايمان، وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله.
ب. الثاني: أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي، فيكون عند الله تشديد المحنة عليه في الدنيا أدباً له، وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضبا من الله عليه.
ج. الثالث: وهو أن لذات الدنيا وآلامها غير باقية وأحوالها غير مستمرة، وإنما تحصل السعادات المستمرة في دار الآخرة، ولذلك فإنه تعالى يميت بعد الإحياء، ويسقم بعد الصحة، فإذا حسن ذلك فلم لا يحسن أن يبدل السراء بالضراء، والقدرة بالعجز، وروي أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد ثم قال: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب، فقال عمر: هذا رسول الله ، وهذا أبو بكر، وها أنا عمر، فقال أبو سفيان: يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال: إن كان كما تزعمون، فقد خبنا إذن وخسرنا.
11. اللام في قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ﴾ متعلق بفعل مضمر، إما بعده أو قبله، أما الإضمار بعده فعلى تقدير وليعلم الله الذين آمنوا فعلنا هذه المداولة، وأما الإضمار قبله فعلى تقدير وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور، منها ليعلم الله الذين آمنوا، ومنها ليتخذ منكم شهداء، ومنها ليمحص الله الذين آمنوا، ومنها ليمحق الكافرين، فكل ذلك كالسبب والعلة في تلك المداولة.
12. الواو في قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ نظائره كثيرة في القرآن، قال تعالى: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: 75] وقال تعالى: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 113] والتقدير: وتلك الأيام نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم الله، وإنما حذف المعطوف عليه للإيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة، ليسليهم عما جرى، وليعرفهم أن تلك الواقعة وأن شأنهم فيها، فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرهم.
13. سؤال وإشكال: ظاهر قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مشعر بأنه تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى، ونظير هذه الآية في الإشكال قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142] وقوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 3] وقوله: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف: 12] وقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [محمد: 31] وقوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ [البقرة: 143] وقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود: 7، الملك: 2] وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها، فقال: كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها، والجواب: أجاب المتكلمون عنه بأن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها، فثبت أن التغيير في العلم محال إلا أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدور مجاز مشهور، يقال: هذا علم فلان والمراد معلومة، وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره، فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم، فالمراد تجدد المعلوم، بناء على هذا، ففي هذه الآية وجوه:
أ. أحدها: ليظهر الإخلاص من النفاق والمؤمن من الكافر.
ب. الثاني: ليعلم أولياء الله، فأضاف إلى نفسه تفخيما.
ج. ثالثها: ليحكم بالامتياز، فوضع العلم مكان الحكم بالامتياز، لأن الحكم بالامتياز لا يحصل إلا بعد العلم.
د. رابعها: ليعلم ذلك واقعاً منهم كما كان يعلم أنه سيقع، لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد.
14. العلم قد يكون بحيث يكتفي فيه بمفعول واحد، كما يقال: علمت زيداً، أي علمت ذاته وعرفته، وقد يفتقر إلى مفعولين، كما يقال: علمت زيداً كريما، والمراد منه في هذه الآية:
أ. هذا القسم الثاني، إلا أن المفعول الثاني محذوف والتقدير: وليعلم الله الذين آمنوا متميزين بالإيمان من غيرهم، أي الحكمة في هذه المداولة أن يصير الذين آمنوا متميزين عمن يدعي الإيمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإسلام.
ب. ويحتمل أن يكون العلم هاهنا من القسم الأول، بمعنى معرفة الذات، والمعنى وليعلم الله الذين آمنوا لما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم، أي ليعرفهم بأعيانهم إلا أن سبب حدوث هذا العلم، وهو ظهور الصبر حذف هاهنا.
15. ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ المراد منه ذكر الحكمة الثانية في تلك المداولة، وفي هذه الآية قولان:
أ. الأول: يتخذ منكم شهداء على الناس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي، فإن كونهم شهداء على الناس منصب عال ودرجة عالية.
ب. الثاني: المراد منه (وليكرم قوماً بالشهادة)، وذلك لأن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر، وكانوا يتمنون لقاء العدو وأن يكون لهم يوم كيوم بدر يقاتلون فيه العدو ويلتمسون فيه الشهادة، وأيضا القرآن مملوء من تعظيم حال الشهداء قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169] وقال: ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾ [الزمر: 69] وقال: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء: 69] فكانت هذه المنزلة هي المنزلة الثالثة للنبوة، وإذا كان كذلك فكان من جملة الفوائد المطلوبة من تلك المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين.
16. احتج أصحابنا(2) بهذه الآية على أن جميع الحوادث بإرادة الله تعالى فقالوا: منصب الشهادة على ما ذكرتم، فإن كان يمكن تحصيلها بدون تسليط الكفار على المؤمنين لم يبق لحسن التعليل وجه، وإن كان لا يمكن فحينئذ يكون قتل الكفار للمؤمنين من لوازم تلك الشهادة، فإذا كان تحصيل تلك الشهادة للعبد مطلوباً لله تعالى وجب أن يكون ذلك القتل مطلوباً لله تعالى، وأيضاً فقوله: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ تنصيص على أن ما به حصلت تلك الشهادة هو من الله تعالى، وذلك يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى.
17. الشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء، والمقتول من المسلمين بسيف الكفار شهيداً، وفي تعليل هذا الاسم وجوه:
أ. الأول: قال النضر بن شميل: الشهداء أحياء لقوله: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169] فأرواحهم حية وقد حضرت دار السلام، وأرواح غيرهم لا تشهدها.
ب. الثاني: قال ابن الأنباري: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة، فالشهيد فعيل بمعنى مفعول.
ج. الثالث: سموا شهداء لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين، كما قال تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: 143]
د. الرابع: سموا شهداء لأنهم كما قتلوا أدخلوا الجنة، بدليل أن الكفار كما ماتوا أدخلوا النار بدليل قوله: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [نوح: 25] فكذا هاهنا يجب أن يقال: هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله، كما ماتوا دخلوا الجنة.
18. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ قال ابن عباس: أي المشركين، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13] وهو اعتراض بين بعض التعليل وبعض، وفيه وجوه:
أ. الأول: والله لا يحب من لا يكون ثابتاً على الإيمان صابراً على الجهاد.
ب. الثاني: فيه إشارة إلى أنه تعالى إنما يؤيد الكافرين على المؤمنين لما ذكر من الفوائد، لا لأنه يحبهم.
19. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي ليطهرهم من ذنوبهم ويزيلها عنهم، والمحص في اللغة التنقية، والمحق في اللغة النقصان، وقال المفضل: هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء، ومنه قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا﴾ [البقرة: 276] أي يستأصله، قال الزجاج: معنى الآية أن الله تعالى جعل الأيام مداولة بين المسلمين والكافرين، فان حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين، وإن كانت الغلبة للمؤمنين على هؤلاء الكافرين كان المراد محق آثار الكافرين ومحوهم، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين، لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم، وهذه مقابلة لطيفة في المعنى، والأقرب أن المراد بالكافرين هاهنا طائفة مخصوصة منهم وهم الذين حاربوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، وإنما قلنا ذلك لعلمنا بأنه تعالى لم يمحق كل الكفار، بل كثير منهم بقي على كفره والله أعلم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/372.
(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ عزاهم وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز والفشل فقال: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ أي لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم، ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ على ظهورهم، ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة،﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ أي لكم تكون العاقبة بالنصر والظفر ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي بصدق وعدي، وقيل: ﴿إنْ﴾ بمعنى ﴿إِذ﴾
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة: قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد فبيناهم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل، من المشركين، يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي : اللهم لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر، فأنزل الله هذه الآيات، وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم، فذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ يعني الغالبين على الأعداء بعد أحد، فلم يخرجوا بعد ذلك عسكرا إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهد رسول الله ، وفي كل عسكر كان بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم، وهذه البلدان كلها إنما افتتحت على عهد أصحاب رسول الله ، ثم بعد انقراضهم ما افتتحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتتحون في ذلك الوقت.
3. في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة، لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه، لأنه قال لموسى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ [طه] وقال لهذه الأمة: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾، وهذه اللفظة مشتقة من اسمه الأعلى فهو سبحانه العلي، وقال للمؤمنين: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾
4. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ القرح الجرح، والضم والفتح فيه لغتان عن الكسائي والأخفش، مثل عقر وعقر، الفراء: هو بالفتح الجرح، وبالضم ألمه، والمعنى: إن يمسسكم يوم أحد قرح فقد مس القوم يوم بدر قرح مثله، وقرأ محمد بن السميقع ﴿قَرْحٌ﴾ بفتح القاف والراء على المصدر.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾:
أ. قيل: هذا في الحرب، تكون مرة للمؤمنين لينصر الله تعالى دينه، ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم ويمحص ذنوبهم، فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون.
ب. وقيل: ﴿نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر، والدولة الكرة، قال الشاعر:فيوم لنا ويوم علينا...ويوم نساء ويوم نسر
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾:
أ. قيل: معناه، وإنما كانت هذه المداولة ليرى المؤمن من المنافق فيميز بعضهم من بعض، كما قال: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ [آل عمران]
ب. وقيل: ليعلم صبر المؤمنين، العلم الذي يقع عليه الجزاء كما علمه غيبا قبل أن كلفهم، وقد تقدم في (البقرة) هذا المعنى.
7. ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ أي يكرمكم بالشهادة:
أ. أي ليقتل قوم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم، وقيل: لهذا قيل شهيد.
ب. وقيل: سمي شهيدا لأنه مشهود له بالجنة.
ج. وقيل: سمي شهيدا لأن أرواحهم احتضرت دار السلام، لأنهم أحياء عند ربهم، وأرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة، فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة، وهذا هو الصحيح.
8. الشهادة فضلها عظيم، ويكفيك في فضلها قول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [التوبة] الآية، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [الصف:]:
أ. وفي صحيح البستي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرحة)
ب. وروى النسائي عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن رجلا قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)
ج. وفي البخاري: (من قتل من المسلمين يوم أحد) منهم حمزة واليمان والنضر بن أنس ومصعب بن عمير، حدثني عمرو بن علي أن معاذ ابن هشام قال حدثني أبي عن قتادة قال: (ما نعلم حيا من أحياء العرب أكثر شهيدا أعز يوم القيامة من الأنصار)، قال قتادة: وحدثنا أنس بن مالك أنه (قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون)، قال: وكان بئر معونة على عهد النبي ، ويوم اليمامة على عهد أبي بكر يوم مسيلمة الكذاب، وقال أنس: أتي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعلي بن أبي طالب وبه نيف وستون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يمسحها وهي تلتئم بإذن الله تعالى كأن لم تكن.
9. في قوله تعالى: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ دليل على أن الإرادة غير الامر كما يقوله أهل السنة، إن الله تعالى نهى الكفار عن قتل المؤمنين: حمزة وأصحابه وأراد قتلهم، ونهى آدم عن أكل الشجرة وأراده فواقعه آدم، وعكسه أنه أمر إبليس بالسجود ولم يرده فامتنع منه، وعنه وقعت الإشارة بقوله الحق: ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ﴾، وإن كان قد أمر جميعهم بالجهاد، ولكنه خلق الكسل والأسباب القاطعة عن المسير فقعدوا.
10. روي عن علي بن أبي طالب قال: جاء جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر فقال له: (خير أصحابك في الأسارى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عام المقبل مثلهم)، فقالوا: (الفداء ويقتل منا) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن، فأنجز الله وعده بشهادة أوليائه بعد أن خيرهم فاختاروا القتل.
11. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ أي المشركين، أي وإن أنال الكفار من المؤمنين فهو لا يحبهم، وإن أحل ألما بالمؤمنين فإنه يحب المؤمنين.
12. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ فيه ثلاثة أقوال:
أ. يمحص: يختبر.
ب. الثاني: يطهر، أي من ذنوبهم فهو على حذف مضاف، المعنى: وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا، قاله الفراء.
ج. الثالث: يمحص يخلص، فهذا أغربها، قال الخليل: يقال محصى الحبل يمحص محصا إذا انقطع وبره، ومنه (اللهم محص عنا ذنوبنا) أي خلصنا من عقوبتها، وقال أبو إسحاق الزجاج: قرأت على محمد بن يزيد عن الخليل: التمحيص التخليص، يقال: محصه يمحصه محصا إذا خلصه، فالمعنى عليه ليبتلي المؤمنين ليثيبهم ويخلصهم من ذنوبهم، ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ أي يستأصلهم بالهلاك.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/217.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ عزاهم وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثهم على قتال عدوهم، ونهاهم عن العجز والفشل.
2. ثم بين لهم أنهم الأعلون على عدوّهم بالنصر والظفر، وهي جملة حالية، أي: والحال أنكم الأعلون عليهم وعلى غيرهم بعد هذه الوقعة، وقد صدق الله وعده فإن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد وقعة أحد ظفر بعدوّه في جميع وقعاته؛ وقيل: المعنى: وأنتم الأعلون عليهم بما أصبتم منهم في يوم بدر فإنه أكثر مما أصابوا منكم اليوم.
3. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ متعلق بقوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ وما بعده، أو بقوله: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ أي: إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا، أو: إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون.
4. القرح: بالضم والفتح: الجرح، وهما لغتان فيه، قاله الكسائي والأخفش، وقال الفراء: هو بالفتح: الجرح، وبالضم: ألمه، وقرأ محمد بن السميقع (قرح) بفتح القاف والراء: على المصدر.
5. المعنى في الآية: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر، فلا تهنوا لما أصابكم في هذا اليوم، فإنهم لم يهنوا لما أصابهم في ذلك اليوم، وأنتم أولى بالصبر منهم؛ وقيل: إن المراد بما أصاب المؤمنين والكافرين في هذا اليوم، فإن المسلمين انتصروا عليهم في الابتداء فأصابوا منهم جماعة، ثم انتصر الكفار عليهم فأصابوا منهم، والأوّل أولى، لأن ما أصابه المسلمون من الكفار في هذا اليوم لم يكن مثل ما أصابوه منهم فيه.
6. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ﴾ أي: الكائنة بين الأمم في حروبها، والآتية فيما بعد، كالأيام الكائنة في زمن النبوّة؛ تارة تغلب هذه الطائفة، وتارة تغلب الأخرى، كما وقع لكم أيها المسلمون في يوم بدر وأحد، وهو معنى قوله: ﴿نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، فقوله: ﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ، والأيام: صفته، والخبر: نداولها، وأصل المداولة: المعاورة، داولته بينهم: عاورته، والدولة: الكرة، ويجوز أن تكون: الأيام: خبرا ونداولها: حالا، والأوّل أولى.
7. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ﴾ معطوف على علة مقدّرة كأنه قال نداولها بين الناس ليظهر أمركم وليعلم، أو يكون المعلل محذوفا، أي: ليعلم الله الذين اتقوا، فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل: أي: فعلنا فعل من يريد أن يعلم لأنه سبحانه لم يزل عالما، أو: ليعلم الله الذين آمنوا بصبره علما يقع عليه الجزاء، كما علمه أزليا.
8. ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ أي: يكرمهم بالشهادة، والشهداء: جمع شهيد، سمي بذلك: لكونه مشهودا له بالجنة، أو جمع شاهد: لكونه كالمشاهد للجنة، ومن: للتبعيض، وهم شهداء أحد.
9. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، لتقرير مضمون ما قبله.
10. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ من جملة العلل، معطوف على ما قبله، والتمحيص: الاختبار؛ وقيل: التطهير، على حذف مضاف، أي: ليمحص ذنوب الذين آمنوا، قاله الفراء؛ وقيل: يمحص: يخلص، قاله الخليل والزجاج، أي: ليخلص المؤمنين من ذنوبهم.
11. ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ أي: يستأصلهم بالهلاك، وأصل التمحيق: محو الآثار، والمحق: نقصها.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/441.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَهِنُواْ﴾ تضعفوا عن قتال الكفَّار في سائر الحروب بعد أُحُد، كبدر الصغرى، بل كبقيَّة يوم أحد أيضًا فإنَّه بعدما وقع القتل في المسلمين والأَسْر وافترقوا مع المشركين أمرهم النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم باتِّباعهم وطلبهم، إمَّا مطلقًا وإمَّا ليمنعوهم عن القتلى لئلَّا يمثِّلوا بهم، وعمَّن بقيت فيه حياة، فاشتدَّ عليهم، فقد قيل: إنَّ الآية نزلت في ذلك.
2. ﴿وَلَا تَحْزَنُواْ﴾ بما أصابكم في أُحد، قيل: وبما فاتكم من الغنائم، وقيل المعنى: لا تفعلوا ما يترتَّب على الوهن والحزن مِمَّا هو اختاريٌّ، أو لَا وَهَنَ فيهم ولا حزن لكن تسلية لهم.
3. ﴿وَأَنتُمُ الَاعْلَوْنَ﴾ والحال أنَّكم الغالبون في العاقبة، ومآلهم إلى الذلِّ؛ فهذا تبشير بالنصر مستقبلا فما خرجوا بعدُ إِلَّا نُصروا، ولو كان فيهم صحابيٌّ واحد، وأنَّكم غلبتموهم يوم بدر مع ما قتلتم منهم قبل التحوُّل عن المركز، وأسرتم منهم سبعين يوم بدر، ولم يأسروا ذلك منكم في أُحُد على الصحيح، وسبق رماة فوق أحد، حين أراد خالد ومن معه أن يعلوه ـ أُحدًا ـ فرددتموهم، وهذا تذكير للنعمة، أو أنتم الأعلون بالحقِّ والجنَّة بخلافهم، أو أنتم أعلى منهم إذ لهم بعض علوٍّ في الدنيا بغلبة القتال.
4. ﴿إِن كُنتُم مُّومِنينَ﴾ أي: إن صحَّ إيمانكم، وهو قيد لقوله: ﴿لَا تَهِنُواْ﴾، وقوله: ﴿لَا تَحْزَنُوا﴾، أو أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين بوعد النصر لكم، وإلَّا فلستم الأعلين.
5. ﴿إِنْ يَّمْسَسْكُمْ﴾ أيُّها المسلمون، شبَّهَ الإصابةَ بالمسِّ، ﴿قَرْحٌ﴾ جرح، شبَّه مطلق الضرِّ بنفس الجرح في أُحد، ﴿فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ﴾ المشركين في بدر، ﴿قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾ فتسلَّوا أيُّها المؤمنون عمَّا أصابكم؛ لأنَّه قد مسَّ القومَ ولم يهنوا ولم يحزنوا، فكيف تهنون وتحزنون إذ قَتَلوا منكم مثل ما قتلتم لا أكثر؟، وقيل: قتلوا من المسلمين خمسة وسبعين، وقيل: سبعين وجرحوا سبعين، ولا يلزم من قوله تعالى: ﴿مِثْلُهُ﴾ مساواة العددين، وقيل: القرح رجوعهم خائبين مع كثرتهم، مع أنَّكم ترجون من الله ما لا يرجون، وقد وُعدتم النصر، قيل: المسَّان في أحد، قال الله جلَّ وعلا: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ إلخ [سورة آل عمران: 152]
6. قد قيل: قُتِل في أُحد من المشركين سبعون رجلا، وعُقرت خيلهم، وكثرت فيهم الجراحات، وهُزموا أوَّل النهار، وقَتَل عليُّ بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة، كيِّس الفئة حامل لوائهم، وأخذ اللِّواء بعده عثمان بن أبي طلحة، فقتله حمزة، ثمَّ أخذه أبو سعيد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقَّاص بسهم فمات مكانه، وأخذه بعده نافع بن طلحة فقُتل، وفرَّق الله شملهم، وجُرح منهم عدد كثير، وعقر عامَّة خيلهم، ومن أوَّل الأمر قتل منهم نيِّف وعشرون رجلا، لعنهم الله عزَّ شأنه، وأنزل نصره، قال الزبير بن العوام: فرأيت المشركين قد بدت أشرافهم ونساؤهم، وعلى ميمنتهم خالد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، وعلى مقدِّمتهم سفيان بن أميَّة، وهند امرأة أبي سفيان وصواحبتها، أخذن الدفوف حين حميت الحرب يضربن بها ويقلن:
çنحن بنات طارق...نمشي على النمارق
إن يقبلوا نعانق...أو يدبروا نفارقé
فراق كلِّ وامق
ثمَّ إنَّ خالدًا لَمَّا رأى إقبال المسلمين على الغنائم خرج في خيله عليهم مائتين وخمسين، ففرَّقوا المسلمين، فهُزم المسلمون، وقصد عبد الله بن قمئة قتل رسول الله ، فذبَّ عنه مصعب بن عمير ـ وهو مصعب بن عمر وصاحب راية بدر وأحد ـ فقتله عبد الله بن قمئة، وظنَّ أنَّه قتل رسول الله ، فقال: قد قتلت محمَّدًا! وصرخ صارخ ـ هو إبليس ـ : قد قتل محمَّد! فزاد المسلمون انهزاما، وروي أنَّه حمله طلحة لَمَّا غشي عليه بالشجِّ وكسر الرباعيَّة، ودافع عنه عليٌّ وأبو بكر ونفر آخرون، وروي أنَّه يقول : (إليَّ عباد الله) فانحاز إليه ثلاثون فحموه حتَّى كشفوا عنه المشركين، وتفرَّق عنه الباقون.
7. ﴿وَتِلْكَ الَايَّامُ﴾ مجموع الماضية والآتية، مطلق أوقات النصر والغلبة، والذلِّ والعزِّ، ومثل ذلك: الغنى والفقر، والخمول والشهرة، ﴿نُدَاوِلُهَا﴾ نصرفها دولا، تارة لهؤلاء وأخرى لهؤلاء، ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾ المشركين والموحِّدين، ومثل ذلك بين المشركين وكذا بين الموحِّدين بالبغي منهم، أو من طائفة مع محقَّة، وقد بيَّنت في (شرح التبيين) أو (شرح الدماء)، أنَّه قد تحقُّ الفئتان، وهو خلاف المشهور، وتقدير الآية: نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ليتَّعظوا.
8. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ﴾ لا يخفى عن الله تعالى شيء، لكنَّ المراد: ليعاملكم معاملة المختبر، فذلك استعارة تمثيليَّة، ﴿الَّذِينَ ءَامنُواْ﴾ أي: ثبتوا على الإيمان، ولم يكونوا على حرف، أو يقدَّر: (وفعلنا ذلك ليعلم الله) إلخ، أو يقدَّر: (فعلنا) مؤخَّرا، أي: (وليعلم الله الذين آمنوا فعلنا ذلك)، أو نداولها بينكم وبين عدوِّكم ليظهر أمركم وليعلم.. إلخ، أو نداولها بين الناس لتظهر حِكَم وليعلم.
9. ﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ﴾ قدَّر بعضٌ: (وليعلم الله الذين آمنوا ويتَّخذ منكم شهداء فعلنا ذلك)، أو يقدر: (وفُعِل ذلك) بالبناء للمفعول، أو: (فعل الله ذلك)، والله عالم بكلِّ شيء قبل وقوعه بلا أوَّل ولا آخر، وعلمه تعالى لا يتجدَّد ولا تبدو له البدوات، فكلُّ آية دلَّت بظاهرها على خلاف ذلك ـ كهذه الآية ـ فالمراد بالعلم فيها التمييز من الله لخلقه ما خفي عنهم، إطلاقًا للسبب على المسبَّب، أو للملزوم على اللَّازم، وإطلاق العلم على المعلوم، والقدرة على المقدور مجاز مشهور، يقال: هذا عِلْم فلان، أي: معلومه، وهذه قدرته أي: مقدوره، فكلُّ آية دلَّت بظاهرها على تجدُّد العلم فالمراد تجدُّد المعلوم كهذه الآية، وقوله تعالى: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [سورة العنكبوت: 3]، وقوله: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [سورة الكهف: 12]، وقوله: ﴿حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمُ﴾ [سورة القتال: 31]، وقوله وتعالى: ﴿لِنَعْلَمَ مَنْ يَّـتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ [سورة البقرة: 143]، وقوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمُ أَيُّكُمُ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [سورة الملك: 2]، وكل آية دلَّت بظاهرها على نفي العلم، فالمراد فيها نفي المعلوم، كقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ﴾ [سورة آل عمران: 142]، وعلم الله تعالى لشيء برهان لتحقُّقه، وعدم اللَّازم برهان لعدم الملزوم، فمعنى الآية: ليميِّز لكم الثابت على الإيمان من المتزلزل، أو المعنى: ليعلم الله الذين آمنوا موجودين كما علم قبل وجودهم أنَّهم سيوجدون.
10. ومعنى شهداء؛ قتلى أحد في سبيل الله اصطفاهم الله، جمع شهيد، أو عدول يشهدون يوم القيامة بما وقع، سألت امرأة عن قتيلين ربطا على جمل فقيل: أخوها وزوجها، أو زوجها وابنها، فقالت: (ما فعل رسول الله ) فقيل: حيٌّ، فقالت: (فلا أبالي يتَّخذ الله من عباده الشهداء)، فنزلت الآية على لفظها.
11. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ أُبيًّا وأتباعه الذين فارقوا جيش الإسلام، أو الكافرين مطلقًا، أي: لا يحبُّ من لم يؤمن، أي: لم يثبت على الإيمان بأن تزلزل، أو كان مشركا صراحا، وهو مقابل لقوله: ﴿الَّذِينَ ءَامنُواْ﴾ مع الزيادة، أو الظالمون: الكافرون، ونفي الحبِّ عنهم كناية عن عقابهم، ونفي لنصرهم، فغلبتهم استدراج لهم وابتلاء للمؤمنين، لا نصر لهم.
12. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ أي: يبتليهم، أو يخلِّصهم من الذنوب بما يصيبهم، كمَحَصَ الذهبَ بالنار بمعنى: أخلصه بها مِمَّا يشوبه، وذلك إن كانت الدَّولة عليهم، والمحص: إزالة العيب عن الجسم مع بقاء الجسم، ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ إن كانت عليهم، والمراد بهم المشركون الذين حاربوه صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، والمحق: الإهلاك، وأصله: نقص الشيء قليلا قليلا حتَّى يفنى جسمه كلُّه، عتاب لبعض أهل أُحُد بقدسيَّة الجهاد وضرورة الثبات عَلَى المبدأِ، وتذكير بِأَنَّ الموت بإذن الله.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/12.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم شجع الله تعالى قلوب المؤمنين وسلاهم عما أصابهم بقوله:﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، أي لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح، ولا تحزنوا على من قتل منكم، والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم، فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من عاقبة أسلافهم، فهو تصريح بالوعد بالنصر بعد الإشعار به فيما سبق.
2. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ متعلق بالنهي أو بـ (الأعلون)، وجوابه محذوف لدلالة ما تعلق به عليه، أي إن كنتم مؤمنين، فلا تهنوا ولا تحزنوا، فإن الإيمان يوجب قوة القلب، والثقة بصنع الله تعالى، وعدم المبالاة بأعدائه، أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون، فإن الإيمان يقتضي العلو لا محالة ـ أفاده أبو السعود ـ.
3. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ بالفتح والضم قراءتان، وهما لغتان، كالضّعف والضّعف، أي إن أصابكم يوم أحد جراح ﴿فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ أي يوم بدر ولم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى، لأنكم موعودون بالنصر دونهم، أي فقد استويتم في الألم، وتباينتم في الرجاء والثواب، كما قال: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ [النساء: 104]، فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم، فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان، وأنتم أصبتم في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، وقيل: كلا المسّين كان يوم أحد، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله .
4. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ﴾ أي أيام هذه الحياة الدنيا ﴿نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ أي نصرفها بينهم، نديل تارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء، فهي عرض حاضر، يقسمها بين أوليائه وأعدائه، بخلاف الآخرة، فإن عرضها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا، قال ابن القيم في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد: (ومنها أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائما دخل معهم المسلمون وغيرهم، ولم يميز الصادق من غيره، ولو انتصر عليهم دائما لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاؤوا به، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة)
5. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال ابن القيم: حكمة أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه، وذلك العلم الغيبيّ لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وإنما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهدا واقعا في الحس.
6. في الآية وجهان:
أ. أحدهما: أن يكون المعلل محذوفا معناه: ﴿وَلِيَعْلَمَ﴾.. فعلنا ذلك.
ب. الثاني: أن تكون العلة محذوفة وهذا عطف عليه معناه: وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت، وليعلم الله، وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليهم وليبصّرهم أن العبد يسوؤه ما يجري عليه من المصائب، ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه ـ أفاده الزمخشري ـ
7. في هذه الآية بحث مشهور، وذلك بأن ظاهرها مشعر بأنه تعالى إنما فعل ذلك ليكتسب هذا العلم، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى، ونظيرها في الإشكال قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ﴾ [آل عمران: 142] إلخ، وقوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 3] وقوله: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى﴾ [الكهف: 12] وقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد: 31]، وقوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ [البقرة: 143]، قال الرازيّ: وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها فقال: كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها، ولما كانت الدلائل القطعية دالة على أزلية علمه جل اسمه، أجاب عن ذلك العلماء بأجوبة:
أ. منها ـ أن هذا من باب التمثيل، فالتقدير في هذه الآية: ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم.
ب. ومنها ـ أن العلم فيها مجاز عن التمييز بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم.
ج. ومنها ـ أن العلم على حقيقته، إلا أنه معتبر من حيث تعلقه بالمعلوم من حيث إنه واقع موجود بالفعل، أي ليعلم الثابت واقعا منهم كما كان يعلم أنه سيقع لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد، وهذا ما اعتمده ابن القيّم كما نقلناه أولا.
د. ومنها ـ أن الكلام على حذف مضاف، أي ليعلم أولياء الله، فأضاف إلى نفسه تفخيما.
8. ثم ذكر حكمة أخرى وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء بقوله: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ أي وليكرم ناسا منكم بالشهادة ليكونوا مثالا لغيرهم في تضحية النفس شهادة للحق، واستماتة دونه، وإعلاء لكلمته، وهو تعالى يحب الشهداء من عباده، وقد أعدّ لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة، وفي لفظ (الاتخاذ) المنبئ عن الاصطفاء والتقريب، من تشريفهم وتفخيم شأنهم ما لا يخفى.
9. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ قال ابن القيّم: (تنبيه لطيف الموقع جدا على أن كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخزلوا عن نبيه يوم أحد فلم يشهدوه، ولم يتخذ منهم شهداء، لأنه لم يحبهم، فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنون في ذلك اليوم، وما أعطاه من استشهد منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه)، فالتعريض بالمنافقين، ويحتمل أن يكون بالكفرة الذين أديل لهم، تنبيها على أن ذلك ليس بطريق النصرة لهم، بل لما ذكر من الفوائد العائدة إلى المؤمنين.
10. ثم ذكر الله تعالى حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم بقوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي لينقّيهم ويخلصهم من الذنوب ومن آفات النفوس، وأيضا فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين، فتميزوا منهم، فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدوّ.
11. ثم ذكر الله تعالى حكمة أخرى وهي محق الكافرين بقوله: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ أي يهلكهم، فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم، إذ جرت سنة الله تعالى، إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها، بعد كفرهم، بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم، والمحق ذهاب الشيء بالكلية حتى لا يرى منه شيء، وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، وأصرّوا على الكفر جميعا.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/417.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: الوهن الضعف في العمل وفي الأمر وكذا في الرأي، والحزن ألم يعرض للنفس إذا فقدت ما تحب، أي لا تضعفوا عن القتال وما يلزمه من التدبير بما أصابكم من الجرح والفشل في أحد، ولا تحزنوا على من قتل منكم في ذلك اليوم.
2. يصح أن يكون هذا النهي إنشاء بمعنى الخبر، أي إن ما أصابكم من القرح في أحد ليس مما ينبغي أن يكون موهنا لأمركم ومضعفا لكم في عملكم ولا موجبا لحزنكم وانكسار قلوبكم، فإنه لم يكن نصرا تاما للمشركين عليكم وإنما هو تربية لكم على ما وقع منكم من مخالفة قائدكم صلّى الله عليه وآله وسلّم في تدبيره الحربي المحكم وفشلكم وتنازعكم في الأمر، وذلك خروج عن سنة الله في أسباب الظفر، وبهذه التربية تكونوا أحقاء بأن لا تعودوا إلى مثل تلك الذنوب فتكون التربية خيرا لكم من عدمها، بل يجب أن تزيدكم المصائب قوة وثباتا بما تربيكم على اتباع سنن الله في الحزم والبصيرة وإحكام العزيمة واستيفاء الأسباب في القتال وغيره، وأن تعلموا أن الذين قتلوا منكم شهداء، وذلك ما كنتم تتمنونه كما سيأتي، فتذكرُه مما يذهب بالحزن من نفس المؤمن.
3. هاتان العلتان قد ذكرتا في الآية التي بعد هذه، وكيف تهنون وتحزنون وأنتم الأعلون بمقتضى سنن الله تعالى في جعل العاقبة للمتقين، الذين يتقون الحيدان عن سننه، وفي نصر من ينصره ويتبع سننه بإحقاق الحق وإقامة العدل، والمؤمنون أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام، أو الطمع فيما في أيدي الناس، فهمة الكافرين تكون على قدر ما يرمون إليه من الغرض الخسيس، وما يطلبونه من العرض القريب، فهي لا تكون كهمة المؤمن الذي غرضه إقامة الحق والعدل في الدنيا، والسعادة الباقية في الآخرة، أي إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره، وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسننه في نظام الاجتماع بحيث صار هذا الإيمان وصفا ثابتا لكم حاكما في ضمائركم وأعمالكم، فأنتم الأعلون وإن أصابكم ما أصابكم، وإذا كان الأمر كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن ما أصابكم يعدكم للتقوى، فتستحقون تلك العاقبة وهي علو السيادة عليهم.
4. قيل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ متعلق بالنهي، وجملة ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ حال معترضة، أي فلا تضعفوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين لأن من مقتضى الإيمان الصبر والثبات والرغبة في إحدى الحسنيين ـ الظفر أو الشهادة ـ على أن مجموع الأمة موعود بالحسنيين جميعا، وإنما يطلب إحداهما الأفراد.
5. ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ قال محمد عبده ما معناه: إن الحزن إنما يكون على ما فات الإنسان وخسره مما يحبه، وسببه أنه يشعر أنه قد فاته بفوته شيء من،، وفقد بفقده شيئا من عزيمته أو أعضائه، ذلك بأن صلة الإنسان بمحبوباته من المال والمتاع والناس كالأصدقاء وذي القربى تكسبه قوة وتعطيه غبطة وسرورا فإذا هو فقد شيئا منها بلا عوض فإنه يعرض لنفسه ألم الحزن الذي يشبه الظلمة ويسمونه كدرا، كأن النفس كانت صافية رائقة فجاء ذلك الانفعال فكدرها بما أزال من صفوها.
6. سؤال وإشكال: لماذا نهاهم عن الوهن بما عرض لهم والحزن على ما فقدوا في أحد، وكل من الوهن والحزن كان قد وقع وهو أمر طبيعي في مثل الحال التي كانوا عليها؟ والجواب: المراد بالنهي ما يمكن أن يتعلق به الكسب من معالجة وجدان النفس بالعمل ولو تكلفا، كأنه يقول: انظروا في سنن من قبلكم تجدوا أنه ما اجتمع قوم على حق واحكموا أمرهم وأخذوا أهبهم وأعدوا لكل أمر عدته، ولم يظلموا أنفسهم في العمل لنصرته، إلا وظفروا بما طلبوا، وعوضوا مما خسروا، فحولوا وجوههم عن جهة ما خسرتم، وولوها جهة ما يستقبلكم، وانهضوا به بالعزيمة والحزم، مع التوكل على الله عز وجل، والحزن إنما يكون على فقد ما لا عوض منه، وإن لكم خير عوض مما فقدتم.
7. ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ برجحانكم عليهم في مجموع الوقعتين ـ بدر وأحد ـ إذ الذين قتلوا منهم أكثر من الذين قتلوا منكم، على كثرتهم وقلتكم، أو جملة ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ معترضة يراد بها التبشير بما يكون في المستقبل من النصر، وهما قولان للمفسرين، وسواء كانت للتسلية أو للبشارة فهي مرتبطة بالإيمان الصحيح لا شائبة فيه، فإن من اخترق هذا الإيمان فوائده وتمكن من سويداته، يكون على يقين من العاقبة، بعد الثقة من مراعاة السنن العامة والأسباب المطردة ولذلك قال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، ومثل هذا الشرط كثير في القرآن وهو ليس للشك، وإنما يراد به تنبيه المؤمن إلى حاله ومحاسبة نفسه على أعماله، قال محمد عبده في الدرس: رأيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة الخميس الماضية (غزوة ذي القعدة سنة 1320) في الرؤيا منصرفا مع أصحابه من أحد وهو يقول: (لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة)، أي لما في الهزيمة في التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالاحتياط ولا يغتروا بشيء يشغلهم عن الاستعداد وتسديد النظر وأخذ الأهبة، وغير ذلك من الأسباب والسنن.
8. ثم بين تعالى وجه جدارتهم بأن لا يهنوا ولا يحزنوا فقال: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ قال كثير من المفسرين: إن القرح بالفتح والضم واحد فهو كالضعف فيه اللغتان، ومعناه الجرح، وقال بعضهم إن القرح بالفتح هو الجراح وبالضم أثرها وألمها، ورجح ابن جرير قراءة الفتح لإجماع أهل التأويل على أن معناه القتل والجراح فذلك يدل على أن القراءة هي بالفتح وكان بعض أهل العربية يزعم أن القرح والقُرح لغتان بمعنى واحد والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا (أي من أن القرح بالفتح يشمل الجرح والقتل، ويؤيده أنه هو الذي حصل، وفي لسان العرب) القرح والقرح لغتان: عض السلاح ونحوه مما يجرح الجسد وقيل (القرح الآثار والقُرح الألم)، وإذا كان الأصل فيه عض السلاح وتأثيره فلا غرو أن يشمل القتل والجرح، وابن جرير ثقة في نقله عن أهل العربية كنقله عن أهل العلم بالتفسير وغيره، ولكن ليس له أن يمنع كون القراءتين لغتين في هذا المعنى، ونقل الرازي أن الفتح لغة تهامة والحجاز والضم لغة نجد.
9. ﴿يَمْسَسْكُمْ﴾ من المس قال ابن عباس معناه يصبكم، قال محمد عبده: عبر بالمضارع بدل الماضي فلم يقل ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ ليحضر صورة المس في أذهان المخاطبين، والمعنى إن يكن السلاح قد عضكم وعمل فيكم عمله يوم أحد، فقد أصاب المشركين أيضا مثل ما أصابكم في ذلك اليوم أو في يوم بدر، واعترض على الأول بأن قرح المشركين يوم أحد لم يكن مثل قرح المؤمنين، وأجاب في الكشاف عن هذا فقال: بلى كان مثله ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ [آل عمران: 152] الآية وستأتي.
10. هذا هو الذي اخترناه كما تقدم في ملخص القصة أي أن المشركين قد أصيبوا بمثل ما أصيب به المؤمنون يوم أحد ولم يكونوا غالبين، وقال محمد عبده: إن اعتبار المساواة في المثل من التدقيق الفلسفي الذي لم تكن تقصده العرب في مثل هذه العبارة وهذا القول صحيح على كل تقدير.
11. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾: الأيام جمع يوم وهو في أصل اللغة بمعنى الزمن والوقت فالمراد بالأيام هنا أزمنة الظفر والفوز، ونداولها بينهم نصرّفها فنديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، فالمداولة بمعنى المعاورة، يقال داولت الشيء بينهم فتداولوه تكون الدولة فيه لهؤلاء مرة وهؤلاء مرة، ودالت الأيام دارت، والمعنى أن مداولة الأيام سنة من سنن الله في الاجتماع البشري فلا غرو أن تكون الدولة مرة للمبطل ومرة للمحق، وإنما المضمون لصاحب الحق أن تكون العاقبة له، وإنما الأعمال بالخواتيم، قال محمد عبده: هذه قاعدة كقاعدة ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾، أي هذه سنة من تلك السنن، وهي ظاهرة بين الناس بصرف النظر عن المحقين والمبطلين، والمداولة في الواقع تكون مبنية على أعمال الناس، فلا تكون الدولة لفريق دون آخر جزافا وإنما تكون لمن عرف أسبابها ورعاها حق رعايتها، أي إذا علمتم أن ذلك سنة فعليكم أن لا تهنوا وتضعفوا بما أصابكم لأنكم تعلمون أن الدولة تدول، والعبارة تومئ إلى شيء مطويّ كان معلوما لهم، وهو أن لكل دولة سبب، فكأنه قال: إذا كانت المداولة منوطة بالأعمال التي تفضي إليها كالاجتماع والثبات وصحة النظر وقوة العزيمة وأخذ الأهبة وإعداد ما يستطاع من القوة فعليكم أن تقوموا بهذه الأعمال وتحكموها أتم الإحكام، وفي الجملة من الإيجاز وجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة ما لا يعهد مثله في غير القرآن.
12. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي فعل ذلك ليقيم سنته في مداولة الأيام وليعلم الذين آمنوا من الذين نافقوا و﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ أي يميزهم منهم، وقد تقدم ذكرهم في إجمال القصة وسيأتي ذكر لهم في الآيات، فهو معطوف على محذوف تذهب العقول في تعيينه كل مذهب، وتبحث عن حقيقته في كل فج، أو تلتمسه في فوائد قاعدة جعل الأيام دولا بين الناس، وعدم حصر الظفر والنصر في قوم دون قوم، فكل ما وجدته يصلح حكمة وعلة لهذه القاعدة عددته من المطوي المحذوف، وأعمه ما أشرنا إليه آنفا وهو أن يقال في التقدير: وتلك الأيام نداولها بين الناس ليقوم بذلك العدل ويستقر النظام، ويعلم الناظر في السنن العامة والباحث في الحكمة الإلهية البالغة، أنه لا محاباة في هذه المداولة، وليعلم الذين آمنوا منكم، لأن الجهاد الاجتماعي الذي يُدال به قوم على قوم مما يظهر ويتميز به الإيمان الصحيح من غيره.
13. قال في الكشاف: (فيه وجهان أحدهما أن يكون المعلل محذوفا معناه: وليتميز الثابتون على الإيمان من الذين على حرف فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل بمعنى فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت منكم على الإيمان من غير الثابت، وإلا فإن الله عز وجل لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها، وقيل معناه: ليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو أن يعلمهم موجودا منهم الثبات، والثاني أن تكون العلة محذوفة وهذا عطف عليه، معناه وفعلنا ذلك (أي مداولة الأيام) ليكون كيت وكيت (أي من المصالح) وليعلم الله، وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسلبهم عما جرى عليهم وليبصرهم أن العبد يسوءه ما يجري عليه من المصائب ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه)، وجعل ابن جرير التقدير هكذا: وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء يداولها بين الناس.
14. تقدم مثل هذا التعبير في سورة البقرة ووجه الإشكال فيه، وقول محمد عبده المراد بعلم الله فيه علم عباده وإنهم يفسرونه بعلم الظهور أي ليظهر علمه بذلك، وقال هنا موضحا قول الجمهور: إن المراد بالعلم علم الظهور، قالوا: إن العلم بالشيء على أنه سيقع ثابت في الأزل، فإذا وقع ذلك الشيء حصل تغير في ذلك المعلوم فصار حالا بعد أن كان مستقبلا، فهل تعلق العلم به عند الوقوع هو عين تعلقه به من الأزل إلى قبيل وقوعه؟ قال الحكماء: إن الزمن ليس بشيء بالنسبة إلى الله فليس هناك تقدم ولا تأخر ولا متقدم ولا متأخر، فتعلق العلم بالمعلوم واحد في الأزل والأبد، فعلى هذا القول يكون معنى ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ ليظهر علمه للناس بظهور المعلوم لهم، فهو كقوله: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ أي يعلم الناس ذلك ويميزونه.
15. جمهور المتكلمين يقولون: إن الله تعالى يعلم كل شيء أزلا وأبدا ولكن تعلق علمه بالأشياء على أنها ستقع غير تعلق علمه بها وهي واقعة، فذلك علم غير ظاهر فيه المعلوم في الوجود وهذا علم ظهر متعلقه ووجد، والمراد بقوله ﴿لِيَعْلَمَ﴾ الثاني.. وكنت أقرر هذه المسألة من قبل على هذا الوجه وأعبر تارة بعلم الغيب وعلم الشهادة مفسرا علم الغيب بما لم يوجد فيه المعلوم وعلم الشهادة بما ظهر فيه المعلوم ووجد، وذكرت ذلك للأستاذ في الدرس، فقال: إنهم يريدون بعلم الغيب والشهادة معنى آخر وكنت عازما على مراجعته في ذلك بعد الدرس فنسيت، ثم قال: إن العبارة ظاهرة الصحة وإيهام تجدد العلم الإلهي مدفوع.
16. سؤال وإشكال: ما النكتة في اختيار هذه العبارة وأمثالها كقوله في الآية التي بعد هذه الآية ﴿ولما يعلم الله الذين آمنوا﴾، ولم يبين المراد بعبارة لا إيهام فيها؟ والجواب: قال محمد عبده ما نصه: (النكتة بيان أن العلم إذا لم يصدقه العمل لا يعتقد به)، وبيان ذلك أن الإنسان كثيرا ما يتصور الشيء ويحكم بصحته فيرى أنه يعتقده، لكن إذا عرض العمل كذبه في اعتقاده وتبين أنه لم يكن متحققا به وإنما كان صورة انطبعت في مخه مع الغفلة عما يعارضها من سائر عقائده المتمكنة التي لها سلطان على وجدانه وأثر في عمله وأخلاقه وعاداته التي تجري عليها أعماله، مثال ذلك أن بعض الناس تحدثه نفسه بأنه شجاع ويعتقد ذلك لعدم وجود ما يعارضه في نفسه حتى إذا ما عرض له ما تظهر به حقيقة الشجاعة بالفعل من الحاجة إلى ركوب الخطر وخوض غمرات الموت دفاعا عن الحق أو الحقيقة جبن وجزع وظهر غروره بنفسه وانخداعه لوهمه، ومثله من تحدثه نفسه بأنه لقوة إيمانه عظيم الثقة بالله والتوكل عليه، حتى تظهر الحوادث والوقائع أنه هلوع إذا مسه الشر كان جزوعا، وإذا مسه الخير كان منوعا، لا يثق بربه ولا بنفسه، فأراد تعالى إن يرشدنا بقوله ﴿لِيَعْلَمَ﴾ إلى أن العلم لا يكون علما والإيمان لا يكون إيمانا إلا إذا صدقهما العمل وظهر أثرهما بالفعل فكأنه قال ليتبين الذين آمنوا على طريق التمثيل.
17. أظهر من هذا في تقرير هذا الوجه أن يقال: إن علم الله تعالى لا يكون إلا مطابقا للواقع، فما لا يعلمه تعالى هو الذي ليس له حقيقة ثابتة وكل ما له حقيقة ثابتة فلابد أن يكون معلوما له تعالى، فيكون معنى ﴿ليعلم الله الذين آمنوا﴾ ليثبت ويحقق بالفعل إيمانا الذين آمنوا أو صدقهم في إيمانهم، فإنه متى ثبت وتحقق كان الله عالما به على أنه حقيقة ثابتة، فأطلق أحد المتلازمين وأراد به الآخر على طريق المجاز المرسل.
18. في قوله تعالى: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما أنه من الشهادة في القتال وهي أن يقتل المؤمن في سبيل الله أي مدافعا عن الحق قاصدا إعلاء كلمته.. وهو الذي يسبق إلى الذهن في هذا المقام، وإنما سمى هؤلاء المقتولون شهداء لأنهم يشاهدون بعد الموت من الملكوت ونعيمه ما لا يكون لغيرهم أو لأنهم يبذل أنفسهم في سبيل الله يكونون من الشهداء على الناس يوم القيامة بالمعنى المشار إليه آنفا ولأنه مشهود لهم بالجنة أو لأن الملائكة تشهد موتهم، أقوال.
ب. والثاني أنه من الشهادة على الناس بالمعنى الذي تقدم في قوله عز وجل: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: 143]
19. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ جملة معترضة مسوقة لبيان أن الشهداء يكونون ممن خلصوا لله وأخلصوا في إيمانهم وأعمالهم، فلم يظلموا أنفسهم بمخالفة الأمر أو النهي، ولا بالخروج عن سنن الله في الخلق، وأنه تعالى لا يصطفي للشهادة الظالمين ما داموا على ظلمهم؛ وفي ذلك بشارة للمتقين، وإنذار للمقصرين، فالناس قبل الابتلاء بالمحن والفتن يكونون سواء فإذا ابتلوا تبين المخلص والصادق والظالم والمنافق، وما أسهل ادعاء الإخلاص والصدق إذا كانت آياتهما مجهولة، فبيان السبب مؤدب للمقصرين وقاطع لألسنة المدعين، إلا أن يكونوا مع الأغبياء الجاهلين، وفيه أيضا أن أعداءهم من المشركين لا يحبهم الله أن لا يعلمهم معاملة المحب للمحبوب لأنهم يظلمون أنفسهم ويسفهونها بعبادة المخلوقات واجتراح السيئات، ويظلمون غيرهم بالفساد في الأرض؛ والبغي على الناس، وهضم حقوقهم والظالم لا تدوم له سلطة؛ ولا تثبت له دولة، فإذا أصاب غرة من أهل الحق والعدل فكانت له دولة في حرب أو حكم؛ فإنما تكون دوله سريعة الزوال؛ قريبة الانحلال والاضمحلال؛ وفيه تعريض أيضا بالمنافقين فإنهم أظلم الظالمين.
20. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ قال في الأساس: محص الشيء محصا ومحصه تمحيصا خلصه من كل عيب ومحص الذهب بالنار خلصه مما يشوبه، ثم قال: ومن المجاز محص الله التائب من الذنوب ومحص قلبه، وتمحصت ذنوبه وتمحصت الظلماء تكشفت قال:
çحتى بدى قمراؤه وتمحصت...ظلماؤه ورأى الطريق المُبْصرُé
21. أصل المحق النقصان كما قال الراغب، ومنه المحاق لآخر الشهر، وقال في الأساس: (محق الشيء محاه وذهب به.. وسمعتهم يقولون في كل شيء لا يحسن الإنسان عمله: قد محقه، ويقولون للهلكة: المحقة)
22. قال بعض المفسرين: إن تمحيص المؤمنين عبارة عن تكفير ذنوبهم ومحو سيئاتهم وعبر عنه بعضهم بالتطهير والتزكية وروي عن ابن عباس ومجاهد وغير هما من السلف تفسير التمحيص بالابتلاء والاختبار وكأنه بيان لمبدأه دون غايته، وقال بعضهم: يمحص الله بالمصائب ذنوب المؤمنين ويمحق نفوس الكافرين، ورد محمد عبده قول من قال إن التمحيص تكفير الذنوب بأن المعهود من القرآن التعبير عن هذا المعنى بالتكفير وأن للتمحيص هنا معنى آخر يتفق مع ما قاله بعض المفسرين في جملته لا في تصويره، وصوره هو بنحو ما يأتي: كل إنسان يحكم لنفسه في نفسه بأمور كثيرة يصدقه فيها الحق الواقع أو يكذبه فالمعتقد حقية الدين قد يتصور وقت الرخاء أنه يسهل عليه بذل ماله ونفسه في سبيل الله ليحفظ شرف دينه ويدفع عنه كيد المعتدين، فإذا جاء البأس ظهر له من نفسه خلاف ما كان يتصور (وتقدم الكلام في هذه المسألة آنفا)، فالإنسان يلتبس عليه أمر نفسه فلا يتجلى كمال التجلي إلا بالتجارب الكثيرة والامتحان بالشدائد العظيمة، فالتجارب والشدائد كتمحيص الذهب يظهر به زيفه ونضاره، ثم إنها أيضا تنفي خبثه وزغله، كذلك كان الأمر في أحد: تميز المؤمنون الصادقون من المنافقين وتطهرت نفوس بعض ضعفاء المؤمنين من كدورتها، فصارت تِبْراً خالصا وهؤلاء هم الذين خالفوا أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وطمعوا في الغنيمة، والذين انهزموا وولوا وهم مدبرون محص الجميع بتلك الشدة فعلموا أن المسلم ما خلق ليلهو ويلعب، ولا ليكسل ويتواكل، ولا لينال الظفر والسيادة بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في المخلوقات، بل خلق ليكون أكثر الناس جدا في العمل، وأشدهم محافظة على النواميس والسنن.
23. تجلى أثر هذا التمحيص أكمل التجلي في غزوة حمراء الأسد إذ أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن لا يتبع المشركين إلا من شهد القتال بأحد، فامتثلوا الأمر بقلوب مطمئنة وعزائم شديدة وهم على ما هم من تبريح الجراح بهم كما تقدم بيانه، فليعتبر بهذا مسلمو هذا الزمان وليعلموا ما هو مقدار حظهم من الإسلام والإيمان.
24. أما محق الكافرين بالشدائد فليس معناه فناؤهم وهلاكهم وإنما هو اليأس يسطو عليهم وفقد الرجاء يذهب بعزائمهم (لعدم الإيمان الذي يثبت قلوب أصحابه في الشدائد) حتى يذهب ما كان قد بقي من نور الفضيلة في نفوسهم فلا تبقى لهم شجاعة ولا بأس ولا شيء من عزة النفس، فيكون أحدهم كالهلاك في المحاق لا نور له، بل يكون وجوده كالعدم، لأنه لا أثر له ولا فائدة فيه، فذلك محقه إذا غُلب على أمره وإذا هو انتصر طغى وتجبر وبغى وظلم، وذلك محق معنوي تكون عاقبته المحق الصوري كذلك لا يثبت للكافرين المبطلين وجود مع المؤمنين الصادقين، وإنما يبقون ظاهرين إذا لم يظهر من أهل الحق والعدل من ينازعهم ويقاوم باطلهم.
__________
(1) تفسير المنار: 4/145.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي ولا تضعفوا عن القتال وما يتبعه من التدبير بسبب ما أصابكم من الجروح والفشل في يوم أحد، ولا تحزنوا على من فقد منكم في هذا اليوم، وكيف يلحقكم الوهن والحزن وأنتم الأعلون، فقد مضت سنة الله أن يجعل العاقبة للمتقين الذين لا يحيدون عن سنته، بل ينصرون من ينصره ويقيمون العدل، فهم أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام، أو للطمع فيما في أيدى الناس، فهمة الكافر على قدر ما يرمى إليه من غرض خسيس، ولا كذلك همة المؤمن الذي يرمى إلى إقامة صرح العدل في الدنيا والسعادة الباقية في الآخرة ـ إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره، وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسنته في نظم الاجتماع، حتى صار ذلك الايمان وصفا ثابتا لكم حاكما نفوسكم وأعمالكم.
إنما نهى عن الحزن على ما فات، لأن ذلك مما يفقد الإنسان شيئا من عزيمته، وبالعكس صلته بما يحب من مال أو متاع أو صديق تكسبه قوة وتوجد في نفسه سرورا، والمراد من النهى عن مثل ذلك معالجة النفس بالعمل ولو تكلفا وخلاصة ذلك ـ الأمر بأخذ الأهبة وإعداد العدّة مع العزيمة الصادقة والحزم والتوكل على الله حتى يظفروا بما طلبوا ويستعيضوا مما خسروا.
2. ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ تبشير بما يكون لهم في المستقبل من النصر، فإن من احترق الإيمان الصحيح فؤاده، وتمكن من سويداء قلبه يكون على يقين من العاقبة، بعد مراعاة السنن والأسباب المطردة للظفر والفلاح.
3. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ أي إن كان السلاح قد عضكم وعمل فيكم يوم أحد فقد أصاب المشركين مثل ما أصابكم في ذلك اليوم، فقد قتل منهم مثل من قتل منكم فلم يكونوا غالبين.
4. الخلاصة ـ إنه لا يسوغ لكم التقاعد عن الجهاد، وليس لكم العذر فيه لأجل أن مسكم قرح، فان أعداءكم قد مسهم مثله قبلكم وهم على باطلهم لم يفتروا في الحرب ولم يهنوا، فأنتم أجدر بصدق العزيمة لمعرفتكم بحسن العاقبة، وتمسككم بالحق.
5. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ أي إن مداولة الأيام سنة من سنن الله في المجتمع البشرى، فمرة تكون الدولة للمبطل، وأخرى للمحق، ولكن العاقبة دائما لمن اتبع الحق، وإنما تكون الدولة لمن عرف أسباب النجاح ورعاها حق رعايتها كالاتفاق وعدم التنازع والثبات وصحة النظر وقوة العزيمة، وأخذ الأهبة وإعداد ما يستطاع من القوة، فعليكم أن تقوموا بهذه الأعمال وتحكموها أتم الإحكام حتى تظفروا وتفوزوا، ولا يكن ما أصابكم من الفشل مضعفا لعزائمكم، فإن الدنيا دول.
çفيوما لنا ويوما علينا...ويوما نساء ويوما نسرé
ومن أمثال العرب: الحرب سجال، روى أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة، ثم قال أين ابن أبى كبشة؟ ـ يعنى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبو كبشة زوج حليمة السعدية وهو أبوه من الرضاع ـ أين ابن أبى قحافة؟ ـ أبو بكر ـ أين ابن الخطاب؟ فقال؟ عمر: هذا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهذا أبو بكر وها أنا ذا عمر، فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال إنكم تزعمون ذلك، فقد خبنا إذن وخسرنا.
6. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي وتلك الأيام نداولها بين الناس، ليقوم بذلك العدل، ويستقر النظام، ويعلم الناظر في السنن العامة، والباحث في الحكم الإلهية أنه لا محاباة في هذه المداولة، وليعلم الله الذين آمنوا منكم، لأن الجهاد الاجتماعي الذي يدال به قوم على قوم مما يطهر النفوس ويتميز به الإيمان الصحيح من غيره.
7. المراد من قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ﴾ أي وليظهر علمه بذلك للناس بظهور ما يعلم لهم، إذ علم الله بالأشياء ثابت في الأزل، فإذا وقعت حصل تغير في ذلك المعلوم، فصار حالا بعد أن كان مستقبلا، فهو كقوله: ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ أي ليعلم الناس ذلك ويميزوه.
8. الخلاصة ـ إن المراد من مثل هذه العبارة ﴿لِيَعْلَمَ﴾ ـ ليثبت ويتحقق صدق إيمان الذين آمنوا، لأنه متى ثبت وتحقق كان الله عالما به على أنه حقيقة ثابتة، إذ علم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع، فما لا يعلمه الله تعالى لا يكون له حقيقة ثابتة.
9. ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ أي وليكرم ناسا منكم بالشهادة والقتل في سبيل الله، ذاك أن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر، وكانوا يتمنّون لقاء العدو، وأن يكون لهم يوم كذلك اليوم يقاتلون فيه ويلتمسون الشهادة.
10. القرآن ملئ بتعظيم حال الشهداء، قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ وقال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾، ومن ثم كان من جملة فوائد هذه المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين.
11. ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الشهداء يكونون ممن أخلصوا في إيمانهم وأعمالهم، ولم يظلموا أنفسهم بمخالفة أوامر الله ونواهيه، والخروج عن سننه في خلقه فقال: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ أي إن الله لا يصطفى للشهادة الظالمين ما داموا على ظلمهم، وفي ذلك بشارة للمتقين بمحبة الله لهم، وإنذار للمقصرين بأنه لا يحبهم الله، وتعريض لأعدائهم المشركين بأن الله لا يحبهم، لأنهم ظلموا أنفسهم وسفهوها بعبادة المخلوقات، وظلموا سواهم بالفساد في الأرض، والبغي على الناس وهضم حقوقهم، ومن المعلوم أن الظلم لا تدوم له سلطة، ولا تثبت له دولة، بل تكون دولته سريعة الزوال، قريبة الانحلال.
12. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي ونداول الأيام ليتميز المؤمنون الصادقون من المنافقين، وتطهر نفوس بعض ضعفاء المؤمنين من كدورتها، فتصير تبرا خالصا لا كدورة فيه، فإن الإنسان كثيرا ما يشتبه عليه أمر نفسه، ولا تتجلى له حقيقتها إلا بالتجارب الكثيرة، والامتحان بالشدائد العظيمة، فهي التي تمحصها وتنفى خبثها وزغلها، كما أن تمحيص الذهب يميز بهرجه من خالصه.
13. المعتقد في دين أنه الحق قد يخيل إليه وقت الرخاء أنه يسهل عليه بذل ماله ونفسه في سبيل الله ليرفع راية ذلك الدين ويدفع عنه كيد المعتدين، فإذا جاء البأس ظهر له من نفسه غير ما كان يتصور، انظر إلى الذين خالفوا أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد وطمعوا في الغنيمة، وإلى الذين انهزموا وولوا الأدبار، كيف محصهم الله بتلك الشدائد فعلموا أن المسلم ما خلق للهو واللعب، ولا للكسل والتواكل، ولا لنيل الظفر ونيل السيادة بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في المخلوقات، بل خلق ليكون أكثر الناس جدّا في العمل، وأعظمهم تفانيا في أداء الواجب اتباعا للنواميس والسنن التي وضعها الله في الخليقة.
14. تجلى أثر هذا التمحيص في الغزوات التي تلت هذه الوقعة؛ ففي غزوة (حمراء الأسد) أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ألا يتبع المشركين فيها إلا من شهد القتال بأحد فامتثل المؤمنون أمره بقلوب مطمئنة، وعزائم صادقة، وهم على ما هم عليه من الجراح المبرّحة، والقلوب المنكسرة.
15. ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ أي ويجعل اليأس يسطو على قلوبهم، وفقد الرجاء يذهب بعزائمهم، فلا يبقى لديهم شجاعة ولا بأس، ولا قلّ ولا كثر من عزة النفس، فيكون وجودهم كالعدم لا فائدة فيه، ولا أثر له، فالكافرون المبطلون لا يثبت لهم حال مع المؤمنين الصادقين، وإنما يظهرون إذا لم يوجد من أهل الحق والعدل من ينازعهم ويقاوم باطلهم.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/79.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوىة والتأسية والتثبيت: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لا تهنوا ـ من الوهن والضعف ـ ولا تحزنوا ـ لما أصابكم ولما فاتكم ـ وأنتم الأعلون.. عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه! ومنهجكم أعلى، فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله! ودوركم أعلى، فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، الهداة لهذه البشرية كلها، وهم شاردون عن النهج، ضالون عن الطريق، ومكانكم في الأرض أعلى، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون.. فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون، وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا، فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص.
2. ذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله، قد يكون إشارة إلى غزوة بدر، وقد مس القرح فيها المشركون وسلم المسلمون، وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد، وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر، حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون، وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد، حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها.. ثم كانت الدولة للمشركين، حينما خرج الرماة على أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واختلفوا فيما بينهم، فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة، جزاء وفاقا لهذا الاختلاف وذلك الخروج، وتحقيقا لسنة من سنن الله التي لا تتخلف، إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة، والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله، لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد، وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض، وهي مداولة الأيام بين الناس ـ وفقا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم ـ فتكون لهؤلاء يوما ولأولئك يوما، ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون، كما تتكشف الأخطاء، وينجلي الغبش.
3. إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها والصبر، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح! عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن: مؤمنين ومنافقين، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم، ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده، وهم مختلطون مبهمون! والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين، والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور، ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء، وتجعله واقعا في حياة الناس، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء، فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم.
4. مداولة الأيام، وتعاقب الشدة والرخاء، محك لا يخطئ، وميزان لا يظلم، والرخاء في هذا كالشدة، وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل، والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء، وتتجه إلى الله في الحالين، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله.
5. كان الله يربي هذه الجماعة ـ وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية ـ فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء، والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب ـ وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة، لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة، ولتزيد طاعة لله، وتوكلا عليه، والتصاقا بركنه، ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين.
6. يمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس، وفيما بعد تمييز الصفوف، وعلم الله للمؤمنين: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾، وهو تعبير عجيب عن معنى عميق ـ إن الشهداء لمختارون، يختارهم الله من بين المجاهدين، ويتخذهم لنفسه سبحانه فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد، إنما هو اختيار وانتقاء، وتكريم واختصاص.. إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة، ليستخلصهم لنفسه سبحانه ويخصهم بقربه، ثم هم شهداء يتخذهم الله، ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس، يستشهدهم فيؤدون الشهادة، يؤدونها أداء لا شبهة فيه، ولا مطعن عليه، ولا جدال حوله، يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق، وتقريره في دنيا الناس، يطلب الله سبحانه منهم أداء هذه الشهادة، على أن ما جاءهم من عنده الحق، وعلى أنهم آمنوا به، وتجردوا له، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه؛ وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق؛ وعلى أنهم هم استيقنوا هذا، فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس، وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس.. يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون، وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت، وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال!
7. كل من ينطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لا يقال له إنه شهد، إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها، ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إليها، ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله، فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد؛ وأخص خصائص العبودية التلقي من الله.. ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله، ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر، ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض، كما بلغها محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس، والذي بلغه عنه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو المنهج السائد والغالب والمطاع، وهو النظام الذي يصرّف حياة الناس كلها بلا استثناء، فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله، فهو إذن شهيد، أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها، واتخذه الله شهيدا.. ورزقه هذا المقام.
8. هذا فقه ذلك التعبير العجيب: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾، وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومقتضاه.. لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع!
9. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك، بوصفه أظلم الظلم وأقبحه، وفي القرآن: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.. وفي الصحيحين عن ابن مسعود: أنه قال قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله ندا وهو خلقك)
10. أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين؛ فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين، فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله، والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين، يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين، وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد، لها مناسبتها الحاضرة، فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه، وهذا هو مقام الاستشهاد، وفي هذا تكون الشهادة؛ ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء.
11. ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث، في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى، ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين، وستارا لقدرته في هلاك المكذبين: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾، والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز، التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير.. إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات، تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب.
12. كثيرا ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها، وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير! وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله سبحانه بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير: محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية.. ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص.. ثم إذا هو يكشف ـ على ضوء التجربة العملية، وفي مواجهة الأحداث الواقعية ـ أن في نفسه عقابيل لم تمحص، وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوي من الضغوط! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد، على مستوى الضغوط التي تقضيها طبيعة هذه الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة! والله سبحانه كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية، وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض، فمحصها هذا التمحيص، الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد، لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها، وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها.
13. ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق، وخلص من الشوائب بالتمحيص.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/481.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لا تحتاج هذه الآيات الكريمة إلى شرح أو بيان، لمن يعيش هذه المعركة بمشاعره، ويشارك فيها بوجدانه، ويزن فيها الأحداث بالميزان الذي أقامه الله بين عباده، وأجرى أمورهم عليه!
أ. فأولا: لقد اختلف أمر المسلمين في هذه المعركة.. قبل أن يخرجوا إليها.. وهذا الخلاف ـ أيّا كان ـ هو عامل ضعف، وداعية فتور ووهن، وكان من أولى وصايا الإسلام للمسلمين، أن يحذروا هذا الداء، وأن يجتنبوه في كل ما يأخذون وما يدعون من أمور: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾
ب. وثانيا: لم يقم أمر المسلمين جميعا في هذه المعركة على ما وصّاهم الله به، ولفتهم إليه، قبل أن يدخلوا المعركة، وذلك في قوله تعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾، فثبتت قلة وصبرت.. وتواكلت كثرة منهم، فانهزمت وولت
ج. وثالثا: أضاف كثير من المسلمين يومئذ معركة أحد إلى معركة بدر، وحسبوها بحسابها.. فما إن رأوا ريح النصر تهبّ عليهم، وتكاد تسلم أعداءهم لأيديهم، حتّى أعفوا أنفسهم من مئونة القتال، وتركوا المعركة للملائكة تتمها كما بدأتها! وذلك تقدير فيه كثير من البعد عن الطريق الذي أقامهم الله عليه في تلك المعركة، وهو أن يكسبوها بأيديهم، وبصبرهم وتقواهم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/601.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ نهي للمسلمين عن أسباب الفشل، والوهن: الضعف، وأصله ضعف الذات: كالجسم في قوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ [مريم: 4]، والحبل في قول زهير: (فأصبح الحبل منها خلقا) وهو هنا مجاز في خور العزيمة وضعف الإرادة وانقلاب الرجاء يأسا، والشّجاعة جبنا، واليقين شكّا، ولذلك نهوا عنه، وأمّا الحزن فهو شدّة الأسف البالغة حدّ الكآبة والانكسار، والوهن والحزن حالتان للنفس تنشئان عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتّب عليهما الاستسلام وترك المقاومة، فالنهي عن الوهن والحزن في الحقيقة نهي عن سببهما وهو الاعتقاد، كما ينهى عن النسيان، وكما ينهى أحد عن فعل غيره في نحو لا أرينّ فلانا في موضع كذا أي لا تتركه يحلّ فيه، ولذلك قدّم على هذا النّهي قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ [آل عمران: 137] إلخ.. وعقب بقوله: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
2. ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، الواو للعطف وهذه بشارة لهم بالنّصر المستقبل، فالعلوّ هنا علوّ مجازيّ وهو علوّ المنزلة، والتّعليق بالشرط في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ قصد به تهييج غيرتهم على الإيمان إذ قد علم الله أنّهم مؤمنون ولكنّهم لمّا لاح عليهم الوهن والحزن من الغلبة، كانوا بمنزلة من ضعف يقينه فقيل لهم: إن علمتم من أنفسكم الإيمان، وجيء بأنّ الشرطية الّتي من شأنها عدم تحقيق شرطها، إتماما لهذا المقصد.
3. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ تسلية عمّا أصاب المسلمين يوم أحد من الهزيمة بأن ذلك غير عجيب في الحرب، إذ لا يخلو جيش من أن يغلب في بعض مواقع الحرب، وقد سبق أنّ العدوّ غلب.
4. المسّ هنا الإصابة كقوله في سورة البقرة: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ والقرح ـ بفتح القاف في لغة قريش ـ الجرح، وبضمّها في لغة غيرهم، وقرأه الجمهور: بفتح القاف، وقرأه حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف: بضمّ القاف، وهو هنا مستعمل في غير حقيقته، بل هو استعارة للهزيمة الّتي أصابتهم، فإنّ الهزيمة تشبّه بالثلمة وبالانكسار، فشبّهت هنا بالقرح حين يصيب الجسد، ولا يصحّ أن يراد به الحقيقة لأنّ الجراح الّتي تصيب الجيش لا يعبأ بها إذا كان معها النصر، فلا شكّ أنّ التسلية وقعت عمّا أصابهم من الهزيمة، والقوم هم مشركو مكة ومن معهم.
5. المعنى إن هزمتم يوم أحد فقد هزم المشركون يوم بدر وكنتم كفافا، ولذلك أعقبه بقوله: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، والتّعبير عمّا أصاب المسلمين بصيغة المضارع في ﴿يَمْسَسْكُمْ﴾ لقربه من زمن الحال، وعمّا أصاب المشركين بصيغة الماضي لبعده لأنّه حصل يوم بدر.
6. قوله تعالى: ﴿فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ﴾ ليس هو جواب الشرط في المعنى، ولكنّه دليل عليه أغنى عنه على طريقة الإيجاز، والمعنى: إن يمسكم قرح فلا تحزنوا أو فلا تهنوا وهنا بالشكّ في وعد الله بنصر دينه إذ قد مسّ القوم قرح مثله فلم تكونوا مهزومين ولكنّكم كنتم كفافا، وذلك بالنّسبة لقلّة المؤمنين نصر مبين، وهذه المقابلة بما أصاب العدوّ يوم بدر تعيّن أن يكون الكلام تسلية وليس إعلاما بالعقوبة كما قاله جمع من المفسّرين، وقد سأل هرقل أبا سفيان: كيف كان قتالكم له قال: الحرب بيننا سجال ينال منّا وننال منه، فقال هرقل: وكذلك الرسل تبتلى وتكون لهم العاقبة)
7. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ الواو اعتراضية، والإشارة بتلك إلى ما سيذكر بعد، فالإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن لقصد الاهتمام بالخبر وهذا الخبر مكنّى به عن تعليل للجواب المحذوف المدلول عليه بجملة: ﴿فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾
8. ﴿الْأَيَّامِ﴾ يجوز أن تكون جمع يوم مراد به يوم الحرب، كقولهم: يوم بدر ويوم بعاث ويوم الشّعثمين، ومنه أيّام العرب، ويجوز أن يكون أطلق على الزّمان كقول طرفة: (وما تنقص الأيّام والدهر ينفد أي الأزمان)
9. المداولة: تصريفها غريب إذ هي مصدر داول فلان فلانا الشيء إذا جعله عنده دولة ودولة عند الآخر أي يدوله كلّ منهما أي يلزمه حتّى يشتهر به، ومنه دال يدول دولا اشتهر، لأنّ الملازمة تقتضي الشهرة بالشيء، فالتداول في الأصل تفاعل من دال، ويكون ذلك في الأشياء والكلام، يقال: كلام مداول، ثمّ استعملوا داولت الشيء مجازا، إذا جعلت غيرك يتداولونه، وقرينة هذا الاستعمال أن تقول: بينهم، فالفاعل في هذا الإطلاق لا حظّ له من الفعل، ولكن له الحظّ في الجعل، وقريب منه قولهم: اضطررته إلى كذا، أي جعلته مضطرّا مع أنّ أصل اضطرّ أنّه مطاوع ضرّه.
10. ﴿النَّاسِ﴾ البشر كلهم لأنّ هذا من السنن الكونية، فلا يختصّ بالقوم المتحدّث عنهم.
11. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ عطف على جملة ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، فمضمون هذه علّة ثانية لجواب الشرط المحذوف المدلول عليه بقوله: ﴿فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ وعلم الله بأنّهم مؤمنون متحقق من قبل أن يمسهم القرح.
12. إن كان المراد من ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هنا معنى الّذين آمنوا إيمانا راسخا كاملا فقد صار المعنى: أنّ علم الله برسوخ إيمانهم يحصل بعد مسّ القرح إيّاهم، وهو معنى غير مستقيم، فلذلك اختلف المفسّرون في المراد من هذا التّعليل على اختلاف مذاهبهم في صفة العلم:
أ. وقد تقرّر في أصول الدّين أن الفلاسفة قالوا: إنّ الله عالم بالكلّيات بأسرها، أي حقائق الأشياء على ما هي عليه، علما كالعلم المبحوث عنه في الفلسفة لأنّ ذلك العلم صفة كمال، وأنّه يعلم الجزئيات من الجواهر والأعراض علما بوجه كلّي، ومعنى ذلك أنّه يعلمها من حيث إنّها غير متعلّقة بزمان، مثاله: أن يعلم أنّ القمر جسم يوجد في وقت تكوينه، وأنّ صفته تكون كذا وكذا، وأنّ عوارضه النورانية المكتسبة من الشّمس والخسوف والسّير في أمد كذا، أمّا حصوله في زمانه عندما يقع تكوينه، وكذلك حصول عوارضه، فغير معلوم لله تعالى، قالوا: لأنّ الله لو علم الجزئيات عند حصولها في أزمنتها للزم تغيّر علمه فيقتضي ذلك تغيّر القديم، أو لزم جهل العالم، مثاله: أنّه إذا علم أنّ القمر سيخسف ساعة كذا علما أزليا، فإذا خسف بالفعل فلا يخلو إمّا أن يزول ذلك العلم فيلزم تغيّر العلم السابق فيلزم من ذلك تغيّر الذات الموصوفة به من صفة إلى صفة، وهذا يستلزم الحدوث إذ حدوث الصّفة يستلزم حدوث الموصوف، وإمّا أن لا يزول العلم الأول فينقلب العلم جهلا، لأنّ الله إنّما علم أنّ القمر سيخسف في المستقبل والقمر الآن قد خسف بالفعل، ولأجل هذا قالوا: إنّ علم الله تعالى غير زماني.
ب. وقال المسلمون كلّهم: إنّ الله يعلم الكلّيات والجزئيات قبل حصولها، وعند حصولها، وأجابوا عن شبهة الفلاسفة بأن العلم صفة من قبيل الإضافة أي نسبة بين العالم والمعلوم، والإضافات اعتباريات، والاعتباريات عدميات، أو هو من قبيل الصّفة ذات الإضافة: أي صفة وجودية لها تعلّق، أي نسبة بينها وبين معلومها، فإن كان العلم إضافة فتغيّرها لا يستلزم تغيّر موصوفها وهو العالم، ونظّروا ذلك بالقديم يوصف بأنّه قبل الحادث ومعه وبعده، من غير تغيّر في ذات القديم، وإن كان العلم صفة ذات إضافة أي ذات تعلّق، فالتغيّر يعتري تعلّقها ولا تتغيّر الصّفة فضلا عن تغيّر الموصوف، فعلم الله بأن القمر سيخسف، وعلمه بأنّه خاسف الآن، وعلمه بأنّه كان خاسفا بالأمس، علم واحد لا يتغيّر موصوفة، وإن تغيّرت الصّفة، أو تغيّر متعلّقها على الوجهين.
ج. إلّا أن سلف أهل السنّة والمعتزلة أبوا التّصريح بتغيّر التعلّق، ولذلك لم يقع في كلامهم ذكر تعلقين للعلم الإلهي أحدهما قديم والآخر حادث، كما ذكروا ذلك في الإرادة والقدرة، نظرا لكون صفة العلم لا تتجاوز غير ذات العالم تجاوزا محسوسا.
• فلذلك قال سلفهم: إنّ الله يعلم في الأزل أنّ القمر سيخسف في سنتنا هذه في بلد كذا ساعة كذا، فعند خسوف القمر كذلك علم الله أنّه خسف بذلك العلم الأوّل لأنّ ذلك العلم مجموع من كون الفعل لم يحصل في الأزل، ومن كونه يحصل في وقته فيما لا يزال، قالوا: ولا يقاس ذلك على علمنا حين نعلم أنّ القمر سيخسف بمقتضى الحساب ثمّ عند خسوفه نعلم أنّه تحقّق خسوفه بعلم جديد، لأنّ احتياجنا لعلم متجدّد إنّما هو لطريان الغفلة عن الأول.
• وقال بعض المعتزلة مثل جهم بن صفوان وهشام بن الحكم: إنّ الله عالم في الأزل بالكلّيات والحقائق، وأمّا علمه بالجزئيات والأشخاص والأحوال فحاصل بعد حدوثها لأنّ هذا العلم من التصديقات، ويلزمه عدم سبق العلم.
• وقال أبو الحسين البصري من المعتزلة، رادّا على السلف: لا يجوز أن يكون علم الله بأنّ القمر سيخسف عين علمه بعد ذلك بأنّه خسف لأمور ثلاثة: الأوّل التغاير بينهما في الحقيقة لأنّ حقيقة كونه سيقع غير حقيقة كونه وقع، فالعلم بأحدهما يغاير العلم بالآخر، لأنّ اختلاف المتعلّقين يستدعي اختلاف العالم بهما، الثّاني التغاير بينهما في الشرط فإنّ شرط العلم بكون الشيء سيقع هو عدم الوقوع، وشرط العلم بكونه وقع الوقوع، فلو كان العلمان شيئا واحدا لم يختلف شرطاهما، الثّالث أنّه يمكن العلم بأنّه وقع الجهل بأنّه سيقع وبالعكس وغير المعلوم غير المعلوم (هكذا عبّر أبو الحسين أي الأمر الغير المعلوم مغاير للمعلوم) ولذلك قال أبو الحسين بالتزام وقوع التّغير في علم الله تعالى بالمتغيّرات، وأنّ ذاته تعالى تقتضي اتّصافه بكونه عالما بالمعلومات الّتي ستقع، بشرط وقوعها، فيحدث العلم بأنّها وجدت عند وجودها، ويزول عند زوالها، ويحصل علم آخر، وهذا عين مذهب جهم وهشام، وردّ عليه بأنّه يلزم أن لا يكون الله تعالى في الأزل عالما بأحوال الحوادث، وهذا تجهيل، وأجاب عنه عبد الحكيم في (حاشية المواقف) بأنّ أبا الحسين ذهب إلى أنّه تعالى يعلم في الأزل أنّ الحادث سيقع على الوصف الفلاني، فلا جهل فيه، وأنّ عدم شهوده تعالى للحوادث قبل حدوثها ليس بجهل، إذ هي معدومة في الواقع، بل لو علمها تعالى شهوديا حين عدمها لكان ذلك العلم هو الجهل، لأنّ شهود المعدوم مخالف للواقع، فالعلم المتغيّر الحادث هو العلم الشهودي.
13. الحاصل أنّ ثمة علمين: أحدهما قديم وهو العلم المشروط بالشروط، والآخر حادث وهو المعلوم الحاصلة عند حصول الشروط وليست بصفة مستقلّة، وإنّما هي تعلّقات وإضافات، ولذلك جرى في كلام المتأخّرين، من علمائنا وعلماء المعتزلة، إطلاق إثبات تعلّق حادث لعلم الله تعالى بالحوادث، وقد ذكر ذلك الشّيخ عبد الحكيم في (الرسالة الخاقانية) الّتي جعلها لتحقيق علم الله تعالى غير منسوب لقائل، بل عبّر عنه بقيل، وقد رأيت التفتازانيّ جرى على ذلك في (حاشية الكشّاف) في هذه الآية فلعل الشّيخ عبد الحكيم نسي أن ينسبه.
14. تأويل الآية على اختلاف المذاهب:
أ. فأمّا الّذين أبو إطلاق الحدوث على تعلّق العلم فقالوا في قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أطلق العلم على لازمه وهو ثبوت المعلوم أي تميّزه على طريقة الكناية لأنّها كإثبات الشيء بالبرهان، وهذا كقول إياس بن قبيصة الطائي.
çوأقبلت والخطي يخطر بينا...لأعلم من جبانها من شجاعهاé
أي ليظهر الجبان والشّجاع فأطلق العلم وأريد ملزومه.
ب. ومنهم من جعل قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ﴾ تمثيلا أي فعل ذلك فعل من يريد أن يعلم وإليه مال في (الكشاف)
ج. ومنهم من قال: العلّة هي تعلّق علم الله بالحادث وهو تعلّق حادث، أي ليعلم الله الّذين آمنوا موجودين، قاله البيضاوي والتفتازانيّ في (حاشية الكشّاف)، وإن كان المراد من قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ظاهره أي ليعلم من اتّصف بالإيمان، تعيّن التأويل في هذه الآية لا لأجل لزوم حدوث علم الله تعالى، بل لأنّ علم الله بالمؤمنين من أهل أحد حاصل من قبل أن يمسّهم القرح، فقال الزجاج: أراد العلم الّذي يترتّب عليه الجزاء وهو ثباتهم على الإيمان، وعدم تزلزلهم في حال الشدّة، وأشار التفتازانيّ إلى أنّ تأويل الزمخشري ذلك بأنّه وارد مورد التمثيل، ناظر إلى كون العلم بالمؤمنين حاصلا من قبل، لا لأجل التحرّز عن لزوم حدوث العلم.
15. ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ عطف على العلّة السابقة، وجعل القتل في ذلك اليوم الّذي هو سبب اتّخاذ القتلى شهداء علّة من علل الهزيمة، لأنّ كثرة القتلى هي الّتي أوقعت الهزيمة، والشهداء هم الّذين قتلوا يوم أحد، وعبّر عن تقدير الشهادة لهم بالاتّخاذ لأنّ الشهادة فضيلة من الله، واقتراب من رضوانه، ولذلك قوبل بقوله: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ أي الكافرين فهو في جانب الكفّار، أي فقتلاكم في الجنّة، وقتلاهم في النّار، فهو كقوله: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [التوبة: 52]
16. التّمحيص: التنقية والتخليص من العيوب، والمحق: الإهلاك، وقد جعل الله تعالى مسّ القرح المؤمنين والكفار فاعلا فعلا واحدا: هو فضيلة في جانب المؤمنين، ورزيّة في جانب الكافرين، فجعله للمؤمنين تمحيصا وزيادة في تزكية أنفسهم، واعتبارا بمواعظ الله تعالى، وجعله للكافرين هلاكا، لأنّ ما أصابهم في بدر تناسوه، وما انتصروه في أحد يزيدهم ثقة بأنفسهم فيتواكلون؛ يظنون المسلمين قد ذهب بأسهم، على أنّ المؤمنين في ازدياد، فلا ينقصهم من قتل منهم، والكفّار في تناقض فمن ذهب منهم نفد، وكذلك شأن المواعظ والنذر والعبر قد تكسب بعض النّفوس كمالا وبعضها نقصا قال أبو الطيب:
çفحبّ الجبان العيش أورده التّقى...وحبّ الشجاع العيش أورده الحربا
ويختلف القصدان والفعل واحد...إلى أن نرى إحسان هذا لنا ذنباé
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/228.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ الوهن: ضعف النفس، وقد يؤدى إلى ضعف الجسم عن العمل، والحزن ألم نفسي يصيب الإنسان عند فقد ما يحب أو عدم إدراكه، أو عند نزول أمر يهم النفس، ويجعلها في هم دائم، ومعنى النهى عن الوهن والحزن ـ وهما أمران نفسيان ـ هو النهى عن الاسترسال في الألم مما أصابهم، والمغزى: لا تسترسلوا في الهم والألم مما كان يوم أحد، فإن ذلك يؤدى إلى ضعفكم عن القتال، فليس النهى منصبا على أصل الوهن والحزن، ولكنه منصب على سببهما الذي هو في قدرة المؤمن وهو الاسترسال في الوهن والحزن.
2. الآية الكريمة تضمنت ذلك النهى، وتضمنت بشارة وتسلية، كما تضمنت فوق ذلك بيان سبب النصر وهو صدق الإيمان، فأما النهى فقد بينا ما يتجه إليه:
أ. أما البشارة والتسلية، فهي قوله: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ فهي تسلية للنبي وأصحابه من حيث إن فيها بيانا لأنهم أعلى، ومعنى العلو أنهم قد كان لهم غلب أكثر مما كان للمشركين، فقتلى المشركين يوم بدر أكثر من قتلى المؤمنين يوم أحد، والمؤمنون في أحد ذاتها قد كانوا أعلى منزلة من الكفار؛ لأن قتلى المؤمنين في الجنة، وقتلى المشركين في النار؛ ولأن قتال المؤمنين في سبيل الحق، وقتال المشركين في سبيل الطاغوت، وأي علو للإنسان أكثر من أن يشعر بأنه يقاتل لنصرة الحق، ويغالب في سبيله، فإن الحق في ذاته عزة وعلو، وفوق ذلك في النص بشارة بأن العاقبة للمتقين، وهو العلو في الأرض كما قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص]
ب. وأما سبب النصر فهو صدق إيمان المؤمنين، فإن صدق الإيمان يصفى النفوس من أدرانها ويبعد عنها آثامها، ويجعل القصد هو إعلاء كلمة الحق، فيقدم المؤمن على القتال وهو يعلم أنه يفوز بإحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر، وكلتاهما غاية الطلب.
3. الآيات تساق لمقاصد سامية منها إلقاء البشرى، والتسلية والتعزية، فقد بيّن الله سبحانه أن ما أصاب المسلمين في أحد قد أصاب المشركين مثله، وفي ذكر ذلك دعوة إلى تجديد الجهاد بقلوب مستبشرة، ونفوس مطمئنة، فقال تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾
4. القرح بفتح القاف: الجرح، وبضمها: الألم الذي يترتب عليه، وقال الكسائي والأخفش: اللغتان بمعنى واحد وهو الجرح وأثره، وبهما قرئت الآية، ولقد جاء في المفردات للأصفهانى: (القرح الأثر من الجراحة من شيء يصيبه من الخارج، والقرح أثرها من الداخل، كالبثرة ونحوها)، فالقرح على هذا أثر الجراحات في الظاهر، وبالضم أثرها في الباطن وإذا كان القرح هنا معنويا، فيصح أن نقول: إنه بالفتح ما يعقب المعركة من ألم واضح للهزيمة، وهو بالضم الغم والحزن الذي يستولى على النفوس حتى يكون النصر من جديد، وإن الظاهر هنا أن الفتح أوضح؛ لأن الله عبر عن أثره بأنه مس فقال: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ والمس إنما يتناول الظاهر فقط.
5. القرح الذي أصاب المشركين هو يوم بدر، وما أصاب المسلمين هو يوم أحد، وقد قرر الزمخشري أنه يجوز أن يكون القرح الذي أصاب المشركين هو يوم أحد؛ لأن المشركين قتل منهم عدد، فكان فيهم مقتلة كما في المسلمين فقد قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾﴾ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران]، لكن الظاهر هو الأول، ليتحقق معنى قوله تعالى في بيان سننه إذ قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾
6. هذه هي الفائدة الأولى التي تستفاد مما أصاب المسلمين يوم أحد، وهذه الفائدة هي أن يروا سنة الله قائمة، فلا نصر يدوم، ولا هزيمة تدوم؛ لأنه لو دام النصر لكان الغرور، ومع الغرور الطغيان، ووراء ذلك الترف، وإذا أصاب الترف نفوس الشعوب ذهبت نخوتها وضؤلت قوتها، كما توقع أبو بكر للعرب عندما يتوالى انتصارهم: (والله لتألمن من النوم على الصوف الأذربى (أي صوف أذربيجان) كما يتألم أحدكم من النوم على حسك السعدان)
7. المداولة معناها تبادل النصر، وقد كان ذلك في أول الإسلام مرة واحدة لكيلا يأخذ الترف السابقين من المؤمنين، وفسر الزمخشري مداولة الأيام بتبادل النصر وقال: (المراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة، نداولها: نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء)، وأصل كلمة نداول من الدولة، وهو مصدر لدال يدول بمعنى انتقل من حال إلى حال، أو من يد إلى يد، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر]، أي يتداولون المال فيما بينهم، ولا يصل إلى أيدى الفقراء منه شيء.
8. المعنى الجملي: فعلنا ذلك إجراء لسنة من سنن الله التي خلت من قبلكم وهى مقررة في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا﴾ ولذا عطف عليه قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾
9. هاتان فائدتان أخريان لما أصاب المسلمين يوم أحد:
أ. فأولاهما ـ تحقق علم الله تعالى وإظهاره المؤمنين الثابتين، والذين ينافقون، فمعنى علم الله تعالى هو تحقق ما قدره في الأزل، فيعلمه الناس، ويعلمه الله تعالى واقعا حاضرا، ولقد ذكر الزمخشري في تفسير علم الله في هذا المقام أنه على وجهين:
• أحدهما أن يراد تمييز قوى الإيمان من ضعيف الإيمان فيتميز الخبيث من الطيب، ويكون هذا من قبيل التمثيل، أي فعل الله تعالى ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت، والوجه.
• الثاني: أن يكون علم الله الذي ثبت بالواقعة هو علم الجزاء أي يتحقق فيهم جزاء الله تعالى وفي الحق أن المؤدى في الأقوال كلها واحد وهو أن يظهر صادقو الإيمان وينكشف نفاق المنافقين، ويعلن بذلك للناس علم الله تعالى المكنون.
ب. والفائدة الأخرى في الآية هي اتخاذ شهداء ـ أي وقوع الشهادة في المؤمنين أي قتل المؤمنين الذين يشهد لهم بالجنة ويشهد لهم بالفداء، وإن هذه فائدة؛ لأن هؤلاء يكونون مثلا عليا في الفداء يقتدى بهم غيرهم، ويستهينون بالموت في سبيل إعلاء كلمة الحق، وخفض كلمة الباطل؛ ولأن هذا يجعل المجاهدين يعلمون أن الحرب مع نصر الله غير خالية من الشدائد والاستعداد لها، والإصابة فيها.
10. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ إذا كان من هؤلاء الذين تقدموا للقتال من كانوا من أهل الحق، ومنهم من كان من أهل الدنيا، وقد علم الله تعالى الفريقين، فإنه لا شك أن الذين لم يثبتوا على القتال وقد دخلوا، والمنافقين الذين ثبطوا الذين آمنوا حتى همت طائفتان منهم أن تفشلا ـ ظالمون، وإذا كانوا ظالمين، فمن نتائج المعركة أن يتميزوا وأن يعلموا أنهم ليسوا من أهل الله؛ لأنهم فقدوا محبته، وفي هذا النص إشارة إلى ظلم الذين اتبعوا الغنائم، وتركوا موضع الرماية وكشفوا ظهر المؤمنين إذ إن هذا كان سبب الهزيمة، والله لا يحب الظالمين، ولا يحب أفعالهم، ولذلك قدر الهزيمة مع هذا الفعل، فعلى القائد أن يختار جنده من الصفوة دون غيرهم، وبهذا يكون ذلك النص فائدة رابعة.
11. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ هاتان فائدتان:
أ. أولاهما تمحيص الذين آمنوا، والتمحيص هو التخليص، أي تخليص المؤمنين من ذنوبهم والمنافقين، وقد جاء في أساس البلاغة للزمخشري: (محص الشيء محصا، ومحصه تمحيصا خلصه من كل عيب، ومحص الذهب بالنار خلصه مما يشوبه)، والمعنى على هذا أن هذا القرح الذي أصاب المؤمنين خلصهم مما كان يشوب قلوبهم من أعراض الدنيا، وخلصهم ممن كانوا يخالطونهم من ضعاف الإيمان والمنافقين، إذ تبين خبثهم، فصاروا لا يجدون لقولهم سامعا، ولا لدعوتهم إلى التردد والهزيمة مجيبا.
ب. والفائدة الأخرى قررها الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ أي ينقصهم، إذ المحق معناه النقصان، ومنه المحاق لآخر الشهر؛ لأن الهلال يبلغ أقصى مدى النقصان فيختفى، والمعنى أن هذه الإصابة التي ترتب عليها تخليص المؤمنين من الشوائب يترتب عليها أن يختفى علم الكفر فلا يظهر، وتنقص قوتهم فلا ينتصرون من بعد؛ لأن العزائم قد تحفزت حذرة لمنازلتهم، فكانت الهزيمة سبيلا للنصر، وكان الجرح سبيلا لإعلاء كلمة الله تعالى.
12. هذه عبرة ساقها العزيز القدير لهزيمة المؤمنين يوم أحد، وقد نبه سبحانه إلى طريق الاستفادة من الهزيمة، بأن نخلص أنفسنا من شوائبها، ونمحص جماعتنا، فهل لنا أن نستفيد من ذلك!؟ إن الله تعالى يداول بين الناس وقد دالت علينا الأزمان بما فعلنا وبما ظلمنا أنفسنا وباستخذائنا وضعفنا، وقد بدت البشائر بأن الدولة أوشكت أن تعود إلينا، اللهم اجعلنا ننتفع بمواعظ القرآن، وهداية الرسول : ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة]
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1422.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾، من أهم ما يحرص عليه القائد الحكيم أن تكون الروح المعنوية في جنده قوية عالية، وان يدرأ عن أنفسهم الوهن والخوف، لأن الغلب لا يرجع إلى القوة فحسب، وإنما يرجع قبل كل شيء إلى الثبات وقوة العزيمة.. ان عدوك يخشى من عزمك وتصميمك على مقاومته أكثر من تسليحك بأفتك الأسلحة، لأن هذه لا تجدي نفعا، مع عدم العزم والتصميم على المقاومة، وقد رأينا صحف الاستعمار واذاعاته وعملاءه يبثون الدعاية له وللصهيونية عن طريق الحرب النفسية، وتفتيت عزيمة العرب، والتشكيك في مقدرتهم على المقاومة.. ان احتلال النفوس هو الركيزة الأولى للاستعباد، واحتلال البلاد، وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾
2. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إشارة إلى أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فمن تمكن الإسلام من قلبه لا يلين ولا يفزع، حتى ولو مات في سبيل دينه، وإعلاء كلمة الحق، وإنما يحسن اللين والتساهل من المسلم في حقه الخاص، لا فيما يعود إلى دينه وعقيدته.
3. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾، اي ان نال منكم العدو يوم أحد فقد نلتم منه يوم بدر، ومع ذلك لم يضعف، بل أعد العدة لكم، وأعاد الكرة عليكم، فليكن هذا شأنكم معه.
4. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، المراد بالأيام هنا القوة، وانها تارة تكون لهؤلاء، وتارة لأولئك.. وكانت القوة في العصور المتخلفة تتمثل في المال والرجال فقط، أما اليوم فتتمثل بالعلم، ونمو الصناعة وتطورها، فالبلد الجاهل ضعيف وان كان أغنى الأغنياء في الذهب الأسود والأصفر، والبلد العالم قوي، وان خلت أرضه من جميع المعادن، والضعيف خاضع وتابع للقوي أراد ذلك، أو لم يرد.. وقد كان العلم في الشرق عند المسلمين، ثم انتقل إلى الغرب، ومن الجائز القريب أن يتفوق المسلمون علما وصناعة في السنوات المقبلة.. من يدري؟
5. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، هذه الجملة معطوفة على محذوف، والتقدير وتلك الأيام نداولها بين الناس لحكمة اقتضت هذه المداولة، وليس المراد ان الله لم يكن عالما بالمؤمنين، فداول الأيام لكي يعلمهم، كلا، فان الله يعلم السر وأخفى، وإنما المراد اظهار علمه بالمؤمنين، ليعرفوا بين الناس، ويتميزوا عن غيرهم، قال صاحب مجمع البيان: ان أحدنا يعلم بإتيان الغد قبل مجيئه، فإذا أتى علم به حاضرا، وإذا انقضى علم به ماضيا، فالتغيير والحدوث يحصل في المعلوم، وهو الغد لا في العالم، وكذلك الحال بالنسبة إلى الله سبحانه، فإنه يعلم المؤمن والكافر قبل أن يظهرا للناس على حقيقتهما، فإذا ظهرا وتميزا علم بهما متميزين معروفين للناس.
6. ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾، الشهيد هو الذي يجود بنفسه للذود عن عقيدته، لأنه يرى الموت في سبيلها سعادة، والحياة مع الظالمين برما، كما قال سيد الشهداء الحسين بن علي عليه السلام، وقد ملئ القرآن بتعظيم الشهداء، من ذلك قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾
7. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، فلا يصطفي منهم أحدا للشهادة، ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ان الغرض من مداولة الأيام ان يستفيد الإنسان من التجارب، ويطهر نفسه من الشوائب، وقيل: المراد بالتمحيص الابتلاء والاختبار الذي يظهر الإنسان على حقيقته، ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾، قال الرازي: (الأقرب ان المراد بالكافرين هنا طائفة مخصوصة منهم، وهم الذين حاربوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، وانما قلنا ذلك لعلمنا بأنه تعالى لم يمحق كل الكفار، بل كثير منهم بقي على كفره)، وهذا صحيح ان كان المراد بالمحق العذاب الدنيوي، لا الاخروي.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/163.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات كما ترى تتمة للآيات السابقة المبتدئة بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، كما أن الآيات السابقة بأوامرها ونواهيها توطئة لهذه الآيات التي تشتمل على أصل المقصود من أمر ونهي وثناء وتوبيخ.
2. الوهن: هو الضعف في خلق أو خلق على ما ذكره الراغب، والمراد به هنا ضعفهم من حيث العزيمة والاهتمام على إقامة الدين وقتال أعدائه، والحزن خلاف الفرح وإنما يعرض الإنسان بفقده شيئا يملكه مما يحبه أو أمرا يقدر نفسه مالكة له.
3. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾، دلالة على أن سبب وهنهم وحزنهم ما شاهدوه من إصابة القرح إياهم، واستعلاء الكفار عليهم، فإن المشركين وإن لم ينالوا كل الغلبة والظفر على المؤمنين ولم تختتم الوقعة على الانهزام التام من المؤمنين لكن الذي أصاب المؤمنين كان أشد وأوجع وهو شهادة سبعين من سراتهم وشجعانهم، ووقوع ما وقع في عقر دارهم فكان هذا سبب وهنهم وحزنهم، ووقوع قوله: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ الآية موقع التعليل هو الوجه في كون هذين النهيين نهيا عن وهن وحزن واقعين لا مقدرين ولا متوقعين.
4. أطلق قوله: ﴿الْأَعْلَوْنَ﴾ من غير تقييد ولكن اشترط بالإيمان فمحصل المعنى: لا ينبغي لكم أن تهنوا في عزمكم، ولا أن تحزنوا لما فاتكم من الظفر على أعدائكم، والانتصار منهم إن كان فيكم الإيمان، فإن الإيمان أمر يستصحب علاءكم البتة إذ هو يلازم التقوى والصبر وفيهما ملاك الفتح والظفر، وأما القرح الذي أصابكم فلستم بمتفردين فيه بل القوم ـ وهم المشركون ـ قد أصابهم مثله فلم يسبقوكم في شيء حتى يوجب ذلك وهنكم وحزنكم.
5. اشتراط علوهم بالإيمان مع كون الخطاب للذين آمنوا إنما هو للإشارة إلى أن الجماعة وإن كانوا لا يفقدون الإيمان إلا أنهم غير عاملين بما يقتضيه من الصفات كالصبر والتقوى وإلا لأثر أثره، وهذا حال كل جماعة مختلفة الحال في الإيمان فيهم المؤمن حقا والضعيف إيمانا والمريض قلبا، ويكون مثل هذا الكلام تنشيطا لنفس مؤمنهم، وعظة لضعيفهم، وعتابا وتأنيبا لمريضهم.
6. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ القرح ـ بفتح القاف ـ الأثر من الجراحة من شيء يصيبه من خارج، والقرح ـ بالضم ـ أثرها من داخل كالبثرة ونحوها ـ قاله الراغب ـ وكأنه كناية عما أصابهم يوم أحد بفرض مجموع المسلمين شخصا واحدا أصابه جراحة من عدوه وهو قتل من قتل منهم، وجراحة من جرح منهم، وفوت النصر والفتح بعد ما أطلا عليهم.
7. هذه الجملة: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ﴾ الآية وما بعدها من الجمل المتسقة إلى قوله: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ في موضع التعليل كما مر لقوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾، كما أن قوله: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ تعليل آخر، والفرق بين النوعين من التعليل:
أ. أن الأول أعني قوله: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ الآية، تعليل من طريق التخطئة لظنهم، فإنهم إنما وهنوا وحزنوا لما ظنوا علاء المشركين عليهم فخطاهم الله بأن ملاك العلاء معكم إن كنتم مؤمنين لا مع المشركين، وقد قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾
ب. وأما الثاني فمن طريق بيان حال الفريقين ـ المؤمنين والمشركين ـ أو بيان الحكم والمصالح التي ترجع إلى أصل واحد وهو السنة الإلهية الجارية بمداولة الأيام بين الناس.
8. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ اليوم هو المقدار المعتد به من الزمان اللازم لحدوث الحوادث فيختلف باختلاف الحوادث، وقد شاع استعماله فيما بين طلوع الشمس وغروبها، وربما استعمل في الملك والسلطنة والقهر ونحوها بعلاقة الظرف والمظروف، فيقال يوم جماعة كذا ويوم آل فلان أي تقدمهم وحكومتهم على غيرهم، وقد يقال لنفس الزمان الذي وقع فيه ذلك، والمراد بالأيام في الآية هو هذا المعنى، والمداولة جعل الشيء يتناوله واحد بعد آخر، فالمعنى: أن السنة الإلهية جرت على مداولة الأيام بين الناس من غير أن توقف على قوم ويذب عنها قوم لمصالح عامة تتبع هذه السنة لا تحيط أفهامكم إلا ببعضها دون جميعها.
9. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾.. عطف على محذوف حذف للتلويح على أنه مما لا تحيط به الأفهام ولا تدركه العقول إلا من بعض جهاتها، والذي ينفع المؤمنين العلم به هو ما ذكره بقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾.. وبقوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾
10. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، المراد به ظهور إيمان المؤمنين بعد بطونه وخفائه، فإن علمه تعالى بالحوادث والأشياء في الخارج عين وجودها فيه فإن الأشياء معلومة له تعالى بنفس وجودها لا بصورة مأخوذة منها نظير علومنا وإدراكاتنا وهو ظاهر، ولازم ذلك أن يكون إرادته تعالى العلم بشيء هي إرادة تحققه وظهوره وحيث قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فأخذ وجودهم محققا أفاد ذلك إرادة ظهور إيمانهم، وإذا كان ذلك على سنة الأسباب والمسببات لم يكن بد من وقوع أمور توجب ظهور إيمان المؤمن بعد خفائه فافهم ذلك.
11. ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾، الشهداء شهداء الأعمال وأما الشهداء بمعنى المقتولين في معركة القتال فلا يعهد استعماله في القرآن، وإنما هو من الألفاظ المستحدثة الإسلامية، كما مر في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ﴾ على أن قوله: ﴿وَيَتَّخِذُ﴾، أيضا لا يلائم الشهداء بمعنى المقتولين في المعركة كثير ملاءمة، فلا يقال: اتخذ الله فلانا مقتولا في سبيله وشهيدا كما يقال: اتخذ الله إبراهيم خليلا، واتخذ الله موسى كليما، واتخذ الله النبي شهيدا يشهد على أمته يوم القيامة، وقد غير السياق فقال: ويتخذ منكم شهداء، ولم يقل: ويتخذهم شهداء لأن الشهادة وإن أضيفت إلى الأمة في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ إلا أنها من قبيل وصف البعض المضاف إلى الكل، والشهداء بعض الأمة دون كلهم، وقد مر بيان ذلك في سورة البقرة، ويمكن أن يتأيد هذا الذي ذكرناه بقوله بعده: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾
12. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ فالتمحيص هو تخليص الشيء من الشوائب الخارجة، والمحق إنفاد الشيء تدريجا وإزالته شيئا فشيئا، وهذا التمحيص من حكم مداولة الأيام ومصالحها، وهو غير العلم بالذين آمنوا الذي هو أيضا من حكم مداولة الأيام، فإن تمييز المؤمن من غير المؤمن أمر وتخليص إيمانه بعد التمييز من شوائب الكفر والنفاق والفسوق أمر آخر، ولذلك قوبل بالمحق للكافرين، فالله سبحانه يزيل أجزاء الكفر ونحوه من المؤمن شيئا فشيئا حتى لا يبقى إلا إيمانه، فيكون خالصا لله، ويبيد أجزاء الكفر والشرك والكيد من الكافر شيئا فشيئا حتى لا يبقى شيء.
13. هذه وجوه من الحكمة في مداولته تعالى الأيام بين الناس، وعدم استمرار الدولة بين قوم خاص، ولله الأمر كله يفعل ما يشاء، ولا يفعل إلا الأصلح الأنفع كما قال: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾، وقال الله تعالى قبيل هذه الآيات: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ فنفى أن يكون لنبيه من الأمر شيء، وقصر الأمر في نفسه يحكم في خلقه كيف يشاء.
14. هذا الكلام ـ أعني ما يبين أن الأيام مقسومة بين الناس لغرض الامتحان وتمييز المؤمن من الكافر وتمحيص المؤمنين ومحق الكافرين مع ما مر من نفي رجوع الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يكشف عن أن المؤمنين كان يظن أكثرهم أن كونهم على دين الحق سبب تام في غلبتهم أينما غزوا وظهورهم على الباطل كيفما كانوا، فهم يملكون الأمر لا يدفعون عن ذلك، وقد أجرأهم على هذا الحسبان ما شاهدوه يوم بدر من ظهورهم العجيب على عدوهم ونزول ملائكة النصر، وهذا ظن فاسد يوجب بطلان نظام الامتحان والتمحيص وفي ذلك بطلان مصلحة الأمر والنهي والثواب والعقاب، ويؤدي ذلك إلى انهدام أساس الدين فإنما الدين دين الفطرة غير مبني على خرق العادة الجارية والسنة الإلهية القائمة في الوجود بابتناء الغلبة والهزيمة على أسبابهما العادية.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/27.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ رجع الكلام إلى الجهاد وفصل بين الكلام الأول وهذا بزواجر ومواعظ مفيدة؛ لأن الجهاد يحتاج المجاهدون معه إلى الصلاح لينصروا، ولأن الفصل يهيئ السامع لسماع بقية الكلام وينشطه له لئلا يطول عليه الكلام في موضوع واحد.
2. ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ نهي عن الوَهَنِ، والوَهَن: ضد الصلابة، فالمعنى: اثبتوا واستمروا على صلابتكم ضد أعداء الله، بحيث لا تذهب صلابتكم عنهم ليجدوا فيكم غلظة وقسوة ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ لما أصابكم من الشدة في سبيل الله، لا تحزنوا على تعرضكم لذلك بالجهاد وطاعة الرسول ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أنتم الأعلون العزة والنصر لكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فإن شأن المؤمن أن لا يَهِن عن قتال أعداء الله ولا يحزن وأنه الأعلى المنصور؛ لأن حزب الله هم الغالبون.
3. ﴿قَرْحٌ﴾ جراح وهو كناية عما أصابهم ـ أعني المؤمنين ـ يوم أحد، فقد كان المسلمون في أول المعركة قتلوا منهم حتى ضعف الكفار وخُيِّل للمسلمين أن الكفار منهزمون، أو قد بدأوا في الهزيمة، فبدأ المسلمون في أخذ الغنائم، واختل نظامهم بإخلاء بعضهم مقاعدهم التي بوأهم إياها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عند استعدادهم للقتال فرجع الكفار على المسلمين من ورائهم فقتلوا منهم كثيراً، وجرحوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسقط في الأرض، وانهزم جمهور المسلمين، وكان من القتلى حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ، وفي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (القرح: الجراح والقتل)
4. قوله تعالى: ﴿فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ يحتمل: أنه أصابهم مثل ما أصاب المسلمين في المعركة نفسها لانتصارهم أول اليوم، وإن لم يظهر أثره فيهم إلا إشرافهم على الهزيمة، فلعل سبب ذلك كثرتهم لا قلة القتلى، فتفسير المثل بما وقع يوم بدر ضعيف.
5. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ قال في (الكشاف): (والمراد بالأيام: أوقات الظفر والغلبة ﴿نُدَاوِلُهَا﴾ نصرفها ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾ نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء)، وليس المراد بذلك إلا التمكين وما جعل لعبادة من القوة والاختيار بحيث يمكن أن يبلو بعضهم ببعض، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [محمد:4] فالنصر والعزة لأوليائه ما داموا متمسكين بأسباب النصر المعروفة، فإذا قصروا عنها جاز في الحكمة إدالة الكفار بما قد جعل لهم من القوة التي يستطيع المؤمنون دفعها لو تمسكوا بأسباب النصر، وفيها عقاب للكفار في الآخرة، وثواب للمؤمنين بما يقع لهم من الشهادة في سبيل الله والجراح، وألم القلوب والأبدان، ولو امتنع هذا في الحكمة ما جاز تمكين الكفار الأولين من قتل الأنبياء، فالمداولة لا مانع منها في الحكمة بهذا المعنى، وفيها فوائد يأتي ذكرها في الآيات الكريمة.
6. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي ابتلاكم بتمكين الكفار حتى يميز الخبيث من الطيب، فالمؤمنون يثبتون على إيمانهم في حال الشدة كما يثبتون في حال الرخاء، أما من لم يكن صادقاً في دعوى الإيمان فإنه يظهر على حقيقته عند الامتحان، فقوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ﴾ أي فعل ذلك فعل المختبر الذي يريد أن يعلم، وهو سبحانه عالم ما سيكون، ولكن الثواب والعقاب يتبع ما يقع من الإيمان والكفر أو النفاق أو الفسق والاختبار يقع ليترتب عليه حكم الله في عباده، وليس الحكم يتبع العلم أنه لو ابتلاهم لأطاعوا أو لعصوا.
7. ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ بما ينالون من فضل الجهاد في سبيل الله وسبقهم في ذلك لغيرهم حتى يستحقوا أن يجعلهم الله شهداء على الناس، ولعل هذا هو المراد في قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَاجْتَبَاكُمْ..﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [الحج:78]، وقد روى الطبري في (تاريخه) بإسناده عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه عن جده، قال: لما قتل علي أصحاب الألوية أبصر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جماعة من مشركي قريش، فقال لعلي: (أحمل عليهم) فحمل عليهم ففرق جمعهم، وقتل عمرو بن عبد الله الجمحي، قال: ثم أبصر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جماعة من مشركي قريش، فقال لعلي: (أحمل عليهم) فحمل عليهم ففرق جماعتهم، وقتل شيبة بن مالك ـ أحد بني عامر بن لؤي ـ فقال جبريل: (يا رسول الله إن هذه للمواساة) فقال رسول الله : (إنه مني وأنا منه) فقال جبريل: (وأنا منكما) قال فسمعوا صوتاً (لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي)
8. لعل الذين قتلوا في سبيل الله سيكونون يوم القيامة شهداء على أعداء الله بما شاهدوا ولأنصار دين الله بما شهدوه منهم ولعلهم سموا شهداء لذلك، فتفسير القرآن بالمعنى الأصلي المعبر عنه في القرآن أظهر، كقوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء:41] وقول عيسى عليه السلام: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة:117]
9. قوله تعالى: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ يدل على أنه لم يمكنهم في المعركة حبّا لهم وإنما تمكينهم فتنة لهم واختبار وعاقبته عذاب لهم وخسار.
10. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ قال الشرفي في (المصابيح): (وقال الخليل: المحص، الخلوص من الغش، ومحصت الذهب بالنار: أخلصته مما يشوبه)، وقال الناصر عليه السلام في (البساط) في (مسألة تعلق المجبرة بقول الله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ [البقرة:286] فقال عليه السلام: (وقد يمتحن الله المؤمن في بعض الأحوال بالشدائد والزلازل وعظيم البلاء، ليمحصهم من صغار ذنوبهم، وليختبر طاعتهم وصبرهم، نظراً منه لهم ـ جل ذكره ـ ﴿لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ فإذا صبروا ورضوا بامتحان الله إياهم وبلواه لهم زادهم ثواباً وكرامة، وضاعف لهم الحسنات، وأوجب لهم رفيع الدرجات)، وقال عليه السلام في (البساط) أيضاً في (مسألة للمجبرة في الخير والشر): (فهذه المصائب تكون في الدنيا تمحيصاً للمؤمنين ومحقاً للكافرين، وقال ـ تقدَّس ذكره ـ ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾، فالقرح الذي مس القوم محق لهم؛ لأنه عقوبة عاجلة، قال في (المصابيح): (وأصل المحق في اللغة فناء الشيء حالاً بعد حال وكذلك استعمل في النقصان) انتهى.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/541.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها، ومنها: قال راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله كئيبا حزينا يوم أحد، جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها مقتولين وهي تلدم، فقال رسول الله: أهكذا يفعل برسولك؟ فأنزل الله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ الآية، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال لما أبطأ على النساء الخبر، خرجن يستخبرن، فإذا رجلان مقتولان على دابة أو على بعير، فقالت امرأة من الأنصار: من هذان؟ قالوا: فلان وفلان، أخوها وزوجها، أو زوجها وابنها، فقالت: ما فعل رسول الله؟ قالوا: حيّ، قالت: فلا أبالي، يتخذ الله من عباده الشهداء، ونزل القرآن على ما قالت: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾
2. أشرنا في أكثر من ملاحظة حول أسباب النزول، أنها قد تكون اجتهادا من رواتها، كما أن الغالب منها غير نقيّ السند، وغير واضح الحجية، ولعل هذه الروايات من أمثال تلك، لأننا نتحفظ حول انفعال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو العارف بسنن الله في قضايا الهزيمة والنصر وحكمة الله في ابتلاء المؤمنين ومدى المصلحة في ذلك لمجرد سماعه امرأة تلدم، ليقول مناجيا ربّه أهكذا يفعل برسولك، وهكذا نلاحظ على نزول القرآن على ما قالت المرأة، والله العالم.
3. تعود السورة من جديد إلى معركة أحد في وقفة نقد وتقويم لمواقف المسلمين فيها، فقد أدّت الهزيمة في هذه المعركة إلى حالة شديدة في داخل الذات الإسلامية من الشعور بالوهن والضعف والحزن، في تساؤل نفسي عنيف، كيف حدث كل هذا، ولماذا؟.. ويواجه القرآن هذا كله بالرفض لهذه الحالة في موقف المؤمنين: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾، لأن الوهن والحزن يعبّران عن انسحاق داخلي أمام الهزيمة، في انطواء روحيّ يسقط معه الشعور بالكرامة والإحساس بالعزّة، إن الله يستثير في المؤمنين انطلاقة الإيمان ودلالاته في موقع المؤمن من الحياة، فهو الأعلى بالمقياس الحقيقي للأشياء، لأن ارتباطه بالله يشعره بالقوّة العليا، وانطلاقه من قاعدة الإيمان يوحي له بالفكرة العليا، وتحركه في خدمة الحياة يشدّه إلى الأعلى في أهداف الحركة.. وبذلك يتحوّل الإيمان إلى عنصر قوة يدفعه إلى الاستعلاء على كل عوامل الضعف والخوف والحزن ليدعوه إلى الإحساس بالقوّة والفرح الروحي بالألم والتضحية في طريق الجهاد.
4. لعل من الواضح، أن الآية الكريمة لا تريد أن توحي للمؤمنين بالموقع الأعلى في عمليّة استعلاء للذات على الآخرين لتصبّ في مجرى الأنانية الذاتية، بل كل ما تريده ـ في ما نستوحيه منها ـ هو الاستعلاء الروحي والرسالي على قوى الكفر والظلم والطغيان، وذلك من خلال ما تعطيه كلمة ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ من مفاهيم وأحاسيس وإيحاءات.
5. ثم تلتفت إليهم في أسلوب واقعي يريد للقضية أن تعيش في نطاق أسبابها الطبيعية التي أخضع الله لها كل ما في الظواهر الكونيّة والإنسانية، فإن قضيّة النصر والهزيمة في حياة الأفراد والجماعات لا ترتبط بالجانب الغيبيّ للحياة ليواجه الإنسان قضاياها من هذا الموقع، فيدفعه ذلك إلى الشكّ في منطلقات الإيمان وخطواته، بل ترتبط بالجانب الواقعي للأشياء؛ فإذا أخذ الناس بأسباب النصر فإنهم سينتصرون وإن كانوا كافرين، وإذا تركوها انهزموا وإن كانوا مؤمنين، لأن الله لا يريد أن يحارب بالنيابة عن المؤمنين، بل يريدهم أن يأخذوا بسننه، ويسيروا على حسب قوانينه، فينطلقوا إلى ساحات الصراع من موقف الوعي للساحات ومتطلباتها المادية والمعنوية.. ولا مانع من اقتضاء حكمة الله أن يتدخل في الحالات الصعبة التي تمثل فيها الهزيمة حالة انهيار للإسلام وللمسلمين ـ كما حدث ذلك في معركة بدر ـ ولكنّها حالات طارئة لا تصل إلى مستوى القاعدة العامّة الثابتة.
6. هكذا خاطب الله المسلمين بعد أن نهاهم عن الحزن والوهن ودعاهم إلى الشعور بالعلوّ في خط الإيمان، ووضعهم في واجهة الصورة؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ فإذا كان المسلمون قد انهزموا في المعركة في أحد وأصابهم القرح فقد أصاب الكافرين مثل ذلك في بدر، فليست الهزيمة حالة ثابتة للمهزومين في بعض المعارك، وليس النصر قانونا حتميا دائما في حياة المنتصرين في حالات النّصر؛ فقد ينتصر المهزوم في معركة جديدة، وقد ينهزم المنتصر، ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ فقد تكون القوّة لفريق من الناس في ما هيّأالله لهم من أسباب القوّة، وقد تتبدل الحال فتكون القوّة في الجانب الآخر والضعف في جانب الأقوياء، تلك هي سنّة الله في الأرض التي تدفع الحياة إلى خط التوازن، فلا ييأس المهزوم من النصر فيظل يلاحق التجربة الحيّة التي تقود إليه، ولا يطغى المنتصر بانتصاره ويستسلم لنتائجه، بل يبقى في هاجس الهزيمة المرتقبة فيحافظ ـ من خلال ذلك ـ على مواجهة المستقبل بروح متوازنة.. وفي ذلك كله تتجدد الحياة وتنمو وتتكامل فرصها وتتوازن حركاتها ويتحرّك خط الصراع في اتجاه سليم.
7. ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإن المواقف الصعبة التي يواجه فيها الناس الهزائم قد تزلزل النفوس وتدفع بعض المؤمنين إلى الريبة والشكّ والتراجع، وتزيد المؤمنين الآخرين ثباتا وقوّة وتحفزا وتصميما على مواجهة التحديات، وبذلك ينكشف الإيمان المزيّف من الإيمان الخالص الصحيح الثابت؛ فإن حالات الرخاء والأمن والدعة تجمع في داخلها كل النماذج الخيّرة والشرّيرة، لأن الجوّ لا يفرض عملية الفرز الاجتماعي الإيماني ما دامت الفرصة تحتوي الجميع وتستوعبهم من دون سلبيّات.
8. قد يوحي هذا التعبير بأن التجربة تستهدف علم الله بالمؤمنين، فهل يحتاج الله في علمه بالأشياء إلى وسيلة للعلم مما يحتاجه الإنسان في ذلك!؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فما معنى ذلك إذا!؟ الظاهر أن هذا أسلوب قرآني مميّز يستعمل الأفعال المنسوبة إلى الله بالطريقة التي تنسب إلى الإنسان من أجل التأكيد على ارتباط النتيجة بالمقدمات في طبيعة الأشياء؛ وإن اختلفت في طريقة نسبتها إلى الله الذي يعلم الأشياء قبل حصولها، ونسبتها إلى الإنسان الذي يحتاج إلى الوسيلة التي تؤدي إلى العلم.
9. وهذا أسلوب جرى عليه القرآن في طريقة المحاكاة في الموارد التي لا يحمل فيها الفعل طبيعة المعنى الذي أطلق عليه، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]؛ مع أن انتصار الإنسان لنفسه لا يعتبر اعتداء، ولكن المشاكلة لا تخلو من المناسبة التي تعطي الفكرة بتناسب الفعل مع ردّ الفعل، وعلى ضوء ذلك يكون المقصود: ليظهر الله الذين آمنوا من خلال التجربة، فالقضية قضيّة تعبيريّة فنيّة ولا صلة لها بالمضمون، فلا حاجة إلى ما ذكره صاحب مجمع البيان في تفسيره، قال: (وإذا كان الله تعالى يعلمهم قبل إظهارهم الإيمان، كما يعلمهم بعده، فإنما يعلم قبل الإظهار أنهم سيميزون، فإذا أظهروه علمهم متميزين، ويكون التّغيّر حاصلا في المعلوم لا في العالم، كما أنّ أحدنا يعلم الغد قبل مجيئه، على معنى أنه سيجيء، فإذا جاء علمه جائيا، وعلمه يوما لا غدا، فإذا انقضى فإنما يعلمه الأمس لا يوما ولا غدا، ويكون التغيّر واقعا في المعلوم لا في العالم)
10. ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ الظاهر أن المراد منه جمع الشاهد، لا جمع الشهيد ـ كما ذكره صاحب تفسير الكشاف ـ وقد تكرر في القرآن الحديث عن أن الله جعل هذه الأمة في موضع الشهادة على الناس: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]؛ أمّا علاقة ذلك بالمعركة ـ التجربة ـ الامتحان، فهي تعميق الإيمان وتصفيته وتنميته في نفس الإنسان المؤمن، مما يجعله في مستوى الشهادة التي تحتاج إلى عمق وصفاء وامتداد في الإيمان، وربما تنطلق التجربة الصعبة التي تتنوع فيها المشاكل وتتكرر فيها الحلول وتشتد فيها المعاناة، لتعمل ـ بأجمعها ـ على صنع الإنسان القيادي، والمؤمن الصلب الواعي المتحدّي الفاعل، لأن مسألة القيادة ليست مسألة متصلة بالجانب الفكري للإنسان، بل هي ـ إلى جانب ذلك ـ مسألة مرتبطة بالتجربة الحيّة التي تتحرك في وعي الإنسان في ساحة المعاناة ومواقع الصراع، وهذا واقع دور الشهادة الذي يطلّ بالإنسان على واقع الأمّة ليرصد كل حركتها الإيجابية أو السلبية في خط الاستقامة أو الانحراف من خلال وعيه الحركي للجانبين معا، ومعاناته في الإصرار على الموقف الحق في صراع الحق والباطل.
11. في ضوء هذا، قد نجد معنى الشاهد في الشهادة أقرب من معنى الشهيد، لا سيما أن الله قد حدثنا في القرآن في أكثر من آية عن الشهداء على الناس، من دون أن يتحدث عن الشهيد بهذا التعبير في آية واحدة، بل لم يعهد استعماله في القرآن، وإنما هو من الألفاظ المستحدثة الإسلامية ـ كما يقول صاحب الميزان ـ مع ملاحظة أخرى، وهي أن كلمة ﴿وَيَتَّخِذُ﴾ لا تتناسب مع الشهداء بمعنى قتلى المعركة، فقد لا يكون من المألوف أن يقال اتخذ الله فلانا مقتولا في سبيله أو شهيدا كما يقال: اتخذ الله إبراهيم خليلا، أو اتخذ الله موسى كليما، ومحمدا شهيدا يشهد على أمّته يوم القيامة، لأن التعبير ـ على الظاهر ـ يناسب المعنى الذي يمنح صاحبه خصوصية له كالخليل والكليم والحبيب، وهذا لا ينسجم مع المعنى المذكور، والله العالم.
12. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ الذي ظلموا أنفسهم بالانحراف عن الحق والتراجع عن الطريق السويّ، ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ويختبرهم بما يبتليهم به، ويقودهم إلى المواقف السليمة الثابتة، وذلك من خلال أن الابتلاء المنفتح على التجربة المتنوعة الأبعاد المتعددة الجوانب، يمنح الإنسان المؤمن وعيا جديدا صافيا بحيث تتغير نظرته إلى الأشياء وفهمه للأمور لمصلحة تغيير الذهنية العامة، والسلوك الأخلاقي، والقيمة العملية، فتتحول نقاط الضعف إلى قوة، والجوانب السلبية إلى جوانب إيجابية، فتزول كل الشوائب التي تبتعد بالإنسان عن صفاء الحق ونقاء الحقيقة.
13. ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ وذلك بتوجيه الضربات المتتالية إليهم، وتتابع الفرص أمام المؤمنين في الاندفاع مرّة بعد أخرى، وذلك من دون فرق بين المحق الفردي والجماعي تبعا للأسباب الحادثة في الواقع الذي يعيشه الكافرون، حتى يستقيم الأمر للخط الصحيح في نهاية المطاف.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/280.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة، ولكن يستفاد من مجموعها أن هذه الآيات تتبع الآيات السابقة التي كانت تدور حول غزوة (أحد)
2. تعتبر هذه الآيات تحليلا ودراسة لنتائج غزوة (أحد) وأسبابها لكونها تمثل دروسا كبيرة للمسلمين، وهي في نفس الوقت تسلية للمؤمنين وتقوية لقلوبهم وتثبيت لأفئدتهم، لأن هذه الغزوة ـ كما أسلفنا ـ انتهت بسبب تجاهل بعض الرماة لأوامر النبي المشدّدة بالبقاء في الثغرة، بنكسة المسلمين، واستشهاد ثلة كبيرة من أعيانهم وأبطال الإسلام البارزين، ومن جملتهم (حمزة) عم النبي ، فقد حضر النبي مع جماعة من أصحابه في تلك الليلة، عند القتلى، وجلس عند كلّ واحد من الشهداء كرامة له وبكى عنده واستغفر له، ثمّ دفن جميع الشهداء عند (أحد) في جو من الحزن العميق، فكان المسلمون بحاجة ـ في هذه اللحظات ـ إلى ما يمسح عنهم كآبة العزيمة ومرارة الانكسار، ويقوي قلوبهم ويفيدهم درسا في نفس الوقت من نتائج النكسة وعبرها ـ فنزلت الآيات المذكورة هنا.
3. في الآية الأولى من هذه الآيات حذر المسلمون من أن يعتريهم اليأس والفتور بسبب النكسة في معركة واحدة، وأن يتملكهم الحزن وييأسوا من النصر النهائي، قال سبحانه: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، أجل، لا يحسن بهم أن يشعروا بالوهن أو يتملكهم الحزن لما حدث، فالرجال الواعون هم الذين يستفيدون الدروس من الهزائم كما يستفيدونها من الانتصارات وهم الذين يتعرفون في ضوء النكسات على نقاط الضعف في أنفسهم أو مخططاتهم، ويقفون على مصدر الخطأ والهزيمة، ويسعون لتحقيق النصر النهائي بالقضاء على تلك الثغرات والنواقص والوهن المذكور في الآية، هو ـ كما في اللغة ـ كلّ ضعف يصيب الجسم أو الروح أو يصيب الإرادة والإيمان.
4. عبارة ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ عبارة غنية بالمعاني حرية بالنظر والتأمل، إذ هي تعني أن هزيمتكم إنما كانت بسبب فقدانكم لروح الإيمان وآثارها، فلو أنكم لم تتجاهلوا أوامر الله سبحانه لم يصبكم ما أصابكم، ولم يلحقكم ما لحقكم، ولكن لا تحزنوا مع ذلك، فإنكم إذا ثبتم على طريق الإيمان كان النصر النهائي حليفكم، والهزيمة في معركة واحدة لا تعني الهزيمة النهائية.
5. ثمّ إنه سبحانه يقول: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ وبذلك يعطي للمسلمين درسا آخر للوصول إلى النصر النهائي، و(القرح) جرح يصيب البدن بسبب اصطدامه بشيء خارجي، فيكون معنى الآية أن عزيمتكم لا ينبغي أن تكون أقل من عزيمة الأعداء، فهم رغم ما لحقهم من خسائر فادحة في الأرواح والأموال ـ في بدر ـ حيث قتل منهم سبعون، وجرح وأسر كثير، فإنهم لم يقعدوا عن منابذتكم ومقاتلتكم، ولم يصرفهم ذلك عن الخروج إلى محاربتكم، بل تلافوا في هذه المعركة ما فاتهم، وتداركوا هزيمتهم، فإذا أصبتم في هذه المعركة بهزيمة شديدة فإن عليكم أن لا تقعدوا حتّى تتلافوا ما فاتكم ف ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾، فلما ذا الوهن ولماذا الحزن إذن؟
6. ذهب بعض المفسّرين إلى أن الآية تشير إلى الجراح التي لحقت بالكفّار في أحد، ولكن هذا لا يستقيم لأن الجراح التي لحقت بالكفّار في أحد لم تكن مثل الجراح التي لحقت بالمسلمين، هذا أولا، وكذلك لا يتناسب مع الجملة اللاحقة التي سيأتي تفسيرها فيما بعد ثانيا، ألا وهي قوله سبحانه: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾، ففي هذا القسم يشير سبحانه إلى واحدة من السنن الإلهية وهي أنه قد تحدث في حياة البشر حوادث حلوة أو مرّة ولكنها غير باقية ولا ثابتة مطلقا، فالانتصارات والهزائم، والغالبية والمغلوبية، والقوّة والضعف كلّ ذلك يتغير ويتحول، وكلّ ذلك يزول ويتبدل، فلا ثبات ولا دوام لشيء منها، فيجب أن لا يتصور أحد أن الهزيمة في معركة واحدة وما يتبعها من الآثار امور دائمة ثابتة باقية، بل لا بدّ من الانتفاع بسنة التحول، وذلك بتقييم أسباب الهزيمة وعواملها وتلافيها، وتحويل الهزيمة إلى انتصار، فالحياة صعود ونزول، وأحداثها في تحول مستمر، وتبدل دائم ولا ثبات لشيء من أوضاعها وأحوالها، ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ﴾ ﴿نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ لتتضح سنة التكامل من خلال ذلك.
7. ثمّ إنه سبحانه يشير إلى نتيجة هذه الحوادث المؤلمة فيقول: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي أن ذلك إنما هو لأجل أن يتميز المؤمنون حقّا عن أدعياء الإيمان، وبعبارة أخرى: إذا لم تحدث الحوادث المؤلمة في حياة أمة من الأمم وتاريخها لم تتميز الصفوف ولم يتبين الخبيث والطيب، لأن الانتصارات وحدها تخدع وتغري، وتصيب المنتصرين بالغفلة بينما تشكل الهزائم عامل يقظة للمستعدين المتهيئين، وتوجب ظهور القيم، وتعرف بها حقائق الرجال.
8. ثمّ إنه في قوله: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ يشير إلى إحدى نتائج هذه الهزيمة المؤلمة، بأن هذه النتيجة كانت هي تقديمكم بعض الشهداء في هذه المعركة، فيجب أن تعلموا أن هذا الدين لم يصل إليكم بالهيّن، فلا يفلت منكم كذلك في المستقبل، إن الأمة التي لا تضحي في سبيل أهدافها المقدسة لا تعير تلك الأهداف أهميتها، ولا تعطيها قيمتها اللائقة، أما إذا ضحت في سبيل أهدافها فإنها هي وأجيالها القادمة كذلك ستعطي لتلك الأهداف الأهمية والقيمة اللازمة وستنظر إليها بعين الاحترام والإكبار.
9. يمكن أن يكون المراد من (الشهداء) هنا هم الذين يشهدون، فيكون معنى قوله: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ أي أن يتخذ منكم بوقوع هذه الحادثة في حياتكم ـ شهودا ـ لتعرفوا كيف أن عدم الانضباط وعدم التقييد بالأوامر يؤدي إلى الهزيمة، وينتهي إلى النكسة المؤلمة، وإن هؤلاء الشهود سيعلمون الأجيال اللاحقة دروس الانتصار والهزيمة حتّى لا يكرروا الأخطاء، ولا تقع حوادث مشابهة.
10. ثمّ إنه تعالى يختم هذا الاستعراض للسنن والدروس والنتائج بقوله: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ فهو لا ينصرهم ولا يدافع عنهم، ولا يمكّنهم من المؤمنين الصالحين العاملين بتعاليم السماء الآخذين بسنن الله في الكون والحياة.
11. أجل، إن لمعركة (أحد) وما لحق بالمسلمين فيها من هزيمة نتائج وآثارا، ومن نتائجها وآثارها الطبيعية أنها كشفت عن نقاط الضعف في الجماعة والثغرات الموجودة في كيانها، وهي وسيلة فعالة ومفيدة لغسل تلك العيوب والتخلّص من تلك النواقص والثغرات، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي أن الله أراد ـ في هذه الواقعة ـ أن يتخلص المؤمنون من العيوب ويريهم ما هم مبتلون به من نقاط الضعف، إذ يجب لتحقيق الانتصارات في المستقبل أن يمتحنوا في بوتقة الاختبار، ويزنوا فيها أنفسهم كما قال الإمام علي عليه السّلام: (في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال)، ولهذا قد يكون لبعض الهزائم والنكسات من الأثر في صياغة المجتمعات الإنسانية وتربيتها ما يفوق أثر الانتصارات الظاهرية.
12. الجدير بالذكر أن مؤلف تفسير المنار نقل عن استاذه مفتي مصر الأكبر الشيخ محمد عبده أنه رأى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام فقال له: (رأيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة الخميس الماضية (غرة ذي القعدة سنة 1320) في الرؤيا منصرفا مع أصحابه من أحد وهو يقول: (لو خيّرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة) أي لما في الهزيمة من التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالاحتياط ولا يغتروا بشيء يشغلهم عن الاستعداد وتسديد النظر.
13. نتيجة هذه التربية والصياغة التي يتلقاها المؤمنون في خضم المحن والمصائب واتون الحوادث المرة فهو حصول القدرة الكافية لدحر الشرك والكفر دحرا ساحقا وكاملا، وإلى هذا أشار بقوله: ﴿وَيَمْحَقَ﴾ ﴿الْكَافِرِينَ﴾، فإن المؤمنين بعد أن تخلصوا ـ في دوامة الحوادث ـ من الشوائب يحصلون على القدرة الكافية للقضاء التدريجي على الشرك والكفر، وتطهير مجتمعهم من هذه الأقذار والشوائب، وهذا يعني أنه لا بدّ أولا من تطهير النفس ثمّ تطهير الغير.
14. في الحقيقة كما أن القمر ـ مع ما هو عليه من النور والبهاء الخاصين به ـ يفقد نوره شيئا فشيئا أمام وهج الشمس وبياض النهار حتّى يغيب في ظلمة المحاق فلا يعود يرى إلّا عندما تنسحب الشمس من الأفق، كذلك يأفل نجم الشرك وأهله وتتضاءل قوة الكفر وأشياعه كلّما ازداد صفاء المسلمين المؤمنين، وخلصوا من رواسب الضعف والاعوجاج والانحراف، فهناك علاقة متقابلة بين تمحيص المؤمنين وارتقائهم في مدارج الخلوص والطهر، ومراتب الصفاء والتقوى، وبين انزياح الكفر والشرك واندثار معالمها وآثارهما عن ساحة الحياة الاجتماعية، هذه هي الحقيقة الكبرى والخالدة التي يلخصها القرآن في هاتين الجملتين اللتين تشكل الأولى منها المقدمة والثانية النتيجة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/709.
72. الجنة والمجاهدون والصابرون
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈72⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142 ـ 143]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: إن الله عز وجل دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، وتشفي بكم على الخير: الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله، وجعل ثوابه مغفرة للذنب ومساكن طيبة في جنات عدن(1).
__________
(1) الكافي: 5/39.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: والله لا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى تميزوا وتمحصوا، ثم يذهب من كل عشرة شيء، ولا يبقى منكم إلا الأندر، ثم تلا هذه الآية: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾(1).
__________
(1) قرب الإسناد: 162.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: والله لتمحصن، والله لتميزن، والله لتغربلن حتى لا يبقى منكم إلا الأندر، قيل: وما الأندر؟ قال: البيدر، وهو أن يدخل الرجل بيته الطعام يطيّن عليه، ثم يخرجه قد أكل بعضه بعضا، فلا يزال ينقيه، ثم يكن عليه، ثم يخرجه، حتى يفعل ذلك ثلاث مرات، حتى يبقى ما لا يضره شيء(1).
2. روي أنّه قال: عن قول الله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾، فقال: (إن الله هو أعلم بما هو مكونه قبل أن يكونه، وهم ذر، وعلم من يجاهد ممن لا يجاهد، كما علم أنه يميت خلقه قبل أن يميتهم، ولم يرهم موتهم وهم أحياء(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/199.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم بين للمؤمنين أنه نازل بهم الشدة والبلاء في ذات الله تعالى، فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ يعني: أحسبتم معشر المؤمنين: ﴿أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ﴾ يعني: ولما يرى الله: ﴿الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ في سبيل الله: ﴿و﴾ لما ﴿يَعْلَمُ﴾ يعني: يرى ﴿الصَّابِرِينَ﴾ عند البلاء، ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾، أي يقول: إذا جاهدوا وصبروا رأى ذلك منهم، وإذا لم يفعلوا لم ير ذلك منهم(1).
2. روي أنّه قال: وذلك أن المنافقين قالوا للمؤمنين يوم أحد بعد الهزيمة: لم تقتلون أنفسكم، وتهلكون أموالكم!؟ فإن محمدا لو كان نبيا لم يسلط عليه القتل! قال المؤمنون: بلى، من قتل منا دخل الجنة، فقال المنافقون: لم تمنون أنفسكم الباطل؟ فأنزل الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ الآية(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٤.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ وتصيبوا من ثوابي الكرامة ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ ولم أختبركم بالشدة وأبتليكم بالمكاره حتى أعلم صدق ذلك منكم؛ الإيمان بي، والصبر على ما أصابكم في(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٩٢.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ قيل: بل حسبتم أن تدخلوا الجنة.
2. قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. قيل: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ﴾ أي: ولم يعلم الله الذين جاهدوا منكم؛ أي: لم يجاهدوا.
ب. وقيل: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ و(لما) بمعنى: (إلا يعلم)، بمعنى: لا تدخلون الجنة إلا أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم؛ وهو كقوله عزّ وجل: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: 4]: من قرأ بالتشديد؛ فكان معناه: (إلا عليها حافظ)، ومن قرأ بالتخفيف؛ فمعناه: لعليها حافظ، و(ما) صلة.
3. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ أي: ظننتم ذلك، ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ وقال في موضع آخر: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ [آل عمران: 165]، بمعنى: ولم تجاهدوا، ولم يصبكم مثل الذي ذكر؛ ففي ذلك وعد أن يصيب أولئك الذين خاطبهم به ما أصاب من تقدمهم، وأن الله قد يعلم أنهم يجاهدون قبل الموت؛ وعلى هذا قال قوم في تأويل قوله عزّ وجل: ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: 23] ـ: أن يدخلوا الجنة إذا أصابهم مثل الذي أصاب من تقدمهم فيكون تأويل ﴿وَلَمَّا﴾ ولم، والألف صلة، وقيل: يحتمل بالتشديد منه: إلا؛ كما قيل في تأويل قوله عزّ وجل: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ بالتشديد: (إلا عليها حافظ)؛ فيكون بمعنى الإضمار: لا تدخلوا إلا أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم، وقد بيّنا ما في العلم في الحرف الأوّل على أنه له وجهان ـ أيضا ـ:
أ. أحدهما: أن الله لم يعلم بذلك، وهو العالم بكل شيء فلو كان: لكان يعلمه.
ب. الثاني: أن يعلموا أن يكونوا لم يجاهدوا بعد، وسيجاهدون على ما بيّنا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/497.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ الحسن ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ بكسر الميم، الباقون بفتحها، ووجه قراءة الحسن أنه عطف على، ولما يعلم الله كأنه قال: ولما يعلم الله ويعلم الصابرين.
2. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ معناه: أحسبتم ﴿أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ وقيل معنى (أم) معنى بل على جهة الإنكار، لأن يحسبوا ذلك الحسبان، كما يقال: قد صممت على الخلاف أم تتوهم الإهمال.
3. الفرق بين (لم) و(لما) أن لما جواب، لقول القائل: قد فعل فلان يريد به الحال، فجوابه (لما فعل) وإذا قال فعل فجوابه (لم يفعل)، فلما كانت (لما) مؤكدة بحرف كانت جواباً لما هو مؤكد بحرف، وأيضاً، فإنه يجوز الوقف على (لما) في مثل أن يقول القائل: قد جاء فلان، فيجيبه آخر فيقول: لما، أي لما يجيء ولا يجوز ذلك في (لم)
4. معنى ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ أي لما يعلم الله جهادكم يعني أنهم لا يدخلون الجنة إلا بفعل الجهاد، لأنه من أعظم أركان الشرع.
5. ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ نصب على الصرف عن العطف إذ ليس المعنى على نفي الثاني، والاول، وإنما هو على نفي اجتماع الثاني والاول، نحو قولهم: لا يسعني شيء ويعجز عنك، وقال الشاعر:
çلا تنه عن خلق وتأتي مثله...عار عليك إذا فعلت عظيمé
6. انما جاز ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ على معنى نفي الجهاد دون العلم، لما فيه من الإيجاز في انتفاء الجهاد، لأنه لو كان لعلمه، وتقديره ولما يكن المعلوم من الجهاد الذي أوجب عليكم، لأن المعنى مفهوم لا يشتبه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/5.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما حث الله على الجهاد، ورغب فيه، زاد في البيان والإخبار بأن الجنة لا تنال إلا بالبلوى والاختبار، فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ المراد به الانكار أي: أظننتم أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة.
2. ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ أي: ولما يجاهد المجاهدون منكم، فيعلم الله جهادهم، ويصبر الصابرون منكم فيعلم صبرهم على القتال.
3. وإنما جاز ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ على معنى نفي الجهاد، دون العلم، لما في ذلك من الإيجاز في انتفاء جهادهم، لأنه لو كان لعلمه، وتقديره: ولما لم يكن المعلوم من الجهاد الذي أوجب عليكم، لأن المعنى مفهوم لا يشتبه.
4. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿أَم﴾ في قوله ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾: هي المنقطعة، وتقديره: بل أحسبتم، وهو استفهام على وجه الانكار، والفرق بين لم ولما أن ﴿لَمًّا﴾ جواب لقول القائل: قد فعل فلان يريد به الحال، وإذا قال: فعل فجوابه: لم يفعل، لما كان أصلها لم مؤكدة بحرف كانت جوابا لما هو مؤكد بحرف.
ب. ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾: نصب على الصرف عن العطف، إذ ليس المعنى على نفي الثاني والأول، وإنما هو على نفي اجتماع الثاني والأول، وتقديره: وأن يعلم فيكون منصوبا بإضمار أن، والمعنى: ولما يقع العلم بالجهاد والعلم بصبر الصابرين، وروي عن الحسن أنه قرأ: ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ بالكسر، عطفا على الأول.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/846.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بين الله تعالى في الآية الأولى الوجوه التي هي الموجبات والمؤثرات في مداولة الأيام ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصلي لذلك، فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ بدون تحمل المشاق.
2. ﴿أَمْ﴾: منقطعة، وتفسير كونها منقطعة تقدم في سورة البقرة، قال أبو مسلم: في ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت، وتلخيصه: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد، وهو كقوله: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 1، 2] وافتتح الكلام بذكر ﴿أَم﴾ التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما لا بعينه، يقولون: أزيداً ضربت أم عمراً، مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما، قال وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً، فلما قال: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ [آل عمران: 139] كأنه قال أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر.
3. إنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها، وبين وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا، فلما كان كذلك، فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة.
4. ﴿لَمًّا﴾ قال الزجاج: إذا قيل فعل فلان، فجوابه أنه لم يفعل، وإذا قيل قد فعل فلان، فجوابه لما يفعل، لأنه لما أكد في جانب الثبوت بقد، لا جرم أكد في جانب النفي بكلمة ﴿لَمًّا﴾، وظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم، والمراد وقوعه على نفي المعلوم، والتقدير: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يصدر الجهاد عنكم، وتقريره أن العلم متعلق بالمعلوم، كما هو عليه، فلما حصلت هذه المطابقة لا جرم، حسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر، وتمام الكلام فيه قد تقدم.
5. ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ قرأ الحسن ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ بالجزم عطفاً على ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ﴾ وأما النصب فبإضمار أن، وهذه الواو تسمى واو الصرف، كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، أي لا تجمع بينهما، وكذا هاهنا المراد أن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان، وقرأ أبو عمرو ﴿وَيَعْلَمُ﴾ بالرفع على تقدير أن الواو للحال، كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.
6. حاصل الكلام:
أ. أن حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة، فبقدر ما يزداد أحدهما ينتقص الآخر، وذلك لأن سعادة الدنيا لا تحصل إلا باشتغال القلب بطلب الدنيا، والسعادة في الآخرة لا تحصل إلا بفراغ القلب من كل ما سوى الله وامتلائه من حب الله، وهذان الأمران مما لا يجتمعان، فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد في هذه الآية من اجتماعهما.
ب. وأيضاً حب الله وحب الآخرة لا يتم بالدعوى، فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا، ولكن الفصل فيه تسليط المكروهات والمحبوبات، فإن الحب هو الذي لا ينقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء، فإن بقي الحب عند تسليط أسباب البلاء ظهر أن ذلك الحب كان حقيقياً، فلهذه الحكمة قال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة والله أعلم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/376.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَمِ﴾ بمعنى بل، وقيل: الميم زائدة، والمعنى أحسبتم يأمن انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة كما دخل الذين قتلوا وصبروا على ألم الجراح والقتل من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم لا، حتى ﴿يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ أي علم شهادة حتى يقع عليه الجزاء، والمعنى: ولم تجاهدوا فيعلم ذلك منكم، فلما بمعنى لم.
2. فرق سيبويه بين ﴿لَمْ﴾ و﴿لَمًّا﴾ فزعم أن ﴿لَمْ يَفْعَلْ﴾ نفي فعل، وأن ﴿لَمْ يَفْعَلْ﴾، نفي قد فعل، ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ منصوب بإضمار أن، عن الخليل، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر (يعلم الصابرين) بالجزم على النسق، وقرى بالرفع على القطع، أي وهو يعلم، وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو، وقال الزجاج: الواو هنا بمعنى حتى، أي ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم حتى يعلم صبرهم كما تقدم آنفا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/221.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ كلام مستأنف لبيان ما ذكر من التمييز، وأم هي المنقطعة، والهمزة للإنكار، أي: بل أحسبتم.
2. الواو في قوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ﴾ واو الحال، والجملة حالية، وفيه تمثيل كالأوّل، أو علم يقع عليه الجزاء، ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ منصوب بإضمار أن، كما قال الخليل وغيره على أن الواو للجمع، وقال الزجاج: الواو بمعنى: حتى، وقرأ الحسن، ويحيى بن يعمر: (ويعلم الصّابرين) بالجزم، عطفا على: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ وقرئ بالرفع، على القطع؛ وقيل: إن قوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ كناية عن نفي المعلوم، وهو الجهاد، والمعنى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر، أي: الجمع بينهما، ومعنى: ﴿لَمًّا﴾ معنى: (لم) عند الجمهور، وفرّق سيبويه بينهما فجعل لم: لنفي الماضي، ولما: لنفي الماضي والمتوقع.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/442.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَمْ حَسِبْتُم﴾ بل أظننتم؟ أو بل ظننتم، أو أظننتم؟ والخطاب لمن انهزم من المؤمنين يوم أحد، ﴿أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ إنكارٌ للياقة أَن يدخل المنهزمون يوم أحد من المسلمين الجنَّة، والحال أنَّهم لم يجمعوا بين الجهاد والصبر على شدائده، فيعلم الله جمعهم، وإذا كان عَلِمَهُ الله، وإذا لم يكن لم يجز أن يقال: علم الله أنَّه كان إِلَّا أَنَّ جهادهم وصبرهم متوقَّعان، فكان النفي لذلك بـ (لَمَّا)، أي: ستجاهدون وتصبرون، فيعلم الله أنَّكم جاهدتم وصبرتم، وأمَّا الآن فجاهدتم ولم تصبروا إذ فررتم.
2. نفي العلم كناية عن نفي المعلوم، وهو الجهاد والصبر معًا، نفيَ ملزوم بنفي لازم، إذ لا يتحقَّق شيء بدون علمه تعالى، والواو للمعيَّة، كـ (لا تأكل السمك وتشربَ اللَّبن)، بنصب تشربَ، والآية تدلُّ أَنَّ الجهاد فرض كفاية.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/17.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أنكر الله تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه، وأن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه وحسبه فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ أي ولما يقع ذلك منكم فيعلمه، فإنه لو وقع لعلمه فجازاكم عليه بالجنة، فيكون الجزاء على الواقع المعلوم، لا على مجرد العلم، فإن الله لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومة ـ أفاده ابن القيم ـ وفي الكشاف.
2. ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ﴾ بمعنى ولما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه، لأنه منتف بانتفائه، يقول الرجل: ما علم الله في فلان خيرا، يريد ما فيه خير حتى علمه، و(لما) بمعنى (لم)، إلا أن فيها ضربا من التوقع، فدل على نفي الجهاد فيما مضى، وعلى توقعه فيما يستقبل، وتقول: وعدني أن يفعل كذا ولما، تريد، ولما يفعل، وأنا أتوقع فعله.
3. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ قال أبو مسلم: إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت، وتلخيصه: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد، وهو كقوله: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 1 ـ 2]، وافتتح الكلام بذكر (أم) التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين، يشك في أحدهما لا بعينه، يقولون: أزيدا ضربت أم عمرا؟ مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما، قال وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا، فلما قال: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ كأنه قال أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر، وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها، وبيّن وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا، فلما كان كذلك، فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/421.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكلام متصل بما قبله، والخطاب فيه لمن شهد وقعة أحد من المؤمنين فإنه تعالى أرشدهم في الآيات السابقة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يضعفوا أو يحزنوا، وبين لهم حكمة ما أصابهم وأنه منطبق على سننه في مداولة الأيام بين الناس وفي تمحيص أهل الحق بالشدائد، وفي ذلك من الهداية والإرشاد والتسلية ما يربي المؤمن على الصفات التي ينال بها الغلب والسيادة بالحق؛ ثم بين لهم بعد هذا أن سعادة الآخرة لا تنال أيضا إلا بالجهاد والصبر فهي كسعادة الدنيا بإقامة الحق والسيادة في الأرض سنة الله فيهما واحدة فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾
2. هذه الآية كالآية من سورة البقرة، والمعنى على الطريقة التي اختارها محمد عبده هناك من أن (أم) للاستفهام المجرد أو للمعادلة أنه تعالى يقول للمؤمنين بعد ذلك التنبيه والإرشاد لسننه وحكمه فيما حصل المتضمن للوم والعتاب في مثل ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وقوله ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ الخ: هل جريتم على تلك السنن؟ هل تدبرتم تلك الحكم؟ أم حسبتم كما يحسب أهل الغرور أن تدخلوا الجنة وأنتم إلى الآن لم تقوموا بالجهاد في سبيله حق القيام، ولم تتمكن صفة الصبر من نفوسكم تمام التمكن، والجنة إنما تنال بهما، ولا سبيل إلى دخولها بدونهما، لو قمتم بذلك لعلمه تعالى منكم وجازاكم عليه بالنصر والظفر في غزوتكم هذه وكان ذلك آية على أنه سيجازيكم بالجنة في الآخرة.
3. هذا المختار في معنى (أم) هو ما جرى عليه أبو مسلم الأصفهاني فقد قال الإمام الرازي قال أبو مسلم في ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ أنه نهي وقع بحرف الاستفهام أي يأتي للتبكيت، وتلخيصه لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد وهو كقوله: ﴿آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آ منا وهم لا يفتنون﴾ [العنكبوت: 1 ـ 2] وافتتح الكلام بذكر (أم) التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بن ضربين يشك في أحدهما لا بعينه، يقولون: أزيدا ضربت أم عمرا؟ مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما، قال: وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا، فلما قال ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ فكأنه قال: أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون؟ أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر؟
4. جرينا في هذا على أن نفي العلم هنا بمعنى نفي المعلوم، كنفي اللازم وإرادة الملزوم، وهو أحد الوجوه التي بيناها من قرب من تفسير ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهو الذي جرى عليه الكشاف هنا، وقال هو: (بمعنى لما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه لأنه منتف بانتفائه، يقول الرجل: ما علم الله في فلان خيرا، يريد ما فيه خير حتى يعلمه، و(لما) بمعنى (لم) إلا أن فيها ضربا من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل، تقول، وعدني أن يفعل ولما يفعل، تريد ولم يفعل وأنا أتوقع فعله)
5. اعترضه من لم يفهمه حق الفهم، وقد تقدم أن النكتة في إيثار ذكر العلم وإرادة المعلوم هي الإشعار بأن العلم إنما يكون علما صحيحا بظهور متعلقه بالفعل، وههنا نكتة أخرى خطرت في البال: وهي أن التعبير عن نفي ذلك بنفي علم الله به عبارة عن دعوى مقرونة بالدليل والبرهان، كأنه قال إن كلا من الجهاد والصبر اللذين هما وسيلة إلى دخول الجنة لما يقع منكم أي لم يقع إلى الآن من مجموعكم أو أكثركم بحيث صار يعد في شأن الأمة، فلا ينافي ذلك وقوعه من بعض الأفراد الذين ثبتوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم يخالفوا ولم ينهزموا، إذ لو وقع لعلمه الله تعالى الذي لا يخفى عليه شيء ولكنه لما يعلمه فهو لم يتحقق قطعا، ويؤيد تفسير الآية على هذا الوجه قوله تعالى في آية البقرة: ﴿أم حسب تم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء﴾ [البقرة: 214] أي وإلى الآن لم تصلوا إلى حالهم ولم يصبكم مثل ما أصابهم وقد كانت حالهم تلك مثلا في الشدة، ووجه التأييد أن المنفي هناك هو العمل والحال التي يستحقون بها الجنة.
6. هذا يوافق أحد الوجوه التي تقدمت في تفسير قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ من حيث إن المراد بالذوات وصفها فالمعنى هناك (وليعلم الله إيمان الذين آمنوا) من حيث إن المراد بالذوات وصفها، فالمعنى هناك وليعلم الله إيمان الذين آمنوا ـوهنا ـ ولما يعلم الله جهاد الذين جاهدوا وصبر الصابرين أي واقعين ثابتين، ويصح أيضا أن يكون العلم هنا بمعنى التمييز كما تقدم هناك في وجه آخر ويكون المعنى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة جميعا ولما يميز الله المجاهدين منكم والصابرين من غيرهم.
7. الجهاد هنا أعم من الحرب للدفاع عن الدين وأهله وإعلاء كلمته، قال محمد عبده: ربما قائل يقول إن الآية تفيد أن من لم يجاهد ويصبر لا يدخل الجنة مع أن الجهاد فرض كفاية، ونقول: نعم إنه لا يدخل الجنة من لم يجاهد في سبيل الحق ولكن الجهاد في الكتاب والسنة يستعملان بمعناهما اللغوي وهو احتمال المشقة في مكافحة الشدائد، ومنه جهاد النفس الذي روي عن السلف التعبير عنه بالجهاد الأكبر، وذكر من أمثلة ذلك مجاهدة الإنسان لشهواته لا سيما في سن الشباب، وجهاده بماله وما يبتلى به المؤمن من مدافعة الباطل ونصرة الحق، وقال: إن لله في كل نعمة عليك حقا وللناس عليك حقا، وأداء هذه الحقوق يشق على النفس فلا بد من جهادها ليسهل عليها أداؤها، وربما يفضل بعض جهاد النفس جهاد الأعداء في الحرب؛ فإن الإنسان إذا أراد أن يبث فكرة صالحة في الناس أو يدعوهم إلى خيرهم من إقامة سنة أو مقاومة بدعة أو النهوض بمصلحة فإنه يجد أمامه من الناس من يقاومه ويؤذيه إيذاء قلما يصبر عليه أحد، وناهيك بالتصدي لإصلاح عقائد العامة وعاداتهم وما الخاصة في ضلالهم إلا أصعب مراسا من العامة.
8. من مباحث اللفظ في الآية ما تقدم بيانه من معنى أم ولما، ومنها أن قوله ﴿وَيَعْلَمُ﴾ منصوب بإضمار (أن) على أن الواو للجمع؛ كقولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا يكن أكل السمك وشرب اللبن معا، فالتقدير في الآية على هذا: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجمع بين الجهاد والصبر.
__________
(1) تفسير المنار: 4/154.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لا يزال الحديث مع من شهد أحدا من المؤمنين، فقد أرشدهم الله في الآيات السالفة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يضعفوا، وأن ما أصابهم من المحنة والبلاء جار على سنن الله في خليقته من مداولة الأيام بين الناس، وفيه تمحيص لأهل الحق فإن الشدائد محكّ الأخلاق، وفيه هدى وإرشاد وتسلية للمؤمنين حتى يتربوا على الصفات التي ينالون بها الفوز والظفر في جميع أعمالهم، وهنا أبان لهم أن سبيل السعادة في الآخرة منوط بالصبر والجهاد في سبيل الله، كما أن طريق السعادة في الدنيا يكون بإقامة الحق وسلوك طريق الإنصاف والعدل بين الناس، فسنة الله هنا كسنته هناك.
2. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ أي هل جريتم على تلك السنن؟ هل تدبرتم تلك الحكم؟ أم ظننتم أنكم تدخلون الجنة وأنتم لم تقوموا بالجهاد في سبيله حق القيام، ولم تتمكن صفة الصبر من نفوسكم تمام التمكن، ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد التحلي بهما، وإنكم لو قمتم بذلك لعلمه الله تعالى منكم وجازاكم عليه بالنصر والفوز في هذه الغزوة كما يجازيكم في الآخرة بدخول الجنة، وقال أبو مسلم الأصفهاني فى ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾: (إنه نهى وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت، وتلخيصه ـ لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد وهو كقوله: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾، وعادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا، فلما قال: ولا تهنوا ولا تحزنوا، كأنه قال أفتعلمون أن ذلك واقع كما تؤمرون، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة ولا صبر، وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى لما أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة وأوجب الصبر على تحمل متاعبه، وبين وجوه المصالح فيه في الدين والدنيا كان من البعيد أن يظن الإنسان أنه يصل إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة)
3. جهاد النفس على أداء حقوق الله وحقوق العباد مما يشقّ عليها احتماله، ويحتاج إلى مجاهدتها وترويضها حتى تذلل ويسهل عليها أداء تلك الحقوق، وربما فضل هذا الجهاد جهاد الأعداء في ميدان القتال وخوض غمار الوغى؛ وأصعب من هذا وأشق دعوة الأمة إلى خير لها في دينها ودنياها، أو بث فكرة صالحة تغير بعض أخلاقها وعاداتها، أو مقاومة بدعة فاشية بين أفرادها، فإنها تجد مقاومة من الخاصة، بله العامة، فتراهم يرفعون راية العصيان في وجه الداعي، ويشاكسونه بكل الوسائل، ولا سيما إذا تعلق بتغيير بعض عادات مرنوا عليها جيلا بعد جيل، ووجدوا من أشباه العلماء من يؤازرهم ويناصرهم في باطلهم، وكثيرا ما يحدث للداعي التلف والهلاك، أو ثلم العرض، أو الإخراج من حظيرة الدين.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/83.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات، وفي النصر والهزيمة، وفي العمل والجزاء، ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وزاده الصبر على مشاق الطريق، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾
2. إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور: تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان: أسلمت وأنا على استعداد للموت، فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان! إنما هي التجربة الواقعية، والامتحان العملي، وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد، وعلى معاناة البلاء.
3. في النص القرآني لفتة ذات مغزى: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾.. ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾، فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون، إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا، التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان، فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر، ويختبر بها الإيمان، إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي: معاناة الاستقامة على أفق الإيمان، والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني: في النفس وفي الغير، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية، والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر! والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات، والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال، والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها، في الطريق المحفوف بالمكاره، طريق الجنة التي لا تنال بالأمانيّ وبكلمات اللسان!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/484.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لو جرت الأمور على هذا التقدير الذي قدّروه، لما كان بلاء ولا اختبار.. ومن ثمّ فلا ثواب ولا جزاء.. إذ بم يثابون؟ وعلى أي شيء يجزون؟ وما فضل المجاهدين على القاعدين؟ بل ما فضل المؤمنين على الكافرين؟ ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾؟
2. إن بلاء المؤمنين وجهادهم، هو الذي يكشف عن إيمانهم، ويعطى الدليل العملي لهم وللنّاس، أنّهم مؤمنون حقّا، وأنهم أدوا حقّ هذا الإيمان، بلاء وجهادا.
3. في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ لا يتعلق علم الله بجهادهم وصبرهم، فعلم الله واقع على ما كان منهم وما سيكون قبل أن يكون، ولكن المراد بالعلم هنا، علم المعلوم في حال وقوعه، أي علمه على الصفة التي وقع عليها.. وهذا وإن كان واقعا في علم الله، إلا أنه علم غيب لما سيقع، والمراد بالعلم هنا علم الشهادة لما وقع.
4. الذي تضمنته هذه الآيات الكريمة، تعقيبا على هذا الحدث ـ هو عزاء جميل من الله سبحانه وتعالى للنبيّ وللمؤمنين، ففي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ نفحة من الله، تنزل على النبيّ وعلى المؤمنين معه، بما يهوّن عليهم كل مصاب، ويجلو عن صدورهم كل همّ وحزن! وهل مع قول العزيز الرحيم: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ يكون ما يوهن ويضعف، أو يبقى ما يسوء ويحزن؟
5. سبحانك ربى! ما أوسع رحمتك، وما أعظم فضلك، وما أكثر برّك بالمؤمنين، ورعايتك للمجاهدين! تبتليهم في أموالهم وأنفسهم، لتضاعف لهم الأجر، وتعظم لهم المثوبة، ثم تعود بفضلك ورحمتك فتعافيهم مما ابتليتهم به، وتملأ قلوبهم سكينة ورضى ومسرة، بما تسوق إليهم من رحمات وبشريات!
6. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ حكم من لدن حكيم عليم، حكم به للمؤمنين أن يكونوا دائما في المنزلة العليا في هذه الحياة.. لهم العزة والغلب على أعدائهم أبدا، مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ وفي قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ تثبيت للمؤمنين على الإيمان، وأنهم إذا ثبتوا على إيمانهم، وأعطوا هذا الإيمان حقّه من الصبر والتقوى، فإنهم لن يهنوا ولن يحزنوا أبدا، وأنهم الأعلون أبدا.
7. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ هو عزاء آخر للمؤمنين لما أصيبوا به في أنفسهم، ولما أصيبوا به في أهليهم.. وأنهم إن يكونوا قد أصيبوا اليوم بما يؤلم ويوجع، فقد أصابوا هم أعداءهم بما يؤلم ويوجع! ثم ليعلم المؤمنون من هذا أن طريقهم في مسيرتهم مع الإسلام ليست كلها يوما واحدا كيوم بدر، بل إنهم سيغلبون ويغلبون، ويقتلون ويقتلون، ويصيبون ويصابون.. وهكذا الدنيا.. وتلك سنّة الحياة فيها.. لا تدوم على وجه واحد، بل هي وجوه متقلبة متغيرة! تقبل وتدبر، وتضحك وتبكى، وذلك هو الذي يعطى الحياة حيوية، وهو الذي يغرى الناس بالسعي والعمل، لينتقلوا من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع.. ولو أخذ الناس بوضع ثابت مستقر ـ ولو كان ذلك في أحسن حال، وأمكن وضع ـ لماتت في أنفسهم نوازع التطلعات إلى المستقبل، ولخمدت فيهم جذوة الحماس للكفاح والنضال، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾، ولكنّ هذا يعزل بعض المجاهدين عن أن يكونوا في المؤمنين، الصالحين لأن يتخذ الله منهم شهداء،
8. في قوله تعالى: ﴿وَيَتَّخِذُ﴾ إشارة كريمة إلى هذا المقام الكريم الذي يرتفع إليه الشهداء، وأنهم خيار المؤمنين، والمصطفين منهم، ولهذا اتخذهم الله شهداء.. إذ الاتخاذ أخذ عن اختبار واختيار.
9. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ تحريض للمسلمين على قتال المشركين، واحتمال المكروه في سبيل إضعافهم أو القضاء عليهم، لأنهم ظالمون لأنفسهم، بصرفها عن الهدى إلى الضلال، وظالمون للإنسانية إذ هم قوى شريرة عاملة على طمس معالم الهدى وصدّ الناس عن الخير.
10. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ ومن لا يحبّه الله فهو عدو لله، يجب على أولياء الله أن يعادوه، ويخلّصوه من الذي في يديه، يرمى به نفسه، ويصيب به الناس.
11. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ أي من تمام حكمة هذا الابتلاء فيما بين المؤمنين والكافرين أن يمحّص الله المؤمنين بهذا الابتلاء، وينقيهم من دخائل الضعف والوهن، بملاقاة الشدائد والصبر عليها، كما أن في هذا الابتلاء إضعافا لشوكة الكافرين وتوهينا لقوى البغي والعدوان، المتربصة بالإيمان وبالمؤمنين.
12. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ بيان آخر للحكمة من هذا الابتلاء الذي ابتلى الله به المؤمنين، في قتال الكافرين، وهو أن هذا الابتلاء هو الذي يكشف عن إيمان المؤمنين، وصبرهم على المكروه، واحتمالهم الأذى في سبيل الله، وذلك هو الذي يميز الخبيث من الطيب، ويجعل لكلّ مكانه عند الله.. فالجنة للمجاهدين الصابرين.. والنار للمشركين المعاندين.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/602.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَم﴾ هنا منقطعة، هي بمعنى (بل) الانتقالية، لأنّ هذا الكلام انتقال من غرض إلى آخر، وهي إذا استعملت منقطعة تؤذن بأنّ ما بعدها استفهام، لملازمتها للاستفهام، حتّى قال الزمخشري والمحقّقون: إنّها لا تفارق الدلالة على الاستفهام بعدها، وقال غيره: ذلك هو الغالب وقد تفارقه، واستشهدوا على مفارقتها للاستفهام بشواهد تقبل التّأويل، فقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ عطف على جملة ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ [آل عمران: 139] وذلك أنّهم لمّا مسّهم القرح فحزنوا واعتراهم الوهن حيث لم يشاهدوا مثل النّصر الّذي شاهدوه يوم بدر.
2. بيّن الله أنّ لا وجه للوهن للعلل الّتي تقدّمت، ثمّ بيّن لهم هنا: أن دخول الجنّة الّذي هو مرغوبهم لا يحصل إذا لم يبذلوا نفوسهم في نصر الدّين فإذا حسبوا دخول الجنّة يحصل دون ذلك، فقد أخطئوا.
3. الاستفهام المقدّر بعد (أم) مستعمل في التّغليط والنّهي، ولذلك جاء بـ (أم) للدلالة على التغليط: أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنّة دون أن تجاهدوا وتصبروا على عواقب الجهاد، ومن المفسّرين من قدّر لـ (أم) هنا معادلا محذوفا، وجعلها متّصلة، فنقل الفخر عن أبي مسلم الأصفهاني أنّه قال: عادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا لأنّه لمّا قال: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ [آل عمران: 139] كأنّه قال أفتعلمون أنّ ذلك كما تؤمرون أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة.
4. جملة ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ﴾.. في موضع الحال، وهي مصبّ الإنكار، أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنّة حين لا يعلم الله الّذين جاهدوا، و(لمّا) حرف نفي أخت (لم) إلّا أنّها أشدّ نفيا من (لم)، لأنّ (لم) لنفي قول القائل فعل فلان، و(لمّا) لنفي قوله قد فعل فلان، قاله سيبويه، كما قال إنّ (لا) لنفي يفعل و(لن) لنفي سيفعل و(ما) لنفي لقد فعل و(لا) لنفي هو يفعل، فتدلّ (لمّا) على اتّصال النّفي بها إلى زمن التكلّم، بخلاف (لم)، ومن هذه الدلالة استفيدت دلالة أخرى وهي أنّها تؤذن بأنّ المنفي بها مترقّب الثبوت فيما يستقبل، لأنّها قائمة مقام قولك استمرّ النّفي إلى الآن، وإلى هذا ذهب الزمخشري هنا فقال: و(لمّا) بمعنى (لم) إلّا أنّ فيها ضربا من التوقّع وقال في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾: فيه دلالة على أنّ الأعراب آمنوا فيما بعد.
5. القول في علم الله تقدّم آنفا في الآية قبل هذه، وأريد بحالة نفي علم الله بالّذين جاهدوا والصّابرين الكناية عن حالة نفي الجهاد والصّبر عنهم، لأنّ الله إذا علم شيئا فذلك المعلوم محقّق الوقوع فكما كنّى بعلم الله عن التّحقق في قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران: 140] كنّى بنفي العلم عن نفي الوقوع، وشرط الكناية هنا متوفّر وهو جواز إرادة المعنى الملزوم مع المعنى اللازم لجواز إرادة انتفاء علم الله بجهادهم مع إرادة انتفاء جهادهم، ولا يرد ما أورده التفتازانيّ، وأجاب عنه بأنّ الكناية في النفي بنيت على الكناية في الإثبات، وهو تكلّف، إذ شأن التراكيب استقلالها في مفادها ولوازمها.
6. عقّب الله تعالى هذا النفي بقوله: ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ معطوفا بواو المعية فهو في معنى المفعول معه، لتنتظم القيود بعضها مع بعض، فيصير المعنى: أتحسبون أن تدخلوا الجنّة في حال انتفاء علم الله بجهادكم مع انتفاء علمه بصبركم، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يجتمع العلمان، والجهاد يستدعي الصّبر، لأنّ الصّبر هو سبب النّجاح في الجهاد، وجالب الانتصار، وقد سئل عليّ عن الشّجاعة، فقال: (صبر ساعة)، وقال زفر بن الحارث الكلابي، يعتذر عن انتصار أعدائهم عليهم:
çسقيناهم كأسا سقونا بمثلها...ولكنّهم كانوا على الموت أصبراé
وقد تسبّب في هزيمة المسلمين يوم أحد ضعف صبر الرماة، وخفّتهم إلى الغنيمة، وفي الجهاد يتطلّب صبر المغلوب على الغلب حتّى لا يهن ولا يستسلم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/234.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية موصولة بما قبلها؛ لأن موضوعهما واحد، إذ الكلام في أثر غزوة أحد في نفوس المؤمنين، ومداواة العزيز الحكيم لهذه النفوس بالعبر يسوقها، وسننه تعالى يبينها، وآياته في الآفاق والأنفس يكشفها، وقد بين سبحانه وتعالى في الآية السابقة مداولة الله سبحانه في الأمم بالنصر والهزيمة، وأن العاقبة للمتقين، وفي هذه الآيات يبين أن الجماعات تصقل بالمحن، والمجاهدين يتميزون عند وجود الشدائد، وأنه لا تخلص النفوس وتطهر إلا بالاختبار الشديد، ولذا قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾
2. قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. (أم) هنا إما أن تكون للإضراب، ويكون المعنى: بل حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، والإضراب هنا معناه الانتقال من طريق للبيان إلى طريق آخر، ففي الأول بين العبر والسنن بطريق التقرير، وفي هذه الآية يبين سنة أخرى بطريق الاستفهام الإنكاري، وفيه فضل تنبيه وفضل تقرير، والمعنى: أن سنة الله تعالى في نعيمه أنه لا يستحقه على كماله إلا من بذل المهجة في حياته، وصبر في السراء والضراء، وهذا كقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ﴾ [البقرة]، وكقوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت]
ب. ويصح أن تكون (أم) هنا للمعادلة، أي تكون متصلة لا منقطعة، ويكون المعنى على هذا: أعلمتم أن لله تعالى سننا في خلقه وأنه يداول النصر بين الناس، وأن الحرب لا تخلو من فرح ونكاية، أم حسبتم وظننتم أنكم تدخلون الجنة من غير أن يصيبكم الجرح، وتدموا في الحروب، ويكون منكم شهداء.
3. ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ المراد من العلم فيها المعلوم، أي ولما يستبن لكم أمركم، ويظهر لكم جهاد المجاهدين وصبر الصابرين، فالمعنى ظهور علم الله الواقع فيكم وبيانه لكم، وذلك لأن الله يعلم الأمور قبل وقوعها، فلا يتصور أن يكون غير عالم حتى تقع، بل المراد وقوع ما علمه الله تعالى وظهوره وكشفه وإعلانه محسا واقعا، بعد أن كان خفيا لا يعلمه إلا علام الغيوب.
4. تكلموا في الحكمة في أن الله تعالى عبر في نفى المعلوم الواقع بنفي العلم الثابت، فقال: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ﴾ ولم يقل: ولما يقع معلوم الله، ونقول: إن حكمة ذلك هو تعليمنا بألا نحكم إلا بما يظهر ويقوم عليه الدليل المحسوس، ولا يحكم أحد بما يتوقع، فالله العليم بكل شيء يرشد إلى أنه يترك الحكم في الأمر حتى يقع ما حكم به محسوسا ملموسا.
5. نفى الله تعالى (العلم) بكلمة (ولما) وهى في معنى لم، بيد أنها تمتاز عنها بأنها تنفى الأمر في الماضي والحاضر، وتومئ إلى وقوعه في المستقبل، ففي الآية إيماء إلى أن المعلوم وهو المجاهدون، لم يكونوا معلومين قبل الاختبار، وكانوا بعد الاختبار، وظهرت تلك الصفة فيهم، ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ أي ويقع المعلوم الثاني الذي قدره الله تعالى، وهو أن يتميز الصابرون من غيرهم، فالابتلاء الشديد أظهر نوعين من الرجال:
أ. أولهما ـ المجاهدون الذين يجالدون ولا يفرون ولا يولون الأدبار، ولا يذهب ببأسهم قوة عدوهم، وفشل فريق من إخوانهم.
ب. والفريق الثاني الذي أظهره هم الذين صبروا ولم تذهب قلوبهم شعاعا، ولم يذهب تفكيرهم، ولم يضع رشدهم، ولم تطش أحلامهم.
6. سؤال وإشكال: إن الجهاد يتضمن الصبر، كما قال النبيّ : (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، وإن الصبر عدة الجهاد الأولى، فلما ذا خصّ الصابرون بالذكر، وخص الصبر بالتنويه؟ والجواب: إن الصبر ولو أنه عدة الجهاد ينفرد بمعنى آخر غير الجلد والصبر تحت حر القتال وفي بريق السيوف، فإن الصبر يتضمن ثبات الفكرة واطمئنان القلب إلى الحقائق المقررة، وعدم طيش الأحلام، فإن الأخبار التي تثبط العزائم في الحروب إذا كانت كاذبة قد يصدقها المجاهد، ولكن شجاعته تدفعه إلى مواصلة القتال، وعدم التأثر، والصابر المطمئن النفس يمحص الأخبار في وسط الاضطراب النفسي، فإذا أشيع في ميدان القتال أن القائد قد قتل، كان الأبرار من الجند فريقين:
أ. أحدهما: المجاهدون الشجعان الذين يستمرون على القتال، ولو كان الخبر صادقا، ويندفعون في الميدان.
ب. والفريق الثاني المجاهدون الذين نالوا حظ الأولين وكان لهم مع ذلك قدرة على التأمل أصادق الخبر أم كاذب، وإذا كان صادقا حثوا غيرهم على الاستمرار وبينوا لهم أن الواجب صار أشد وأقوى وألزم، فهذا فريق الصابرين، وإن هذا النوع من الصبر هو أعلى أنواع الصبر؛ لأنه ثبات الجنان، وتحمل التبعات بأبلغ أحوالها وأشد صورها، فهو صبر في جهاد الفكر، وجهاد النفس، وتحمل عبء الجاهلين الأغرار، وتولى إرشادهم وتوجيههم.
7. النص يفيد أن الطريق إلى الجنة ليس سهلا يسلكه كل إنسان، إنما هو محفوف بالمكاره والشدائد، ولا يصل إلى غايته إلا الذين جاهدوا وصبروا وصابروا، ولذا قال النبيّ : (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وذلك لأن المعاصي أسبابها اندفاع الشهوات الإنسانية، وانطلاق الغرائز المنحرفة، فليس فيها جهاد بأي نوع من أنواعه، بل فيها تلذذ وانحراف، وأما الجنة فسبيلها جهاد للنفس ومغالبة للهوى، ومنازلة بين الحق والباطل، وتكليفات يجب القيام بها، وكل هذه مشاق يحتاج احتمالها إلى جهد في دائرة الطاقة، و﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة]
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1426.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. دلت هذه الآية دلالة صريحة واضحة على ان الإسلام يرتبط ارتباطا وثيقا بالعمل الصالح في هذه الحياة، وان الشرط الأول للقرب من الله، والفوز بمرضاته وثوابه هو الجهاد والكفاح، والصدق والإخلاص والصبر والثبات، أما بناء المساجد والمعابد، والصوم والصلاة، والتلاوة والأوراد، كل ذلك، وما اليه ليس بشيء الا إذا كان وسيلة لعمل يجلب للناس نفعا، أو يدفع عنهم ضرا.
2. في معنى هذه الآية ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا﴾ التي ربطت دخول الجنة بالجهاد والصبر على تحمّل متاعبه، في معناها آيات كثيرة، منها الآية 112 من التوبة: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾، والآية 72 من الاسراء: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾، وكفى دليلا قاطعا على ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾، ومن أقوال الإمام علي عليه السلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، ليس لأنفسكم ثمن الا الجنة، فلا تبيعوها الا بها)
3. الشعارات الدينية كالمعابد والصلوات مقدسة، ما في ذلك ريب.. بل هي ضرورة دينية لا بد منها، فما من دولة أو فئة يجمعها مبدأ واحد الا ولها شعار يبرز شخصيتها، ويجمع أشياعها وأتباعها.. ولكن ليست العبرة بالشعار وحده، بل بما وراء الشعار من فاعلية وأثر، فليس الغرض من الصلاة مجرد الركوع والسجود، بل بما تتركه في نفس المصلي من النهي عن الفحشاء والمنكر، ولا من الجامع أن نجتمع فيه للتهليل والتكبير، بل لنتآزر ونتعاون مخلصين على ما فيه خير الجميع، وقد اتخذ كثيرون في عصرنا الشعار الديني أداة للتضليل، وستارا يخفون وراءه مطامع استعمارية، وأهدافا صهيونية.. فإن الكثير من الأحزاب والتكتلات التي تحمل اسم الدين أو الثقافة أو الوطنية خرجت من مكاتب الاستخبارات الأجنبية، أما ميزانيتها فمن غنائم شركات النفط.. والذي يهون الخطب انها تكشفت للجميع فلا يثق بها مخلص، ولا يتعاون معها الا خائن باع دينه وبلاده للشيطان.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/166.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح سبحانه ـ بعد بيان أن الأيام دول متداولة لغرض الامتحان والابتلاء ـ في ملامتهم في حسبان هذا النظر الباطل وبيان حقيقة الحال فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾، وهذا ـ أعني ظنهم أن يدخلوا الجنة من غير أن يمتحنوا ـ لازم الظن المذكور آنفا، وهو أنهم لما كانوا على الحق والحق لا يغلب عليه فأمر الظفر والغلبة إليهم، لن ينهزموا ولن يغلبوا أبدا، ومن المعلوم أن لازم هذا الظن أن يكون كل من آمن بالنبي ولحق بجماعة المؤمنين سعيدا في دنياه بالغلبة والغنيمة، وسعيدا في آخرته بالمغفرة والجنة، ويبطل الفرق بين ظاهر الإيمان وحقيقته ويرتفع التمايز بين الدرجات، فإيمان المجاهد وإيمان المجاهد الصابر واحد، ومن تمنى خيرا ففعله إذا حان حينه كان كمن تمنى خيرا ثم تولى إذا أصابه.
2. على هذا فقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا﴾ الآية من قبيل وضع المسبب موضع السبب أي حسبتم أن الدولة مكتوبة لكم فأنتم لا تبتلون بل تدخلون الجنة من غير أن يتميز المستحق لها منكم من غير المستحق، وصاحب الدرجة الرفيعة منكم من غيره؟
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/31.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَمْ﴾ في معنى (بل) التي للإضراب، والهمزة التي للاستنكار، فالإضراب للانتقال من بيان بعض الحكمة في المداولة بين الناس إلى بيان أن دخولهم الجنة متوقف على ذلك الامتحان وأمثاله والاستنكار من حيث أن حسبانهم ذلك خطأ؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، فلا تنال إلا بالصبر ومكافحة الهوى والصبر، ولا يتهيأ الصبر الذي يتميز به الفاضل من المفضول إلا مع الشدائد التي تظهر حقائق الناس ودرجاتهم في الصبر.
2. ذلك موجب البيع المذكور في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:111] والجنة تستحق ذلك؛ لأنها دار الدرجات الرفيعة والملك الكبير.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/545.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ كان حديث الآيات الثلاث السابقة، هو حديث التجربة الحيّة في المعركة وكيف يمكن الاستفادة منها بالتخفيف من سلبياتها ومضاعفة إيجابياتها، ودراسة أهدافها القريبة والبعيدة؛ أمّا في الآيتين الأخيرتين، فنلاحظ أن الحديث يتخذ بعدا آخر، وهو مواجهة المؤمنين في الآية الأولى بالميزان الإسلامي للدخول إلى الجنّة، وهو العمل الصالح المتحرّك في خطّ الصبر والجهاد الذي يعبّر عن نفسه في الممارسات الصعبة التي يخوضها المجاهدون والصابرون الذين يضعون حياتهم في كفّة الميزان، وإيمانهم وعقيدتهم في الكفة الأخرى، فترجح كفة الإيمان والعقيدة على كفّة الحياة، فيقدمون حياتهم ضحيّة على مذبح إيمانهم وعقيدتهم، فليست الجنّة منحة مجانية يمنحها الله للكسالى الذين يقضون أيّامهم في استرخاء نظري كسول، يمارسون فيه ترف الفكر وغيبوبة الروح في أجواء الفراغ، ثم يبدؤون بالتنديد بالطلائع المجاهدة التي تقف في مواقع الخطر في خط الجهاد، ليحطموا معنوياتهم ويهدّموا روحهم بالأساليب المتلوّنة الخبيثة، فمن أراد الجنّة، فلا بدّ من أن يسعى نحوها بوسائلها التي يقف الجهاد في طليعتها ليقود الإنسان إلى جنّة الله، كما تزف العروس إلى زوجها في ليلة العرس.
2. في هذا الجوّ، لا بدّ للإنسان المؤمن الذي يفكر بالجنّة من أن يطلبها في حركة الواقع الصعب، وفي ساحات الجهاد المرّ، لا في ساحات المساجد ومحاريبها فحسب؛ حتى المسجد كان في أيّام الإسلام الأولى منطلقا لصيحات الجهاد التي تختلط بآذان الصلاة لتأكيد أنهما ينطلقان من قاعدة واحدة، وهي الإخلاص في مواقف العبودية الخالصة؛ ولكنّ المد الإسلامي قد انحسر عن الحياة عندما ابتعد المسلمون عن الجهاد.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/288.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثمّ إنه يفيدنا القرآن درسا من واقعة (أحد) في تصحيح خطأ فكري وقع فيه المسلمون فيقول: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ أي هل تظنون أنكم تنالون أوج السعادة المعنوية بمجرد اختياركم لاسم المسلم، أو بمجرد أنكم حملتم العقيدة الإسلامية في الفكر دون أن تطبقوا ما يتبعها من التعاليم؟
2. لو كان الأمر كذلك لكان هينا جدا، ولكن ليس كذلك حتما، فإنه ما لم تطبق التعاليم التي تتبع تلك المعتقدات، في واقع الحياة العملية لم ينل أحد من تلك السعادة العظمى شيئا.
3. وهنا بالذات يجب أن تتميز الصفوف، ويعرف المجاهدون الصابرون عن غيرهم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/715.
73. الموت والتمنى
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈73⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [آل عمران: 142 ـ 143]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عوف:
روي عن عبد الرحمن بن عوف (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ هو تمني المؤمنين لقاء العدو(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٧٦.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: أن رجالا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا يقولون: ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر، ونستشهد، أو ليت لنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين، ونبلي فيه خيرا، ونلتمس الشهادة والجنة والحياة والرزق، فأشهدهم الله أحدا، فلم يلبثوا إلا من شاء الله منهم؛ فقال الله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٧٦.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال في الآية: كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر، يبلون فيه خيرا، ويرزقون فيه الشهادة، ويرزقون الجنة والحياة والرزق، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ الله منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم الله تعالى، فقال: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ﴾ [البقرة: ١٥٤] الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٨٨.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في الآية: غاب رجال عن بدر، فكانوا يتمنون مثل بدر أن يلقوه، فيصيبوا من الأجر والخير ما أصاب أهل بدر، فلما كان يوم أحد ولى من ولى منهم، فعاتبهم الله على ذلك(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٩٣.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ الآية، فإن المؤمنين لما أخبرهم الله بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر ومنازلهم في الجنة رغبوا في ذلك، فقالوا: اللهم أرنا قتالا نستشهد فيه، فأراهم الله إياه يوم أحد، فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم، فذلك قوله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾(1).
__________
(1) تفسير القمّي: 1/119.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ كانوا يتمنون أن يلقوا المشركين فيقاتلوهم، فلما لقوهم يوم أحد ولوا(1).
2. روي أنّه قال: إن ناسا من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم الله من الفضل، فكانوا يتمنون أن يروا قتالا فيقاتلوا، فسيق إليهم القتال، حتى كان بناحية المدينة يوم أحد؛ فأنزل الله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ الآية(2).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/١٣٤.
(2) ابن جرير: ٦/٩٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾، وذلك حين أخبر الله تعالى عن قتلى بدر، وما هم فيه من الخير، قالوا: يا نبي الله، أرنا يوما كيوم بدر، فأراهم الله تعالى يوم أحد، فانهزموا، فعاتبهم الله تعالى، فقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ يعني: القتال من قبل أن تلقوه، ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٤.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾، أي: لقد كنتم تمنون الشهادة على الذي أنتم عليه من الحق قبل أن تلقوا عدوكم، يعني: الذين استنهضوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى خروجه بهم إلى عدوهم لما فاتهم من الحضور في اليوم الذي كان قبله ببدر؛ رغبة في الشهادة التي قد فاتتهم به، يقول: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾، أي: الموت بالسيوف في أيدي الرجال، قد خلي بينكم وبينهم وأنتم تنظرون إليهم، فصددتم عنهم(1).
__________
(1) سيرة ابن هشام: ٢/١١.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ هذه نزلت في يوم أحد، فيما امتحن به المؤمنون، ونالهم به المشركون، ومعنى قوله سبحانه: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾، يقول: عاينتم من الشدة والهول، وحصول ما يقع به القتل والموت، وأنتم تنظرون؛ والعرب تسمي كل شيء أفظعها وهالها، وأيقنت فيه: بالهلكة والموت، تقول إذا وقعت في خطر أو أمر شديد: (رأينا الموت عيانا، ووقعنا في الموت)، وهذا جائز في لغتهم، حسن من كلامهم؛ وإنما خاطبهم الله بما يعرفون، وناجاهم بما لا ينكرون.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/184.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ قيل فيه بوجهين:
أ. قيل: قوله عزّ وجل: تمنون ما فيه الموت، وهو القتال.
ب. وقيل: تمنون الموت نفس الموت، ثم يحتمل وجوها:
• يحتمل: يتمنون إشفاقا على دينهم الإسلام؛ لئلا يخرجوا من الدنيا على غير دينهم الذي هم عليه.
• ويحتمل أن يكونوا تمنوا الموت، لينجوا أو يتخلصوا من تعذيب الكفار إيّاهم وتغييرهم؛ على ما قيل: إن أهل مكة كانوا يعذبونهم، طلبوا النجاة منهم والخلاص.
• وقيل: يتمنون الموت، أي: يتمنون الشهادة؛ لما سمعوا لها من عظيم الثواب وجزيل الأجر، تمنوا أن يكونوا شهداء لله عزّ وجل أحياء عند ربهم.
• وقيل: في قوله عزّ وجل: ﴿تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ وذلك حين أخبر الله عزّ وجل عن قتلى بدر، وما هم فيه من الخير؛ فتمنوا يوما مثل يوم بدر؛ فأراهم الله يوم أحد فانهزموا، فعوتبوا على ذلك بقوله: ﴿تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ يعني: يوم أحد.
2. قوله تعالى: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: فقد رأيتم أسباب الموت وأهواله.
ب. ويحتمل: فقد رأيتم أصحابكم الذين قتلوا بين أيديكم، على تأويل من صرف قوله عزّ وجل: ﴿تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ إلى القتال.
3. قوله عزّ وجل: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ إلى الموت، يعني: إلى موت أصحابكم أو إلى القتال.
ب. ويحتمل: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ أي: تعلمون أنكم كنتم تمنون الموت
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/498.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ قيل بمعنى الجهاد ممن لم يحضر بدر فلما كان يوم أحد أعرض كثير منهم عنه فعاتبهم الله عز وجل على ذلك ثم قال ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ يعني قد علمتموه ورأيتم أسبابه(1).
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/154.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ قيل تمنى الموت بالجهاد من لم يحضر بدرا، فلما كان يوم أحد أعرض كثير منهم فعاتبهم الله تعالى على ذلك، هكذا قال الحسن وقتادة ومجاهد.
2. في قوله تعالى: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: يعني فقد علمتموه.
ب. الثاني: فقد رأيتم أسبابه.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/427.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال الحسن، ومجاهد، والربيع، وقتادة، والسدي: كانوا يتمنون الموت بالشهادة بعد بدر قبل أحد، فلما رأوه يوم أحد أعرض كثير منهم عنه، فانهزموا فعاتبهم الله على ذلك.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾:
أ. قيل: فيه حذف ومعناه رأيتم أسباب الموت، لأن الموت لا يرى كما قال الشاعر:
çومحلما يمشون تحت لوائه...والموت تحت لواء آل محلمé
أي أسباب الموت.
ب. وقال البلخي: معنى ﴿رَأَيْتُمُوهُ﴾ أي علمتم، وأنتم تنظرون أسباب الموت من غير أن يكون في الأول حذف.
3. سؤال وإشكال: هل يجوز أن يتمنى قتل المشركين لهم لينالوا منزلة الشهادة؟ والجواب: لا، لأن قتل المشركين لهم معصية، ولا يجوز تمني المعاصي، كما لا يجوز إرادتها، ولا الأمر بها، فإذا ثبت ذلك، فتمنيهم الشهادة بالصبر على الجهاد إلى أن يقتلوا، وقال الجبائي: إنما تمنوا الموت دون القتل إذا كانوا مجاهدين.
4. ﴿رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ قال الازهري: معناه وأعينكم صحيحة، كما يقول القائل رأيت كذا، وليس في عينك سوء.
5. الفرق بين التمني والارادة أن الارادة من أفعال القلوب، والتمني هو قول القائل: ليت كان كذا وليت لم يكن كذا.
6. قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ بعد قوله: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: أن يكون تأكيداً للرؤية، كما تقول: رأيته عياناً ورأيته بعيني وسمعته باذني، لئلا يتوهم رؤية القلب، وسمع العلم.
ب. الثاني: أن يكون معناه وأنتم تتأملون الحال في ذلك كيف هي، لأن النظر هو تقليب الحدفة الصحيحة نحو المرئي طلباً لرؤيته، وليس معناه الرؤية على وجه الحقيقة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/6.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التمني: هو قول القائل: ليت فلانًا كذا، وقيل: إنه معنى في القلب يطابق هذا القول، والصحيح هو الأول، وأصله يَتَمَنَّيونَ حذفت الياء طلبًا للخفة.
ب. النظر ينقسم فيضاف إلى القلب ومعناه التفكر، وإلى العين ومعناه تقليب الحدقة نحو المرئي التماسًا لرؤيته، مع سلامة الحاسة، وينقسم من وجه آخر، يقال: نظر إليه نظر غضبان، ونظر راضٍ، ونظر شزرًا، ونظر رحمة.
2. لما حث الله تعالى في الجهاد رغب فيه بما وجب لهم من الثواب زاد في البيان بما أخبر أن الجنة لا تنال إلا بالتقوى، فقال سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ أي ظننتم أيها المؤمنون ﴿أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾:
أ. قيل: ولم يظهر المعلوم من الجهاد والصبر موجودًا كما علم غيبا.
ب. وقيل: ذكر العلم وأراد المعلوم، يعني ولما يقع الجهاد، فنفى العلم مبالغة؛ إذ لو كان لَعُلِمَ كقولهم: ما علم الله مني خيانة، أي ما خنت.
3. ﴿وَلَقَدْ﴾ تأكيد ﴿كُنْتُمْ﴾ يا أصحاب محمد ﴿تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾:
أ. قيل: ذلك بعد بدر.
ب. وقيل: أُحُد كان من لم يحضر بدرًا يتمنى الجهاد، فلما كان يوم أحد ورأوا ما رأوا أعرض كثير منهم، فعاتبهم الله تعالى على ذلك عن الحسن ومجاهد والربيع وقتادة والسدي.
ج. وقيل: إن الأنصار سألوا رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يأذن لهم في قتال أهل مكة، وهم بمكة فمنعهم، وقال: لم أؤذن فيه، فلما هزموا يوم أحد ذُكِّرُوا ما سألوا عن الأصم وفيه محذوف.
د. وقيل: يتمنون أسباب الموت.
هـ. وقيل: بل المراد للشهادة، ونفس الموت.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾:
أ. قيل: من قبل أن تلقوا الموت، يعني أسبابه.
ب. وقيل: من قبل أنْ تلقوا الجهاد.
5. ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أي رأيتم أسباب الموت، كما قال الشاعر: (وَالمَوتُ تَحت لِوَاءِ آلِ مُحَلِّمِ)، أي أسباب الموت.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾:
أ. قيل: وأنتم تعلمون الموت، عن أبي القاسم.
ب. وقيل: وأنتم تنظرون إلى أسبابه، فذكر ﴿تَنْظُرُونَ﴾ بعد ذكر رأيتموه تأكيدًا، كقولهم: رأيته عيانًا بعيني، وسمعته بأذني.
ج. وقيل: معناه وأنتم تتأملون الحال في ذلك كيف هي، فعلى هذا هي النظر بمعنى التأمل، يعني هي رؤية تأمل وتثبت لا رؤية لمح وتخيل.
د. وقيل: وأنتم تنظرون إلى الرسول بين أظهركم، حكاه الأصم.
هـ. وقيل: تنظرون إلى الموت النازل بإخوانكم، عن الأصم.
7. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن الثواب والجنة لا تنال إلا باحتمال المشقة، وأنه جزاء على الأعمال، خلاف قول الحشوية والْمُجْبِرَة، فبين تعالى أنه ينال بالمجاهدة والصبر فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه المكلف.
ب. الحث على الجهاد.
ج. حرص الصحابة(2) على الجهاد وتمني الموت، وذلك لحسن حالهم، ومنزلتهم عند الله.
8. سؤال وإشكال: كيف يحسن تمني الموت؟ والجواب:
أ. عند أبي علي يحسن؛ لأنه فعله تعالى عند وقوع القتل، ولا يكون إلا حسنًا، فأما تمني قتلهم فلا يحسن لأنه تمنى الكفر، وذلك يقبح.
ب. وقال غيره: إنما تمنوا مقدمات القتل، لا نفس القتل، فلذلك حسن، فأما تمني الشهادة فليس ذلك تمني القتل؛ لأنه قبيح، فإنما هو الصبر على الآلام والشدائد التي يحصل عندها القتل، ويحصل بها الثواب، وتحمل المشاق والخوف والخطر، وكل ذلك حسن.
9. القراءة الظاهرة ﴿وَيَعْلَمُ﴾ بفتح الميم، وعن الحسن بكسرها، أما النصب فلأنه جواب لما، كما ينصب جواب الفاء والواو، ونصبه بضمير ﴿أَنْ﴾ تقديره: وأن يعلم، وقيل: نصبه على الظرف على العطف؛ إذ ليس المعنى على نفي الثاني والأول، وإنما هو على نفي اجتماع الثاني والأول، كقول الشاعر:.
çلا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأتِي مِثْلَهُ... عَارٌ عَلَيكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُé
وأما الكسر فعلى العطف على أول الكلام، و﴿يَعْلَمُ﴾ مجزوم بـ ﴿لَمًّا﴾، إلا أن الميم حركت لاجتماع الساكنين، وقد رَفَعَ بعضهم و﴿يَعْلَمُ﴾ على الابتداء.
10. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿أَمِ﴾ استفهام، والمراد الإنكار أي لا تحسبوا ذلك، و﴿لَمًّا﴾ جواب لقول القائل: قد يفعل فلان، فجوابه: لما يفعل، وإذا قال: فعل، فجوابه: لم يفعل، وإذا قال: قد فعل، فجوابه: ما فعل، وإذا قال: يفعل، فجوابه: لن يفعل ولا يفعل.
ب. الكناية في ﴿تَلْقَوْهُ﴾ و﴿رَأَيْتُمُوهُ﴾ راجعة إلى الموت، وقيل: إلى الجهاد.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/398
(2) أي المنتجبين الثابتين، لا كل الصحابة، كما يذكر ذلك القرآن الكريم
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الفرق بين التمني والإرادة أن الإرادة من أفعال القلوب، والتمني: قول القائل ليت كان كذا، أو ليت لم يكن، وقيل: إن التمني معنى في القلب يطابق هذا القول، والصحيح هو الأول.
2. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ﴾ يا أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ أي: تتمنون الموت، فحذف إحدى التائين للتخفيف، وذلك أن قوما ممن فاتهم شهود بدر، كانوا يتمنون الموت بالشهادة بعد بدر، قبل أحد، فلما رأوه يوم أحد أعرض كثير منهم عنه، فانهزموا، فعاتبهم الله على ذلك، عن الحسن ومجاهد والربيع وقتادة والسدي.
3. اختلف في الهاء في قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾:
أ. قيل: الهاء في تلقوه ورأيتموه راجعة إلى الموت أي: من قبل أن تلقوا أسباب الموت، وهو الحرب فقد رأيتموها لأن الموت لا يرى، ونحو ذلك قول الشاعر: (والموت تحت لواء آل محلم) أي: أسباب الموت.
ب. وقيل: الهاء راجعة إلى الجهاد.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾:
أ. قيل: إنه تأكيد للرؤية كما يقال: رأيته عيانا، فرأيته بعيني، وسمعته بأذني، لأن لا يتوهم رؤية القلب وسمع العلم.
ب. وقيل: معناه وأنتم تتأملون الحال في ذلك كيف هي، فعلى هذا يكون النظر بمعنى الفكر.
ج. وقيل: معناه وأنتم تنظرون إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وفيه حذف أي: فلم انهزمتم لأنه موضع عتاب.
5. سؤال وإشكال: كيف يتمنى قتل المشركين لهم لينالوا منزلة الشهادة؟ وهل يجوز ذلك؟ والجواب: ذلك لا يجوز، لأن قتل المشركين لهم معصية، ولا يجوز تمني المعاصي، كما لا يجوز إرادتها، ولا الأمر بها، فإذا ثبت ذلك فإنما تمنوا الشهادة بالصبر على الجهاد، إلى أن يقتلوا.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/847.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ قال ابن عباس: لمّا أخبرهم الله تعالى على لسان نبيّه ، بما فعل بشهداء يوم بدر من الكرامة، رغبوا في ذلك، فتمنّوا قتالا يستشهدون فيه، فيلحقون بإخوانهم، فأراهم الله يوم أحد، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم، فنزل فيهم ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ يعني القتال ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ أي: من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ يومئذ، قال الفرّاء، وابن قتيبة: أي: رأيتم أسبابه، وهي السّيف ونحوه من السّلاح.
2. في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: تنظرون إلى السّيوف، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: أنه ذكر للتوكيد، قاله الأخفش، وقال الزجّاج: معناه: فقد رأيتموه، وأنتم بصراء، كما تقول: رأيت كذا وكذا، وليس في عينك علّة، أي: رأيته رؤية حقيقية.
ج. الثالث: أن معناه: وأنتم تنظرون ما تمنّيتم، وفي الآية إضمار، أي: فقد رأيتموه فلم انهزمتم!؟
__________
(1) زاد المسير: 1/330.
الرَّازي:
لم يذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) تفسيرا لهذا المقطع.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ أي الشهادة من قبل أن تلقوه، وقرأ الأعمش (من قبل أن تلاقوه) أي من قبل القتل، وقيل: من قبل أن تلقوا أسباب الموت وذلك أن كثيرا ممن لم يحضروا بدرا كانوا يتمنون يوما يكون فيه قتال، فلما كان يوم أحد انهزموا، وكان منهم من تجلد حتى قتل، ومنهم أنس بن النضر عم أنس بن مالك، فإنه قال لما انكشف المسلمون: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وباشر القتال وقال: إيها إنها ريح الجنة! إني لأجدها، ومضى حتى استشهد، قال أنس: فما عرفناه إلا ببنانه ووجدنا فيه بضعا وثمانين جراحة، وفيه أمثاله نزل ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب]
2. الآية عتاب في حق من انهزم، لا سيما وكان منهم حمل للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على الخروج من المدينة، وسيأتي، وتمني الموت يرجع من المسلمين إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد، لا إلى قتل الكفار لهم، لأنه معصية وكفر ولا يجوز إرادة المعصية، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة، فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدى إلى القتل.
3. ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ قال الأخفش: هو تكرير بمعنى التأكيد لقوله: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ مثل ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الانعام]، وقيل: معناه وأنتم بصراء ليس في أعينكم علل، كما تقول: قد رأيت كذا وكذا وليس في عينيك علة، أي فقد رأيته رؤية حقيقة، وهذا راجع إلى معنى التوكيد، وقال بعضهم: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ إلى محمد ، وفي الآية إضمار، أي فقد رأيتموه وأنتم تنظرون فلم انهزمتم؟
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/221.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ هو خطاب لمن كان يتمنى القتال والشهادة في سبيل الله ممن لم يحضر يوم بدر، فإنهم كانوا يتمنون يوما يكون فيه قتال، فلما كان يوم أحد انهزموا مع أنهم الذين ألحوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخروج، ولم يصبر منهم إلا نفر يسير، مثل أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك.
2. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ أي: القتال أو الشهادة التي هي سبب الموت، وقرأ الأعمش (من قبل أن تلاقوه) وقد ورد النهي عن تمني الموت، فلا بد من حمله هنا على الشهادة، قال القرطبي: وتمني الموت من المسلمين يرجع إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد لا إلى قتل الكفار لهم، لأنه معصية وكفر، ولا يجوز إرادة المعصية، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة، فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدّى إلى القتل.
3. ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أي: القتال أو ما هو سبب للموت، ومحل قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ النصب على الحال، وقيد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما: للمبالغة، أي: قد رأيتموه معاينين له حين قتل من قتل منكم، قال الأخفش: إن التكرير بمعنى التأكيد، مثل قوله: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ وقيل: معناه: بصراء ليس في أعينكم علل؛ وقيل: معناه: وأنتم تنظرون إلى محمد .
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/442.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ تتمنَّون لقاء الموت، أي: الحرب، سمَّاها موتا لأنَّها سببه، أو الموت بالشهادة، والخطاب للذين لم يشهدوا بدرا، وتمنَّوا أن يشهدوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حربا لينالوا ما نال شهداء بدر، وألحُّوا في الخروج إلى أحد مع كراهة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للخروج كما مرَّ، وليس في ذلك إعانة أهل الشرك؛ لأنَّ القصد نيل الثواب لا غلبتهم، مع أَنَّ موت بعض قليل ليس غلبة، وقد تمنَّى عبد الله بن رواحة أن يموت شهيدا ولم ينهه رسول الله ، وأيضا كلُّ من تمنَّى أن يموت شهيدا يحبُّ أن ينصر الله تعالى دينه ويحفظ أهله.
2. ﴿مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ﴾ تشاهدوا شدَّته، ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أي: شاهدتم الموت في أصحابكم، أو شاهدتم الحرب بسيوفها ورماحها من عدوِّكم، وجبنتم وانهزمتم، مع أنَّكم السبب في تهييجها، ولم تصدُقوا في دعواكم، ولا سيما مجرَّد تمنِّي الشهادة، فإنَّه لا يجوز؛ لأنَّ فيها غلبة الكفرة، بل يسأل الإنسان الظفر على العدوِّ والنجاة لنفع الإسلام بعدُ، فإن قتل فشهادةٌ رُزِقَها يصبر لها؛ فالآية توبيخ لهم على ما ذكر وعلى الإلحاح، ومقتضى الظاهر: فقد لقيتموه، لكن ذكر الرؤية تلويحا بأنَّهم كمن رآه وهاب ولم يدخله، أو للمبالغة في أنَّهم شاهدوه.
3. ﴿وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾ حال مؤكِّدة لـ (رَأَيْتُمُوهُ) مبيِّنة أنَّ الرؤية بصريَّة كقولك: (رأيته وليس في عيني علَّة)، أو الرؤية علميَّة والنظر بصريٌّ، أو تنظرون محمَّدا ، أو تتأمَّلون كيف الحرب، فالجملة حال مؤسِّسة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/17.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وبخهم الله تعالى على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ويودون لقاءه، فقال: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ أي الحرب، فإنها من مبادئه، أو الموت على الشهادة ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ أي تشاهدوه وتعرفوا هوله ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أي ما تتمنونه من أسباب الموت، أو الموت بشاهدة أسبابه العادية، أو قتل إخوانكم بين أيديكم ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ حال من ضمير المخاطبين، وفي إيثار الرؤية على الملاقاة، وتقييدها بالنظر، مبالغة في مشاهدتهم له.
2. قال ابن عباس: لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة، رغبوا في الشهادة، فتمنوا قتالا يشهدون فيه فيلحقون إخوانهم، فأراهم الله ذلك يوم أحد، وسببه لهم، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم، فأنزل الله تعالى ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ﴾ الآية، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لا تتمنوا لقاء العدوّ، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/421.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعدما بيّن تعالى للمؤمنين أن الفوز والظفر في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة لا يكونان إلا بالأماني والغرور؛ ولا ينالان بالمحاباة والكيل والجزاف، بل الجهاد ومكافحة الأيام، ومصابرة الشدائد والأهوال، واتباع سنن الله في هذا العالم ـ وبعدما بين لهم أن دعوى الإيمان ودعوى الجهاد والصبر لا يترتب عليهما الجزاء بالنصر ودخول الجنة وإنما يترتب ذلك على تحققهما بحسب علم الله المطابق للواقع لا بحسب ظن الناس وشعورهم ـ بعد هذا وذاك أرشدهم إلى أمر واقع يظهر لهم به تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وقوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ وطريق الجمع بينه وبين شعورهم واعتقادهم ذلك أنهم لم يقصروا في الجهاد والصبر فيتعلمون كيف يحاسبون أنفسهم ولا يتغرون بشعورهم وخواطره فقال: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾
2. الخطاب لجماعة المسلمين الذين شهدوا وقعة أحد، وقد ذكرنا في تلخيص القصة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يرى أنه لا يخرج للمشركين بل يستعد لمدافعتهم في المدينة، وكان على هذا الرأي جماعة من كبراء الصحابة وبه صرح عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم المنافقين وأن أكثر الصحابة أشاروا بالخروج إلى أحد حيث عسكر المشركون ومناجزتهم هناك وأن الشبان ومن لم يشهد بدرا كانوا يلحون في الخروج، لهذا قال مجاهد: إن هذه الآية عتاب لرجال غابوا عن بدر فكانوا يتمنون مثل يوم بدر أن يلقوه فيصيبوا من الخير والأجر مثل ما أصاب أهل بدر، فلما كان يوم أحد ولي منهم من ولي فعاتبهم الله، وروي نحو ذلك عن غيره منهم الربيع والسدي، وروي عن الحسن أنه قال: بلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا يقولون: لئن لقينا العدو مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لنفعلن ولنفعلن، فابتلوا بذلك فلا والله ما كلهم صدق، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ فأطلق الحسن ولم يخص من لم يشهد بدرا وهو الصواب، فإن الذين كانوا يتمنون القتال كثيرون.
3. هذه أظهرت للمؤمنين تأويل قوله تعالى في إيمانهم وجهادهم وصبرهم، وعلَّمتْهم كيف يحاسبون أنفسهم ويمتحنون قلوبهم، وبيان ذلك أنهم تمنوا القتال أو الموت في القتال لينالوا مرتبة الشهادة، وقد أثبت الله لهم هذا التمني وأكده بقوله: ﴿وَلَقَدْ﴾ فلم يكن ذلك منهم دعوى قولية ولا صورة في الذهن خيالية بل كان حقيقة واقعة في النفس ولكنها زالت عند مجيء دور الفعل، وهذه مرتبة من مراتب النفس في شعورها وعرفانها هي دون مرتبة الكمال الذي يصدقه العمل وفوق مرتبة التصور والتخيل مع الانصراف عن تمني العمل بمقتضاه أو مع كراهته والهرب منه ـ كما يتوهم بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه ولكنه يهرب من كل طريق يخشى أن يطالب فيه بعمل يأتيه لأجلهما، أو مال يعاون به العاملين لهما، أو يكون خالي الذهن من الفكر في العمل أو البذل لإعلاء شأن هذا المحبوب أو كف العدوان أو الشر عنه، فهاتان مرتبتان دون مرتبة من يتصور أنه يحب ملته ووطنه ويفكر في خدمتهما ويتمنى لو يُتاح له ذلك، حتى إذا احتيج إلى خدمته التي كان يفكر فيها ويتمناها وجد من نفسه الضعف، فأعرض عن العمل قبل الشروع أو بعد أن ذاق مرارته وكابد مشقته، وإنما المطلوب في الإيمان ما هو أعلى من هذه المرتبة، المطلوب فيه مرتبة اليقين والإذعان النفسي التي من مقتضاها العمل مهما كان شاقا والجهاد مهما كان عسرا والصبر على المكاره وإيثار الحق على الباطل، وقد تقدم في تفسير ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ وتفسير ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ﴾ من الآيتين السابقتين أمثلة تزيد المبحث وضوحا.
4. كان في مجموع المخاطبين بالآية عند نزولها من هم في المرتبة العليا، وأولئك هم المجاهدون الصابرون الذين ثبتوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ثبات الجبال لا ثبات الأبطال، وهم نحو ثلاثين رجلا، وقد ذكرنا أسماء بعضهم في تلخيص القصة، وإنما جعل الخطاب عاما ليكون تربية عامة، فإن أصحاب المراتب العلية يتهمون نفسهم بالتفصير فيزدادون كمالا.
5. هذه الآية تنبه كل مؤمن إلى اتقاء الغرور بحديث النفس والتمني والتشهي وتهديه إلى امتحان نفسه بالعمل الشاق، وعدم الثقة بما دون الجهاد والصبر على المكاره في سبيل الحق، حتى يأمن الدعوى الخادعة، بلْهَ الدعوى الباطلة، وإنما الخادعة أن تدعي ما تتوهم أنك صادق فيه، مع الغفلة أو الجهل بعجزك عنه، والباطلة لا تخفى عليك، وإنما تظن أنها تخفى على سواك.
6. أشرنا إلى أن الظاهر من تمني الموت هو تمني الشهادة في سبيل الله وقول بعضهم أن المراد بالموت الحرب لأنها سببه ـ وعد بعضهم تمني الشهادة المأثور عن كثير من الصحابة مشكلا، لأنه يستلزم انتصار الكفار على المشركين، ولا إشكال إلا في مخ من اخترع هذه العبارة، فإن الذي يتمنى الشهادة في سبيل الله لا يلقي بنفسه إلى التهلكة ولا يقصر في الدفاع والصدام حتى يقال إنه مكن الأعداء منه ومهد لهم سبيل الظفر بالمؤمنين، وإنما يكون أقوى جهادا وأشد جلادا وأجدر بأن ينصر قومه ويخذل من يحاربهم، ثم إنه لا يقصد لازم الموت والشهادة من نقص عدد المسلمين أو ضعفهم، على أن هذا اللازم إنما يتبع استشهاد الكثير أو الأكثر منهم ومن يتمن الشهادة فإنما يتمناها لنفسه دون العدد الكثير من قومه.
7. قال محمد عبده: إن تمني الشهادة الذي وقع ليس تمنيا مطلقا، وإنما هو تمني من يقال لنصرة الحق أن تذهب نفسه دونه، فإذا هو وصل إلى ما ينبغي من نصرة الحق وإعزازه بانهزام أهل الباطل وخذلانهم فبها ونعمت، وإلا فضل الموت في سبيل إعزاز الحق ورآه خيرا من البقاء من إذلاله وغلبة الباطل عليه، وقال: إن الخطاب لمن سبق لهم تمني الموت بعد أن فاته حضور وقعة بدر أو الشهادة فيها لبعض من حضرها، ثم جاءت وقعة أحد فكان منهم من انكسرت نفسه في أثناء الواقعة ووهن عزمه، ومنهم وهن وضعف بعدها عندما ندبهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى اتباع المشركين معه في حمراء الأسد، كأنه يقول: يا سبحان الله لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم في الحرب، فها أنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه وأنتم تنظرون إليه لا تغفلون عنه فما بالكم دهشتم، عندما وقع الموت فيكم؟ وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون؟ ومن تمنى الشيء وسعى إليه؛ لا ينبغي أن يحزنه لقاؤه ويسوءه، فقوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ للتأكيد، لأن الإنسان يرى الشيء أحيانا ولكنه لانشغاله عنه ربما لا يتبينه فأراد أن يقول إنكم قد رأيتموه رؤية كان لها الأثر الثابت في نفوسكم، لا رؤية من قبيل لمح الشيء مع الغفلة عنه وعدم المبالاة به، قال: وقال بعض المفسرين إن الجملة مستأنفة أي أبصرتموه وأنتم الآن تنظرون وتتأملون فيما رأيتموه وتفكرون في علاقته بشؤونكم، والذي يظهر هو صحة التأويل الأول، يعني أنها مؤكدة.. وقد جرى صاحب الكشاف والبيضاوي وأبو السعود على أنها حالية وأن معناه رأيتم الموت ناظرين إلى وقوعه بكم، واغتياله لإخوانكم متوقعين أن يحل بكم ما حل بهم، وقال جماعة وهو توبيخ لهم على تمنيهم الموت وإلحاحهم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخروج إلى الحرب، ونقول: إنه تذكير لمن انهزم وعصى منهم بأن ما سبق من تمنيهم الموت لم يكن عن رسوخ ويقين وتفضيل للشهادة ولقاء الله على الحياة وإنما كان فيه شائبة من الغرور والزهو وإرشاد وتوبيخ لهم ولأمثالهم إلى أن يحاسبوا أنفسهم ويطالبوها بالكمال الذي تأتي فيه الأعمال مصدقة لخواطر النفس وتمنياتها كما تقدم شرحه.
__________
(1) تفسير المنار: 4/157.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ هذا خطاب لمن شهد من المسلمين وقعة أحد، ذاك أن كثيرا من الصحابة وبعضهم لم يشهد بدرا ـ كانوا يلحّون في الخروج إلى أحد حيث عسكر المشركون ليكون لهم يوم كيوم بدر، ويتمنون أن يلقوا الأعداء ويصيبوا من الخير مثل ما أصاب أهل بدر، فلما كان يوم أحد ولّى منهم من ولّى فعاتبهم الله على ذلك، روى عن الحسن أنه قال بلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا يقولون: لئن لقينا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لنفعلنّ ولنفعلنّ فابتلوا بذلك، فلا والله ما كلّهم صدق فأنزل الله عزّ وجل ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ الآية.
2. معنى قوله: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ ـ أنكم شاهدتم أسبابه من ملاقاة الشجعان بعدّتهم وأسلحتهم وكرّهم وفرهم، مشاهدة لا خفاء فيها ولا شبهة، وكان لها الأثر العميق في نفوسكم، ومعنى تمنى الموت تمنى الشهادة في سبيل الله والقتال لنصرة الحق ولو ذهبت نفوسكم دونه.
3. صفوة القول: لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم في الميدان، فها أنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه، وأنتم تنظرون إليه لا تغفلون عنه، فما بالكم دهشتم عندما وقع الموت فيكم، وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون، ومن تمنى الشيء وسعى إليه لا ينبغي أن يحزنه لقاؤه ويسوءه.
4. في الآية الكريمة تنبيه لكل مؤمن إلى اتقاء الغرور بحديث النفس والتمني والتشهي، وهديه إلى اختبار نفسه بالعمل الشق وعدم الثقة منها بما دون الجهاد والصبر على المكاره في سبيل الحق، حتى يأمن الدعوى الخادعة التي يتوهم فيها أنه صادق فيما يدّعى مع الغفلة أو الجهل بعجزه عنه، وكثيرا ما يتصور بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه ويفكر في خدمتهما ويتمنى لو يتاح له أن يساهم في تلك الخدمة بنفسه أو بماله، حتى إذا احتيج إليه وجد من نفسه الضعف، فأعرض عن العمل قبل الشروع، أو بعد أن ذاق مرارته وكابد مشقته، ولكن المؤمن حقا من وصل الأمر به إلى حد اليقين فيما يعتقد أنه حق، وذلك يستدعى العمل مهما كان شاقا، والجهاد مهما كان عسيرا، والصبر على المكاره، وإيثار الحق على الباطل.
5. كان فيمن خوطبوا بهذه الآية جماعة ممن كانوا في المرتبة العليا من صدق الجهاد والصبر على المكاره، وأولئك هم المجاهدون الذين ثبتوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ثبات الجبال الراسيات، وهم نحو ثلاثين رجلا، لكنه جعل الخطاب عاما ليكون الإرشاد والنصح عاما للجميع، فيتهم ذو المراتب العالية أنفسهم بالتقصير، فيزدادوا كمالا على كمالهم، ويرعوى المقصرون وينزعوا عن خداع أنفسهم لهم، وهذا من التمحيص العظيم الذي له أجمل العواقب في تهذيب الأنفس، وقد ظهر أثر ذلك في نفوس أولئك القوم فيما بعد، وربّاهم تربية كانت بها عزائمهم ماضية، وهممهم صادقة، فلم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا فيما حاولوه من جسيم الأمور.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/86.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة، وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه، ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان، ووزن الحقيقة يواجهها في العيان، فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها ألسنتهم، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم، على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم! وبذلك يقدرون قيمة الكلمة، وقيمة الأمنية، وقيمة الوعد، في ضوء الواقع الثقيل!
2. ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة، والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة، إنما هو تحقيق الكلمة، وتجسيم الأمنية، والجهاد الحقيقي، والصبر على المعاناة، حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس! ولقد كان الله سبحانه قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى، وبلا كد من المؤمنين ولا عناء، وكان قادرا أن ينزل الملائكة تقاتل معهم ـ أو بدونهم ـ وتدمر على المشركين، كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط، ولكن المسألة ليست هي النصر.. إنما هي تربية الجماعة المسلمة، التي تعد لتتسلم قيادة البشرية.. البشرية بكل ضعفها ونقصها؛ وبكل شهواتها ونزواتها؛ وبكل جاهليتها وانحرافها.. وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة، وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق، وثبات على الحق، وصبر على المعاناة، ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف، ووسائل العلاج، ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة، وصبر على الشدة بعد الرخاء، وطعمها يومئذ لاذع مرير!.
3. وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة، ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق، الذي ينوطه بها في هذه الأرض، وقد شاء سبحانه أن يجعل هذا الدور من نصيب (الإنسان) الذي استخلفه في هذا الملك العريض!
4. وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه، بشتى الأسباب والوسائل، وشتى الملابسات والوقائع.. يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة، فتستبشر، وترتفع ثقتها بنفسها ـ في ظل العون الإلهي ـ وتجرب لذة النصر، وتصبر على نشوئه، وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء، وعلى التزام التواضع والشكر لله.. ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة، فتلجأ إلى الله، وتعرف حقيقة قوتها الذاتية، وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله، وتجرب مرارة الهزيمة؛ وتستعلي مع ذلك على الباطل، بما عندها من الحق المجرد؛ وتعرف مواضع نقصها وضعفها، ومداخل شهواتها، ومزالق أقدامها؛ فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة.. وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد.. ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد، وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد؛ الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسلمة ـ على نحو ما نرى في هذه الآيات ـ وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/484.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ هو عتاب رقيق للمؤمنين الذين شهدوا القتال في أحد، ثم تحوّل بعضهم عن موقف الموت، إلى حيث السلامة وجمع الغنائم، بعد أن لاحت بوارق النصر للمؤمنين، كما أن كثيرا منهم ترك القتال بعد أن بانت الهزيمة في جانب المسلمين، فلقد كان كثير من المسلمين الذين شهدوا أحدا، ولم يكونوا قد شهدوا بدرا ـ كانوا يأسفون على أن فاتهم حظّهم من الجهاد في معركة بدر، وتعرضهم للاستشهاد في سبيل الله.. فخرجوا إلى أحد على نية الاستشهاد.. فلما كان من هؤلاء وهؤلاء، ما كان في أحد، من إقبال على الغنائم، أو فرار من المعركة ـ كان هذا العتاب الرقيق من الله سبحانه وتعالى لهم، ليذكّرهم بأنهم قالوا ولم يفعلوا، وهذا موقف لا يرضاه الله لهم، إذ يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾
2. في قوله تعالى: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ تأسيف وتنديم، لأولئك الذين فاتهم الاستشهاد في (أحد) وأنهم قد ضنوا بأنفسهم عن هذا المقام الكريم، حتى لقد اكتفوا بأن يروا الموت في غيرهم وهم ينظرون إليه من بعيد!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/605.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز، ليكون جامعا بين الموعظة، والمعذرة، والملام، والواو عاطفة أو حالية.
2. الخطاب للأحياء، لا محالة، الّذين لم يذوقوا الموت، ولم ينالوا الشهادة، والّذين كان حظّهم في ذلك اليوم هو الهزيمة، فقوله: ﴿كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ أريد به تمنّي لقاء العدوّ يوم أحد، وعدم رضاهم بأن يتحصّنوا بالمدينة، ويقفوا موقف الدّفاع، كما أشار به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكنّهم أظهروا الشجاعة وحبّ اللّقاء، ولو كان فيه الموت، نظرا لقوة العدوّ وكثرته، فالتمنّي هو تمنّي اللّقاء ونصر الدّين بأقصى جهدهم، ولمّا كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كلّ واحد منهم بتلف نفسه في الدّفاع، رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدوّ، وهيّأالنّصر لمن بقي بعده، جعل تمنّيهم اللّقاء كأنّه تمنّي الموت من أوّل الأمر، تنزيلا لغاية التمنّي منزلة مبدئه.
3. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ تعريض بأنّهم تمنّوا أمرا مع الإغضاء عن شدّته عليهم، فتمنّيهم إيّاه كتمنّي شيء قد جهلوا ما فيه من المصائب.
4. ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أي رأيتم الموت، ومعنى رؤيته مشاهدة أسبابه المحقّقة، الّتي رؤيتها كمشاهدة الموت، فيجوز أن يكون قوله: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ تمثيلا، ويجوز أن تطلق الرؤية على شدّة التوقّع، كإطلاق الشمّ على ذلك في قول الحارث بن هشام المخزومي:
çوشممت ريح الموت من تلقائهم...في مأزق والخيل لم تتبدّدé
وكإطلاقه في قول ابن معد يكرب يوم القادسية: فضمّني ضمّة وجدت منها ريح الموت.
5. الفاء في قوله تعالى: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ فاء الفصيحة عن قوله: ﴿كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ﴾ والتقدير: وأجبتم إلى ما تمنّيتم فقد رأيتموه، أو التقدير: فإن كان تمنّيكم حقّا فقد رأيتموه، والمعنى: فأين بلاء من يتمنّى الموت، كقول عباس بن الأحنف:
çقالوا خراسان أقصى ما يراد بنا...ثمّ القفول فقد جئنا خراساناé
ومنه قوله تعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ﴾ [الفرقان: 19] وقوله في سورة الروم [56]: ﴿فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ﴾
6. جملة ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ حال مؤكّدة لمعنى ﴿رَأَيْتُمُوهُ﴾، أو هو تفريع أي: رأيتم الموت وكان حظّكم من ذلك النظر، دون الغناء في وقت الخطر، فأنتم مبهوتون، ومحلّ الموعظة من الآية: أنّ المرء لا يطلب أمرا حتّى يفكّر في عواقبه، ويسبر مقدار تحمّله لمصائبه، ومحلّ المعذرة في قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ وقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ وقوله: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ ومحلّ الملام في قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾
7. يحتمل أن يكون قوله تعالى: ﴿تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ بمعنى تتمنّون موت الشهادة في سبيل الله فقد رأيتم مشارفة الموت إياكم، وأنتم تنظرون من مات من إخوانكم، أي فكيف وجدتم أنفسكم حين رأيتم الموت، وكأنّه تعريض بهم بأنّهم ليسوا بمقام من يتمنّى الشهادة، إذ قد جبنوا وقت الحاجة، وخفّوا إلى الغنيمة، فالكلام ملام محض على هذا، وليس تمنّي الشهادة بملوم عليه، ولكن اللّوم على تمنّي ما لا يستطيع كما قيل: (إذ لم تستطع شيئا فدعه)، كيف وقد قال رسول الله : (ولوددت أنّي أقتل في سبيل الله، ثمّ أحيا ثمّ أقتل ثمّ أحيا، ثمّ أقتل)، وقال ابن رواحة:
çلكنّني أسأل الرّحمن مغفرة...وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
حتّى يقولوا إذا مرّوا على جدثي...أرشدك الله من غاز وقد رشداé
وعلى هذا الاحتمال فالضّمير راجع إلى الموت، بمعنى أسبابه، تنزيلا لرؤية أسبابه منزلة رؤيته، وهو كالاستخدام، وعندي أنّه أقرب من الاستخدام لأنّه عاد إلى أسباب الموت باعتبار تنزيلها منزلة الموت.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/236.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أشار سبحانه وتعالى إلى أن المؤمن الصادق الإيمان يعرف طريق الجنة، وأن الموت في سبيلها هو شكر لنعمة الله تعالى فيما أنعم في الحياة الدنيا، وفيما ينعم في الجنات في الحياة الآخرة، وإن الذين قاتلوا في غزوة أحد الذين سيقت لهم هذه العبر يعلمون ذلك ويعرفونه ويؤمنون به، وينفذونه، ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾
2. كان المؤمنون يتمنون الموت حقا وصدقا، وصدق الله العظيم، ذلك أنهم كانوا يتشرقون للشهادة ويريدونها ويطلبون أسبابها، وفي غزوة أحد بالذات ما كان للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رأى في الخروج من المدينة، ولكن شباب المجاهدين أرادوا اللقاء خارجها، فنزل صلّى الله عليه وآله وسلّم على حكم الشورى وقادهم، وما كانوا يريدون عرضا من أعراض الدنيا، ولا غاية لهم إلا أن ينالوا إحدى الحسنيين الظفر أو الشهادة، وفي كلتيهما إعلاء كلمة الحق، وخفض كلمة الباطل.
3. معنى تمنى الموت: تمنى لقاء سببه وهو الحرب، وكأن الله سبحانه وتعالى ينبههم إلى أنهم بتمنيهم لقاء الأعداء في الميدان يجب أن يفرضوا أن الموت ينالهم كما أن الحياة العليا قد ينالونها، فكان عليهم أن يتوقعوا الموت عند تمنى اللقاء، وأن يعلموا أن تمنيهم للقاء هو في ذاته تمن للموت، وأن تمنى الموت هو سبيل النصر وطريق الظفر، فإن الشجاع هو الذي يدخل الميدان طالبا الشهادة، فإنه لا يموت إلا إذا قتل عددا، ولقد وصف فارس الإسلام علي بأنه كان إذا تقدم إلى الميدان لا يدرى أيقع على الموت أم يقع الموت عليه، فكان يقع على الموت يصيب به أعداء الله وأعداءه.
4. سؤال وإشكال: كيف يتمنى المؤمنون الموت، وفي الموت غلبة ونصرة للأعداء فكأنهم يتمنون ذلك النصر لأعدائهم، والجواب:
أ. أجاب الزمخشري في الكشاف عن ذلك بأنهم يتمنون فضل الشهادة من غير نظر إلى ما يجره ذلك على الأعداء من ظفر.
ب. ونحن نجيب جوابا آخر، وهو أن تمنى الموت هو تمنى الحرب في سبيل نصرة الله، ومن دخل الحرب متمنيا الموت فإنه لا يترتب على قتله نصر للأعداء بل يترتب عليه هزيمة لهم، كما أشرنا قريبا، وقد كان السبيل الحق إلى النصر أن يدخل المجاهدون غير حريصين على حياتهم، إنما يحرصون على النصر، ولو كان يموت آحاد منهم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان كل واحد لا يحرص على الحياة، ولكن يطلب الموت، وإنّ طلب الموت يؤدى إلى الحياة، وإن الحرص على الحياة يؤدى إلى الجبن، والجبن يؤدى إلى الهزيمة، وإن المجاهد الذي يستحق شرف هذا الاسم يتقدم مريدا عزة الحق، وقابلا الموت، بل يتمناه ليكون شهيدا، وإذا وقع يكون أمرا قد توقعه، ومن بقى من بعد عليهم أن يجددوا العزيمة، ويعيدوا الكرة عليهم، ولذا عتب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين إذ أصابهم الغم عندما اشتدت شديدة الحرب عليهم فأصابهم ما أصابهم بل أمرهم أن يثبوا مرة أخرى، وإذا كانوا قد تمنوا الموت، فقد وقع لبعض منهم ما تمنوا، ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾
5. ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ الفاء هنا للإفصاح، فهي تفصح عن شرط مقدر دل عليه صدر الكلام، ومعناه: إذا كنتم تمنيتم الموت فقد رأيتموه رأى العين وشاهدتموه، فوقع ما توقعتم، وقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ تأكيد لحال الرؤية أو تصوير لرؤيتهم؛ لأن الجملة حالية والتعبير بالمضارع يفيد التصوير، وإحضار الصورة الواقعة في الماضي كأنها واقعة في الحاضر، فيستحضرها العقل كما وقعت، وكما ظهرت في الوجود.
6. النظر الذي قرره سبحانه بقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ يتضمن:
أ. النظر إلى الموقعة كلها، وكيف كان الانتصار في ابتداء الأمر عند الطاعة، ثم كيف كان الانهزام عند المخالفة إرادة عرض الدنيا من بعضهم كما قال تعالى: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران]
ب. ويتضمن النظر بعد وقوع الانهزام كيف تفرقت الإرادات، وقد كانت إرادة واحدة، وكيف تضعضعت بعض الهمم، وكيف كثرت الظنون، وكيف أصابكم الغم، ولم تفكروا في إعادة الوثبة، ولذلك كان قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ متضمنا تأكيد الرؤية ومصورا لها، ومتضمنا مع ذلك العتب أو اللوم؛ لأن حالهم لم تكن متفقة مع ما كانوا يتوقعونه من قبل، إذ إن حالهم من بعد انتهاء الموقعة تفيد أنهم كانوا يريدون النصر رخاء سهلا من غير عقبة تحول يجب تذليلها، ومن غير شدة عنيفة يجب الصبر عليها.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1430.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الخطاب لبعض أصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الذين كانوا يتمنون الفوز بالشهادة قبل وقعة أحد، ولما جد الجد جبنوا وانهزموا، وأسلموا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأعدائه وأعدائهم.. وفي بعض الروايات ان رجالا من الأصحاب كانوا يقولون: لئن شهدنا حربا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لنفعلن ونفعلن، فلما ابتلوا بذلك لم يفوا بالعهد، فأنزل الله فيهم: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾، والمراد برؤية الموت رؤية أسبابه من مبارزة الأبطال.. وقد وبخهم الله بهذه الآية لمخالفة أقوالهم لأفعالهم.
2. لكل انسان ظروفه وبيئته الخاصة، وهذه الظروف هي التي تهيمن على أخلاقه وأفكاره ـ في الغالب ـ فالضعيف مثلا يستقبح الظلم أكثر من القوي، ومن تربى في بيئة تعبد الأوثان لا يرى بأسا في تقديسها.. اللهم إلا إذا كان إنسانا فوق المعتاد كمحمد بن عبد الله، فإنه كان بفطرته يرفض كل قبيح من عادات قومه، وقد تتغير ظروف الإنسان، فيصبح غنيا بعد أن كان فقيرا، أو بالعكس فتتغير تبعا لها أخلاقه وأفكاره، فالذات تبقى على صفاتها، ما لم تتغير ظروفها الاجتماعية، فإذا تغيرت صفات الذات ـ في الأعم الأغلب ـ وقد شاهدنا رجالا كانوا ينتقدون الأغنياء والرؤساء، وهم فقراء مرؤوسون، حتى إذا نالوا نصيبا من المال والجاه نقضوا العهد، وأصبحوا أسوأ حالا ممن نقموا عليه بالأمس.
3. أكد القرآن الكريم هذه النظرية بقوله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ الآية، وبالآية 74 من التوبة: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾
4. العاقل المجرب يتهم نفسه، ولا يؤكد كل ما يعرض لها من خطرات وتصورات خشية أن تكون سرابا يذهب مع الريح، كما ان المؤمن حقا وواقعا يبقى ثابت الايمان في السراء والضراء تنطبق أقواله على أفعاله في جميع الحالات، ويتجه بها جميعا إلى الله وحده، مهما تكن الظروف والنتائج، وقد جاء في تفسير الآية 98 الانعام: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ روايات تقول: ان المستقر هو الايمان الثابت، والمستودع هو الايمان المعار.. ولا شيء أدل على الايمان المستقر الثابت من انسجام الأقوال مع الأفعال، وعلى الإيمان الزائف من تناقض الأقوال للأفعال.. ومن ثم كانت أقوال الأنبياء والأئمة الأطهار عين أفعالهم بالذات، وأفعال المنافقين أبعد ما تكون عن أقوالهم.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/168.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ الآية فيه تثبيت أن ظنهم ذاك كان فاسدا فإنهم كانوا يتمنون الموت قبل حضور الغزوة حتى إذا حضرت ورأوه رأي العين لم يقدموا ولم يتناولوا ما كانوا يتمنونه، بل فشلوا وتولوا عن القتال، فهل كان من الجائز أن يدخلوا الجنة بمجرد هذا التمني من غير أن يمتحنوا أو يمحصوا؟ أو لم يكن من الواجب أن يختبروا، وبهذا يظهر أن في الكلام تقديرا، والمعنى: فقد رأيتموه وأنتم تنظرون فلم تقدموا عليه، ويمكن أن يكون قوله: تنظرون كناية عن عدم إقدامهم أي تكتفون بمجرد النظر من غير إقدام، وفيه عتاب وتوبيخ.
2. لا ريب أن القرآن الكريم يخص أمر الهداية بالله سبحانه غير أن الهداية فيه لا تنحصر في الهداية الاختيارية إلى سعادة الآخرة أو الدنيا فقد قال تعالى فيما قال: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، فعمم الهداية لكل شيء من ذوي الشعور والعقل وغيرهم، وأطلقها أيضا من جهة الغاية، وقال أيضا: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾، والآية من جهة الإطلاق كسابقتها، ومن هنا يظهر أن هذه الهداية غير الهداية الخاصة التي تقابل الإضلال فإن الله سبحانه نفاها وأثبت مكانها الضلال في طوائف والهداية العامة لا تنفي عن شيء من خلقه، قال تعالى: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، وقال: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، وكذا يظهر أيضا أن الهداية المذكورة غير الهداية بمعنى إراءة الطريق العامة للمؤمن والكافر كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾، وقوله: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾، فإن ما في هاتين الآيتين ونظائرهما من الهداية لا يعم غير أرباب الشعور والعقل وقد عرفت أن ما في قوله: ﴿ثُمَّ هَدَى﴾ وقوله: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ عام من حيث المورد والغاية جميعا.
3. على أن الآية الثانية تفرع الهداية على التقدير، والهداية الخاصة لا تلائم التقدير الذي هو تهيئة الأسباب والعلل لسوق الشيء إلى غاية خلقته، وإن كانت تلك الهداية أيضا من جهة النظام العام في العالم داخلة في حيطة التقدير لكن النظر غير النظر فافهم ذلك، وكيف كان فهذه الهداية العامة هي هدايته تعالى كل شيء إلى كمال وجوده، وإيصاله إلى غاية خلقته، وهي التي بها نزوع كل شيء إلى ما يقتضيه قوام ذاته من نشوء واستكمال وأفعال وحركات وغير ذلك، وللكلام ذيل طويل سنشرحه إن ساعدنا التوفيق إن شاء الله العزيز.
4. الغرض أن كلامه تعالى يدل على أن الأشياء إنما تنساق إلى غاياتها وآجالها بهداية عامة إلهية لا يشذ عنها شاذ، وقد جعلها الله تعالى حقا لها على نفسه وهو لا يخلف الميعاد، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى﴾، والآية كما ترى تعم بإطلاقها الهداية الاجتماعية للمجتمعات والهداية الفردية مضافة إلى ما تدل عليه الآيتان السابقتان، فمن حق الأشياء على الله تعالى هدايتها تكوينا إلى كمالها المقدر لها وهدايتها إلى كمالها المشرع لها، وقد عرفت فيما مر من مباحث النبوة أن التشريع كيف يدخل في التكوين وكيف يحيط به القضاء والقدر فإن النوع الإنساني له نوع وجود لا يتم أمره إلا بسلسلة من الأفعال الاختيارية الإرادية التي لا تقع إلا عن اعتقادات نظرية وعملية فلا بد أن يعيش تحت قوانين حقة أو باطلة، جيدة أو ردية، فلا بد لسائق التكوين أن يهيئ له سلسلة من الأوامر والنواهي (الشريعة) وسلسلة أخرى من الحوادث الاجتماعية والفردية حتى يخرج بتلاقيه معهما ما في قوته إلى الفعل فيسعد أو يشقى ويظهر ما في مكمن وجوده، وعند ذلك ينطبق على هذه الحوادث وهذا التشريع اسم المحنة والبلاء ونحوهما.
5. توضيح ذلك أن من لم يتبع الدعوة الإلهية واستوجب لنفسه الشقاء فقد حقت عليه كلمة العذاب إن بقي على تلك الحال، فكل ما يستقبله من الحوادث المتعلقة بها الأوامر والنواهي الإلهية ويخرج بها من القوة إلى الفعل تتم له بذلك فعلية جديدة من الشقاء وإن كان راضيا بما عنده مغرورا بما يجده، فليس ذلك إلا مكرا إلهيا فإنه يشقيهم بعين ما يحسبونه سعادة لأنفسهم ويخيب سعيهم في ما يظنونه فوزا لأنفسهم، قال تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، وقال: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾، وقال: ﴿لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، وقال: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، فما يتبجح به المغرور الجاهل بأمر الله أنه سبق ربه في ما أراده منه بالمخالفة والتمرد فإنه يعينه على نفسه فيما أراده، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
6. من أعجب الآيات في هذا الباب قوله تعالى ﴿فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا﴾ فجميع هذه المماكرات والمخالفات والمظالم والتعديات التي تظهر من هؤلاء بالنسبة إلى الوظائف الدينية، وكل ما يستقبلهم من حوادث الأيام ويظهر بها منهم ما أضمروه في قلوبهم ودعتهم إلى ذلك أهواؤهم، مكر إلهي وإملاء واستدراج فإن من حقهم على الله أن يهديهم إلى عاقبة أمرهم وخاتمته وقد فعل، والله غالب على أمره.
7. هذه الأمور بعينها إذا نسبت إلى الشيطان كانت أقسام الكفر والمعاصي إغواء منه لهم، والنزوع إليها دعوة ووسوسة ونزعة ووحيا وإضلالا، والحوادث الداعية وما يجري مجراها زينة له ووسائل وحبائل وشبكات منه على ما سيجيء بيانه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.
8. أما المؤمن الذي رسخ في قلبه الإيمان فما تظهر منه من الطاعات والعبادات وكذا الحوادث التي تستقبله فيظهر منه عندها ذلك، ينطبق عليها مفهوم التوفيق والولاية الإلهية والهداية بالمعنى الأخص نوع انطباق، قال تعالى: ﴿وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، وقال: ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وقال: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾، وقال: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾، وقال: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾، هذا إذا نسبت هذه الأمور إلى الله سبحانه، وأما إذا نسبت إلى الملائكة فتسمى تأييدا وتسديدا منهم، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾
9. ثم إنه كما أن الهداية العامة تصاحب الأشياء من بدء كونها إلى آخر أحيان وجودها ما دامت سالكة سبيل الرجوع إلى الله سبحانه كذلك المقادير تدفعها من ورائها كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾، فإن المقادير التي تحملها العلل والأسباب المحتفة بوجود الشيء هي التي تحول الشيء من حال أولى إلى حال ثانية وهلم جرا فهي لا تزال تدفع الأشياء من ورائها.
10. وكما أن المقادير تدفعها من ورائها كذلك الآجال (وهي آخر ما ينتهي إليه وجود الأشياء) تجذبها من أمامها كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾، فإن الآية تربط الأشياء بغاياتها وهي الآجال، والشيئان المرتبطان إذا قوي أحدهما على الآخر كان حاله بالنسبة إلى قرينه هو المسمى جذبا والآجال المسماة أمور ثابتة غير متغيرة فهي تجذب الأشياء من أمامها وهو ظاهر.
11. فالأشياء محاطة بقوى إلهية: قوة تدفعها، وقوة تجذبها، وقوة تصاحبها وتربيها وهي القوى الأصلية التي تثبتها القرآن الكريم غير القوى الحافظة والرقباء والقرناء كالملائكة والشياطين وغير ذلك.
12. ثم إنا نسمي نوع التصرفات في الشيء إذا قصد به مقصد لا يظهر حاله بالنسبة إليه: هل له صلوحه أو ليس له؟ بالامتحان والاختبار، فإنك إذا جهلت حال الشيء أنه هل يصلح لأمر كذا أو لا يصلح؟ أو علمت باطن أمره ولكن أردت أن يظهر منه ذلك أوردت عليه أشياء مما يلائم المقصد المذكور حتى يظهر حاله بذلك هل يقبلها لنفسه أو يدفعها عن نفسه؟ وتسمي ذلك امتحانا واختبارا واستعلاما لحاله، أو ما يقاربها من الألفاظ.
13. هذا المعنى بعينه ينطبق على التصرف الإلهي بما يورده من الشرائع والحوادث الجارية على أولي الشعور والعقل من الأشياء كالإنسان، فإن هذه الأمور يظهر بها حال الإنسان بالنسبة إلى المقصد الذي يدعى إليه الإنسان بالدعوة الدينية فهي امتحانات إلهية، وإنما الفرق بين الامتحان الإلهي وما عندنا من الامتحان أنا لا نخلو غالبا عن الجهل بما في باطن الأشياء فنريد بالامتحان استعلام حالها المجهول لنا، والله سبحانه يمتنع عليه الجهل وعنده مفاتح الغيب، فالتربية العامة الإلهية للإنسان من جهة دعوته إلى حسن العاقبة والسعادة امتحان لأنه يظهر ويتعين بها حال الشيء أنه من أهل أي الدارين دار الثواب أو دار العقاب؟
14. لذلك سمى الله تعالى هذا التصرف الإلهي من نفسه أعني التشريع وتوجيه الحوادث بلاء وابتلاء وفتنة فقال بوجه عام: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، وقال: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾، وقال: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾، وكأنه يريد به ما يفصله قوله: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾، وقال: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾، وقال: ﴿وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾، وقال: ﴿كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾، وقال: ﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا﴾، وقال: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾، وقال في مثل إبراهيم: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾، وقال في قصة ذبح إسماعيل: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾، وقال في موسى: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
15. الآيات كما ترى تعمم المحنة والبلاء لجميع ما يرتبط به الإنسان من وجوده وأجزاء وجوده كالسمع والبصر والحياة، والخارج من وجوده المرتبط به بنحو ك الأولاد والأزواج والعشيرة والأصدقاء والمال والجاه وجميع ما ينتفع به نوع انتفاع، وكذا مقابلات هذه الأمور كالموت وسائر المصائب المتوجهة إليه، وبالجملة الآيات تعد كل ما يرتبط به الإنسان من أجزاء العالم وأحوالها فتنة وبلاء من الله سبحانه بالنسبة إليه، وفيها تعميم آخر من حيث الأفراد فالكل مفتنون مبتلون من مؤمن أو كافر، وصالح أو طالح، ونبي أو من دونه، فهي سنة جارية لا يستثني منها أحد.
16. فقد بان أن سنة الامتحان سنة إلهية جارية، وهي سنة عملية متكئة على سنة أخرى تكوينية وهي سنة الهداية العامة الإلهية من حيث تعلقها بالمكلفين كالإنسان وما يتقدمها وما يتأخر عنها أعني القدر والأجل كما مر بيانه.
17. من هنا يظهر أنها غير قابلة للنسخ فإن انتساخها عين فساد التكوين وهو محال، ويشير إلى ذلك ما يدل من الآيات على كون الخلقة على الحق، وما يدل على كون البعث حقا كقوله تعالى: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾، وقوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ﴾، إلى غيرها فإن جميعها تدل على أن الخلقة بالحق وليست باطلة مقطوعة عن الغاية، وإذا كانت أمام الأشياء غايات وآجال حقة ومن ورائها مقادير حقة ومعها هداية حقة فلا مناص عن تصادمها عامة، وابتلاء أرباب التكليف منها خاصة بأمور يخرج بالاتصال بها ما في قوتها من الكمال والنقص والسعادة والشقاء إلى الفعل، وهذا المعنى في الإنسان المكلف بتكليف الدين امتحان وابتلاء فافهم ذلك.
18. يظهر مما ذكرناه معنى المحق والتمحيص أيضا، فإن الامتحان إذا ورد على المؤمن فأوجب امتياز فضائله الكامنة من الرذائل، أو ورد على الجماعة فاقتضى امتياز المؤمنين من المنافقين والذين في قلوبهم مرض صدق عليه اسم التمحيص وهو التمييز وكذا إذا توالت الامتحانات الإلهية على الكافر والمنافق وفي ظاهرهما صفات وأحوال حسنة مغبوطة فأوجبت تدريجا ظهور ما في باطنهما من الخبائث، وكلما ظهرت خبيثة أزالت فضيلة ظاهرية كان ذلك محقا له أي إنفادا تدريجيا لمحاسنها، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾
19. وللكافرين محق آخر من جهة ما يخبره تعالى أن الكون ينساق إلى صلاح البشر وخلوص الدين لله، قال تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾، وقال: ﴿أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/32.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ بتمني الشهادة التي أساسها الموت ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ وأنتم لما تحضروا المعركة.
2. ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ حين لقيتموه في المعركة ورأيتم أصحابكم يقتلون، فهو أمر متوقع من قبل في الجملة، وقد أظهرتم قلة المبالاة به حين تمنيتموه، فلا تجزعوا منه حين وقع بإخوانكم، فهو ذلك الذي تمنيتم لأنفسكم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/545.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تتحرّك الآية الكريمة في خط التحدي للتمنيات السابقة على المعركة التي كان المؤمنون يعيشونها في داخل أنفسهم: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾، فقد كانوا يتمنون الموت قتلا في سبيل الله ليحصلوا على جنّته ورضوانه مما كان القرآن يحدثهم عما أعدّ الله للمجاهدين من فضل وكرامة وسعادة في الدار الآخرة عنده، ولكن التمنيات كانت تعيش في الفراغ خارج نطاق التجربة الصعبة، فلم يكن هناك معارك تفرض نفسها على الساحة، ولا اضطهاد وتشريد ومواجهة أخطار، كما هي حالة الكثيرين منا عندما يقفون خلف المنابر فيهزونها بخطاباتهم الحماسية، وأساليبهم البلاغية، ودعوتهم للموت في سبيل الله.
2. جاءت التجربة في معركة أحد، وكان الموت يركض في هذا الموقع، ويقف في ذلك، ويرفرف على رأس هذا، ويتحرّك حركة صاعدة وهابطة في هذا الاتجاه أو ذاك؛ وبدأ التردد والقلق، وانطلقت نقاط الضعف في حركة التفاف حول أحلام الإنسان ونوازعه الذاتية، وجاء القرآن ليخاطب هؤلاء ويخاطبنا من خلالهم ويؤكّد أنّ الأمنية قد تجسدت في الموقف، فها هو الموت أمامكم، حدّقوا به كيف يتحرّك في خطّ الشهادة، ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ لقد رأيتموه، فكيف تواجهون الموقف!؟ ويسود الصمت فلا تتحدث الآية عن التفاصيل، ولكنها تترك للمؤمن أن يفكّر ليمتد تفكيره في اتجاه المسؤولية التي تقف في الخطّ الفاصل بين الدنيا والآخرة.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/289.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1): (1)
1. كان هناك جماعة من المسلمين ـ بعد معركة (بدر) واستشهاد فريق من أبطال الإسلام ـ يتمنون الموت في أحاديثهم ومجالسهم ويقولون: ليتنا نلنا الشهادة في (بدر)، ومن الطبيعي أن يكون بعض تلك الجماعة صادقين في تمنيهم والبعض الآخرون كاذبين يتظاهرون بهذه الأمنية، أو يجهلون حقيقة أنفسهم، ولكن لم يلبث هذا الوضع طويلا، فسرعان ما وقعت معركة أحد الرهيبة المؤلمة، فقاتل المجاهدون الصادقون بشهامة وبسالة وصدق وكرعوا كؤوس الشهادة، وحققوا أمانيهم، ولكن الذين كانوا يتمنونها كذبا وتظاهرا ما إن رأوا علائم الهزيمة التي لحقت بالجيش الإسلامي في تلك الواقعة حتّى فروا خوفا وجبنا، وظنا بنفوسهم وأرواحهم، تاركين الساحة للعدو الغاشم، فنزلت هذه الآية توبخهم وتعاتبهم إذ تقول: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ فلما ذا فررتم وهربتم من الشيء الذي كنتم تتمنونه طويلا وكيف يفر المرء من محبوبه، وهو يراه وينظر إليه؟
2. لقد مررنا في الآيات السابقة في هذا المقطع من الحديث على عبارات تكشف كلّ واحدة منها القناع عن واحدة من أسرار الهزيمة التي وقعت في معركة أحد، وها نحن نشير إلى أهم وأبرز هذه العوامل التي تعاضدت فأدت إلى هذه النكسة المرة، والحاوية لكثير من العبر في نفس الوقت، وهذه العوامل هي:
أ. الخطأ في المحاسبة عند بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام في فهم مفاهيمه وتعاليمه، حيث إنهم تصوروا أن إظهار الإيمان وحده يكفي لتحقيق الانتصار، وإن الله ـ لذلك سينزل عليهم نصره، ويمدهم بالقوى الغيبية في جميع الميادين، ولهذا تناسوا وتجاهلوا السنن الإلهية في مجال الأسباب الطبيعية للانتصار من اختيار الخطة الصحيحة، والإعداد القوى اللازمة، واليقظة القتالية.
ب. عدم الانضباط العسكري ومخالفة أوامر النبي القائد المشددة للرماة بالبقاء في الثغر من الجبل، والذب عن ظهور المسلمين وقد كان هذا هو العامل الحقيقي المؤثر للهزيمة.
ج. حب الدنيا والحرص على الحطام الذي دفع بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام إلى الانصراف إلى جمع الغنائم، وترك ملاحقة العدو، ووضع الأسلحة حتّى لا يتأخروا عن الآخرين في حيازة الغنائم، وكان هذا هو العامل الثالث لتلك النكسة الدامية التي علمتهم أن الجهاد في سبيل الله يستدعي نسيان جميع هذه الأمور والتوجه بالكامل إلى الهدف.
د. الغرور الناشئ عن الانتصار الساحق واللامع في معركة بدر إلى درجة أنه أنسى بعض المسلمين قوة العدو، وجعلهم يحتقرون تجهيزاته وطاقاته، ويستصغرون شأنه.
هذه هي بعض نقاط الضعف التي ينبغي أن تزول في مياه هذه النكسة المؤلمة الساخنة، وتتبخر في أتونها.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/715.
74. التحذير من الانقلاب بعد وفاة النبي أو قتله
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈74⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
عمر:
روي عن كليب، قال: خطبنا عمر (ت 23 هـ)، فكان يقرأ على المنبر آل عمران، ويقول: إنها أحدية، ثم قال تفرقنا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، فصعدت الجبل، فسمعت يهوديا يقول: قتل محمد، فقلت: لا أسمع أحدا يقول: (قتل محمد) إلا ضربت عنقه، فنظرت، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والناس يتراجعون إليه؛ فنزلت هذه الآية: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٤٠٢.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال في كلام له يوم الجمل: يا أيها الناس، إن الله تبارك اسمه وعز جنده لم يقبض نبيا قط حتى يكون له في أمته من يهدي بهداه، ويقصد سيرته، ويدل على معالم سبيل الحق الذي فرض الله على عباده) ثم قرأ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/200.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: اعتزل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو وعصابة معه يومئذ على أكمة، والناس يفرون، ورجل قائم على الطريق يسألهم: ما فعل رسول الله ؟ وجعل كلما مروا عليه يسألهم، فيقولون: والله، ما ندري ما فعل، فقال: والذي نفسي بيده، لئن كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قتل لنعطينهم بأيدينا؛ إنهم لعشائرنا وإخواننا، وقالوا: لو أن محمدا كان حيا لم يهزم، ولكنه قد قتل، فترخصوا في الفرار حينئذ؛ فأنزل الله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ الآية كلها(1).
2. روي أنّه قال: كان الإمام علي يقول في حياة رسول الله : (إن الله عز وجل يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ولئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه وابن عمه ووارثه، فمن أحق به مني؟(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٠٣.
(2) الأمالي: 2/116.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد : ألا إن محمدا قد قتل؛ فارجعوا إلى دينكم الأول، فأنزل الله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ الآية(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ الآية: ناس من أهل الارتياب والمرض والنفاق قالوا يوم أحد يوم فر الناس عن نبي الله ، وشج فوق حاجبه، وكسرت رباعيته: قتل محمد؛ فالحقوا بدينكم الأول، فذلك قوله: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٠٣.
(2) ابن جرير: ٦/١٠٤.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ألقي في أفواه المسلمين يوم أحد أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل؛ فنزلت هذه الآية: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ يرتد(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٠٣.
(2) ابن جرير: ٦/١٠٢.
أبو نجيح:
روي عن أبي نجيح (ت 109 هـ): أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان، أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٠٢.
القاسم:
روي عن القاسم بن عبد الرحمن (ت 112 هـ) القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخي بني عدي بن النجار: انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل محمد رسول الله، قال فما تصنعون بالحياة بعده!؟ قوموا؛ فموتوا على ما مات عليه رسول الله، واستقبل القوم، فقاتل حتى قتل(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٠٢.
العوفي:
روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) نّه قال: لما كان يوم أحد وانهزموا قال بعض الناس: إن كان محمد قد أصيب فأعطوهم بأيديكم؛ فإنما هم إخوانكم، وقال بعضهم: إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به! فأنزل الله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ إلى قوله: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾(1).
__________
(1) ابن المنذر: ٩٧٧.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: أو ما يقرؤون كتاب الله؟ أو ليس الله يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾؟، قيل: إنهم يفسرون على وجه آخر، فقال: أو ليس قد أخبر الله عز وجل عن الذين من قبلهم من الأمم أنهم قد اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، حيث قال: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾(1).
__________
(1) الكافي: 8/270.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ إن مات نبيكم أو قتل ارتددتم كفارا بعد إيمانكم!؟(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾، إنما يضر نفسه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، يعني: المؤمنين، يجزيهم بالجنة(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٩٨.
(2) تفسير ابن أبي زَمنين: ١/٣٢٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ معناه رجعتم عمّا أنتم عليه(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 113.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن الشيطان صاح بأعلى صوته يوم أحد: إن محمدا قتل، قال كعب بن مالك: فكنت أول من عرف النبي ؛ عرفت عينيه من تحت المغفر، فناديت بصوتي الأعلى: هذا رسول الله، فأشار إلي: أن اسكت، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ الآية(1).
2. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: ٤] قالوا: يا رسول الله، قد علمنا أن الإيمان يزداد، فهل ينقص؟ قال: إي، والذي بعثني بالحق، إنه لينقص)، قالوا: يا رسول الله، فهل لذلك دلالة في كتاب الله؟ قال: نعم)، ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الآية: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾، فالانقلاب نقصان، ولا كفر(2).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/١٣٤.
(2) ابن المنذر: ١/٤١٦.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: فشا في الناس يوم أحد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي، فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، يا قوم، إن محمدا قد قتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، قال أنس بن النضر: يا قوم، إن كان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل فإن رب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يقتل؛ فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد ، اللهم، إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، فشد بسيفه، فقاتل حتى قتل؛ فأنزل الله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ الآية(1).
2. روي أنّه قال: لما برز رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد إليهم ـ يعني: إلى المشركين ـ أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجه خيل المشركين، وقال: (لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم)، وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير، ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين، فهزماهم، وحمل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه فهزموا أبا سفيان، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد ـ وهو على خيل المشركين ـ حمل، فرمته الرماة فانقمع، فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا إلى الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله ، فانطلق عامتهم، فلحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله، ثم حمل، فقتل الرماة، وحمل على أصحاب النبي ، فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا، فشدوا على المسلمين، فهزموهم، وقتلوهم، فأتى ابن قمئة الحارثي ـ أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ـ فرمى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بحجر، فكسر أنفه ورباعيته، وشجه في وجهه، فأثقله، وتفرق عنه أصحابه، ودخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة، فقاموا عليها، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو الناس: (إلي، عباد الله، إلي، عباد الله)، فاجتمع إليه ثلاثون رجلا، فجعلوا يسيرون بين يديه، فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف، فحماه طلحة، فرمي بسهم في يده، فيبست يده، وأقبل أبي بن خلف الجمحي، وقد حلف ليقتلن النبي ، فقال النبي : (بل أنا أقتله)، فقال: يا كذاب، أين تفر مني؟ فحمل عليه، فطعنه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في جنب الدرع، فجرح جرحا خفيفا، فوقع يخور خوار الثور، فاحتملوه، وقالوا: ليس بك جراحة، فما يزعجك؟ قال أليس قال لأقتلنك؟ والله، لو كانت لجميع ربيعة ومضر لقتلتهم، ولم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح، وفشا في الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي، فنأخذ لنا أمنة من أبي سفيان، يا قوم، إن محمدا قد قتل؛ فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فقال أنس بن النضر: يا قوم، إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل؛ فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد ، اللهم، إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه، فقاتل حتى قتل?، ورضي عنه ـ، وانطلق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو الناس، حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه، فأراد أن يرميه، فقال: (أنا رسول الله)، ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيا، وفرح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابه الذين قتلوا، فقال الله تعالى للذين قالوا: إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٩٩.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ ارتددتم كفارا بعد إيمانكم(1).
2. روي أنّه قال في الآية: ذلك يوم أحد، حين أصابهم ما أصابهم من القرح والقتل، وتداعوا نبي الله ، قالوا: قد قتل، وقال أناس منهم: لو كان نبيا ما قتل، وقال أناس من علية أصحاب النبي : قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم، أو تلحقوا به، وذكر لنا: أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان، أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمدا قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فأنزل الله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٩٩.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قال أهل المرض والارتياب والنفاق حين فر الناس عن النبي : قد قتل محمد؛ فالحقوا بدينكم الأول، فنزلت هذه الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٠٣.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ وهل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لو قتل إلا كمن قتل قبله من الأنبياء!؟ ﴿أَفَإِنْ مَاتَ﴾ محمد ﴿أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ يعني: رجعتم إلى دينكم الأول الشرك(1).
2. روي أنّه قال: قالوا يومئذ: إن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، فقال بشر بن النضر الأنصاري ـ وهو عم أنس بن مالك ـ: إن كان محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل فإن رب محمد حي، أفلا تقاتلون على ما قاتل عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى تلقوا الله تعالى! ثم قال النضر: اللهم، إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد عليهم بسيفه، فقتل منهم من قتل، وقال المنافقون يومئذ: ارجعوا إلى إخوانكم فاستأمنوهم، فارجعوا إلى دينكم الأول، فقال النضر عند قول المنافقين تلك المقالة؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ يقول: ومن يرجع إلى الشرك بعد الإيمان: ﴿فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ بارتداده من الإيمان إلى الشرك، إنما يضر بذلك نفسه(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، يعني: الموحدين لله، في الآخرة(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٣٠٥.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ إلى قوله: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، أي: لقول الناس: قتل محمد، وانهزامهم عند ذلك، وانصرافهم عن عدوهم، أي: أفإن مات نبيكم أو قتل رجعتم عن دينكم كفارا كما كنتم، وتركتم جهاد عدوكم!؟ وكتاب الله تعالى وما قد خلف نبيه من دينه معكم وعندكم، وقد بين لكم فيما جاءكم عني أنه ميت ومفارقكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ أي: يرجع عن دينه: ﴿فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ أي: لن ينقص ذلك من عز الله، ولا ملكه، ولا سلطانه(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، أي: من أطاعه وعمل بأمره(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٠٤.
(2) ابن جرير: ٦/٩٨.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ ما بينكم وبين أن تدعوا الإسلام وتنقلبوا على أعقابكم إلا أن يموت محمد أو يقتل! فسوف يكون أحد هذين، فسوف يموت، أو يقتل(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٠٤.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أن يقول لهم: إنكم لما آمنتم بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يبعث لم تؤمنوا به؛ لأنّه محمّد رسول الله ]، ولكن آمنتم بالذي أرسله إليكم، والمرسل حي، وإن كان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قتل أو مات على زعمكم؛ فكيف انقلبتم على أعقابكم!؟ ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ [البقرة: 217]
ب. ويحتمل وجها آخر، وهو أن من كان قبلكم من قوم موسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ كانوا يكذبون رسلهم ما داموا أحياء؛ حتى قال لهم موسى عليه السلام ﴿يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ﴾ [الصف: 5]، وكذلك قال عيسى عليه السلام: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا﴾ الآية [الصف: 6]، فإذا ماتوا ادعوا أنهم على دينهم، وأنهم صدقوهم فيما دعوهم إليه، وإن لم يكونوا على ذلك، فلم ينقلبوا على أعقابهم؛ فكيف تنقلبون أنتم على أعقابكم إن مات محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أو قتل!؟.
2. الانقلاب على الأعقاب: على الكناية والتمثيل، ليس على التصريح، وهو الرجوع إلى ما كانوا عليه من قبل من الدين.
3. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ أي:
أ. من ارتدّ بعد الإسلام فلن يضرّ الله شيئا؛ لأنه لم يستعملهم لنفسه، ولكن إنما استعملهم لأنفسهم؛ ليستوجبوا بذلك الثواب الجزيل في الآخرة، فإنما يضرون بذلك أنفسهم، لا الله تعالى.
ب. الثاني: أنه إنما يأمرهم ويكلفهم؛ لحاجة أنفسهم، لا أنه يأمر لحاجة نفسه، ومن أمر آخر في الشاهد: إنما يأمر لحاجة نفس الآمر، فإذا لم يأتمر لحق ضرر نفس ذلك الآمر، فإذا كان الله سبحانه يتعالى عن أن يأمر لحاجته؛ وإنما يأمر لحاجة المأمور، فإذا ترك أمره ـ ضر نفسه، وبالله التوفيق.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾:
أ. قيل: الموحّدين لله.
ب. وقيل: الذين آمنوا وجاهدوا يجزيهم في الآخرة، وكل متمسك بأمر الله ومؤتمر بأمره فهو شاكر.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/500.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ وسبب ذلك أن المنافقين أشاعوا يوم حنين أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل فقال أناس لو كان نبياً ما قتل ثم قال: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ يعني رجعتم كفاراً بعد إيمانكم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/154.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ أنه لما أشيع يوم أحد أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، قال أناس: لو كان نبيا ما قتل، وقال آخرون: نقاتل على ما قاتل عليه حتى نلحق به.
2. ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ يعني رجعتم كفارا بعد إيمانكم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/428.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، ومجاهد: إن سبب نزول هذه الآية انه لما ارجف بان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قتل يوم أحد واشيع ذلك، قال ناس لو كان نبياً ما قتل، وقال آخرون نقاتل على ما قاتل عليه حتى نلحق به، وكان سبب انهزامهم وتضعضعهم إخلال الرماة بمكانهم من فم الشعب، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نهاهم عن الإخلال به، وحذرهم من الانصراف عن الشعب مخافة أن يخرج منه كمين عليهم، فلما انهزم المشركون في الجولة الأولى، فتبعوهم المسلمون، وتواقعوا في غنائمهم فقال الموكلون بالشعب: يغنمون ولا نغنم، فقال لهم رئيسهم: الله الله لا تفعلوا فان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرنا ألا نبرح، فلم يقبلوا منه وانصرفوا، وثبت رئيسهم مع اثني عشر رجلا، فقتلوا، خرج عليهم خالد بن الوليد في مأتي فارس من الشعب، وكان كامنا فيه، وكان ذلك سبب هزيمة المسلمين، وإصابة رباعية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجرحه، وكان الذي جرحه وكسر رباعيته عتبة بن أبي وقاص، وقيل إن عبد الله ابن قمية ضربه على حبل عاتقه، ومضى إلى المشركين، وقال قتلت محمداً وشاع ذلك فأنزل الله هذه الآية.
2. سؤال وإشكال: كيف دخل الاستفهام على الشرط، وإنما هو كغيره من الانقلاب والتقدير أتنقلبون إن مات أو قتل؟ والجواب: لأنه لما انعقد الشرط به صار جملة واحدة وخبراً واحداً بمنزلة تقديم الاسم قبل الفعل في الذكر إذا قيل أزيد قام، وكذلك تقديمه في القسم، والاكتفاء بجواب الشرط من جواب القسم، كما قال الشاعر:
çحلفت له إن تدلج الليل لا يزل...أمامك بيت من بيوتي سائرé
أي حلفت له لا يزال امامك بيت، وأجاز الفراء في مثله أفإن مات أو قتل تنقلبون بالرفع، والجزم.
3. معنى ﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي ارتددتم كفاراً بعد إيمانكم، لأن الرجوع من الحق إلى الباطل بمنزلة رجوع القهقرى في القبح، والتنكيل بالنفس فجرى كالمثل في هذا المعنى.
4. الالف في قوله: ﴿أَفَإِنْ﴾ ألف انكار بصورة ألف استفهام، لأن التقرير به يظهر ما فيه من المنكر، فلذلك أخرج مخرج الاستفهام مع أن معناه الإنكار، ومثله (أتختار الفساد على الصلاح والخطأ على الصواب)
5. ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ يدل على أن الموت غير القتل لأنه لو كان هو إياه لما عطف به عليه، لأن الشيء لا يعطف على نفسه، والقتل هو نقض بنيه الحياة، والموت: في الناس من قال هو معنى يضاد الحياة، وفيهم من قال هو افساد البنية التي تحتاج الحياة إليها بفعل معان فيه تضاد المعاني التي تحتاج إليها الحياة.
6. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ أي من يرتد ويرجع عن الإسلام ﴿فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ لأنه لا يجوز عليه المضار بل مضرته عائدة عليه، لأنه يستحق العقاب الدائم.
7. ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ معناه يثيب الله الشاكرين على شكرهم لنعم الله واعترافهم بها، ووجه اتصال هذا بما قبله اتصال الوعد بالوعيد، لأن قوله: ﴿فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ دليل على معنى الوعيد، لأن معناه انما يضر نفسه باستحقاقه العقاب ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ بما يستحقونه من الثواب.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/7.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. محمد: أخذ من الحمد، وسمي به لكثرة ما حمد، ويسمى أحمد قيل: معناه أن الأنبياء محمودون، وهو أحمد منهم، وقيل: معناهما واحد، وقيل: إنه اشتق من اسم الله تعالى، وأنشد:
çوَشَقَّ لَهُ مِن اسْمِه لِيُجِلَّهُ... فَذُوالعَرْشِ مَحْمُودٌ وهذا محمدُé
ب. يقال: انقلب على عقبيه إذا رجع قهقرى.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾:
أ. قيل: نزلت في يوم أحد لما نودي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قُتِلَ، فقال ناس: لو كان نبيًا لما قتل، وقال آخرون: نقاتل على ما قاتل عليه حتى نلحق به، وارتد بعضهم، وهزم بعضهم، وكان سبب تضعضعهم إخلاء الرماة لمكانهم مع نهي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إياهم، وتحذيره عن الانصراف من الشِّعب الذي ألزمهم الوقوف عنده، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك.
ب. وقيل: تآمروا بالرجوع إلى قومهم، فقال بعضهم: نستأمن أبا سفيان، وزعم أهل النفاق إن كان محمد قُتِلَ فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار: إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل محمد، ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هَؤُلَاءِ، ثم قاتل حتى قُتِلَ، قال الأصم: هرب بعضهم مسيرة ثلاث ليال، ومنهم من لحق بالشام.
3. ثم بيّن تعالى أنه لا ينبغي أن يترك أمر الله، يعني كان الرسول بين أظهرهم أو لم يكن، فقال تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ يعني أنه بشر اختاره الله لرسالته إلى خلقه.
4. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ أي مضت قبله رسل بعثوا فأدوا الرسالة ومضوا وماتوا، فلا ينبغي لهم أن يتركوا أمر الله بموت نبيهم، فإنه كسائر الأنبياء في أن الموت سينزل به، فإذا أدى الرسالة وبين الشريعة فالمعبود هو الله تعالى وهو الباقي الدائم فيجب التمسك بأمره، وقيل: أراد أن أصحاب الأنبياء لم يرتدوا عند موتهم فاقتدوا بهم.
5. ثم أكد ذلك فقال سبحانه ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ يعني، أماته الله أو قتله الكفار ﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي ارتَدَدْتُم كفارًا بعد إيمانكم؛ لأن الرجوع عن الحق إلى الباطل بمنزلة الرجوع القهقرى في القبح والتنكيل بالنفس.
6. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ يعني من يرتد عن دينه ﴿فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ﴾ أي لا ينال الله من ذلك مضرة؛ لأنه لا يجوز عليه المنافع والمضار، وإنما الضرر يعود عليهم ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ يعني أنه مع غناه عن طاعة خلقه يجزي عباده على شكرهم إياه وطاعتهم له.
7. سؤال وإشكال: كيف يتصل قوله: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ بما قبله؟ والجواب: اتصال الوعد بالوعيد كأنه قيل: من يرتد فضروه عليه، ومن شكر وآمن فنفعه يعود عليه.
8. تدل الآية الكريمة على:
أ. أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم آخر الأنبياء؛ لأنه ذكر أن الرسل خلت من قبله، فَعَمَّ ولم يخص.
ب. الإخبار عن موته ، وأن طاعته تعالى لا تختلف بحياته وموته، بل يجب أن يعبد ويطاع في جميع الأحوال، وتدل على أن الجهاد لازم في شريعته.
ج. جواز الموت على الأنبياء وأنهم ماتوا، وقد حدث بعد وفاته خلاف في هذه القصة، ثم زال عن قرب، فكان عمر أنكر موته وتهدد من تزعم أنه مات، وذكر أن الله تعالى رفعه حتى خرج أبو بكر وقد رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنه حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية، وذكر شيخنا أبو علي في وجه الحكمة في تبقية إبليس، وموت النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم أن كلاً من الخلق مستغن عنه، وإنما لا يستغنى عن الله قط، فإذا أدى الرسول الرسالة وعلم تعالى أن الصلاح في غيبته عنهم جاز أن يميته ويرفعه إلى جنات السماء، ويكون الصلاح في تبقية إبليس لشدة المحنة، وما ترويه الحشوية أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لو أراد الله ألّا يعصى لما خلق إبليس)، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه ثبت أنه أراد أن يطاع، كما ثبت أنه أمر بأن يطاع، على أنه يقال للمجبرة: أي تعلق لخلق إبليس بهذا؟ وما يفعله هو من الوسوسة، وما يفعله العاصي من العصيان إنما هو خلقه تعالى عندهم، فأي فائدة في خلق إبليس على طريقتهم؛ لأنه إذا خلق الضلال كان ضالاً سواء كان إبليس أو لم يكن، ولو لم يكن الضلال مخلوقًا لم يكن ضالاً، وإن كان ألف مثل إبليس، ولأنه لو خلق إبليس ليدعو إلى الضلال وبعث الأنبياء ليدعوا إلى الحق، فالدعوتان جميعًا منه، فهذا لا يكون تدبير حكيم، تعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا.
9. الألف في قوله: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ﴾ ألف استفهام، ومعناه الإنكار، كقولك: أتختار الصلاح على الفساد!؟.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/398.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
محمد: أخذ من الحمد، والتحميد: فوق الحمد، فمعناه: المستغرق لجميع المحامد، لأن التحميد لا يستوجبه إلا المستولي على الأمر في الكمال، فأكرم الله عز اسمه نبيه وحبيبه صلّى الله عليه وآله وسلّم باسمين مشتقين من اسمه تعالى: محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأحمد، وإليه أشار حسان بن ثابت في قوله:
çنبي أتانا بعد بأس، وفترة... من الدين، والأوثان في الأرض تعبد
ألم تر أن الله أرسل عبده... ببرهانه، والله أعلى وأمجد
وشق له من اسمه ليجله... فذو العرش محمود، وهذا محمدé
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ قال أهل التفسير: سبب نزول هذه الآية أنه لما أرجف بأن الني صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل يوم أحد، وأشيع ذلك، قال أناس: لو كان نبيا لما قتل، وقال آخرون: نقاتل على ما قاتل عليه، حتى نلحق به، وارتد بعضهم وانهزم بعضهم، وكان سبب انهزامهم وتضعضعهم، إخلال الرماة لمكانهم من الشعب، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نهاهم عن الإخلال به، وأمر عبد الله بن جبير وهو أخو خوات بن جبير على الرماة، وهم خمسون رجلا، وقال: لا تبرحوا مكانكم، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم بمكانكم، وجاءت قريش على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ومعهم النساء يضربن بالدفوف، وينشدن الأشعار، فقالت هند:
çنحن بنات طارق... نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق... أو تدبروا نفارقé
فراق غير وامق
وكان أبو عامر، عبد عمرو بن الصيفي، أول من لقيهم بالأحابيش، وعبيد أهل مكة، فقاتلهم قتالا شديدا، وحميت الحروب، فقال رسول الله: (من يأخذ هذا السيف بحقه، ويضرب به العدو، أو العبيد، حتى ينحني فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري، فلما أخذ السيف اعتم بعمامة حمراء، وجعل يفتخر تبخترا، ويقول:
çأنا الذي عاهدني خليلي... أن لا أقيم الدهر في الكيولé
أضرب بسيف الله، والرسول
فقال رسول الله : إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموضع، ثم حمل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه على المشركين فهزموهم، وقتل علي بن أبي طالب عليه السلام أصحاب اللواء كما تقدم بيانه، وأنزل الله نصرته على المسلمين، قال الزبير: فرأيت هندا وصواحبها هاربات مصعدات في الجبال، نادية خدامهن ما دون أخذهن شيء، فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا، ورأوا النبي وأصحابه ينتهبون الغنيمة، أقبلوا يريدون النهب، واختلفوا، فقال بعضهم: لا تتركوا أمر الرسول، وقال بعضهم: ما بقي من الأمر شيء، ثم انطلق عامتهم، ولحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة، واشتغال المسلمين بالغنيمة، ورأى ظهورهم خالية، صاح في خيله من المشركين، وحمل على أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من خلفهم، فهزموهم وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمية الحارثي رسول الله بحجر، وكسر أنفه ورباعيته، وشجه في وجهه فأثقله، وتفرق عنه أصحابه، وأقبل يريد قتله، فذب مصعب بن عمير، وهو صاحب راية رسول الله، يوم بدر، ويوم أحد، وكان اسم رايته العقاب، عن رسول الله ، حتى قتل مصعب بن عمير، قتله ابن قمية، فرجع وهو يرى أنه قتل رسول الله ، وقال: إني قتلت محمدا وصاح صائح: ألا إن محمدا قد قتل، ويقال: إن ذلك الصائح كان إبليس لعنه الله، فانكف الناس، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو الناس، ويقول: إلي عباد الله، فاجتمع إليه ثلاثون رجلا، فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه، وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست، وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ، حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله مكانها، فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أدركه أبي بن خلف الجمحي، وهو يقول: لا نجوت إن نجوت، فقال القوم: يا رسول الله! ألا يعطف عليه أحد منا؟ فقال: دعوه حتى إذا دنا منه، وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله، فيقول: عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها، فقال رسول الله: بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلما كان يوم أحد، ودنا منه، تناول رسول الله الحربة من الحرث بن الصمة، ثم استقبله فطعنه في عنقه، وخدشه خدشة، فتدهده عن فرسه، وهو يخور كما يخور الثور، وهو يقول: قتلني محمد! فاحتمله أصحابه وقالوا: ليس عليك بأس، قال: بلى، لو كانت هذه بربيعة ومضر لقتلتهم، أليس قال لي: أقتلك، فلو بزق علي بعد تلك المقالة لقتلني، فلم يلبث إلا يوما حتى مات، قال: وفشا في الناس أن رسول الله قد قتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنس بن نضر، عم أنس بن مالك: يا قوم! إن كان قد قتل محمد، فرب محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله، فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ـ يعني المسلمين ـ وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ـ يعني المنافقين ـ ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل، ثم إن رسول الله انطلق إلى الصخرة، وهو يدعو الناس، فأول من عرف رسول الله كعب بن مالك، قال: عرفت عينيه تحت المغفر، تزهران، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين! أبشروا فهذا رسول الله، فأشار إلي أن أسكت، فانحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم النبي على الفرار، فقالوا: يا رسول الله! فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت قلوبنا، فولينا مدبرين، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ الآية.
2. ثم بين سبحانه أنه لا ينبغي أن يترك أمر الله تعالى، كان الرسول بين أظهرهم، أو لم يكن، فقال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ يعني أنه بشر اختاره الله لرسالته إلى خلقه، قد مضت قبله رسل، بعثوا فأدوا الرسالة ومضوا وماتوا، وقتل بعضهم، وأنه يموت كما ماتت الرسل قبله، فليس الموت بمستحيل عليه، ولا القتل، وقيل: أراد أن أصحاب الأنبياء لم يرتدوا عند موتهم، أو قتلهم، فاقتدوا بهم.
3. ثم أكد ذلك فقال: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ معناه: أفإن أماته الله، أو قتله الكفار، ارتددتم كفارا بعد إيمانكم، فسمي الارتداد انقلابا على العقب: وهو الرجوع القهقري، لأن الردة خروج إلى أقبح الأديان، كما أن الانقلاب خروج إلى أقبح ما يكون من المشي.
4. الألف في قوله تعالى: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ﴾: ألف إنكار صورته صورة الاستفهام، ومثله: أتختار الفساد على الصلاح، والخطأ على الصواب.
5. في قوله تعالى: ﴿مَاتَ أَوْ قُتِلَ﴾: دلالة على أن الموت غير القتل، لأن الشيء لا يعطف على نفسه، فالقتل هو نقض بنية الحياة، والموت: فساد البنية التي تحتاج إليها الحياة، وقيل: الموت معنى يضاد الحياة، والصحيح الأول.
6. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ يعني من يرتد عن دينه ﴿فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ لأنه لا يجوز عليه المضار، بل مضرته عائدة عليه، لأنه مستحق للعقاب الدائم.
7. ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ أي: يثيب الله الشاكرين على شكرهم، لنعم الله واعترافهم بها، وقيل: المراد بالشاكرين المطيعين، لأن الطاعات هي شكر الله على نعمه، وهذا يتصل بما قبله اتصال الوعد بالوعيد، لأن قوله ﴿فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾: دليل على معنى الوعيد، فكأنه قال: من يرتد عاد ضرره عليه، ومن شكر وآمن فنفعه يعود إليه.
8. كانت كفار قريش يشتمون مذمما يعنون اسم النبي ، فروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ألم تروا كيف صرف الله عني لعن قريش وشتمهم يشتمون مذمما، وأنا محمد)، وفي مسند علي بن موسى الرضا، عن آبائه، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (إذا سميتم الولد محمدا فأكرموه، وأوسعوا له في المجلس، ولا تقبحوا له وجها، وما من قوم كان لهم مشورة فحضر معهم من اسمه محمد، أو أحمد، فأدخلوه في مشورتهم، إلا خير لهم، وما من مائدة وضعت فحضرها من اسمه محمد أو أحمد، إلا قدس في كل يوم ذلك المنزل مرتين)(2)، وعن أنس بن مالك قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم! فالتفت إليه رسول الله، فقال الرجل: إنما أدعو ذاك، فقال رسول الله : (تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي)، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي، أنا أبو القاسم، الله يعطي، وأنا أقسم)، ثم رخص في ذلك لعلي عليه السلام وابنه، وعن علي بن أبي طالب قال: قال لي رسول الله : إن ولد لك غلام نحلته اسمي وكنيتي.
9. إنما دخل حرف الاستفهام على حرف الشرط، وتقديره: أتنقلبون إن مات أو قتل، لأن الشرط لما انعقد به صار جملة واحدة، وخبرا واحدا، فكان بمنزلة تقديم الاسم على الفعل في الذكر، إذا قيل: أزيد قام، فكذلك تقديمه في القسم، والاكتفاء بجواب الشرط عن جواب القسم، كما قال الشاعر:
çحلفت له إن تدلج الليل لا يزل... أمامك بيت من بيوتي سائرé
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/848.
(2) لا نرى صحة هذا لمعارضته الواضحة للقرآن الكريم وللواقع؛ فالعبرة بالأعمال، لا بالأسماء، وما أكثر المنحرفين الذين تسموا بالأسماء الشريفة
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾:
أ. قال ابن عباس: صاح الشّيطان يوم أحد: قتل محمّد، فقال قوم: لئن كان قتل لنعطينّهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا، ولو كان محمّد حيّا لم نهزم، فترخّصوا في الفرار، فنزلت هذه الآية.
ب. وقال الضّحّاك: قال قوم من المنافقين: قتل محمّد، فالحقوا بدينكم الأوّل، فنزلت هذه الآية.
ج. وقال قتادة: قال أناس: لو كان نبيّا ما قتل، وقال ناس من علية أصحاب رسول الله: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّكم حتى تلحقوا به، فنزلت هذه الآية.
2. معنى الآية: أنّه يموت كما ماتت قبله الرّسل، أفإن مات على فراشه، أو قتل كمن قتل قبله من الأنبياء، أتنقلبون على أعقابكم!؟ أي: ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر!؟ وهذا على سبيل المثل، يقال لكل من رجع عمّا كان عليه: قد انقلب على عقبيه، وأصله: رجعة القهقرى، والعقب: مؤخّر القدم.
3. ﴿فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ أي: لن ينقص الله شيئا برجوعه، وإنما يضرّ نفسه ﴿وَسَيَجْزِي﴾ أي: يثيب ﴿الشَّاكِرِينَ﴾، وفيهم ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنهم الثّابتون على دينهم، قاله عليّ عليه السلام.
ب. الثاني: أنهم الشّاكرون على التوفيق والهداية.
ج. الثالث: على الدّين.
__________
(1) زاد المسير: 1/331.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ (2)، ومعنى الآية ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة، لا وجودهم بين أظهر قومهم أبدا.
2. ﴿رَسُولٌ﴾ قال أبو علي: الرسول جاء على ضربين: أحدهما: يراد به المرسل، والآخر الرسالة، وهاهنا المراد به المرسل بدليل قوله: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: 252] وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ﴾ [المائدة: 67] وفعول قد يراد به المفعول، كالركوب والحلوب لما يركب ويحلب والرسول بمعنى الرسالة كقوله:
çلقد كذب الواشون ما فهت عندهم...بسر ولا أرسلتهم برسولé
أي برسالة، قال: ومن هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ﴾ [طه: 47]
3. ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ حرف الاستفهام دخل على الشرط وهو في الحقيقة داخل على الجزاء، والمعنى أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل، ونظيره قوله: هل زيد قائم، فأنت إنما تستخبر عن قيامه، إلا أنك أدخلت هل على الاسم والله أعلم.
4. بيّن الله تعالى في آيات كثيرة أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يقتل قال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30]، وقال: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]، وقال: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [الصف: 9]
5. سؤال وإشكال: لما علم الله تعالى أنه لا يقتل فلم قال: ﴿أَوْ قُتِلَ﴾؟ والجواب: من وجوه:
أ. الأول: أن صدق القضية الشرطية لا يقتضي صدق جزأيها، فإنك تقول: إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين، فالشرطية صادقة وجزاءاها كاذبان، وقال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22] فهذا حق مع أنه ليس فيهما آلهة، وليس فيهما فساد، فكذا هاهنا.
ب. الثاني: أن هذا ورد على سبيل الإلزام، فإن موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك، والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لا يرجعون عن دينه، فكذا هاهنا.
ج. الثالث: أن الموت لا يوجب رجوع الأمة عن دينه، فكذا القتل وجب أن لا يوجب الرجوع عن دينه، لأنه فارق بين الأمرين، فلما رجع إلى هذا المعنى كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين وهموا بالارتداد.
6. ﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي صرتم كفارا بعد إيمانكم، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه رجع وراءه وانقلب على عقبه ونكص على عقبيه، وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين: إن كان محمد قتل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار: إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد، وحاصل الكلام أنه تعالى بين أنه قلته لا يوجب ضعفا في دينه بدليلين:
أ. الأول: بالقياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم.
ب. الثاني: أن الحاجة إلى الرسول لتبليغ الدين وبعد ذلك فلا حاجة اليه، فلم يلزم من قتله فساد الدين والله أعلم.
7. سؤال وإشكال: قوله: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ شك وهو على الله تعالى لا يجوز، والجواب: المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الارتداد.
8. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ الغرض منه تأكيد الوعيد، لأن كل عاقل يعلم أن الله تعالى لا يضره كفر الكافرين، بل المراد أنه لا يضر إلا نفسه، وهذا كما إذا قال الرجل لولده عند العتاب: إن هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض، ويريد به أنه يعود ضرره عليه فكذا هاهنا.
9. ثم أتبع الوعيد بالوعد فقال: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ فالمراد أنه لما وقعت الشبهة في قلوب بعضهم بسبب تلك الهزيمة ولم تقع الشبهة في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين، فهم شكروا الله على ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به، فلا جرم مدحهم الله تعالى بقوله: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/377.
(2) ذكر هنا بعض الآثار في غزوة أحد، والتي سبق ذكرها
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. روي أنها نزلت بسبب انهزام المسلمين يوم أحد حين صاح الشيطان: قد قتل محمد، قال عطية العوفي: فقال بعض الناس: قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم فإنما هم إخوانكم، وقال بعضهم: إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به، فأنزل الله تعالى في ذلك ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ إلى قول: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ [آل عمران]
2. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ ما نافية، وما بعدها ابتداء وخبر، وبطل عمل ﴿مَا﴾، وقرأ ابن عباس ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ بغير ألف ولام، فأعلم الله تعالى في هذه الآية أن الرسل ليست بباقية في قومها أبدا، وأنه يجب التمسك بما أتت به الرسل وإن فقد الرسول بموت أو قتل.
3. أكرم الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفيه باسمين مشتقين من اسمه: محمد وأحمد، وتقول العرب: رجل محمود ومحمد إذا كثرت خصاله المحمودة، قال الشاعر: (إلى الماجد القرم الجواد المحمد).. وقال عباس بن مرداس:
çيا خاتم النبآء إنك مرسل...بالخير كل هدى السبيل هداك
اإن الإله بنى عليك محبة...في خلقه ومحمدا سماكاé
4. هذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد، والنبوة لا تدرأ الموت، والأديان لا تزول بموت الأنبياء.
5. ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ ﴿أَفَإِنْ مَاتَ﴾ شرط ﴿أَوْ قُتِلَ﴾ عطف عليه، والجواب ﴿انْقَلَبْتُمْ﴾، ودخل حرف الاستفهام على حرف الجزاء لأن الشرط قد انعقد به وصار جملة واحدة وخبرا واحدا، والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل؟ وكذلك كل استفهام دخل على حرف الجزاء، فإنه في غير موضعه، وموضعه أن يكون قبل جواب الشرط، وقوله ﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ تمثيل، ومعناه ارتددتم كفارا بعد إيمانكم، قاله قتادة وغيره، ويقال لمن عاد إلى ما كان عليه: انقلب على عقبيه، ومنه ﴿نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾، وقيل: المراد بالانقلاب هنا الانهزام، فهو حقيقة لا مجاز، وقيل: المعنى فعلتم فعل المرتدين وإن لم تكن ردة.
6. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ بل يضر نفسه ويعرضها للعقاب بسبب المخالفة، والله تعالى لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية لغناه.
7. ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، أي الذين صبروا وجاهدوا واستشهدوا، وجاء ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ بعد قوله: ﴿فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ فهو اتصال وعد بوعيد.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/222.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾، سبب نزول هذه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أصيب في يوم أحد صاح الشيطان قائلا: قد قتل محمد، ففشل بعض المسلمين حتى قال قائل: قد أصيب محمد فأعطوا بأيديكم فإنما هم إخوانكم، وقال آخر: لو كان رسولا ما قتل، فردّ الله عليهم ذلك وأخبرهم: بأنه رسول قد خلت من قبله الرسل وسيخلو كما خلوا.
2. جملة قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ صفة لرسول، والقصر قصر إفراد، كأنهم استبعدوا هلاكه فأثبتوا له صفتين: الرسالة، وكونه لا يهلك؛ فردّ الله عليهم ذلك بأنه رسول لا يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك؛ وقيل: هو قصر قلب، وقرأ ابن عباس: (قد خلت من قبل رسل)
3. ثم أنكر الله عليهم بقوله: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي: كيف ترتدّون وتتركون دينه إذا مات أو قتل مع علمكم أن الرسل تخلو، ويتمسك أتباعهم بدينهم، وإن فقدوا بموت أو قتل، وقيل: الإنكار لجعلهم خلوّ الرسل قبله سببا لانقلابهم بموته أو قتله، وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل: لكونه مجوّزا عند المخاطبين.
4. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ أي: بإدباره عن القتال، أو بارتداده عن الإسلام ﴿فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ من الضرر، وإنما يضرّ نفسه ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ أي: الذين صبروا وقاتلوا واستشهدوا، لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام، ومن امتثل ما أمر به فقد شكر النعمة التي أنعم الله بها عليه، قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ هذا كلام مستأنف، يتضمّن الحثّ على الجهاد، والإعلام بأن الموت لا بدّ منه.
5. معنى: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾: بقضاء الله وقدره، وقيل: إن هذه الجملة متضمنة للإنكار على من فشل بسبب ذلك الإرجاف بقتله ، فبين لهم: أن الموت بالقتل أو بغيره منوط بإذن الله، وإسناده إلى النفس مع كونها غير مختارة له: للإيذان بأنه لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلّا بإذن الله.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/442.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ والرسل منهم من مات، ومنهم من قتل، فلا منافاة بين الرسالة والقتل والموت، إذ ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ فسيخلو كما خلوا ﴿أَفَإِنْ مَاتَ﴾ أي أتؤمنون به في حال حياته فإن مات ﴿أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ﴾ أي ارتددتم ﴿عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي بعد علمكم بخلو الرسل قبله، وبقاء دينهم، متمسكا به.
2. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ بالنصر والغلبة في الدنيا، والثواب والرضوان في الآخرة، وهم الذين لم ينقلبوا، بل قاموا بطاعته، وقاتلوا على دينه، واتبعوا رسوله حيّا وميتا، وسمّاهم ﴿شَاكِرِينَ﴾ لأنهم شكروا نعمة الإسلام الذي هو أجل نعمة وأعز معروف.
3. المعنى أن من كان على يقين من دينه، وبصيرة من ربه، لا يرتد بموت الرسول وقتله، ولا يفتر عما كان عليه، لأنه يجاهد لربه لا للرسول، كأصحاب الأنبياء السالفين:
أ. كما قال أنس عم أنس بن مالك، يوم أحد حين أرجف بقتل رسول الله عليه السلام وشاع الخبر، وانهزم المسلمون، وبلغ إليه تقاول بعضهم: ليت فلانا يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وقوله المنافقين: لو كان نبيّا ما قتل: يا قوم! إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد حي لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم! إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء هؤلاء، ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل ـ أفاده القاشانيّ ـ.
ب. روى ابن أبي نجيح عن أبيه أن رجلا من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان! أشعرت أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل؟ فقال الأنصاريّ: إن كان محمد قد قتل، فقد بلّغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ﴾ الآية ـ رواه أبو بكر البيهقيّ في (دلائل النبوة)
4. قال ابن القيّم في (زاد المعاد): (ومنها ـ أي من الغايات في هذه الغزوة ـ أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله ، فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو قتل، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده، يموتوا عليه ويقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حيّ لا يموت، فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه، وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إليهم ليخلد، لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لا بد منه، فسواء مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو بقي، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان بأنه محمدا قد قتل، فقال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ الآية ـ والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا وقتلوا، فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وارتد من ارتد على عقبيه، وثبت الشاكرون على دينهم فنصرهم الله وأعزهم، وأظفرهم بأعدائهم، وجعل العاقبة لهم)
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/422.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لَمَّا نودي في هزيمة أحد أن محمَّدًا قُتل فشل كثير من المسلمين وهربوا كما مرَّ، وقال المنافقون بعض لبعض: إن قُتل محمَّد فارجعوا إلى دينكم، فرجع بعض، وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ اِلَّا رَسُولٌ﴾ لا يتجاوز الرسالة إلى الألوهيَّة، فتُتركَ العبادةُ لموته ولا إلى الحياة أبدا، بل يموت كما مات الرسل بقتل أو بغيره كما قال: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مضت بالموت، ﴿مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ وذلك قصر إفراد، وله وجه آخر هو: كأنَّهم اعتقدوا له الرسالة والبعد عن الموت، فقصر على الرسالة، فيكون (قَدْ خَلَتْ) مستأنفا، ولا يلزم من وقوع الجملة بعد النكرة أن تكون نعتا لها، وأيضا يجوز أَن تكون نعتا لـ (رَسُولٌ) مؤكِّدًا؛ لأنَّ عدم انتفاء الموت معلوم من حصره على الرسالة، أو قصرُ قلْبٍ، إذ توهَّموا أَنَّه لا يجب البقاء على دينه بعد موته، وهذا القصر منصبٌّ على النعت وهو (قَدْ خَلَتْ)، أمَّا المنافقون فقالوا: لو كان رسولا لم يمت البتَّة، أو لم يمت بالقتل، وكلاهما توهُّم بعيد، وأمَّا ضعفاء المسلمين فضعفت قلوبهم بموته، وكأنَّهم استبعدوا موته في الوقعة، ولَمَّا قيل بموته، فتَّ في عضدهم، والآية فيهم لا في المنافقين؛ لقوله: ﴿أَفَإِن مَّاتَ﴾ إلى ﴿وَمَنْ يَّنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾؛ لأنَّ المنافقين في ضلال، بقوا على النفاق أو أظهروا الشرك، اللهمَّ إِلَّا أن يقال: جاراهم على ظاهر أمرهم، وإلَّا فهم في ضلال، انقلبوا على عقبهم أو لم ينقلبوا، لا كما في قوله تعالى:
2. ﴿أَفَإين مَّاتَ﴾ بلا قتل، ﴿أَوْ قُتِلَ﴾ كسائر الناس، الرسل وغيرهم، ﴿اَنقَلَبْتُمْ عَلَىآ أَعْقَابِكُمْ﴾ رجعتم إلى الكفر بعد إذ خلَّفتموه، توهَّموا أنَّه نبيء لا يموت وأنَّه إن مات لم يجب البقاء على دينه، والتقدير: (أتضعفون) أو (أتؤمنون به في حياته وفإن مات)، والأولى أنَّ معنى الانقلاب نقص الدين بزواله كلِّه إلى الشرك كما وقع من بعض، أو بضعفه، أو بإظهار المنافقين الشرك، أو بفعل ما يشبه الكفر من الانكشاف عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم والفشل، ويجوز أَن يكون المراد النهي عن الردَّة لمن لم تقع منه، كمن رأى من أحد قرب فعل شيء فقال له: أتفعل كذا، وقيل: هي في أهل الردَّة، وقيل: فيهم، وفي إظهار المنافقين الشرك، وقيل لرسول الله : علمنا أَنَّ الإيمان يزداد فهل ينقص؟ فتلا الآية، ﴿وَمَنْ يَّنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ بالردَّة، ﴿فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ بكفره بل ضرَّ نفسه بعذاب النار الدائم.
3. لَمَّا هُزم المسلمون يوم أحد قال بعض الضعفاء من المؤمنين: ليت ابن أُبيٍّ أخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وقال المنافقون: لو كان نبيئا لم يقتل، اِرجعوا إلى إخوانكم ودينكم.
4. ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ له على نعمة الإسلام، وقيل: الشاكرون الثَّابتون على الإسلام؛ لأنَّ الثبات عليه ناشئ عن تيقُّن حقِّـيَّته وذلك شكر، والمراد في الآية الشاكرون إلى قيام الساعة.
5. قال كعب بن مالك: كنت أوَّل من عرف رسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من المسلمين بعينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوت: يا معشر المسلمين هذا رسول الله! ، فأشار إليَّ أن اسكت، فانحاز إليه ثلاثون وحموه، وتفرَّق الباقون، وقد ضربه عتبة بن أبي وقاص وابن قمئة، فصرخ صارخ: (قتل محمَّد!)، ولا يُدرى الصارخ، ولعلَّه شيطان أو إبليس، وأدركه أُبي بن خلف الجمحي، وقال: لا نجوت إن نجوت! فقال أصحابه الثلاثون: يا رسول الله ألا يعطف عليه واحد منَّا؟ قال: (دعوه) فدنا، فتناول صلّى الله عليه وآله وسلّم الحربة من يد بعضهم، وهو الحارث بن الصمة، فطعنه في عنقه وخدشه فهو يخور كالثور، ويقول: قتلني محمَّد، فقال له أصحابه: لا بأس، فقال: لو كانت هذه الطعنة في ربيعة لأهلكتهم وقد قال لي: أقتلك، فلو بصق عليَّ لقتلني، وبقي يوما ومات بسرف، وكان يقول لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مكَّة: لي (رَمْكَة) أعلفها كلَّ يوم فرقا ذرة أقتلك عليها، ويقول : بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/19.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد هذا بين الله تعالى حكمة أخرى من أعظم الحكم المتعلقة بغزوة أحد، وهي إشاعة قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما كان من تأثيرها في المسلمين وما كان يجب أن يكون وقد ذكرنا تفصيل ذلك في القصة قبل الشروع في تفسير الآيات التي نزلت فيها فقال: ﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم﴾
2. تقدم أنه أشيع عندما فرق خالد جمع المسلمين في أحد أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، وقال بعضهم في سبب ذلك: إن عمرو بن قميئة الحارثي لما رمى الرسول بالحجر فشج رأسه وكسر سنه أقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير صاحب راية المسلمين يومئذ حتى قتل، فظن أنه قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: قتلت محمدا، فصرخ بها الصارخ حتى سمعها الكثير من المسلمين وفشت في الناس، فوهن أكثر المسلمين وضعفوا واستكانوا من شدة الحزن، وقال بعض الضعفاء ليت عبد الله بن أبي يأخذ لنا من أبي سفيان أمانا، وقال قوم من المنافقين: لو كان نبيا لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم، وفي رواية ابن جرير عن السدي وفشا في الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل فقال بعض أصحاب الصخرة ـ أي الذين فروا إلى الجبل فقاموا على صخرة منه ـ (ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قُتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم) وقال أنس بن النضر ما يأتي عن قريب، وأما المؤمنون الصادقون الموقنون فمنهم من ثبت معه ومن كان بعيدا فرجع إليه، منهم أبو بكر وعلي وطلحة وأبو دجانة الذي جعل نفسه ترسا دونه فكان يقع عليه النبل وهو لا يتحر ك.
3. قال ابن القيم في بيان حكم هذه الوقعة: (هذه الآية كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله ، وذكرأن توبيخ الذي ارتدوا على أعقابهم بهذه الآية قد ظهر أثره يوم وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد ارتد من ارتد على عقبيه وثبت الصادقون على دينه حتى كانت العاقبة لهم)، ولا ينافي هذه الحكمة كون الوقعة كانت قبل وفاته صلّى الله عليه وآله وسلّم ببضع سنين ـ لأن غزوة أحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة ـ فإن توطين نفس الأمة الكبيرة على الشيء وإعدادها له لا يكون قبل وقوعه بيوم أو أيام أو شهور بل لابد فيه من زمن يكفي لتعميمه فيها وصيرورته من الأمور المسلمة المشهورة عندها حتى لا يغيب عن الأذهان.
4. حاصل المعنى أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس إلا بشرا رسولا قد خلت ومضت الرسل من قبله فماتوا، وقد قتل بعض النبيين كزكريا ويحيى فلم يكن لأحد منهم الخلد، وهو لا بد أن تحكم عليه سنة الله بالموت فيخلو كما خلوا من قبله، إذ لا بقاء إلا لله وحده ولا ينبغي للمؤمن الموحد أن يعتقده لغيره، أفئن مات كما مات موسى وعيسى، أو قتل كما قتل زكريا ويحيى، تنقلبون على أعقابكم، أي تولون الدبر راجعين عما كان عليه، يهديهم الله بهذا إلى أن الرسول ليس مقصودا لذاته فيبقى للناس، وإنما المقصود من إرساله ما أرسل به من الهداية، فيجب العمل بها من بعده، كما وجب في عهده، ولله در أنس بن النضر، فإنه في تلك الساعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر، واشتد الكرب حتى بلغت القلوب الحناجر، وقال بعض الضعفاء والمنافقين ما قالوا؛ قد قال: (يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء) ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل.
5. قال في الكشاف: (الانقلاب على الأعقاب الإدبار عما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقوم به من أمر الجهاد وغيره، وقيل الارتداد وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين، ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإسلامه)، وقال محمد عبده: إن كلمة (انقلبتم على أعقابكم) من قبيل المثل تضرب لمن رجع عن الشيء بعد الإقبال عليه، والأحسن أن تكون عامة تشمل الارتداد عن الدين الذي جاهر بالدعوة إليه بعض المنافقين، والارتداد عن العمل كالجهاد ومكافحة الأعداء وتأييد الحق، وهذا هو الصواب.
6. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا﴾ لأنه وعد بأن ينصر من ينصره ويعز دينه ويجعل كلمته هي العليا وهو منجز وعده لا يحول دون إنجازه ارتداد بعض الضعفاء والمنافقين على أعقابهم فإنه يثبت المؤمنين ويمحصهم حتى يكونوا كالتبر الخالص وبهم يقيم دينه ولذلك قال: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ له نعمة عليهم بالقوى العقلية والجسدية وبالإيمان والهداية، القائمين بحقوقها في حياة رسوله وبعد موته على حد سواء، يأتون في كل وقت ما يمكن الإتيان به، لا يألون جهدا؛ ولا يقصرون في شيء عمدا، إذ لم يكن عملهم لوجه الرسول فيبطل إذا غيبه الموت عنهم، وإنما هو لوجه الله ذي الجلال والإكرام وهو لا يموت ولا يزول.
7. في هذه الآية إرشاد لنا(2) إلى أن لا نجعل المصائب الشخصية دليلا على كون من تصيبه على باطل أو على حق، فإن من الجائز عقلا والواقع فعلا أن يبتلى صاحب الحق بالمصائب والرزايا؛ وأن يبتلى صاحب الباطل بالنعم والعطايا، كما أن عكس ذلك جائز وواقع، وتعلمنا أيضا أن لا نعتمد في معرفة الحق والخير على وجود المعلم بحيث نتركها بعد ذهابه أو موته وإنما نعتمد على معرفتهما والتحقق بهما والسير على منهاجهما في حال وجود المعلم وبعده، فالله تعالى يقول: عليكم أن تستضيئوا بالنور وتتقلدوا سيف البرهان اللذين جاءكم بهما محمد، وأما ما يصيب جسمه من جرح أو ألم، وما يعرض له من حياة أو موت؛ فلا مدخل له في صحة دعوته، ولا في إضعاف النور الذي جاء به، فلا معنى إذا لتعليق إيمانكم بحياته أو سلامة بدنه مما يعرض له من حيث هو بشر مثلكم، خاضع لسنن الله كخضوعكم.
8. غفل عن هذا من أهمل هداية القرآن من المسلمين (جنسية لا إذعانا ومعرفة) فتراهم إذا ساء اعتقادهم في رجل كأن خالف تقاليدهم أو أنكر عليهم أهواءهم يتربصون به الدوائر فإذا أصابته مصيبة زعموا أن الله تعالى قد انتقم منه حبا لهم وبغضا فيه! فإن كان ذلك متهما بالإنكار على من يعتقدون صلاحهم وولايتهم قالوا إنهم قد تصرفوا فيه!! ويغفلون عما أصاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أحد وما أصاب كثيرا من الأنبياء قبله، بل يعمون عما يصيب معتقديهم وأوليائهم في عهدهم، لما حبس محمد عبده في عاقبة الثورة العرابية قال بعض هؤلاء المغرورين: إنه حبس كرامة للشيخ عليش لأنه ـ أي الشيخ عليش ـ كان يكرهه، فبلغه ذلك، وكان الشيخ عليش محبوسا أيضا فقال: لماذا أكون حبست كرامة له ولم يكن هو الذي حبس كرامة لي لأنه أساء بي الظن وقال السوء لتصديقه في الوشاة النمامين وأنا لم أقل فيه شيئا؟ السبب في حبس كل منا واحد، فلماذا كان كرامة لواحد وانتقاما من الآخر؟
9. لا يخفى على المؤمن العارف أن هذا الاعتقاد يعارض التوحيد الخالص ولذلك كان من المقاصد في الآية والحكم في سببها تقرير التوحيد ببيان أن الأنبياء والرسل كسائر البشر في الخضوع لسنن الله ونظام خلقه.
10. قال محمد عبده في بيان مزايا الإسلام من رسالة التوحيد ما نصه: (ثم أماط الإسلام اللثام عن حال الإنسان في النعيم الذي يتمتع بها الأشخاص أو الأمم، والمصائب التي يرزؤون بها، ففصل بين الأمرين فصلا لا مجال معه للخلط بينهما، فأما النعم التي يتمتع الله بها بعض الأشخاص في هذه الحياة والرزايا التي يرزأ بها في نفسه فكثير منها كالثروة والجاه والقوة والبنين أو الفقر والضعة والضعف والفقد ربما لا يكون كاسبها أو جالبها ما عليه الشخص في سيرته من استقامة وعوج أو طاعة وعصيان، وكثيرا ما أمهل الله بعض الطغاة البغاة أو الفجرة الفسقة وترك لهم متاع الحياة الدنيا إنظارا لهم حتى يتلقاهم ما أعد لهم من العذاب المقيم في الحياة الأخرى وكثيرا ما امتحن الله الصالحين من عباده، وأثنى عليهم في الاستسلام لحكمه وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة عبروا عن إخلاصهم في التسليم بقوله: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156] فلا غضب زيد ولا رضا عمرو ولا إخلاص سريرة ولا فساد عمل مما يكون له دخل في هذه الزرايا ولا في تلك النعم الخاصة، اللهم إلا فيما ارتباطه بالعمل ارتباط المسبب بالسبب على جاري العادة كارتباط الفقر بالإسراف، والذل بالجبن وضياع السلطان بالظلم، وكارتباط الثروة بحسن التدبير في الأغلب، والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم على الأكثر، وما يشبه ذلك مما هو مبين في علم آخر، أما شأن الأمم فليس على ذلك فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية من تصحيح الفكر وتسديد النظر وتأديب الأهواء وتحديد مطامح الشهوات والدخول إلى كل أمر من بابه، وطلب كل رغيبة من أسبابها؛ وحفظ الأمانة واستشعار الأخوة، والتعاون على البر، والتناصح في الخير والشر، وغير ذلك من أصول الفضائل ـ ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [آل عمران: 145] ولن يسلب الله عنها نعمته مادام هذا الروح فيها، يزيد الله النعم بقوته؛ وينقصها بضعفه حتى إذا فارقها ذهبت السعادة على أثره وتبعته الراحة إلى مقره، واستبدل الله عزة القوم بالذل؛ وكثرتهم بالقل ونعيمهم بالشقاء وراحتهم بالعناء وسلّط عليهم الظالمين أو العادلين فأخدهم بهم وهم في غفلة ساهون ﴿إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا﴾ [الإسراء: 16] أمرناهم بالحق ففسقوا عنه إلى الباطل ثم لا ينفعهم الأنين ولا يجديهم البكاء ولا يفيدهم ما بقي من صور الأعمال ولا يستجاب منهم الدعاء، ولا كاشف لما نزل بهم إلا أن يلجؤوا إلى ذلك الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة برسل الفكر والذكر والصبر والشكر ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11] ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [المؤمنون: 62] وما أجل ما قاله العباس بن عبد المطلب في استسقائه: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يرفع إلا بتوبة) على هذه السنن جرى من الأعمال الجليلة كان غيره يظن أنه يزلزل الأرض بدعائه ويشق الفلك ببكائه وهو وَلِعٌ بأهوائه ماض في غلوائه وما كان يغني عنه ظنه من الحق شيئا)
11. في الآية من الهداية والإرشاد أيضا أنه لا ينبغي أن يكون استمرار الحرب وعدمه متعلقا بوجود القائد بحيث إذا قتل ينهزم الجيش أو يستسلم للأعداء بل يجب أن تكون الأعمال والمصالح العامة جارية على نظام ثابت لا يزلزله فقد الرؤساء، وهذا ما عليه نظام الحروب والحكومات في هذا العصر، وقد كان أكثر الناس في العصور القديمة تبعا لرؤسائهم يحيون لحياتهم ويخذلون بموتهم حتى أنهم يرون أن وجود الجيش العظيم بعد فقد القائد كالعدم.
12. إن الأمة التي تقدر هذه الهداية حق قدرها تعد لكل علم تحتاج إليه ولكل عمل تقوم مصالحها به رجالا كثيرين فلا تفقد معلما ولا مرشدا ولا حاكما ولا قائدا ولا رئيسا ولا زعيما إلا ويوجد فيها من يقوم مقامه ويؤدي لها من الخدمة ما كان يؤديه فهي لا تحصر الاستعداد لشيء من الأشياء في فرد من الأفراد، ولا تقصر القيام بأمر من الأمور على نابغ واحد من النابغين، ولا يتجرأ فيها حاكم ولا زعيم على احتكار علم من العلوم أو عمل من الأعمال، بل تتسابق فيها الهمم إلى الاستعداد لكل شيء يمكن أن يصل إليه كسب البشر وينال منه العامل بقدر همته وسعيه وتأييد التوفيق له، فأين نحن معاشر المسلمين من هذه الهداية اليوم؟
__________
(1) تفسير المنار: 4/160.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي إن محمدا ليس إلا بشرا قد مضت الرسل قبله فماتوا وقتل بعضهم كزكريا ويحيي؛ ولم يكتب لأحد منهم الخلد، أفإن مات كما مات موسى وعيسى وغيرهما من النبيين، أو قتل كما قتل زكريا ويحيى، تقلبوا على أعقابكم راجعين عما كنتم عليه؟ والرسول ليس مقصودا لذاته، بل المقصود ما أرسل به من الهداية التي يجب على الناس أن يتبعوها، قال أنس بن النضر في الساعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر، وبلغت القلوب فيها الحناجر، وحين فشا في الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، وقال بعض ضعفاء المؤمنين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبىّ فيأخذ لنا أمانا من أبى سفيان، وقال ناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول (إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه) ثم قال: (اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلا)ء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه، أما المؤمنون الصادقون الموقنون، فمنهم من ثبت معه، ومنهم من كان بعيدا عنه فرجع إليه كأبي بكر وعلى وطلحة وأبى دجانة الذي جعل نفسه ترسا دونه، فكان يقع عليه النّبل وهو لا يتحرك.
2. الخلاصة ـ إنّ قتل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يوجب ضعفا في دينه لأمرين:
أ. إن محمدا بشر كسائر الأنبياء، وهؤلاء قد ماتوا أو قتلوا.
ب. إن الحاجة إلى الرسول هي تبليغ الدين فإذا تم له ذلك فقد حصل الغرض ولا يلزم من قتله فساد دينه.
3. في الآية هداية وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يكون استمرار الحرب أو عدم استمرارها ذا صلة بوجود القائد بحيث إذا قتل انهزم الجيش، أو استسلم للأعداء، بل يجب أن تكون المصالح العامة جارية على نظام ثابت لا يزلزله فقد الرؤساء؛ وعلى هذا تجرى الحكومات والحروب في عصرنا الحاضر، ومن توابع هذا النظام أن تعدّ الأمة لكل أمر عدّته، فتوجد لكل عمل رجالا كثيرين، حتى إذا فقدت معلما أو مرشدا أو قائدا أو حكيما أو رئيسا أو زعيما وجدت الكثير ممن يقوم مقامه، ويؤدى لها من الخدمة ما كان يؤديه؛ وحينئذ يتنافس أفرادها، ويحفزون عزائمهم للوصول إلى ما يمكن أن يصل إليه كسب البشر، وينال كلّ منه بقدر استعداده وسعيه وتوفيق الله له.
4. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ أي ومن يرجع عن جهاده ومكافحته الأعداء فلن يضر الله شيئا بما فعل، بل يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب، وحرمانها من الثواب، فالله قد وعد بنصر من ينصره ويعزّ دينه، ويجعل كلمته هي العليا، وهو لا محالة منجز وعده، ولا يحول دون ذلك ارتداد بعض الضعفاء والمنافقين على أعقابهم، فهو سيثبّت المؤمنين ويمحّصهم حتى يكونوا كالتبر الخالص، فيقيموا دينه، وينشروا دعوته، ويرفعوا شأنه، وتنشر على الخافقين رايته، وهو الذي بيده الخلق والأمر وهو القادر على كل شيء.
5. ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ له نعمه عليهم بالإيمان والهداية إلى أقوم السبل.
6. في الآية إرشاد إلى أن المصائب التي تحل بالإنسان لا مدخل لها في كونه على حق أو باطل، فكثيرا ما يبتلى صاحب الحق بالمصائب والرزايا، وصاحب الباطل بالنعم والعطايا، وفيها إيماء إلى أنا لا نعتمد في معرفة الحق والخير على وجود المعلّم بحيث نتركهما عند موته، بل نسير على منهاجهما حين وجوده وبعد موته.
7. الخلاصة ـ إن الله أوجب علينا أن نستضىء بالنور الذي جاء به الرسول ، أما ما يصيب جسمه من جرح أو ألم، وما يعرض له من حياة أو موت، فلا مدخل له في صحة دعوته، ولا في إضعاف النور الذي جاء به، فإنما هو بشر مثلكم خاضع لسنن الله كخضوعكم.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/88.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور الإسلامي الكبيرة؛ وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق؛ متخذا من أحداث المعركة محورا لتقرير تلك الحقائق؛ ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد.
2. قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ يشير إلى واقعة معينة، حدثت في غزوة أحد، ذلك حين انكشف ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل، فركبه المشركون، وأوقعوا بالمسلمين، وكسرت رباعية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وشج وجهه، ونزفت جراحه؛ وحين اختلطت الأمور، وتفرق المسلمون، لا يدري أحدهم مكان الآخر.. حينئذ نادى مناد: إن محمدا قد قتل.. وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين، فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة، مصعدين في الجبل منهزمين، تاركين المعركة يائسين.. لولا أن ثبت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في تلك القلة من الرجال؛ وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون، حتى فاؤوا إليه، وثبت الله قلوبهم، وأنزل عليهم النعاس أمنة منه وطمأنينة.. كما سيجيء.
3. هذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول، يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه، ومناسبة لتقرير حقائق التصور الإسلامي؛ ويجعلها محورا لإشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة، وفي تاريخ الإيمان ومواكب المؤمنين: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾، إن محمدا ليس إلا رسولا، سبقته الرسل، وقد مات الرسل، ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله.
4. هذه حقيقة أولية بسيطة، فما بالكم غفلتم عنها حينما وواجهتكم في المعركة!؟ إن محمدا رسول من عند الله، جاء ليبلغ كلمة الله، والله باق لا يموت، وكلمته باقية لا تموت.. وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل.. وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول، وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة!
5. إن البشر إلى فناء، والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ.. والمسلم الذي يحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيرا، الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة، وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحدا إثر واحد.. وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم، وبكل مشاعرهم، حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره .. هذا المسلم الذي يحب محمدا ذلك الحب، مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده، باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت.
6. إن الدعوة أقدم من الداعية: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾، قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن، العميقة في منابت التاريخ، المبتدئة مع البشرية، تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق، وهي أكبر من الداعية، وأبقى من الداعية، فدعاتها يجيئون ويذهبون، وتبقى هي على الأجيال والقرون، ويبقى أتباعها موصولين بمصدرها الأول، الذي أرسل بها الرسل، وهو باق سبحانه يتوجه إليه المؤمنون، وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه، ويرتد عن هدى الله، والله حي لا يموت.
7. ومن ثم هذا الاستنكار، وهذا التهديد، وهذا البيان المنير: ﴿أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟ ومَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً، وسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، وفي التعبير تصوير حي للارتداد: ﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾.. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾، فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة، كأنه منظر مشهود، والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة، ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف: إن محمدا قد قتل، فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين، وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين، وانتهى أمر الجهاد للمشركين! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا، فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب، كارتدادهم في المعركة على الأعقاب! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم، وقالوا له: إن محمدا قد مات: (فما تصنعون بالحياة من بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ـ )
8. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا﴾، فإنما هو الخاسر، الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق.. وانقلابه لن يضر الله شيئا، فالله غني عن الناس وعن إيمانهم، ولكنه ـ رحمة منه بالعباد ـ شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم، ولخيرهم هم، وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله، وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق، وتعوج الأمور كلها، ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة، وتستقيم في ظله النفوس، وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها، والسلام مع الكون الذي تعيش فيه.
9. ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾، الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج، فيشكرونها باتباع المنهج، ويشكرونها بالثناء على الله، ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على شكرهم، ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة، وهو أكبر وأبقى.
10. كأنما أراد الله سبحانه بهذه الحادثة، وبهذه الآية، أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو حي بينهم، وأن يصلهم مباشرة بالنبع، النبع الذي لم يفجره محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكن جاء فقط ليومئ إليه، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق، كما أومأ إليه من قبله من الرسل، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه! وكأنما أراد الله سبحانه أن يأخذ بأيديهم، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى، العروة التي لم يعقدها محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون! وكأنما أراد الله سبحانه أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة، وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة، وأن يجعل مسئوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط، حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة، التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو يقتل، فهم إنما بايعوا الله، وهم أمام الله مسئولون! وكأنما كان الله سبحانه يعدّ الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى ـ حين تقع ـ وهو سبحانه يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم، فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب، وأن يصلهم به هو، وبدعوته الباقية، قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/485.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. حين مال المشركون على المسلمين يوم أحد، وأخذوهم بسيوفهم وسهامهم، وسقط شهداؤهم الذين كانوا إلى جوار رسول الله ـ تنادى المشركون أن محمدا قتل! وكان لهذا الخبر الكاذب وقعة على المسلمين، فاضطربت لذلك صفوفهم، ووقع كثير منهم تحت وطأة الحزن والكمد، فهام على وجهه يطلب الفرار من وجه هذا الهول الصاعق.. إذ كانوا ـ وهم يعلمون أن محمدا ميت وأنهم ميتون ـ غير مستعدّين، نفسيا، وهم في معمعة المعركة، ووجودهم كله مستغرق فيها ـ كانوا غير مستعدين أن يتلقوا هذه الصدمة المزلزلة، وأن يصدقوها، وإن كانت حقّا، لا يمترون فيه ولا يشكّون! فكان عتاب الله لهم على ما كان منهم في هذا الموقف، عتابا رقيقا، يحمل في طياته الرحمة والمغفرة.. فما لقيهم الله بالعتاب إلا بعد أن ردّهم إلى الحق الذي عرفوه وآمنوا به، وإن كان قد غاب عنهم، أو ذهلوا عنه في هذا الموقف الرهيب!
2. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾.. وما الرّسل إلا ناس من الناس، وبشر من البشر.. يموتون كما يموت سائر الناس، وقد مات الرسل جميعا، ولا بد أن يموت محمّد، ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ فكيف إذا مات محمد أو قتل تتحولون عن مواقفكم، وتنقلبون على أعقابكم تاركين ما دعاكم إليه، وأقامكم عليه من الجهاد في سبيل الله؟ إن ذلك غير مستقيم مع منطق أبدا!
3. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ فهذا حكم الله.. إن من ينقلب على عقبيه فيكفر بالله بعد إيمانه، أو ينكص عن الجهاد بعد موت النبي، فلن يضر الله شيئا.. إن الله غنى عن العالمين.
4. العدول بالخطاب من الحضور إلى الغيبة، وصرفه عن الماضي إلى المستقبل ـ فيه ما فيه من لطف الله، ورحمته وإحسانه، بل ورضاه عن المسلمين الذين شهدوا أحدا، وشمولهم جميعا بهذا الصفح الجميل، والرضوان العظيم.
5. في قوله تعالى: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ لطف فوق هذا اللطف، ورحمة فوق هذه الرحمة، وإحسان فوق هذا الإحسان! فالمسلمون الذين شهدوا أحدا، قد تلقوا ألطاف الله هذه، بالشكر العظيم، وهم إذ يشكرون الله على رحمته بهم وفضله عليهم مجزّءون جزاء الشاكرين، (فالشاكرون) هنا ـ وإن صح إطلاقها على كل شاكر ـ متجهة أولا وقبل كلّ شيء إلى هؤلاء الذين انتظمهم جيش رسول الله، في معركة أحد!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/606.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ عطف الإنكار على الملام المتقدّم في قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ [آل عمران: 142] وقوله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ [آل عمران: 143] وكلّ هاته الجمل ترجع إلى العتاب والتقريع على أحوال كثيرة، كانت سبب الهزيمة يوم أحد، فيأخذ كلّ من حضر الوقعة من هذا الملام بنصيبه المناسب لما يعلمه من حاله ظاهرا كان أم باطنا.
2. الآية تشير إلى ما كان من المسلمين من الاضطراب حين أرجف بموت الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال المنافقون: لو كان نبيّا ما قتل، فارجعوا إلى دينكم القديم وإخوانكم من أهل مكّة ونكلّم عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، فهمّوا بترك القتال والانضمام للمشركين، وثبت فريق من المسلمين، منهم: أنس بن النضر الأنصاري، فقال: إن كان قتل محمد فإنّ ربّ محمد حيّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعده، فقاتلوا على ما قاتل عليه.
3. محمد اسم رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلّى الله عليه وآله وسلّم سمّاه به جدّه عبد المطلب وقيل له: لم سمّيته محمّدا وليس من أسماء آبائك؟ فقال: رجوت أن يحمده النّاس، وقد قيل: لم يسمّ أحد من العرب محمدا قبل رسول الله، ذكر السهيلي في (الروض) أنّه لم يسمّ به من العرب قبل ولادة رسول الله إلّا ثلاثة: محمد بن سفيان بن مجاشع، جدّ جدّ الفرزدق، ومحمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي، ومحمد بن حمران من ربيعة، وهذا الاسم منقول من اسم مفعول حمّده تحميدا إذا أكثر من حمده، والرسول فعول بمعنى مفعول مثل قولهم: حلوب وركوب وجزور.
4. معنى ﴿خَلَتْ﴾ مضت وانقرضت كقوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ [آل عمران: 137]، وقول امرئ القيس: (من كان في العصر الخالي) وقصر محمدا على وصف الرسالة قصر موصوف على الصفة، قصرا إضافيا، لردّ ما يخالف ذلك ردّ إنكار، سواء كان قصر قلب أو قصر إفراد.
5. الظاهر أنّ جملة ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ صفة (لرسول)، فتكون هي محطّ القصر: أي ما هو إلّا رسول موصوف بخلوّ الرسل قبله أي انقراضهم، وهذا الكلام مسوق لردّ اعتقاد من يعتقد انتفاء خلوّ الرسل من قبله، وهذا الاعتقاد وإن لم يكن حاصلا لأحد من المخاطبين، إلّا أنّهم لمّا صدر عنهم ما من شأنه أن يكون أثرا لهذا الاعتقاد، وهو عزمهم على ترك نصرة الدّين والاستسلام للعدوّ كانوا أحرياء بأن ينزلوا منزلة من يعتقد انتفاء خلوّ الرسل من قبله، حيث يجدون أتباعهم ثابتين على مللهم حتّى الآن فكان حال المخاطبين حال من يتوهّم التلازم بين بقاء الملّة وبقاء رسولها، فيستدلّ بدوام الملّة على دوام رسولها، فإذا هلك رسول ملّة ظنّوا انتهاء شرعه وإبطال اتّباعه، فالقصر على هذا الوجه قصر قلب، وهو قلب اعتقادهم لوازم ضدّ الصّفة المقصور عليها، وهي خلوّ الرسل قبله، وتلك اللوازم هي الوهن والتردّد في الاستمرار على نشر دعوة الإسلام، وبهذا يشعر كلام صاحب (الكشّاف)
6. جعل السكاكي المقصور عليه هو وصف الرسالة فيكون محطّ القصر هو قوله: (رسول) دون قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ ويكون القصر قصر إفراد بتنزيل المخاطبين منزلة من اعتقد وصفه بالرسالة مع التنزّه عن الهلاك، حين رتّبوا على ظنّ موته ظنونا لا يفرضها إلّا من يعتقد عصمته من الموت، ويكون قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ على هذا الوجه استئنافا لا صفة، وهو بعيد، لأنّ المخاطبين لم يصدر منهم ما يقتضي استبعاد خبر موته، بل هم ظنّوه صدقا.
7. على كلا الوجهين فقد نزّل المخاطبون منزلة من يجهل قصر الموصوف على هذه الصفة وينكره، فلذلك خوطبوا بطريق النّفي والاستثناء، الّذي كثر استعماله في خطاب من يجهل الحكم المقصور عليه وينكره دون طريق، إنّما كما بيّنه صاحب (المفتاح)
8. ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ عطف على قوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ الآية.. والفاء لتعقيب مضمون الجملة المعطوف عليها بمضمون الجملة المعطوفة، ولمّا كان مضمون الجملة المعطوفة إنشاء الاستفهام الإنكاري على مضمونها، وهو الشرط وجزاؤه، لم يكن للتعقيب المفاد من فاء العطف معنى إلّا ترتّب مضمون المعطوفة على المعطوف عليها، ترتّب المسبّب على السبب، فالفاء حينئذ للسببية، وهمزة الاستفهام مقدّمة من تأخير، كشأنها مع حروف العطف، والمعنى ترتّب إنكار أن ينقلبوا على أعقابهم على تحقّق مضمون جملة القصر: لأنّه إذا تحقّق مضمون جملة القصر، وهو قلب الاعتقاد أو إفراد أحد الاعتقادين، تسبّب عليه أن يكون انقلابهم على الأعقاب على تقدير أن يموت أو يقتل أمرا منكرا جديرا بعدم الحصول، فكيف يحصل منهم، وهذا الحكم يؤكّد ما اقتضته جملة القصر، من التعريض بالإنكار عليهم في اعتقادهم خلاف مضمون جملة القصر، فقد حصل الإنكار عليهم مرتين: إحداهما بالتّعريض المستفاد، من جملة القصر، والأخرى بالتّصريح الواقع في هاته الجملة، وقال الزمخشري: الهمزة لإنكار تسبّب الانقلاب على خلوّ الرسول، وهو التسبّب المفاد من الفاء أي إنكار مجموع مدلول الفاء ومدلول مدخولها مثل إنكار الترتّب والمهلة في قوله تعالى: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [يونس: 51] وقول النابغة:
çأثمّ تعذّران إليّ منها...فإنّي قد سمعت وقد رأيتé
بأن أنكر عليهم جعلهم خلوّ الرسل قبله سببا لارتدادهم عند العلم بموته، وعلى هذا فالهمزة غير مقدّمة من تأخير لأنّها دخلت على فاء السّببية، ويرد عليه أنّه ليس علمهم بخلوّ الرسل من قبله ـ مع بقاء أتباعهم متمسكين ـ سببا لانقلاب المخاطبين على أعقابهم، وأجيب بأنّ المراد أنّهم لمّا علموا خلوّ الرسل من قبله مع بقاء مللهم، ولم يجروا على موجب علمهم، فكأنّهم جعلوا علمهم بذلك سببا في تحصيل نقيض أثره، على نحو ما يعرض من فساد الوضع في الاستدلال الجدلي، وفي هذا الوجه تكلّف وتدقيق كثير، وذهب جماعة إلى أنّ الفاء لمجرّد التّعقيب الذكري، أو الاستئناف، وأنّه عطف إنكار تصريحي على إنكار تعريضي، وهذا الوجه وإن كان سهلا غير أنّه يفيت خصوصية العطف بالفاء دون غيرها، على أنّ شأن الفاء المفيدة للترتيب الذكري المحض أن يعطف بها الأوصاف نحو ﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا﴾ [الصافات: 1، 2] أو أسماء الأماكن نحو قوله:
çبين الدّخول فحومل...فتوضح فالمقراةé
9. الانقلاب: الرجوع إلى المكان، يقال: انقلب إلى منزله، وهو هنا مجاز في الرجوع إلى الحال الّتي كانوا عليها، أي حال الكفر، و﴿عَلَى﴾ للاستعلاء المجازي لأنّ الرجوع في الأصل يكون مسبّبا على طريق، والأعقاب جمع عقب وهو مؤخّر الرّجل، وفي الحديث (ويل للأعقاب من النّار) والمراد منه جهة الأعقاب أي الوراء.
10. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ أي شيئا من الضر، ولو قليلا، لأنّ الارتداد عن الدّين إبطال لما فيه صلاح النّاس، فالمرتدّ يضرّ بنفسه وبالنّاس، ولا يضرّ الله شيئا، ولكن الشاكر الثّابت على الإيمان يجازي بالشكر لأنّه سعى في صلاح نفسه وصلاح النّاس، والله يحبّ الصلاح ولا يحبّ الفساد.
11. المقصود من الآية العتاب على ما وقع من الاضطراب، والثناء على الّذين ثبتوا ووعظوا النّاس، والتحذير من وقوع الارتداد عند موت الرسول ـ عليه السّلام ـ، وقد وقع ما حذّرهم الله منه بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا ارتد كثير من المسلمين، وظنّوا اتّباع الرسول مقصورا على حياته، ثمّ هداهم الله بعد ذلك، فالآية فيها إنباء بالمستقبل.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/238.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. حدث في أثناء الموقعة أن زاغت الأبصار، فظن بعض المجاهدين أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قتل، فاضطربت عزائم، واسترخت همم، واستضعف أقوياء، وقد لامهم الله تعالى على ذلك أشد اللوم، وكأنما كان الظن الذي غلبهم ليبين الله لهم حقيقة غابت عنهم، وهى أن محمدا بشر كالبشر، يموت كما يموتون، ويحيا كما يحيون.
2. ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ تقرير لحقيقة ثابتة وأمر واقع، وهو أن محمدا بشر من البشر، وأنه يموت كما يموت سائر البشر، وقد قرر هذه الحقيقة ومعها دليلها، وذلك ببيان حقيقتين كل واحدة منهما تصلح مقدمة في دليل لإثبات أنه ميت لا محالة كما قال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر]:
أ. الحقيقة الأولى أو المقدمة الأولى: أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم رسول فقط فليس أكبر من رسول، ولذا قال تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ أي ليس له صفة تميزه على الناس إلا الرسالة.
ب. والحقيقة الثانية: أن الرسالة لا تقتضى البقاء، فقد مضى رسل من قبله وماتوا، وقد قررها سبحانه بقوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾
3. من مجموع الحقيقتين يثبت أن محمدا سيموت؛ لأنه إذا كان ليس إلا رسولا، والرسل من قبله قد ماتوا، فهو سيموت لا محالة، وإذا كان محمد سيموت لا محالة فإن رسالته لا تموت من بعده، ولا يصح أن ينقلب المؤمنون من بعده، بل عليهم أن يحملوا العبء من بعده، وقد بلغ رسالات ربه، وأتم بيان دينه، ولذا وبخ المؤمنين على ما كان منهم يوم أحد إذ ذاع في وسطهم أن محمدا قد قتل، فقال تعالى: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾
4. الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أو للإفصاح عن شرط مقدر، والاستفهام للتوبيخ، والمعنى: أإذا مات وقد علمتم أن موته حق لا ريب فيه، أو قتل في الميدان والقتل طريق من طرق الموت، انقلبتم على أعقابكم، أي عدتم كفارا بعد أن آمنتم، وعباد أوثان بعد أن صرتم من أهل التوحيد، وضلالا بعد أن اهتديتم، والتعبير عن ذلك بقوله تعالى: ﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ تصوير سام لمن ضل بعد أن اهتدى، فهو تصوير لمن يرجع إلى الوراء وبصره إلى الأمام، وأعقابه هي التي تقوده، وهو منكس جعل رأسه في أسفل وعقبه في أعلى، وذلك أقبح منظر يكون للإنسان.
5. لكن هل وقع ذلك الضلال أو كان ما يدل على احتمال وقوعه، يروى في ذلك أن عبد الله بن قمئة الحارثى أقبل يريد قتل النبيّ ، فتصدى له مصعب بن عمير حامل راية المؤمنين فقتله المشرك، وظن أنه الرسول فأذاع ذلك في المشركين، وانتقل الخبر إلى بعض المؤمنين، إذ قد اختلط الحابل بالنابل، فريعت قلوب بعض المسلمين وولوا مدبرين، وانطلق المنافقون يقولون: لو كان نبيا ما قتل، وثبت المؤمنون الصادقون، وقد مر أنس بن النضر، ووجد قوما خارت عزائمهم فقال لهم: يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد حي لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه.. اللهم أعذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل، وقد مر بعض المهاجرين بأنصارى يتشحط في دمه، فقال له: أشعرت أن محمدا قد قتل، فقال: إن كان قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا على دينكم، ولقد صاح بعض المجاهدين في وسط ذلك البلاء: يا معشر المؤمنين إن كان محمد قد أصيب أفلا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به.
6. بهذا يتبين أن المحاربين كانوا فريقين: أحدهما رعب واضطراب، والثاني ثبت وجاهد، ولقد ذكر الله حال الفريقين، ومقام كل واحد من الحق ودعوته فقال تعالت كلماته في الفريق الأول: ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ أي ومن ينقلب على عقبيه بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فلن يضر دين الله تعالى في شيء، ولأن دين الله تعالى بعد أن بلغ النبيّ رسالة ربه، وأكمل البيان لهذا الدين، قد ظهر وصار حقيقة ثابتة في الوجود، فلا عبرة بمن يخرج، كما قال تعالى: ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة]، وفي هذا تنبيه إلى ثلاثة أمور:
أ. أولها: أن من يجاهد عليه أن يجاهد لحقيقة من الحقائق الثابتة الخالدة التي لا تفنى ولا تنته، ولا يقاتل لأجل الأشخاص الذين ينتهون ويفنون، فالمعانى خالدة، والأشخاص ميتون.
ب. الثانية: أن من يفسد قلبه فيرتد بعد إيمان ويكفر بعد يقين، لا يضر دين الله بل يضر نفسه؛ لأن الضال المضل يضر نفسه قبل أن يضر غيره.
ج. ثالثها: إخبار الله تعالى بأن هذا الدين خالد ثابت باق إلى يوم القيامة؛ لأنه سبحانه قد قرر أنه لا يضره من يخرج عنه أو يمرق عن أحكامه، أو يتركها مستهينا، فإن للإسلام ربا يحميه، ورجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
7. ثم بين سبحانه من بعد ذلك جزاء الصابرين الذين لم يرعبوا ولم يضطربوا، فقال سبحانه: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ أي وسيجزى الله سبحانه وتعالى الذين صبروا في هذه الشديدة وشكروا الله تعالى في السراء والضراء، فلم يزعجهم البلاء كما لم تبطرهم النعماء، فصفة الشكر كصفة الصبر كلتاهما تظهر في السراء والضراء معا، فالصبر يكون في النعمة بالقيام بحقها، وفي الكريهة باحتمالها، من غير تململ وتضجر.
8. سؤال وإشكال: لماذا عبر هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين، والصبر هنا هو الأظهر؟ والجواب: إن الشكر في هذا المقام هو أعلى درجات الصبر، وذلك أنهم لم يحتملوا البلاء فقط، بل تجاوزوا حد الصبر إلى حد الشكر على هذه الشديدة، فالشكر هنا صبر وزيادة، وقليل من يكون على هذه الشاكلة، ولذا قال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ]، وإنا نضرع إلى الله تعالى أن يجعلنا من الصابرين في البلاء، الشاكرين في الضراء والسراء معا، إنك سميع الدعاء.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1432.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾، تشير هذه الآية إلى واقعة معينة، وهي وقعة أحد، وسبقت الإشارة إليها.. وقد وبّخ القرآن المنهزمين والمشككين، وقال لهم: ان محمدا ليس الا بشرا يبلغ رسالة ربه إلى عباده، ومتى بلغها تنتهي مهمته، ورسالته العامة لا ترتبط بشخصه، ولا تموت بموته، بل تبقى ببقاء الله الذي لا يموت، تماما كما هو الشأن بالنسبة إلى غيره من الأنبياء الذين ماتوا أو قتلوا، وبقيت رسالاتهم وتعاليمهم.. وبكلمة: ان الدعوة لا تموت بموت الداعي، والمبادئ لا تزول بزوال الأفراد.
2. خير ما يمثل هذه الحقيقة ما جاء في تفسير الطبري ان رجلا من المهاجرين مر برجل من الأنصار يتشحط في دمه، فقال للأنصاري: أعلمت ان محمدا قد قتل؟، فقال الأنصاري: ان كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.. وفي الطبري أيضا وغيره ان انس بن النضر مر بعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال انس: ما يجلسكم؟، قالوا: قتل محمد، قال ان كان قد قتل محمد فإن رب محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعده؟، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال اللهم اني أعتذر اليك مما قال هؤلاء، وأبرأ اليك مما جاؤوا به، ثم شد بسيفه، فقاتل، حتى قتل، رضوان الله عليه.
3. قال ابن القيم الجوزية في زاد المعاد: (ان وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصا ـ أي لوما ـ بين يدي موت محمد ، فنبأهم الله ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم ان مات رسول الله أو قتل)، ونقل صاحب تفسير المنار عن أستاذه الشيخ محمد عبده ان كلمة ﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ عامة تشمل الارتداد عن الدين، والارتداد عن تأييد الحق، ثم علّق صاحب المنار على ذلك بقوله: (هذا هو الصواب)، اذن، فالانقلاب المقصود بالآية لا ينحصر بترك كلمة التوحيد، بل يشمل ترك العمل بالحق الذي أوصى به النبي .. ويعزز ذلك ما جاء في صحيح البخاري، كتاب الفتن، ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول يوم القيامة: (أي ربي أصحابي.. فيقول له: لا تدري ما أحدثوا بعدك).. وفي حديث ثان من أحاديث البخاري: (انك لا تدري ما بدلوا بعدك؟، فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي).. وليس من شك ان المراد بهذا التبديل الاعراض عن سنته ووصيته، ومخالفة أقواله وشريعته.
4. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ بل يضر نفسه بتعريضها لسخط الله وعذابه، ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، قال ابن القيم الجوزية في زاد المعاد: (والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة فثبتوا عليها، حتى ماتوا أو قتلوا، فظهر أثر هذا العتاب وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وارتد من ارتد على عقبيه)
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/170.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ الموت زهاق الروح وبطلان حياة البدن، والقتل هو الموت إذا كان مستندا إلى سبب عمدي أو نحوه، والموت والقتل إذا افترقا كان الموت أعم من القتل، وإذا اجتمعا كان الموت هو ما بحتف الأنف والقتل خلافه.
2. انقلب على عقبيه أي رجع قال الراغب: (ورجع على عقبيه إذا انثنى راجعا، وانقلب على عقبيه نحو رجع على حافرته، ونحو ارتدا على آثارهما قصصا، وقولهم رجع عوده إلى بدئه)، وحيث جعل الانقلاب على الأعقاب جزاء للشرط الذي هو موت الرسول أو قتله أفاد ذلك أن المراد به الرجوع عن الدين دون التولي عن القتال إذ لا ارتباط للفرار من الزحف بموت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو قتله، وإنما النسبة والرابطة بين موته أو قتله وبين الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان.
3. يدل على أن المراد به الرجوع عن الدين ما ذكره تعالى في قوله: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ إلى آخر الآيات، على أن نظير ما وقع في أحد من فرارهم من الزحف وتوليهم عن القتال تحقق في غيره كغزوة حنين وخيبر وغيرهما ولم يخاطبهم الله بمثل هذا الخطاب ولا عبر عن توليهم عن القتال بمثل هذه الكلمة قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾، فالحق أن المراد بالانقلاب على الأعقاب الرجوع إلى الكفر السابق.
4. محصل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب والتوبيخ: أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس إلا رسولا من الله مثل سائر الرسل، ليس شأنه إلا تبليغ رسالة ربه لا يملك من الأمر شيئا، وإنما الأمر لله والدين دينه باق ببقائه، فما معنى اتكاء إيمانكم على حياته حيث يظهر منكم أن لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين، ورجعتم إلى أعقابكم القهقرى واتخذتم الغواية بعد الهداية؟
5. هذا السياق أقوى شاهد على أنهم ظنوا يوم أحد بعد حمي الوطيس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل فانسلوا عند ذلك وتولوا عن القتال، فيتأيد بذلك ما ورد في الرواية والتاريخ ـ كما في ما رواه ابن هشام في السيرة ـ: أن أنس بن النضر ـ عم أنس بن مالك ـ انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار ـ وقد ألقوا بأيديهم ـ فقال: ما يحبسكم؟ قالوا: قتل رسول الله قال فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل.
6. بالجملة فمعنى هذا الانسلال والإلقاء بالأيدي: أن إيمانهم إنما كان قائما بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يبقى ببقائه ويزول بموته، وهو إرادة ثواب الدنيا بالإيمان وهذا هو الذي عاتبهم الله عليه، ويؤيد هذا المعنى قوله بعده: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، فإن الله سبحانه كرر هذه الجملة في الآية التالية بعد قوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾، فافهم ذلك.
7. قوله تعالى: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، بمنزلة الاستثناء مما قبله على ما يعطيه السياق، وهو الدليل على أن القوم كان فيهم من لم يظهر منه هذا الانقلاب أو ما يشعر به كالانسلال والتولي وهم الشاكرون، وحقيقة الشكر إظهار النعمة كما أن الكفر الذي يقابله هو إخفاؤها والستر عليها، وإظهار النعمة هو استعمالها في محلها الذي أراده منعمها وذكر المنعم بها لسانا وهو الثناء وقلبا من غير نسيان، فشكره تعالى على نعمة من نعمه أن يذكر عند استعمالها ويوضع النعمة في الموضع الذي أراده منها ولا يتعدى ذلك، وإن من شيء إلا وهو نعمة من نعمه تعالى، ولا يريد بنعمة من نعمه إلا أن تستعمل في سبيل عبادته، قال تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾، فشكره على نعمته أن يطاع فيها ويذكر مقام ربوبيته عندها، وعلى هذا فشكره المطلق من غير تقييد، ذكره تعالى من غير نسيان، وإطاعته من غير معصية، فمعنى قوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾، اذكروني ذكرا لا يخالطه نسيان، وأطيعوا أمري إطاعة لا يشوبها عصيان، ولا يصغي إلى قول من يقول: إنه أمر بما لا يطاق فإنه ناش من قلة التدبر في هذه الحقائق والبعد من ساحة العبودية.
8. عرفت فيما تقدم من الكتاب أن إطلاق الفعل لا يدل إلا على تلبس ما بخلاف الوصف فإنه يدل على استقرار التلبس وصيرورة المعنى الوصفي ملكة لا تفارق الإنسان، ففرق بين قولنا: الذين أشركوا، والذين صبروا، والذين ظلموا، والذين يعتدون، وبين قولنا، المشركين، والصابرين، والظالمين، والمعتدين، فالشاكرون هم الذين ثبت فيهم وصف الشكر واستقرت فيهم هذه الفضيلة، وقد بان أن الشكر المطلق هو أن لا يذكر العبد شيئا (وهو نعمة) إلا وذكر الله معه، ولا يمس شيئا (وهو نعمة) إلا ويطيع الله فيه.
9. تبين أن الشكر لا يتم إلا مع الإخلاص لله سبحانه علما وعملا، فالشاكرون هم المخلصون لله، الذين لا مطمع للشيطان فيهم، ويظهر هذه الحقيقة مما حكاه الله تعالى عن إبليس، قال تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾، فلم يستثن من إغوائه أحدا إلا المخلصين، وأمضاه الله سبحانه من غير رد، وقال تعالى: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾، وقوله: ﴿وَلَا تَجِدُ﴾ بمنزلة الاستثناء فقد بدل المخلصين بالشاكرين، وليس إلا لأن الشاكرين هم المخلصون الذين لا مطمع للشيطان فيهم، ولا صنع له لديهم، وإنما صنعه وكيده إنساء مقام الربوبية والدعوة إلى المعصية.
10. مما يؤيد ذلك من هذه الآيات النازلة في غزوة أحد قوله تعالى فيما سيأتي من الآيات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾، مع قوله في هذه الآية التي نحن فيها: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، وقوله فيما بعدها: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾، وقد عرفت أنه في معنى الاستثناء، فتدبر فيها واقض عجبا مما ربما يقال: إن الآية أعني قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ ناظرة إلى ما روي: (أن الشيطان نادى يوم أحد: (ألا قد قتل محمد) فأوجب ذلك وهن المؤمنين وتفرقهم عن المعركة!) فاعتبر إلى أي مهبط أهبط كتاب الله من أوج حقائقه ومستوى معارفه العالية؟
11. فالآية تدل على وجود عدة منهم يوم أحد لم يهنوا ولم يفتروا ولم يفرطوا في جنب الله سبحانه سماهم الله شاكرين، وصدق أنهم لا سبيل للشيطان إليهم ولا مطمع له فيهم، لا في هذه الغزوة فحسب بل هو وصف لهم ثابت فيهم مستقر معهم، ولم يطلق اسم الشاكرين في مورد من القرآن على أحد بعنوان على طريق التوصيف إلا في هاتين الآيتين أعني قوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ الآية، ولم يذكر ما يجازيهم به في شيء من الموردين إشعارا بعظمته ونفاسته.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/38.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ يمضي كما مضى قبله الرسل، فليس معنى الرسالة أن يبقى في الدنيا خالداً ليبقى دينه ببقائه، وإنما معناها: التبليغ عن الله دينه الذي ارتضاه لعباده، فإذا بلغه فقد حصل المقصود بتبليغه، ولا يبطل بموته؛ لأن الدين لله لا للرسول، والله حي لا يموت.
2. ﴿أَفَإِنْ مَاتَ﴾ الرسول ﴿أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ﴾ عن دين الله، وفي هذا الترديد بين قتله وموته فائدة بقاء ابتلائه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالجهاد باذلاً نفسه لله وابتلاء أصحابه ـ حيث يجوّزون قتله ـ بالقتال دون دين الله، مع أن الله عالم ما سيكون، وقد أخبر في آخر حياة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعد هذه المعارك التي بذل فيها نفسه لله وانقضت بسلامته أنه يعصمه من الناس، ولو أخبره من قبل الجهاد أنه يعصمه من الناس لخف ابتلاؤه بالجهاد، وفات عليه ثواب بذل النفس لله، ومعنى الانقلاب هنا الرجوع عن الدين.
3. ﴿عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ ترشيح لاستعارة الإنقلاب عن الإتجاه إلى جهة أمام، إلى الإتجاه إلى جهة وراء بواسطة الإعتماد على الأعقاب وتحويل القدم إلى الوراء: ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ لأن الله غني عن طاعة المطيع، ولا تنقصه معصية العاصي.
4. ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ الذين يشكرون الله على نعمة الإسلام ويعرفون قدرها، فيتمسكون بدينهم راغبين حريصين على الثبات عليه، فلا يتحولون عنه لموت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا لغير ذلك من الابتلاء.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/546.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخرج ابن منذر عن عمر قال: تفرقنا عن رسول الله يوم أحد، فصعدت الجبل، فسمعت اليهود تقول: قتل محمد، فقلت: لا أسمع أحدا يقول قتل محمد إلا ضربت عنقه، فنظرت فإذا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والناس يتراجعون فنزلت هذه الآية: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ الآية.. ونلاحظ أن هذه الرواية لا تنسجم مع مضمون الآية، لأنها ليست واردة في مقام الزجر عن اعتقاد موت محمد، بل هي واردة في مقام نهي المسلمين عن الكفر بعد موته، لأن إسلامهم لم يكن مرتبطا بالنبي بشخصه، بل كان مرتبطا بالله ورسالته التي أنزلها على رسوله(2)
2. في هذه الآية تأكيد قرآني على أحد المبادئ الإسلامية الإيمانية، وهو أن غياب القيادة، مهما كانت عظيمة، لا يوقف المسيرة ولا يلغي الرسالة ـ المبدأ، لأن عظمة القائد في حساب الرسالات لا تجمدها عند حدود حياته لتنتهي بانتهاء حياته، بل تمثّل ـ بدلا من ذلك ـ خطوة أولى نحو الانطلاقة المستمرة في الدرب الطويل، ومرحلة متقدّمة من مراحل العمل، ثم تتبع الخطوة خطوات على الطريق، وتنطلق المراحل الجديدة على درب المرحلة القديمة، فالرسالة هي الأصل والقاعدة، والقيادات المتتابعة تمثل دور الحملة لها، فقيمتهم بمقدار ما يقدمون لها من خدمات وتضحيات، وعظمتهم بقدر ما يواجهونه من مواقف الصدق والإخلاص، الأمر الذي يلغي من المسيرة عبادة الشخصية التي توحي بأن الشخص هو الأساس والرسالة شأن من شؤونه وميزة من ميزاته، وليس الأمر بالعكس، كما هو منطق الرسالات، ولهذا كان القرآن حاسما في معركة أحد عندما تعرّضت حياة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم للخطر، وظن بعض الناس أنه قد مات، وصاح بعضهم: إن محمّدا قد قتل، وحدثت البلبلة والارتباك وانكفأ الناس عن النبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما بقي معه إلّا قليل، وقال البعض: ليتنا نجد من يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان، وقال آخرون: لو كان محمّد نبيا لم يقتل، ألحقوا بدينكم الأوّل، كما يروي المؤرخون ذلك وغيره، في الخط السلبي للقضية، أمّا في الخط الإيجابي الذي يمثّل الثبات على الإسلام حتى في غياب الرسول القائد، فتمثّله لنا القصّة التي ينقلها الطبري في تفسيره: (أن رجلا من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحّط في دمه، فقال: يا فلان، أشعرت أن محمّدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمّد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم)، وفي رواية أخرى ـ يرويها الطبري أيضا ـ أن أنس بن النضر مرّ بعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم فقال أنس: (ما يجلسكم؟ قالوا: قد قتل محمد رسول الله، قال وما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، واستقبل القوم فقاتل حتى قتل)
3. وهكذا نجد القاعدة الإسلامية التي تربط الإنسان المؤمن بالرسالة ولا تربطه بالشخص إلّا من خلال الرسالة، فلا تموت الرسالة بموته ممثّلة في بعض النماذج المؤمنة في ذلك الوقت.
4. وقد وقف القرآن الكريم موقفا حاسما ـ كما أشرنا إلى ذلك ـ وأكّد أن الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو أحد رسل الله، الذي جاء على فترة من الزمن، وجاهد في سبيل تبليغ هذه الرسالة حتى يربط الناس بالله من خلالها؛ فإذا مات ميتة طبيعية، أو قتل في أيّة معركة من معارك الجهاد، كان على الرسالة أن تستمر، وعلى الناس المؤمنين بها أن يستمروا معها، ولا يجوز لهم أن ينقلبوا على أعقابهم فيكفروا أو ينحرفوا عن الخطّ؛ لأنهم لم يرتبطوا بالرسول كشخص، بل ارتبطوا بالله ورسالاته من خلاله، وذلك هو قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ من رسل الله الذين أرسلهم الله إلى الناس ليبلغوهم رسالاته، لينطلقوا في خطها المستقيم في خط العقيدة والالتزام.
5. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ فقد مضت الرسل من قبله وقاموا بمسؤولياتهم الرسالية خير قيام، وماتوا وقتل بعضهم، وسيموت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أو يقتل كما ماتت الرسل أو قتلت من قبله واستمرت الرسالات من بعدهم ولم تتجمد عندهم.
6. ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ من خلال سنّة الله في عباده، ﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ وتراجعتم عن الالتزام بالرسالة التي هي التجسيد الحيّ لارتباط المؤمن بالله من خلال الارتباط برسالته، كمن يرجع القهقرى في عملية تراجعية قبيحة، في الوقت الذي كان يجب عليه مواصلة حركة السير في عملية تقدم إلى الأمام، لا سيما إذا كان الخط يمثل الامتداد في انفتاح الإنسان على الحق في امتداد المستقبل في واقع الحياة الإنسانية.
7. ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ فيرتد عن دينه ويعود إلى الكفر، ﴿فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ لأن الله غنيّ عن عباده، فلا ينفعه إيمان من آمن ولا يضره كفر من كفر من ناحية الذات، فهو الذي خلقهم من دون حاجة، وهو القادر على إزالتهم من دون نقص، ولكنهم هم الذين يقعون في الضرر ويسقطون في هوّة الهلاك.
8. ثم يصعّد الموقف الذي يؤكّد المبدأ، وهكذا قررت الآية أن الذي ينقلب على عقبيه بعد موت الرسول بأن يكفر أو ينحرف عن الحقّ الذي بلّغه الرسول وأوصى به، سوف يضر نفسه لأنه يسير بها في طريق الهلاك والدمار، ولن يضر الله شيئا، لأن رسالات الله لا تتوقف أو تتجمد عند كفر كافر أو انحراف منحرف مهما كان دوره، ومهما كانت درجته وطبقته، فإن المسيرة تبقى وتتقدم، وأمّا الأشخاص فزائلون، ثم انعطفت الآية إلى السائرين على خطّ الحقّ، فاعتبرت ذلك شكرا لله كما يجب أن يشكر، وهو ما يمثّله الشكر العملي الذي يتحوّل إلى موقف للعمل، ولا يظل مجرد كلمة تتحرّك في الشفاه، ووعدت هؤلاء بأن الله سيجزيهم على ذلك جزاء موفورا ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾
9. هذه الآية تؤكد الرفض الإسلامي لفكرة عبادة الشخصية بالاستغراق في ذاتياتها، بحيث يكون وجوده هو كل شيء في القضية، وذلك من خلال ذهنية التقديس للفرد التي تندفع في استيحاء العظمة للقائد بالدرجة التي تتوقف فيها عنده وتنسى خط القيادة، وتذوب في الرسول وتبتعد عن الرسالة؛ فكأن الرسالة شأن من شؤونه الخاصة لتكون العلاقة بها من خلال العلاقة به، وليس العكس، بحيث يكون الارتباط به من خلالها، كما نلاحظه في التأكيد القرآني على صفة الرسولية في الحديث عنه لتكون الصفة حاضرة في الوجدان الديني في حضور اسمه في الوعي الداخلي والالتزام العملي.
10. لا نريد ـ في هذا المجال ـ أن نفصل بين شخصية الرسول وحركة الرسالة لنتصور وجود فاصل خارجي بينها وبينه، لأن عظمة الرسول الذي اصطفاه الله من بين خلقه، في أنه يجسد الرسالة في كل وجوده في ملكاته وأخلاقه واستقامته وإخلاصه لله، فهو رسالة تتحرك فيراها الناس في سيرته، وهذا ما جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في كلام بعض زوجاته: (كان خلقه القرآن)، ولكننا نريد ـ من هذا الحديث ـ أن نؤكّد على عدم الاستغراق الذاتي في شخصية الرسول، لنحبه كما نحب أي إنسان من حيث خصوصيته الذاتية، بل نعمل على الارتباط به من حيث هو رسول الله الذي يحمل الرسالة في حياته وجودا متجسدا، كما يحملها في عقله ولسانه دعوة إلى الله؛ فنبتعد عن عبادة الشخصية فيه إلى عبادة الله من خلال رسالته، ومن خلال كونه مظهرا لقدرة الله في خلق الإنسان الذي يملك أعلى صفات الكمال في شخصيته بما أفاض الله عليه من ألطافه الربوبية.
11. لعلّ ممّا يسير في هذا الاتجاه في حركة الدعوة إلى الإسلام، الكلمات التي يطلقها البعض عند غياب بعض العلماء العاملين عن الساحة وانتقاله إلى جوار ربّه، بأن الإسلام قد مات بموته، وأن المسيرة ستتوقف، أو ما يقوله البعض أمام دور بعض القادة الكبار الذين يمثّلون القمّة في المرحلة الجهادية التي تمرّ بها الأمّة، بأن غيابه يمثّل نكسة خطيرة للعمل الإسلامي الكبير الذي يتحمل مسئولية قيادته.. فإننا نعتقد ـ بوحي الآية ـ أن هذه الكلمات تفتقد الدقة والوعي والمسؤولية، فإن الإسلام هو الذي صاغ شخصية هؤلاء وقادهم إلى الطريق المستقيم، وهو قادر في كل مرحلة أن يصنع قادة وأبطالا ومجاهدين للحاضر والمستقبل كما قام بصنع ذلك في الماضي.. وإذا كان هناك من أثر سلبي لذلك، فإنه يتمثّل في ضعف المرحلة مؤقتا لفقدانه إحدى الطاقات الفاعلة، ولكنها لا تموت، فقد غاب الأنبياء والأئمة والأولياء، وبقي دين الله مندفعا في الساحة من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، إن القضية هي أن نثق بالله لتدفعنا هذه الثقة إلى الإحساس بأن الله ينصر دينه ولو كره المشركون في كل مرحلة من مراحل المسيرة مهما ارتاب المرتابون وتقاعس المتخاذلون.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/292.
(2) ذكر هنا بعض الآثار في سبب النزول، سبق ذكرها
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآية الأولى من هاتين الآيتين ناظرة أيضا إلى حادثة أخرى من حوادث معركة (أحد) وهي الصيحة التي ارتفعت فجأة في ذروة القتال بين المسلمين والوثنيين أن محمّدا قد قتل، ولقد قارنت هذه الصيحة نفس اللحظة التي رمى فيها (عمرو بن قمئة الحارثي) النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بحجر فكسر به رباعيته وشجه في وجهه، فسأل الدم، وغطى وجهه الشريف فقد كان العدو يريد في هذه اللحظة أن يقضي على رسول الله، ولكن (مصعب بن عمير) وهو من حملة الرايات في الجيش الإسلامي ذب عنه حتّى قتل دون النبي، فتوهم العدو أن النبي قد قتل، ولهذا صاح: إلّا أن محمّدا قد قتل، ليخبر الناس بذلك الأمر.
2. كان لانتشار هذا الخبر أثره الإيجابي في معنويات الوثنيين بقدر ما ترك من الأثر السيء في نفوس المسلمين حيث تزعزعت روحيتهم وزلزلوا زلزالا شديدا، فاضطرب جمع كبير منهم كانوا يشكلون أغلبية الجيش الإسلامي، وأسرعوا في الخروج من ميدان القتال، بل وفكر بعضهم أن يرتد عن الإسلام بمقتل النبي ويطلب الأمان من أقطاب المشركين، بينما كان هناك أقلية من المسلمين مثل الإمام علي عليه السّلام وأبو دجانة وطلحة وآخرون، يصرون على الثبات والمقاومة ويدعون الناس إليه، فقد جاء أنس بن النضر إلى ذلك الفريق الذي كان يفكر في الفرار وقال لهم: (يا قوم إن كان قد قتل محمّد فربّ محمّد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وموتوا على ما مات عليه) ثمّ شد بسيفه وحمل على الكفّار وقاتل حتّى قتل، ثمّ لم يمض وقت طويل حتّى تبين أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على قيد الحياة، وتبين على أثره خطأ ذلك الخبر أو كذبه، فنزلت الآية الأولى: من الآيتين الحاضرتين ـ توبخ الذين لاذوا بالفرار بشدة.
3. تعلّم الآية الأولى من هاتين الآيتين حقيقة أخرى للمسلمين استلهاما من أحداث معركة (أحد) إذ تقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ وهذه الحقيقة هي أن الإسلام ليس دين عبادة الشخصية حتّى إذا قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ونال الشهادة في هذه المعركة ـ افتراضا ـ ينتهي كلّ شيء ويسقط واجب الجهاد والنضال عن كاهل المسلمين، بل إن هذا الواجب مستمر، وعليهم أن يواصلوه لأن الإسلام لا ينتهي بموت النبي أو استشهاده، وهو الدين الحقّ الذي أنزل ليبقى خالدا إلى الأبد.
4. إن عبادة الشخصية وتقديس الفرد من أخطر ما يصيب أية حركة جهادية ويهددها بالسقوط والانتهاء، فإن ارتباط الحركة أو الدين بشخص معين حتّى لو كان ذلك هو النبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم معناه توقف كلّ الفعاليات وكلّ تقدّم بفقدانه وغيابه عن الساحة، وهذا النوع من الارتباط هو أحد علائم النقص في الرشد الاجتماعي.
5. إنّ تركيز النبي وإصراره على مكافحة تقديس الفرد وعبادة الشخصية آية أخرى من آيات صدقه، ودليلا آخر يدل على حقانيته، لأن قيامه ودعوته لو كان لنفسه وبهدف تحقيق مصالحه الشخصية للزم أن يعمق في الأذهان والقلوب هذه الفكرة، ويزيد من توجيه الأنظار إلى نفسه وأن جميع الأشياء في هذا الدين مرتبطة بشخصه بحيث إذا غاب عنهم ذهب وانتهى كلّ شيء، ولكن القادة الصادقين كالنبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يفعلون مثل هذا أبدا، ولا يشجعون على مثل هذه الأفكار، بل يكافحونها بقوة، ويقولون: إن أهدافنا أعلى من أشخاصنا وهي لا تنتهي بموتنا وبغيابنا، ولهذا يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾؟ وهو بذلك يستنكر ما دار في خلد البعض أو قد يدور من أن كلّ شيء في هذا الدين ينتهي بغياب النبي ـ القائد ـ .
6. الجدير بالذكر أن القرآن استخدم للتعبير عن الردة إلى الجاهلية كلمة ﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ و(الأعقاب) جمع عقب (وزان خشن) بمعنى مؤخرة القدم، فهو تعبير موح يصور التراجع إلى الوراء والارتداد الواقعي، وهو أكثر إيحاء وأقوى تصويرا من لفظة الردة والرجوع والعودة، لأنه بمعنى السير القهقري.
7. ثمّ إنه سبحانه يقول: ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾ يعني أن العودة إلى الكفر والوثنية تضرّكم أنتم دون الله سبحانه، لأن أمثال هذا التراجع لا يعني سوى توقفكم في طريق الخير والسعي نحو السعادة الكاملة، بل فقدان كلّ ما حصلتموه من العزّة والكرامة والمجد بسرعة.
8. ثمّ إنه لما كان هناك ـ في معركة أحد ـ أقلية استمرت على جهادها رغم الصعوبات، وانتشار الخبر المفجع عن مقتل الرسول، كان من الطبيعي أن ينال صمودهم هذا وثباتهم التقدير اللائق، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ وبذلك مدح القرآن الكريم استقامتهم وصمودهم، ووصفهم بالشاكرين لأنهم أحسنوا الاستفادة والانتفاع بالنعم في سبيل الله، وهذا أفضل مصاديق الشكر.
9. إن الدرس الذي تعطيه هذه الآية في مكافحة عبادة الشخصية وتقديس الفرد هو أبلغ وأفضل درس لجميع المسلمين في جميع العصور والأزمنة، فعليهم جميعا أن يتعلموا من القرآن أن لا يربطوا القضايا الإستراتيجية والأهداف العليا والمصيرية بالأشخاص، بل لا بدّ أن يلتفوا حول الأسس والمبادئ الخالدة التي لا تفنى ولا تتغير، ولا تتأثر بتغير الأشخاص أو غيابهم عن الساحة بسبب الموت أو القتل حتّى لو كان ذلك هو النبيّ الأكرم، لكيلا تتوقف عجلة المسيرة عن الحركة، ولا يتعطل دولاب العمل عن الدوران، بل إن ذلك هو رمز الخلود في أي مبدأ وحركة أساسا.
10. وعلى هذا الأساس فإن جميع البرامج والتشكيلات المرتبطة بالأشخاص والقائمة بوجودهم الشخصي هي في الحقيقة برامج وتشكيلات غير سليمة ولا طبيعية، وهي معرضة للزوال والفناء في أية لحظة.
11. ممّا يؤسف له أن يكون أغلب التشكيلات الإسلامية اليوم من هذا القبيل، أي أنها قائمة بالأشخاص، ولذلك فهي سرعان ما تزول وتتهاوى وتتلاشى عندما يغيب الأشخاص بذواتهم عن الساحة.
12. إن على المسلمين أن يستلهموا من هذه الآية فيقيموا مؤسساتهم المتنوعة المختلفة بنحو يستفاد فيها من مواهب الأشخاص اللائقين الموهوبين دون أن يكون مصيرها مرتبطا بمصيرهم حتّى لا تندثر بتغيرهم أو غيابهم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/718.
75. الموت والأجل والثواب وجزاء الشاكرين
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈75⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 145]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قدّر الأرزاق فكثّرها وقلّلها، وقسّمها على الضيق والسعة فعدل فيها ليبتلي من أراد بميسورها ومعسورها، وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيّها وفقيرها(1).
2. روي أنّه قال: لو لم يتوعّد الله على معصيته لكان يجب أن لا يعصى شكرا لنعمه(2).
3. روي أنّه قال: العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغناء(3).
4. روي أنّه قال: اذكروا الله عزّ وجلّ على الطعام ولا تلغطوا فإنّه نعمة من نعم الله ورزق من رزقه يجب عليكم فيه شكره وذكره وحمده(4).
5. روي أنّه قال: ما كان الله ليفتح على عبد باب الشكر ويغلق عنه باب الزيادة، ولا ليفتح على عبد باب الدعاء ويغلق عنه باب الإجابة، ولا ليفتح على عبد باب التوبة ويغلق عنه باب المغفرة(5).
__________
(1) نهج البلاغة، الخطبة: 90.
(2) نهج البلاغة، الحكمة: 282/1227.
(3) كنز الكراجكي: 1/299.
(4) الكافي: 6/296.
(5) نهج البلاغة، الحكمة: 427/1289.
ابن عبد العزيز:
روي عن عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ): ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ لا تموت نفس ولها في الدنيا عمر ساعة إلا بلغته(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٧٩.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ﴾ يعني: أن تقتل ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ حتى يأذن الله في موته، ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ في اللوح المحفوظ(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٣٠٥.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾، أي: لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أجل هو بالغه، فإذا أذن الله في ذلك كان(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي: من كان منكم يريد الدنيا، ليست له رغبة في الآخرة؛ نؤته ما قسم له فيها من رزق، ولا حظ له في الآخرة، ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ﴾ منكم ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ ما وعده، مع ما يجري عليه من رزقه في دنياه، وذلك جزاء الشاكرين(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾، أي: ذلك جزاء الشاكرين، يعني بذلك: إعطاء الله إياه ما وعده في الآخرة، مع ما يجري عليه من الرزق في الدنيا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٠٦.
(2) ابن جرير: ٦/١٠٩.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾، أي: بعلمه، وكذلك فلا يموت أحد إلا بعلم الله، والكتاب المؤجل هو: الوقت الذي قد علمه الله، وقدر فيه العمر والمدة.
2. سؤال وإشكال: إذا قتل الرجل: هل يكون ذلك بإذن الله وبأمره؟ والجواب: نقول ـ أكرم الله عن النار وجهك ـ: إن قتل الرجل بعلم الله، وليس علم الله الذي كان به قتله، وإنما علم الله ما كان من التعدي عليه، وأما بأمر الله وقضائه فمعاذ الله، ما أمر الله به، وكيف يأمر به، وهو يقول عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾، ويقول: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ الآية؛ فنهى عن قتل النفس، وذم فيها، وأوجب العقوبة على قاتلها!!؟ وكيف يجوز أن ينسب إليه ما تبرأ منه، وأوجب العقاب عليه!!؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبير ا، وهل يمكن في عدل الحكيم أن يقضي بقتل عبد على عبد، وقضاؤه لا حيلة فيه ولا مخرج منه، ثم يعذب القاتل، ويأمر بقتله!!؟ وهذا بعيد من العدل، والله برئ من ذلك؛ بل قد أمر خلقه بترك التعدي والظلم، فقال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾، وقال: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، وقال: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾؛ فكيف ينسب إليه ما هو برئ منه سبحانه، ويأمر بخلافه، ويحكم بالتعيير على فاعله!؟.. وإن كنت أردت بقولك: (إن قتل المقتول بأمر الله): من طريق ما حكم الله به على الظالمين، حيث يقول: ﴿فاقتلوهم حيث وجدتموهم﴾، وقوله عز وجل: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾، وما أطلق للأولياء من القتل للقاتل الظالم لهم، المتعدي عليهم؛ فهذا لعمري من فعل الله تبارك وتعالى، وأمره وحكمه على ظلمة خلقه؛ مكافأة لهم على فعلهم، ومجازاة على قبيح عملهم، من بعد إقامة الحجة عليهم، وتبيين الحق لهم؛ وفي هذا من الحجج كثير، لو شرحناه واحتججنا به وفيه لكان متسعا كثيرا، والقليل المجزي الموافق في الديانة أنفع من الكثير عند من يخالف في المقالة؛ نسأل الله التوفيق لما يرضيه، ويقرب من الأمور إليه(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/185.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أي: لا يموت إلا بقبض المسلط على قبض الأرواح روحه؛ كقوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: 11]: إن مات أو قتل.
ب. ويحتمل: ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ إلا بعلم الله.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾:
أ. قيل: وقتا موقتا، لا يتقدم ولا يتأخر، مات أو قتل، ما لم تستوف رزقها وأجلها.
ب. وقيل: ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ أي: مبينا في اللوح المحفوظ، مكتوبا فيه.
3. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي: من أراد بمحاسن أعماله الدنيا نؤته منها، ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي: من يرد بأعماله الصّالحات ومحاسنه الآخرة نؤته منها، ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، وهو كقوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ على قدر ما قدّر ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى: 20]؛ فكذلك هذا ـ أيضا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/501.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾:
أ. أي ما كان أحد ليموت إلا بترك الله له عز وجل، لأنه ركب النفس على الضعف، وتركها ولم يحصنها بالقوة ويمنعها، وجعل ذلك الضعف كتاباً ووقتاً مؤقتاً إن أبطل وأفسد فسد، وان ترك ثبت.
ب. ويحتمل وجهاً آخر: أن يكون أراد بقوله أن الأنفس لا تموت إلا بإذنه لها بالخروج، فالقتل فعل القاتل، وإخراج النفس في ذلك الحين من الله.
ج. ويمكن: أن يكون العذاب للقاتل على الضرب لا على إخراج النفس والأجل.
د. ويحتمل وجهاً آخر: أن يكون أراد أن أنفس أوليائه لا تتلف إلا بعد أن علم أنهم قد بلغوا من أجلهم وقتاً يكون في مثله موتهم، فيخليهم للقتل ولا يمنع بالجبر منهم، ليكون ذلك أعظم لثوابهم وأجرهم، مع أنه لم يرض بقتلهم، ولم يأذن للكافرين بقبح فعلهم.
2. معنى قوله عز وجل: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾: أي ومن قصد وجه الله وطلب منه أن يعطيه من الدنيا أعطاه منها، لأنه عز وجل غني عنها، وهو يثيب أولياءه ثوابين: ثواب في الدنيا وثواب في الآخرة، وأما من قصد الدنيا وهو زاهد في الآخرة فليس يضيع له شيء عند الله، وهو يثيبه على حسن فعله في هذه الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب ولا حُسنى.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 263.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ يعني من أراد بجهاده ثواب الدنيا أي نصيبه من الغنيمة نؤته منها.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/154.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: من أراد بجهاده ثواب الدنيا أي ما يصيبه من الغنيمة، وهذا قول بعض البصريين.
ب. الثاني: من عمل للدنيا لم نحرمه ما قسمنا له فيها من غير حظ في الآخرة، وهذا قول ابن إسحاق.
ج. الثالث: من أراد ثواب الدنيا بالنهوض لها بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي عليها في الدنيا دون الآخرة.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/428.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في السبب الذي اقتضى قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: التسلية عما يلحق النفس بموت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من جهة أنه بإذن الله عز وجل.
ب. الثاني: للحض على الجهاد من حيث لا يموت أحد إلا بإذن الله تعالى.
2. قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: إلا بعلمه.
ب. الثاني إلا بأمره.
3. قال أبو علي: الآية تدل على أنه لا يقدر على الموت غير الله، كما لا يقدر على ضده من الحياة إلا الله، ولو كان من مقدور غيره لم يكن بإذنه، لأنه عاص الله في فعله.
4. ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ نصب على المصدر بفعل محذوف دل عليه أول الكلام مع العلم بأن كلما يكون فقد كتبه الله، فتقديره كتب الله ذلك ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾، ويجوز أن يدل عليه الفعل المحذوف مصدره المنتصب به.
5. في قوله تعالى: ﴿وَمنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: من عمل للدنيا لم نحرمه ما قسمنا له فيها من غير حظ في الآخرة ـ في قول ابن إسحاق ـ أي فلا يغتر بحاله في الدنيا.
ب. الثاني: من أراد بجهاده ثواب الدنيا أي النصيب من الغنيمة في قول أبي علي الجبائي.
ج. الثالث: من يرد ثواب الدنيا بالتعرض له بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي بها في الدنيا من غير حظ في الآخرة لإحباط عمله بفسقه على مذهب من يقول بالإحباط، ومن يرد بعلمه ثواب الآخرة نؤته إياها.
6. (من) في قوله: ﴿مِنْهَا﴾ تكون زائدة، ويحتمل أن تكون للتبعيض، لأنه يستحق الثواب على قدر عمله.
7. إنما كرر قوله: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ ها هنا، وفي الآية الأولى، لأمرين:
أ. أحدهما: للتأكيد ليتمكن المعنى في النفس.
ب. الثاني: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ من الرزق في الدنيا، عن ابن إسحاق لئلا يتوهم ان الشاكر يحرم ما يعطاه الكافر مما قسم له في الدنيا.
8. اختلفوا في أجل الإنسان هل هو أجل واحد أم لا:
أ. قال الجبائي: في الآية دلالة على أن اجل الإنسان إنما هو أجل واحد، وهو الوقت الذي يموت فيه، لأنه لا يقتطع بالقتل عن الأجل الذي أخبر الله أنه اجل لموته.. وهو الأقوى، لأن الأجل عبارة عن الوقت الذي يحدث فيه الموت أو القتل، وبالتقدير لا يكون الشيء أجلا كما لا يكون بالتقدير ملكا، وقد بينا في شرح الجمل ذلك مستوفى.
ب. وقال ابن الاخشاذ: لا دليل فيه على ذلك، لأن للإنسان أجلين أجل يموت فيه لا محالة، وأجل هو موهبة من الله تعالى له، ومع ذلك فلن يموت إلا عند الأجل الذي جعله الله أجلا لموته.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/9.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الثواب: الجزاء من قولهم: ثاب يثوب إذا رجع.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾:
أ. قيل: نزلت الآية فيمن ترك المركز يوم أحد طلبًا للغنيمة، وفيمن ثبتوا حتى قتلوا، فعلى ذلك تكون هذه الآية في المؤمنين؛ لأن بعضهم مال إلى الدنيا، وبعضهم رغب فيما عند الله تعالى.
ب. وقيل: بل نزلت في المؤمنين والمنافقين؛ لأن المؤمنين يريدون الآخرة، والمنافقين يريدون الدنيا.
ج. وقيل: بل نزلت في المنافقين جوابًا عن قولهم: لو أطاعونا ما قتلوا، عن الأصم.
3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: للتسلية عما يلحق النفس بموت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من جهة أنه بإذن الله تعالى.
ب. وقيل: للحض على الجهاد من حيث لا يموت أحد إلا بإذن الله.
ج. وقيل: للبيان بأن حالهم لا يختلف في التكليف بموت النبي ؛ لأنه إذا كان بِإِذْنِهِ فلا يميته إلا إن رأى المصلحة فيه، فينبغي أن يتمسكوا بأمره في حياته وبعد وفاته.
4. سؤال وإشكال: كيف يتصل قوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ بما قبله؟ والجواب: للحث على الجهاد، فإذا كان الموت من جهته فلا يختلف بالجهاد وتركه، فلا ينبغي أن تمنعه الدنيا عنه.
5. ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ﴾ أي ما ينبغي لنفس أنْ تموت ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾:
أ. قيل: بعلمه.
ب. وقيل: بأمره.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾:
أ. قيل: يعني كتب الله لكل حي أجلاً ووقتًا لحياته، ووقتًا لموته لا يتقدم ولا يتأخر.
ب. وقيل: معناه ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله وقد علم وكتب الله أجل حياته وموته؛ إذ لو وقع خلافه لم يكن علمًا.
ج. وقيل: كتب الله لمحمد أجلاً هو بالغه لا شك.
د. وقيل: حكمًا من الله وحَتْمًا مؤقتًا عن أبي مسلم.
هـ. وقيل: كتب الله في اللوح المحفوظ عن مقاتل.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾:
أ. قيل: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ أي جزاء الدنيا ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي نعطه منها ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي جزاء الدار الآخرة، وهي الجنة نعطه منها.
ب. قيل: أراد من عمل للدنيا لم نحرمه ما قسمنا له فيها من غير حظ في الآخرة، عن أبي إسحاق، أي لا يغنى بحاله في الدنيا.
ج. وقيل: من أراد بجهاده ثواب الدنيا وهو النصيب من الغنيمة عن أبي علي.
د. وقيل: من يرد ثواب الدنيا بالتعرض له بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي بها في الدنيا من غير حظ في الآخرة لإحباطه عمله بفسقه.
هـ. وقيل: من يرد بجهاده الغنيمة نعطه منها، ومن يرد الجنة نؤته الجنة، ولا نحرمه الغنيمة.
و. وقيل: من يرد ثواب الدنيا نؤته منها ما كان صلاحًا له.
ز. وقيل: إن هذه الآية مجملة، وبيانه في قوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾
ح. وقيل: من يرد ثواب الآخرة نؤته منها إذا لم يحبطه بعمله.
ط. وقيل: نؤته ما وعدناه له فيها مع ما كتبنا له من رزقه في الدنيا.
8. ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ أي نعطيهم جزاء الشكر، وفي تكراره:
أ. قيل: تأكيد وتنبيه على عظيم منزلة الشاكر.
ب. وقيل: وسنجزي الشاكرين من الرزق في الدنيا، عن ابن إسحاق، لئلا يُتَوَهَّمَ أن الشاكر يحرم ما يعطي الكافر من نعيم الدنيا؛ إذ ليس في الآية أنه لا يؤتيه ذلك، وقد قال تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾
9. تدل الآية الكريمة على:
أ. الترغيب في الجهاد، وأنه لا يصرف عنه خوف الموت؛ لأنه نازل في حينه، وإن لم يكن جهادٌ كما ينزل في الجهاد.
ب. أن لكل أحد أجلاً معلومًا لا يتقدم ولا يتأخر.
ج. أن هذه الآجال مكتوبة ليعتبر بها الملائكة ولطفًا لنا.
د. أن المقتول مات بأجله، سؤال وإشكال: لو لم يقتل فكيف يكون حاله؟ والجواب: كان يجوز أن يموت أو يعيش؛ لأنه تعالى قادر عليهما، ألا أنه إذا قتل قطعنا أنه أجله، وأنه كان لا يجوز غيره؛ لأنه كان المعلوم.
هـ. أن من أراد بالعبادة نصيب الدنيا لا حظ له في الآخرة.
و. أن الموت لا يقدر عليه غيره تعالى؛ لأنه قال: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ عن أبي علي.
ز. أن أجل الإنسان إنما هو أجل واحد عن أبي علي على خلاف قول البغدادية.
10. قراءة العامة ﴿سَنَجْزِي﴾ بالنون، وعن الأعمش بالياء يعني سيجزي الله الشاكرين، وقد جرى ذكر اسمه.
11. مسائل لغوية ونحوية:
أ. نصب ﴿كِتَابًا﴾ لأنه مصدر لفعل محذوف دل عليه الكلام، تقديره: كتب الله ذلك كتابًا مؤجلاً.
ب. قال الأخفش: اللام في قوله: ﴿لِنَفْسٍ﴾ منقولة، تقديره: ما كان لنفس لتموت.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/404.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ معناه: ما كان نفس لتموت إلا بإذن الله، ومثله: ﴿وما كان لله أن يتخذ من ولد﴾ أي: وما كان الله ليتخذ ولدا، وقوله: ﴿وما كان لكم أن تنبتوا شجرها﴾ معناه: ما كنتم لتنبتوا شجرها، لأن إنبات الشجر لا يدخل تحت قدرة البشر.
2. اختلفوا في القصد من هذه الآية الكريمة:
أ. قيل: الآية الكريمة إخبار بأن الموت لا يكون إلا بإذن الله، وهذا تسلية عما لحق النفوس بموت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من جهة أنه بإذن الله، ومعناه: إنه إن مات فإنما يموت بإذن الله وعلمه كغيره من الناس، فلا عذر لأحد في ترك دينه بعد موته.
ب. وقيل: إن فيه حضا على الجهاد من حيث لا يموت أحد إلا بإذن الله أي: لا تتركوا الجهاد خشية القتل، فإن ذلك لا يؤخر أجلا قد حضر، ولا يقدم الجهاد أجلا لم يحضر، فلا معنى للانهزام.
3. قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: بعلم الله.
ب. الثاني: بأمر الله.
4. ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ قال أبو علي الجبائي: فيه دلالة على أنه لا يقدر على الموت غير الله، كما لا يقدر على ضده من الحياة غير الله، ولو كان من مقدور غيره، لم يكن باذنه.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾:
أ. قيل: معناه: كتب الله لكل حي أجلا ووقتا لحياته، ووقتا لموته، لا يتقدم ولا يتأخر.
ب. وقيل: حتما موقتا، وحكما لازما مبرما.
6. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أقوال:
أ. أحدها: إن المراد من عمل للدنيا، لم نحرمه ما قسمنا له فيها من غير حظ في الآخرة، عن ابن إسحاق أي: فلا يغتر بحاله في الدنيا.
ب. وثانيها: من أراد بجهاده ثواب الدنيا، وهو النصيب من الغنيمة، نؤته منها، فبين أن حصول الدنيا للإنسان، ليس بموضع غبطة لأنها مبذولة للبر والفاجر، عن أبي علي الجبائي.
ج. وثالثها: من تعرض لثواب الدنيا بعمل النوافل، مع مواقعة الكبائر، جوزي بها في الدنيا دون الآخرة، لإحباط عمله بفسقه، وهذا على مذهب من يقول بالإحباط.
7. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي: ومن يرد بالجهاد وأعماله ثواب الآخرة، نؤته منها، فلا ينبغي لأحد أن يطلب بطاعاته غير ثواب الله، ومثله قوله تعالى ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ الآية، وقريب منها قول النبي : (من طلب الدنيا بعمل الآخرة فما له في الآخرة من نصيب)
8. (من) في قوله ﴿مِنْهَا﴾ يحتمل أن تكون زائدة، ويحتمل أن تكون للتبعيض، لأنه إنما يستحق الثواب على قدر العمل.
9. ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ أي: نعطيهم جزاء الشكر، وفي تكراره قولان:
أ. أحدهما: إنه للتأكيد وللتنبيه على عظم منزلة الشاكرين.
ب. الثاني: إن معناه وسنجزي الشاكرين من الرزق في الدنيا، لئلا يتوهم أن الشاكر يحرم ما يعطى الكافر من نعيم الدنيا، عن ابن إسحاق.
10. روى أبان بن عثمان، عن أبي جعفر عليه السلام أنه أصاب عليا عليه السلام يوم أحد ستون جراحة، وأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر أم سليم وأم عطية أن تداوياه فقالتا: إنا لا نعالج منه مكانا إلا انفتق مكان آخر، وقد خفنا عليه! فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون يعودونه، وهو قرحة واحدة، فجعل يمسحه بيده، ويقول: إن رجلا لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر، وكان القرح الذي يمسحه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يلتئم، فقال علي عليه السلام: الحمد لله إذ لم أفر، ولم أولي الدبر، فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن وهو قوله ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ من الرزق في الدنيا ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾:
أ. قال أبو علي الجبائي: في هذه الآية دلالة على أن أجل الانسان إنما هو أجل واحد، وهو الوقت الذي يموت فيه، لأنه لا ينقطع بالقتل عن الأجل الذي أخبر الله بأنه أجل لموته.. وهو الأقوى.
ب. وقال ابن الأخشيد: لا دليل فيه على ذلك، لأن للإنسان أجلين: أجلا يموت فيه لا محالة، وأجلا هو موهبة من الله له، ومع ذلك فلن يموت إلا عند الأجل الذي جعله الله أجلا لموته.
12. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: اتصل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ بما قبله لأنه حث على الجهاد.
ب. وقيل: لأنه تسلية عما لحق النفوس من الوجوم بموت النبي .
ج. وقيل: للبيان بأن حالهم لا تختلف في التكليف بأن يموت النبي ، فينبغي أن يتمسك بأمره في حياته، وبعد وفاته.
13. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿كِتَابًا﴾: نصب على المصدر لفعل محذوف، دل عليه أول الكلام مع العلم بأن كل ما يكون فقد كتبه الله، فتقديره: كتب الله ذلك كتابا.
ب. وقال الأخفش: اللام في قوله ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ منقولة عما دخل عليه في غيره، وتقديره: وما كان لنفس لتموت أي: لأن تموت.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/852.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الإذن في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه الأمر، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: الإذن نفسه، قاله مقاتل، وقال الزجّاج: ومعنى الآية: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله.
2. ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ توكيد، والمعنى: كتب الله ذلك كتابا ذا أجل، والأجل: الوقت المعلوم، ومثله في التوكيد ﴿كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾، لأنه لمّا قال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ دلّ على أنه مرفوض، فأكّد بقوله: ﴿كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾، وكذلك قوله تعالى: ﴿صُنْعَ اللهِ﴾ لأنّه لمّا قال: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً﴾ دلّ على أنه خلق الله فأكّد بقوله: ﴿صُنْعَ اللهِ﴾
3. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي: من قصد بعمله الدنيا، أعطي منها، قليلا كان أو كثيرا، ومن قصد الآخرة بعمله، أعطي منها، وقال مقاتل: عنى بالآية: من ثبت يوم أحد، ومن طلب الغنيمة.
4. أكثر العلماء على أن هذا الكلام محكم، وذهبت طائفة إلى نسخه بقوله تعالى: ﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾ والصّحيح أنه محكم، لأنه لا يؤتى أحد شيئا إلا بقدرة الله ومشيئته.
5. معنى قوله تعالى: ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي ما نشاء، وما قدّرنا له، ولم يقل: ما يشاء هو.
__________
(1) زاد المسير: 1/331.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في كيفية تعلق قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ بما قبله وجوه:
أ. الأول: أن المنافقين أرجفوا أن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، فالله تعالى يقول: إنه لا تموت نفس إلا بإذن الله وقضائه وقدره، فكان قتله مثل موته في أنه لا يحصل إلا في الوقت المقدر المعين، فكما أنه لو مات في داره لم يدل ذلك على فساد دينه، فكذا إذا قتل وجب أن لا يؤثر ذلك في فساد دينه، والمقصود منه إبطال قول المنافقين لضعفة المسلمين أنه لما قتل محمد فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الأديان.
ب. الثاني: أن يكون المراد تحريض المسلمين على الجهاد بإعلامهم أن الحذر لا يدفع القدر، وأن أحداً لا يموت قبل الأجل وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء، فلا فائدة في الجبن والخوف.
ج. الثالث: أن يكون المراد حفظ الله للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وتخليصه من تلك المعركة المخوفة، فإن تلك الواقعة ما بقي سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل فيها، ولكن لما كان الله تعالى حافظاً وناصراً ما ضره شيء من ذلك وفيه تنبيه على أن أصحابه قصروا في الذب عنه.
د. الرابع: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله، فليس في إرجاف من أرجف بموت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يحقق ذلك فيه أو يعين في تقوية الكفر، بل يبقيه الله إلى أن يظهر على الدين كله.
هـ. الخامس: أن المقصود منه الجواب عما قاله المنافقون، فإن الصحابة لما رجعوا وقد قتل منهم من قتل قالوا: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فأخبر الله تعالى أن الموت والقتل كلاهما لا يكونان إلا بإذن الله وحضور الأجل والله أعلم بالصواب.
2. اختلفوا في تفسير الإذن في قوله تعالى: ﴿﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ على أقوال:
أ. الأول: أن يكون الإذن هو الأمر وهو قول أبي مسلم، والمعنى أن الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلا بهذا الأمر.
ب. الثاني: أن المراد من هذا الإذن ما هو المراد بقوله: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: 40] والمراد من هذا الأمر إنما هو التكوين والتخليق والإيجاد، لأنه لا يقدر على الموت والحياة أحد إلا الله تعالى، فإذن المراد: أن نفساً لن تموت إلا بما أماتها الله تعالى.
ج. الثالث: أن يكون الإذن هو التخلية والإطلاق وترك المنع بالقهر والإجبار، وبه فسر قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ [البقرة: 102] أي بتخليته فإنه تعالى قادر على المنع من ذلك بالقهر، فيكون المعنى: ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله بتخلي الله بين القاتل والمقتول، ولكنه تعالى يحفظ نبيه ويجعل من بين يديه ومن خلفه رصداً ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به، ولا يخلي بين أحد وبين قتله حتى ينتهي إلى الأجل الذي كتبه الله له، فلا تنكسروا بعد ذلك في غزواتكم بأن يرجف مرجف أن محمداً قد قتل.
د. الرابع: أن يكون الإذن بمعنى العلم ومعناه أن نفسا لن تموت إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه، وإذا جاء ذلك الوقت لزم الموت، كما قال ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: 61]
هـ. الخامس: قال ابن عباس: الإذن هو قضاء الله وقدره، فإنه لا يحدث شيء إلا بمشيئته وإرادته فيجعل ذلك على سبيل التمثيل، كأنه فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الله.
3. اللام في ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ﴾ قال الأخفش والزجاج: معناها النفي، والتقدير وما كانت نفس لتموت الا بإذن الله.
4. دلت الآية على أن المقتول ميت بأجله، وأن تغيير الآجال ممتنع.
5. ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ منصوب بفعل دل عليه ما قبله فإن قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ قام مقام أن يقال: كتب الله، فالتقدير كتب الله كتابا مؤجلا ونظيره قوله: ﴿كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: 24] لأن في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23] دلالة على أنه كتب هذا التحريم عليكم ومثله: ﴿صُنْعَ اللهِ﴾ [النمل: 88]، و﴿وَعَدَ اللهُ﴾ [الزمر: 20]، و﴿فِطْرَتَ اللهِ﴾ [الروم: 30]، و﴿صِبْغَةَ اللهِ﴾ [البقرة: 138]، والمراد بالكتاب المؤجل الكتاب المشتمل على الآجال، ويقال: إنه هو اللوح المحفوظ، كما ورد في الأحاديث أنه تعالى قال للقلم (اكتب فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)
6. جميع الحوادث لا بد أن تكون معلومة لله تعالى، وجميع حوادث هذا العالم من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة لا بد وأن تكون مكتوبة في اللوح المحفوظ، فلو وقعت بخلاف علم الله لانقلب علمه جهلًا، ولا نقلب ذلك الكتاب كذباً، وكل ذلك محال، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الكل بقضاء الله وقدره، وقد ذكر بعض العلماء هذا المعنى في تفسير هذه الآية وأكده بحديث الصادق المصدوق، وبالحديث المشهور من قوله : (فحج آدم موسى):
أ. قال القاضي: أما الأجل والرزق فهما مضافان إلى الله، وأما الكفر والفسق والإيمان والطاعة فكل ذلك مضاف إلى العبد، فإذا كتب تعالى ذلك فإنما يكتب بعلمه من اختيار العبد، وذلك لا يخرج العبد من أن يكون هو المذموم أو الممدوح.
ب. ما كان من حق القاضي أن يتغافل عن موضع الإشكال، وذلك لأنا نقول: إذا علم الله من العبد الكفر وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر، فلو أتى بالإيمان لكان ذلك جمعا بين المتناقضين، لأن العلم بالكفر والخبر الصدق عن الكفر مع عدم الكفر جمع بين النقيضين وهو محال، وإذا كان موضع الإلزام هو هذا فأنى ينفعه الفرار من ذلك إلى الكلمات الأجنبية عن هذا الإلزام.
7. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين، منهم من يريد الدنيا، ومنهم من يريد الآخرة كما ذكره الله تعالى فيما بعد من هذه السورة، فالذين حضروا القتال للدنيا، هم الذين حضروا لطلب الغنائم والذكر والثناء، وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا، والذين حضروا للدين، فلا بد وأن لا ينهزموا، ثم أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من طلب الدنيا لا بد وأن يصل إلى بعض مقصوده، ومن طلب الآخرة فكذلك، وتقريره قوله : (إنما الأعمال بالنيات) إلى آخر الحديث.
8. هذه الآية وإن وردت في الجهاد خاصة، لكنها عامة في جميع الأعمال، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب، والعقاب المقصود والدواعي لا ظواهر الأعمال، فإن من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه، فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الإسلام، وإن قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر، وروى أبو هريرة عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن الله تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل الله: (في ماذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول تعالى: كذبت بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ذلك) ثم إن الله تعالى يأمر به إلى النار.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/378.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ هذا حض على الجهاد، وإعلام أن الموت لابد منه وأن كل إنسان مقتول أو غير مقتول ميت إذا بلغ أجله المكتوب له، لأن معنى ﴿مُؤَجَّلًا﴾ إلى أجل، ومعنى ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ بقضاء الله وقدره، و﴿كِتَابًا﴾ نصب على المصدر، أي كتب الله كتابا مؤجلا.
2. أجل الموت هو الوقت الذي في معلومه سبحانه، أن روح الحي تفارق جسده، ومتى قتل العبد علمنا أن ذلك أجله، ولا يصح أن يقال: لو لم يقتل لعاش، والدليل على قوله: ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ ﴿إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون﴾ [الأعراف]، ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ﴾ [العنكبوت]، ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد]، والمعتزلي يقول: يتقدم الأجل ويتأخر، وإن من قتل فإنما يهلك قبل أجله، وكذلك كل ما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله، لأنه يجب على القاتل الضمان والدية، وقد بين الله تعالى في هذه الآية أنه لا تهلك نفس قبل أجلها، وسيأتي لهذا مزيد بيان في ﴿الْأَعْرَافِ﴾ إن شاء الله تعالى.
3. وفيه دليل على كتب العلم وتدوينه، وسيأتي بيانه في سورة طه عند قوله: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ﴾ [طه] إن شاء الله تعالى.
4. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ يعني الغنيمة، نزلت في الذين تركوا المركز طلبا للغنيمة، وقيل: هي عامة في كل من أراد الدنيا دون الآخرة، والمعنى نؤته منها ما قسم له، وفي التنزيل: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾ [الاسراء]، ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي نؤته جزاء عمله، على ما وصف الله تعالى من تضعيف الحسنات لمن يشاء، وقيل: لمراد منها عبد الله بن جبير ومن لزم المركز معه حتى قتلوا.
5. ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ أي نؤتيهم الثواب الأبدي جزاء لهم على ترك الانهزام، فهو تأكيد لما تقدم من إيتاء مزيد الآخرة، وقيل: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ من الرزق في الدنيا لئلا يتوهم أن الشاكر يحرم ما قسم له مما يناله الكافر.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/227.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كِتَابًا﴾ مصدر مؤكد لما قبله، لأن معناه: كتب الله الموت كتابا، والمؤجل: المؤقت الذي لا يتقدم على أجله ولا يتأخر.
2. ﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ أي: بعمله ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ كالغنيمة ونحوها، واللفظ يعمّ كل ما يسمى ثواب الدنيا، وإن كان السبب خاصا ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي: من ثوابها، على حذف المضاف ﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ بعمله ﴿ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ وهو الجنة، نؤته من ثوابها، ونضاعف له الحسنات أضعافا كثيرة ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ بامتثال ما أمرناهم به كالقتال، ونهيناهم عنه كالفرار وقبول الإرجاف.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/443.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخبر الله تعالى أنه جعل لكل نفس أجلا، لا بد أن تستوفيه وتلحق به، فيرد الناس كلهم حوض المنايا موردا واحدا، وإن تنوعت أسبابه، ويصدرون عن موقف القيامة مصادر شتى، فريق في الجنة وفريق في السعير، بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ أي بأمره وإرادته ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ مصدر مؤكد لمضمون ما قبله، أي كتب لكل نفس عمرها كتابا مؤقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، وفي الآية تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه.
2. ﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ أي بعمله ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي ما نشاء أن نؤتيه، ولم يكن له في الآخرة من نصيب، وهو تعريض بمن حضر لطلب الغنائم ﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ أي بعمله ﴿ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى: 20]، وقوله سبحانه: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: 18 ـ 19]
3. الآية الكريمة، وإن كان سياقها في الجهاد ولكنها عامة في جميع الأعمال، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب أو العقاب هو النيات والدواعي، لا ظواهر الأعمال.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/424.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ﴾ ما صحَّ أو ما ثبت، ﴿لِنَفْسٍ اَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ لملك الموت في توفِّيها، فالإذن على حقيقته، وهو أَن تُؤمَر بفعل ما طَلَبتَ، أو التخلية بينها وبينه، أو إِلَّا بمشيئة الله لا يؤخِّرها عن أجلها ترْكُ القتال ولا يقدِّمها عنه القتال، إطلاقا للمسبَّب على السبب؛ لأنَّ الإذن مسبَّب على المشيئة، أو مستعار للمشيئة في التيسير، وإذا كان أجلها في القتال لم تجد تأخيرا عنه، فالمقتول مات لأجله، لا كما قالت المعتزلة: إنَّه مات لغير أجله، وإنَّه لو لم يقتل لعاش إلى أجل، أو في وقت القتل، قولان فاسدان، وهذا من الأصول التي يقطع فيها العذر فنكفِّرهم بقولهم تكفير نفاق لا شرك، وذلك أَنَّ الله تعالى لا يخلف الوعد ولا الوعيد، ولا يتجدَّد علمه فيبدو له ما لم يعلم، حاشاه أن يخفى عنه شيء ولا ينسى ولا يعجز، ولا يغلبه شيء عن الأجل الموعود له، وإذا وقع خلاف ما قضى انقلب العلم جهلا، واللَّوح المحفوظ كذبا.
2. ﴿كِتَابًا مُّوَجَّلاً﴾ كتب الله الموت كتابا مؤقَّتا مبرما، لا يتقدَّم بقتال كما لا يتأخر بتحرُّز، وذلك كلُّه تحريض على الجهاد ووعد بالحياة، وهو مؤكِّد لمضمون قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ﴾ إلخ.
3. ﴿وَمَنْ يُّرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ معرضا عن ثواب الآخرة، أو مريدا لثواب الآخرة أيضًا إرادة ضعيفة لم تصدِّقه أفعاله، ﴿نُوتِهِ مِنْهَا﴾ من ثوابها إن شئنا، ولا ثواب له في الآخرة، ولا نؤتيه إِلَّا ما قسم له، ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ﴾ [سورة الإسراء: 18]، ﴿وَمَنْ يُّرِدْ ثَوَابَ الَاخِرَةِ﴾ وحده أو مع ثواب الدنيا غير آكل بدينه، ولا قاصدا به إيَّاه، ﴿نُوتِهِ مِنْهَا﴾ من ثوابها لاستعداده.
4. لَمَّا اشتدَّت الحرب قال : (من يضرب بهذا السيف حتَّى ينحني؟) فأخذه أبو دجانة سمَّاك بن خرشة الأنصاري فضرب به حتَّى انحنى، فلا يلقى أحدًا إِلَّا قتله به، وقاتل عليٌّ قتالا شديدا، ورمى سعد بن أبي وقَّاص حتَّى اندقَّ قوسه، ونثل له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كنانته ويقول له: (اِرْمِ فِدَاك أبي وأمِّي)، وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله، ووقعت عين قتادة على وجنته فردَّها ، وكانت أحسن مِمَّا كانت ولا ترمد.
5. ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ الله بالثبات في أمر الدين، ومنه القتال والثبات يوم أحد، ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر أو ملك، وذلك تعريض بمن أكبُّوا على الغنائم حبًّا للدنيا، وتركوا المركز حتَّى قُتلوا من ورائهم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/21.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد هذه القاعدة ـ قاعدة الاعتماد على التحقق بالعلوم والنهوض بالأعمال دون الاتكال على أفراد الرجال ـ هدانا الله جل شأنه إلى قاعدتين أخريين فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾، الآية، قال محمد عبده ما مثاله: تلك قضية وهذه قضية أخرى ووجه الاتصال بينهما أن المراد بتلك لوم المؤمنين على ما وقع منهم إذا بلغهم قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد بهذه بيان أنه لو قتل لما كان قتله إلا بإذن الله ومشيئته، فهو توبيخ لمن اندهش من خبر موته، كأنه بسبب زلزالهم وزعزعة عقائدهم قد جعلوا موته جناية منه فأذاقهم تعالى بهذه العبارة مرارة خطأهم وأراهم بها قبح جهلهم، كأنه يقول إن محمدا يدعوكم إلى الله ـ أي لا إلى نفسه ـ فلو كان هذا الموت يقع بدون إذن الله لكان الانقلاب صوابا، ولكن إذا كان هذا الموت لا يقع إلا بإذنه تعالى إذ ليس لأحد في العالم سلطان يقهره ويوقع في ملكه شيئا بالكره منه فلا معنى لزلزلة ثقتكم بالله وضعفكم عن المضي فيما كنتم عليه مع النبي في حياته لأن الله لم يزل حيا باقيا عليما حكيما.
2. قال محمد عبده: في الآية معنى آخر وهو أنه ما دام محيانا ومماتنا بيد الله فلا محل للجبن والخوف، ولا عذر في الوهن والضعف، وفيها تأكيد لما تقدم بيانه في الآية التي قبلها وهو أن الموت لا يدل على بطلان ما كان عليه من يموت ولا على حقيته.
3. جعل صاحب الكشاف الجملة تمثيلا، فقال: (المعنى أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله فأخرج مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله فيه تمثيلا، ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك فليس له أن يقبض نفسا إلا بإذن الله، وهو على معنيين (أحدهما) تحريضهم على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدو بإعلامهم أن الحذر لا ينفع، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله، وإن خوّض المهالك، واقتحم المعارك، (الثاني) ذكر ما صنع الله برسوله عند غلبة العدو والتفافهم عليه وإسلام قومه له نهزة للمختلس من الحفظ والكلاءة وتأخير الأجل)
4. قال أبو السعود: (في الجملة كلام مستأنف سيق للتنبيه على خطئهم فيما فعلوا حذرا من قتلهم وبناء على الإرجاف بقتله صلّى الله عليه وآله وسلّم ببيان أن موت كل نفس منوطة بمشيئة الله.. وفي قوله: ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ استثناء مفرغ من أعم الأسباب أي وما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس بسبب من الأسباب إلا بمشيئته تعالى على أن الإذن مجاز عنها لكونها من لوازمه، أو إلا بإذنه لملك الموت في قبض روحها، وسوق الكلام مساق التمثيل بتصوير الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الأفعال الاختيارية التي لا يتسنى للفاعل إيقاعها والإقدام عليها بدون إذنه تعالى أو بتنزيل اقدامها عليه أو على مبادئه وسعيها في إيقاعه منزلة الإقدام على نفسه للمبالغة في تحقيق المرام، فإن موتها حيث استحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على مباديه وسعيها في إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر، وفيه من التحريض على القتال ما لا يخفى)
5. بيّن صاحب الكشاف في غير هذا الموضع أن النفي في مثل هذا التعبير للشأن لا لمجرد الفعل، وهو تفسير مثل (ما كان الله ليفعل كذا) بنحو قوله: ما صح منه وما استقام له، أي ليس ذلك من شأنه الصحيح المعهود ولا من سننه المستقيمة المطردة، ولكنه (أي صاحب الكشاف) لم يبيّن ذلك بقاعدة واضحة يجري عليها بتعبير يؤدي المعنى بذاته في كل موضع، وأوضح ما يُقال في هذه التعبيرات وأصحه أنه بيان لكون هذا المنفي ليس من شأن الله ولا من سننه في خلقه، فمعنى ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ليس من شأن النفوس ولا من سنة الله فيها أن تموت بغير إذنه ومشيئته التي يجري بها نظام الحياة وارتباط الأسباب فيها بالمسببات، وسيأتي مثل هذا التعبير في آيات أخرى من هذا السياق فتؤكد لك أن هذا المعنى العام في مثلها.
6. ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ هو مؤكد لمضمون ما قبله أي كتبه الله كتابا مؤجلا أي أثبته مقرونا بأجل معين لا يتغير، ومؤقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر فالمؤجل ذو الأجل، والأجل المدة المضروبة للشيء قال تعالى: ﴿وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا﴾ [الأنعام: 128] ومنه الدين المؤجل الذي ضرب له أجل أي مدة يؤدى في نهايتها.
7. قد يتوهم بعض أصحاب العقول المقيدة، والأفهام الضيقة، أن كون الموت مؤجلا بأجل حدود في علم الله، ينافي كونه بأسباب تجري على سنن الله؛ وليس لهذا التوهم أدنى شبهة من العقل فيرد بالدلائل النظرية؛ ولا من الوجود فيفسر بالسنن الاجتماعية؛ إلا أن كون الموت لا يكون إلا بأجل؛ أظهر من كونه لا يكون إلا مقرونا بالسبب فإن الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب والتعرض لعدوى الأمراض؛ والتصدي لأفاعيل الطبيعة؛ ثم قد يسلم في الحرب الشجاع المقدم؛ ويقتل الجبان المتخلف، ويفتك المرض بالشاب القوي، من حيث تعدو عداوة الغلام القميء، وتغتال فواعل الحر والبرد الكهل المستوي؛ وتتجاوز عن الشيخ الضعيف؛ ولكل عمر أجل ولكل أجل قدر؛ والأقدار هي السنن التي بها يقوم النظام، والحكم فيها مرتبطة بالأحكام، وإن خفي بعضها على بعض الأفهام.
8. هذه هي القاعدة الأولى في الآية، وأما الثانية فهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ وإننا نذكر في تفسير العبارة صفوة ما قالوه ثم نبين القاعدة، قالوا: إنها تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد فتركوا موقعهم الذي أمرهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بلزومه، وإن معناها أن من قصد بعمله حظ الدنيا أعطاه الله شيئا من ثوابها ومن قصد الآخرة أعطاه الله حظا من ثوابها، وصرح الرازي بأنها في معنى حديث (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، وقال محمد عبده: هذه قضية أخرى وفيها وجهان:
أ. أحدهما: أنها رد لاستدلال من استدل بما حل بالمسلمين على أن ما هم عليه غير الحق فهي من هذا الوجه فرع من فروع قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ فهو يقول إن لنيل ثواب الدنيا سننا ولنيل ثواب الآخرة سننا، فمن سار على سنن واحدة منهما وصل إليها، فإذا كان المشركون قد استظهروا على المسلمين في هذه المرة فلأنهم طلبوا لعملهم الدنيا وأخذوا له أهبته من حيث قد قصر المسلمون في اتباع السنن في ذلك بمخالفة الرسول كما تقدم.
ب. الثاني: أنه يقول لأولئك الذي ضعفوا وفشلوا وانقلبوا على أعقابهم: ما الذي تريدون بعملكم هذا؟ إن كنتم تريدون ثواب الدنيا فالله لا يمنعكم ذلك وما عليكم إلا أن تسلكوا طريقه ولكن ليس هذا هو الذي يدعوكم إليه محمد، وإنما يدعوكم إلى خير ترون حظا منه في الدنيا والمعول فيه على ما في الآخرة، فالمسألة معكم بين أمرين إرادة الدنيا وإرادة الآخرة، كل يريد أمرا ولكل أمر سنن تتبع ولكل دار طريق تسلك.
9. سيأتي في هذا السياق قوله تعالى: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ وهو يؤيد الوجه الثاني مما أورده محمد عبده وفي معناه قوه تعالى: ﴿من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة نصيب﴾ [الشورى: 20] وقد تقدم لهذا البحث نظير في تفسير قوله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ [البقرة: 200] وفيه بيان أن من يطلب الدنيا وحدها ولا يعمل للآخرة عملها فليس له في الآخرة من خلاق، وأن من هدي الإسلام أن يطلب المرء خير الدنيا وخير الآخرة ويقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، فالإنسان يطلب ويريد بحسب سعته معرفته وعلو همته ودرجة إيمانه وله ما يريد كله أو بعضه بحسب سنن الله وتدبيره لنظام هذه الحياة.
10. في سورة الإسراء تفصيل وتقييد في هذه المسألة قال تعالى: ﴿من كان يريد العاجلة عجلنا لها فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا﴾ [الإسراء: 18 ـ 21] ولا تُنسينّ التقاليد الشائعة قارئ هذه الآيات عن سنن الله التي أثبتها في كتابه فيظن أن عطاءه تعالى وتفضيله لبعض الناس على بعض يكون جزافا، بل الإرادة تجري على السنن التي اقتضتها الحكمة ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد: 8] ولإرادة الإنسان دخل في تلك السنن والمقادير ولذلك قال: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ﴾ ﴿وَمَنْ أَرَادَ﴾ فاعرف قيمة إرادتك واعرف قبل ذلك قيمة نفسك فلا تجعلها كنفوس الحشرات التي تعيش زمنا محدودا، ثم تفنى كأن لم تكن شيئا مذكورا، إنك قد خلفت للبقاء ولك في الوجود طوران طور عاجل قصير وهو طور الحياة الدنيا، وطور أجل أبدي وهو طور الحياة الآخرة، وسعادتك في كل من الطورين تابعه لإرادتك، وما توجهك إليه من العمل في حياتك، فأعمال الناس متشابهة، ومشقتهم فيها متقاربة، وإنما يتفاضلون بالإرادات والمقاصد، لأنها هي التي تكون تارة علة وتارة معلولا لطهارة الروح وعلو النفس وسمو العقل ورقة الوجدان وهي المزايا التي يفضل بها إنسان على إنسان:
أ. يحارب قوم حبا في الربح والكسب، أو ضراوة بالقتل والفتك، فإذا غلبوا أفسدوا في الأرض، وأهلكوا الحرث والنسل، ويحارب آخرون دفاعا عن الحق، وإقامة لقوانين العدل، فإذا غلبوا عمروا الأرض، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فهل يستوي الفريقان، إذا استوى في البداية العملان؟ وهما في القصد والإرادة متباينان.
ب. يكسب الرجل طلبا للذات، وحبا في الشهوات، فيغلو في الطمع، ويوغل في الحيل، ويأكل الربا أضعافا مضاعفة، حتى يجمع القناطير المقنطرة، فإذا هو يمنع الماعون ويدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، ولهو إذا سئل البذل في المصالح العامة أشد بخلا، وأكزّ يدا وأقبض كفا؛ ويكسب الرجل طلبا للتجمل في معيشته وحبا للكرامة في قومه وعشيرته، فيجمل في الطلب؛ ويتحرى الحلال من الربح، ويلتزم الصدق والأمانة، ويتوقى الغش والخيانة ثم هو ينفق من سعته فيواسي البائس الفقير ويعين العاجز والضعيف، وتكون له اليد في بناء المدارس والمعابد والمستشفيات والملاجئ، فهل يستوي الرجلان وهما في الثروة سيان؟ وفي ظاهر العمل متشابهان أم يفضل أحدهما الآخر بحسن الإرادة؟
11. الإرادة تصغر الكبير وتكبر الصغير، وترفع الوضيع وتضع الرفيع، وبها تتسع دائرة وجود الشخص، حتى تحيط بكرة الأرض بل تكون أكبر من ذلك بما يتبوأ من منازل الكرامة في عالم العقول والأرواح، وإذا كان يريد بعمله دار البقاء فإن وجوده يكون كبيرا بحسب كبر إرادته واسعا بسعة مقصده وبذلك تعلو نفسه على نفوس من أخلدوا إلى الشهوات وكان حظهم من عملهم كحظ الحشرات وغيرها من الحيوانات: أكل وشرب وفساد وبغي من القوي على الضعيف.
12. قس على هذا وجود من يريد بعمله القرب من الله والتخلق بأخلاقه والتحقق بتجليات أسمائه وصفاته؛ القرب من الواسع العليم الخلاق الحكيم الرحمان الرحيم بسعة القلب وبسطة العلم وإقامة النظام والحكمة ونصب ميزان العدل وبسط بساط الرحمة، ألا تراه يكون أشرف وجود بشري وأعلاه بحسب إرادته وسنن الله؟
13. لست بهذا الرمز إلى مكانة إرادة البشر من تصريف أعمالهم وتوجيهها إلى سعادتهم أو شقاوتهم بخارج عن موضوع تفسير الآية الكريمة، فإن رب العزة قد جعل عطاءه للناس معلقا على إرادتهم ولا يقدر هذا حق قدره إلا قليل منهم، فهم في حاجة إلى مثل هذا التذكير بل إلى أكثر منه.
14. إذا فقهت هذا فقهت معنى قوله: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ أي الذين يعرفون نعمة الله عليهم بقوة الإرادة ويستعملونها فيما يعرج بهم إلى مستوى الكمال، فتكون أعمالهم صالحة رافعة لنفوسهم ونافعة لغيرهم، وأبهم هذا الجزاء لتعظيم شأنه، قال محمد عبده: كأنس بن النضر وأمثاله الذين جاهدوا وصبروا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بحفظهم قوة إرادتهم فكانوا السبب في انجلاء المشركين عن المسلمين، وخصهم بالذكر الذي يعينه الوصف تنويها بهم ووعدا لهم بالجزاء وهو التفصيل لإجمال من يريد الآخرة.
__________
(1) تفسير المنار: 4/166.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ أي ليس من شأن النفوس ولا من سنة الله فيها أن تموت بغير إذنه تعالى ومشيئته التي بها يجرى نظام الحياة وترتبط فيها الأسباب بالمسببات.
2. ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾: أي أثبته الله مقرونا بأجل معين لا يتغير، ومؤقتا بوقت لا يتقدم ولا يتأخر، فكثير من الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب، أو يتعرضون لعدوى الأمراض، أو يتصدون لأفاعيل الطبيعة، وهم مع ذلك لا يصابون بالأذى؛ فالشجاع المقدام قد يسلم في الحرب، ويقتل الجبان المتخلف؛ ويفتك المرض بالشاب القوى، ويترك الضعيف الهزيل، وتغتال عوامل الأجواء الكهل المستوي وتتجاوز الشيخ الضعيف، فللأعمار آجال، وللآجال أقدار لا تخطوها، والأقدار هي السنن التي عليها تقوم نظم العالم وإن خفيت على بعض الناس، وإذا كان محيانا ومماتنا بإذن الله فلا محل للخوف والجبن، ولا عذر في الوهن والضعف، ومما ينسب إلى علىّ قوله:
çأيّ يومىّ من الموت أفرّ...يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه...ومن المقدور لا ينجو الحذرé
3. في الآية تحريض على الجهاد وتشجيع على لقاء العدو، فإنه إذا كان الأجل محتوما ومؤقتا بميقات، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المعارك واقتحم المهالك فلا محل إذا للخوف والحذر ـ إلى ما فيها من الإشارة إلى كلاءة الله وحفظه لرسوله مع غلبة العدوّ له والتفافهم عليه وإسلام قومه له نهزة للمختلس، فلم يبق سبب من أسباب الهلاك إلا قد حصل، ولكن لما كان الله حافظا وناصرا له لم يضرّه شيء، وفيها إشارة إلى أن قومه قد قصّروا في الذبّ عنه.
4. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي ومن قصد بعمله حظ الدنيا أعطاه الله شيئا من ثوابها، ومن قصد الآخرة أعطاه الله حظا من ثوابها، وفي معنى الآية الحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)
5. في الآية الكريمة تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد، فتركوا موقعهم الذي أمرهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بلزومه، وكأنه يقول لهم إن كنتم تريدون ثواب الدنيا فالله لا يمنعكم ذلك، وما عليكم إلا أن تسلكوا سبيله، ولكن ليس هذا هو الذي يدعوكم إليه محمد ، بل يدعوكم إلى خير ترون حظا منه في الدنيا، والمعوّل عليه ما في الآخرة، فأنتم بين أمرين: إما إرادة الدنيا، وإما إرادة الآخرة، ولكل منهما سنن تتبع، وطرق تسلك، وفي معنى الآية قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾، ومن هدى الإسلام أن يطلب المرء بعمله خيرى الدنيا والآخرة معا، ويقول: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ والله يعطيه كل ما يطلب أو بعضه يحسب سنن الله وتدبيره لنظم الحياة.
6. على الإنسان أن يعلم أن له طورين:
أ. طور عاجل قصير، وهو طور الحياء الدنيا.
ب. طور آجل أبدىّ، وهو طور الحياة الآخرة.
7. سعادة الإنسان في كل من الطورين مرتبطة بإرادته وما توجهه إليه من العمل، فالناس إنما يتفاضلون بالإرادات والمقاصد: فقوم يحاربون حبا في الربح والكسب، أو ضراوة بالفتك والقتل، فإذا غلبوا أفسدوا في الأرض وأهلكوا الحرث والنسل، وقوم يحاربون دفاعا عن الحق وإقامة لقوانين العدل، فإذا غلبوا عمروا الأرض وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فهل يستوى الفريقان، وهما في المقصد مفترقان؟ كذلك يطلب الرجل الربح والكسب أحيانا بكل وسيلة مستطاعة طلبا للذاته، والحصول على شهواته، فيغلو في الطمع، ويمعن في الحيل، ولا يبالى أمن الحرام أكل أم من الحلال؟ يأكل الربا أضعافا مضاعفة، فيجمع القناطير المقنطرة، وهو مع ذلك يمنع الماعون، ولا يحضّ على طعام المسكين، ولو سئل البذل في المصالح العامة كان أشد الناس بخلا وأقبضهم كفا، بينا يطلب آخر الكسب طلبا للتجمل وحبا للكرامة في قومه وعشيرته، فيقتصد في الطلب، ويتحرى الربح الحلال، ويلتزم الصدق والأمانة، ويبتعد عن الفسوق والخيانة، وهو مع هذا ينفق مما أفاء الله به عليه، فيواسى البائسين، ويساعد المعوزين، وتكون له اليد الطّولى في الأعمال النافعة لأمته، فيشيد لها المدارس والمعابد، والملاجئ والمستشفيات، فهل ينظر الناس إلى هذين نظرة متساوية، وهل هما في القرب عند الله بمنزلة واحدة، أو يفضل أحدهما الآخر بحسن القصد والإرادة والميل إلى الخير وحب المصلحة العامة.
8. قصارى القول ـ إن أقدار الرجال تتفاوت وتختلف باختلاف إرادتهم، فبينما تتسع دائرة وجود الشخص بحسب كبر إرادته وسعة مقصده، فتحيط بالكرة الأرضية، بل فوق ذلك بما يكون له من الكرامة في العالم العلوي ـ إذا بآخر تضيق دائرة وجوده إذا هو أخلد إلى الشهوات، وركن إلى اللذات، فيكون حظه من عمله كحظ الحشرات، يأكل ويشرب ويبغى على الضعيف ويخاف من القوى، والله قد جعل عطاءه للناس معلقا على إرادتهم، ولا يقدر مثل هذا إلا القليل منهم.
9. ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ الذين يعرفون أنعم الله عليهم ويستعملونها فيما يرقى بهم إلى مراقي الكمال، فيعملون صالح الأعمال التي ترفع نفوسهم، وتنفع أمتهم كأنس ابن النضر وأمثاله الذين جاهدوا وصبروا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بما كان لهم من الإرادة القوية التي كانت السبب في انجلاء المشركين عن المسلمين.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/90.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية، لمسة موحية، تطرد ذلك الخوف، عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة، وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير، ومن ابتلاء للعباد وجزاء: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾
2. إن لكل نفس كتابا مؤجلا إلى أجل مرسوم، ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم، فالخوف والهلع، والحرص والتخلف، لا تطيل أجلا، والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمرا، فلا كان الجبن، ولا نامت أعين الجبناء، والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد!
3. بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس، فتترك الاشتغال به، ولا تجعله في الحساب، وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية، وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص، كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع، وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته، في صبر وطمأنينة، وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده.
4. ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول.. فإنه إذا كان العمر مكتوبا، والأجل مرسوما.. فلتنظر نفس ما قدمت لغد؛ ولتنظر نفس ماذا تريد.. أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان، وأن تحصر همها كله في هذه الأرض، وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها؟ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى، وإلى اهتمامات أرفع، وإلى حياة أكبر من هذه الحياة؟.. مع تساوي هذا الهم وذلك فيما يختص بالعمر والحياة!؟
5. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ وشتان بين حياة وحياة! وشتان بين اهتمام واهتمام! ـ مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل ـ والذي يعيش لهذه الأرض وحدها، ويريد ثواب الدنيا وحدها.. إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب، والذي يتطلع إلى الأفق الآخر.. إنما يحيا حياة (الإنسان) الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب.. ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾
6. ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان، فيرتفعون عن مدارج الحيوان؛ ويشكرون الله على تلك النعمة، فينهضون بتبعات الإيمان.
هكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة، وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء، وفق ما يريدونه لأنفسهم، من اهتمام قريب كاهتمام الدود، أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان! وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف ـ وهي لا تملك شيئا في شأن الموت والحياة ـ إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه، وتملك فيه الاختيار، فتختار الدنيا أو تختار الآخرة، وتنال من جزاء الله ما تختار!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/488.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ عزاء جميل للمسلمين، وتسرية عنهم لما أصيبوا به في أحد، فهؤلاء الذين استشهدوا في سبيل الله قد ظفروا بالشهادة، دون أن ينقص ذلك من أجلهم ساعة واحدة.. فما تموت نفس على أي وجه من وجوه الموت، دون أن تستوفى أجلها المقدور لها ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾، و﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ فمن أراد ثواب الدنيا واستيفاء حظه منها، ففرّ بنفسه عن مواطن الابتلاء، فله ما أراد، دون أن يزيد ذلك من عمره شيئا.. ومن أراد ثواب الآخرة، مجاهدا في سبيل الله، يستقبل الموت ولا يستدبره، فله ما أراد، ولن ينقص ذلك من أجله شيئا!
2. في قوله تعالى: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ إشارة إلى المؤمنين الذين عرفوا هذه الحقيقة واستيقنوها، فشكروا الله على ما أقامهم به على طريق الجهاد، ونظمهم في صفوف الشهداء، ووفاهم أجرهم، دون أن يستقضيهم ذلك ساعة واحدة من آجالهم التي حرص عليها غيرهم، ممن نكص عن الجهاد، وارتدّ على عقبه، فرارا من الموت، الذي هو طالبه حين يستوفى أجله.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/608.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ جملة معترضة، والواو اعتراضية، فإن كانت من تتمة الإنكار على هلعهم عند ظنّ موت الرسول، فالمقصود عموم الأنفس لا خصوص نفس الرسول ، وتكون الآية لوما للمسلمين على ذهولهم عن حفظ الله رسوله من أن يسلّط عليه أعداؤه، ومن أن يخترم عمره قبل تبليغ الرسالة، وفي قوله: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67] عقب قوله: ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة: 67] الدالّ على أنّ عصمته من النّاس لأجل تبليغ الشّريعة، فقد ضمن الله له الحياة حتّى يبلّغ شرعه، ويتمّ مراده، فكيف يظنّون قتله بيد أعدائه، على أنّه قبل الإعلان بإتمام شرعه، ألا ترى أنّه لمّا أنزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: 3] الآية، بكى أبو بكر وعلم أنّ أجل النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قرب، وقال: ما كمل شيء إلّا نقص، فالجملة، على هذا، في موضع الحال، والواو واو الحال، وإن كان هذا إنكارا مستأنفا على الّذين فزعوا عند الهزيمة وخافوا الموت، فالعموم في النفس مقصود أي ما كان ينبغي لكم الخوف وقد علمتم أنّ لكلّ نفس أجلا، وجيء في هذا الحكم بصيغة الجحود للمبالغة في انتفاء أن يكون موت قبل الأجل، فالجملة، على هذا، معترضة، والواو اعتراضية.
2. مثل هذه الحقائق تلقى في المقامات الّتي يقصد فيها مداواة النّفوس من عاهات ذميمة، وإلّا فإنّ انتهاء الأجل منوط بعلم الله لا يعلم أحد وقته، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان: 34]، والمؤمن مأمور بحفظ حياته، إلّا في سبيل الله، فتعيّن عليه في وقت الجهاد أن يرجع إلى الحقيقة وهي أنّ الموت بالأجل.
3. المراد ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ تقديره وقت الموت، ووضعه العلامات الدالة على بلوغ ذلك الوقت المقدّر، وهو ما عبّر عنه مرّة بـ (كن)، ومرة بقدر مقدور، ومرّة بالقلم، ومرّة بالكتاب.
4. الكتاب في قوله: ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ يجوز أن يكون اسما بمعنى الشيء المكتوب، فيكون حالا من الإذن، أو من الموت، كقوله: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد: 38] و(مؤجّلا) حالا ثانية، ويجوز أن يكون ﴿كِتَابًا﴾ مصدر كاتب المستعمل في كتب للمبالغة، وقوله: ﴿مُؤَجَّلًا﴾ صفة له، وهو بدل من فعله المحذوف، والتّقدير: كتب كتابا مؤجّلا أي مؤقتا، وجعله الزمخشري مصدرا مؤكّدا أي لمضمون جملة ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ﴾ الآية، وهو يريد أنّه مع صفته وهي ﴿مُؤَجَّلًا﴾ يؤكّد معنى ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ لأنّ قوله: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ يفيد أنّ له وقتا قد يكون قريبا وقد يكون بعيدا فهو كقوله تعالى: ﴿كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: 24] بعد قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23] الآية.
5. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ عطف على الجملة المعترضة، أي من يرد الدنيا دون الآخرة، كالّذي يفضّل الحياة على الموت في سبيل الله أو كالّذين استعجلوا للغنيمة فتسبّبوا في الهزيمة، وليس المراد أنّ من أراد ثواب الدنيا وحظوظها يحرم من ثواب الآخرة وحظوظها، فإنّ الأدلّة الشرعية دلّت على أنّ إرادة خير الدنيا مقصد شرعي حسن، وهل جاءت الشريعة إلّا لإصلاح الدنيا والإعداد لحياة الآخرة الأبدية الكاملة، قال الله تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ [آل عمران: 148] وقال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ أي الغنيمة أو الشّهادة، وغير هذا من الآيات والأحاديث كثير، وجملة ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ تذييل يعمّ الشاكرين ممّن يريد ثواب الدنيا ومن يريد ثواب الآخرة، ويعمّ الجزاء كلّ بحسبه، أي يجزي الشاكرين جزاء الدنيا والآخرة أو جزاء الدنيا فقط.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/241.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكلام في هذه الآيات موصول بالآيات قبلها، ففي الآيات السابقة أشار سبحانه إلى اضطراب بعض المؤمنين عندما بلغهم كذبا أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، فضعفت نفوس، ووهنت قلوب، واضطربت عقول، فبين الله سبحانه وتعالى أن محمدا رسول من البشر، وأنه يموت كما يموت سائر البشر، وأن له أجلا ملموسا، وأن الدعوة الإسلامية كاملة ما دام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد بلغها وأتم تبليغها، وبهذا أتم ما عهد إليه، فإذا مات حمل هذه الأمانة من بعده ونقلوها إلى الأخلاف، ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن النفوس جميعها بيد الله، وأنه سبحانه قد جعل لكل أجل كتابا.
2. ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ المعنى ما تحقق وما ثبت لنفس أن تموت إلا بإذن الله تعالى، وقد كتب لها كتابا مؤجلا، ومعنى الإذن هنا يتضمن أن لله تعالى الإرادة المطلقة في قبض النفوس وإرسالها، فهي لا تموت إلا بمشيئته، ولا تحيا إلا بإرادته، وقد عبر سبحانه وتعالى عن الإرادة بالإذن، وذلك للإشارة إلى أنه إذا كان القتل في الحروب سببا للموت، فإنه ما دام لم يجئ الإذن الذي يعلن مشيئة الله تعالى وإرادته فإن المقاتلين مهما يكونوا أقوياء لا يمكن أن يصيبوا نفسا لم يشإ الله تعالى قتلها، فهذا النص الكريم يؤكد معنيين:
أ. أحدهما: أن الموت بالإرادة الأزلية، وبالمشيئة الإلهية، فما لم يأذن فلا موت.
ب. الثاني: أن القتال مهما يكن شديدا فلن تموت نفس لم يكتب الله تعالى لها الموت.
3. هناك إشارات في الآية كثيرة:
أ. منها أن الموت لا يحتاج بالنسبة لله تعالى إلى أسباب، فليس إلا أن يأذن بقبض الروح فيكون الموت من غير أي مجهود يبذل.
ب. ومنها تحريض المؤمنين على الجهاد، وتشجيعهم على لقاء الأعداء، فإن الحذر والحرص على الحياة لا يمنعان ما قدر الله تعالى، فإذا كان قد أذن للنفوس أن تلقى ربها فلا مانع يمنعها، ولا دافع يدفع عنها أسباب المنايا.
ج. ومنها الإشارة إلى حفظ الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد تربص به الأعداء، وأحاطوا به من كل جانب، وصار قريبا من نهزة المختلس، ولكن الله تعالى أحاطه بكلاءته وعنايته.
د. ومنها بيان أن الله سبحانه وتعالى قابض نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم مهما يطل الأمد أو يقصر.
4. ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف معناه: كتب كتابا مؤجلا، أي له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، وهو آت لا محالة.
5. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ وإذا كان الأجل مكتوبا، فإن ذلك لا يمنع أن العمل مكسوب، فعلى كلّ أن يعمل، وكلّ ميسر لما خلق له، وكل يكون جزاؤه في الدنيا والآخرة، فمن يرد ثواب الدنيا أي جزاءها والنتائج المطلوبة فيها، ويسلك السبيل القاصد الذي يوصل إلى الغاية، وينته إلى النهاية، يمكنه الله تعالى من الأسباب، ويسهل له الحصول على النتائج، ومن كان يريد الآخرة ويقصد وجه الله تعالى في كل ما يعمل، ويقصد إلى الدنيا لا لذاتها، بل على أنها مزرعة الآخرة، فإن الله تعالى يؤتيه من ثواب الآخرة ما ادخره لعباده المتقين، وهذا كقوله تعالى: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران]، وكقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى]
6. النص الكريم يثبت أن الدنيا لها وسائل، والنجاح فيها له أسباب توصل إلى النتائج، والآخرة لها أسباب وذرائع، وعلى ذلك لا يكون النجاح في شؤون الدنيا دليلا على القرب من الله تعالى، ولا الفشل فيها دليلا على البعد عن الله تعالى، ذلك قول الفجار، الذين يتخذون من سطوة الكفار مع كفرهم دليلا على أنهم أقرب إلى الله من المؤمنين، ويغفلون عن قول الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف]
7. في النص الكريم إشارات بينات، فهو يشير إلى الذين اتبعوا الغنائم وتركوا طاعة الرسول يوم أحد بأنهم أرادوا الدنيا، ولكن لم يسلكوا مسالكها، ويشير إلى الذي يقاتلون طلبا للغنائم، وأنهم لا ينالونها إلا إذا استقاموا على مناهج القتال الصحيحة، ويشير إلى فضل الذين صبروا ويصبرون في الحرب، ويطلبون بها وجه الله تعالى لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، ويشير إلى أن القتال يجب أن يقصد به وجه الله تعالى، لعمارة الأرض ومنع الفساد فيها، ثم يبين سبحانه أن أولئك هم الذين ينالون الثواب، ولذا قال تعالى: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ شكر النعمة القيام بحقها، وأداء ما ينعم الله تعالى به من نعم في مواضعه، فإذا أعطى فشكر العطاء بإنفاقه في مواضع الإنفاق، وإذا منح القوة فشكرها أن يجعلها لنصرة الحق وخفض الباطل، وإذا أعطى نعمة الحكمة والفكر السليم، فيكون الشكر بتسخير ذلك لنفع العباد، وهدى الناس، وإرشادهم إلى طرق البحث وتذليل الأرض لهم، وأن يكون ما ينتجه للعمارة لا للخراب.
8. هنا نجد النص لم يبين الجزاء، ولم يبين من الذين يتصفون بالشكر من طلاب الدنيا أو طلاب الآخرة، وقد ترك الجزاء من غير بيان ليعم الجزاء الدنيوي، والجزاء الأخروي فمن طلبوا الدنيا واتخذوا أسبابها، ونصروا الضعيف، وخذلوا القوى، وعمروا الأرض ولم يفسدوها، ولم يطرحوا ما عند الله تعالى بل طلبوه، كانوا من الشاكرين، واستحقوا الجزاءين: جزاء الدنيا بأن يصلوا إلى النتائج التي قصدوها، وهى العلو في الأرض من غير طغيان، والجزاء في الآخرة عند تجلى الرحمن.
9. لم يبين سبحانه من هم الشاكرون؟ أهم طلاب الدنيا أم طلاب الآخرة، وذلك لأن المطلبين ليسا متضادين، بل إنهما يتلاقيان، وإنه عند التحقيق لا يعد طالب الدنيا سالكا طريقها إلا إذا طلب الآخرة فيها، وأذعن لقدرة الخالق في طلب الحياة الدنيا، فكل شيء عنده بمقدار، فمن اعتمد على الأسباب الدنيوية وحدها من غير تفويض الله معها فإنه يعاند قدرة الله، ولا ينجح له تدبير، ولا ينته إلى غاية في تفكير، ﴿وهُوَالْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وهُوَالْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام]، ولذلك كان الشكر مشتركا عند طلاب الدنيا إن طلبوها على وجهها وطلاب الآخرة، وإنه عند التحقيق أيضا طلب الآخرة لا ينقطع تماما عن طلب الدنيا، فإن الزهد في الإسلام طلب الحلال وليس إعراضا عن الدنيا، وإن من يحتطب لقوت أهله أعبد ممن ينقطع في صومعة للعبادة، ولذلك ورد في بعض الآثار (رهبانية أمتي في الجهاد)
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1435.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، والمعنى ان الحياة والموت بيده تعالى، وان الأجل محدود بعلمه لا تقديم فيه ولا تأخير، سواء أكان سببه السيف أو المرض أو الهرم أو غيره، قال الإمام علي عليه السلام: (كفى بالأجل حارسا)، وقال: (الأجل جنة حصينة).. وفي الآية تحريض على الجهاد، لأن الأجل محتوم، ولا أحد يموت قبل بلوغ أجله، وان اقتحم المهالك.
2. سؤال وإشكال: الذي نشاهده ان للموت أسبابا خاصة، كالقتل والغرق والوباء وما اليه، وهذا ينافي أن يكون الأجل محدودا بعلم الله؟ والجواب: أجاب عن ذلك الشيخ محمد عبده ـ كما في تفسير المنار ـ بأنه ليس هناك أسباب للموت غير الأجل المقدر عند الله، فان الوباء قد يعم، ومع ذلك يفتك بالشاب القوي، ويترك الشيخ الهزيل، وكم من ضربة قتلت هذا دون ذاك، ولو كانت هذه أسبابا مطردة لظهر أثرها في الجميع دون استثناء.
3. سؤال وإشكال: على هذا ينبغي ان يكون القاتل غير مسؤول أمام الله، مع انه قال عز من قائل: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾؟ والجواب: ان المقتول مات بأجله المعين، والقاتل استحق العقاب: لأنه أقدم على ما نهى الله عنه، مع قدرته على أن يجتنبه، ويدع المعتدى عليه يموت بسبب آخر.. وبتعبير ثان هنا قضيتان: الأولى كل من باشر الحرام متعمدا فهو مسؤول، الثانية للمعتدى عليه اجل معين، وقد تواردت القضيتان على مورد واحد، فكان لكل منهما حكمه وأثره.
4. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾، لفظ الآية عام، وسياق الكلام وارد في خصوص الجهاد، والمعنى ان من قاتل طلبا للربح والغنيمة لا رغبة في ثواب الله، وقتل فقد خسر الدنيا والآخرة، وان سلم وغنم الجيش أخذ حظه من غنيمة الحرب، وليس له من ثواب الله شيء.. وان قاتل انتصارا للحق وإعلاء كلمة الدين أخذ نصيبه من الغنيمة، واستحق من الله الأجر والثواب، وكذا لو قصد الاثنين معا لقوله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، فطبيعة الجهاد تتحمل القصدين معا، قصد الدنيا وقصد الآخرة، على العكس من الصوم والصلاة والحج والزكاة فإنها لله وحده يفسدها أدنى الشوائب.
5. من تتبع آيات الله سبحانه وأحاديث رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم يرى ان للنية تأثيرا عظيما في الحكم على الأقوال والأفعال والرجال، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾، وقال: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، وفي الحديث الشريف: (لكل امرئ ما نوى.. يحشر الناس على نياتهم.. انما الأعمال بالنيات.. نية المرء خير من عمله)، ولا عجب فان القلب هو الأساس، فبحركته تبتدئ حياة الإنسان، وتنتهي بسكونه.. وهو محل الإيمان والجحود، والخوف والرجاء، والحب والبغض، والشجاعة والجبن، والإخلاص والنفاق، والقناعة والطمع، وما إلى ذلك من الفضائل والرذائل.. وفي الحديث القدسي: (ما وسعتني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن)، أي أدرك عظمة الله، فالأعمال كلها تتكيف بحال القلب، وتنصبغ بصبغته، لأنه أصلها ومصدرها، وجاء في تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾، أي على نيته.. وعلى هذا يستطيع الإنسان ان يختار طريقه بنفسه باختيار مقاصده وأهدافهـ خيرا أو شرا ـ يختاره من البداية إلى النهاية، كما نستطيع نحن ان نحكم عليه بما يختار هو لنفسه من الأهداف والأغراض.
6. قال الوجوديون: لا يمكن الحكم على الإنسان الا بعد أن يعبر آخر مرحلة من مراحل حياته.. ومعنى هذا ان الوجودية يلزمها ان لا تجيز الحكم الا على الأموات.. أما الأحياء فلا يحكم عليهم بخير ولا بشر، ولا بادانة أو براءة، مع العلم بأن الوجوديين، وفي طليعتهم زعيمهم سارتر يحكمون على الأحياء، ونحن لا ننكر ان الإنسان ما دام في قيد الحياة يمكنه أن يعدّل في أفعاله، ويصحح من أخطائه، ولكن هذا لا يمنع أبدا من الحكم عليه بما فيه، وحسبما يصدر عنه قبل الموت.
7. سؤال وإشكال: لقد سبق منك أكثر من مرة وبمناسبات شتى ان العبرة بالأفعال، وانه لا ايمان بلا تقوى وعمل صالح، وهذا ينافي قولك هنا: ان العبرة بالنوايا والأغراض؟ والجواب: نريد من النية هنا الباعث القوي والعزم الأكيد الذي لا ينفك عن العمل، مع تهيؤ الجو، وتوافر الأسباب الأخر.. وقد أشارت إلى ذلك الآية 19 الاسراء: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾، وهذه النية بحكم العمل، بل هي العمل، كما قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام، لأنه أصله ومصدره.. ومن لا يقصد لا يعمل، وعليه يكون ثواب هذه النية ثواب العمل، أما نية الشر أي التصميم على فعله فهي محرمة ما في ذلك ريب، وصاحبها يستوجب العقاب، ولكن الله سبحانه أسقطه عنه تفضلا منه إذا لم يتلبس الناوي بالمعصية، حتى ولو صرفه عنه صارف قهري، وعلى هذا تكون نية فعل الخير خيرا في نظر الإسلام، أما نية فعل الشر المجردة فليست شرا.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/172.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾.. تعريض لهم في قولهم عن إخوانهم المقتولين ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ الآية، وقول طائفة منهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ الآية، وهؤلاء من المؤمنين غير المنافقين الذين تركوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقعدوا عن القتال، فهذا القول منهم لازمه أن لا يكون موت النفوس بإذن من الله وسنة محكمة تصدر عن قضاء مبرم، ولازمه بطلان الملك الإلهي والتدبير المتقن الرباني وسيجيء إن شاء الله الكلام في معنى كتابة الآجال في أول سورة الأنعام.
2. لما كان لازم هذا القول ممن قال به إنه آمن لظنه أن الأمر لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين فقد أراد الدنيا كما مر بيانه ومن اجتنب هذا فقد أراد الآخرة فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾، وإنما قال: ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ ولم يقل: نؤتها لأن الإرادة ربما لا توافق تمام الأسباب المؤدية إلى تمام مراده فلا يرزق تمام ما أراده، ولكنها لا تخلو من موافقة ما للأسباب في الجملة دائما فإن وافق الجميع رزق الجميع وإن وافق البعض رزق البعض فحسب، قال الله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ وقال تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾
3. ثم خص الشاكرين بالذكر بإخراجهم من الطائفتين فقال: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ وليس إلا لأنهم لا يريدون إلا وجه الله لا يشتغلون بدنيا ولا آخرة كما تقدم.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/41.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ إن الذي يحيي هو الذي يميت، فكما أن المخلوق ليس من شأنه أن يحيى إلاّ بإذن الله، كذلك ليس من شأنه أن يموت إلاّ بإذن الله، وذلك لأن الأجل جنة حصينة، فما دام مكتوبة له الحياة لا يموت؛ لأن الله غالب على أمره، فإذا أراد التخلية ليموت خلاّ بينه وبين سبب الموت فمات بإذن الله، أي تخليته وجعل سبب الموت سبباً للموت فهو بإذن الله.
2. ﴿كِتَابًا﴾ إما كتبه الله كتاباً، وإما سمى الموت ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ أي مكتوباً له أجل يأتي فيه، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [الأعراف:37] قال في (الكشاف): (أي مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار، ولعل عطف هذه الآية على التي قبلها لبيان أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لن يموت حتى يأتي أجله الذي كتبه الله على ما تقتضيه الحكمة فلن يقتل قبل ذلك؛ لأنه محفوظ بحفظ الله.
3. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ يصدق على الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ﴾ يتناول الذين قال فيهم: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ وفيه إشارة إلى الفرق بين الثوابين؛ لأن ثواب الدنيا قليل زائل، وثواب الآخرة عظيم باق، والذي يريد الدنيا ما له في الآخرة من نصيب، كما في (سورة هود) آية [15] و(سبحان) آية [18] و(الشورى) آية [20]، وقوله تعالى: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ وعد للصالحين الذين يشكرونه بطاعته وذكره ولا يكفرون نعمته بمعصيته إلاّ أن يتوبوا، ولا يصروا كما مر في المتقين.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/547.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لماذا يجبن الإنسان المؤمن، ولماذا يخاف ويتراجع عن الاندفاع في معارك الحقّ والباطل؟ هل هو الخوف من الموت؟ ولكنّ الإيمان بالقضاء والقدر يتلخص في الفكرة القائلة: إنّ ما أصاب الإنسان في هذه الدنيا لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإنّ لكل إنسان أجلا محدودا لن يعدوه، فلا يتقدم ولا يتأخر مهما كانت الظروف والأخطار، إن هذه الفقرة من الآية الأولى تقرر هذه الحقيقة من أجل أن يستلهمها المؤمنون عندما يدعوهم الواجب إلى خوض الحرب دفاعا عن الحقّ.. ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ فهو الذي يملك الحياة والموت من حيث إنه خالقهما في الإنسان وفي الموجودات الحيّة كلها من خلال سنته في الموت في أسباب الحياة والموت، وهذا هو المراد من ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾، ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ أي مؤقتا له إلى أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، فلكل نفس وقت محدّد خاضع للظروف الكونية المحيطة به التي قدّر الله من خلالها حياته وموته عندما خلق الله الناس، فلا يموت الإنسان إلّا بإذن الله الذي يمثّل التعبير عن القوانين التي تحكم حياة الإنسان، بعد أن يبلغ الكتاب أجله، وإذا كان الأمر كذلك، فلما ذا الخوف من الموت!؟
2. تنطلق الآية لتحدّد للإنسان مصيره من خلال إرادته واختياره في خطّ المسير: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾، ولا يفكر بما بعدها بأن كان ممن أخلد إلى الأرض واتبع هواه ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ فإن الله لا يحجب عنه ذلك بل يؤتيه منها.
3. ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ﴾ فيتحرك في الحياة بطاعة الله طلبا لرضوانه وشكرا لنعمه، في عملية تجسيد للشكر بالإيمان والعمل الصالح، بأن كان ممن ارتبط بالله في عقيدته وعمله ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي كان له ذلك كنتيجة لعمله.
4. ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ وجزاء الله عليه جزاء الشاكرين، فلما ذا لا يغتنم الإنسان الفرصة فيفكر بالله ويعمل لما عنده فيكون قريبا منه!؟
__________
(1) من وحي القرآن: 6/299.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن جماعة كثيرة من المسلمين ارعبوا وزلزلوا لشائعة مقتل النبي في أحد ـ كما أسلفنا ـ إلى درجة أنهم تركوا ساحة المعركة، وفروا بأنفسهم من الموت وحتّى أن بعضهم فكر في الردة عن الإسلام فكان قوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ وهو يكرر توبيخهم، وتنبيههم إلى أن الموت بيد الله، والفرار لا ينفع في الخلاص من الأجل الإلهي، فإذا صحّ أن النبي قتل في المعركة ونال الشهادة لم يكن ذلك إلّا تحقيقا لسنة إلهية، فلما ذا خاف المسلمون وكفوا عن القتال؟ ومن ناحية أخرى أن الفرار من المعركة لا يدفع الأجل كما أن مواصلة القتال والبقاء في المعركة لا يقرب هو الآخر أجلا، فالفرار من ميدان الجهاد حفاظا على النفس لغو لا فائدة فيه.
2. هناك بحث حول معنى الأجل، وأن منه حتميا، ومنه معلقا، والفرق بين النوعين سنوافيك به في تفسير الآية الثانية من سورة الأنعام بإذن الله تعالى.
3. بعد عرض هذه الحقائق يعقب سبحانه على ما قال بقوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي أن ما عمله الإنسان لا يضيع أبدا، فإن كان هدفه دنيويا ماديا كما كان عليه بعض المقاتلين في (أحد) فإنه سيحصل على ما يسعى إليه ويناله، وأما إذا كان هدفه أسمى من ذلك، وصب جهوده في سبيل الحصول على الحياة الخالدة والفضائل الإنسانية بلغ إلى هدفه حتما وأوتي ثواب الآخرة الذي هو أعظم من كلّ ثواب وأسمى من كلّ نتيجة، فلما ذا إذن لا يصرف الإنسان جهوده، ويوظف ما أوتي من طاقات معنوية ومادية في الطريق الثاني وهو الطريق الخالد السامي؟
4. تأكيدا لهذه الحقيقة قال سبحانه مرة أخرى ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾، والجدير بالتأمل أن الفعل في هذه العبارة جاء في الآية السابقة، بصيغة الغائب ﴿سَيَجْزِي﴾ وجاء هنا في صورة المتكلم (سنجزي) وهذا يفيد غاية التأكيد للوعد الإلهي بإعطاء الثواب لهم، فهو تدرج من الوعد العادي إلى الوعد المؤكد، فكأنّ الله يريد أن يقول ـ وببساطة ـ أنا ضامن لجزائهم وثوابهم.
5. جاء في تفسير (مجمع البيان) في ذيل هذه الآية عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال إنه أصاب عليا عليه السّلام يوم (أحد) إحدى وستون جراحة، وأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر أم سليم وأم عطية أن تداوياه، فقالتا إنا لا نعالج منه مكانا إلّا انفتق مكان آخر، وقد خفنا عليه، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة فجعل يمسحه بيده، ويقول: (إن رجلا لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر) وكان القرح الذي يمسحه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يلتئم، وقال علي عليه السّلام: (الحمد لله إذ لم أفر ولم أوّل الدبر)، فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن وهو قوله تعالى: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/722.
76. الأنبياء والربيون والقتال والجزاء الإلهي
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈76⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 146 ـ 148]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿رِبِّيُّونَ﴾ ألوف(1).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/١٣٤.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ فالربوة: عشرة آلاف في العدد، والربيون: الجموع الكثيرة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٨٠،/١٠٣.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿رِبِّيُّونَ﴾ جموع(1).
2. روي أنّه قال: هي الجموع الكثيرة(2).
3. روي أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله: ﴿رِبِّيُّونَ﴾، قال جموع، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول حسان(3):
çوإذا معشر تجافوا عن القصـ... ــد أملنا عليهم ربيا؟é
4. روي أنّه قال: ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ علماء كثير(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ تخشعوا(5).
6. روي أنّه قال: (وكأين من نبي قُتل) الآية، قال هم قوم قتل نبيهم؛ فلم يضعفوا، ولم يستكينوا لقتل نبيهم(6).
7. روي أنّه قال: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾، قال لقتل أنبيائهم(7).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١١٢.
(2) سعيد بن منصور: ٥٣١.
(3) الطستي في مسائله كما في الإتقان: ٢/١٠٤.
(4) ابن جرير: ٦/١١٣.
(5) ابن جرير: ٦/١١٩.
(6) ابن أبي حاتم: ٣/٧٨١.
(7) ابن المنذر: ١٠١٦.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ وما جبنوا، ولكنهم صبروا على أمر ربهم، وطاعة نبيهم، وجهاد عدوهم(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٨٢.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ﴾، يعني: فما عجزوا عن عدوهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٨١.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾، قال فالربيون: الجموع، قتل نبيهم في قتالهم، فلم يهنوا لذلك، ولم يضعفوا لإيمانهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾، يعني: الخطايا الكبار(2).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٤٢١.
(2) ابن جرير: ٦/١٢٠ من طريق عبيد أيضًا بلفظ: الكبائر، وابن أبي حاتم: ٣/٧٨٣.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ خطايانا، وظلمنا أنفسنا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٢٠.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ﴾ قد كانت أنبياء الله قبل محمد قاتل معها علماء(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ علماء صبر(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ أبرار، أتقياء، صبر(2).
4. روي أنّه قال: ﴿رِبِّيُّونَ﴾ فقهاء علماء(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٨٠.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٨١.
(3) سعيد بن منصور: ٥٣١.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ ما ارتدوا عن بصيرتهم، ولا عن دينهم، أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ الفتح، والظهور، والتمكين، والنصر على عدوهم في الدنيا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١١٧.
(2) ابن جرير: ٦/١٢٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ معناه ألوف وجماعات.. والواحد ربّي، ويقال: علماء(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ معناه تفريطنا فيه(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 113.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ ما ذلوا حين قال رسول الله : (اللهم، ليس لهم أن يعلونا)، ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١١٨.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ وما ارتدوا عن بصيرتهم، قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى لحقوا بالله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ حسن الثواب في الآخرة هي الجنة(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١١٨.
(2) ابن جرير: ٦/١٢٤.
الأعمش:
روي عن سليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾، يعني: فأعطاهم الله(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٨٣.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ رضوان الله، ورحمته(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٢٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم أخبر بما لقيت الأنبياء والمؤمنون قبلهم؛ يعزيهم ليصبروا، فقال سبحانه: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ﴾: وكم من نبي ﴿قَاتَلَ مَعَهُ﴾ قبل محمد ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ يعني: الجمع الكثير(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا ضَعُفُوا﴾ يعني: خضعوا لعدوهم، ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ يعني: وما استسلموا، يعني: الخضوع لعدوهم بعد قتل نبيهم، فصبروا، ﴿والله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾(1).
3. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ يعني: الخطايا الكبار في أعمالنا، ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ عند اللقاء حتى لا تزل، ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ أفلا تقولون كما قالوا، وتقاتلون كما قاتلوا، فتدركون من الثواب في الدنيا والآخرة مثل ما أدركوا، فذلك قوله تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾(2).
4. روي أنّه قال: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ أعطاهم النصر والغنيمة في الدنيا(2).
5. روي أنّه قال: ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ جنة الله ورضوانه، فمن فعل ذلك فقد أحسن، فذلك قوله تعالى: ﴿والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(2).
6. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ يعني: الذين تركوا المركز يوم أحد وطلبوا الغنيمة، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير الأنصاري ـ من بني عمرو ـ حتى قتلوا(3).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٥.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٦.
(3) تفسير مقاتل: ١/٣٠٥.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾، أي: فقولوا كما قالوا، واعلموا أنما ذلك بذنوب منكم، واستغفروا كما استغفروا، وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم، ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم، واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين، فكل هذا من قولهم قد كان وقد قتل نبيهم، فلم يفعلوا كما فعلتم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ الجنة، وما أعد فيها(2).
4. روي أنّه قال: (وكأين من نبي قُتل معه ربيون كثير)، قال وكأين من نبي أصابه القتل، ومعه جماعات(3).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٢١.
(2) ابن جرير: ٦/١٢٤.
(3) ابن جرير: ٦/١١٦.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: الربيون: الأتباع، والربانيون: الولاة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١١٦.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ قيل فيه لغات:
أ. أحدها: (قاتل معه) بالألف، وتأويله: وكم من نبي قاتل معه ربّيون كثير، فقتل؛ على الإضمار.
ب. الثاني: (وكم من نبيّ قتل معه ربّيون كثير)، برفع القاف.
ج. الثالث: (وكم من نبيّ قتل معه ربيون كثير) بالنصب.
2. معنى قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾: كم من نبي قتل معه ربيون كثير، فلم ينقلب أتباعه على أعقابهم؛ بل كانوا بعد وفاتهم أشدّ اتباعا لهم من حال حياتهم؛ حتى قالوا: لن يبعث الله من بعده رسولا؛ فما بالكم يخطر ببالكم الانقلاب على أعقابكم، إذا أخبرتم أنه قتل نبيكم أو مات؟
3. في إنباء هذه الأمة قصص الأمم الخالية وأخبارهم وجهان:
أ. أحدهما: دلالة إثبات رسالة [رسولنا] محمد ؛ لأنهم علموا أنه لم يختلف إلى أحد منهم ممن يعلم هذا، ثم أخبر بذلك، فكان ما أخبر؛ فدل أنه علم ذلك بالله.
ب. الثاني: العمل بشرائعهم وسننهم، إلا ما ظهر نسخه بشريعتنا؛ ألا ترى أنه ذكر محاسنهم وخيراتهم؛ وإنما ذكر لنتبعهم في ذلك ونقتدي بهم، وذكر مساوئهم وما لحقهم بها؛ لننتهي عنها ونكون على حذر مما أصابهم بذلك
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾:
أ. عن ابن عباس قال: عالم كثير)
ب. وعنه ـ أيضا ـ: (الجموع الكثير)، وعن الحسن مثله.
ج. وعن ابن مسعود قال الألوف.
5. عن ابن مسعود قال في قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ يقول: قاتل؛ ألا ترى أنه يقول: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ﴾!؟.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَما وَهَنُوا وما ضَعُفُوا﴾:
أ. قيل: فما وهنوا في الدين، وما ضعفوا في أنفسهم في قتال عدوهم بذهاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من بينهم؛ فما بالكم تضعفون أنتم!؟
ب. ويحتمل قوله: ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ يعني: فما عجزوا لما نزل بهم من قتل أنبيائهم، وما ضعفوا في شيء أصابهم في سبيل الله من البلايا.
ج. وقيل: قوله عزّ وجل: ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ يرجع إلى: ﴿قَاتَلَ﴾ إلى المقاتلين وفي (قتل) إلى الباقين.
7. ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ قيل: لم يذلّوا في عدو لهم، ولم يخضعوا لقتل نبيهم؛ بل قاتلوا بعده على ما قاتلوا معه؛ فهلا قاتلتم أنتم على ما قاتل عليه نبيكم؛ كما قاتلت القرون من قبلكم إذا أصيب أنبياؤهم ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ على قتال عدوّهم، وعلى كل مصيبة تصيبهم.
8. ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ قيل: وما كان قول الأمم السالفة عند قتل نبيهم إلا أن قالوا: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ الآية، يقول: يعلّم الله هذه الأمة ويعاتبهم: هلّا قلتم أنتم حين نعي إليكم نبيكم كما قالوا القوم في الأمم السالفة!؟.
9. ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ قيل: الذنوب: هي المعاصي، وقوله: ﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ والإسراف: هي المجاوزة في الحدّ، والتعدّي عن أمره، وقيل: هما واحد.
10. قوله تعالى: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ثبتنا على الإيمان، ودين الإسلام، والقدم كناية؛ كقوله: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ [النحل: 94]، أي: تكفر بعد الإيمان، [و] كقوله: ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ وذكر القدم لما بالقدم يثبت.
ب. ويحتمل قوله: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ في قتال العدوّ، وفزعوا إلى الله عزّ وجل بعد ذهاب نبيّهم من بينهم؛ ليحفظهم على ما كان يحفظهم في حياة نبيهم.
11. قوله تعالى: ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: النصر عليهم بالحجج والبراهين.
ب. ويحتمل: النصر بالغلبة والهزيمة عليهم.
12. قوله تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل ثواب الدنيا: الذكر والثناء الحسن، وهم كذلك اليوم نتبعهم ونقتدي آثارهم وهم موتى.
ب. ويحتمل ـ: على ما قيل ـ: النصر والغنيمة.
13. ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ الدائم، وذكر في ثواب الآخرة (الحسن)، ولم يذكر في ثواب الدنيا الحسن؛ لأن ثواب الآخرة دائم لا يزول أبدا، وثواب الدنيا قد يزول، أو أن يشوب في ثواب الدنيا آفات وأحزان؛ فينقص ذلك، وليس ثواب الآخرة كذلك.
14. قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ الإحسان يحتمل وجوها ثلاثة:
أ. يحتمل: المحسن: العارف، كما يقال: فلان يحسن ولا يحسن.
ب. ويحتمل: المعروف من الفعل ـ مما ليس عليه ـ يصنع إلى آخر؛ تفضلا منه وإحسانا.
ج. ويحتمل: اختيار الحسن من الفعل على القبيح من الفعل والسوء؛ وكان كقوله: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ هذا يختار المحاسن من الأفعال على المساوئ.
د. ويحتمل: المحسنين إلى أنفسهم باستعمالها فيما به نجاتها.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/501.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ﴾: أي وكم من نبي قتل معه.. ومعنى قوله ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾: أي جمائع كبيرة وعساكر، والربة ـ فيما قيل ـ: هي الجماعة، وكذلك الرُّبِّيّ، قال الشاعر:
çإذا معشر تجافوا عن القصـ... ـــــد أهلنا عليهم رِبِّيَّاé
أي جمائع كبيرة.
2. ثم رجع إلى ذكر الأنبياء صلوات الله عليهم ومدحهم بالصبر على القتل، كلما قتل منهم قوم قام آخرون ولم يضعفوا لذلك، فقال عز وجل: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾: يريد أنهم لم يذلوا من أعداء الله ولم يضعفوا ولم يجبنوا، والاستكانة: هي الذل والجبن، قال المرتضى لدين لله:
çإني لأكرم نبعة من هاشم... لا تستكين لحرب من ناصاهاé
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 263.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ والربيون هم الذين يعهدون الموت.. والربانيون هم الولاة والربيون تبع لهم ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ بالخضوع ومعناه فلم يهنوا بالخوف ولا ضعفوا عن عدوهم.
2. ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ ثواب الدنيا هو النصر على عدوهم والغنيمة منه وحسن ثواب الآخرة الجنة(2).
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/154.
(2) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/155.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. (وكأيّن من نبي قتل معه ربّيّون كثير) قرأ بذلك ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وقرأ الباقون ﴿قَاتَلَ﴾
2. في قوله تعالى: ﴿رِبِّيُّونَ﴾ أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنهم الذين يعبدون الرب وأحدهم ربّيّ، وهو قول بعض نحويي البصرة.
ب. الثاني: أنهم الجماعات الكثيرة، وهو قول ابن مسعود وعكرمة ومجاهد.
ج. الثالث: أنهم العلماء الكثيرون، وهو قول ابن عباس، والحسن.
د. الرابع: أن (الربيون) الأتباع، والربانيون: الولاة، والربيون الرعية، وهو قول أبي زيد، قال الحسن: ما قتل نبي قط إلّا في معركة.
3. ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ الوهن: الانكسار بالخوف، الضعف نقصان القوة، الاستكانة الخضوع، ومعناه:
أ. فلم يهنوا بالخوف، ولا ضعفوا بنقصان القوة ولا استكانوا بالخضوع.
ب. وقال ابن إسحاق: فما وهنوا بقتل نبيهم ولا ضعفوا عن عدوهم ولا استكانوا لما أصابهم.
4. في ثواب الدنيا في قوله تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: النصر على عدوهم، وهو قول قتادة، والربيع.
ب. الثاني: الغنيمة، وهو قول ابن جريج ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ الجنة، في قول الجميع.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/428.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ ابن كثير (كاين) على وزن كاعن، والباقون (كأين) مشددة على وزن كعين، ومعناهما واحد، وهو بمعنى كما قال جرير:
çوكائن بالاباطح من صديق...يراني لو اصبت هو المصاباé
وقال آخر:
çوكائن رددنا عنكم من مدجج...يجيء أمام الالف يردي مقنعاé
ومثل المشدد قول الشاعر:
çكاين في المعاشر من أناس...أخوهم فوقهم وهم كرامé
2. أصل كأين (أي) دخلت عليها كاف التشبيه، كما أن أصل (كذا) (إذا) دخلت عليها كاف التشبيه، وإنما غيرت في اللفظ لتغيرها في المعنى، لأنها نقلت إلى معنى (كم) في التكثير، ومن خفف فلكراهية التضعيف، كما خفف لا سيما، وقرأ أهل الكوفة، وابن عامر (قاتل) الباقون (قتل) فمن قرأ (قتل) نفى الوهن عمن بقي، ومن قرأ (قاتل) نفاه عمن ذكر.
3. في قوله تعالى: ﴿رِبِّيُّونَ﴾ أقوال:
أ. أحدها: قال ابن عباس، والحسن: علماء فقهاء.
ب. وقال مجاهد، وقتادة: جموع كثيرة.
ج. وقال الأخفش: هم منسوبون إلى الرب، ومعناه المتمسكون بعبادة الله.
د. وقال غيره: منسوبون إلى علم الرب.
هـ. وقال الزجاج: الربو عشرة آلاف، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
4. ارتفاع ﴿رِبِّيُّونَ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: على مذهب الحسن في أنه لم يقتل نبي قط في معركة فيرتفع بأنه لم يسم فاعله في (قتل)
ب. وعلى مذهب ابن إسحاق، وقتادة، والربيع، والسدي: رفع بالابتداء، فقدم عليه الخبر بمعنى قتل، ومعه ربيون كثير، فعلى هذا يكون النبي المقتول، والذين معه لا يهنون، وذلك أن يوم أحد كان ارجف بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قتل، فبين الله تعالى انه لو قتل لما أوجب ذلك أن تهنوا وتضعفوا، كما لم يهن من كان مع الأنبياء بقتلهم، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
5. الوهن هو الضعف وإنما قال فما وهنوا، وما ضعفوا من حيث أن الوهن انكسار الجد بالخوف، ونحوه، والضعف: نقصان القوة.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾:
أ. قيل: معناه ما أظهروا الضعف.
ب. وقيل: معناه ما خضعوا، لأنه يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريد، فلم يهنوا بالخوف، ولا ضعفوا بنقصان العدة، ولا استكانوا بالخضوع.
ج. وقال ابن إسحاق: فما وهنوا بقتل نبيهم، ولا ضعفوا عن عدوهم، ولا استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن دينهم.
د. وقال الزجاج معنى ما وهنوا ما فتروا، وما ضعفوا وما جبنوا عن قتال عدوهم، وما استكانوا ما خضعوا.
هـ. وقال الازهري: الاستكانة أصلها من الكنية، وهي الحالة السيئة يقال بات بكنية يعني بيتة سوء، ومجيئة سوء أي بحال سوء.
7. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ معناه يريد ثواب من صبر في جنبه في امتثال أمره، والقيام بواجباته التي من جملتها الجهاد في سبيل الله.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾:
أ. قيل: هذا إخبار عن الربيين الذين ذكرهم في الآية الاولى بأنهم كانوا يقولون في أكثر أحوالهم ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ لأن من المعلوم أنهم قد كانوا يقولون أقوالا غير هذا، لكن لما كان هذا هو الأكثر لم يعتد بذلك.
ب. وقيل: معناه وما كان قولهم حين قتل نبيهم إلا هذا القول انقطاعاً إلى الله وطلباً لمغفرته.
9. ﴿اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ أي استرها علينا بترك عقابنا، ومجازاتنا عليها.
10. ﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ الإسراف هو مجاوزة المقدار الذي تقتضيه الحكمة، والإسراف مذموم، كما أن الإقتار مذموم، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ وكما قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ والإسراف، والافراط بمعنى، وضدهما التقصير والتقتير، وقيل الإسراف مجاوزة الحق إلى الباطل بزيادة أو نقصان، والأول أظهر، وأصل الإسراف مجاوزة الحد يقال: سرفت القوم إذا جاوزتهم، وأنت لا تعرف مكانهم وسرفت الشيء إذا نسيته لأنك جاوزته إلى غيره بالسهو عنه، ويقال: أصنع من سرفة، وهي دويبة صغيرة تنقب الشجر، وتبني فيه بيتاً.
11. سؤال وإشكال: كيف قوبل الذنوب والإسراف في الامر؟ والجواب: قال الضحاك: هو بمنزلة اغفر لنا الصغير والكبير من خطايانا.
12. ﴿قَوْلُهُمْ﴾ نصب بأنه خبر (كان) والاسم ﴿أَنْ قَالُوا﴾، وإنما اختير ذلك، لأن ما بعد الإيجاب معرفة، فهو أحق بأن يكون الاسم، كقول الشاعر:
çوقد علم الأقوام ما كان داءها...بثهلان إلا الخزيُ ممن يقودهاé
ويجوز الرفع على أنه اسم (كان) وقد قرئ به في الشواذ، ومثله قوله: ﴿مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾
13. ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ أي أعنا وألطف لنا بما تثبت معه أقدامنا وإن كان ثبوت القدم من فعل العباد لكن لما كان بلطفه ومعونته جاز نسبته إليه مجازا.
14. ﴿فَأَتَاهُمُ اللهُ﴾ يعني من تقدم ذكره من الربيين الذين وصفهم، وقال الجبائي: يعني به المسلمين الذين صفتهم ما تقدم ذكره أي أعطاهم الله ثواب الدنيا قال قتادة، والربيع: هو نصرهم على عدوهم حتى ظفروا بهم، وقهروهم.
15. ﴿ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾: الجنة، وزاد ابن جريج الغنيمة، ويجوز أن يكون ما آتاهم الله في الدنيا من الظفر والنصر وأخذ الغنيمة ثواباً مستحقاً لهم على طاعاتهم، لأن في ذلك تعظيما لهم وتبجيلا، ولذلك تقول: إن المدح على أفعال الطاعة والتسمية بالأسماء الشريفة بعض الثواب، ويجوز أن يكون الله تعالى أعطاهم ذلك تفضلا منه تعالى، أو لما لهم فيه من اللطف، فتكون تسميته بأنه ثواب مجازاً.
16. حدّ الثواب هو النفع الخالص المستحق الذي يقارنه تعظيم وتبجيل، والعوض هو النفع المستحق الخالي من التعظيم والتبجيل، والتفضل هو النفع الذي ليس بمستحق ولا معه تعظيم وتبجيل.
17. انما جاز تأخير الثواب المستحق مع ثبوت الاستحقاق له عقيب الطاعة لأمرين:
أ. قال أبو علي: لأنه يوفر عليه ما يفوته في زمان التكليف إلى خير الثواب.
ب. وقال الرماني: لأنه إذا أخر عظم ما يستحقه بالتأخر على ما كان لو قدم، لأنه إذا استحق مثلا مائة جزء عاجلا، فإذا أخر استحق مائة وعشرة أو مائة وجزء.
18. قيل في وجه حسن تأخيره أنه لو كان عقيب الطاعة لأدى إلى أن يكون المكلف ملجأ إلى فعل الطاعة، لأن المنافع الكثيرة تلجئ إلى الفعل كما أن دفع المضار العظيمة تلجئ إلى مثله، وذلك ينافي التكليف.
19. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ أي يريد ثوابهم وتعظيمهم وتبجيلهم والفرق بين الإحسان والانعام أن الإحسان قد يكون إنعاماً بأن يكون نفعاً للمنتفعين به، وقد يكون احساناً بأن يكون فعلا حساً، ومن القسم الأخير يقال هو تعالى محسن بفعل العقاب، ولا يقال محسن من القسم الأول، ويقال وهو محسن بفعل الثواب على الوجهين معا.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/11.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. أصل ﴿كأيِّن﴾ ﴿أَيِّ﴾ دخلت عليها كاف التشبيه، كما أن أصل (كذا) ﴿ذَا﴾ دخلت عليها الكاف، وإنما غيرت في اللفظ لتغيرها في المعنى، ونقلتها إلى معنى ﴿كَمْ﴾
ب. الرِّبَّةُ قيل: هو الجماعة في اللغة، وجمع الرِّبَّةِ الربيون، عن أبي علي وجماعة، وهو مأخوذ من الربوة، وقيل: واحدها رِبِّيّ، وقيل: هو منسوب إلى الرب، وكسر أوله كما يعبر كثير من أبنية النسب، يقال في النسبة إلى أمس: إِمْسِيٌّ بكسر الألف، وإلى الدهر دُهْرِيّ بضم الدال، فبناء رباني كَدِيرَانِيّ ينسب إلى الدير، عن أبي مسلم، قال ابن فارس: الرِّبِّي المتأله العارف بالرب.
ج. الاستكانة: التذلل والخضوع، عن أبي مسلم، ومنه أخذ المسكين لخضوعه وتذلله، وهو مفعيل، منه وأصله من السكون، واستكانوا استفعلوا وأصله اسْتَكْوَنُوا فانقلبت الواو ألفًا كما يقال: استقالوا.
د. الإسراف والإفراط من النظائر، وأصل السرف مجاوزة الحد، وقيل: الإسراف مجاوزة الحق كائنًا ما كان من جهة الزيادة، والإقتار: مجاوزة الحق من جهة النقصان، وقيل: الإسراف مجاوزة الحق إلى الباطل بزيادة أو نقصان، فالأول أظهر في معناه.
هـ. الإيتاء: الإعطاء، آتاه مالاً أي أعطاه.
2. أكد الله تعالى ما تقدم من وجوب التمسك بأمر الله تعالى بعد موت الأنبياء بما أخبر عن الأمم السالفة فقال سبحانه ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ يعني كم ﴿مِنْ نَبِيٍّ﴾ من رسول ﴿قَاتَلَ﴾ حارب.
3. ﴿قُتِلَ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن يقع القتل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيكون تمام الكلام عند قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ﴾ ثم استأنف ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾، والمراد ومعه فحذف الواو.
ب. وثانيها: أن يقع القتل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والرباني، تقديره: كأين من نبي ومعه ربيون قتلوا، أي بعضهم قتلوا فما وهن الباقون.
ج. وثالثها: أن يقع القتل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والرباني، تقديره: كأين من نبي ومعه ربيون قتلوا، قال ابن إسحاق وسعيد بن جبير: لم يقتل نبي في معركة، أي مع النبي .
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾:
أ. قيل: جموع كثيرة، عن قتادة ومجاهد والربيع والسدي وأبي علي.
ب. وقيل: علماء فقهاء صبر، عن الحسن والأصم، وهو اختيار القاضي.
ج. وقيل: هم الأتباع، عن ابن زيد.
د. وقيل: هم المتألهون المنسوبون إلى عبادة الرب، عن أبي مسلم.
5. اختلفوا أن هَؤُلَاءِ الرِّبيين من هم على قولين:
أ. الأكثر على أنهم خواص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نصروه وقاتلوا عدوه، وهو الصحيح؛ لأن ما بعده يدل عليه.
ب. وقيل: هم من قاتل معه جماعةً من أعدائه قاتلوه ولم يكونوا معه.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾:
أ. قيل: ما انكسروا من خوف ولا ضعفوا أمره ففارقوه، ولا خضعوا بإظهار ضعف.
ب. وقيل: فما وهنوا بقتل نبيهم، ولا ضعفوا عن عدوهم، ولا استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن دينهم.
ج. وقيل: ما استكانوا ما ارتدوا عن نصرتهم ودينهم، عن قتادة والربيع، يعني قاتلوا على ما قاتل نبيهم.
د. وقيل: ما جبنوا، عن أبي العالية.
هـ. وقيل: ما ذلوا، عن السدي.
و. وقيل: ما خضعوا، عن مقاتل.
7. هو خطاب لأصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أي (هلا صبرتم على القتال لو قتل نبيكم كما صبر أولئك)؛ لأنه تعالى ﴿يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾:
أ. قيل: في الجهاد.
ب. وقيل: في طاعة ربه.
ج. وقيل: في التمسك بأمره.
8. ثم حكى الله تعالى من أقوال الربانيين ما يدل على قوة دينهم وشدة يقينهم، فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾:
أ. قيل: قول الربانيين، عن الأصم وأبي مسلم.
ب. وقيل: قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه، عن أبي علي.
ج. وقيل: هو قول من بقي بعد قتل من قتل.
9. ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ أي استر عليها واصفح عنا ﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ تجاوزنا الحد، يعني اغفر تفريطنا وتقصيرنا.
10. بَيِّنَ تعالى أنهم عند نزول المحن فزعوا إلى الدعاء والاستغفار، وانقطعوا إليه لعلمهم أنه لا ملجأ إلا إليه سبحانه، وأن النصر إنما تخلف عنهم لذنوب سبقت منهم فتابوا واستغفروا، ثم سألوا النصر فقالوا ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ في جهاد عدوك بتقوية القلوب والألطاف التي معها تثبت الأقدام، فلا تزول منهزمين:
أ. قال أبو علي: وتثبيت الأقدام فِعْلُهم، غير أنهم يثبتون بمعونته وألطافه وأمره، فلذلك صار مضافًا إليه، وإنما ذكر الأقدام؛ لأن بزوالها تحصل الهزيمة وغلبة العدو وبثبوتها يحصل الظفر.
ب. وقيل: معناه تثبتنا على دينك بلطفك حتى لا نزول عنه، عن الأصم.
11. ﴿وَانْصُرْنَا﴾ أعنا بنصرك ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ الَّذِينَ جحدوا دينك ونبيك.
12. ثم بين تعالى ما آتاهم عقيب دعائهم فقال سبحانه: ﴿فَأَتَاهُمُ﴾ أي أعطاهم، وهم القائلون ما تقدم ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾:
أ. قيل: يعني جزاء في الدنيا وهو النصر والظفر ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ الجنة، عن قتادة والربيع، وزاد ابن جريج والغنيمة.
ب. وقيل: ثواب الدنيا المدح والتعظيم وشرح الصدر، وثواب الآخرة الجنة وما فيها، عن أبي علي.
13. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ﴾ يريدْ ثوابهم ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ في أقوالهم، والمحسن:
أ. قيل: فاعل الحسن.
ب. وقيل: يحسن إلى نفسه بطاعة ربه.
ج. وقيل: يحسن إلى غيره.
14. تدل الآيات الكريمة على:
أ. قوة يقين أولئك المؤمنين، وشدة بصيرتهم في الدين.
ب. عظيم موقع الصبر، والحث عليه.
ج. أن الله تعالى يحب الصابرين، ولو كان الجزع منه كما أن الصبر منه لما خص الصابر بالمحبة، فتدل من هذا الوجه على بطلان قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق والإرادة، وجميع ما أضاف إلى الربيين في الآية، وتدل على أن ذلك فِعْلهُم، فيبطل قول الْمُجْبِرَة أيضًا.
د. وجوب الاقتداء بمن تقدم ذكرهم، وتعليم المجاهد كيف يقول ليكون منقطعًا إلى ربه ويأتيه النصر.
هـ. أن التوبة إنما تكون مع الاعتراف بالذنب، وإنما يكون معترفًا بأن يقر على نفسه لا أن يضيف إلى ربه، فمن هذا الوجه تدل على بطلان قول الْمُجْبِرَةِ.
و. أن من ينقطع إلى ربه ينال خير الدارين حثًا لعباده على ذلك.
ز. أن الله تعالى يحب المحسنين؛ لأجل إحسانه، فيدل على أنه يحب الإحسان ولا يكرهه، بخلاف قول الْمُجْبِرَةِ.
15. قراءات ووجوه:
أ. قرأ ابن كثير وشيبة ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ على وزن كَاعٍ ممدودًا مهموزا مخففًا، وقرأ الباقون كأَيِّن) مشدداّ بوزن كعَيِّن، وهي لغة قريش، وقرأ أبو جعفر والحسن ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ مقصورا بغير همز ولا تشديد، وقرأ ابن محيصن: كاي) ممدودا بغير نون، وكلها لغات معروفة، والاختيار لغة قريش؛ لأنها لغة النبي ، والقرآن نزل بلغتهم، وعليه أكثر القراء.
ب. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب ﴿قُتِلَ﴾ بضم القاف وكسر التاء بغير ألف، وهي قراءة ابن عباس، وقرأ الباقون ﴿قَاتَلَ﴾ بالألف، وهي قراءة ابن مسعود، ففي الأول نفي الوهن عمن بقي، وفي الثاني عمن ذكر.
ج. القراءة الظاهرة ﴿رِبِّيُّونَ﴾ بكسر الراء، وهي اللغة العالية، وعن ابن مسعود بضم الراء، وهي لغة تميم،.
د. قراءة العامة ﴿وَهَنُوا﴾ بفتح الهاء، وقرأ أبو السمال العدوي بكسر الهاء، أما الفتح فهو وَهَنَ يَهِنُ وهْنًا، مثل وعد يعد وعدًا عن المبرد، وأما الكسر فهو من وهِنَ يَهَنُ، مثل ورم يرم، عن أبي حاتم، وقال الكسائي: هو من وهِنَ يَوْهَنُ وهَنًا، نحو وَجِلَ يَوْجَلُ وجلاً، والوهن يجوز الكسر.
هـ. قرأ العامة ﴿قَوْلُهُمْ﴾ بالنصب، وقرأ الحسن برفع اللام، والرفع على أنه اسم ﴿كَانَ﴾ وخبره في قوله: ﴿أَنْ قَالُوا﴾ والنصب على أنه خبر كان، والاسم في قوله: ﴿أَنْ قَالُوا﴾ تقديره: وما كان قولهم إلا قولهم، والاختيار النصب؛ لأن ما بعد الإيجاب معرفة فهو أحق أن يكون الاسم، قال الشاعر:
çوقد عَلِمَ الأقوامُ ما كان داءَها... بثَهْلان إلا الخِزْيُ ممن يقودُهاé
ولأن أكثر القراء عليه.
و. قراءة العامة ﴿فَأَتَاهُمُ اللهُ﴾ بالتاء: أعطاهم، وعن الجحدوي: فأثابهم من الثواب.
16. مسائل لغوية ونحوية:
أ. رفع ﴿رِبِّيُّونَ﴾ على قراءة من قرأ ﴿قَاتَلَ﴾ بالألف لوجهين:
• أحدهما: لإضافة القتال إليهم، تقديره: كم من نبي قاتل الربيون معه أعداءه.
• الثاني: على تقدير: كم من نبي قاتل، ومعه ربيون، فهو ابتداء خبره متقدم عليه.
ب. من قرأ بغير ألف ففيه وجهان:
• الأول: على ما لم يسم فاعله، أي قُتِلَ ربيون.
• الثاني: بالابتداء والخبر مقدم عليه تقديره: قُتِلَ، ومعه ربيون كثير.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/407.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الوهن: الضعف، وقال وما ضعفوا، من حيث إن انكسار الجسم بالخوف وغيره.
ب. الضعف: نقصان القوة.
ج. الاستكانة: أصلها من الكينة، وهي الحالة السيئة، يقال: فلان بات بكينة أي: بنية سوء.
د. الإسراف: مجاوزة المقدار، والإفراط بمعناه، وضدهما التقتير، وقيل الإسراف: مجاوزة الحق إلى الباطل بزيادة أو نقصان، والأول أظهر، يقال: أسرفت الشيء أي: نسيته، لأنه جاوزه إلى غيره بالسهو عنه.
2. أكد سبحانه ما تقدم بقوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ﴾ أي: وكم من رسول ﴿قَاتَلَ﴾ أي: حارب، أو قتل ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ ذكرنا تقديره في الحجة، وقيل في ربيون أقوال:
أ. أحدها: إنهم علماء فقهاء صبر، عن ابن عباس والحسن.
ب. ثانيها: إنهم جموع كثيرة، عن مجاهد وقتادة.
ج. ثالثها: إنهم منسوبون إلى الرب، ومعناه المتمسكون بعبادة الله، عن الأخفش، وقال غيره: إنهم منسوبون إلى علم الرب.
د. رابعها: إن الربيون عشرة آلاف، عن الزجاج، وهو المروي عن أبي جعفر.
هـ. وخامسها: إن الربيون الأتباع، والربانيون الولاة، عن ابن زيد.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ﴾:
أ. من أسند الضمير الذي في ﴿قُتِلَ﴾ إلى نبي، فالمعنى: كم من قتل ذلك النبي، وكان معه جماعة كثيرة، فقاتل أصحابه بعد، ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾: ما فتروا.
ب. ومن أسند قتل إلى الربيين دون ضمير نبي، فالمعنى: ما وهن باقيتهم بعد ما قتل كثير منهم في سبيل الله، إلى هذا ذهب الحسن، لأنه كان يقول: لم يقتل نبي قط في معركة.
4. إلى الأول ذهب ابن إسحاق وقتادة والربيع والسدي، فعلى هذا يكون النبي المقتول والذين معه لا يهنون.
5. بين الله سبحانه أنه لو قتل النبي كما أرجف بذلك يوم أحد:
أ. لما أوجب ذلك أن يضعفوا ويهنوا، كما لم يهن من كان مع الأنبياء بقتلهم، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
ب. وقيل: معناه فما وهنوا بقتل نبيهم، ولا ضعفوا عن عدوهم، ولا استكانوا ﴿لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في الجهاد عن دينهم، عن ابن عباس.
ج. وقيل: فما وهنوا أي: فما جبنوا عن قتال عدوهم.
6. ﴿وَمَا ضَعُفُوا﴾ أي: ما فتروا ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ أي: وما خضعوا لعدوهم، عن الزجاج ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ في الجهاد، قال ابن الأنباري: أي: فقد كان واجبا عليكم أن تقاتلوا على أمر نبيكم لو قتل، كما قاتل أمم الأنبياء بعد قتلهم، ولم يرجعوا عن دينهم.
7. ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾ عند لقاء العدو ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ والمعنى ما كان قولهم إلا استغفارهم أي: إلا قولهم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾، أي: استرها علينا بترك عقابنا ومجازاتنا عليها، ﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ أي: تجاوزنا الحد وتفريطنا وتقصيرنا.
8. رغب الله تعالى أصحاب الرسول في أن يقولوا هذا القول، ولا يقولوا قولا يدل على الضعف، فيطمع الأعداء فيهم ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾:
أ. قيل: في جهاد عدوك بتقوية القلوب، وفعل الألطاف التي معها تثبت الاقدام، فلا تزول للانهزام.
ب. وقيل: معناه ثبتنا على الدين، فتثبت به أقدامنا.
9. ﴿وَانْصُرْنَا﴾ على القوم وأعنا ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ بإلقاء الرعب في قلوبهم، وامدادنا بالملائكة.
10. ثم بين تعالى ما آتاهم عقيب دعائهم، فقال: ﴿فَأَتَاهُمُ اللهُ﴾ يعني الذين وصفهم أعطاهم الله ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾:
أ. قيل: هو نصرهم على عدوهم، حتى ظفروا بهم، وقهروهم، وغلبوهم، ونالوا منهم الغنيمة، ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾، وهو الجنة والمغفرة.
ب. ويجوز أن يكون ما آتاهم في الدنيا من الظفر والفتح والنصر وأخذ الغنيمة، ثوابا مستحقا لهم على طاعاتهم، لأن في ذلك التعظيم لهم والإجلال، ولذلك تقول: إن المدح على فعل الطاعة، والتسمية بالأسماء الشريفة، بعض الثواب.
ج. ويجوز أن يكون أعطاهم الله ذلك تفضلا منه تعالى، أو لما لهم فيه من اللطف، فيكون تسميته بأنه ثواب مجازا وتوسعا، والثواب: هو النفع الخالص المستحق المقارن للتعظيم والتبجيل.
11. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ في أقوالهم وأفعالهم، والمحسن:
أ. قيل: فاعل الحسن.
ب. وقيل: المحسن الذي يحسن إلى نفسه بطاعة ربه.
ج. وقيل: الذي يحسن إلى غيره.
12. قراءات ووجوه:
أ. قرأ ابن كثير: (كائن) على وزن كاعن، وأبو جعفر يلين الهمزة، وهو قراءة الحسن، والباقون: (كأين) على وزن كعين.. وأصل كائن أي، دخلت عليه كاف التشبيه، كما دخلت على ﴿ذَا﴾ من كذا، وعلى ﴿أَنْ﴾ من كأن، وكثر استعمال الكلمة، فصارت ككلمة واحدة، فقلبت قلب الكلمة الواحدة فصار (كيأن)، فحذفت الياء الثانية، كما حذفت في كينونة، فصار كيإن مثل كيعن، ثم أبدلت من الياء الألف، كما أبدلت من طائي، فصار (كائن)، ثم لينت الهمزة على قراءة أبي جعفر، قال الشاعر:
çوكائن رددنا عنكم من مدجج... يجئ أمام القوم يردي مقنعاé
وقال آخر:
çوكائن إليكم عاد من رأس فنية... جنودا، وأمثال الجبال كتائبهé
وقد حذفت الياء من أي في قول الفرزدق:
çتنورت نسرا، والسماكين، أيهما... علي من الغيث استهلت مواطرهé
ب. قرأ أهل البصرة وابن كثير ونافع ﴿قُتِلَ﴾ بضم القاف بغير ألف، وهي قراءة ابن عباس، والباقون ﴿قَاتَلَ﴾ بالألف، وهي قراءة ابن مسعود.. و﴿قُتِلَ﴾ يجوز أن يكون مسندا إلى ضمير نبي، وإذا أسند هذا إلى الضمير احتمل هذا ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ أمرين: أحدهما: أن يكون صفة لنبي، فإذا قدرته هذا التقدير كان قوله ﴿رِبِّيُّونَ﴾ مرتفعا بالظرف بلا خلاف، لأن الظرف إذا اعتمد على ما قبله، جاز أن يرفع على مذهب سيبويه أيضا، والآخر: ألا تجعله صفة، ولكن حالا من الضمير في قتل، والأحسن أن يكون الاسم الذي أسند إليه ﴿قُتِلَ﴾ قوله ﴿رِبِّيُّونَ﴾، فيكون على هذا التقدير قوله ﴿مَعَهُ﴾ متعلقا بقتل، وعلى القبيلين الآخرين اللذين هما الصفة والحال، متعلقا في الأصل بمحذوف، وكذلك من قرأ ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾: فهو يجوز فيه ما جاز في قراءة من قرأ ﴿قُتِلَ﴾، وحجة من قرأ ﴿قُتِلَ﴾ قوله ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ وحجة من قرأ ﴿قَاتَلَ﴾ أن القاتل قد مدح كما يمدح المقتول، قال تعالى ﴿وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾
13. مسائل لغوية ونحوية:
أ. من جعل قوله ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ صفة، أضمر للمبتدأ الذي هو (كأين) خبرا.
ب. موضع الكاف الجارة هي في (كأين) مع المجرور رفع، كما أن موضع الكاف في قوله كذا، وكذا رفع، ولا معنى للتشبيه فيها، كما أنه لا معنى للتشبيه في كذا وكذا.
ج. ﴿أَنْ قَالُوا﴾ اسم كان، وقولهم: خبره، والضمير يعود إلى النبي ومن معه، على أحد القولين، وإلى الربيين في قول الآخر.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/854.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ﴾ قرأ الجمهور ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ في وزن (كعيّن)، وقرأ ابن كثير (وكائن) في وزن (كاعن)، قال الفرّاء: أهل الحجاز يقولون: (كأيّن) مثل: (كعيّن) ينصبون الهمزة، ويشددون الياء، وتميم يقولون: (وكائن) كأنه فاعل من كئت، وأنشدني الكسائيّ:
çوكائن ترى يسعى من النّاس جاهدا...على ابن غدا منه شجاع وعقربé
وقال آخر:
çوكائن أصابت مؤمنا من مصيبة...على الله عقباها ومنه ثوابهاé
وقال ابن قتيبة: كائن بمعنى (كم) مثل قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾ وفيها لغتان، (كأيّن) بالهمزة وتشديد الياء، و(كائن) على وزن (قائل)، وقد قرئ بهما جميعا في القرآن، والأكثر والأفصح تخفيفها، قال الشاعر:
çوكائن أرينا الموت من ذي تحيّة...إذا ما ازدرانا أو أصرّ لمأثمé
وقال الآخر:
çوكائن ترى من صامت لك معجب...زيادته أو نقصه في التّكلّمé
2. ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبان، والمفضّل كلاهما عن عاصم: (قتل) بضم القاف، وكسر التاء من غير ألف، وقرأ الباقون: ﴿قَاتَلَ﴾ بألف، وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأبو رجاء، والحسن، وابن يعمر، وابن جبير، وقتادة، وعكرمة، وأيوب: (ربيون) بضم الراء، وقرأ ابن عباس، وأنس وأبو مجلز، وأبو العالية، والجحدريّ بفتحها، فعلى حذف الألف يحتمل وجهين ذكرهما الزجّاج:
أ. أحدهما: أن يكون قتل للنبيّ وحده، ويكون المعنى: وكأيّن من نبيّ قتل، ومعه ربّيّون، فما وهنوا بعد قتله.
ب. الثاني: أن يكون قتل للرّبّيين، ويكون (فما وهنوا) لمن بقي منهم.
3. ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ على إثبات الألف يكون المعنى: أنّ القوم قاتلوا، فما وهنوا.
4. في معنى الرّبّيين خمسة أقوال:
أ. أحدها: أنهم الألوف، قاله ابن مسعود، وابن عباس في رواية، واختاره الفرّاء.
ب. الثاني: الجماعات الكثيرة رواه العوفيّ عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، والضّحّاك، وقتادة، والسّدّيّ، والرّبيع، واختاره ابن قتيبة.
ج. الثالث: أنهم الفقهاء والعلماء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الحسن، واختاره اليزيديّ، والزجّاج.
د. الرابع: أنهم الأتباع، قاله ابن زيد.
هـ. الخامس: أنهم المتألّهون العارفون بالله تعالى، قاله ابن فارس.
5. في قوله تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه الضّعف، قاله ابن عباس، وابن قتيبة.
ب. الثاني: أنه العجز، قاله قتادة.
6. ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ قال ابن قتيبة: والاستكانة: الخشوع والذّلّ، ومنه أخذ المساكين، وفي معنى الكلام قولان:
أ. أحدهما: فما وهنوا بالخوف، وما ضعفوا بنقصان القوة، ولا استكانوا بالخضوع.
ب. الثاني: فما وهنوا لقتل نبيّهم، ولا ضعفوا عن عدوهم، ولا استكانوا لما أصابهم.
7. ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾ يعني الرّبّيين، ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا﴾ أي: لم يكن قولهم غير الاستغفار، والإسراف: مجاوزة الحدّ، وقيل: أريد بالذنوب الصّغائر، وبالإسراف: الكبائر.
8. ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ قال ابن عباس: على القتال، وقال الزجّاج: معناه: ثبّتنا على دينك، فإنّ الثّابت على دينه ثابت في حربه.
9. في قوله تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه النّصر، قاله قتادة.
ب. الثاني: الغنيمة، قاله ابن جريج.
ج. وروي عن ابن عباس، أنه النّصر والغنيمة.
10. في حسن ثواب الآخرة قولان:
أ. أحدهما: أنه الجنّة.
ب. الثاني: الأجر والمغفرة.
11. ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ هذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين ما يفعلون ويقولون عند لقاء العدوّ.
__________
(1) زاد المسير: 1/332.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. من تمام تأديب الله تعالى قال للمنهزمين يوم أحد: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ أي إن لكم بالأنبياء المتقدمين وأتباعهم أسوة حسنة، فلما كانت طريقة أتباع الأنبياء المتقدمين الصبر على الجهاد وترك الفرار، فكيف يليق بكم هذا الفرار والانهزام.
2. قرأ ابن كثير (وكائن) على وزن كاعن ممدوداً مهموزاً مخففا، وقرأ الباقون (كأين) مشدوداً بوزن كعين وهي لغة قريش، ومن اللغة الأولى قول جرير:
çوكائن بالأباطح من صديق...يراني لو أصيب هو المصابé
وأنشد المفضل: (وكائن ترى في الحي من ذي قرابة)،
3. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (قتل معه) والباقون (قاتل معه)، فعلى القراءة الأولى يكون المعنى (أن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعدهم ما وهنوا في دينهم، بل استمروا على جهاد عدوهم ونصرة دينهم، فكان ينبغي أن يكون حالكم يا أمة محمد هكذا)، قال القفال: والوقف على هذا التأويل على قوله: (قتل) وقوله: ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ حال بمعنى قتل حال ما كان معه ربيون، أو يكون على معنى التقديم والتأخير، أي وكأين من نبي معه ربيون كثير قتل فما وهن الربيون على كثرتهم، وفيه وجه آخر، وهو أن يكون المعنى وكأين من نبي قتل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثير فما ضعف الباقون ولا استكانوا لقتل من قتل من إخوانهم، بل مضوا على جهاد عدوهم، فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك، وحجة هذه القراءة أن المقصود من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء لتقتدي هذه الأمة بهم، وقد قال تعالى: ﴿أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ﴾ [آل عمران: 144] فيجب أن يكون المذكور قتل سائر الأنبياء لا قتالهم، ومن قرأ ﴿قاتَلَ مَعَهُ﴾ فالمعنى: وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا، لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة رسوله، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد، وحجة هذه القراءة أن المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في القتال، فوجب أن يكون المذكور هو القتال، وأيضاً روي عن سعيد بن جبير أنه قال ما سمعنا بنبي قتل في القتال.
4. ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ قال الواحدي: أجمعوا على أن معنى (كأين) كم، وتأويلها التكثير لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم، ونظيره قوله: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ [الحج: 45] ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا﴾ [الحج: 48] والكافي في (كأين) كاف التشبيه دخلت على (أي) التي هي للاستفهام كما دخلت على (ذا) من (كذا) و(أن) من كأن، ولا معنى للتشبيه فيه كما لا معنى للتشبيه في كذا، تقول: لي عليه كذا وكذا: معناه لي عليه عدد ما، فلا معنى للتشبيه، إلا أنها زيادة لازمة لا يجوز حذفها، واعلم أنه لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة، وكذا استعمال هذه الكلمة فصارت كلمة واحدة موضوعة للتكثير.
5. ﴿رِبِّيُّونَ﴾ قال الزمخشري: الربيون الربانيون، وقرئ بالحركات الثلاث والفتح على القياس، والضم والكسر من تغييرات النسب، وحكى الواحدي عن الفراء أنه قال الربيون: الأولون، وقال الزجاج: هم الجماعات الكثيرة، الواحد ربي، قال ابن قتيبة: أصله من الربة وهي الجماعة، يقال: ربي كأنه نسب إلى الربة، وقال الأخفش: الربيون الذين يعبدون الرب، وطعن فيه ثعلب، وقال: كان يجب أن يقال: ربي ليكون منسوبا إلى الرب، وأجاب من نصر الأخفش وقال: العرب إذا نسبت شيئاً إلى شيء غيرت حركته، كما يقال: بصري في النسب إلى البصرة، ودهري في النسبة إلى الدهر، وقال ابن زيد: الربانيون الأئمة والولاة، والربيون الرعية، وهم المنتسبون إلى الرب.
6. مدح الله تعالى هؤلاء الربيون بنوعين: أولا بصفات النفي، وثانيا بصفات الإثبات:
أ. أما المدح بصفات النفي فهو قوله تعالى: ﴿فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا﴾
ب. أما المدح بصفات الإثبات، فهو قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
7. ﴿فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا﴾ في الفرق بين هذه الأمور الثلاثة وجوه:
أ. قال الزمخشري: ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ عند قتل النبي وما ضعفوا عن الجهاد بعده وما استكانوا للعدو، وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار، عند الإرجاف بقتل رسولهم، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين، واستكانتهم للكفار حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي، وطلب الأمان من أبي سفيان.
ب. ويحتمل أيضا أن يفسر الوهن باستيلاء الخوف عليهم، ويفسر الضعف بأن يضعف إيمانهم، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم، والاستكانة هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم.
ج. وفيه وجه ثالث وهو أن الوهن ضعف يلحق القلب، والضعف المطلق هو اختلال القوة والقدرة بالجسم، والاستكانة هي إظهار ذلك العجز وذلك الضعف.
د. وكل هذه الوجوه حسنة محتملة، قال الواحدي: الاستكانة الخضوع، وهو أن يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريد.
8. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ والمعنى أن من صبر على تحمل الشدائد في طريق الله ولم يظهر الجزع والعجز والهلع فإن الله يحبه، ومحبة الله تعالى للعبد عبارة عن إرادة إكرامه وإعزازه وتعظيمه، والحكم له بالثواب والجنة، وذلك نهاية المطلوب.
9. ثم إنه تعالى أتبع ذلك بأن مدحهم بصفات الثبوت فقال: ﴿وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ﴾، وقوله: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدامَنا﴾ يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى، والمعتزلة ـ ومن وافقهم ـ يحملونه على فعل الألطاف.
10. بين الله تعالى أنهم كانوا مستعدين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع بطلب الأمداد والإعانة من الله، والغرض منه أن يقتدي بهم في هذه الطريقة أمة محمد ، فإن من عول في تحصيل مهماته على نفسه ذل، ومن اعتصم بالله فاز بالمطلوب(2):
أ. إنما قدموا قولهم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا﴾ لأنه تعالى لما ضمن النصرة للمؤمنينفإذا لم تحصل النصرة وظهر أمارات استيلاء العدو، دل ذلك ظاهراً على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين؛ فلهذا المعنى يجب عليهم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة، فبين تعالى أنهم بدؤوا بالتوبة عن كل المعاصي وهو المراد بقوله: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا﴾ فدخل فيه كل الذنوب، سواء كانت من الصغائر أو من الكبائر.
ب. ثم إنهم خصوا الذنوب العظيمة الكبيرة منها بالذكر بعد ذلك لعظمها وعظم عقابها وهو المراد من قوله: ﴿وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا﴾ لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه، قال تعالى: ﴿يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الزمر: 53] وقال: ﴿فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ [الإسراء: 33] وقال: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: 31] ويقال: فلان مسرف إذا كان مكثرا في النفقة وغيرها.
ج. ثم إنهم لما فرغوا من ذلك سألوا ربهم أن يثبت أقدامهم، وذلك بإزالة الخوف عن قلوبهم، وإزالة الخواطر الفاسدة عن صدورهم، ثم سألوا بعد ذلك أن ينصرهم على القوم الكافرين، لأن هذه النصرة لا بد فيها من أمور زائدة على ثبات أقدامهم، وهو كالرعب الذي يلقيه في قلوبهم، واحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم، مثل هبوب رياح تثير الغبار في وجوههم، ومثل جريان سيل في موضع وقوفهم، وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن سواء كان في الجهاد أو غيره.
11. ثم لما شرح الله تعالى طريقة الربيين في الصبر، وطريقتهم في الدعاء ذكر أيضا ما ضمن لهم في مقابلة ذلك في الدنيا والآخرة فقال: ﴿فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ﴾
12. ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ﴾ يقتضي أنه تعالى أعطاهم الأمرين:
أ. أما ثواب الدنيا فهو النصرة والغنيمة وقهر العدو والثناء الجميل، وانشراح الصدر بنور الإيمان وزوال ظلمات الشبهات وكفارة المعاصي والسيئات.
ب. وأما ثواب الآخرة فلا شك أنه هو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم، وذلك غير حاصل في الحال، فيكون المراد أنه تعالى حكم لهم بحصولها في الآخرة، فأقام حكم الله بذلك مقام نفس الحصول، كما أن الكذب في وعد الله والظلم في عدله محال، أو يحمل قوله: ﴿فَآتاهُمُ﴾ على أنه سيؤتيهم على قياس قوله: ﴿أَتى أَمْرُ اللهِ﴾ [النحل: 1] أي سيأتي أمر الله، قال القاضي: ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداء، وقد أخبر الله تعالى عن بعضهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فيكون حال هؤلاء الربيين أيضاً كذلك، فإنه تعالى في حال إنزال هذه الآية كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة في جنان السماء.
13. خص الله تعالى ثواب الآخرة بالحسن تنبيها على جلالة ثوابهم، وذلك لأن ثواب الآخرة كله في غاية الحسن، فما خصه الله بأنه حسن من هذا الجنس فانظر كيف يكون حسنه، ولم يصف ثواب الدنيا بذلك لقلتها وامتزاجها بالمضار وكونها، منقطعة زائلة، قال القفال: يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83] أي حسنا، والغرض منه المبالغة كأن تلك الأشياء الحسنة لكونها عظيمة في الحسن صارت نفس الحسن، كما يقال: فلان جود وكرم، إذا كان في غاية الجود والكرم.
14. قال الله تعالى فيما تقدم: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها﴾ [آل عمران: 145] فذكر لفظة (من) الدالة على التبعيض فقال في الآية: ﴿فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ﴾ ولم يذكر كلمة (من) والفرق: أن الذين يريدون ثواب الآخرة إنما اشتغلوا بالعبودية لطلب الثواب، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلة، وأما المذكورون في هذه الآية فإنهم لم يذكروا في أنفسهم إلا الذنب والقصور، وهو المراد من قوله: ﴿اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا﴾ [آل عمران: 147] ولم يروا التدبير والنصرة والإعانة إلا من ربهم، وهو المراد بقوله: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ﴾ [آل عمران: 147] فكان مقام هؤلاء في العبودية في غاية الكمال، فلا جرم أولئك فازوا ببعض الثواب، وهؤلاء فازوا بالكل، وأيضاً أولئك أرادوا الثواب، وهؤلاء ما أرادوا الثواب، وإنما أرادوا خدمة مولاهم فلا جرم أولئك حرموا وهؤلاء أعطوا، ليعلم أن كل من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله.
15. ثم قال الله تعالى ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وفيه دقيقة لطيفة وهي أن هؤلاء اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا﴾ فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين، كأن الله تعالى يقول لهم: إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان وأجعلك حبيبا لنفسي، حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز وأيضاً إنهم لما أرادوا الإقدام على الجهاد طلبوا تثبيت أقدامهم في دينه ونصرتهم على العدو من الله تعالى، فعند ذلك سماهم بالمحسنين، وهذا يدل على أن العبد لا يمكنه الإتيان بالفعل الحسن، إلا إذا أعطاه الله ذلك الفعل الحسن وأعانه عليه، ثم إنه تعالى قال: ﴿هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ﴾ [الرحمن: 60] وقال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ﴾ [يونس: 26] وكل ذلك يدل على أنه سبحانه هو الذي يعطي الفعل الحسن للعبد، ثم إنه يثيبه عليه ليعلم العبد أن الكل من الله وبإعانة الله.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/380.
(2) الكلام هنا للقاضي
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ قال الزهري: صاح الشيطان يوم أحد: قتل محمد، فانهزم جماعة من المسلمين، قال، كعب بن مالك: فكنت أول من عرف رسول الله ، رأيت عينيه من تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: هذا رسول الله ، فأومأ إلي أن اسكت، فأنزل الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا﴾ الآية.
﴿وَكَأَيِّنْ﴾ بمعنى كم، قال الخليل وسيبويه: هي أي دخلت، عليها كاف التشبيه وبنيت معها فصار في الكلام معنى وكم وصورت في المصحف نونا، لأنها كلمة، نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغير معناها، ثم كثر استعمالها فتلعبت بها العرب وتصرفت فيها بالقلب والحذف، فحصل فيها لغات أربع قرئ بها، وقرأ ابن كثير ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ مثل وكاعن، على وزن فاعل، وأصله كي فقلبت الياء ألفا، كما قلبت في ييأس فقيل يائس، قال الشاعر:
çوكائن بالأباطح من صديق...يراني لو أصبت هو المصاباé
وقال آخر:
çوكائن رددنا عنكم من مدجج...يجيء أمام الركب يردي مقنعاé
وقال آخر:
çوكائن في المعاشر من أناس...أخوهم فوقهم وهم كرامé
وقرأ ابن محيصن (وكين) مهموزا مقصورا مثل وكعن، وهو من كائن حذفت ألفه، وعنه أيضا ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ مثل وكعين وهو مقلوب كي المخفف، وقرأ الباقون (كأين) بالتشديد مثل كعين وهو الأصل، قال الشاعر:
çكأين من أناس لم يزالوا...أخوهم فوقهم وهم كرامé
وقال آخر:
çكأين أبدنا من عدو بعزنا...وكائن أجرنا من ضعيف وخائفé
فجمع بين لغتين: كأين وكائن، ولغة خامسة كيئن مثل كيعن، وكأنه مخفف من كيئ مقلوب كأين، ولم يذكر الجوهري غير لغتين: كائن مثل كاعن، وكأين مثل كعين، تقول كأين رجلا لقيت، بنصب ما بعد كأين على التمييز، وتقول أيضا: كأين من رجل لقيت، وإدخال من بعد كأين أكثر من النصب بها وأجود، وبكائن تبيع هذا الثوب؟ أي بكم تبيع، قال ذو الرمة:
çوكائن ذعرنا من مهاة ورامح...بلاد العدا ليست له ببلادé
قال النحاس: ووقف أبو عمرو (وكأي) بغير نون، لأنه تنوين، وروى ذلك سورة ابن المبارك عن الكسائي، ووقف الباقون بالنون اتباعا لخط المصحف.
2. معنى الآية تشجيع المؤمنين، والأمر بالاقتداء بمن تقدم من خيار أتباع الأنبياء، أي كثير من الأنبياء قتل معه ربيون كثير، أو كثير من الأنبياء قالوا فما ارتد أممهم، قولان: الأول للحسن وسعيد بن جبير، قال الحسن: ما قتل نبي في حرب قط، وقال ابن جبير: ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال، والثاني عن قتادة وعكرمة، والوقف ـ على هذا القول ـ على ﴿قُتِلَ﴾ جائز، وهي قراءة نافع وابن جبير وأبي عمرو ويعقوب، وهي قراءة ابن عباس واختارها أبو حاتم، وفيه وجهان: أحدهما أن يكون ﴿قُتِلَ﴾ واقعا على النبي وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله ﴿قُتِلَ﴾ ويكون في الكلام إضمار، أي ومعه ربيون كثير، كما يقال: قتل الأمير معه جيش عظيم، أي ومعه جيش، وخرجت معي تجارة، أي ومعي، الوجه الثاني أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين، ويكون وجه الكلام قتل بعض من كان معه، تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني سليم، وإنما قتلوا بعضهم، ويكون قوله ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ راجعا إلى من بقي منهم، وهذا القول أشبه بنزول الآية وأنسب، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يقتل، وقتل معه جماعة من أصحابه، وقرأ الكوفيون وابن عامر ﴿قَاتَلَ﴾ وهي قراءة ابن مسعود، واختارها أبو عبيد وقال، إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه غيرهم، فقاتل أعم وأمدح.
3. الربيون: بكسر الراء قراءة الجمهور، وقراءة علي بضمها، وابن عباس بفتحها، ثلاث لغات، والربيون الجماعات الكثيرة، عن مجاهد، وقتادة والضحاك وعكرمة، واحدهم ربي بضم الراء وكسرها، منسوب إلى الربة بكسر الراء أيضا وضمها، وهي الجماعة، وقال عبد الله بن مسعود: الربيون الألوف الكثيرة، وقال ابن زيد: الربيون الأتباع، والأول أعرف في اللغة، ومنه يقال للخرقة التي تجمع فيها القداح: ربة وربة، والرباب قبائل تجمعت، وقال أبان بن ثعلب: الربي عشرة آلاف، وقال الحسن: هم العلماء الصبر، ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي: الجمع الكثير، قال حسان:
çوإذا معشر تجافوا عن الحـ...ق حملنا عليهم ربياé
وقال الزجاج: ها هنا قراءتان ﴿رِبِّيُّونَ﴾ بضم الراء و﴿رِبِّيُّونَ﴾ بكسر الراء، أما الربيون بالضم: الجماعات الكثيرة، ويقال: عشرة آلاف، وقد روي عن ابن عباس ﴿رِبِّيُّونَ﴾ بفتح الراء منسوب إلى الرب، قال الخليل: الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء، وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله تعالى.
4. ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ﴿وَهَنُوا﴾ أي ضعفوا، وقد تقدم والوهن: انكسار الجد بالخوف، وقرأ الحسن وأبو الحسن وأبو السمال ﴿وَهَنُوا﴾ بكسر الهاء وضمها، لغتان عن أبي زيد، وهن الشيء يهن وهنا، وأوهنته أنا ووهنته ضعفته، والواهنة: أسفل الأضلاع وقصارها، والوهن من الإبل: الكثيف، والوهن: ساعة تمضي من الليل، وكذلك الموهن، وأوهنا صرنا في تلك الساعة، أي ما وهنوا لقتل نبيهم، أو لقتل من قتل منهم، أي ما وهن باقيهم، فحذف المضاف.
5. ﴿وَمَا ضَعُفُوا﴾ أي عن عدوهم، ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ أي لما أصابهم في الجهاد، والاستكانة: الذلة والخضوع، وأصلها استكنوا) على افتعلوا، فأشبعت فتحة الكاف فتولدت منها ألف، ومن جعلها من الكون فهي استفعلوا، والأول أشبه بمعنى الآية، وقرى فما وهنوا وما ضعفوا) بإسكان الهاء والعين، وحكى الكسائي ﴿ضَعُفُوا﴾ بفتح العين.
6. ثم أخبر تعالى عنهم بعد أن قتل منهم أو قتل نبيهم بأنهم صبروا ولم يفروا ووطنوا أنفسهم على الموت، واستغفروا ليكون موتهم على التوبة من الذنوب إن رزقوا الشهادة، ودعوا في الثبات حتى لا ينهزموا، وبالنصر على أعدائهم، وخصوا الأقدام بالثبات دون غيرها من الجوارح لأن الاعتماد عليها، يقول: فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد؟ فأجاب دعاءهم وأعطاهم النصر والظفر والغنيمة في الدنيا والمغفرة في الآخرة إذا صاروا إليها، وهكذا يفعل الله مع عباده المخلصين التائبين الصادقين الناصرين لدينه، الثابتين عند لقاء عدوه بوعده الحق، وقوله الصدق.
7. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ يعني الصابرين على الجهاد، وقرأ بعضهم ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾ بالرفع، جعل القول اسما لكان، فيكون معناه وما كان قولهم إلا قولهم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان، واسمها ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾، ربنا اغفر لنا ذنوبنا يعني الصغائر ﴿وَإِسْرَافَنَا﴾ يعني الكبائر، والإسراف: الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد، وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يدعو بهذا الدعاء اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني) وذكر الحديث، فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه، ولا يقول أختار كذا، فإن الله تعالى قد اختار لنبيه وأوليائه وعلمهم كيف يدعون.
8. ﴿فَأَتَاهُمُ اللهُ﴾ أي أعطاهم ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾، يعني النصر والظفر على عدوهم، ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ يعني الجنة، وقرأ الجحدري ﴿فَأَثَابَهُمُ اللهُ﴾ من الثواب، ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ تقدم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/228.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ قال الخليل وسيبويه: هي: أي، دخلت عليها كاف التشبيه، وثبتت معها، فصارت بعد التركيب بمعنى: كم، وصوّرت في المصحف نونا، لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغيير معناها، ثم كثر استعمالها فتصرّفت فيها العرب بالقلب والحذف، فصار فيها أربع لغات قرئ بها:
أحدها: كائن، مثل: كاعن، وبها قرأ ابن كثير، ومثله قول الشاعر:
çوكائن بالأباطح من صديق...يراني لو أصبت هو المصاباé
وقال آخر:
çوكائن رددنا عنكم من مدجّج...يجيء أمام الرّكب يردى مقنّعاé
وقال زهير:
çوكائن ترى من معجب لك شخصه...زيادته أو نقصه في التّكلّمé
وكأين: بالتشديد، مثل: كعين، وبه قرأ الباقون، وهو الأصل، والثالثة: كأين، مثل: كعين مخففا، والرابعة: كيئن، بياء بعدها همزة مكسورة، ووقف أبو عمرو بغير نون، فقال: كأي، لأنه تنوين، ووقف الباقون بالنون، والمعنى: كثير من الأنبياء.
2. ﴿قتل معه ربيون﴾، قرأ نافع، وابن كثير وأبو عمرو، ويعقوب، قتل على البناء للمجهول وهي قراءة ابن عباس، واختارها أبو حاتم، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون في قتل ضمير يعود إلى النبيّ، وحينئذ يكون قوله: ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾: جملة حالية، كما يقال: قتل الأمير معه جيش، أي: ومعه جيش، والوجه الثاني: أن يكون القتل واقعا على ربيون، فلا يكون في قتل ضمير، والمعنى: قتل بعض أصحابه، وهم الربيون، وقرأ الكوفيون وابن عامر: (قاتل)، وهي قراءة ابن مسعود، واختارها أبو عبيد، وقال: إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه من قاتل ولم يقتل، فقاتل أعمّ وأمدح، ويرجح هذه القراءة الأخرى، والوجه الثاني من القراءة الأولى: ما قتل نبيّ في حرب قط، وكذا قال سعيد بن جبير.
3. الربيون: بكسر الراء، قراءة الجمهور، وقرأ عليّ: بضمها، وابن عباس: بفتحها، وواحده: ربي بالفتح منسوب إلى الرب، والربي: بضم الراء وكسرها، منسوب إلى الربة، بكسر الراء وضمها وهي الجماعة، ولهذا فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة؛ وقيل هم الأتباع؛ وقيل: هم العلماء، قال الخليل: الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية، وقال الزجاج: الربيون بالضم الجماعات.
4. ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ عطف على قاتل، أو قتل، والوهن انكسار الجدّ بالخوف، وقرأ الحسن: (وهنوا) بكسر الهاء وضمها، قال أبو زيد: لغتان، وهن الشيء يهن وهنا: ضعف، أي: ما وهنوا لقتل نبيهم أو لقتل من قتل منهم ﴿وَمَا ضَعُفُوا﴾ أي: عن عدوّهم ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ لما أصابهم في الجهاد، والاستكانة: الذلة والخضوع وقرئ: (وما وهنوا وما ضعفوا) بإسكان الهاء والعين، وحكى الكسائي: ضعفوا، بفتح العين، وفي هذا توبيخ لمن انهزم يوم أحد، وذلّ واستكان وضعف بسبب ذلك الإرجاف الواقع من الشيطان، ولم يصنع كما صنع أصحاب من خلا من قبلهم من الرسل.
5. ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾ أي: قول أولئك الذين كانوا مع الأنبياء إلا هذا القول، وقولهم: منصوب على أنه خبر كان، وقرأ ابن كثير، وعاصم في رواية عنهما: برفع قولهم، وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ استثناء مفرغ، أي: ما كان قولهم عند أن قتل منهم ربانيون، أو قتل نبيهم ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ قيل: هي الصغائر.
6. ﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ قيل: هي الكبائر، والظاهر: أن الذنوب تعم كل ما يسمى ذنبا من صغيرة أو كبيرة، والإسراف: ما فيه مجاوزة للحدّ، فهو من عطف الخاص على العام، قالوا ذلك مع كونهم ربانيين: هضما لأنفسهم ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ في مواطن القتال.
7. ﴿فَأَتَاهُمُ اللهُ﴾ بسبب ذلك ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ من النصر والغنيمة والعزة ونحوها ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: ثواب الآخرة الحسن، وهو نعيم الجنة، جعلنا الله من أهلها.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/443.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. نعى الله تعالى عليهم تقصيرهم وسوء صنيعهم في صدودهم عن سنن الربانيين المجاهدين في سبيل الله مع الرسل الخالية، عليهم السلام، بقوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ أي كم من الأنبياء قاتل معهم، لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، جماعتهم الأتقياء العباد.
2. ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ أي ضعفوا ﴿لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ من الجراح وشهادة بعضهم لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه، ونصرة رسوله ﴿وَمَا ضَعُفُوا﴾ أي عن الجهاد أو العدوّ أو الدين ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ للأعداء بل صبروا على قتالهم ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ على قتال أعدائه.
3. (كأين) بمعنى (كم) الخبرية، وفيها لغات، قرئ منها في السبع:
أ. كائن ممدودا مهموزا لابن كثير، والباقون بالتشديد، وفيها كلام كثير في معناها ولغاتها وقراءاتها المتواترة والشاذة وصلا ووقفا، وفي رسمها، فانظر موادّ ذلك.
ب. الثاني: قرئ في السبع قتل بالبناء للمجهول ونائب الفاعل ﴿رِبِّيُّونَ﴾ قطعا، وأما احتمال أن يكون ضميرا لنبيّ ومعه ربيون حال، أو يكون على معنى التقديم والتأخير، أي وكائن من نبيّ معه ربيون قتل ـ فتكلف ينبو عن سليم الأفهام، وتعسف يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله، وإن نقله القفال، ونصره السهيلي وبالغ فيه، فما كل سوداء تمرة.
ج. الثالث: (الربيون) بكسر الراء قراءة الجمهور، وقرئ بضمها وفتحها، فالفتح على القياس، والكسر والضم من تغييرات النسب، وهم الربانيون، أي الذين يعبدون الرب تعالى.
4. ثم أخبر سبحانه، بعد بيان محاسنهم الفعلية، بمحاسنهم القولية، وهو ما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم ن يثبت أقدامهم، وأن ينصرهم على عدوهم، فقال: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾ أي هؤلاء الربانيين، مثل قول المنافقين ولا المعجبين، و﴿قَوْلُهُمْ﴾ بالنصب خبر ل (كان)، واسمها (أن) وما بعدها في قوله تعالى ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، قال ابن القيّم: لما علم القوم أن العدوّ إنما يدال عليهم بذنوبهم وأن الشيطان إنما يستزلّهم ويهزموهم بها، وأنها نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد، وأن النصر منوط بالطاعة، قالوا: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾، ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى، وإن لم يثبت أقدامهم وينصرهم، لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم، فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم، وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم، لم يثبتوا ولم ينتصروا، فوفّوا المقامين حقهما: مقام المقتضى، وهو التوحيد، والالتجاء إليه سبحانه، ومقام إزالة المانع من النصرة، وهو الذنوب والإسراف ـ انتهى ـ قال القاضي: وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن، سواء كان في الجهاد أو غيره.
5. ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ من النصر والغنيمة، وقهر العدوّ، والثناء الجميل وانشراح الصدر بنور الإيمان، وكفارة السيئات ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ وهو الجنة وما فيها من النعيم المقيم، وتخصيص وصف الحسن بثواب الآخرة للإيذان بفضله ومزيته، وأنه المعتدّ به عنده تعالى، بخلاف الدنيا لقلتها وامتزاجها بالمضار، وكونها منقطعة زائلة.
6. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ إشارة إلى أن ما حكى عنهم من الأفعال والأقوال من باب الإحسان، قال الرازيّ: فيه دقيقة لطيفة، وهي أن هؤلاء لما اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا﴾ الآية ـ سماهم الله محسنين كأن الله تعالى يقول لهم: إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان وأجعلك حبيبا لنفسي حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/425.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَأَيِّن﴾ تكثير، كـ (كَمْ) الخبريَّة، وأصلها كاف التشبيه و(أَيُّ) الاستفهاميَّة، كتب تنوينها في الخط، وقيل: كاف التشبيه، و(أوي) بوزن ضرب، مصدر (أوى) بمعنى انضمَّ قلبت الواو ياء وأدغمت، والنون في الخطِّ تنوين حدث لها معنَى التكثيرِ بالتركيب، كـ (كذا) حدث لها لَمَّا رُكِّبت من كاف التشبيه و(ذا) الإشاريَّة.
2. ﴿مِّن نَّبِيءٍ﴾ مرسل، (مِن) للبيان، أي: كلُّ فرد من ذلك الكثير نبيء، ﴿قُتِلَ﴾ في الجهاد في سبيل الله، أو قتل في الله بلا قتال، وعن الحسن البصري وسعيد بن جبير كما أخرجه ابن المنذر: (ما سمعنا بنبيء قتل في الحرب)، وهو نفي لقتله فيها أو للعلم به مع إمكانه، ﴿مَعَهُ﴾ في الجهاد، أو في دين الله، ﴿رِبِّيُّونَ﴾ أحياء بعده لم يقتلوا معه، أي: علماء أتقياء، أو معه عباد منسوبون إلى الربِّ سبحانه، لعلمهم وتقواهم، بكسر الراء من شذوذ النَّسب، وكذا قراءة الضمِّ، وقرئ بالفتح على القياس، وقيل: الكسر نسب إلى الرِّبَّة ـ بالكسر ـ وهي الجماعة، وقيل: ذلك كلُّه العلماء، وقيل: الأتباع، والربَّانيُّون: الولَاة.
3. ﴿كَثِيرٌ﴾ أفرده مع أنَّه نعت حقيقيٌّ للجمع، وهو (رِبِّـيُّونَ) لأنَّه على زنة المصدر الدالِّ على الصوت، أو السير على حدِّ قوله تعالى: ﴿وَالْمَلَآئِكَةُ بَعْدَ ذَالِكَ ظَهِيرٌ﴾ [سورة التحريم: 4]، و(مَعَهُ رِبِّـيُّونَ) جملة نعت لـ (نَبِيءٍ)، وفي (قُتِلَ) ضمير (نَبِيءٍ)، أو حال من ضمير (قُتِلَ)، ومن قال: لا تُقتَل الأنبياء في الحرب خصَّ الآية بغير موتهم في الحرب بأن قاتل قومُهم دونهم، أو جعل (رِبِّـيُّونَ) نائب فاعل (قُتِلَ)
4. عاب على المنهزمين بأُحُد وهنَهُم وضعفَهم وخضوعهم بكثرة من لم يضعف ولم يهن ولم يخضع في الأمم السابقة بعد قتل أنبيائهم، كما قال: ﴿فَمَا وَهَنُواْ﴾ ما فتروا عن الحدَّة التي فيهم بموت نبيئهم، وما استولى عليهم الخوف، وإن قلنا: المقتول الربِّيون وحدهم أو مع نبيئهم، أي: معه في القتل فضمير (وَهَنُوا) للأحياء بعدهم، دلَّ عليه المقام ونفي الوهن، أو: ما وهنوا حال رؤية بعض بعضا يُقتَل، أو أسند القتل لمن حضر معهم، ﴿لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ من الجراح وقتل أنبيائهم وأصحابهم.
5. ﴿وَمَا ضَعُفُواْ﴾ في دينهم بالشكوك والشبهات حتَّى أرادوا الرجوع عن دينهم لدين الكفر، ولا عن الجهاد بطلب الصلح وإعطاء الدنيَّة، لم يفعلوا ذلك مع مشاهدتهم قتل أنبيائهم، فكيف فعلتم أنتم إذ سمعتم بقتل نبيئكم مجرَّد سماع لا تحقُّق معه، بل هو حيٌّ، وأردتم طلب الأمان من أبي سفيان بواسطة ابن أُبيٍّ.
6. ﴿وَمَا اسْتَكَانُواْ﴾ استفعل من الكون، فالأصول: الكاف والواو، أو الياء المبدلة ألفا والنون، والكون والكين: الذلُّ أو السوء، أو الكون بمعنى الحصول، أي: ما طلبوا من أنفسهم أو من غيرهم أن تكون لعدوِّهم، أو افتعل من السكون في نحو الدار، فالأصول: السين والكاف والنون، وأمَّا الألف فللإشباع على غير قياس، وهو وجه ضعيف؛ لأنَّه في غير الأخير يختصُّ بالشعر وبالشاذِّ، وقد وجدنا منه مخلصا.
7. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ﴾ يثيب أو يمدح أو ينصر أو يعظِّم، ﴿الصَّابِرِينَ﴾ على البلاء على العموم، أو الرِّبِّـيِّين، عبَّر عنهم بالصبر مدحا.
8. ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهمُ﴾ مع ثباتهم وقوَّتهم في الدين، وكونهم ربَّانيين بعد قتل نبيئهم ﴿إِلَّآ أَن قَالُواْ﴾ حرف المصدر والفعل بحسب التأويل كالمضمر، فإنَّ ذلك لا يضمر ولا يوصف به، ولا يوصف وأنَّه أعرف للدلالة صريحا على الإسناد إلى المرفوع وزمان الحدث، بخلاف المصدر المضاف فإنَّه يعلم أنَّه مضاف للفاعل أو المفعول بالدليل، فكان (أَن قَالُوا) أحقَّ بأن يسند إليه قولهم، فالمعنى: ما كان قولهم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا﴾ إلخ إِلَّا قولا معتادا لهم لم يصحَّ لغيره، أن يكون قولهم، وما زاد تعريفه فهو أحقُّ بالابتداء، فيكون اسما لـ (كَانَ) مثلا، والمقام يدلُّ على تكرير قولهم المذكور بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ الآية، والذنوب هنا: الصغائر، ﴿وَإِسْرَافَنَا﴾ فعلنا الكبائر مجاوزة للحدِّ، ﴿فِي أَمْرِنَا﴾ في مطلق أحوالنا، أو في معصيتنا إذ بالغنا فيها بالكبائر، أو المراد بالذنب والإسراف: واحد الصغائر والكبائر، إِلَّا أنَّهم ذكروها باسمٍ مفهومُه العتابُ والعقاب، وباسم مفهومه مجاوزة الحدِّ، وذلك هضم لأنفسهم لأنَّهم متَّصفون بأنَّهم ربِّيون، أو نظرًا إلى حال تقدَّمت لهم، وفي ذلك تلويح إلى أَنَّ ما أصابهم إِنَّمَا هو لذنوبهم.
9. ﴿وَثَبِّتَ اَقْدَامَنَا﴾ أَلقِ علينا الصبرَ، وأزِل الخوف عنَّا، ووفِّقنا في مواطن الحرب الحاضرة ـ هذه التي قتل فيها نبيء ـ والآتية، وفي سائر دينك، وقدَّموا الاستغفار على مقصودهم الأهَمِّ بحسب الحال ـ وهو الصبر والنصر ـ سعيا ورغبة في تحصيل النصر؛ لأنَّ الدعاء في خضوع وطهارة قلب أقرب للاستجابة، وقيل: قدَّموا المغفرة لأنَّها تخلية وهي قبل التحلية، وقيل: ليستحقُّوا طلب الثبات والنصر.
10. ﴿وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ بإلقاء الرعب في قلوبهم، أو بتقويتنا عليهم، أو بما شئت، كرجم وخسف، وذلك تعريض بمنهزمي أحد، والاستغفار سبب لتثبيت الأقدام، وتثبيتها سبب للنصر غالبا، ومناجاتهم أحسن من مناجاة قوم طالوت.
11. ﴿فَئَاتَاهُمُ اللهُ﴾ لاستغفارهم، وطلب التثبيت والنصر على أهل الكفر لكفرهم، كما دلَّت له الفاء، ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ النصر والعزَّ والفتح وحسن الذكر في الدنيا، والغنيمة بأن يتغلَّبوا عليهم حتَّى يأخذوها ولو كانوا لا يأكلونها، بل تنزل نار فتأخذها أمارة على قبول جهادهم والرضا عنهم، ولا تأكل الحيوان والعبيد بل تبقى لهم دون أنبيائهم، وأكل الغنيمة مخصوص بالنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمَّته.
12. ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الَاخِرَةِ﴾ ثواب الآخرة كلُّه حَسَن (بفتح السين والحاء)، وفي كلِّه حُسْنٌ (بضمِّ الحاء وإسكان السين)، وأُكِّد بجعله هو نفس الحُسْنِ (بضمِّ فإسكان)، أو حُسْنُه (بالضمِّ والإسكان): التفضُّل المحض فوق ما جعله الله بفضله مستحقًّا لأعمالهم وثوابا لها، وعلى كلِّ حال فهو الحشر في أمن، والتسهيل في الموقف، ورضا الله تعالى ، والجنَّة ونعيمها، والإسراع إليها، فضلا واستحقاقا بلا وجوب، ولم يَصِفْ ثواب الدنيا بالحسن لأنَّ ما في الدنيا يزول ويتكدَّر بالمشاقِّ والآلام والآفات، وقد يعدُّ الغفران من ثواب الدنيا، ولا يزول إِلَّا أنَّه يتكدَّر بالمشاقِّ والمكاره، مع أنَّه لا يعرف وقوعه إِلَّا بالوحي، والأصل: (وثواب الآخرة الحسن)، أي: ذو الحسن.
13. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ مطلقًا، ومنهم هؤلاء، علَّمنا الله معشر الأمَّة أن نقتدي بهؤلاء في ترك ما لا ينبغي في الحرب، والاتِّصاف فيها بما ينبغي، فننال فوق ما نالوا.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/23.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد البيان المنبه لهم إلى استعدادهم ضرب لهم هذا المثل في غيرهم كما ضرب لهم المثل قبل ذلك في أنفسهم بتمنيهم الموت فقال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾، ﴿كأين﴾ بمعنى (كم) الخبرية ومعناها أن ما دخلت عليه كثير.. والمعنى: أن كثيرا من النبيين الذين خلوا قد قاتل معهم كثير من المؤمنين بهم، المنتسبين إلى الرب تعالى في وجهة قلوبهم وفي أعمالهم، المعتقدين أن النبيين والمرسلين هداة ومعلمون، لا أرباب معبودون، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله أي ما ضعف مجموعهم بما أصاب بعضهم من الجرح وبعضهم من القتل وإن كان المقتول هو النبي نفسه لأنهم يقاتلون في سبيل الله وهو ربهم لا في سبيل شخص نبيهم وإنما حظهم من نبيهم تبليغه عن ربهم وبيانه لهدايته وأحكامه ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [الكهف: 56] وما ضعفوا عن جهادهم ولا استكانوا ولا ولوا بالانقلاب على أعقابهم بل ثبتوا بعد قتل نبيهم كما ثبتوا معه في حياته لأن علة الثبات في الحالين واحدة وهي كون الجهاد في سبيل الله أي في الطريق التي يرضاها الله كحفظ الحق وحمايته، وتقرير العدل وإقامته، وما يتبع ذلك ويلزمه.
2. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب (قُتل معه)، ولذلك رسمت الكلمة في المصحف الإمام بغير ألف لتوافق القراءتين أي استشهدوا في القتال معه أو قتلوا كما هو، وزعم بعضهم أنه لم يقتل نبي في الحرب، وهو نفي غير مسلم لا سيما في النبيين غير المرسلين ومن ذا الذي يتجرأ على الإحاطة بالرسل علما والله يقول لنبيه: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ [النساء: 164] ومن التفسير المأثور قول قتادة: فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما عجزوا وما تضعضعوا لقتل نبيهم وما استكانوا أي ما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم، وقال ابن إسحاق: (فما وهنوا لقتل النبي وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم وذلك هو الصبر)
3. ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾، أي وإذا كان يحب الصابرين أمثالهم، فعليكم أن تعتبروا بحالهم، فإن دين الله واحد، وسنته في خلقه واحدة، ولذلك هديتم إلى السنن، وأمرتم بمعرفة عاقبة من سبقكم من الأمم، فاقتدوا بعمل الصادقين الصابرين، وقولوا مثل قول أولئك الربيين.
4. ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ أي ما كان لهم من قول في تلك الحال التي اعتصموا فيها بالصبر والثبات، وعزة النفس، وشدة البأس، إلا ذلك القول المنبئ عن قوة إيمانهم، وصدق إرادتهم، وهو الدعاء بأن يغفر الله لهم بجهادهم ما كانوا ألموا به من الذنوب والتقصير في إقامة السنن، أو الوقوف عند ما حددته الشرائع.
5. ﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ بالغلو فيه، وتجاوز الحدود التي حددتها السنن له ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ على الصراط المستقيم الذي هديتنا إليه حتى لا تزحزحنا عنه الفتن، وفي موقف القتال، حتى لا يعرونا الفشل.
6. ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ بك، الجاحدين لآياتك، المعتدين على أهل دينك، فلا يشكرون لك نعمة بالتوحيد والتنزيه، ولا بفعل المعروف وترك المنكر، ولا يمكنون أهل الحق من إقامة ميزان القسط، فإن النصر بيدك، تؤتيه من تشاء بمقتضى سننك، ومنها أن الذنوب، والإسراف في الأمور، من أسباب البلاء والخذلان، وأن الطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والفلاح، ولذلك سألوا الله أن يمحو من نفوسهم أثر كل ذنب وإسراف، وأن يوفقهم إلى دوام الثبات، ولا شك أن الدعاء والتوجه إلى الله تعالى في مثل هذه الحال مما يزيد المؤمن المجاهد قوة وعزيمة ومصابرة للشدائد، ولذلك يعترف علماء النفس والأخلاق بأن المؤمنين أشد صبرا وثباتا في القتال من الجاحدين كما تقدم في تفسير ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ﴾ [البقرة: 250]
7. ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ بالنصر والظفر بالعدو، والسيادة في الأرض، وما يتبع ذلك من الكرامة والعزة، وحسن الأحدوثة وشرف الذكر ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ بنيل رضوان الله وقربه، والنعيم بدار كرامته، وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر[366]، كما ورد في الخبر، أخذا من قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: 17] وما آتاهم ذلك إلا بحسن إرادتهم وما كان لها من حسن الأثر في نفوسهم وأعمالهم، إذ أتوا البيوت من أبوابها؛ وطلبوا المقاصد بأسبابها.
8. ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ لأنهم خلفاؤه في الأرض يقيمون سنته؛ ويظهرون بأنفسهم وأعمالهم حكمته، فيكون عملهم لله بالله كما ورد في صفة العبد الذي يحبه الله (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به؛ ويده التي يبطش بها)، أي إن مشاعره وأعماله لا تكون مشغولة إلا بما يرضي الله ويقيم سننه ويظهر حكمه في خلقه.
9. إنما جمع لهم بين ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة لأنهم أرادوا بعلمهم سعادة الدنيا والآخرة، وإنما الجزاء على حسب الإرادة، وهذا هو شأن المؤمن كما تقدم آنفا وهو حجة على الغالين في الزهد، وخص ثواب الآخرة بالحسن للإيذان بفضله ومزيته وأنه المعتمد به عند الله تعالى، كذا قالوا، وقال محمد عبده: ثواب هؤلاء حسن على كل حال ولكن ذكر الحسن في ثواب الآخرة مزيد في تعظيم أمره، وتنبيه على أنه ثواب لا يشوبه أذى، فليس مثل ثواب الدنيا عرضة للشوائب والمنغصات، ولا يعترض على ما أثبته الآية بمثل واقعة الرجيع وبئر معونة من حيث إن من قتلوا هنالك لم يؤتوا ثواب الدنيا فإن إيثار ثواب الدنيا مشروط باتباع السنن والأخذ بالأسباب وفي واقعة الرجيع قد اختلفوا في النزول على حكم المشركين، فكان ذلك تقصيرا منهم، وفي واقعة بئر معونة قد قصروا في الاحتياط إذ أمنوا لمن لا يصح أن يؤمن لهم، فكان ذلك جزاء التقصير وموعظة للمؤمنين ليكونوا دائما حذرين محتاطين غير مقصرين ولا مسرفين، وقد صرح بما اتفق عليه المفسرون من كون الآيات تأديبا للمؤمنين وتوبيخا لمن فرط منهم ما فرط، والأمر ظاهر كالشمس في الضحى أو أشد ظهورا.
__________
(1) تفسير المنار: 4/171.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ضرب الله تعالى لهم المثل في أنفسهم بأنهم كانوا قبل الموقعة يتحرقون شوقا إلى لقاء العدو، ثم أصابهم ما أصابهم عند لقائه ـ ضرب لهم المثل بغيرهم من أتباع الأنبياء السالفين وربييهم الذين لم يلحقهم وهن ولا ضعف بعد قتل أنبيائهم، بل صبروا واحتملوا الإيذاء حتى تغلب الحق على الباطل، وفي هذا من شديد التوبيخ لأولئك المنهزمين الذين لم يستنوا بسنة الربانيين المجاهدين مع الرسل صلوات الله عليهم، مع أنهم أحدر بذلك منهم إذ كانوا خير أمة أخرجت للناس فقال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ أي إن كثيرا من النبيين الذين خلوا قد قاتل معهم كثير ممن آمن بهم، واعتقد أنهم هداة ومعلّمون، لا أرباب معبودون، فما وهنوا لما أصاب بعضهم من جرح أو قتل حتى ولو كان المقتول هو نبيهم نفسه، لأنهم يقاتلون في سبيل الله لا في سبيل نبيهم، علما منهم بأن النبي ما هو إلا مبلّغ عن ربه وهاد لأمته ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ وما ضعفوا عن جهاد عدوهم، ولا استكانوا ولا خضعوا له، ولا ولّوا الأدبار، بل ثبتوا بعد قتل نبيهم كما ثبتوا معه في حال الحياة، إذ هم على يقين من ربهم في أن الجهاد في السبيل التي يرضاها من تقرير العدل في الأرض وحماية الحق وما يتبع ذلك ويلزمه.
2. الخلاصة ـ عليكم أن تعتبروا بحال أولئك الربيين وتصبروا كما صبروا، فإن دين الله واحد، وسنته في خلقه واحدة، ومن ثم طلب إليكم أن تعرفوا عاقبة من سبقكم من الأمم، وتقتدوا بعمل الصادقين الصابرين منهم، وتقولوا مثل قول أولئك الربّيين.
3. وبعد أن بين سبحانه مفاخر أفعالهم أردفها بمحاسن أقوالهم فقال: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ أي إن هؤلاء الربيين لم يكن لهم من قول عند اشتداد الخطوب ونزول الكوارث إلا الدعاء لربهم بأن يغفر لهم بجهادهم ما كانوا ألمّوا به من الذنوب، وتجاوزوا فيه حدود الشرائع، وأن يثبّت أقدامهم على الصراط القويم الذي هداهم إليه، حتى لا تزحزحهم الفتن ولا يعروهم الفشل والوهن حين مقابلة الأعداء، وأن ينصرهم على القوم الكافرين الذين يجحدون الآيات، ويعتدون على أهل الحق، فلا يمكنونهم من إقامة ميزان القسط، فما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء بمقتضى السنن التي هدى إليها خلقه، وألهمها عباده.
4. فى هذا إيماء إلى أن الذنوب والإسراف فى الأمور من عوامل الخذلان، والطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والفلاح، ومن ثم سألوا ربهم أن يمحو من نفوسهم أثر الذنوب؛ وأن يوفقهم إلى دوام الثبات حين تزلّ الأقدام، وقد قدموا طلب المغفرة من الذنوب على طلب النصر ليكون الدعاء فى حيز القبول، فإن الدعاء المقرون بالخضوع والطاعة الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة.
5. في طلبهم النصر من الله مع كثرة عددهم التي دل عليها قوله: ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ إعلام بأنهم لا يعوّلون على كثرة العدد بل يطلبون العون والمدد الروحاني من الله بثبات الأقدام والتمسك بأهداب الحق، كما أن في ذكر قولهم هذا دون ذكر ما فيه جزع وخور ـ تعريضا بأولئك المنهزمين من المسلمين يوم أحد.
6. ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ بالنصر على الأعداء، والظفر بالغنيمة، والسيادة في الأرض، والكرامة والعزة وحسن الأحدوثة والذكر الحسن، وقد سمى ذلك ثوابا لأنه جزاء على الطاعة، وامتثال أوامر الله.
7. ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ بنيل رضوان الله ورحمته، والقرب منه في دار الكرامة، وقد فسّر بقوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ وقوله في الخبر (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) وما حصلوا على ذلك إلا بما قدموا من صالح العمل الذي كان له أحسن الأثر في نفوسهم فارتقت به إلى حظيرة القدس، وتخصيص الحسن بهذا الثواب إيذان بفضله، وأنه المعتدّ به عند الله، وأنه ثواب لا يشوبه أذى، فهو ليس كثواب الدنيا عرضة للأذى والمنغّصات.
8. إنما جمع لهم بين الثوابين، لأنهم أرادوا بعملهم هاتين السعادتين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، كما هو شأن المؤمن ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾
9. هذه الآية وأشباهها حجة على الغالين في الزهد الذين يتحرجون عن الاستمتاع بشيء من لذات الدنيا، ويعدون ذلك منافيا للتقوى، ومبعدا عن رضوان الله.
10. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ لأنهم هم الذين يقيمون سننه في أرضه، ويظهرون بأنفسهم وأعمالهم أنهم جديرون بخلافة الله فيها، ولا تكون أعمالهم إلا بما يرضى الله، فهي من الله ولله، وقد جاء في الآية الترتيب هكذا ـ التوفيق على الطاعة، ثم الثواب عليها، ثم المدح على ذلك، إذ سماهم محسنين، ليكون في ذلك توجيه للعبد ليعلم أن كل ذلك بعنايته تعالى وفضله.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/93.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم، من موكب الإيمان اللاحب الممتد على طول الطريق، الضارب في جذور الزمان.. من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم، وقاتلوا مع أنبيائهم، فلم يجزعوا عند الابتلاء؛ وتأدبوا ـ وهم مقدمون على الموت ـ بالأدب الإيماني في هذا المقام.. مقام الجهاد.. فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربهم؛ وأن يجسموا أخطاءهم فيروها ﴿إِسْرَافًا﴾ في أمرهم، وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار.. وبذلك نالوا ثواب الدارين، جزاء إحسانهم في أدب الدعاء، وإحسانهم في موقف الجهاد، وكانوا مثلا يضربه الله للمسلمين: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
2. لقد كانت الهزيمة في (أحد)، هي أول هزيمة تصدم المسلمين، الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل؛ فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية، فلما أن صدمتهم أحد، فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه! ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم، واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة، وبالاستنكار تارة، وبالتقرير تارة، وبالمثل تارة، تربية لنفوسهم، وتصحيحا لتصورهم، وإعدادا لهم، فالطريق أمامهم طويل، والتجارب أمامهم شاقة، والتكاليف عليهم باهظة، والأمر الذي يندبون له عظيم.
3. المثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام، لا يحدد فيه نبيا، ولا يحدد فيه قوما، إنما يربطهم بموكب الإيمان؛ ويعلمهم أدب المؤمنين؛ ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين؛ ويربطهم بأسلافهم من أتباع الأنبياء؛ ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين؛ ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد، وأنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير.
4. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة، فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح، وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء.. فهذا هو شأن المؤمنين، المنافحين عن عقيدة ودين.
5. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ الذين لا تضعف نفوسهم، ولا تتضعضع قواهم، ولا تلين عزائمهم، ولا يستكينون أو يستسلمون، والتعبير بالحب من الله للصابرين، له وقعه، وله إيحاؤه، فهو الحب الذي يأسو الجراح، ويمسح على القرح، ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير!
6. إلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء، فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم، صورة الأدب في حق الله، وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس، ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه، ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى الله.. لا لتطلب النصر أول ما تطلبـ وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس ـ ولكن لتطلب العفو والمغفرة، ولتعترف بالذنب والخطيئة، قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء.
7. ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء، بل لم يطلبوا ثوابا ولا جزاء.. لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة، لقد كانوا أكثر أدبا مع الله، وهم يتوجهون إليه، بينما هم يقاتلون في سبيله، فلم يطلبوا منه سبحانه إلا غفران الذنوب، وتثبيت الأقدام.. والنصر على الكفار، فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار.. إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم.
8. هؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئا، أعطاهم الله من عنده كل شيء، أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة، وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾
9. وشهد لهم سبحانه بالإحسان، فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد، وأعلن حبه لهم، وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
10. هكذا تنتهي هذه الفقرة في الاستعراض؛ وقد تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور الإسلامي، وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة، وقد ادخرت هذا الرصيد للأمة المسلمة في كل جيل.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/489.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآيات السابقة كان من الله، هذا العتاب الرفيق، الذي يحمل الإعتاب والرضا، ويسوق الإحسان والرحمة، ويبعث في صدور المسلمين دفء الأمل بالنصر للإسلام، والإعزاز للمسلمين، فيجدون في هذا كلّه العزاء الجميل لما أصابهم من جراح، في أجسامهم، ولما وقع في نفوسهم من مرارة الهزيمة، وعلوّ يد الكافرين عليهم في هذه المعركة، معركة أحد.
2. هنا، في قوله تعالى ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ صورة أخرى من صور العزاء والتّسرية عن المسلمين، بما تحمل إليهم كلمات الله من مواقف الإيمان والصّبر، للمؤمنين في الأمم التي خلت، ممن صدّق الرسل وجاهد في سبيل الله.
3. الربّيون: جمع ربّىّ، وهو من آمن بالله، وأضاف نفسه إلى ربّه، متوكلا عليه، مستقيما على صراطه، فكثير من هؤلاء المؤمنين من أتباع الرسل، كانوا مع الأنبياء مجاهدين في سبيل الله، لم يهنوا ولم يضعفوا، مهما نزل بهم من شدائد أو وقع عليهم من بلاء، وهؤلاء هم ممّن يحبّهم الله ويوسع لهم في منازل رضوانه ورحمته: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
4. في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه موقف المجاهدين الصابرين، حين يكربهم الكرب، ويشتدّ بهم البلاء.. لا يذكرون غير الله، ولا يلتفتون إلا إليه، طالبين عفوه ومغفرته، وتثبيت أقدامهم في موطن الجهاد، حتى لا تنزع بهم نفوسهم إلى أن يولوا الأدبار، وأن يطلبوا السلامة والنجاة.
5. في طلبهم أن يغفر الله لهم ذنوبهم، وإسرافهم في أمرهم ـ أي خروجهم عن سواء السبيل في بعض أحوالهم ـ في طلبهم هذا، وفي جعله مفتتح دعائهم، اعتراف ضمنىّ بأن شيئا ما دخل على إيمانهم، فأدخل الوهن والضعف عليهم ـ وإن لم يهنوا ولم يضعفوا ـ وباعد بينهم وبين النصر المرجوّ على عدوهم.. فهم في هذا الدعاء يضرعون إلى الله أن يغفر لهم ذنوبهم، وأن يتجاوز عن سيئاتهم، فإذا استجاب الله لهم ذلك، طهرت نفوسهم، واستقامت طريقهم إلى الله، واشتد قربهم منه، وكان لهم أن يطلبوا إلى الله أن يثبت أقدامهم، وأن يمسك بهم على هذا الطريق الذي استقاموا عليه.
6. هذه الحال التي تنكشف عن موقف المؤمنين من أتباع الرسل تلقى على المؤمنين الذين شهدوا أحدا ظلالا من الاتهام، واللّوم، والعتاب، لما وقع في نفوس بعضهم، وما جرى على ألسنة بعض آخر.. من وساوس الشك والريبة، فقال قائل: ﴿أَنَّى هَذَا﴾، وقال آخرون: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾.. لقد نظر هؤلاء وأولئك إلى غير ما كان ينبغي أن ينظروا إليه.. لقد نظروا إلى غيرهم، وألقوا باللائمة عليه.. ولم ينظروا إلى أنفسهم ليبحثوا عما وقع فيها من خلل، كما كان يفعل المؤمنين قبلهم من أتباع الرسل، حين تنزل بهم الشدائد، وتتوالى عليهم المحن.
7. في قوله تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ مشهد كريم، يعرض على أنظار المسلمين، لمن آمن بالله واستقام على طريقة، حتى إذا استشعر أن يد الله قد تراخت عنه، اتّهم نفسه، وأيقن أن خللا وقع في صلته بالله، فبادر فأصلحه، وصالح الله، فوجد العفو والمغفرة، ثم أصاب النصر والظفر.
8. هؤلاء المؤمنون الذين جاهدوا مع رسل الله، وكان شأنهم عند اشتداد المحن، وقسوة البلاء، العودة إلى الله بإصلاح أنفسهم ـ هؤلاء قد أعزّهم الله في الدنيا، فكتب لهم النصر على عدوهم، وأجزل لهم المثوبة والرضوان في الآخرة، لما كان منهم من صبر على البلاء، وثبات في وجه الموت.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/609.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ عطف على قوله: ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [آل عمران: 144] الآية وما بينهما اعتراض، وهو عطف العبرة على الموعظة فإنّ قوله: ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ موعظة لمن يهمّ بالانقلاب.
2. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ﴾ عبرة بما سلف من صبر أتباع الرسل والأنبياء عند إصابة أنبيائهم أو قتلهم، في حرب أو غيره، لمماثلة الحالين، فالكلام تعريض بتشبيه حال أصحاب أحد بحال أصحاب الأنبياء السالفين لأنّ محلّ المثل ليس هو خصوص الانهزام في الحرب بل ذلك هو الممثل، وأمّا التّشبيه فهو بصير الأتباع عند حلول المصائب أو موت المتبوع.
3. ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ كلمة بمعنى التكثير، قيل: هي بسيطة موضوعة للتكثير، وقيل: هي مركّبة من كاف التّشبيه وأي الاستفهامية وهو قول الخليل وسيبويه، وليست (أيّ) هذه استفهاما حقيقيّا، ولكنّ المراد منها تذكير المستفهم بالتكثير، فاستفهامها مجازي، ونونها في الأصل تنوين، فلمّا ركّبت وصارت كلمة واحدة جعل تنوينها نونا وبنيت، والأظهر أنّها بسيطة وفيها لغات أربع، أشهرها في النثر كأيّن بوزن كعيّن (هكذا جرت عادة اللغويين والنحاة إذا وزنوا الكلمات المهموزة أن يعوّضوا عن حرف الهمزة بحرف العين لئلا تلتبس الهمزة بالألف أو الياء الّتي تكتب في صورة إحداهما)، وأشهرها في الشعر كائن بوزن اسم فاعل كان، وليست باسم فاعل خلافا للمبرّد، بل هي مخفّف كأيّن، ولهم في كيفية تخفيفها توجيهات أصلها قول الخليل لمّا كثر استعمالها تصرّف فيها العرب بالقلب والحذف في بعض الأحوال، قلت: وتفصيله يطول، وأنا أرى أنّهم لمّا راموا التّخفيف جعلوا الهمزة ألفا، ثمّ التقى ساكنان على غير حدّه، فحذفوا الياء الساكنة فبقيت الياء المكسورة فشابهت اسم فاعل (كان) فجعلوها همزة كالياء الّتي تقع بعد ألف زائدة، وأكثر ما وقع في كلام العرب هو كاين لأنّها أخف في النظم وأسعد بأكثر الموازين في أوائل الأبيات وأواسطها بخلاف كائن، قال الزجاج: اللغتان الجيّدتان كايّن وكائن، وحكى الشّيخ ابن عرفة في تفسيره عن شيخه ابن الحباب قال أخبرنا شيخنا أحمد بن يوسف السلمي الكناني، قال قلت لشيخنا ابن عصفور: لم أكثرت في شرحك للإيضاح من الشواهد على كائن؟ فقال: لأنّي دخلت على السلطان الأمير المستنصر (يعني محمد المستنصر ابن أبي زكرياء الحفصي والظاهر أنّه حينئذ وليّ العهد) فوجدت ابن هشام (يعني محمد بن يحيى بن هشام الخضراوي نزيل تونس ودفينها المتوفّى سنة 646) فأخبرني أنّه سأله عمّا يحفظ من الشواهد على قراءة كايّن فلم يستحضر غير بيت الإيضاح:
çوكائن بالأباطح من صديق...يراني لو أصبت هو المصاباé
قال ابن عصفور: فلمّا سألني أنا قلت: أحفظ فيها خمسين بيتا فلمّا أنشدته نحو عشرة قال: حسبك، وأعطاني خمسين دينارا، فخرجت فوجدت ابن هشام جالسا بالباب فأعطيته نصفها.
4. قرأ الجمهور ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء تحتية مشدّدة بعد الهمزة، على وزن كلمة ﴿كَصَيِّبٍ﴾ وقرأه ابن كثير ﴿كَأَيِّنْ﴾ بألف بعد الكاف وهمزة مكسورة بعد الألف بوزن كاهن، والتكثير المستفاد من ﴿كَأَيِّنْ﴾ واقع على تمييزها وهو لفظ (نبيء) فيحتمل أن يكون تكثيرا بمعنى مطلق العدد، فلا يتجاوز جمع القلّة، ويحتمل أن يكون تكثيرا في معنى جمع الكثرة، فمنهم من علمناه ومنهم من لم نعلمه، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ ويحضرني أسماء ستة ممّن قتل من الأنبياء: أرمياء قتلته بنو إسرائيل، وحزقيال قتلوه أيضا لأنّه وبّخهم على سوء أعمالهم، وأشعياء قتله منسا بن حزقيال ملك إسرائيل لأنّه وبّخه ووعظه على سوء فعله فنشره بمنشار، وزكرياء، ويحيى، قتلتهما بنو إسرائيل لإيمانهما بالمسيح، وقتل أهل الرسّ من العرب نبيئهم حنظلة بن صفوان في مدّة عدنان، والحواريّون اعتقدوا أنّ المسيح قتل ولم يهنوا في إقامة دينه بعده، وليس مرادا هنا وإنّما العبرة بثبات أتباعه على دينه مع مفارقته لهم إذ العبرة في خلوّ الرسول وبقاء أتباعه، سواء كان بقتل أو غيره، وليس في هؤلاء رسول إلّا حنظلة بن صفوان، وليس فيهم أيضا من قتل في جهاد، قال سعيد بن جبير: ما سمعنا بنبي قتل في القتال.
5. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم: (قتل) بصيغة المبنى للمجهول، وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف، وأبو جعفر: (قاتل) بصيغة المفاعلة فعلى قراءة (قتل) ـ بالبناء للمجهول ـ فمرفوع الفعل هو ضمير نبيء، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون مرفوع الفعلين ضمير نبيء فيكون قوله: ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ جملة حاليّة من (نبيء) ويجوز أن يكون مرفوع الفعلين لفظ (ربّيّون) فيكون قوله (معه) حالا من (ربّيّون) مقدّما.
6. جاءت هذه الآية على هذا النظم البديع الصالح لحمل الكلام على تثبيت المسلمين في حال الهزيمة وفي حال الإرجاف بقتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى الوجهين في موقع جملة ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ يختلف حسن الوقف على كلمة (قتل) أو على كلمة (كثير)
7. (الرّبيّون) جمع ربيّ وهو المتّبع لشريعة الرّب مثل الربّاني، والمراد بهم هنا أتباع الرسل وتلامذة الأنبياء، ويجوز في رائه الفتح، على القياس، والكسر، على أنّه من تغييرات النسب وهو الذي قرئ به في المتواتر.
8. محلّ العبرة هو ثبات الربّانيّين على الدّين مع موت أنبيائهم ودعاتهم.
9. قوله: ﴿كَثِير﴾ صفة ﴿رِبِّيُّونَ﴾ وجيء به على صيغة الإفراد، مع أنّ الموصوف جمع، لأنّ لفظ كثير وقليل يعامل موصوفهما معاملة لفظ شيء أو عدد، قال تعالى: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1] وقال: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: 109] وقال: ﴿اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ﴾ [الأنفال: 26] وقال: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا﴾ [الأنفال: 43]
10. ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ أي الربّيّون إذ من المعلوم أنّ الأنبياء لا يهنون فالقدوة المقصودة هنا، هي الاقتداء بأتباع الأنبياء، أي لا ينبغي أن يكون أتباع من مضى من الأنبياء، أجدر بالعزم من أتباع محمد .
11. جمع بين الوهن والضّعف، وهما متقاربان تقاربا قريبا من الترادف؛ فالوهن قلّة القدرة على العمل، وعلى النّهوض في الأمر، وفعله كوعد وورث وكرم، والضّعف ـ بضم الضّاد وفتحها ـ ضدّ القوّة في البدن، وهما هنا مجازان، فالأوّل أقرب إلى خور العزيمة، ودبيب اليأس في النّفوس والفكر، والثّاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة.
12. أمّا الاستكانة فهي الخضوع والمذلّة للعدوّ، ومن اللطائف ترتيبها في الذّكر على حسب ترتيبها في الحصول: فإنّه إذا خارت العزيمة فشلت الأعضاء، وجاء الاستسلام، فتبعته المذلّة والخضوع للعدوّ.
13. إذا كان هذا شأن أتباع الأنبياء، وكانت النّبوءة هديا وتعليما، فلا بدع أن يكون هذا شأن أهل العلم، وأتباع الحقّ، أن لا يوهنهم، ولا يضعفهم، ولا يخضعهم، مقاومة مقاوم، ولا أذى حاسد، أو جاهل، وفي الحديث الصّحيح، في (البخاري): أن خبّابا قال للنّبي : (لقد لقينا من المشركين شدّة ألا تدعو الله) فقعد وهو محمّر وجهه فقال: (لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه) الحديث.
14. ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ الآية عطف على ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ لأنّه لمّا وصفهم برباطة الجأش، وثبات القلب، وصفهم بعد ذلك بما يدلّ على الثبات من أقوال اللّسان الّتي تجري عليه عند الاضطراب والجزع، أي أنّ ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردّد في صدق وعد الله، ولا بدر منهم تذمّر، بل علموا أنّ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه، أو لعلّه كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه، أو في الوفاء بأمانة التكليف، فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم، ثمّ سألوه النصر وأسبابه ثانيا فقالوا: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ فلم يصدّهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النّصر، وفي (الموطأ)، عن رسول الله (يستجاب لأحدكم ما لم يعجّل يقول: دعوت فلم يستجب لي)، فقصر قولهم في تلك الحالة الّتي يندر فيها صدور مثل هذا القول، على قولهم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا﴾ إلى آخره، فصيغة القصر في قوله: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ قصر إضافي لردّ اعتقاد من قد يتوهّم أنّهم قالوا أقوالا تنبئ عن الجزع، أو الهلع، أو الشكّ في النّصر، أو الاستسلام للكفار، وفي هذا القصر تعريض بالّذين جزعوا من ضعفاء المسلمين أو المنافقين فقال قائلهم: لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان.
15. قدّم خبر (كان) على اسمها في قوله: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ لأنّه خبر عن مبتدأ محصور، لأنّ المقصود حصر أقوالهم حينئذ في مقالة ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ فالقصر حقيقي لأنّه قصر لقولهم الصّادر منهم، حين حصول ما أصابهم في سبيل الله، فذلك القيد ملاحظ من المقام، نظير القصر في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [النور: 51] فهو قصر حقيقي مقيّد بزمان خاص، تقييدا منطوقا به، وهذا أحسن من توجيه تقديم الخبر في الآية بأنّ المصدر المنسبك المؤوّل أعرف من المصدر الصّريح لدلالة المؤوّل على النسبة وزمان الحدث، بخلاف إضافة المصدر الصّريح، وذلك جائز في باب (كان) في غير صيغ القصر، وأمّا في الحصر فمتعيّن تقديم المحصور.
16. المراد من الذنوب جميعها، وعطف عليه بعض الذنوب وهو المعبّر عنه هنا بالإسراف في الأمر، والإسراف هو الإفراط وتجاوز الحدّ، فلعلّه أريد به الكبائر من الذنوب كما نقل عن ابن عبّاس وجماعة، وعليه فالمراد بقوله: أمرنا، أي ديننا وتكليفنا، فيكون عطف خاص للاهتمام بطلب غفرانه، وتمحّض المعطوف عليه حينئذ لبقية الذنوب وهي الصّغائر، ويجوز عندي أن يكون المراد بالإسراف في الأمر التقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال، والاستعداد له، أو الحذر من العدوّ، وهذا الظاهر من كلمة أمر، بأن يكونوا شكّوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوّهم ناشئا عن سببين: باطن وظاهر، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب، والظاهر هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر، وهذا أولى من الوجه الأول.
17. ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ إعلام بتعجيل إجابة دعوتهم لحصول خيري الدنيا والآخرة، فثواب الدّنيا هو الفتح والغنيمة، وثواب الآخرة هو ما كتب لهم حينئذ من حسن عاقبة الآخرة، ولذلك وصفه بقوله: ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ لأنّه خير وأبقى، وتقدّم الكلام على الثّواب عند قوله تعالى ـ في سورة البقرة [103] ـ ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ﴾
18. جملة ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ تذييل أي يحبّ كلّ محسن، وموقع التذييل يدلّ على أنّ المتحدّث عنهم هم من الّذين أحسنوا، فاللام للجنس المفيد معنى الاستغراق، وهذه من أكبر الأدلّة على أنّ (أل) الجنسية إذا دخلت على جمع أبطلت منه معنى الجمعية، وأنّ الاستغراق المفاد من (أل) إذا كان مدخولها مفردا وجملة سواء.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/243.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كلمة ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ بمعنى كم الخبرية الدالة على الكثرة، أي كثيرون من الأنبياء قاتل معهم ربيون كثيرون، وهناك قراءة و(كائن)، وهى لغة جائزة في كأين، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله:
çكأيّن أبدنا من عدوّ بعزّنا...وكائن أجرنا من ضعيف وخائفé
2. الربيون: هم المؤمنون الصادقون الإيمان الذين يقاتلون ابتغاء ما عند الرب، فهم منسوبون للرب سبحانه وتعالى لخلوصهم له، واتجاه قلوبهم إليه وحده، وقال الزمخشري إنها نسبة غير فيها النسب، وقد قرئ بفتح الراء وضمها وكسرها، ولذا قال (2): (والربيون هم الربانيون، وقرئ بالحركات الثلاث، فالفتح على القياس والضم والكسر من تغييرات النسب)
3. المعنى: كثيرون من الأنبياء قاتل معهم مؤمنون صادقو الإيمان وكانوا يصابون، والقتال يتعاور فيه المقاتلون الجروح والدماء، فليس القتال ريحا رخاء سهلا، بل هو عاصفة وملحمة بشرية يدال بين المقاتلين في الميدان، فكانوا بهذه الجراح راضين صابرين لم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا ويذلوا، وهذا الكلام للاعتبار بحال الماضين الذين قاتلوا من قبل مع الأنبياء، ما ضعفوا عندما أصابهم القرح، فكذلك أنتم ما كان يليق أن تضعفوا إذا أخطأتم فجرحتم يوم أحد.
4. فهم بعض العلماء أن المراد أن بعض الأنبياء قتل في الميدان فما وهن جيشه بقتله ولا ضعف، فما كان يسوغ لهم أن يضطربوا ذلك الاضطراب يوم أحد، لكنا نرى أنه ليس في الآية ما يشير إلى هذا المعنى، حتى يتعين مرادا لها، والحق أن العبرة في كون النبيين كانوا يقاتلون ومعهم مؤمنون صادقو الإيمان، يصيبهم جراح، وتصيب أعداءهم، وما كانت جراحهم توهنهم أو تضعفهم أو تجعلهم يستكينون ويذلون، وقد نفى الله تعالى عن أولئك الربانيين ثلاثة أوصاف لا تتفق مع الإيمان:
أ. أولها: الوهن فقد نفاه سبحانه وتعالى بقوله تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ والوهن اضطراب نفسي، وانزعاج قلبي، فهو يبتدئ في الداخل، وإذا وصل إلى الخارج كان ضعفا وتخاذلا، وإذا أنتج الضعف نتائجه كانت الاستكانة والذل، ولذلك ابتدأ بنفي الوهن، وقرن نفى الوهن بكون سببه ما أصابهم في سبيل الله للإشارة إلى أن الوهن ينافى قوة الإيمان، لأن من كان يقاتل في سبيل الله عليه أن يعلم الغاية من القتال، وهى توجب تحمل كل الشدائد، والعاقبة للمتقين.
ب. الثاني: الضعف والتخاذل الذي يوجبه اليأس والاضطراب، وهذا كما قلنا نتيجة للوهن.
ج. الثالث: الاستكانة، وهى الرضا بالذل والعيش مع الهوان، وذلك ليس شأن المؤمن.
5. نفى سبحانه هذه الأوصاف الثلاثة مع أن واحدا يكفى نفيه لنفيها، لأنها متلازمة، لبيان قبح ما يقعون فيه لو سلطوا وصفا منها على نفوسهم فاستمكن فيها.
6. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ الله سبحانه وتعالى يشير بهذا إلى أن الذين لا يصيبهم وهن بسبب اشتداد المعركة ولا ضعف ولا ذل ولا استكانة واستسلام هم الصابرون حقا وصدقا، والله سبحانه وتعالى يحبهم، ونقف هنا وقفة قصيرة عند معنى الصبر، واستحقاقه للمحبة لا لمطلق الجزاء، إن الصبر ليس هو احتمال الشدائد، فقط، بل هو ألا يتضعضع عند نزولها، وألا يضطرب التفكير عند اشتداد الشديدة، وأن تنفى مطامع النفس إلا ما كان منها إجابة لداعى الحق ونصرته، وأن تخلص القلوب عن شوائب الشهوات فلا تخضع لها ولا تذل، بل تتحكم كل نفس في أهوائها، وألا يكون أنين ولا شكوى ولا ضجيج، وهذا هو الذي سمى الصبر الجميل، والصبر على هذا المعنى هو أجل الصفات الإنسانية وأكملها؛ لأنه ضبط النفس، وكمال العقل، وسيطرة الحكمة وقوة الجنان، وهو يتضمن في ثناياه معنى الشكر، فهو عنصر من عناصره، ومظهر من مظاهره، وكان الجزاء أعلى جزاء، وهو المحبة من الله، ومحبة الله تعالى تتضمن رضوانه، وتتضمن ثوابه، وهى مرتبة أعلى منهما، ولا ينالها إلا الصابرون.
7. ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ أي أن هؤلاء الصابرين ليس لهم شأن في ميدان القتال وفي عموم الأحوال إلا الاتجاه إلى ربهم ضارعين شاعرين بالتقصير في جنب الله سبحانه وتعالى، فمعنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ وما ثبت وتحقق لهم من قول إلا أن قالوا:
8. ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ فنفى الله تعالى عنهم كل قول إلا الاستغفار وطلب النصر، فلم تكن منهم صيحات الفزع والاضطراب، ولا صيحات الأخذ من الأسلاب والغنائم، إنما قولهم هو في علاج نفوسهم والطب لأدوائها، وطلب النصر من ربهم على أعداء الحق الكافرين به، وتلك غاية الغايات عندهم.
9. كانت ضراعتهم إلى ربهم بالدعاء تتجه إلى ثلاثة أمور:
أ. أولها: طلب غفران الذنب والإسراف، والذنب هو التقصير في حق الله تعالى، والإسراف في الأمور هو تجاوز الحد في الأمور، وأمرهم هو كل ما يتعلق بإجابة الله تعالى، فهم يستغفرون من التقصير في حق الله تعالى، وتجاوز حدود الله تعالى، وإن ذلك الدعاء مناسب للقتال لأن المقاتل إما أن يقصر فيتخاذل، وإما أن يتجاوز الحد فيقتل في غير حاجة إلى القتال، فكان هذا الدعاء في موضعه، وإن الإسراف في القتل من غير حاجة إلى القتل مؤاخذ عليه كالتقصير، فمن يقتل امرأة أو عاملا غير مقاتل أو شيخا هرما لا رأى له في القتال، أو يقتل أسيرا، أو يقتل بعد الأمان، يكون مسرفا في أمره، فيكون مؤاخذا، ولذلك طلبوا الاستغفار من الأمرين: التفريط والإفراط، وإن طلبهم هذا يدل على سلامة قلوبهم، واستصغار عملهم، وذلك شأن الأتقياء، ولذا جاء في الكشاف في هذا المقام: (هذا القول، وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين كان هضما لها واستقصارا) ولقد كان دعاء النبيّ : (اللهم اغفر لي خطيئتى وجهلى وإسرافى في أمرى، وما أنت أعلم به منى)
ب. الثاني: طلب تثبيت الأقدام بألا يهزموا ولا يفروا، بل يلاقوا الأعداء بصدورهم ولا يولوهم الأدبار، وفي تقديم الدعاء بالغفران إشارة إلى أنهم يقدمون طهارة نفوسهم وتزكية القلوب واعتبارها أساس الثبات والصبر في مواطن القتال، وجاء في الكشاف: (والدعاء بالاستغفار مقدما على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على العدو ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة وخضوع وهو أقرب إلى الاستجابة)
ج. الثالث: طلب النصر على الكافرين، وهو غاية القتال؛ لأن الانتصار عليهم رفع لاعتدائهم، وتمكين لأهل الإيمان في الأرض، ومنع للفتنة في الدين، وإزالة الحواجز التي تحول بين النبيّ ودعوته، وذلك نصر لحق الله تعالى.
10. ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنهم بسبب ذلك الصبر والاطمئنان نالوا جزاء الدنيا وثوابها بالنصر والغنيمة وجعل كلمة الله تعالى هي العليا، ومكن لهم في الأرض، وبسبب هذا أيضا نالوا حسن ثواب الآخرة، أي نالوا النعيم المقيم، وجنات عدن، وما فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ونالوا ما هو أعلى من ذلك وهو رضا الله تعالى ثم محبته، وهى أعلى الدرجات، ووصف ثواب الآخرة بالحسن؛ لأنه الثواب الذي لا يعكره معكر، ولا تكليف فيه، ولا مشقة تحتمل في سبيله، فهو حسن بإطلاق، وأما ثواب الدنيا فحسنه إضافي إذ فيه تكليفات ومشقات، إذ الدنيا قد اختلط حلوها بمرها، وسراؤها بضرائها، وشقاؤها براحتها، ولذلك كان ثوابها غير حسن إلا حسنا إضافيا نسبيا، أما ثواب الآخرة فحسن باستمرار وإطلاق ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
11. ذيّل الله سبحانه وتعالى الآية التي تتعلق بالجزاء بأعظم جزاء وهو محبته الكريمة، وأشار إلى أن هؤلاء الربانيين قد استحقوه بسبب إحسانهم وإتقانهم لما عملوا وما جاهدوا فيه، وصبرهم في الشدائد والمكاره، وتلقيهم للأحداث بجنان ثابت وقلب رابط.
12. نجد أن الله تعالى وصف المؤمنين بثلاث صفات، وكل واحدة منها قد استحقت جزاء:
أ. فالوصف الأول أنهم شاكرون، فقال: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ لأن الشكر أول أبواب الطاعة، والرغبة في الفداء؛ إذ هو الإحساس بحق المنعم فيما أنعم به.
ب. والوصف الثاني هو الصبر؛ لأن الإيمان الذي هو أول ثمرات الشكر يقتضى ضبط النفس عن أهوائها ومنع الاضطراب في (الصدمات) والرضا بكل شديدة من غير أنين، والصابرون يحبهم الله.
ج. والوصف الثالث الإحسان، وهو نتيجة للصبر، وهو أن تكون النفس كلها لله، تراقبه في كل عمل تعمله، وكل قول تقوله، وكأنها ترى الله، وقد قال النبيّ : (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك) وبذلك يكون ممن يحبهم الله، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ربه في العبد الذي يحبه: (إذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها)
13. اللهم إنا ما عملنا عملا نستحق به محبتك، ولكنّا مع ذلك نطمع فيها، فإن أعطيتها فبفضلك، وإن منعتها فبحقك، وإنا لنضرع إليك من بعد ألا نكون ممن غضبت عليهم وسخطت أعمالهم، إنك غفور رحيم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1439.
(2) الكلام هنا للزمخشري
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾، بعد ان نصر الله المسلمين في بدر، وهم قلة ضعاف اعتقدوا أنهم منصورون في كل حرب، ما دام محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بينهم.. فلما كانت الهزيمة يوم أحد فوجئوا بما لا ينتظرون، فكان منهم ما سبق ذكره، وفي هذه الآية ضرب الله مثلا للذين وهنوا وضعفوا واستكانوا وما صبروا يوم أحد، ضرب الله مثلا لهؤلاء باتباع الأنبياء السابقين الذين صبروا على الجهاد والقتل والأسر والجراح، وتركوا الفرار ولم يولوا مدبرين، كما فعلتم أنتم يا أصحاب محمد ، وكان الأليق بكم أن تقتدوا بهم، وتعتبروا بحالهم، وتصبروا كما صبروا، كما هو شأن المؤمنين المدافعين عن دينهم وعقيدتهم بالأرواح.
2. ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾ ـ اي اتباع الأنبياء السابقين ـ ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، فلم يشكوا أبدا في دينهم ونبيهم، كما فعل من فعل من أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد.. وهكذا المؤمن الحق يتهم نفسه، ويرجع ما أصابه من النوائب إلى تقصيره وإسرافه في أمره، ويسأل الله العفو والصفح، والهداية والرشاد، أما المؤمن الزائف فيحمل المسئولية لله، ويقول: ربي أهانني.
3. ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وكفى بثواب الله وحبه وشهادته بالإحسان فخرا وذخرا.. وتشعر هذه الآية ان التواضع واتهام النفس يقرب من الله، ويرفع المتواضع إلى أعلى عليين.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/175.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ إلى آخر الآيات كأين كلمة تكثير وكلمة (من) بيانية والربيون جمع ربي وهو كالرباني من اختص بربه تعالى فلم يشتغل بغيره، وقيل: المراد به الألوف والربي الألف، والاستكانة هي التضرع.
2. في الآية موعظة واعتبار مشوب بعتاب وتشويق للمؤمنين أن يأتموا بهؤلاء الربيين فيؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة كما آتاهم، ويحبهم لإحسانهم كما أحبهم لذلك.
3. حكى الله من فعلهم وقولهم ما للمؤمنين أن يعتبروا به ويجعلوه شعارا لهم حتى لا يبتلوا بما ابتلوا به يوم أحد من الفعل والقول غير المرضيين لله تعالى وحتى يجمع الله لهم ثواب الدنيا والآخرة كما جمع لأولئك الربيين.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/41.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ قُرئ: ﴿قَاتَلَ﴾ وقرئ: ﴿قُتِلَ﴾ بالمبني للمجهول، والجمع بين القراءتين: أنه ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ فقتل منهم بعضهم ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ لأن قراءة ﴿قَاتَلَ﴾ تدل على أن الربيِينِ قاتلوا، وقوله: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ﴾ يدل على أنهم أصيبوا وقراءة ﴿قُتِلَ﴾ بالمبنى للمجهول تدل على أنهم مجاهدون معه أصيبوا، فمؤدى القراءتين واحد.
2. نسبة القتل إلى جملتهم والمقتول بعضهم تنزيل لهم منزلة الجسد الواحد، ونظيره: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾، وجواب آخر: وهو أن قوله: ﴿قُتِل مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ لا يدل على قتل الربيين كلهم؛ لأنه نكرة في الإثبات، وعود الضمير إليهم بقوله تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ﴾ أي فما وهن الربيون الباقون لما أصابهم من قتل إخوانهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ [الأنعام:60] وقول الشاعر:
çتنفك تسمع ما حييـ... ـت بهالك حتى تكونهé
فقوله: (حتى تكونه) معناه: حتى تكون هالكاً، ولا يلزم أنه الهالك الأول بعينه؛ لأن الأول كان في حياة المخَاطَب سمع بهلكه، ولا يصح أن يقول: حتى تكون الهالك الذي سمعت به.
3. الربيون: الربانيون وقد مر، وأما على قراءة: ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ فلا إشكال أي فما وهنوا لما أصابهم من مصيبة في الجهاد، ولو كانت في نبيئهم.
4. ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ يفيد: أن بقاء قوتهم وصلابتهم من أجل أن المصيبة أصابتهم في سبيل الله، وهم قد بذلوا أنفسهم لله، فما أصابهم في سبيل الله فلهم فيه عوض كبير، ويفيدهم الصبر عليه أجراً بغير حساب، فعلمهم بذلك يهّون عليهم ما أصابهم في سبيل الله، فلا يوهنهم.
5. معنى ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ التكثير، مثل: كم، فكأنه قيل: وكم من نبي ﴿وَمَا ضَعُفُوا﴾ عن جهاد العدو ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ ما ذلوا وخشعوا، فضد الوهن الصلابة، وضد الضعف القوة، وضد الاستكانة العزة واستشعارها ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ ومنهم المذكورون، لأن وصفهم هذا يفيد صبرهم.
6. ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾ حين أصيبوا إلاّ أن استغفروا الله خوفاً أن يكونوا أصيبوا بسبب ذنوب لهم، فحملهم ذلك على الاستغفار.
7. الإسراف: تجاوز الحد، وقولهم: ﴿فِي أَمْرِنَا﴾ لعله بمعنى: أغراضنا وحاجتنا، والإسراف فيها: تجاوز الحد اللائق بهم في الاشتغال بها عن ذكر الله وعبادته، وحاصله: أنهم خافوا أن يكونوا قد مالوا إلى الدنيا في بعض الأمور فاستغفروا لذلك، وأما تفسيره بالإسراف في المعاصي فبعيد؛ لأنهم لو أرادوا ذلك قالوا: (وإسرافنا فيها) أي في الذنوب، أو: ﴿وَإِسْرَافَنَا﴾ من دون أن يقولوا: ﴿فِي أَمْرِنَا﴾ فلما قالوا: ﴿فِي أَمْرِنَا﴾ ظهر: أن الإسراف هنا مجاوزة الحد في عمل الدنيا لأغراضهم فيها وطلبوا تثبيت أقدامهم في القتال، وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية: (تِد في الأرض قدمك) ومعنى طلب تثبيت الأقدام طلب الإعانة على الثبات في الجهاد، ويقابل ثبات القدم: زللها المؤدي إلى السقوط والتعرض به للقتل، ويحتمل أن يقابله ـ أيضاً ـ الفرار، لكنه مجاز كقوله تعالى: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ [النحل:94]
8. وَدَعَوا الله أن ينصرهم ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ الذين هم أعداء الله، فهذا آداب الجهاد، حكاها الله عنهم لنستفيدها لأنفسنا:
أ. الأول: التطهر من الذنوب بالاستغفار عند لقاء العدوّ، ومن المهم قبل ذلك التخلص من المظالم، وما يمنع قبول الاستغفار.
ب. الثاني: الدعاء بالمعونة والتثبيت للأقدام.
ج. الثالث: الدعاء بالنصر على أعداء الله، من حيث أنهم كفار أعداء لله ولدينه.
9. ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ ثواب الدنيا النصر والفتح وما يتبعهما، كقوله تعالى: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ [الصف:13] وقد فسر ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ بالنصر والغنيمة، ولكن في حديث (المجموع): عن الإمام زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: أعطيت ثلاثاً لم يعطهن نبي قبلي) إلى قوله : (وأحل لي المغنم ولم يحل لأحد قبلي) إلى آخر الحديث.
10. ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ أي وثواب الآخرة الحسن، كقول عنترة: (يقضمن حُسنَ بنانه والمعصم)، ويحتمل: أن الثواب هو ما يثوبون إليه وحسنه ظاهر، فإتيانهم حسن الثواب مثل إتيانهم حسن المئاب، أي جعل مئآبهم حسناً، وجعل ثوابهم حسناً؛ لأنه سعادتهم في الآخرة.
11. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ ومنهم أهل الصفات المذكورة، فالله يحبهم؛ لأنهم صابرون، والله يحبهم لأنهم محسنون ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين:26]
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/548.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يطلق الله تعالى الحديث في تاريخ النبوّات السابقة ليربط تجربة الحاضر بتجربة الماضي، وليثير أمام جيل التجربة الجديدة ما يبعث فيهم روحا حيّة متحركة تثير فيهم قوّة الاندفاع والحركة.. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ فقد كان لكل واحد من الأنبياء ربيّون، وهم الجماعات الكاملة في العلم والعمل ـ كما قيل ـ
2. ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ أي ضعفوا داخليا وانهزموا نفسيا، ﴿لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ أي: استسلموا للعدو في ذلة وانكسار، بل صبروا في مواقع الجهاد على الآلام والضغوط والمشاكل والتحديات.
3. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ فلما ذا لا تصبرون مثلهم!؟ وكانت روحيتهم صافية منفتحة على الله؛ فإذا شعروا في داخل ذواتهم بالجفاف والقسوة ورأوا أن خطواتهم بدأت تنحرف عن الطريق بفعل الأجواء الخانقة المحيطة بهم، جلسوا بين يدي الله في مناجاة روحيّة خاشعة: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ فقد تجاوزنا الحدود المرسومة لنا من قبل رسلك وابتعدنا عن الطريق طويلا، وبدأت الأرض تهتز من تحت أقدامنا لتزلزل أقدمنا في زلزال الكفر والانحراف، ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ في مواقع الزلل ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ عندما نجاهد في سبيلك، فإننا لا نطلب النصر إلّا منك بتأييدك وعونك ونصرك.
4. واستجاب الله لهم هذا الدعاء الذي يجمع للإنسان ثواب الدنيا والآخرة: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ الذين يعملون له عندما يعملون، ويتوكلون عليه عندما يجاهدون.
5. تلك هي الصورة في مجتمع النبوّات السابقة، وتلك هي الصورة التي يريد الله للمجتمع المسلم أن يستعيدها في نفسه عندما تضيق به الأمور، وتحيق به الهزائم، وتجتمع في آفاقه الأزمات، وتتضافر عليه قوى الشر.. فيسأل الله الفرج حيث لا فرج، والمدد حيث لا مدد؛ فتسكن النفس، ويرتاح اللب، وتثبت الأقدام، وينفتح للحياة على الله درب طويل لا نهاية له، تخضرّ فيه أرواح، وتنبت فيه كل الجنائن الروحيّة التي يزهر فيها الورد، وتتفتح فيها براعم الرياحين.. ويبدأ الإنسان حياته الجديدة الآمنة المطمئنة في آفاق الله.
6. إن الله تحدث عن الصابرين، في قوله: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ من موقع التعبير عن الحب الإلهي للمجاهدين الصابرين الذين عاشوا الصبر في خط الجهاد، باعتباره العمق الروحي الذي يؤكد الثبات في الموقف من خلال تحمّل الآلام القاسية ومواجهة التحديات الكبرى، مما يوحي بأن الإنسان يقف في مثل هذا الموقف ويعاني كل هذه المعاناة حبّا بالله ورسوله، بحيث يعيش الفرح الروحي في داخل نفسه لأن الله يراه فيهون عليه كل شيء أمام ذلك، وهذا هو الذي يقوّي إرادة التقوي في الإنسان، ويحرّك قدرته في اتجاه الأهداف، لأن الإنسان كلما ازداد حبا لله كلما ازداد صبرا، وكلما ازداد صبرا كلما ازداد قوّة وثباتا، فيتحول إلى أن يكون إنسان الله الذي يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه في الأعمال والحياة والإنسان، فيبادله الله حبا بحب، وتلك هي السعادة الكبرى التي ليس فوقها سعادة، والغنيمة التي لا تساويها غنيمة، أن يحصل الإنسان على حب الله، فتفيض عليه الرحمة بكل فيوضاتها، ويحوطه اللطف الإلهي بكل رعايته.
7. إن الله تحدث بكلمة (الحب) عن المحسنين في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، هؤلاء الذين عاشوا معنى الإحسان في أفكارهم فكرا يقدم الإحسان إلى الناس الذين يبحثون عن الحلول الفكرية لمشاكلهم العامة، وعملا يقدمه إلى الناس ليحسن إلى حياتهم الباحثة عن قوّة لضعفها، وغنّى لفقرها، وحيوية لحركتيها؛ فيرفع بذلك مستواهم، ويحقق لهم الكثير من الخير في جميع أمورهم وأوضاعهم، وهؤلاء الذين عاشوا الإحسان لأنفسهم إيمانا في الروح، وعقيدة في العقل، واستقامة في الطريق، وثباتا في الخطى، وتقوّى في العمل، وانفتاحا على الله في آفاق الغيب، وجهادا في ساحة الصراع، وقوة في مواجهة التحديات، وإخلاصا للرسالة وللرسول، وحبا لعباد الله.. وهذا هو الذي يمثل ارتباطهم بالله وحركتهم نحو القرب منه، فيراهم الله في مواقع الإحسان لأنفسهم وللناس وللحياة، من خلال محبتهم له وإقبالهم عليه، فيمنحهم ـ بذلك ـ حبّا إلهيّا ليغرقهم في السعادة، ويغمرهم بالنعيم، ويسير بهم نحو درجات القرب عنده.
8. إن الله حدثنا أنه لا يكتفي بثواب الآخرة جزاء للصابرين من عباده، الثابتين في مواقع رضاه، المحسنين في أقوالهم وأفعالهم، بل يضيف إليه ثواب الدنيا بما يسبغه عليهم من نعمه ويتفضل عليهم بآلائه، ليتحسسوا في الدنيا ثواب أعمالهم في دلالته على رضوان الله، وليكون انتظارهم لثواب الآخرة من موقع الثقة بأن الله استجاب لهم دعواتهم وتقبّل أعالمهم ورضي عنهم، فكانوا المرضيّين عنده الراضين عنه، وتلك هي النعمة الكبرى التي تمتد من الدنيا إلى الآخرة.
9. هكذا نجد من خلال هذه الملاحظات الثلاث أن الله يريد أن يعمّق في شخصية الصابرين إرادة الصبر، وفي وجدان المحسنين روح الإحسان من خلال الإعلان عن الحب الإلهي لهم، ليستمتعوا بهذا الحب في وجودهم الإيماني الروحي الذي يحلّق في آفاق الله بكل سعادة وغبطة وانفتاح، ثم استثارة الرغبة الإنسانية الذاتية الغريزية في طلب التعويض عما يقدمه الإنسان من جهد أو موقف أو عمل، وذلك بالحديث عما ينتظرهم من الثواب العظيم في الدنيا والآخرة، ليتحركوا في اتجاه قيمة الصبر وروحية الإحسان، من موقع الروح من جهة، ومن موقع المادة من جهة أخرى.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/301.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد استعراض حوادث معركة (أحد) في الآيات السابقة، جاءت الآيات الحاضرة لتحث المسلمين على التضحية والثبات وتشجعهم وتثبتهم بذكر تضحيات من سبقوهم من أصحاب الرسل الماضين وأتباعهم المؤمنين الصادقين الأبطال، وتوبخ ضمنا أولئك الذين فروا في (أحد) وحدثوا أنفسهم بما حدثوا إذ يقول سبحانه في الآية الأولى من هذه الآيات: ﴿كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فأنصار الأنبياء إذا واجهوا المصاعب والجراحات والشدائد في قتالهم الأعداء لم يشعروا بالضعف والهوان أبدا، ولم يخضعوا للعدو أو يستسلموا له، ومن البديهي أن الله تعالى يحب مثل هؤلاء الأشخاص الذين يثبتون ويصبرون في القتال ﴿وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
2. فهؤلاء عندما كانوا يواجهون المشاكل بسبب بعض الأخطاء أو العثرات وعدم الانضباط لم يفكروا في الاستسلام للأمر الواقع، أو يحدثوا أنفسهم بالفرار أو الارتداد عن الدين والعقيدة بل كانوا يتضرعون إلى الله يطلبون منه الصبر والثبات، والعون والمدد ويقولون: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
3. إنهم بمثل هذا التفكر الصحيح والعمل الصالح كانوا يحصلون على ثوابهم دون تأخير، وهو ثواب مزدوج، أما في الدنيا فالنصر والفتح، وأما في الآخرة فما أعد الله للمؤمنين المجاهدين الصادقين: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾
4. ثمّ إنه سبحانه يعد هؤلاء ـ في نهاية هذه الآية ـ من المحسنين إذ يقول: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وبهذا النحو يبين القرآن درسا حيا للمسلمين الحديثي العهد بالإسلام، من حياة الأمم السابقة وسلوكهم مع أنبيائهم، وكيفية تعاملهم مع المشكلات الطارئة، وكيفية التغلب عليها، وهو درس من شأنه أن يربيهم ويعدّهم للحوادث المستقبلة، والمعارك القادمة.
5. الصبر ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ يعني الثبات والصمود، ولهذا جاء في هذه الآية في مقابل (الضعف والاستكانة) كما ويدل على ذلك كون الصابرين في رديف المحسنين إذ قال في الآية الأولى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ وقال في الآية الثالثة ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وهو إشعار بأن الإحسان لا يمكن إلّا بالثبات والصمود والصبر، لأن المحسن تواجهه آلاف المشاكل، فإذا لم يكن مزودا بالصمود والصبر والثبات والاستقامة لم يمكنه الاستمرار في عمله، بل سرعان ما يتركه في خضم المشكلات.
6. إن المجاهدين الحقيقيين هم الذين لا ينسبون الهزيمة إلى غيرهم، أو يسندونها إلى عوامل وأسباب خيالية ووهمية، بل يبحثون عنها في نفوسهم وذواتهم، ويحاولون ـ بصدق ـ التخلص منها من خلال تصحيح الأخطاء، وترميم الثغرات، بل لا يتلفظون بكلمة الهزيمة، إنما يعبرون عنها بالإسراف، والإفراط غير المبرر، تماما على العكس منا اليوم حيث نسعى غالبا لأن نتجاهل هزائمنا بالمرة، وأن ننسبها إلى عوامل خارجية لا تمت إلى ذواتنا بصلة، ولا ترتبط بسلوكنا وأفكارنا، ولهذا فإننا لا نفكر في إصلاح الأخطاء، وإزالة نقاط ضعفنا.
7. لقد عبرت الآية الثالثة عن الجزاء الدنيوي بثواب الدنيا، ولكنها عبرت عن الجزاء الأخروي بحسن ثواب الآخرة، وهذه إشارة إلى أن ثواب الآخرة يختلف عن ثواب الدنيا اختلافا كليا، لأن ثواب الدنيا مهما يكن فهو ممزوج بالفناء والعدم، ويقترن ببعض المنغصات والمكروهات الذي هو من طبيعة الحياة الدنيا، في حين أن ثواب الآخرة حسن كلّه، إنه خير خالص لا فناء فيه ولا عناء، ولا انقطاع فيه ولا انتهاء، ولا كدورات فيه ولا منغصات، ولا متاعب ولا مزعجات.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/724.
77. طاعة الكافرين والخسارة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈77⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 149 ـ 150]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، يعني: المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٨٣.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، يعني: اليهود(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٣٢٤.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إن تطيعوا أبا سفيان بن حرب يردكم كفارا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٢٥.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم، ولا تصدقوهم بشيء في دينكم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٢٥.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، يعني: المنافقين، في الرجوع إلى أبي سفيان(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ كفارا بعد الإيمان؛ ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ إلى دينكم الأول(1).
3. روي أنّه قال: وأنزل الله تعالى في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم فادخلوا في دينهم، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٦.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ عن دينكم، فتذهب دنياكم وآخرتكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ﴾ إن كان ما تقولون بألسنتكم صدقا في قلوبكم، ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ أي: فاعتصموا به، ولا تستنصروا بغيره، ولا ترجعوا على أعقابكم مرتدين عن دينكم(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٢٥.
(2) ابن جرير: ٦/١٢٦.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل الطاعة لهم: طاعة الدين، أي: يطيعونهم في كفرهم.
ب. ويحتمل: الطاعة لهم في ترك الجهاد مع عدوهم؛ كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً﴾ الآية.
2. ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ قد ذكرنا، أي: يردوكم على دينكم الأول، وهو على التمثيل والكناية، ﴿بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ﴾ أي: أولى بكم، أو ناصركم، أو حافظكم، أو وليكم، ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ أي: خير من ينصر من نصره؛ فلا يغلب، كقوله: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ [آل عمران: 160]
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/505.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا خطاب للمؤمنين حذرهم الله من أن يطيعوا الكفار، وبين أنهم إن أطاعوهم ردوهم كافرين، وفي المعني بـ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال الحسن، وابن جريج إنهم اليهود، والنصاري أي إن تستنصحوهم وتقبلوا رأيهم يردوكم خاسرين.
ب. وقال السدي: أراد إن تطيعوا أبا سفيان وأصحابه يرجعوكم كافرين.
2. الطاعة موافقة الارادة المرغبة في الفعل، وبالترغيب ينفصل من الاجابة، وإن كان موافقة الارادة حاصلة، وفي الناس من قال: الطاعة هي موافقة الأمر، والاول أصح، لأن من فعل ما يقتضي العقل وجوبه أو حسنه يقال: إنه مطيع لله، وان لم يكن هناك أمر على أن من امتثل الأمر إنما سمي مطيعاً لموافقة الارادة المرغبة من حيث أن الأمر لا يكون أمراً إلا بإرادة المأمور به، والطاعة تكون بمتابعة الواجب والندب معاً، لأن الارادة تتناولهما.
3. ﴿إِنْ تُطِيعُوا﴾ جزم بأنه شرط، وقوله: ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ جزم بأنه جواب الشرط، وقوله: ﴿فَتَنْقَلِبُوا﴾ جزم بالعطف عليه، وقوله: ﴿خَاسِرِينَ﴾ نصب على الحال، وقوله: ﴿بَلِ اللَّهُ﴾، فحقيقة (بل) الاضراب عن الأول إلى الثاني سواء كانا موجبين أو نفيين أو إحداهما موجباً والآخر نفياً تقول: جاء زيد بل عمرو، وما جاء زيد بل عمرو لم يجئ، وما أتى زيد بل خالد.
4. سؤال وإشكال: كيف عطف ببل وهي لا تشرك الثاني مع الأول في المعنى؟ والجواب: لأن الاضراب عن الاول كالبدل، ولذلك وجب العطف بالاشراك في الاعراب كما يجب في البدل غير أن البدل لم يحتج إلى حرف، لأن الثاني هو الأول أو في تقدير ما هو ك الأول، و(لكن) للاستدراك أيضاً، وهو يقتضي نفياً إما متقدماً أو متأخراً كقولك ما جاءني زيد، لكن عمرو، وجاء زيد لكن عمرو لم يأت، وبهذا فارقت بل، وقوله: (بل الله) كان يجوز النصب في (الله) قال الفراء: على معنى أطيعوا الله مولاكم، لأن قبله ﴿إِنْ تُطِيعُوا﴾ ثم أضرب عن الأول وأوجب الثاني بل أطيعوا الله ﴿مَوْلَاكُمْ﴾، والرفع يحتمل أن يكون على الابتداء ومولاكم خبره، ويحتمل أن يكون مولاكم مبتدأ، و(الله) خبره، وقد قدم عليه.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَوْلَاكُمْ﴾:
أ. قيل: أي هو أولى بطاعتكم ونصرتكم.
ب. وقيل: معناه وليكم بالنصرة بدلالة قوله: ﴿هُوَخَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ والأصل فيه، ولي الشيء الشيء من غير فصل بينه وبينه، فالولاية إيلاء النصرة، ويجوز لأنه يتولى فعل النصرة، وان لم يكله إلى غيره، لأن من فعل شيئاً فقد تولى فعله.
6. سؤال وإشكال: كيف قال ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ مع أنه لا يعتد بنصر غير الله مع نصرته؟ والجواب: معناه إنه ان اعتد بنصرة غير الله فنصرة الله خير منها، لأنه لا يجوز أن يغلب، وغيره يجوز أن يغلب، وان نصر فالثقة بنصرة الله تحصل، ولا تحصل بنصرة غيره.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/15.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الانقلاب: الانصراف عن الشيء، انقلب ينقلب انقلابًا، والخسران: هلاك رأس المال.
ب. ﴿بَلْ﴾ للإضراب عن الأول والإيجاب للثاني مُوجَبَيْنِ كانا أو مَنْفِيَّيْنِ، أو كان أحدهما موجبًا والآخر منفيًا، ولكن لنفي متقدم أو متأخر، كقولك: ما جاءني زيد لكن عمرو، وجاءني زيد لكن عمرو، فعمرو لم يأت، وتقول في ﴿بَلْ﴾: جاء زيد بل عمرو، وما جاء زيد بل عمرو، وقيل: يوجب العطف بالاشتراك، في الإعراب؛ لأن الإضراب عن الأول إلى الثاني كالبدل، فكما يجب الاشتراك في الإعراب في البدل كذلك، ههنا.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في اليهود والنصارى وكانوا يثبطون أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الحرب، عن أبي علي.
ب. وقيل: نزلت في المنافقين لما قالوا يوم أحد: ارجعوا إلى إخوانكم، وارجعوا في دينهم، عن علي.
3. لما أمر تعالى فيما تقدم بالجهاد وحث عليه أمر بترك الائتمار لمن يثبطهم عن ذلك، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خطاب للمؤمنين ﴿إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾:
أ. قيل: أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن تستنصحوهم وتقبلوا رأيهم يردوكم خاسرين عن الحسن وابن جريج.
ب. وقيل: إن تطيعوا أبا سفيان وأصحابه يردوكم كفارًا عن السدي.
ج. وقيل: المنافقين.
4. ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي يرجعوكم كفارًا كما كنتم ﴿فَتَنْقَلِبُوا﴾ ترجعوا ﴿خَاسِرِينَ﴾ لأنفسكم، ولا خسران أعظم ممن بدل الكفر بالإيمان والجنة بالنار.
5. اختلفوا فيما نهي عن قبوله:
أ. قيل: فيما يأمرونهم من الضلالة.
ب. وقيل: فيما يشاورونهم فيه.
ج. وقيل: في ترك الحرب لأجل تثبيطهم عن أبي علي.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾:
أ. ﴿بَلِ اللهُ﴾ قيل: أطيعوا الله ﴿مَوْلَاكُمْ﴾ وقيل: الله مولاكم وناصركم فأطيعوه ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ وذكر خير الناصرين وإن كان نَصْرُ غَيْرِه لا يعتد به مع نصره لإظهار الحجة، أي وإن اعتُدَّ به فهو خير ناصر.
ب. وقيل: اعتصموا به ولا تستنصروا غيره.
ج. وقيل: بل الله يعصمكم من كيدهم فنصره خير لكم.
7. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أنه يريد نصر المؤمنين.
ب. أن النصر يكون من غير الله وإن كان لنصرته مزية على نصرة غيره، من حيث يصير وجوده وعدمه سواء مع نضرته تعالى، وكل ذلك حث على الانقطاع إليه تعالى في جميع أحواله والتوكل عليه، فإن نصر غيره لا ينفع مع نصرته.
ج. أن فعل الطاعة من جهتهم ليصح قوله: ﴿إِنْ تُطِيعُوا﴾ وتنقلبوا، ولو كان خلقًا له تعالى لما كان للكلام وجه، وكان ينبغي أنْ يقال: إن خلقت فيكم طاعتهم رددتكم عن الإيمان، تعالى الله عن قولهم، فمن هذا الوجه يبطل قول الْمُجْبِرَة في المخلوق مع الاستطاعة والإرادة.
8. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿فَتَنْقَلِبُوا﴾ جزم بالفاء عطفًا على ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾
ب. ﴿وَاللهُ﴾ رفع على الخبر بما ينافي الأول، فلذلك صح الإضراب عنه إلى الثاني، قال الفراء: ويجوز النصب على الأمر بمعنى أطيعوا الله مولاكم، وذلك لأن ما قبله ﴿إِنْ تُطِيعُوا﴾، ثم قيل: على الإضراب عن الأول، والإيجاب للثاني، بل أطيعوا الله.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/412.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الطاعة: موافقة الإرادة المرغبة في الفعل، وبالترغيب ينفصل عن الإجابة، وإن كان موافقة الإرادة حاصلة، وفي الناس من قال: الطاعة هي موافقة الأمر، والأول أصح، لأن من فعل ما يقتضي العقل وجوبه أو حسنه كان مطيعا لله، وإن لم يكن هناك أمر.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في المنافقين، إذ قالوا للمؤمنين يوم أحد عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم، وارجعوا إلى دينهم، عن علي عليه السلام.
ب. وقيل: هم اليهود والنصارى، عن الحسن وابن جريج.
3. ثم أمر سبحانه بترك الإئتمار لمن ثبطهم عن الجهاد من الكفار وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا الله ورسوله ﴿إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: إن أصغيتم إلى قول اليهود والمنافقين أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم قتل، فارجعوا إلى عشائركم.
4. ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي: يرجعوكم كفارا كما كنتم ﴿فَتَنْقَلِبُوا﴾ أي: ترجعوا ﴿خَاسِرِينَ﴾ لأنفسكم، فلا خسران أعظم من أن تبدلوا الكفر بالإيمان، والنار بالجنة.
5. ﴿بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ﴾ أي: لهو أولى بأن تطيعوه، وهو أولى بنصرتكم ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ إنما قال ذلك، وإن كان نصر غيره لا يعتد به مع نصره، استظهارا في الحجة أي: إن اعتد بنصرة غيره، فهو خير ناصر، لأنه لا يجوز أن يغلب، وغيره يجوز أن يغلب، وإن نصر فهو الناصر في الحقيقة، إن شاء أمدكم بأهل الأرض، وإن شاء نصركم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائكم.
6. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾: جزم لأنه جواب الشرط، ﴿فَتَنْقَلِبُوا﴾: عطف عليه.
ب. ﴿خَاسِرِينَ﴾: نصب على الحال.
ج. ﴿بَلْ﴾: حقيقته الإضراب عن الأول إلى الثاني.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/856.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، قال ابن عباس: نزلت في قول ابن أبيّ للمسلمين لمّا رجعوا من أحد: لو كان نبيّا ما أصابه الذي أصابه، وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنهم المنافقون، على قول ابن عباس، ومقاتل.
ب. الثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن جريج.
ج. الثالث: أنهم عبدة الأوثان، قاله السّدّيّ، قالوا: وكانوا قد أمروا المسلمين بالرّجوع عن دينهم.
2. ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾: يصرفوكم إلى الشّرك، ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ بالعقوبة، ﴿بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ﴾ أي: وليّكم ينصركم عليهم، فاستغنوا عن موالاة الكفّار.
__________
(1) زاد المسير: 1/333.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية من تمام الكلام الأول، وذلك لأن الكفار لما أرجفوا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، ودعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر، منع الله المسلمين بهذه الآية عن الالتفات إلى كلام أولئك المنافقين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
2. ﴿إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قيل: المراد أبو سفيان، فإنه كان كبير القوم في ذلك اليوم، قال السدي: المراد أبو سفيان لأنه كان شجرة الفتن، وقال آخرون: المراد عبد الله بن أبي وأتباعه من المنافقين، وهم الذين ألقوا الشبهات في قلوب الضعفة وقالوا لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة، وإنما هو رجل كسائر الناس، يوماً له ويوماً عليه، فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم فيه، وقال آخرون: المراد اليهود لأنه كان بالمدينة قوم من اليهود، وكانوا يلقون الشبهة في قلوب المسلمين، ولا سيما عند وقوع هذه الواقعة، والأقرب أنه يتناول كل الكفار، لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ.
3. ﴿إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لا يمكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه بل لا بد من التخصيص:
أ. فقيل: إن تطيعوهم فيما أمروكم به يوم أحد من ترك الإسلام.
ب. وقيل: إن تطيعوهم في كل ما يأمرونكم من الضلال.
ج. وقيل: في المشورة.
د. وقيل: في ترك المحاربة وهو قولهم: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران: 156]
4. ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ يعني يردوكم إلى الكفر بعد الإيمان، لأن قبول قولهم في الدعوة إلى الكفر كفر.
5. ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ اللفظ لما كان عاما وجب أن يدخل فيه خسران الدنيا والآخرة، أما خسران الدنيا فلأن أشق الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد للعدو والتذلل له وإظهار الحاجة اليه، وأما خسران الآخرة فالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد.
6. ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا جهل، لأنهم عاجزون متحيرون، والعاقل يطلب النصرة من الله تعالى، لأنه هو الذي ينصركم على العدو ويدفع عنكم كيده، ثم بين أنه خير الناصرين، ولو لم يكن المراد بقوله: ﴿مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ النصرة، لم يصح أن يتبعه بهذا القول، وإنما كان تعالى خير الناصرين لوجوه:
أ. الأول: أنه تعالى هو القادر على نصرتك في كل ما تريد، والعالم الذي لا يخفى عليه دعاؤك وتضرعك، والكريم الذي لا يبخل في جوده، ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه.
ب. الثاني: أنه ينصرك في الدنيا والآخرة، وغيره ليس كذلك.
ج. الثالث: أنه ينصرك قبل سؤالك ومعرفتك بالحاجة، كما قال: ﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [الأنبياء: 42] وغيره ليس كذلك.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ ظاهره يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصرين وهو منزه عن ذلك، لكنه ورد الكلام على حسب تعارفهم كقوله: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: 27]
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/384.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أمر الله تعالى بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء حذر طاعة الكافرين، يعني مشركي العرب: أبا سفيان وأصحابه وقيل: اليهود والنصارى، وقال علي: يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى دين آبائكم.
2. ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي إلى الكفر، ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ أي فترجعوا مغبونين.
3. ﴿بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ﴾ أي متولي نصركم وحفظكم إن أطعتموه، وقرى ﴿بَلِ اللهُ﴾ بالنصب، على تقدير بل وأطيعوا الله مولاكم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/233.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أمر الله سبحانه بالاقتداء بمن تقدّم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار، وهم مشركو العرب؛ وقيل: اليهود والنصارى؛ وقيل: المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى دين آبائكم.
2. ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي: يخرجونكم من دين الإسلام إلى الكفر ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ أي: ترجعوا مغبونين.
3. ﴿بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ﴾ إضراب عن مفهوم الجملة الأولى، أي: إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم، ولا ينصروكم، بل الله ناصركم، لا غيره؛ وقرئ: (بل الله) بالنصب، على تقدير: بل أطيعوا الله.
4. ﴿سَنُلْقِي﴾ قرأ السختياني: بالياء التحتية، وقرأ الباقون: بالنون، وقرأ ابن عامر والكسائي: ﴿الرُّعْبَ﴾ بضم العين، وقرأ الباقون بالسكون وهما لغتان، يقال: رعبته رعبا ورعبا فهو مرعوب، ويجوز أن يكون مصدرا، والرعب بالضم: الاسم، وأصله: الملء، يقال: سيل راعب، أي: يملأ الوادي، ورعبت الحوض: ملأته، فالمعنى: سنملأ قلوب الكافرين رعبا، أي: خوفا وفزعا، والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام، ومجازا في غيرها كهذه الآية، وذلك أن المشركين بعد وقعة أحد ندموا أن لا يكونوا استأصلوا المسلمين، وقالوا: بئسما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، حتى رجعوا عما هموا به ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ﴾ متعلق بقوله:
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/446.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. نزل في قول المنافقين للمؤمنين في هزيمة أحد: اِرجعوا إلى الشرك، وفي النزول على حكم أهل الشرك مطلقًا، وفي طلب المؤمنين الضعفاء ابن أُبي أن يأخذ لهم الأمان من أبي سفيان قوله تعالى : ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ تهتمُّوا بطاعتهم، أو تصمِّموا عليها، وذلك غير الردِّ على الأعقاب فلم يتَّحد الشرط والجواب، وأيضا قد تعتبر المخالفة باعتبار الخسارة من الجواب، وهي ضرُّ الدنيا والآخرة، وهي غير الإطاعة، هم هؤلاء المنافقون القائلون للمؤمنين: ارجعوا إلى الشرك وإلى إخوانكم، وطاعة الذين كفروا شاملة للنزول على حكم أبي سفيان بالأمان، فهو وأصحابه داخلون في الذين كفروا، وقيل: اليهود والنصارى إذ يقولون: (لو كان محمَّد رسولا لم يُغلب)، وقيل: الكفَّار مطلقا.
2. ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَىآ أَعْقَابِكُمْ﴾ أي: الشرك بعد كونهم في التوحيد، كما يُردُّ ماش إلى ورائه، فمحطُّ الكلام في تشبيه الرجوع إلى الشرك المحض الصريح من المنافقين المضمِرِين للشرك بالمشي إلى الوراء، مجاراةً على ظاهرهم، وإنْ خوطب مَن ضَعُفَ إيمانُه فمحطُّ الكلام في الردِّ إلى الشرك هكذا، وهو أنسب، بقوله: ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾، وبقوله: ﴿فَتَنقَلِبُواْ﴾ ترجعوا إلى باقي دنياكم وإلى آخرتكم، أو تنزلوا عن مراتبكم الدينيَّة المحقَّة، ﴿خَاسِرِينَ﴾ في الدنيا والآخرة، بأن تنزلوا منازل المسلمين في النار ومنازلكم، ويفوتكم منازلكم في الجنَّة وخيرها، فتكون للمؤمنين، وتذلُّوا في الدنيا وتكونوا تحت القهر، ومن أشقِّ الأشياء الإذعان للعدوِّ وإظهار الحاجة إليه.
3. ﴿بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ﴾ أي: لا يقدرون بعد هذه الوقعة على ضرِّكم، ولا نصر بأيديهم ينصرونكم إن أطعتموهم، بل الله وليُّ أمركم ونصركم، ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ فابقوا على الإسلام والأنَفَة عن أهل الشرك، واختاروا نَصْرَ مَن نَصْرُهُ أقوى، ولا نصر من أحد إِلَّا بإذنه.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/27.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. حذرهم سبحانه، إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء المفضي لسعادة الدارين، من طاعة عدوهم، وأخبر أنه إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة، وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذي أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أحد، بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي إلى الشرك، والارتداد على العقب علم في انتكاس الأمر، ومثل في الحور بعد الكور ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ لدين الإسلام ولمحبة الله ورضوانه وثوابه الدنيويّ والأخرويّ، فلا تعتقدوا أنهم يوالونكم كما توالونهم، قال بعض المفسرين: ثمرة الآية الدلالة على أن على المؤمنين أن لا ينزلوا على حكم الكفار ولا يطيعوهم ولا يقبلوا مشورتهم خشية أن يستنزلوهم عن دينهم.
2. ﴿بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ﴾ فأطيعوه ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ ينصركم خيرا من نصرهم لو نصروكم، وكيف لا يكون خير الناصرين وهو ينصركم بغير قتال، كما وعد بقوله: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/427.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ معناه إن تطيعوا الذين جحدوا نبوة محمد ولم يقبلوا دعوته إلى التوحيد والخير كأبي سفيان ومن معه من مشركي مكة الذين دعاكم مرضى القلوب إلى الرجوع إليهم وتوسيط رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بينكم وبين رئيسهم (أبي سفيان) ليطلب لكم منه الأمان، أو الذين كفروا بقلوبهم وآمنوا بأفواههم كعبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوكم قبل الشروع في الحرب ثم دعوكم بعدها إلى الرجوع إلى دينكم، وقالوا لو كان محمد نبينا لما أصابه ما أصابه.
2. ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ إلى ما كنتم عليه من الكفر ابتداء أو استدراجا، قال محمد عبده: أي إن طلبتم الأمان منهم وكانت حالكم معهم حال المغلوب من الغالب يتولوا عليكم وتكونوا معهم أذلاء مقهورين حتى يردوكم عن دينكم ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ للدنيا والآخرة:
أ. أما الأول فبخضوعكم لسلطانهم وامتهانكم بينهم وحرمانهم مما وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات من استخلافهم في الأرض بالسيادة والملك ومن تمكين دينهم وتبديلهم من بعد خوفهم أمنا.
ب. وأما الآخر فبما يمسكم في الآخرة من عذاب المرتدين مع الحرمان مما وعد الله المتقين.
3. ذكر بعضهم لليهود والنصارى في تفسير هذه الآية لا مناسبة له وقد تبعوا فيه ما روي عن الحسن وابن جريج، والمروي عن السدي أن المراد بالذين كفروا أبو سفيان ومن معه من المشركين، وعن علي أنهم عبد الله بن أبي وحزبه وهم الذين دعوا إلى الارتداد كما تقدم وأشرنا إليه آنفا.
4. قال بعض المفسرين: إن هذه الآيات التفات عن خطاب المنافقين الذين وبخهم في الآيات السابقة أن انهزموا وقالوا ما قالوا إلى خطاب المؤمنين الصادقين، وقال محمد عبده: الخطاب لمن سمع قول أولئك القائلين من المنافقين ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم وهو أخص مما قبله، والمختار على الطريقة التي جرينا عليها في تفسير الآيات السابقة أن الخطاب فيها عام وجه إلى كل من شهد أحد لتكافلهم وكل يعتبر بها بحسب حاله، ويدل عليه الآيات الآتية بعدها فإنها من تتمة الخطاب وفيها تفصيل لأعمالهم ونياتهم وعناية الله بهم مع تقسيمهم إلى مريد للدنيا ومريد للآخرة كما يأتي قريبا.
5. ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ﴾ لا ينبغي أن تفكروا في ولاية أبي سفيان وحزبه ولا عبد الله بن أبي وشيعته ولا أن تصغوا لإغواء من يدعوكم إلى موالاتكم فإنهم لا يستطيعون لكم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، وإنما الله هو المولى القادر على نصركم إذا هو تولى شوؤنكم بعنايته الخاصة التي وعدكم بها في قوله: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الأعراف: 39] وبين لكم أن سنته قد مضت بأنه يتولى الصالحين ويخذل من يناوؤهم من الكافرين ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 10 ـ 11]، ومن هنا أخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جوابه لأبي سفيان حين قال بعد وقعة أحد التي نزلت هذه الآيات فيها (لنا العزى ولا عزى لكم) إذ أمر صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يجاب (الله مولانا ولا مولى لكم)، كأنه تعالى يذكر المؤمنين بقوله هذا النبي عن سنته وبتذكير الرسول لهم به، وإذا كان هو مولاكم ناصركم إذا قمتم بما شرطه عليكم في ذلك من الإيمان والصلاح ونصر الحق، فهل تحتاجون إلى أحد من بعده؟
6. ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ فإن من يطلق عليهم لفظ الناصر من الناس إنما ينصر بعضهم بعضا بما أوتوا من القوى وما تيسر لهم من الأسباب، وإنما الله هو الذي آتاهم القوى وسخر لهم الأسباب، وهو القادر بذاته على نصر من شاء من عباده بإيتائهم أفضل ما يؤتي غيرهم من الصبر والثبات والعزيمة وإحكام الرأي وإقامة السنن والتوفيق للأسباب، هذا ما ظهر لنا، ويقول المفسرون في مثل هذه العبارة: اسم التفضيل (خير) فيها على غير بابه لأنه لا خير في أولئك الناصرين الذين يعرض بهم، قال محمد عبده: لا وجه للاعتراض بأن الكافرين لا خير فيهم، فإن التفضيل إنما هو بالنسبة إلى النصر يعني أن نصر الله لعباده المؤمنين خير من نصر الكافرين لمن ينصرونه من أوليائهم.
__________
(1) تفسير المنار: 4/176.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن رغب الله المؤمنين في الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل وعظيم الأثر وحسن العاقبة، نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوء مغبتها في دينهم ودنياهم، والخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين ـ ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم، فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ أي إن تطيعوا الذين جحدوا نبوة نبيكم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فتقبلوا رأيهم وتنتصحوهم فيما يزعمون أنهم لكم فيه ناصحون ـ يحملوكم على الردة بعد الإيمان والكفر بالله وآياته، ويرجعوكم عن إيمانكم ودينكم الذي هداكم الله له خاسرين للدنيا والآخرة، أما خسران الأولى فبخضوعكم لسلطانهم وذلتكم بينهم وحرمانكم من السعادة والملك والتمكين في الأرض كما وعد الله المؤمنين الصادقين ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾، وأما خسران الثانية فيما يصيبكم من العذاب الأبدي في النار وبئس القرار.
3. المراد بالذين كفروا: أبو سفيان لأنه كان شجرة الفتن، وقال آخرون المراد عبد الله ابن أبىّ وأتباعه من المنافقين الذين ألقوا الشبهات في قلوب الضعفة من المؤمنين، وقالوا: لو كان محمد رسول الله ما وقعت هذه الواقعة، وإنما هو رجل كسائر الناس يوم له ويوم عليه، فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم عليه، يردوكم على أعقابكم: أي يرجعوكم إلى الكفر بعد الإيمان.
4. ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ أي لا تفكروا في ولاية أبى سفيان وشيعته، ولا عبد الله بن أبىّ وحزبه، ولا تأبهوا لإغوائهم فإنهم لا يستطيعون لكم نصرا، وإنما الله هو الذي ينصركم بعنايته التي وعدكم بها في قوله: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ فقد جرت سنته أن يتولى الصالحين ويخذل الكافرين كما قال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾
__________
(1) تفسير المراغي: 4/96.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب، من الإيمان إلى الكفر؟ وأي ربح يتحقق بعد خسارة الإيمان؟
2. وإذا كان مبعث الميل إلى طاعة الذين كفروا هو رجاء الحماية والنصرة عندهم، فهو وهم، يضرب السياق صفحا عنه، ليذكرهم بحقيقة النصرة والحماية: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾، فهذه هي الجهة التي يطلب المؤمنون عندها الولاية، ويطلبون عندها النصرة، ومن كان الله مولاه، فما حاجته بولاية أحد من خلقه؟ ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد؟
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/492.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآيات يرى لله المؤمنين موقفهم من الكافرين، فيحذّرهم من أن يستمعوا إلى ما يتخرّصون به، وما يلقون إلى أسماع الناس من تعليقات خبيثة على معركة أحد، وما أصاب المسلمين فيها.. فإن الاستماع إلى هذه المقولات، والاطمئنان إلى قائليها يوهن إيمان المؤمنين، ويفسد عليهم أمرهم، فلا يلقون إلا الخذلان والخسران، ثم إذا استجاب المسلمون إلى ما دعاهم الله إليه من تجنب الكافرين والحذر منهم.. لفتهم الله سبحانه إليه، ودعاهم إلى الاعتصام به، والاعتزاز بالاعتماد عليه والثقة في نصره: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾
2. في قوله تعالى: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ دعوة من الله إلى المؤمنين أن يلوذوا به، فإنه سبحانه لم يؤاخذهم بما كسبوا، ولم يبعدهم عن حظيرة محبّته ورضوانه، فهو مولاهم، وهو الذي يثبّت أقدامهم، ويمنحهم النصر على عدوهم ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾، أما هؤلاء المشركون، الذين خيل إليهم أنهم كسبوا المعركة، وفرغوا من أمر الإسلام والمسلمين ـ فإن لهم يوما تتنكس فيه راية الشرك إلى الأبد، فيذلّ المشركون في هذه الدنيا، والنار مثوى لهم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/611.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ استئناف ابتدائي للانتقال من التّوبيخ واللوم والعتاب إلى التّحذير، ليتوسّل منه إلى معاودة التسلية، على ما حصل من الهزيمة، وفي ضمن ذلك كلّه، من الحقائق الحكمية والمواعظ الأخلاقية والعبر التّاريخية، ما لا يحصيه مريد إحصائه.
2. الطاعة تطلق على امتثال أمر الآمر وهو معروف، وعلى الدخول تحت حكم الغالب، فيقال طاعت قبيلة كذا وطوّع الجيش بلاد كذا.
3. ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ شائع في اصطلاح القرآن أن يراد به المشركون، واللفظ صالح بالوضع لكلّ كافر من مشرك وكتابي، مظهر أو منافق.
4. الردّ على الأعقاب: الارتداد، والانقلاب: الرجوع، وقد تقدّم القول فيهما عند قوله: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: 144]
5. الظاهر أنّه أراد من هذا الكلام تحذير المؤمنين من أن يخامرهم خاطر الدخول في صلح المشركين وأمانهم، لأنّ في ذلك إظهار الضّعف أمامهم، والحاجة إليهم، فإذا مالوا إليهم استدرجوهم رويدا رويدا، بإظهار عدم كراهية دينهم المخالف لهم، حتّى يردّوهم عن دينهم لأنّهم لن يرضوا عنهم حتّى يرجعوا إلى ملّتهم، فالردّ على الأعقاب على هذا يحصل بالإخارة والمآل، وقد وقعت هذه العبرة في طاعة مسلمي الأندلس لطاغية الجلالقة، وعلى هذا الوجه تكون الآية مشيرة إلى تسفيه رأي من قال: (لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان) كما يدلّ عليه قوله: ﴿بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ﴾، ويحتمل أن يراد من الطاعة طاعة القول والإشارة، أي الامتثال، وذلك قول المنافقين لهم: لو كان محمد نبيئا ما قتل فارجعوا إلى إخوانكم وملّتكم، ومعنى الردّ على الأعقاب في هذا الوجه أنّه يحصل مباشرة في حال طاعتهم إيّاهم.
6. قوله تعالى: ﴿بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ﴾ إضراب لإبطال ما تضمّنه ما قبله:
أ. فعلى الوجه الأول تظهر المناسبة غاية الظهور، لأنّ الطاعة على ذلك الوجه هي من قبيل الموالاة والحلف فناسب إبطالها بالتّذكير بأنّ مولى المؤمنين هو الله تعالى، ولهذا التّذكير موقع عظيم: وهو أن نقض الولاء والحلف أمر عظيم عند العرب، فإنّ للولاء عندهم شأنا كشأن النسب، وهذا معنى قرّره الإسلام في خطبة حجّة الوداع أو فتح مكة (من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين)، فكيف إذا كان الولاء ولاء سيد الموالي كلّهم.
ب. وعلى الوجه الثّاني في معنى ﴿إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ تكون المناسبة باعتبار ما في طاعة المنافقين من موالاتهم وترك ولاء الله تعالى.
7. ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ يقوّي مناسبة الوجه الأول ويزيد إرادته ظهورا، و﴿خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ هو أفضل الموصوفين بالوصف، فيما يراد منه، وفي موقعه، وفائدته، فالنصر يقصد منه دفع الغلب عن المغلوب، فمتى كان الدفع أقطع للغالب كان النصر أفضل، ويقصد منه دفع الظلم فمتى كان النصر قاطعا لظلم الظالم كان موقعه أفضل، وفائدته أكمل، فالنصر لا يخلو من مدحة لأنّ فيه ظهور الشّجاعة وإباء الضيم والنجدة، قال ودّاك بن ثميل المازني:
çإذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم...لأية حرب أم بأي مكانé
ولكنّه إذا كان تأييدا لظالم أو قاطع طريق، كان فيه دخل ومذمّة، فإذا كان إظهارا لحقّ المحقّ وإبطال الباطل، استكمل المحمدة، ولذلك فسّر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نصر الظالم بما يناسب خلق الإسلام لمّا قال: (انصر أخاك ظالما ومظلوما) فقال بعض القوم: هذا أنصره إذا كان مظلوما فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ فقال: (أن تنصره على نفسه فتكفّه عن ظلمه)
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/247.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت غزوة أحد فيها العبر، وهى عركة نفسية عركت بها قلوب المؤمنين، وتميزت فيها نفوس المترددين، وقد اتخذ القرآن الكريم منها درسا نبه المجاهدين إلى ما ينبغي أن يعلموه في المواقع والحروب، نبههم إلى أن النجاح في الأعمال مهما يكن.. أساسه التنسيق والتوزيع، وتخصيص كل طائفة لما تحسن، حتى تتلاقى الجهود كلها في ثمرات مفيدة للجماعة، والجهاد عمل من الأعمال، فلا بد أن تنسق فيه الأعمال، ويكون كل لما يخصص له، فإذا خرج عما هيئ له وأسند إليه، انتثر العقد، واضطربت الأمور، وخفت الثمرات، وذلك ما كان في أحد، ولقد قرر الله تعالى أن يصاب المسلمون بذلك الجرح الدامى لتكثير العبر، فقد افترى من افترى فادعى أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، فاضطربت الأفهام، إذ لو كان الخبر صادقا لأوجب على المجاهدين أن يتضافروا على حمل العبء لا أن تذهب نفوسهم شعاعا، ولقد أصابت الهزيمة قلوبهم، وأصابهم غم شديد، فأخذ يبين الله أن القتال تتعاوره الهزيمة والنصر، وأن الهزيمة بسبب خطأ لا توجب الوهن، ولكن توجب تجنب الخطأ.
2. لقد وجد ناس وقد اشتد البلاء، وأظلمت نفوس، وذهب ما فيها من أضواء الحق، فتنادى بعضهم أن يوسطوا المنافقين ليتخذوا لهم عند أبى سفيان زعيم الشرك إبان ذاك عهدا بالأمن والاستسلام، وقد بين الله سبحانه بعد ما بين من عبر أن هذه هي الخطة الذليلة، وهى المنزلة الدون، والمكان الهون، فقال عزّ من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ النداء للمؤمنين بوصف كونهم مؤمنين، وفيها بيان أنه لا يليق بهم بوصف كونهم مؤمنين أن يطيعوا الذين كفروا؛ فإن الكفر والإيمان نقيضان لا يجتمعان، ولا يكونان في قلب رجل واحد.
3. أشار سبحانه إلى بعد احتمال أن يطيع المؤمنون الكافرين بالتعبير في أداة الشرط بـ (إن) دون (إذا)؛ إذ إن: (إذا) للتحقق أي تحقق الشرط، وتحقق الجزاء، أما (إن) فإنها لا تفيد تحقق الشرط، وبالتالي لا يتحقق الجزاء، والمعنى في هذا هو التحذير من مسايرة الكافرين بأي نوع من أنواع المسايرة؛ إذ كل مسايرة طاعة، ولا يليق بالمؤمن أن يطيع كافرا؛ لأنه يجب أن يكون في حذر دائم، وإنه لو فرض وأطاعوهم فإنهم يرتدون على أعقابهم خاسرين.
4. النداء متجه ابتداء للمؤمنين المجاهدين الذين حضروا أحدا، ووجد بينهم المنافقون ينادون بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويرجفون في المدينة، ووجد أيضا المترددون الضعفاء الذين استجابوا أو كانوا على استعداد للاستجابة، إذ دعا بعض المنافقين بأن يتوسطوا عند أبى سفيان لينجوا بأجسامهم.
5. مع أن الخطاب ابتداء لهؤلاء له وجه عام، وهو نداء المؤمنين في كل الأجيال وفي كل الأحوال بألا يسايروا الكافرين، رجاء نصر، أو تحقق نفع، وألا يمالئوهم بأي نوع من أنواع الممالأة، فإن الكافرين في كل العصور لا يريدون بالمؤمنين إلا خبالا، ولا يرجون لهم إلا أن يكونوا قوما بورا، فالآية الكريمة تحذر المؤمنين تحذيرا عاما بألا يطيعوا الكافرين، ولا يستنصروا بهم، ولا يجعلوا لهم ولاية عليهم، لأن ولايتهم غير ولاية الله، وولاية الله هي الولاية الحق، وهم موضع غضب الله تعالى دائما، والذى يتولاهم ويستنصر بهم، فإنما يتولى قوما غضب الله عليهم، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾ [الممتحنة]
6. ذكر الله سبحانه وتعالى نتيجة إطاعة الكافرين في أي عصر من العصور إن كان هناك احتمال لذلك، فذكر في جواب الشرط نتيجتين، كلتاهما مترتبة على الأخرى:
أ. أولاهما: أشار إليها بقوله سبحانه: ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾
ب. الثانية المترتبة عليها: أشار إليها بقوله عزّ من قائل: ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾
7. لنتكلم بكلمة موجزة في كل واحدة من هاتين النتيجتين المتلازمتين اللتين يقتضى وجود إحداهما وجود الأخرى:
أ. فالنتيجة الأولى، وهى ردهم على أعقابهم، معناها أن يرجعوا إلى موضع الذلة الذي كانوا فيه قبل أن يؤذن لهم بالجهاد أو يرجعوا إلى ما كانوا عليه في غير انتظام وفي اضطراب، والمضطرب دائما لا يملك زمام نفسه، والأعقاب جمع عقب، وهو مؤخر القدم، والتعبير بـ: ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾، فيه إشارات إلى أمور ثلاثة:
• أولها: أن هذا مطلب للكافرين، فإن أطعتموهم فقد حققتم لهم مقصدهم، وهو أن يردوكم، ولذا أسند الرد إليهم، ولم يقل ارتددتم.
• ثانيها: أن طاعتهم التي يترتب عليها ما ذكره سبحانه هي أقصى الهزيمة وهى الكبوة التي لا قيام بعدها، ولذلك عبر عن هذا بالرجوع على الأعقاب، فهو رجعة إلى الوراء وليس وثبة إلى الأمام.
• والأمر الثالث الذي يشير إليه النص هو أن زمام المؤمنين يكون نهائيا بأيدي الكافرين إذا أطاعوهم، وهذا هو ما آل إليه أمر المسلمين في العصور الأخيرة، وفي هذا تذكرة لمن يخشى.
ب. والنتيجة الثانية هي الانقلاب خاسرين، والتعبير بالانقلاب في قوله سبحانه: ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ يفيد أن إطاعة الكافرين يكون حتما فيها تغيير حال أهل الإيمان، ولكنه تغيير هو انقلاب، وجعل أعلى ما فيهم أسفل، فهو نكسة تصيبهم، ويعز عليهم من بعد أن يعودوا مستقيمين يضعون أغلى ما فيهم وهو الإيمان في موضعه، وإن ذلك الانقلاب تلابسه لا محالة الخسارة المؤكدة التي لا احتمال فيها؛ إذ يخسر المؤمنون إيمانهم، ويخسرون من وراء ذلك الآخرة، وينطبق عليهم قوله تعالى: ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج] وإن أولئك الذين يستخذون للكافرين ويسايرونهم، بل يطيعونهم وينتقلون من العزة والكرامة إلى الذلة والمهانة ويعتقدون القوة في الكافرين فيعطونهم الولاية، ينسون الله تعالى وولايته، ولذلك قال سبحانه مطمئنا المؤمنين الصادقين الذين لا يرضون بولاية الكافرين: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾
8. ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ المولى هنا هو النصير، وإذا كان الله ناصره، فإنه لا محالة غالب، فهو نعم المولى ونعم النصير، والمولى لا تدل على النصرة فقط، بل تدل على كمال الصلة والمحبة والقرب، والنصرة تجيء لازمة لهذه المعاني و(بل) هنا للإضراب وهو إضراب انتقالى؛ إذ هو انتقال من الكلام في موالاة الكافرين، وما يترتب عليها من نكوص على الأعقاب، واضطراب بين الحق والباطل، واستكانة وذلة وخسران مبين، إلى الكلام فيما هو سبب العزة والرفعة والكرامة والقوة والسؤدد والنصر المؤزر الثابت، وهو موالاة الله تعالى، وعبر عن ذلك بقوله تعالى: ﴿اللَّهَ مَوْلَاكُمْ﴾ أي أن الله الخالق لكل ما في الوجود، والذى بيده مقاليد كل شيء، والمسيطر القوى الجبار القاهر فوق عباده هو مولاكم، فعليكم أن تطلبوا ولايته، ومن اعتصم به فقد آوى إلى ركن ركين، وحصن حصين.
9. ذكر هذا الأمر بصيغة الخبر للإشارة إلى أن المؤمن بمقتضى كونه مؤمنا هو في ولاية الله تعالى فلا يخرج عنها، وولاية الله تعالى تقتضى أن يكون في ولاية المؤمنين، لا يخرج عن جماعتهم ولا يسلك غير سبيلهم، ولا يطيع أعداءهم، أو يمالئهم، أو يسايرهم، فإن ذلك يكون محادة لله ولرسوله ومشاقة لله ولرسوله، والله تعالى يقول: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة] ويقول سبحانه جلت حكمته: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء]
10. إذا كانت النفوس الضعيفة تجد في الالتجاء إلى الكافرين بعض الحماية فلتعلم أن المعاذ والنصرة من عند الله؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾، أي أن الله تعالى هو الذي ينصر المؤمنين، ونصره هو المؤكد المحتوم الباقي، وهو نصر مالك القوى كلها، والمسيطر على العالم بكل ما فيه ومن فيه وما تجرى به الأسباب، وما ارتبطت به شؤون الناس والكون، ولذلك كان نصره خير نصر، إذ هو أدومه وأقواه، وما عند الناس من نصر فهو ظاهرى، ولا يتحقق إلا بأسباب قدّرها، فهو المسيطر المريد لكل ما يقع في الكون، ونصر الله تعالى معه العزة، ونصر الناس معه الذلة، فمن استنصر بالله عز، ومن استنصر بالناس ذل، وهذا على أن (خير) وهى من أفعل التفضيل على بابه، وقيل: إن أفعل التفضيل هنا على غير بابه، وأن المعنى أنه لا ناصر إلا الله، ولا ناصر سواه، فنصره هو النصر، ونصر غيره ليس بنصر.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1444.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾، قال الشيخ المراغي في تفسير هذه الآية: (المراد بالذين كفروا أبو سفيان لأنه شجرة الفتن)، وكل انسان محقا كان أو مبطلا يود أن تكون الناس، كل الناس على دينه ومبدئه.. والفرق ان طاعة المبطل خسارة ومضرة، وطاعة المحق ربح ومنفعة، ومن أجل هذا حذر الله المؤمنين من الكافرين.
2. ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾، المؤمن لا يفكر بطاعة الكافر وموالاته، ولا يأبه بإغوائه وخدعه.. ولا يتخذ له مولى إلا الله وحده، وهو الذي ينصره على أعدائه، ومن كان الله ناصره فلا يحتاج معه إلى ولي ولا ناصر.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/176.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد، وفيها حث وترغيب للمؤمنين أن لا يطيعوا غير ربهم فإنه هو مولاهم وناصرهم، وإشهاد لهم على صدق وعده وأن الهزيمة والخذلان لم يكن يوم أحد إلا من قبل أنفسهم، وتعديهم حدود ما أمرهم الله به ودعاهم رسوله إليه وأن الله سبحانه مع ذلك عفا عن جرائمهم لأنه غفور حليم.
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى آخر الآيتين لا يبعد أن يستفاد من السياق أن الكفار كانوا أيام نزول الآيات بعد غزوة أحد يلقون إلى المؤمنين ـ في صورة النصح ـ ما يثبطهم عن القتال، ويلقي التنازع والتفرقة وتشتت الكلمة واختلافها بينهم، وربما أيده ما في آخر هذه الآيات من قوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ إلى أن قال: ﴿ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، وربما قيل: إن الآية إشارة إلى قول اليهود والمنافقين يوم أحد: (إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى عشائركم)، وليس بشيء.
3. ثم لما بين أن إطاعتهم للذين كفروا والميل إلى ولايتهم يهديهم إلى الخسران الذي هو رجوعهم إلى أعقابهم كافرين أضرب عنه بقوله: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/43.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ لأن الكفار لا يزالون يحاولون أن ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ عن دينكم وأعظم المحاولات القتال ما استطاعوه، قال تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة:217] ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ بعد كونكم الفائزين وما أعظمها خسارة أن يصير المرتد الميت على كفره إلى نار جهنم قد خسر نفسه لأنه يبعث لا لينال خيراً ولكن ليعذب فحياته ليست لنفسه إنما هي للشقوة والعذاب وحرمان كل خير نعوذ بالله.
2. ﴿بَلِ اللهُ﴾ المتولي لأموركم، المحسن لرعايتكم ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ لأنه على كل شيء قدير، غالب على أمره، فإن ينصركم فلا غالب لكم، فكيف تطيعون أعداءكم وتعصون مولاكم الذي يريد لكم الخير في الدنيا والآخرة!؟ بل هو أولى أن تطيعوه وتعصوا عدوه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/552.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. روي عن علي عليه السّلام؛ قال: نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم، وعن الحسن البصري: إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم، لأنهم كانوا يستغوونكم ويوقعون لكم الشبه في الدين، ويقولون: لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوم له ويوم عليه، وعن السدّي: إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينكم، وقال السدّي ـ حول الآية ـ: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق، ثم إنهم ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا، قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشرذمة تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك، ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما همّوا به، وأنزل الله تعالى هذه الآية.
2. هل هناك حادثة معينة أطلقت هذا النداء القرآني بالتحذير من طاعة الكافرين لئلا يردّوا المؤمنين عن إيمانهم الحقّ بأساليبهم الخبيثة، فينقلبوا من موقع الإيمان إلى موقع الكفر فيخسروا دينهم ودنياهم؟ هل هناك حالة ضعف استنفذت طاقة المؤمنين على التحمّل فحاولوا الاستعانة بالكافرين من أجل الحصول على أساس من القوّة يستندون إليه، حتى يأتي النداء ليؤكّد لهم أن الله مولاهم وناصرهم ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ لأنه الذي يملك الأمر كله، والقوّة كلّها؟ قد لا يبدو أمامنا شيء فعليّ من هذا القبيل، ولكن القرآن يتحدث عن الحالات الوقائية بالأسلوب نفسه الذي يتحدّث به عن الحالات الدفاعية، وهكذا نستوحي الموقف هنا، فإن حالة الهزيمة قد تخلق لدى الإنسان وضعا صعبا يؤدي إلى الانهيار والانسحاق والضياع في بعض الأحيان، وقد ينتهي به ذلك إلى البحث عن مخرج للمأزق الذي وقع فيه، وقد يتمثّل ذلك في الوقوع في قبضة مخطط الكفر في التنازل عن بعض المبادئ الأساسية بالدخول في بعض المشاريع المحرّمة، والسير في الدروب الملتوية التي لا تؤدي إلى خير وصلاح، وذلك من أجل الحصول على الأمن المستقبلي من مراكز القوى المنتصرة والكافرة، وربّما يخيّل إليه أنه يستطيع أن يجمع بين الإيمان بعقيدته والانطلاق مع مبادئه، وبين مداراة هؤلاء ومجاملتهم والسير معهم في بعض خطوات الطريق، وكانت مثل هذه الأفكار الناشئة عن هذه الحالة، تشكل عنصر خطورة على أمثال هؤلاء الطيبين والمهزومين، لأنها تمثل النموذج الساذج من التفكير، فالكفر لا يمثل لدى الكافرين حالة مزاجيّة طارئة ليمكن التعامل معها بأسلوب اللحظة السريعة، بل هو لدى أصحابه فكرة وخطة عمل في إضلال المؤمنين وإبعادهم عن دينهم، وبذلك فهم يعملون على استغلال حالات الضعف من أجل السيطرة على هؤلاء المؤمنين الساذجين، كما لاحظناه لدى الكثيرين من أصحاب المبادئ الكافرة الذين يطرحون الشعارات الطيّبة المضلّلة في عرض ذكي للقوّة، وإمعان في إثارة نقاط الضعف لدى الآخرين بأساليب نفسية شيطانية، من أجل أن يقودوا الضعفاء من المؤمنين إلى ضلالهم بأقرب طريق.
3. يمكن أن تكون هذه الآيات وسيلة من وسائل التوعية الوقائية لدى المؤمنين المهزومين بأن لا يعطوا الموقف أكثر مما يتحمّل، بحيث يصوّرون لأنفسهم بأن الكافرين يملكون زمام الأمر وحركة القوّة، فيقعون تحت تأثير أساليبهم ومخططاتهم ويطيعونهم في المواقف والأعمال التي تؤدي إلى الكفر والضلال وخسارة الدارين طمعا في النصرة وطلبا للقوّة.. فليست القضية في قصة الهزيمة سوى خسارة لمعركة من المعارك، الأمر الذي يمثّل ضعفا في مرحلة معينة لا في المسيرة كلّها، فلا بدّ لهم ـ في هذه الحالة ـ من الرجوع إلى إيمانهم وربّهم ليعرفوا بأن القوّة لله جميعا، وأن النصر بيده لا بيد غيره، وأنه قد يبتلي عباده المؤمنين ببعض البلاء في بعض مراحل الطريق ولكنه ينصرهم في نهاية المطاف، فعليهم أن لا يبتعدوا عن الله حتى لا يضلّوا من حيث يعرفون ومن حيث لا يعرفون.
4. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وعاشوا إيمانهم في عمق وجدانهم إشراقة فكر، وطمأنينة قلب، وانطلاقة روح، وثبات موقف من خلال الثقة بالله الذي يرعى عباده المؤمنين برعايته وينصرهم بنصره، ويقوّي مواقعهم ويدعم مواقفهم، لا تتراجعوا عن التزامكم بالعقيدة التوحيدية المنفتحة على وعي الساحة من جهة، ووعي ألطاف الله بالمؤمنين من جهة أخرى، ولا تسقطوا أمام الزلزال الذي يحركه الآخرون في مواقعكم ليثيروا في قلوبكم الشك والريبة بالحق الذي تعتقدونه وتؤمنون به، بالأساليب المتنوعة التي تنفذ إلى عقولكم وقلوبكم ومشاعركم الحميمة، وهذا ما يريد الله أن يحذركم منه في أسلوب التوعية الفكرية والعملية في ما تأخذون أو تدعون.
5. ﴿إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من المشركين أو غيرهم بفعل الخضوع لعلاقات القرابة أو بالانسجام مع أجواء المجاملة، أو بالرغبة بالحصول على بعض المواقع عندهم من أجل ربح عاجل أو شهوة طارئة، ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ لتتراجعوا عن الدين الذي آمنتم به، والتوحيد الذي أخلصتم له في حركة جديدة للشرك في حياتكم، وللكفر في أفكاركم بعد أن قطعتم شوطا طويلا وبلغتم درجة عالية من الإسلام لله ورسوله.
6. ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ لأنكم بالعودة إلى الكفر تفقدون الصفاء الروحي المشرق في وجدانكم، وتفتحون على أنفسكم الكثير من المشاكل المعقّدة التي تربك حياتكم، وتقلق تصوراتكم، وتفترس طمأنينتكم، وتواجهون الخسارة في الدنيا والآخرة، وأيّ خسارة أعظم وأكبر من فقدان الإنسان علاقته بربه الرحمن الرحيم، الذي يمنح عباده برحمته كل خير، ويفيض عليهم كل نعمة، ويعطيهم كل قوّة وراحة واطمئنان، ثم أيّ خسارة أعظم من خسارة الإنسان مصيره في الآخرة في نهاية المطاف، ليعيش عذاب جهنم بدلا من نعيم الجنة ورضوان الله!؟ إنهم لا يخلصون لكم ولا يفكرون في إعانتكم ومساعدتكم، فلا تحسبوهم مواليكم الذين تسكنون إليهم وتسنتصرون بهم.
7. ﴿بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ﴾ فهو الذي يملك القوة جميعا، وهو القادر على كل شيء، ويملك الرحمة الشاملة، وهو الرحيم بعباده ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ فهو الناصر الذي لا يغلب، والمولى الذي لا يترك أولياءه، ولا يمكن لأحد أن يمنعه مما يريد، وهو القادر على أن يمنع كل خلقه مما يريدون، فهو الذي يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، فكيف يوالي المؤمن غيره، وكيف ينتقل من ولايته إلى ولاية أعدائه!؟
__________
(1) من وحي القرآن: 6/305.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآيات ـ كسابقاتها ـ نزلت بعد معركة (أحد) وبهدف تقويم وتحليل الحوادث التي وقعت أو لا بست تلكم المعركة، ويشهد بهذا وضع هذه الآيات والآيات السابقة.
2. إن ما يبدو للنظر هو أن أعداء الإسلام أخذوا ـ بعد معركة أحد ـ يسعون في إلقاء الفرقة في صفوف المسلمين ببث سلسلة من الدعايات المسمومة، والمغلفة أحيانا بلباس النصيحة، والتحرّق على ما آل إليه المسلمون، وكانوا بالاستفادة من الأوضاع النفسية المتردية التي كان يمر بها جماعة من المسلمين، يحاولون زرع بذور النفور من الإسلام بينهم، ولا يستبعد أن يكون اليهود والنصارى قد ساعدوا المنافقين في هذه الخطة الحاقدة، كما حدث في المعركة نفسها حيث كان لهم حظ في الترويج للشائعة التي أطلقت حول مقتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بهدف إضعاف معنويات المقاتلين المسلمين.
3. الآية الأولى من هذه الآيات تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ فهي تحذر المسلمين من إطاعة الكفّار وتقول: إن إطاعة الكفّار تعني العودة إلى الجاهلية بعد تلك الرحلة العظيمة في طريق التكامل المعنوي والمادي في ظل التعاليم الإسلامية.
4. إن إطاعة الكفّار في وساوسهم وتلقيناتهم، والإصغاء إلى دعاياتهم تعني العودة إلى النقطة الأولى ألا وهي الكفر والفساد والسقوط في حضيض الانحطاط، وفي هذه الصورة يكونون قد ارتكبوا إثما كبيرا ستلازمهم تبعاته، وآثاره الشريرة، فأية خسارة أكبر من أن يستبدل الإنسان الإيمان بالكفر، والنور بالظلام، والهدى بالضلال والسعادة بالشقاء!؟
5. ثمّ إنه سبحانه يؤكد بأن لهم خير ناصر وولي وهو الله: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ إنه الناصر الذي لا يغلب، بل لا تساوي قدرته أية قدرة، في حين ينهزم غيره من الموالي، ويندحر غيره من الأسياد.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/728.
78. الرعب والشرك والوعيد
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈78⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 151]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب؛ فرجع إلى مكة، فقال النبي : (إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٤٢.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة؛ انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق، ثم إنهم ندموا، فقالوا: بئسما صنعتم أنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب؛ فانهزموا، فلقوا أعرابيا، فجعلوا له جعلا، فقالوا له: إن لقيت محمدا فأخبرهم بما قد جمعنا لهم، فأخبر الله رسوله ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، فأنزل الله في ذلك؛ فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبي ، وما قذف في قلبه من الرعب، فقال: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٢٨.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ فانهزموا إلى مكة من غير شيء؛ ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ يعني: ما لم ينزل به كتابا فيه حجة لهم بالشرك، ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ يعني: مأوى المشركين النار(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٦.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ فإني سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم عليهم، بما أشركوا بي ما لم أجعل لهم به حجة، أي: فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر، ولا ظهورا عليكم؛ ما اعتصمتم بي، واتبعتم أمري، للمصيبة التي أصابتكم منهم بذنوب قدمتموها لأنفسكم، خالفتم بها أمري، وعصيتم فيها نبي الله (1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٢٧.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: أما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾، والجواب: إنا نقول: إن الرعب إنما ألقاه الله جل ثناؤه في قلوبهم؛ نكالا وانتقاما منهم على كفرهم واشراكهم؛ ألا تسمع كيف فسر آخر الآية أولها، فقال: ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ﴾، فكذلك الله سبحانه انتقم منهم بما أشركوا وكفروا، وخذلهم وتركهم من التسديد والتوفيق، فهلكوا وتلاشوا، وعندوا فضلوا، وهانوا فتفرقوا؛ إذ وكلهم إلى الضعف من أنفسهم، وإلى حولهم وقوتهم؛ فهانوا ورعبوا من القتال، ولقاء المؤمنين في تلك الحال، فكان تركه لهم بما قدموا من شركهم؛ رعبا داخلا في قلوبهم، مخامرا لصدورهم.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/186.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ الآية، هذه بشارة من الله عزّ وجل لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنصر له؛ حيث أخبر أنه يلقى في قلوبهم الرعب، وكذلك روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (نصرت بالرّعب مسيرة شهرين)، وكان ما ذكر؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأتيهم بعد ذلك ويقصدهم، لا أنهم أتوه، وكانوا قبل ذلك يأتون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقصدونه.
2. ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ أي: بالشرك ما قذف في قلوبهم من الرعب، من غير أن كان لهم بما أشركوا حجة أو كتاب أو برهان أو عذر؛ قال ابن عباس: (السلطان في القرآن حجة)
3. ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ أي: مقامهم في النار، ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ أي: النار بئس مقام الظالمين.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/505.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾
أ. ذكر ابن إسحاق أنه لما نال المسلمين ما نالهم يوم أحد بمخالفة الرماة أمر نبيهم ، وكان من ظهور المشركين عليهم ما كان عرفهم الله عز وجل الحال في ذلك ثم وعدهم بالنصر لهم، والخذلان، لأعدائهم بالرعب.
ب. وذكر السدي: أن أبا سفيان وأصحابه هموا بالرجوع بعد أحد لاستئصال المسلمين عند أنفسهم، فألقى الله الرعب في قلوبهم حتى انقلبوا خائبين عقوبة على شركهم ﴿بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ يعني برهاناً.
2. السلطان معناه ها هنا الحجة، والبرهان، وأصله القوة، فسلطان الملك قوته، والسلطان: البرهان لقوته على دفع الباطل، والسلطان: التوكيل على المطالبة بالحق، لأنه تقوية عليه، والتسليط على الشيء: التقوية عليه مع الإغراء به، والسلاطة: حدة اللسان مع شدة الصخب للقوة على ذلك مع إثبات فعله: والسليط: الزيت لقوة اشتعاله بحدته.
3. الإلقاء حقيقته في الأعيان، كقوله: ﴿وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ﴾ واستعمل في الرعب مجازاً، ومثل قوله: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾
4. ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ أي مستقرهم.
5. في الآية دلالة على فساد التقليد، لأنه لا برهان مع صاحبه على صحة مذهبه، فكل من قال بمذهب لا برهان عليه، فمبطل بدلالة الآية.
6. ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ المثوى: المنزل، وأصله الثواء، وهو طول الاقامة ثوي يثوي ثواء: إذا طال مقامة وأثواني فلا مثوي أي أنزلني منزلا وربة البيت: أم مثواه، والثوي: الضيف لأنه مقيم مع القوم، وإنما قيل لجهنم ﴿بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ وبئس للذم، كما أن نعم للحمد لأمرين:
أ. أحدهما: إن الضرر تنفر منه النفس كما ينفر العقل من القبح فجري التشبيه على وجه المجاز ـ هذا قول أبي علي ـ
ب. وقال البلخي: لأن الذم يجري على النقص كما يجري على القبح حقيقة فيهما، نحو قولهم: الأخلاف المحمودة والأخلاق المذمومة
7. روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وقد رعبته رعباً أي أفزعته، والاسم الرعب ورعبت الأناء إذا ملأته، فهو مرعوب.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/17.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. السلطان أصله القوة، يسمى الملك سلطانًا لقوته، والسلطان: البرهان لقوته على دفع الباطل، ولأنه يقهر به المبطل، والتسليط على الشيء التقوية عليه مع الإغراء به.
ب. الرعب: الخوف.
ج. المثوى: المنزل، وأصله من الثوي طول الإقامة، ثوى يَثْوِي ثَوَاءً إذا طال مقامه، وأثواني فلان مَثْوىً أي أنزلني منزلاً.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾:
أ. قيل: لما نال المشركون يوم أحد من المؤمنين ما نالوا لمخالفتهم أمر الرسول ، وعرفهم الله تعالى ذلك، ثم وعدهم النصر وخذلان أعدائهم بالرعب، فنزلت الآية عن ابن إسحاق.
ب. وقال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والقوم معه يوم أحد نحو مكة، وبلغوا بعض الطريق ندموا، وقالوا: بئسما صنعنا! قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم! ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب حتى هزموا خائبين، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذكر الأصم ما يقرب منه.
3. ثم بَيَّنَ تعالى أن من جملة نصره المؤمنين إلقاء الرعب في قلوب الكافرين فقال سبحانه: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ أي سنقذف في قلوب الَّذِينَ كفروا الرعب: الخوف ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ﴾ أي بشركهم بِاللهِ وقولهم عليه ما لا يجوز من الند والشريك، وكل كفر في الشرع فهو شرك ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ﴾ بذلك ﴿سُلْطَانًا﴾ أي حجة وبرهانًا، يعني لم نجعل لهم في ذلك حجة، ثم بين أن ذلك ليس بتمام عقوبتهم.
4. ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ يعني مصيرهم نار جهنم يعذبون فيها ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ أي بئس مقام الكافرين، وإنما قال لجهنم: بئس، وإن كان أصله الذم لوجهين:
أ. أحدهما: أن النفس تنفر عنه كما تنفر من القبيح، فجرى الكلام عليه توسعًا، عن أبي علي.
ب. الثاني: الذم يجري على ما لا يقبح كما يجري على ما يقبح إذا كان فيه نقصًا، كما قيل: الأخلاق المحمودة والأخلاق المذمومة، عن أبي القاسم.
5. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أنه تعالى يلقي الرعب في قلوب الكفار؛ وذلك نصرة للمؤمنين وبشارة لهم، وهذا الرعب هو الخذلان، وهو ضد النصر للمؤمنين، فإن ذلك كان تقوية لقلوبهم وتثبيتا لأقدامهم، عن أبي مسلم، والمروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يقول: نصرت بالرعب، يخافني عدوي وهو مني على مسيرة شهر)
ب. أنه تعالى يفعل ذلك لأجل كفرهم عقوبة لهم، ولذلك لا تجد كافرًا إلا وفي قلبه رعب من المؤمنين، وإن تفاوت ذلك قلة وكثرة.
ج. معجزة للنبي ، وقد بقي ذلك في أمته.
د. أن المشرك لا حجة له وكذلك كل مبطل.
هـ. أن الحجج مضافة إليه تعالى وتتكامل بإنزاله.
و. أنه لا مثوى للكافرين غير النار، وذلك يوجب الخلود بخلاف قول جهم.
ز. أن النار مثوى الظالمين.
6. قراءات ووجوه:
أ. قرأ العامة ﴿سَنُلْقِي﴾ بالنون على التعظيم، وقرأ أيوب السختياني بالياء ترجع الكناية على اسم الله في قوله: ﴿بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ﴾
ب. قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي ويعقوب ﴿الرُّعْبَ﴾ بتثقيل العين، والآخرون بتخفيفها كلَّ القرآن، وهما لغتان رعْب ورعُب.
7. ﴿بِمَا أَشْرَكُوا﴾ هو المصدر تقديره: بإشراكهم كقوله: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ أي وبنائها، ونظائر ذلك يكثر.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/414.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. السلطان هنا معناه: الحجة والبرهان، وأصله القوة، فسلطان الملك قوته، والسلطان: البرهان لقوته على دفع الباطل، والتسليط على الشيء: التقوية على الشيء مع الإغراء به، والسلاطة: حدة اللسان مع شدة الصحب للقوة على ذلك مع إيثار فعله، والسليط: الزيت، لقوة استعماله بحدته.
ب. الإلقاء أصله في الأعيان، يدل عليه قوله ﴿وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ﴾، ﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ﴾، واستعمل في غير عين اتساعا، إذ ليس الرعب، وكذلك قوله ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ ومثل الإلقاء في ذلك الرمي، قال سبحانه ﴿الذين يرمون أزواجهم﴾ أي بالزنا، فهذا اتساع لأنه ليس بعين، وكذلك قوله:
çرماني بأمر كنت منه، ووالدي... بريا، ومن حول الطوي رمانيé
ج. المثوى: المنزل، وأصله من الثواء: وهو طول الإقامة، وأم المثوى: ربة البيت، والثوي: الضيف لأنه مقيم مع القوم.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة: قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون، يوم أحد، متوجهين إلى مكة، قالوا: بئس ما صنعنا! قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد، تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك، ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به، فنزلت الآية.
3. ثم بين سبحانه أن من جملة نصرته للمؤمنين، إلقاؤه الرعب في قلوب المشركين فقال: ﴿سَنُلْقِي﴾ أي: سنقذف ﴿فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ أي: الخوف والفزع ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ﴾ أي: بشركهم بالله، وقولهم عليه ما لا يجوز من الند والشريك ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ أي: برهانا وحجة، يعني: لم يجعل لهم في ذلك حجة.
4. ﴿وَمَأْوَاهُمْ﴾ أي: مستقرهم ﴿النَّارَ﴾ يعذبون بها ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ معناه: وبئس مقام الظالمين النار، وروي أن الكفار دخلوا مكة كالمنهزمين، مخافة أن يكون لرسول الله وأصحابه الكرة عليهم، وقال رسول الله : نصرت بالرعب مسيرة شهر.
5. قرأ ابن عامر وأبو جعفر والكسائي ويعقوب وأبو حاتم ﴿الرُّعْبَ﴾ بضمتين، والآخرون بتسكين العين.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/857.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ قال السّدّيّ: لمّا ارتحل المشركون يوم أحد نحو مكّة ندموا في بعض الطريق، وقالوا: قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشّرذمة، تركتموهم!؟ ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله في قلوبهم الرّعب، ونزلت هذه الآية.
2. الإلقاء: القذف، والرّعب: الخوف، قرأ ابن كثير، ونافع وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة (الرّعب) ساكنة العين خفيفة، وقرأ ابن عامر، والكسائيّ، ويعقوب، وأبو جعفر، مضمومة العين، مثقّلة، أين وقعت، والسّلطان هاهنا: الحجّة في قول الجماعة، والمأوى: المكان الذي يؤوى إليه.
3. المثوى: المقام، والثّوى: الإقامة، قال ابن عباس: والظّالمون هاهنا: الكافرون.
__________
(1) زاد المسير: 1/334.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ هذه الآية من تمام ما تقدم ذكره، فإنه تعالى ذكر وجوها كثيرة في الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار، ومن جملتها ما ذكر في هذه الآية أنه تعالى يلقي الخوف في قلوب الكفار، ولا شك أن ذلك مما يوجب استيلاء المسلمين عليهم، واختلفوا في أن هذا الوعد هل هو مختص بيوم أحد، أو هو عام في جميع الأوقات؟
أ. قال كثير من المفسرين: إنه مختص بهذا اليوم، وذلك لأن جميع الآيات المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة، ثم القائلون بهذا القول ذكروا في كيفية إلقاء الرعب في قلوب المشركين في هذا اليوم وجهين:
• الأول: أن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم، فتركوهم وفروا منهم من غير سبب، حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل، وقال: أين ابن أبي كبشة، وأين ابن أبي قحافة، وأين ابن الخطاب، فأجابه عمر، ودارت بينهما كلمات، وما تجاسر أبو سفيان على النزول من الجبل والذهاب إليهم.
• الثاني: أن الكفار لما ذهبوا إلى مكة، فلما كانوا في بعض الطريق قالوا: ما صنعنا شيئاً، قتلنا الأكثرين منهم، ثم تركناهم ونحن قاهرون، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم.
ب. الثاني: أن هذا الوعد غير مختص بيوم أحد، بل هو عام، قال القفال: كأنه قيل إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك في قلوب الكافرين حتى يقهر الكفار، ويظهر دينكم على سائر الأديان، وقد فعل الله ذلك حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل، ونظير هذه الآية قوله : (نصرت بالرعب مسيرة شهر)
2. قرأ ابن عامر والكسائي ﴿الرُّعْبَ﴾ بضم العين، والباقون بتخفيفها في كل القرآن، قال الواحدي: هما لغتان، يقال: رعبته رعبا ورعبا وهو مرعوب، ويجوز أن يكون الرعب مصدرا، والرعب اسم منه.
3. الرعب: الخوف الذي يحصل في القلب، وأصل الرعب الملء، يقال سيل راعب إذا ملأ الأودية والأنهار، وإنما سمي الفزع رعبا لأنه يملأ القلب خوفا.
4. ظاهر قوله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ يقتضي وقوع الرعب في جميع الكفار، فذهب بعض العلماء إلى إجراء هذا العموم على ظاهره، لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا وفي قلبه ضرب من الرعب من المسلمين، إما في الحرب، وإما عند المحاجة.
5. ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ لا يقتضي وقوع جميع أنواع الرعب في قلوب الكفار، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوه، وذهب جمع من المفسرين إلى أنه مخصوص بأولئك الكفار.
6. ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ﴾ (ما) مصدرية، والمعنى: بسبب إشراكهم بالله، وتقدير هذا بالوجه المعقول هو أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار كما قال: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النحل: 62] ومن اعتقد أن لله شريكا لم يحصل له الاضطرار، لأنه يقول: إن كان هذا المعبود لا ينصرني، فذاك الآخر ينصرني، وإن لم يحصل في قلبه الاضطرار لم تحصل الاجابة ولا النصرة، وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعب والخوف في قلبه، فثبت أن الإشراك بالله يوجب الرعب.
﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ السلطان هاهنا هو الحجة والبرهان، وفي اشتقاقه وجوه:
أ. الأول: قال الزجاج: إنه من السليط وهو الذي يضاء به السراج، وقيل للأمراء سلاطين لأنهم الذين بهم يتوصل الناس إلى تحصيل الحقوق.
ب. الثاني: أن السلطان في اللغة هو الحجة، وإنما قيل للأمير سلطان، لأن معناه أنه ذو الحجة.
ج. الثالث: قال الليث: السلطان القدرة، لأن أصل بنائه من التسليط وعلى هذا سلطان الملك: قوته وقدرته، ويسمى البرهان سلطاناً لقوته على دفع الباطل.
د. الرابع: قال ابن دريد: سلطان كل شيء حدته، وهو مأخوذ من اللسان السليط، والسلاطة بمعنى الحدة.
7. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ يوهم أن فيه سلطانا إلا أن الله تعالى ما أنزله وما أظهره، والجواب: أنه لو كان لأنزل الله به سلطانا، فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه، وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون: أن هذا مما لا دليل عليه فلم يجز إثباته، ومنهم من يبالغ فيقول: لا دليل عليه فيجب نفيه، ومنهم من احتج بهذا الحرف على وحدانية الصانع، فقال: لا سبيل إلى إثبات الصانع إلا باحتياج المحدثات اليه، ويكفي في دفع هذه الحاجة إثبات الصانع الواحد، فما زاد عليه لا سبيل إلى إثباته فلم يجز إثباته.
8. هذه الآية دالة على فساد التقليد، وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه، فوجب أن يكون القول به باطلا، وهذا إنما يصح إذا كان القول بإثبات ما لا دليل على ثبوته يكون باطلا، فيلزم فساد القول بالتقليد.
9. ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ بين الله تعالى أن أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا هو وقوع الخوف في قلوبهم، وبين أحوالهم في الآخرة، وهي أن مأواهم ومسكنهم النار.
10. ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ المثوى: المكان الذي يكون مقر الإنسان ومأواه، من قولهم: ثوى يثوي ثويا، وجمع المثوى مثاوي.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/385.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾، وقرأ ابن عامر والكسائي ﴿الرُّعْبَ﴾ بضم العين، وهما لغتان، والرعب: الخوف، يقال: رعبته رعبا ورعبا، فهو مرعوب، ويجوز أن يكون الرعب مصدرا، والرعب الاسم، وأصله من الملء، يقال: سيل راعب يملأ الوادي، ورعبت الحوض ملأته، والمعنى: سنملأ قلوب المشركين خوفا وفزعا، وقرأ السختياني (سيلقي) بالياء، والباقون بنون العظمة، قال السدي وغيره: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة انطلقوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا! قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به.
2. الإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام، قال الله تعالى: ﴿وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ﴾ [الأعراف] ﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ﴾ [الشعراء] ﴿فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ﴾ [الأعراف]، قال الشاعر: (فألقت عصاها واستقر بها النوى)، ثم قد يستعمل مجازا كما في هذه الآية، وقوله: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ [طه] وألقي عليك مسألة.
3. ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ﴾ تعليل، أي كان سبب إلقاء الرعب في قلوبهم إشراكهم، فما للمصدر، ويقال أشرك به أي عدل به غيره ليجعله شريكا.
4. ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ حجة وبيانا، وعذرا وبرهانا، ومن هذا قيل للوالي (سلطان)، لأنه حجة الله تعالى في الأرض، ويقال: إنه مأخوذ من السليط وهو ما يضاء به السراج، وهو دهن السمسم، قال امرؤ القيس: (أمال السليط بالذبال المفتل)، فالسلطان يستضاء به في إظهار الحق وقمع الباطل، وقيل السليط الحديد، والسلاطة الحدة، والسلاطة من التسليط وهو القهر، والسلطان من ذلك، فالنون زائدة، فأصل السلطان القوة، فإنه يقهر بها كما يقهر بالسلطان، والسليطة المرأة الصخابة، والسليط الرجل الفصيح اللسان، ومعنى هذا أنه لم تثبت عبادة الأوثان في شي من الملل، ولم يدل عقل على جواز ذلك.
5. ثم أخبر الله تعالى عن مصيرهم ومرجعهم فقال: ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ ثم ذمه فقال: ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ والمثوى: المكان الذي يقام فيه، يقال: ثوى يثوي ثواء، والمأوى: كل مكان يرجع إليه شي ليلا أو نهارا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/233.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَنُلْقِي﴾ وما: مصدرية، أي: بسبب إشراكهم.
2. ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ أي: ما لم ينزل الله بجعله شريكا له حجة وبيانا وبرهانا، والنفي يتوجه إلى القيد والمقيد، أي: لا حجة ولا إنزال، والمعنى: أن الإشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل.
3. المثوى: المكان الذي يقام فيه، يقال: ثوى، يثوي، ثواء.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/447.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ﴾ الخوف بعد أُحد، كما علا أبو سفيان أُحدًا فقال: (أين ابن أبي كبشة؟) يعني رسول الله ، أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطَّاب؟ فأجابه ابن الخطَّاب: هذا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهذا أبو بكر وأنا عمر!، ولم ينزل مع كثرة قومه إليهم مع قلَّتهم خوفا، بل قال: (يوم بيوم، والأيَّام دول، والحرب سجال، اُعلُ هبل!)، فأجابه عمر: (الله هو العليُّ الأجلُّ)، في كلمات دارت بينهم، ورجع أبو سفيان إلى مكَّة من غير سببٍ غير الخوف، وقال: يا محمَّد موعدكم موسم بدر من قابل، فقال : (نعم إن شاء الله)، وكما روي أنَّهم ساروا ما شاء الله تعالى ـ قيل وصلوا مللا كجبل قريبا من المدينة وندموا، وقالوا: ما صنعنا شيئًا لم يبق إِلَّا أقلُّهم فتركناهم، وفيهم رؤساء يجمعون إليكم، ارجعوا إليهم نستأصلهم، فخافوا ولم يرجعوا، وأرسلوا بعض الأعراب أن يبلغه صلّى الله عليه وآله وسلّم أَنَّ أبا سفيان يجمع لكم، وقال قائل: الغلبة لكم، فلعلَّكم إن رجعتم تكونوا مغلوبين فيفسد أمركم، وذلك الإلقاء بعد الوقعة كما ألقاها أوَّلاً قبل ترك المركز، وحَمْلُ الآية عليه يحتاج إلى دعوى تقدُّم نزول: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ﴾ الآية، على الآيات قبله ولو تكلَّفناه لَشَملَ هذا الرعبَ والرعبين المذكورين الواقعين بعد الوقعة، وتبعهم النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد رجوعهم في ستِّمائة وثلاثين مِمَّن شهد أُحدًا، حتَّى وصلوا حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة، ولم يدرك منهم أحدًا.. وقيل: الآية نزلت في الأحزاب.
2. ﴿بِمَآ أَشْرَكُواْ﴾ بإشراكهم، ﴿بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ﴾ الأصنام والشياطين، وروعي لفظ (مَا)، أو المراد العبادة كذلك، أو الإشراك، أي: بعبادته أو إشراكه، ﴿سُلْطَانًا﴾ أي: حجَّة لعدمها فضلا عن أَن ينزلها، والسالبة تصْدُق بنفي الموضوع، سمِّيت سلطانا لقوَّتها ووضوحها وحدَّتها ونفوذها، والنون زائدة لا وجه لأصالته.
3. ﴿وَمَأْوَاهُم﴾ مرجعهم، ﴿النَّارُ وَبِيسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ مقامهم أبدا، وذلك ترتيب حسب الوجود، فإنَّ الذهاب إلى موضع سابقٌ على الإقامة فيه، والظالمون عامٌّ ومنهم هؤلاء، والظلم عامٌّ وأعظمه الشرك، والمخصوص مقدَّر، أي: هي.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/28.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ أي الذي يمنعهم من الهجوم عليكم والإقدام على حرمكم ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ﴾ أي بكونه إلها أو متصفا بصفاته أو مستحقّا للعبادة ﴿سُلْطَانًا﴾ أي حجة قاطعة ينبني عليها الاعتقادات ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ هي، والمثوى: المقر والمأوى والمقام، من (ثوى يثوي)
2. أفادت الآية أن ذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله، وعلى قدر الشرك يكون الرعب، قال القاشانيّ: جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسببا عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس لتنورها بنور التوحيد، فلا تكون تامة إلا للموحد الموقن في توحيده، وأما المشرك فلأنه محجوب عن منيع القدرة بما أشرك بالله من الموجود المشوب بالعدم الذي لم يكن له بحسب نفسه قوة، ولم ينزل الله بوجوده حجة، فليس له إلا العجز والجبن وجميع الرذائل.
3. قال القفال: (كأنه قيل: إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك، في قلوب الكافرين، حتى يقهر الكفار، ويظهر دينكم على سائر الأديان، وقد فعل الله ذلك، حتى صار دين الإسلام قاهرا لجميع الأديان والملل)، وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة)
4. في ذكر عدم تنزيل الحجة مع استحالة تحققها في نفسها، إشعار بنفيها ونفي نزولها جميعا، لأن ما لم ينزل به سلطانا، لا سلطان له.
5. قال أبو السعود: في الآية إيذان بأن المتبع في الباب هو البرهان السماويّ، دون الآراء والأهواء الباطلة، وقد سبقه إلى ذلك الرازيّ حيث قال: (هذه الآية دالة على فساد التقليد، وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه، فوجب أن يكون القول به باطلا، وهذا إنما صح إذا كان القول بإثبات ما لا دليل على ثبوته، يكون باطلا، فيلزم فساد القول بالتقليد)
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/428.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ المتبادر لنا أن الآية تعليل أو تصوير لكونه تعالى خير الناصرين للمؤمنين الموحدين مبينة لبعض وجوهه تبيينا يقبح لهم الشرك ويزيدهم حبا في الإيمان، وبيانه أنه سيحكم في أعدائهم المشركين سنته العادلة، وهي أنه يلقي في قلوبهم الرعب وهو ـ بضم العين وبه قرأ ابن عامر والكسائي ويعقوب وبسكونها وبه قرأ الباقون ـ شدة الخوف التي تملأ القلب بسبب إشراكهم بالله أصناما ومعبودات لم ينزل بها سلطانا أي لم يقم برهانا من العقل ولا من الوحي على ما زعموا من ألوهيتها وكونها واسطة بين الله وبين خلقه، وإنما قلدوا في اتخاذها واعتقادها آباءهم الذين اتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، ومن كان كذلك غير مطمئن في دينه ولا متبع للدليل في اعتقاده فهو دائما عرضة لاضطراب القلب واتباع خطرات الوهم، يعد الوساوس أسبابا ويرى الهواجس مؤثرات وعللا، قياسا على اتخاذه بعض المخلوقات أولياء، وجعلهم وسائط عند الله وشفعاء، واعتياده بذلك أن يرجو ما لا يرجى منه خير ويخاف ما لا يخاف منه ضير، فالإشراك قد يكون سببا طبيعيا لوقوع الرعب في القلب وما كان كذلك فإن الله يسنده إلى نفسه وإن لم يذكر السبب لأنه هو واضع الأسباب والسنن، ولكنه قد صرح به هنا ليكون برهانا على بطلان الشرك وسوء أثره، وهذا الوجه المختار في تفسير الآية يوافق قول من جعل الوعيد فيها عاما وليس كل الكفر يثير الرعب بطبيعته، وإنما تلك طبيعة الشرك، وهو اعتقاد أن لبعض المخلوقات تأثيرا غيبيا وراء السنن الإلهية والأسباب.
2. صرّح كثير من المفسرين بأن قوله تعالى: ﴿سَنُلْقِي﴾ وعد للمؤمنين أنجزه يوم أحد في أول الحرب، ولا يظهر هذا بغير تأويل ولا تقدير إذا كانت الآية قد نزلت قبل القتال، والظاهر أنها نزلت مع ما قبلها وما بعدها عقب القتال وانصراف المشركين، وقال بعضهم: إن الوعد أنجز في غزوة حمراء الأسد، إذا أراد أبو سفيان ومن معه بعد الانصراف من أحد أن يرجعوا لاستئصال المسلمين فأوقع الله الرعب في قلوبهم لما قال لهم معبد ما قال، قال محمد عبده: في الآية وجهان:
أ. أحدهما: أن إلقاء الرعب خاص بتلك الواقعة، ولو كان عاما لشمل غزوة حنين، ولم يكن الكفار فيها مرعوبين، بل كانوا مستميتين، وكذلك نرى أن كثيرا من الكافرين قد حاربوا ولم يصبهم الرعب وهذا الوجه هو الذي عليه مفسرنا (الجلال) وكثير من المفسرين.
ب. الثاني: أن الآية بيان لسنة إلهية عامة وهو الحق وبيانه يتوقف على فهم المعنى المراد من لفظ المؤمنين، ولفظ (الكافرين) وهو ما كان عليه المؤمنون والكافرون في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات، فأما أولئك المؤمنون فهم الذين كانوا في مرتبة من اليقين والإذعان قد صدقها العمل الذي كان منه بذل الأنفس والأموال في سبيل الإيمان الذين عاتبهم الله ووبخهم على تلك الهفوة التي وقعت من بعضهم بما تقدم وما يأتي في هذا السياق من الآيات، وأما أولئك الكافرون فهم الذين دعوا إلى الإيمان، وأقيم لهم على الدعوة الدليل والبرهان، فجاحدوا وعاندوا وكابروا الحق، وآثروا مقارعة الداعي ومن استجاب له بالسيف، وقعدوا له ولهم كل مرصد، فإذا نظرنا في شرك هؤلاء الكافرين وفي حالهم مع أولئك المؤمنين، نجد أن شأنهم معهم كشأن من يرى نور الحق مع خصمه فيحمله البغي والعدوان على مجاحدته من غير حجة ولا دليل يرتاب فيما هو فيه ويتزلزل، فإذا شاهد الذين دعوه ثابتين مطمئنين يعظم ارتيابه ويهاب خصمه حتى يمتلأ قلبه رعبا منهم، هذا هو شأن الكافرين المعاندين مع المؤمنين الصادقين، كأنه تعالى يقول: هذه هي الطبيعة في المشركين إذا قاوموا المؤمنين فلا تخافوهم ولا تبالوا بقول من يدعوكم إلى موالاتهم والالتجاء إليهم، قال: وبهذا يندفع قول من يقول: ما بالنا نجد الرعب كثيرا ما يقع في قلوب المسلمين ولا يقع في قلوب الكافرين، فإن الذين يسمون أنفسهم مسلمين قد يكونون على غير ما كان عليه أولئك الذين خوطبوا بهذا الوعد من قوة اليقين والإذعان والثبات والصبر وبذل النفس والمال في سبيل الله وتمني الموت في الدفاع عن الحق، فمعنى المؤمنين غير متحقق فيهم وإنما رعب المشركين مرتبط بإيمان المؤمنين وما يكون له من الآثار، فحال المسلمين اليوم لا يقوم حجة على القرآن لأن أكثرهم قد انصرفوا عن الاجتماع على ما جاء به الإسلام من الحق وما كان عليه سلفهم من الإيمان والصفات والأعمال، فالقرآن باق على وعده ولكن هات لنا المؤمنين الذين ينطبق إيمانهم على آياته ولك من إنجاز وعده في هذه الآية وغيرها ما تشاء: وتلا قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور: 55] الآية، وعلى هذا يكون الإشراك سببا للرعب كسائر الأسباب العادية التي ربط الله بها المسببات كالشرب للري والأكل للشبع، فمن وصل إليه الحق تزلزل الباطل في نفسه لا محالة.
3. ومن تمام التشبيه أن تكون بعض الوقائع التي لا يقع فيها الرعب في قلوب المشركين، كالوقائع التي يشرب فيها المرء ولا يروى لعارض مرضي فسنن الاجتماع كسنن الأجسام الطبيعية لها عوارض وشروط وموانع.
4. ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ أي هي مكانهم الذي يأوون إليها في الآخرة بعدما يصيبهم من الخذلان في الدنيا ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ أي والنار التي يأوون إليها بئس المثوى والمقام لهم بسبب ظلمهم لأنفسهم بالكفر والجحود ومعاندة الحق ومقاومة أهله وظلم الناس بسوء المعاملة.
__________
(1) تفسير المنار: 4/178.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ أي إنه سبحانه سيحكّم في أعدائكم الكافرين سننه ويلقى في قلوبهم الرعب بسبب إشراكهم بالله أصناما ومعبودات لم يقم برهان من عقل ولا نقل على ما زعموا من ألوهيتها، وكونها واسطة بين الله وخلقه، وإنما قلدوا في ذلك آباءهم الذين ضلوا من قبل، ومن ثم كانوا عرضة لاضطراب القلب، واتباع خطوات الوهم، فهم يعدّون الوساوس أسبابا، والهواجس مؤثرات وعللا، ويرجون الخير مما لا يرجى منه الخير، ويخافون مما لا يخاف منه الضّير.
2. في الآية إيماء إلى بطلان الشرك، وسوء أثره في النفوس، إذ طبيعته تورث القلوب الرعب، باعتقاد أن لبعض المخلوقات تأثيرا غيبيا وراء السنن الإلهية، والأسباب العادية، فالمشركون الذين جاهدوا الحق، وآثروا مقارعة الداعي ومن استجاب له بالسيف، بغيا وعدوانا ـ يرتابون فيما هم فيه ويتزلزلون إذا شاهدوا الذين دعوهم ثابتين مطمئنين، ولا يزال ارتيابهم يزيد حتى تمتلئ قلوبهم رعبا.
3. الخلاصة ـ إن طبيعة المشركين إذا قاوموكم أيها المؤمنون، أن تكون نفوسهم مضطربة، وقلوبهم ممتلئة رعبا وهلعا منكم فلا تخافوهم، ولا تبالوا بقول من يدعوكم إلى موالاتهم والالتجاء إليهم.
4. بعد أن بين الله تعالى أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا من وقوع الخوف والهلع في قلوبهم ـ ذكر أحوالهم في الآخرة فقال: ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ أي إن مسكنهم النار بسبب ظلمهم لأنفسهم بالكفر والجحود ومعاندة الحق ومقاومة أهله، وظلمهم للناس بسوء المعاملة وفي التعبير بالمثوى المنبئ عن المكث الطويل دليل على الخلود فيها.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/97.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم يمضي السياق يثبت قلوب المسلمين، ويبشرهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانا، ولم يجعل له قوة وقدرة، وذلك فوق عذاب الآخرة المهيأ للظالمين: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾
2. الوعد من الله الجليل القادر القاهر، بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، كفيل بنهاية المعركة، وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه، وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان، فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم، ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم، ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين، حقيقة الشعور بولاية الله وحده، والثقة المطلقة بهذه الولاية، والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون، وأن الله غالب على أمره، وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه!
3. التعامل مع وعد الله هذا، مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه، فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم! إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح، لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة، إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها، لأن الله لم يمنحها سلطانا.
4. التعبير: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ ذو معنى عميق، وهو يصادفنا في القرآن كثيرا، مرة توصف به الآلهة المدعاة، ومرة توصف به العقائد الزائفة.. وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة: إن أية فكرة، أو عقيدة، أو شخصية، أو منظمة.. إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر، هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من (الحق) أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون، ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون، وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود، وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية، مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش!
5. المشركون يشركون مع الله آلهة أخرى ـ في صور شتى ـ ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله سبحانه شيئا ما من خصائص الألوهية ومظاهرها، وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها؛ وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم؛ وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم.. ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه، وواحدة منها! فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون؟ إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد؛ وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك؛ ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع؛ ولتعبده وحده حق عبادته بلا أنداد.. فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل، فهو زائف باطل، مناقض للحق الكامن في بنية الكون، ومن ثم فهو واه هزيل، لا يحمل قوة ولا سلطانا، ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة؛ بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة! وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانا؛ من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء، وهم أبدا خوارون ضعفاء؛ وهم أبدا في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان.
6. نجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل.. وكم من مرة وقف الباطل مدججا بالسلاح أمام الحق الأعزل، ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب، ويرتجف من كل حركة وكل صوت ـ وهو في حشده المسلح المحشود! فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل؛ ولو كانت له الحشود، وكان للحق القلة، تصديقا لوعد الله الصادق: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ ذلك في الدنيا، فأما في الآخرة.. فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين، ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/492.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هؤلاء المشركون، سيملأ الله قلوبهم رعبا، بما حملوا من شرك، وبما عبدوا من ضلالات.. إذ أن الشرك بقتل في صاحبه كل معانى الإنسانية، ويقيمه في هذه الدنيا مقاما قلقا مضطربا، لا يجد ما يستند إليه عند الشدائد والمحن، وما ظنّك بإنسان ـ إذا كربه الكرب، ونزلت به النوازل ـ فزع إلى حجر يعبده؟ أو إلى حيوان يسجد بين يديه؟
2. أين هذا ممن يمدّ يده إلى مالك الملك، ويفزع إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض؟ وشتّان بين هذا وذاك.. فالمشرك يدعو من لا يملك ضرّا ولا نفعا، ويهتف بمن لا يستجيب له إلى يوم القيامة.. أما المؤمن فيدعو ربّ الأرباب، ومدبّر الأكوان، والآخذ بناصية كل كائن، والقائم على كل موجود.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/611.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ رجوع إلى تسلية المؤمنين، وتطمينهم، ووعدهم بالنّصر على العدوّ، والإلقاء حقيقته رمي شيء على الأرض: ﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ﴾ [الشعراء: 44]، أو في الماء: ﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ [القصص: 7] ويطلق على الإفضاء بالكلام: ﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ﴾ [الشعراء: 223] وعلى حصول الشيء في النفس كأنّ ملقيا ألقاه أي من غير سبق تهيّؤ: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ [المائدة: 64] وهو هنا مجاز في الجعل والتّكوين كقوله: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ [الأحزاب: 26]
2. الرعب: الفزع من شدّة خوف، وفيه لغتان الرعب ـ بسكون العين ـ والرعب ـ بضم العين ـ وقرأه الجمهور ـ بسكون العين ـ وقرأه ابن عامر، والكسائي ـ بضم العين ـ.
3. الباء في قوله: ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ﴾ للعوض وتسمّى باء المقابلة مثل قولهم: هذه بتلك، وقوله تعالى: ﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾ [المائدة: 38]، وهذا جزاء دنيوي رتّبه الله تعالى على الإشراك به، ومن حكمته تعالى أن رتّب على الأمور الخبيثة آثارا خبيثة، فإنّ الشرك لمّا كان اعتقاد تأثير من لا تأثير له، وكان ذلك الاعتقاد يرتكز في نفوس معتقديه على غير دليل، كان من شأن معتقده أن يكون مضطرب النّفس متحيّرا في العاقبة في تغلّب بعض الآلهة على بعض، فيكون لكلّ قوم صنم هم أخصّ به، وهم في تلك الحالة يعتقدون أنّ لغيره من الأصنام مثل ما له من القدرة والغيرة، فلا تزال آلهتهم في مغالبة ومنافرة، كما لا يزال أتباعهم كذلك، والّذين حالهم كما وصفنا لا يستقرّ لهم قرار في الثّقة بالنّصر في حروبهم، إذ هم لا يدرون هل الربح مع آلهتهم أم مع أضدادها.
4. وعليه فقوله: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ صلة أجريت على المشرك به ليس القصد بها تعريف الشركاء، ولكن قصد بها الإيماء إلى أنّه من أسباب إلقاء الرعب في قلوبهم، إذ هم على غير يقين فيما أشركوا واعتقدوا، فقلوبهم وجلة متزلزلة، إذ قد علم كلّ أحد أن الشركاء يستحيل أن ينزل بهم سلطان.
5. سؤال وإشكال: ما ذكرته يقتضي أنّ الشرك سبب في إلقاء الرعب في قلوب أهله، فيتعيّن أن يكون الرعب نازلا في قلوبهم من قبل هذه الوقعة، والله يقول ﴿سَنُلْقِي﴾ أي في المستقبل، والجواب: هو كذلك إلّا أنّ هذه الصّفات تستكنّ في النفوس حتّى يدعو داعي ظهورها، فالرعب والشجاعة صفتان لا تظهران إلا عند القتال، وتقويان وتضعفان، فالشجاع تزيد شجاعته بتكرّر الانتصار، وقد ينزوي قليلا إذا انهزم ثمّ تعود له صفته سرعى، كما وصفه عمرو بن الإطنابة في قوله:
çوقولي كلّما جشأت وجاشت...مكانك تحمدي أو تستريحيé
وقول الحصين بن الحمام:
çتأخّرت أستبقي الحياة فلم أجد...لنفسي حياة مثل أن أتقدّماé
وكذلك الرعب والجبن قد يضعف عند حصول بارقة انتصار، فالمشركون لما انهزموا بادئ الأمر يوم أحد، فلّت عزيمتهم، ثمّ لمّا ابتلى الله المؤمنين بالهزيمة راجعهم شيء من الشجاعة والازدهاء، ولكنّهم بعد انصرافهم عاودتهم صفاتهم، (وتأبى الطباع على الناقل)، فقوله: ﴿سَنُلْقِي﴾ أي إلقاء إعادة الصفة إلى النّفوس، ولك أن تجعل السين فيه لمجرّد التّأكيد أي ألقينا ونلقي، ويندفع الإشكال.
6. كثير من المفسّرين ذكروا أنّ هذا الرعب كانت له مظاهر:
أ. منها أنّ المشركين لمّا انتصروا على المسلمين كان في مكنتهم أن يوغلوا في استيصالهم إلّا أنّ الرعب صدّهم عن ذلك، لأنّهم خافوا أن تعود عليهم الهزيمة، وتدور عليهم الدائرة.
ب. ومنها أنّهم لمّا انصرفوا قاصدين الرجوع إلى مكّة عنّ لهم في الطريق ندم، وقالوا: لو رجعنا فاقتفينا آثار محمد وأصحابه، فإنّا قتلناهم ولم يبق إلّا الفلّ والطّريد، فلنرجع إليهم حتّى نستأصلهم، وبلغ ذلك النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فندب المسلمين إلى لقائهم، فانتدبوا، وكانوا في غاية الضعف ومثقّلين بالجراحة، حتّى قيل: إنّ الواحد منهم كان يحمل الآخر ثمّ ينزل المحمول فيحمل الّذي كان حامله، فقيّض الله معبد بن أبي معبد الخزاعي وهو كافر فجاء إلى رسول الله فقال: (إنّ خزاعة قد ساءها ما أصابك ولوددنا أنّك لم ترزأ في أصحابك) ثمّ لحق معبد بقريش فأدركهم بالرّوحاء قد أجمعوا الرجعة إلى قتال المسلمين فقال له أبو سفيان: ما وراءك يا معبد، قال محمد وأصحابه قد خرجوا يطلبونكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرّقون عليكم، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه، فقال: ويلك، ما تقول!؟ قال ما أرى أنّك ترتحل حتّى ترى نواصي الخيل ولقد حملني ما رأيت منه على أن قلت فيه:
çكادت تهدّ من الأصوات راحلتي...إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابلة...عند اللّقاء ولا ميل معازيل
فظلت أعدو وأظنّ الأرض مائلة...لمّا سموا برئيس غير مخذولé
فوقع الرّعب في قلوب المشركين وقال صفوان بن أميّة: لا ترجعوا فإنّي أرى أنّه سيكون للقوم قتال غير الّذي كان.
7. ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ أي ما لا سلطان له، والسلطان: الحجّة والبرهان لأنّه يتسلّط على النّفس، ونفي تنزيله وأريد نفي وجوده، لأنّه لو كان لنزل أي لأوحى الله به إلى النّاس، لأنّ الله لم يكتم النّاس الإرشاد إلى ما يجب عليهم من اعتقاد على ألسنة الرسل، فالتنزيل إمّا بمعنى الوحي، وإمّا بمعنى نصب الأدلّة عليهم كقولهم: (نزلت الحكمة على ألسنة العرب وعقول الفرس وأيدي الصّين) ولمّا كان الحقّ لا يعدو هذين الحالين: لأنّه إمّا أن يعلم بالوحي، أو بالأمارات، كان نفي تنزيل السلطان على الإشراك كناية عن نفي السلطان نفسه، كقول الشاعر الّذي لا يعرف اسمه:
çلا تفزع الأرنب أهوالها...ولا ترى الضبّ بها ينجحرé
8. ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ ذكر عقابهم في الآخرة، والمأوى مفعل من أوى إلى كذا إذا ذهب إليه، والمثوى مفعل من ثوى إذا أقام؛ فالنّار مصيرهم ومقرّهم والمراد المشركون.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/249.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين سبحانه بعضا من أسباب نصره، فقال: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ الرعب الخوف والانزعاج، أو امتلاء النفس بالخوف والانزعاج، حتى تضعف الجماعة مع وجود أسباب القوة، وأصله من الملء مع الاضطراب، يقال سيل راعب، يملأ الوادي ويضطرب به، ورعبت الحوض ملأته، ومعنى إلقاء الله تعالى بث روح الخوف والفزع في قلوبهم، وإن إلقاء الله تعالى الرعب في قلوب المشركين كانت له مظاهر شتى:
أ. منها أن يضع سبحانه وتعالى فيهم الفزع، فيخافون عند النصر لهم من متابعته، كما كان عقب أحد، فإن المشركين سارعوا بالعودة وبينما هم في الطريق ندموا وقال قائلهم: بئس ما صنعنا، قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد ثم تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم، ولما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، فانصرفوا لا يلوون على شيء.
ب. ومن مظاهره النصر بالريح، كما كان في غزوة الأحزاب، فقد جاءت إلى المشركين ريح شديدة قذفت في قلوبهم الرعب، فعادوا ولم ينالوا شيئا، وقال تعالى في ذلك: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب]، وروي في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس جميعا)
2. وقد ذكر سبحانه وتعالى السبب في إلقاء الرعب في قلوب أعداء أهل الإيمان فقال سبحانه وتعالى: ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ والسلطان هنا هو الحجة والدليل، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ [غافر]، وكما قال تعالى: ﴿فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [إبراهيم]، وقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [هود]، فالمعنى أنهم أشركوا بالله أحجارا لم ينزل الله بها حجة مثبتة لصحة عبادتها، لأنه لا دليل على سلامة هذه العبادة، ولا يوجد دليل قط يؤيدها.
3. يصح أن يفسر السلطان هنا بمعنى القوة والتمكن، والمعنى على هذا أنهم أشركوا بعبادة الله تعالى أشياء لم ينزل أي لم يجعل فيها قوة تنفع وتضر، فهم يعبدون ما لا يملك نفعا ولا ضرا، ويشركونه في العبادة مع الذي يملك كل شيء، وهو الذي ينفع ويضر من غير شريك.
4. السببية التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله: ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ﴾ لها توجيهان:
أ. أحدهما: أن الله تعالى يلقى الرعب في قلوبهم لأنهم عاندوا الله سبحانه، وحادوه، وأشركوا معه في العبادة، ولأنهم ينشرون بهذا التفكير الفاسد الشر والفساد في الأرض، والله تعالى لا يحب الفساد، وهو ينصر الخير على الشر، والصلاح على الفساد، فالسببية هي إرادة الله تعالى التي بها قوام كل معوج وصلاح كل فاسد.
ب. ثانيهما: أن السبب في إلقاء الرعب من حالهم هم؛ ذلك لأنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر، ولا تقوم عندهم حجة ولا شبه حجة على صلاحية ما يعبدون للعبادة، ويكون الوهم هو الذي سيطر، والهوى هو الذي تحكم، ومن تتحكم فيه أهواؤه وأوهامه يكون مضطرب النفس مزلزل القلب تزعجه الكوارث، ويضطرب عند نزول أي حادث، فكان الشرك وتحكمه في النفس هو السبب في الرعب والخوف والفزع؛ إذ هم يخافون من غير مخوف، ويفزعون في غير مفزع.
5. سؤال وإشكال: تلك هي حال الكافرين الذين ناوؤوا أهل الإيمان، كان سبحانه يلقى الرعب في قلوبهم، ويثبت قلوب المؤمنين، فهل هذه سنة أهل الإيمان مع المشركين وأشباههم دائما؟ والجواب: أنه شأن المؤمنين حقا وصدقا إذا لم يضعفوا ولم يذلوا، ولم يوالوا أعداء المؤمنين على المؤمنين، بل يأخذون الأهبة، ويغلبون الهدى على الضلال، ويجعلون الله مولاهم، فإذا رأينا الحال قد تغيرت، فليس ذلك لتغير سنة الله في خلقه، ووعده لأنبيائه والصديقين معهم، بل لتغير حال المؤمنين، ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد] ولقد تنبأ صلّى الله عليه وآله وسلّم بما آل إليه المسلمون، وبين أن ذلك سببه الوهن الذي يتولد عن حب الدنيا، وكراهية الموت، وإنه عندما تصاب القلوب بهذه الإصابة ذكر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن الله ينزع من قلوب أعدائهم المهابة منهم، فقال : (ولينزعن من قلوب عدوكم المهابة منكم)، فإذا كنا نرى المؤمنين قد ألقى في قلوبهم الرعب بدل الكافرين، فليس في هذا مخالفة لوعد الله؛ لأن بعض المسلمين في هذه الأيام والوا الكافرين على المؤمنين، وذلّوا تحت ولايتهم واستخذوا لهم واستعدوهم على أهل الإسلام، فنزع الله المهابة من أهل الإيمان، فكان ما كان، وشرط إلقاء الرعب في قلوب الكافرين ألا نطيعهم، فقد وقعنا إذن في المنهى عنه في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ [آل عمران]، ولقد أطعناهم وواليناهم دون المؤمنين، ولم نتخذ الله مولى لنا، فخسرنا خسرانا مبينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
6. ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ المأوى اسم مكان من أوى يأوي وهو الذي يرجع إليه الشخص ويعود إليه، ويقيم فيه إقامة طويلة، والمثوى اسم مكان من ثوى يثوى أي أقام إقامة لا نهاية لها، والمعنى أن الكافرين إذا ألقى الله في قلوبهم الرعب خسروا وباؤوا بخسرانهم في الدنيا، وليس لهم مأوى في الآخرة إلا النار، وبئس هذه النار موضع إقامة دائمة لهم، وقد أظهر سبحانه وتعالى الاسم في موضع الإضمار، فلم يقل تعالت كلماته: وبئس النار مثواهم، بل قال: ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ للإشارة إلى أن هذا المآل جزاء وفاقا لظلمهم فهو عقاب يستحقونه بسبب الظلم؛ إذ قد ظلموا أنفسهم فأضلوها وصدوها عن الحق وسبيله بسبب الغواية التي ارتضوها، وظلموا الحق فصدوا الناس عنه، وظلموا المؤمنين وحاولوا أن يفتنوهم عن دينهم واعتدوا عليهم وعثوا في الأرض مفسدين، وخضبوها بالدماء البريئة، فكان ما لقوه من هزيمة ورعب وخسران في الدنيا بعض الجزاء، والجزاء الأوفى في الآخرة، اللهم قنا عذاب النار، اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وقنا شر ما قضيت، اللهم أعزنا بعزتك، اللهم قنا شر الاستخذاء والولاية لغيرك، إنك سميع الدعاء.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1448.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾، أي لا تخافوا أيها المسلمون من المشركين، لأنهم هزموكم في أحد فان الله سيلقي الرعب منكم في قلوبهم بسبب انهم جعلوا لله شركاء لا دليل على أنها شيء يؤبه له، وإنما عبدوها تقليدا.
2. قيل: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون من أحد متوجهين إلى مكة قالوا بئس ما صنعنا، قتلناهم، حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم.. ارجعوا فنستأصلهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، حتى رجعوا عما هموا به.. وسواء أكان هذا هو سبب النزول، أو لم يكن فإن لفظ الآية لا يأباه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/177.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ﴾ الآية وعد جميل للمؤمنين بأنهم سينصرون بالرعب، ولقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يذكره فيما حباه الله تعالى وخصه به من بين الأنبياء على ما رواه الفريقان.
2. ﴿بِمَا أَشْرَكُوا﴾، معناه: اتخذوا له ما ليس معه برهان شريكا، ومما يكرره القرآن أن ليس لإثبات الشريك لله سلطان، ومن إثبات الشريك نفي الصانع وإسناد التأثير والتدبير إلى غيره كالدهر والمادة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/44.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ قال في (الصحاح): (الرعب: الخوف)، وقال تعالى: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر:2] وفي الحديث في (مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام) وغيره: (ونُصِرتُ بالرعب على مسيرة شهر)، وهذا تشجيع للمؤمنين فلا يحتاجون إلى أن يطيعوا الذين كفروا، لأن المؤمنين الأعلون.
2. سبب إلقاء الله الرعب في قلوبهم إشراكهم ﴿بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ لأن الفطرة تقتضي أن يعبدوا الله وحده؛ لأنه الذي خلقهم ورزقهم، فوجبت عليهم عبادته، فالعدول إلى عبادة ما لم يخلق ولم يرزق بلا برهان من الله عدول عن الفطرة لمجرد هوى الأنفس، والظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، وقد كفى في إبطال الشرك أن الله ﴿لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ فدل على قبح التقليد في كل دين لم ينزل الله به سلطاناً، فأما تقليد القاصر في تعيين حكم الله الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فليس من هذا، إلا أنه لا يكفي في العقائد أما أنه ليس من هذا فلأن كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد علم المسلمون بأنهما جاءا بأحكام الله تعالى وهي مطلوب المقلد فلم يطلب ما لم ينزل به سلطاناً إنما قلد للتوصل إلى ما نزل به سلطان من الله وذلك غاية وسعه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وأما أنه لا يكفي في العقائد فلأمرين:
أ. الأول: أن المطلوب فيها العلم نحو قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ﴾ [محمد:19] ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [هود:14] ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة:4] ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق:12] وغير ذلك، والتقليد لا يحصل به العلم.
ب. الثاني: أنه لا ضرورة للتقليد في العقائد؛ لأنها عقليات يتمكن من العلم فيها الناظر بعقله، ويكفيه التنبيه على الأدلة أو ضروريات معلومة بين المسلمين من ضرورة الدين، وأدلتها واضحة في القرآن سهلة الفهم للعربي ومتعلم العربية، أما من هو أعجمي فيكفيه الوقف وتعلم العربية والقرآن بقدر وسعه حتى يتمكن من فهم الأصول المأخوذة من القرآن، وما دام متعلماً فهو على سبيل نجاة.
3. لو جاز التقليد في العقائد لجاز التقليد في اليهودية والنصرانية وهو خلاف المعلوم من دين الإسلام وهو باطل من حيث أنه لا يحصل به العلم، ومن حيث أنه يكفي في تحصيل العلم بنبوءة نبي الإسلام أيسر بحث لمعرفة إعجاز القرآن بسماع آيات التعجيز في الاتيان بسورة من مثله، والسؤال عن معناها وبيانه بترجمة يحصل بها العلم لتطابق المترجمين في الجهات المتباعدة وقرائن صدقهم حتى يحصل العلم بتفهيمهم له وتنبيههم له على دلائل صدقهم من أحوال واقعية وأمور عقلية معروفة كمطابقته للعقول في التوحيد وإثبات الجزاء على الأعمال في الآخرة وأمور كثيرة فارقة بين الإسلام وغيره من الملل، ولا يبعد أن يجعل الله له آية فيمن يعلِّمه يعرف بها صدقه مؤكدة لقوله، بل لا بد منه لمن طلب الحق ولم يتمكن من العلم بالسؤال لقوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ [الليل:12] وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ [النحل:9]، وقد كان للإمام الناصر عليه السلام في بلاد الفرس كرامات كثيرة، وأسلم على يديه أمم، ولعل معظم السبب هو الكرامات.
4. ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ أي مأوى الذين كفروا ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ بئس مثواهم نار جهنم ﴿بِئْسَ﴾ كلمة ذم ضد نِعْمَ، والمثوى: المقام، فهي كقوله تعالى: ﴿إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾ [الفرقان:66]
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/552.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يوضّح الله لنا الصورة بأسلوب أقوى وأكثر وضوحا، فإن الكافرين لا يعيشون عمق الشعور بالقوّة، لأنّ قلوبهم فارغة من الإيمان بالله الذي يمنح القوّة لعباده، فهم يمارسونها بشكل استعراضي لا ينطلق من قاعدة ثابتة، مما يجعلها تذوب لدى أوّل بادرة جديدة للقوّة، فتمتلئ نفوسهم بالرعب وتتحوّل أفئدتهم إلى هواء.
2. ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ فإن الشرك بالله لا يملكون أيّة حجة عليه في خط العقيدة والعبادة، لأن هذه الأوثان التي يعبدونها وهؤلاء الأشخاص الذين يطيعونهم في معصية الله، لا تمثل أية حقيقة في معنى الألوهية، ولا تملك أيّة خصوصية في مضمون الربوبية، فإنها لا تملك لوجودها ضرّا ولا نفعا إلا بالله، فهي من بين ما يصنعونه بأيديهم وما يماثلهم في الوجود في نقاط الضعف التي يختزنونها ولا يتفوقون عليهم في شيء، وبالرغم من هذا كله فهم يعتبرونها آلهة، ويعبدونها من دون الله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الشرك يفرّغ القلب من كل قوّة، ويعزله عن كل طمأنينة، ويبتعد به عن كل إحساس بالأمن، لأن الله ـ وحده ـ هو الذي يملأ عقل الإنسان وقلبه وروحه وضميره وكل حياته، فيمنحه الطمأنينة الهادئة العميقة، التي توحي إليه بأنه في أمان من كل خوف، لأن الله هو المهيمن على الأمر كله، فلا يملك أيّ مخلوق الإضرار به إذا لم يرد الله له ذلك، ولهذا كان الإنسان الفارغ قلبه من الله هو الذي يطوف القلق في داخله أمام أيّ طارئ من طوارئ الحيرة، ويعيش الخوف في كيانه من خلال كل عنصر من عناصر الإثارة، حتى أن الوساوس والهواجس تنفذ إليه، بسبب العوامل السلبية التي تحيط به، فتأكل روحه، وتهز موقعه، لأنه لا يجد أيّة قاعدة ثابتة للإحساس بالقوة في نفسه، مما يجعل حياته نهبا لأية حالة طارئة وأيّ شك جديد لتلعب به الرياح النفسية والخارجية على طريقة قول الشاعر:
çإذا الريح مالت...مال حيث تميلé
وهذا ما يجعل الإحساس بالرعب أمرا طبيعيا في حياتهم بسبب الهواجس التي تطوف في خيالهم، وينطلق الغيب الإلهي بالقدرة الخفية، ليثير الرعب بقوّة من خلال هواجس جديدة وتهاويل مخيفة في تصوراتهم للأشياء التي يدخل فيها بعض عناصر الخوف ونوازع القلق.
3. إننا نعرف أن للحالة النفسية دورها في تثبيت المواقف وتأكيدها، لأن الإنسان يتحرك من خلال الجوّ الداخلي في نفسه، فهو الذي يمنح الخطى توازنا، والموقع صلابة، والموقف قوّة، والإنسان صمودا، لأنه لا يحارب من موقع طاقته الجسدية المادية بل من موقع طاقته الروحية التي تنفذ إلى مفاصل الجسم لتمنحه قوّة من قوتها، وثباتا من ثباتها، وروحية من روحيتها.
4. في ضوء هذا، فإن الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا من خلال العناصر الخارجية والإيحاءات الداخلية، في مقابل الطمأنينة والسكينة التي ينزلها على رسوله والمؤمنين، يمكن له أن يحرّك الهزيمة في ساحة الكافرين والنصر في مجتمع المؤمنين، مما يفرض على المؤمنين أن يدخلوا المعركة بثقة في أنفسهم من خلال الثقة بالله الذي يملك الأمر كله، فإنهم إذا أخذوا بأسباب النصر وانطلقوا في إرادة التحدي، أعطاهم الله أسبابا خفية تبعدهم عن روح الهزيمة وعن مواقع الفرار، وهذا ما ينبغي للعاملين في خط الدعوة والحركة والجهاد ملاحظته في خططهم الحركية في ملاحقة كل الوسائل الاستكبارية العاملة على إثارة أجواء التهويل والتخويف من القوى المضادة بما يتحدث به إعلامها عن مواقع القوة لديها مقارنا بمواقع الضعف عندنا، مما يوحي بأن الطريق الوحيد للنجاة هو الاستسلام لأنه لا مجال لاختراق هذا الجدار الصلب من القوّة للفئات المستكبرة أو الكافرة، فلا واقعية للمواجهة ولا فرص للثبات، وذلك من أجل إلقاء الرعب السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي والثقافي في قلوب المؤمنين ليعيشوا الهزيمة النفسية التي تهيّئ الظروف للهزيمة الخارجية.
5. إن المؤمنين الذين يأخذون بأسباب الإيمان، ويخلصون لله، ويعرفون سننه، ويتعرفون مواقع قدرته ووسائل لطفه، من حيث إيحاءات العقيدة، وواقع اللطف الإلهي بعباده.. يعرفون كيف يتمردون على كل وسائل التخويف وكل أجواء الرعب، بالانفتاح على الله في مواقع غيبه، بالإضافة إلى السير في الحياة على خط سننه الكونية والتاريخة؛ وبذلك يملكون التوازن في الموقف، والثبات في الموقع، والقوة في ساحة الصراع للوقوف بصلابة في وجه هؤلاء الكافرين والمستكبرين الذين سيلقي الله في قلوبهم الرعب من خلال قوة أوليائه، وخفايا غيبه، وذلك هو شأنهم في الدنيا عندما تواجههم قوّة الحقّ، ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ في الآخرة جزاء لهم على كفرهم وطغيانهم ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية، وظلموا الناس والحياة بالعدوان.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/310.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يشير الله تعالى إلى نموذج من نماذج التأييد الإلهي للمسلمين في أحرج الظروف، وأحلك المراحل إذ يقول: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾، ففي هذا المنقطع من الآية يشير إلى نجاة المسلمين بعد معركة أحد، وخلاصهم بأعجوبة، وهو بذلك ـ كما أسلفنا ـ يشير إلى واحد من موارد حماية الله للمسلمين وغضبه على الكفّار، ويطمئن المسلمين إلى المستقبل ويزيد من ثقتهم بأنفسهم، ويؤمّلهم في التأييدات الإلهية القادمة، فالوثنيون المكيون ـ كما سبق أن قلنا في قصة معركة أحد ـ مع أنهم أحرزوا في تلك المعركة انتصارا ملفتا للنظر، واستطاعوا أن يبددوا الجيش الإسلامي ولو ظاهرا، رأوا أن يعودوا إلى ساحة المعركة، ويأتوا على البقية الباقية من القوّة الإسلامية، بل ولم يترددوا مطلقا في إغارة على المدينة المنورة، والقضاء على شخص النبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي كان قد بلغهم عدم صحة الخبر بمقتله في تلك المعركة، إلّا أن الله سبحانه قد ألقى في قلوبهم رعبا عجيبا، وخوفا بالغا صرفهم عن نيتهم تلك، على أن هذا لخوف الذي لم يكن له ما يبره أبدا سوى أنه من خواص الكفر والوثنية والإعتقاد بالخرافة قد شمل وجودهم كلّه حتّى أنهم ـ كما نقرأ ذلك في الأحاديث ـ كانوا عند عودتهم من (أحد) واقترابهم من مكة أشبه ما يكونون بجيش منهزم مندحر، رغم ما قد حققوه من انتصار شبه ساحق.
2. وهذا هو ما تلخصه الآية إذ تقول: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ أي أننا كما ألقينا الرعب في قلوب الكفّار في أعقاب معركة (أحد) ورأيتم نموذجا منه بأم أعينكم، سنلقي مثله في قلوب الذين كفروا فيما بعد، ولهذا ينبغي أن تطمئنوا إلى المستقبل، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا تهزكم ولا تزعزعكم شماتة شامت ووسوسة موسوس.
3. الجدير بالذكر أن الآية تعلل نشأة هذا الرعب الواقع في قلوب الكفّار كالتالي: ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ لقد كانوا قوما أهل خرافة، لا يتبعون دليلا، ولا يلتمسون برهانا، ولهذا كثيرا ما كانت المحقرات من الأشياء تعظم في عيونهم وأفكارهم، فيتخذون الحجر والمدر والخشب معبودات وآلهة لهم، يضعفون أمام الحوادث ضعفا عجيبا ويستكينون لها استكانة مذلة لأنهم سرعان ما يخطئون في حساباتهم وتقديراتهم، فإذا ما حدث حادث طفيف ـ في حياتهم ـ كما لو سمعوا مثلا بأن المسلمين المهزومين عادوا مع جراحاتهم وجرحاهم إلى ساحة المعركة لملاحقة الأعداء، عظم ذلك في عيونهم وكبر في نظرهم، وحسبوا له أعظم حساب، وخافوا من ذلك أشد الخوف، وهي بعينها الحالة التي يعاني منها المستكبرون في عالمنا الراهن وعصرنا الحاضر، حيث إننا نشاهد كيف يخافون من أصغر حادث، فيتصورون الذرة جبلا والحبة قبة، وذلك لأنهم لا يركنون إلى ركن وثيق، ولم يختاروا لأنفسهم كهفا حصينا، من إيمان صحيح وعقيدة مستقيمة.
4. لقد ظلم هؤلاء الكافرون أنفسهم وظلموا مجتمعاتهم فـ: ﴿مَأْواهُمُ النَّارُ وبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ وما أسوأه من مثوى ومآل.
5. تفيد روايات كثيرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يمتاز في جملة ما يمتاز به أنه كان ينتصر على أعدائه بسبب خوفهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، إن هذا الموضوع يشير ـ في نفس الوقت ـ إلى أحد عوامل الانتصار في المعارك والحروب وخاصة في مثل هذا اليوم الذي تعتبر فيه معنويات المقاتلين من أهم الأمور العسكرية، ومن أهم القضايا في شؤون التكتيك الحربي، ولهذا فإن لمعنوية المقاتلين المرتفعة من التأثير في تحقيق النصر ما ليس للسلاح من حيث الكمية والكيفية.
6. من هنا بالغ الإسلام في رفع معنويات المقاتلين، فمضى يقوي فيهم روح الإيمان والحبّ للجهاد، والاعتزاز بالشهادة، والاتكال على الله القادر المنان وبهذا بلغ بالمجاهدين المسلمين أعلى قمم الاستقامة والثبات، والشجاعة والبسالة في حين كان المشركون وعبدة الأوثان، الذين لم يكونوا يعتقدون إلّا بأصنام صم بكم لا تضر ولا تنفع، ولا يؤمنون بمعاد وقيامة وحياة بعد الموت، كانوا يعانون من نفسية ضعيفة منهزمة مهزوزة، فكان هذا التفاوت بين النفسيتين هو أحد العوامل المؤثرة لانتصار المسلمين عليهم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/729.
79. الوعد الإلهي والفشل والتنازع
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈79⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 152]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يريد الدنيا، حتى نزلت فينا يوم أحد: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين، يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر: إنه ليس أحد منا يريد الدنيا، حتى أنزل الله: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾، فلما خالف أصحاب النبي ، وعصوا ما أمروا به؛ أفرد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في تسعة؛ سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، وهو عاشر، فلما رهقوه قال: رحم الله رجلا ردهم عنا)، فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل، فلما رهقوه أيضا قال: رحم الله رجلا ردهم عنا)، فلم يزل يقول ذا حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لصاحبيه: (ما أنصفنا أصحابنا)، فجاء أبو سفيان، فقال: اعل، هبل، فقال رسول الله : (قولوا: الله أعلى وأجل) فقالوا: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: لنا العزى، ولا عزى لكم، فقال رسول الله : (قولوا: الله مولانا، والكافرون لا مولى لهم)، ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، يوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسر، حنظلة بحنظلة، وفلان بفلان، فقال رسول الله : (لا سواء؛ أما قتلانا فأحياء يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون)، قال أبو سفيان: قد كان في القوم مثلة، وإن كانت لعن غير ملأ منا؛ ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني، قال فنظروا، فإذا حمزة قد بقر بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها، فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول الله : (أكلت شيئا؟)، قالوا: لا، قال: ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة النار)، فوضع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حمزة، فصلى عليه، وجيء برجل من الأنصار، فوضع إلى جنبه، فصلى عليه، فرفع الأنصاري وترك حمزة، ثم جيء بآخر فوضعه إلى جنب حمزة، فصلى عليه، ثم رفع وترك حمزة، حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة(2).
__________
(1) أحمد: ٧/٤١٨.
(2) ابن أبي شيبة: ١٤/٤٠٢.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ تقتلونهم(1).
2. روي أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾، قال: تقتلونهم، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول الشاعر(2):
çومنا الذي لاقى بسيف محمد... فحس به الأعداء عرض العساكرé
3. روي أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾، قال: إذ تقتلونهم، قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد ؟ قال نعم، أما سمعت قول عتبة الليثي(3):
çنحسهم بالبيض حتى كأننا... نفلق منهم بالجماجم حنظلاé
4. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ الفشل: الجبن(4).
5. روي أنّه قال: فكان فشلا حين تنازعوا بينهم(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ كانوا قد رأوا الفتح، والغنيمة(5).
7. روي أنّه قال: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ للذين أرادوا الغنيمة، ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ للذين قالوا: نطيع رسول الله ، ونثبت مكاننا، فقتلوا، فكان فشلا حين تنازعوا بينهم(5).
8. روي أنّه قال: لما هزم الله المشركين يوم أحد قال الرماة: أدركوا الناس ونبي الله ؛ لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم، وقال بعضهم: لا نريم حتى يأذن لنا النبي ، فنزلت: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾، قال ابن جريج: قال ابن مسعود: ما علمنا أن أحدا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يومئذ(6).
9. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ إن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوال حتى نزل أحدا، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأذن في الناس فاجتمعوا، وأمر على الخيل الزبير بن العوام، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي، وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اللواء رجلا من قريش يقال له: مصعب بن عمير، وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسر، وبعث حمزة بين يديه، وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الزبير، وقال: (استقبل خالد بن الوليد، فكن بإزائه حتى أوذنك)، وأمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر، فقال: (لا تبرحوا حتى أوذنكم)، وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى، فأرسل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الزبير أن يحمل، فحمل على خالد بن الوليد فهزمه ومن معه، فقال: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾، وإن الله وعد المؤمنين أن ينصرهم، وأنه معهم، وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث ناسا من الناس فكانوا من ورائهم، فقال رسول الله : (كونوا ههنا، فردوا وجه من ند منا، وكونوا حرسا لنا من قبل ظهورنا)، وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما هزم القوم هو وأصحابه الذين كانوا جعلوا من ورائهم، فقال بعضهم لبعض لما رأوا النساء مصعدات في الجبل، ورأوا الغنائم: انطلقوا إلى رسول الله ، فأدركوا الغنيمة قبل أن تسبقوا إليها، وقالت طائفة أخرى: بل نطيع رسول الله ، فنثبت مكاننا، فذلك قوله: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ للذين أرادوا الغنيمة، ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ للذين قالوا: نطيع رسول الله ، ونثبت مكاننا، فأتوا محمدا ، فكان فشلا حين تنازعوا بينهم، يقول:﴿وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ كانوا قد رأوا الفتح والغنيمة(7).
10. روي أنّه قال: ما نصر الله نبيه في موطن كما نصر يوم أحد، فأنكروا ذلك! فقال ابن عباس أنّه قال: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله؛ إن الله يقول في يوم أحد: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ يقول ابن عباس أنّه قال: والحس: القتل، ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ وإنما عنى بهذا الرماة، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أقامهم في موضع، ثم قال: احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشاركونا)، فلما غنم النبي ، وأباحوا عسكر المشركين؛ انكفأت الرماة جميعا، فدخلوا في العسكر ينتهبون، والتفت صفوف المسلمين فهم هكذا ـ وشبك بين يديه ـ والتبسوا، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها؛ دخل الخيل من ذلك الموضع على الصحابة، فضرب بعضهم بعضا، والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه أول النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس: الغار، إنما كانوا تحت المهراس، وصاح الشيطان: قتل محمد، فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل حتى طلع بين السعدين، نعرفه بتكفئه إذا مشى، ففرحنا، حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا، فرقي نحونا وهو يقول: (اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم)، ويقول مرة أخرى: (اللهم، إنه ليس لهم أن يعلونا)، حتى انتهى إلينا، فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اعل، هبل، اعل، هبل، أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: ألا أجيبه، يا رسول الله؟ قال: بلى)، فلما قال اعل، هبل، قال عمر: الله أعلى وأجل، فعاد، فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ فقال عمر: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وها أنا عمر، فقال: يوم بيوم بدر، الأيام دول، والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، قال إنكم لتزعمون ذلك؛ لقد خبنا إذن وخسرنا، ثم قال أبو سفيان: إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة، ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا، ثم أدركته حمية الجاهلية، فقال: أما إنه كان ذلك ولم نكرهه(8).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٣٥.
(2) الدرّ المنثور: الطستي في مسائله كما في الإتقان: ٢/٧٩.
(3) الطبراني: ١٠٥٩٧.
(4) ابن جرير: ٦/١٣٨.
(5) ابن جرير: ٦/١٣٧.
(6) ابن جرير: ٦/١٤٠.
(7) ابن جرير: ٦/١٣٠.
(8) أحمد: ٤/٣٦٨.
البراء:
روي عن البراء بن عازب (ت 72 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ الغنائم، وهزيمة القوم(1).
2. روي أنّه قال: جعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على الرماة يوم أحد ـ وكانوا خمسين رجلا ـ عبد الله بن جبير، ووضعهم موضعا، وقال: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم)، فهزموهم، قال فأنا والله رأيت النساء يشددن على الجبل، وقد بدت أسوقهن وخلاخلهن، رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله: الغنيمة، أي قوم، الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ قال عبد الله بن جبير: أفنسيتم ما قال لكم رسول الله !؟ فقالوا: إنا والله لنأتين الناس، فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين، فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غير اثني عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة؛ سبعين أسيرا، وسبعين قتيلا، قال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاثا، فنهاهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجيبوه، ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ مرتين، أفي القوم ابن الخطاب؟ مرتين، ثم أقبل على أصحابه، فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، وقد كفيتموهم، فما ملك عمر نفسه أن قال كذبت، والله، يا عدو الله، إن الذين عددت أحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوئك، قال يوم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني، ثم أخذ يرتجز: اعل، هبل، اعل، هبل، فقال رسول الله : (ألا تجيبونه؟)، قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، قال إن لنا العزى، ولا عزى لكم، قال رسول الله : (ألا تجيبونه؟)، قالوا: يا رسول الله، وما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم(2).
__________
(1) ابن المنذر: ١٠٥٩.
(2) أحمد: ٣٠/٥٥٤.
عبيد:
روي عن عبيد بن عمير (ت 73 هـ) أنّه قال: جاء أبو سفيان بن حرب ومن معه، حتى وقف بالشعب، ثم نادى: أفي القوم ابن أبي كبشة؟ فسكتوا، فقال أبو سفيان: قتل، ورب الكعبة، ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فسكتوا، فقال: قتل، ورب الكعبة، ثم قال أفي القوم عمر بن الخطاب؟ فسكتوا، فقال: قتل، ورب الكعبة، ثم قال أبو سفيان: اعل، هبل، يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وحنظلة بحنظلة، وأنتم واجدون في القوم مثلا لم تكن عن رأي سراتنا وخيارنا، ولم نكرهه حين رأيناه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمر بن الخطاب: قم، فناد، فقل: الله أعلى وأجل، نعم، هذا رسول الله ، وهذا أبو بكر، وها أنذا، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٥٦.
عروة:
روي عن عروة بن الزبير (ت 94 هـ) أنّه قال: كان الله وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وكان قد فعل، فلما عصوا أمر الرسول ، وتركوا مصافهم، وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم، وأرادوا الدنيا؛ رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾، فصدق الله وعده، وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء(1).
__________
(1) أخرج البيهقي في الدلائل: ٣/٢٥٦.
ابن أبزى:
روي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى (ت 100 هـ) في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾: كان وضع خمسين رجلا من أصحابه، عليهم عبد الله أخو خوات، فجعلهم بإزاء خالد بن الوليد على خيل المشركين، فلما هزم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس قال نصف أولئك: نذهب حتى نلحق بالناس، ولا تفوتنا الغنائم، وقال بعضهم: قد عهد إلينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن لا نريم حتى يحدث إلينا، فلما رأى خالد بن الوليد رقتهم حمل عليهم، فقاتلوا خالدا حتى ماتوا ربضة(1)،؛ فأنزل الله فيهم: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾، فجعل أولئك الذين انصرفوا عصاة(2).
__________
(1) رِبْضَةً: جماعة قتلوا في بقعة واحدة، النهاية.
(2) ابن المنذر: ١٠٥٦.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: إن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر يوم أحد طائفة من المسلمين، فقال: (كونوا مسلحة للناس)، بمنزلة أمرهم أن يثبتوا بها، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى يأذن لهم، فلما لقي نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد أبا سفيان ومن معه من المشركين هزمهم نبي الله ، فلما رأى المسلحة أن الله هزم المشركين انطلق بعضهم وهم يتنادون: الغنيمة، الغنيمة، لا تفتكم، وثبت بعضهم مكانهم، وقالوا: لا نريم موضعنا حتى يأذن لنا نبي الله ، ففي ذلك نزل: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾، فكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٤٠.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ يعني بالمعصية: إقبال من أقبل منهم على المغنم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ نصر الله المؤمنين على المشركين؛ حتى ركب نساء المشركين على كل صعب وذلول، ثم أديل عليهم المشركون بمعصيتهم للنبي (1).
__________
(1) البيهقي في دلائل النبوة: ٣/٢٢٨ وزاد في آخره: حتى حصبهم النبي.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾، يعني: من الفتح(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ هؤلاء الذين يحيزون الغنائم، ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ الذين يتبعونهم يقتلونهم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ يقول الله: قد عفوت عنكم إذ عصيتموني أن لا أكون استأصلتكم، ثم قال الحسن: هؤلاء مع رسول الله ، وفي سبيل الله، غضاب لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فضيعوه، فوالله، ما تركوا حتى غموا بهذا الغم؛ قتل منهم سبعون، وقتل عم رسول الله ، وكسرت رباعيته، وشج في وجهه! فأفسق الفاسقين اليوم يتجرأ على كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه، فسوف يعلم!(3).
4. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ صرف القوم عنهم، فقتل من المسلمين بعدة من أسروا يوم بدر، وقتل عم رسول الله ، وكسرت رباعيته، وشج في وجهه، فقالوا: أليس كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعدنا النصر، فأنزل الله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾(4).
5. روي أنّه قال: قال رسول الله : (رأيتني البارحة كأن علي درعا حصينة؛ فأولتها المدينة، فاكمنوا للمشركين في أزقتها، حتى يدخلوا عليكم في أزقتها، فتقتلوهم)، فأبت الأنصار من ذلك، فقالوا: يا رسول الله، منعنا مدينتنا من تبع والجنود، فنخلي بين هؤلاء المشركين وبينها يدخلونها!؟ فلبس رسول الله سلاحه، فلما خرجوا من عنده أقبل بعضهم على بعض، فقالوا: ما صنعنا!؟ أشار علينا رسول الله فرددنا رأيه!؟ فأتوه، فقالوا: يا رسول الله، نكمن لهم في أزقتها حتى يدخلوا، فنقتلهم فيها، فقال: (إنه ليس لنبي لبس لأمته ـ أي: سلاحه ـ أن يضعها حتى يقاتل)، قال فبات رسول الله دونهم بليلة، فرأى رؤيا، فأصبح، فقال: (إني رأيت البارحة كأن بقرا ينحر، فقلت: بقر! والله، خير، وإنه كائنة فيكم مصيبة، وإنكم ستلقونهم وتهزمونهم غدا، فإذا هزمتموهم فلا تتبعوا المدبرين)، ففعلوا، فلقوهم، فهزموهم، كما قال رسول الله، فأتبعوا المدبرين على وجهين: أما بعضهم فقالوا: مشركون، وقد أمكننا الله من أدبارهم، فنقتلهم، فقتلوهم على وجه الحسبة، وأما بعضهم فقتلوهم لطلب الغنيمة، فرجع المشركون عليهم، فهزموهم حتى صعدوا أحدا، وهو قوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ الآية(5).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٣٨.
(2) ابن جرير: ٦/١٤١.
(3) ابن جرير: ٦/١٤٤.
(4) ابن جرير: ٦/١٤٣.
(5) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٣٢٥.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، أي: اختلفتم في الأمر(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ وذاكم يوم أحد، عهد إليهم نبي الله ، وأمرهم بأمر، فنسوا العهد، وجاوزوا، وخالفوا ما أمرهم نبي الله ، فصرف عليهم عدوهم بعد ما أراهم من عدوهم ما يحبون(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٣٦.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد؛ قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ الآية إلى قوله: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾، يعني: الرماة الذين فعلوا ما فعلوا يوم أحد(1).
__________
(1) الواحديُّ في أسباب النزول،/٢٥٥.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ معناه تقتلونهم(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 113.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) وغيره: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: (لا يقاتلن حتى نأمره بالقتال)، وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت بالصمغة من قناة للمسلمين، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب!؟ وتعبأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للقتال، وهو في سبعمائة رجل، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو يومئذ معلم بثياب بيض، والرماة خمسون رجلا، وقال: (انضح عنا الخيل بالنبل؛ لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك)، فلما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، واقتتلوا حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبى طالب في رجال من المسلمين، فأنزل الله تعالى نصره، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف، حتى كشفوهم، وكانت الهزيمة لا شك فيها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٣١.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ فالذين انطلقوا يريدون الغنيمة هم أصحاب الدنيا، والذين بقوا وقالوا: لا نخالف قول رسول الله ، أرادوا الآخرة(1).
2. روي أنّه قال: ثم ذكر حين مال عليهم خالد بن الوليد: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٣٩.
(2) ابن جرير: ٦/١٤٢.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ وذلك يوم أحد، قال لهم: (إنكم ستظهرون، فلا أعرفن ما أصبتم من غنائمهم شيئا حتى تفرغوا)، فتركوا أمر نبي الله ، وعصوا، ووقعوا في الغنائم، ونسوا عهده الذي عهده إليهم، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به(1).
2. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ جبنتم عن عدوكم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ وذلك يوم أحد، قال لهم: (إنكم ستظهرون؛ فلا أعرفن ما أصبتم من غنائمهم شيئا حتى تفرغوا)، فتركوا أمر النبي ، وعصوا، ووقعوا في الغنائم، ونسوا عهده الذي عهده إليهم، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به؛ فانصرف عليهم عدوهم من بعد ما أراهم فيهم ما يحبون(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٣٣.
(2) ابن جرير: ٦/١٣٧.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾، يعني: تجاوز عنكم؛ فلم يؤاخذكم بذنبكم(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٨٥.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
[ابن جريج] ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ إذ لم يستأصلكم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٤٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ﴾، كان تنازعهم أنه قال بعضهم: ننطلق فنصيب الغنائم، وقال بعضهم: لا نبرح المركز، كما أمرنا رسول الله (1).
2. روي أنّه قال: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ من النصر على عدوكم، فقتل أصحاب الألوية من المشركين(1).
3. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ من بعد أن أظفركم عليهم؛ ليبتليكم بالقتل والهزيمة(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ حيث لم تقتلوا جميعا عقوبة بمعصيتكم(1).
5. روي أنّه قال: ﴿والله ذُو فَضْلٍ﴾ في عقوبته ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ حيث لم يقتلوا جميعا(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٣٠٧.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾، أي: لقد وفيت لكم بما وعدتكم من النصر على عدوكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ بالسيوف، أي: القتل بإذني، وتسليطي أيديكم عليهم، وكفي أيديهم عنكم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾، أي: تخاذلتم(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، أي: اختلفتم في أمري(3).
5. روي أنّه قال: ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ أي: تركتم أمر نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم وما عهد إليكم، يعني: الرماة: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ أي: الفتح لا شك فيه، وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم(3).
6. روي أنّه قال: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ أي: الذين أرادوا النهب رغبة في الدنيا، وترك ما أمروا به من الطاعة التي عليها ثواب الآخرة، ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ أي: الذين جاهدوا في الله، لم يخالفوا إلى ما نهوا عنه لعرض من الدنيا؛ رغبة في رجاء ما عند الله من حسن ثوابه في الآخرة(4).
7. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾، أي: صرفكم عنهم ليختبركم، وذلك ببعض ذنوبكم(5).
8. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ ولقد عفا الله عن عظيم ذلك، لم يهلككم بما أتيتم من معصية نبيكم ، ولكن عدت بفضلي عليكم(6).
9. روي أنّه قال: ﴿والله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾، أي: لقد وفيت لكم بما وعدتكم من النصر على عدوكم(7).
10. روي أنّه قال: ﴿والله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ وكذلك منّ الله على المؤمنين أن عاقبهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا، أدبا وموعظة، فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحق له عليهم، لما أصابوا من معصيته؛ رحمة لهم، وعائدة عليهم، لما فيهم من الإيمان(8).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٣٣.
(2) ابن جرير: ٦/١٣٥.
(3) ابن جرير: ٦/١٣٨.
(4) ابن جرير: ٦/١٤٢.
(5) ابن جرير: ٦/١٤٣.
(6) ابن جرير: ٦/١٤٤.
(7) ابن أبي حاتم: ٣/٧٩٠.
(8) ابن جرير: ٦/١٤٥.
الناصر:
ذكر الإمام الناصر بن الإمام الهادي (ت 325 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: سألت عن قوله عز وجل: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾، فقلت: ما الحس هاهنا، وما معناه؟ والجواب: إن الحس هو: الضرب والقتل، وهو الحس بفتحة الحاء، والحس بخفظة الحاء؛ فذلك من طريق الحس مخفوظ، وهو الذي يحس الإنسان من الشيء الذي يؤنسه؛ تقول العرب: (أنست صوتا في مكان كذا وكذا)، يعني: أحسست، وتقول العرب: (أحسست كذا وكذا)، وكل ذلك شيء واحد، إلا الحس الذي عنى الله عز وجل فإنه بفتح الحاء، وهو: القتل والضرب الذي عنى الله عز وجل حين قال: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾؛ قال الشاعر:
تحسهم بالبيض حسا كأنه... حريق لظى في غابة يتضرم
والغابة: أجمة القصب.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/187.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ أي: أنجز الله وعده؛ حيث أخبر أنه يلقي في قلوبهم الرعب، وقد فعل، ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ قال أهل التفسير: إذ تضلونهم.
2. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ هو على التقديم والتأخير: (حتى إذا تنازعتم وفشلتم)؛ إذ التنازع هو سبب الفشل والجبن؛ كقوله: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾ [الأنفال: 46]
3. ﴿وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ قيل: في القصّة: إن نفرا من رماة أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يكونوا في مكان، وألا يدعو موقفهم، فتركوه ووقعوا في غنائمه؛ فعوقبوا على ذلك.
4. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾] أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يريد الدنيا، حتى نزل قوله: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾
5. ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ روي عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ يعني: هزم المسلمون، يقول: صرفوا عن المشركين منهزمين، بعد إذ كانوا هزموهم، لكن لما عصوا وتركوا المركز صرفهم الله عن عدوه.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾:
أ. قيل: أي: ذلك الصرف كان لكم من الله ابتلاء ومحنة.
ب. وقيل: كان ذلك العصيان ـ الذي منكم كان ـ من الله ابتلاء؛ ليعلم من قد علم أنه يعصي عاصيا
7. دلّ قوله عزّ وجل: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ ـ وإن كان الانصراف فعلهم ـ أن الله لفعلهم ـ على ما عليه فعلهم ـ خالق، وأن خلق الشيء ليس هو ذلك الشيء؛ إذ ذلك الشيء إذا كان انصرافا عن العدو معصية، وقد تبرأ الله تعالى عن أن تضاف إليه المعاصي، وقد أضاف انصرافهم إلى فعله وهو الصرف ـ ثبت أنه غير فعلهم
8. قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ﴿عَفَا عَنْكُمْ﴾ حيث لم يستأصلكم بالقتل.
ب. ويحتمل: ﴿عَفَا عَنْكُمْ﴾ حيث قبل رجوعكم وتوبتكم عن العصيان.
9. هذه الآية قوله عزّ وجل: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ﴾ وقوله: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140] ـ ترد على المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ وكذلك قوله تعالى: ﴿لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ [آل عمران: 154] إلى آخر الآية؛ لأنهم يقولون: هم الذين صرفوا أنفسهم لا الله، وهم الذين كتبوا عليهم القتل لا الله، وهم الذين يداولون لا الله، وقد أضاف عزّ وجل ذلك إلى نفسه؛ فعلى ذلك لا يضيف إليه إلا عن فعل وصنع له فيه؛ ولأنهم يقولون: لا يفعل إلا الأصلح لهم في الدين، فأيّ صلاح كان لهم في صرفه إياهم عن عدوهم!؟ وأيّ صلاح لهم فيما كتب عليهم القتل!؟ فدل أن الله قد يفعل بعباده ما ليس ذلك بأصلح لهم في الدّين.
10. ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالعفو عنهم، وقبول التوبة؛ حيث عصوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتركوا أمره، وعلى قول المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ عليه أن يفعل ذلك؛ فعلى قولهم ليس هو بذي فضل على أحد، نعوذ بالله من السرف في القول.
11. الفائدة في تخصيص المؤمنين بالامتنان عليهم دون جملة من بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم ومنهم، مع ما ذكر منته بالبعث من أنفسهم، وقد بيّنا وجه المنة في البعث من جوهر البشر ـ وجهان:
أ. أحدهما: أن من لم يؤمن به لم يكن عرف نعمة من الله تعالى وإن كان ـ في الحقيقة ـ نعمة منه لهم، ورحمة لهم وللعالمين، فخص من عرفه ليشكروا له بما ذكرهم؛ وهو كقوله عزّ وجل: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ [يس: 11]، أي: هم يقبلون ويعرفون حق الإنذار.
ب. الثاني: أنه صار لهم حجة على جميع الأعداء: أنهم لا يطيعون لمعنى كان منهم، إلّا وللمؤمنين عليهم وجه دفع ذلك بما كان عليه ما عرفوه به قبل الرسالة؛ لما فيه لزوم القول بصدقة؛ فيكون ذلك منة لهم وسرورا ونعمة عظيمة؛ فاستأداهم الله لشكرها، ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/506.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾: أي تضربونهم بالسيوف بأمره عز وجل وحكمه، قال الشاعر:
çنحسهم بالبيض حساً كأنه... حريق لظى في غابة يتضرمé
2. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أي اختلفتم في الأمر ولم تتفق إرادتكم، يعنى يوم حنين بين مكة والطائف عند جهاد المشركين.
3. معنى قوله: ﴿وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾: أي عصيتم الله في الهزيمة عن المشركين، من بعد ما أراكم ما تحبون من كثرة جماعة المسلمين.. ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ أي صرفكم بتركه لكم في الهزيمة عنهم، صرف تخلية، إذ لم يجبركم على الوقوف لهم.. ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ أي بعد توبتكم.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 264.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ أي تقتلونهم يقال حسه يحسه حساً إذا قتله لأنه يقال حسه بإذنه أي بأمره ولطفه.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/155.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ أي تقتلونهم في قول الجميع، يقال حسّه يحسه حسّا إذا قتله، لأنه أبطل بمعونته.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/430.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر ابن عباس، والبراء بن عازب، والحسن، وقتادة، والسدي، والربيع، وابن إسحاق: أن الوعد المذكور كان يوم أحد، لأن المسلمين كانوا يقتلون المشركين قتلا ذريعاً حتى أخل الرماة بمكانهم الذي أمرهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بملازمته، فحينئذ حمل خالد بن الوليد من وراء المسلمين، وتراجع المشركون، وقتل من المسلمين سبعون رجلا ثم هزموا، وقد نادي مناد قتل محمد ثم من الله على المسلمين، فرجعوا وقويت نفوسهم، ونزل الخذلان بعدوهم، حتى ولوا عنهم.
2. ﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾ تقتلونهم، والحس هو القتل على وجه الاستئصال قال جرير:
çتحسهم السيوف كما تسامى...حريق النار في أجم الحصيدé
وأصله الاحساس، ومنه قوله: ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ وقوله: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ أي وجده من جهة الحاسة، وحسه يحسه: إذا قتله، لأنه أبطل حسه بالقتل، والتحسس طلب الاخبار، وفي التنزيل ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ وذلك لأنه طلب لهما بحاسة السمع، والمحسة التي ينفض بها التراب عن الدابة، لأنه يحس بها من جهة حكها لجلدها.
﴿بِإِذْنِهِ﴾ معناه بعلمه، ويجوز أن يكون المراد بلطفه، لأن أصل الاذن الإطلاق في الفعل، فاللطف تيسر له، كما أن الاذن كذلك إلا أن اللطف تدبير يقع معه الفعل لا محالة اختياراً كما يقع في أصل الاذن اختياراً.
3. اختلف في قوله تعالى: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾:
أ. قال أبو علي: يعني يوم بدر ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ يوم أحد ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ يوم بدر.
ب. الأولى أن يكون هذا حكاية عن يوم أحد على ما بيناه.
4. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ معناه جبنتم عن عدوكم وكعتم ﴿وَتَنَازَعْتُمْ﴾ في الأمر يعنى اختلفتم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ معناه أنهم أعطوا النصر، فخالفوا في ما قيل لهم من لزوم فم الشعب، واختلفوا، فعوقبوا بأن ديل عليهم في قول الحسن.
5. ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ أي منكم من قصده الغنيمة في حربكم ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ أي بثبوته في موضعه بقصده بجهاده إلى ما عند الله في قول ابن مسعود، وابن عباس، والربيع.
6. سؤال وإشكال: أين جواب ﴿حَتَّى إِذَا﴾ والجواب: فيه قولان:
أ. أحدهما: إنه محذوف، وتقديره امتحنتم.
ب. والآخر: على زيادة الواو والتقديم والتأخير، وتقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر، فشلتم ـ في قول الفراء ـ كما قال: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ ومعناه ناديناه، والواو زائدة، ومثله ﴿حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَاقْتَرَبَ﴾ ومعناه اقترب، ومثله قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ﴾ وأنشد:
çحتى إذا قملت بطونكم...ورأيتم أبناءكم شبوا
قلبتم ظهر المجن لنا...ان اللئيم العاجز الخبé
والبصريون لا يجيزون زيادة الواو ويتأولون جميع ما استشهد به على الحذف لأنه أبلغ في الكلام، وأحسن من جهة الإيجاز.
7. في إضافة انصرافهم إلى الله مع أنه معصية في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إنهم كانوا فريقين منهم من عصى بانصرافه، ومنهم من لم يعص، لأنهم قلوا بعد انهزام تلك الفرقة، فانصرفوا بإذن الله بأن التجأوا إلى أحد، لأن الله إنما أوجب ثبات المائة للمائتين فإذا نقصوا، لا يجب عليهم ذلك، وجاز أن يذكر الفريقين في الجملة بأنه صرفهم، وبأنهم عفا عنهم، ويكون على ما بيناه في التفصيل هذا قول أبي علي.
ب. وقال البلخي ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ معناه لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ بالمظاهرة في الانعام عليكم، والتخفيف عنكم.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ﴾:
أ. قيل: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ متعلق بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا﴾ في قول (2).
ب. وقال الجبائي قوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ خاص لمن لم يعص بانصرافه.
ج. الأولى أن يكون عاماً في جميعهم، لأنه لا يمتنع أن يكون الله عفا لهم عن هذه المعصية.
د. وقال البلخي: معناه ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ بتتبعهم بعد أن كان أمرهم بالتتبع لهم، فلما بلغوا حمراء الأسد أعفاهم من ذلك، ولا يجوز أن يكون، صرفهم فعل الله، لأنه قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/18.
(2) الكلام هنا للزجّاج
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الصدق خلاف الكذب، وهو يتعدى إلى مفعولين كالمنع والغصب.
ب. الحَسُّ: القتل، قال أبو عبيدة: هو الاستئصال بالقتل، وأصله من الإحساس، ومنه ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ ويسمى القتل حَسًّا؛ لأنه يبطل به حِسُّهُ بالقتل، ويقال: حسه يحسه حسًّا، والتحسس طلب الأخبار، ومنه ﴿فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ﴾ لأنه طَلَبٌ بحاسَّة، وأصل الباب الحس.
ج. الفشل بسكون الشين الضعف.
د. التنازع: الاختلاف، وأصله من نزع القوم بعضهم من بعض.
2. قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم بأحد قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر، فأنزل الله تعالى هذه الآية وهو قوله: ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ قيل: هذا كان يوم أحد كانوا يقتلون المشركين قتلاً ذريعًا حتى أخل الرماة بمكانهم الذي ألزمهم النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم المقام عنده، فأتاهم خالد بن الوليد من وراء المسلمين، وقتل عبد الله بن جبير ومن معه من الرماة، وتراجع المشركون، وقتلوا سبعين رجلاً فهزموا، ونادى [منادِ]: قُتِلَ محمد، إلى أن مَنَّ الله عليهم فتابوا وقويت نفوسهم، ونزل الخذلان بعدوهم حتى ولوا عنهم، عن البراء بن عازب وابن عباس والحسن وقتادة والسدي والربيع وابن إسحاق، في ذلك نزلت الآية.
3. لما تقدم الوعد بالنصر بإلقاء الرعب في قلوب المشركين بين في هذه الآية أنه صدق وعده، وأن القدر الذي خلى بينهم وبين عدوهم بعصيانهم نبيهم تحذيرًا من معاودتهم إياه فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾:
أ. يعني وفيت لكم ما وعدتكم من النصر على عدوكم؛ لأنه تعالى وعدهم النصر إن صبروا واتقوا بقوله تعالى: ﴿بَل إِن تَصبرُوا وَتَتَّقُوا﴾، فلما صبروا واتقوا نصرهم حتى هزموهم، فلما عصى الرماة خلى بينهم وبين عدوهم، فنالهم ما نالهم.
ب. وقيل: الوعد ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للرماة: لا تبرحوا هذا المكان، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم في مكانكم)، ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ تقتلونهم قتلاً ذريعًا.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ﴾:
أ. قيل: بعلمه.
ب. وقيل: بأمره.
ج. وقيل: بلطفه.
5. اختلف في المراد بهذا اليوم:
أ. أكثر المفسرين على أن المراد به يوم أُحد.
ب. وقال بعضهم: إن المراد به يوم بدر.
6. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ جبنتم ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ اختلفتم وعصيتم أمر نبيكم:
أ. قيل: تقديره حتى إذا عصيتم وتنازعتم فشلتم.
ب. وقيل: الواو لا توجب الترتيب فمعناه عصيتم وفشلتم وتنازعتم فعلتم جميع ذلك وامتحنتم.
ج. وقيل: حتى إذا عصيتم تنازعتم وفشلتم.
7. تنازُعُهُم: أن الرماة لما رأوا هزيمة الكفار قالوا: انهزم القوم فما مقامنا؟ وقال بعضهم: لا تجاوزوا أمر رسول الله، ، فثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة، وانطلق الآخرون، فكان ما كان.
8. ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ تركتم أمر رسول الله في لزوم المكان ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ﴾ أي فعلتم ذلك من بعد ما أراكم يا معشر المؤمنين ﴿مَا تُحِبُّونَ﴾:
أ. من هزيمة القوم والظفر والغنيمة.
ب. وقيل: من الفتح عن الحسن، وكلهم قالوا: إنه يوم أحد.
ج. وقيل: ما أراكم ما تحبون من عدوكم يوم بدر عن أبي علي.
9. ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ يعني الغنيمة ويقصد، الَّذِينَ أخلوا بالمكان الذي رتبهم فيه ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾:
أ. بثبوته في الشِّعب الذي أمرهم به، وعن ابن مسعود: ما كنت أدري أن أحدًا من أصحاب محمد يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية.. وهو الوجه؛ لأنه نسق الكلام.
ب. وقيل: إنه كلام اعترض في أثناء هذه القصة، وهو خطاب للناس دون أصحاب النبي ، وأن من الناس من يريد الدنيا، ومنهم من يريد الآخرة.
10. ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ أي ردكم أيها المؤمنون عن الكفار بالهزيمة.
11. سؤال وإشكال: كيف أضاف صرفهم عن الكفار إلى نفسه، وهو معصية؟ والجواب: فيه وجوه:
أ. قيل: كانوا فريقين: منهم مَنْ عصى بالانصراف، ومنهم من لم يعص؛ لأنهم ولوا بعد انهزام الفرقة الأولى فانصرفوا بأمر الله كي لا يقتلوا، فجاز أن يذكر صرف الفريقين بأن صرفهم وعفا عنهم، يعني صرف بعضهم وعفا عن بعض عن أبي علي، ويجوز أن تشتمل الآية على فريقين، وتعود الكناية على أحدهما، كقوله تعالى: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾ إلى آخر الآية، وكقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا﴾
ب. وقيل: خلى بينهم ومنعهم ـ لأجل عصيانهم ـ تأييده الذي أعطاه وهم يطيعون فانصرفوا، فلما كان سبب الانصراف تخليته إياهم جاز إضافته إليه في معنى قول الأصم وأبي مسلم.
ج. وقيل: ثم صرفكم عنهم بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم ليبتليكم بالمظاهرة في الإنعام عليكم، والتخفيف عنكم عن أبي القاسم.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾:
أ. قيل: أي ليختبركم، يعني يعاملكم معاملة المختبر، فيتميز المخلص من المنافق.
ب. وقيل: خلاكم من عصمته لمخالفتكم أمر رسوله حتى صرتم إلى البلاء.
ج. وقيل: جعل ذلك محنة عليكم لتتوبوا ولا تعاودوا عن أبي مسلم.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾:
أ. قيل: صفح عنكم بعد أن خالفتم أمر الرسول، وندمتم فلم يعاقبكم بعد ندمكم.
ب. وقيل: عفا عنكم فلم يستأصلكم بعد المخالفة.
ج. وقيل: تجاوز عنكم فلم يؤاخذكم بذنبكم عن الكلبي، ويجوز أنه وقع صغيرة منهم لعظم ثوابهم عند الله.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ ذُوفَضْلٍ﴾:
أ. قيل: أي ذو منة ونعمة على المؤمنين بنعيم الدنيا والدين.
ب. وقيل: بغفران ذنوبهم.
ج. وقيل: بأن لم يستأصلهم كما فعل بِمَنْ كان قبلهم، وعن الحسن أنه قرأ ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ ثم صفق بيده، وقال: كيف عفا عنهم وقد قُتِلَ منهم سبعون، وقُتِلَ عمُّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكُسِرَتْ رباعيته، وشُجَّ في وجهه؟ ثم يقول الحسن: وهَؤُلَاءِ مع رسول الله وفي سبيل الله غضاب لله يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فضيعوه، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم، ثم أَفْسَقُ الفاسقين اليوم يجترئ على كل كبيرة، ويركب كل داهية، وتسحب عليه ثيابه، ويزعم أنه لا بأس عليه فسوف يعلم، ذكر الخبر الشيخ أبو حامد في تفسيره.
15. تدل الآية الكريمة على:
أ. أنه تعالى صَدَقَهم الوعد بالنصر، وإنما أُتُوا بما أُتُوا لمخالفتهم أمر نبيهم .
ب. أنه تعالى عفا عن أولئك ما حدث منهم، فلا يلحقهم بعد ذلك لوم.
ج. وقوع الإنابة والندم عنهم حتى عفا عنهم، عن أبي مسلم.
د. أن الأفاضل منهم انصرفوا بأمر الله فلا حرج عليهم فيه.
هـ. أن الحَسَّ والفشل والتنازع فِعْلُهم، وكل ذلك العصيان وإرادة الدنيا والآخرة، لذلك أضافه إليهم ووصفهم به، وذلك يبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.
16. مسائل لغوية ونحوية:
أ. في جواب ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ وجوه:
• الأول: أنه محذوف وتقديره: حتى إذا فشلتم امتحنتم.
• الثاني: على زيادة الواو.
• والثالث: جوابه: صرفكم، ودخلت ﴿ثُمَّ﴾ في أضعاف الكلام؛ لأنها في المعنى مثل ﴿إِذِ﴾ فكأنه رد لفظ ﴿إِذِ﴾ لَمَّا طال الكلام، وتلخيصه: لقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم صرفكم عنهم، عن أبي مسلم.
• الرابع: قيل: إن فشلتم تقديره: حتى إذا فشلتم يعنى إلى أن فشلتم.
17. ﴿حَتَّى﴾ غاية بمعنى ﴿إِلَى﴾، وحينئذ لا جواب له، وقيل: الواو زائدة في عصيتم، أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم نبيكم في لزوم الموضع الذي رتبكم فيه.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/417.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحس: القتل على وجه الاستئصال، وأصله من الإحساس، ومنه ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾، وسمي القتل حسا، لأنه يبطل الحس.
ب. الفشل: الجبن.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة: ذكر ابن عباس، والبراء بن عازب، والحسن وقتادة أن الوعد المذكور في الآية، كان يوم أحد، لأن المسلمين كانوا يقتلون المشركين، حتى إذا أخل الرماة بمكانهم الذي أمرهم الرسول بالمقام عنده، فأتاهم خالد من ورائهم، وقتل عبد الله بن جبير ومن معه، وتراجع المشركون، وقتل من المسلمين سبعون رجلا، ونادى مناد: قتل محمد، ثم من الله على المسلمين، فرجعوا، وفي ذلك نزلت الآية.
3. بين تعالى أنه صدقهم وعده فقال: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾:
أ. معناه: وفي الله لكم بما وعدكم من النصر على عدوكم في قوله: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ﴾ الآية.
ب. وقيل: كان الوعد قول رسول الله للرماة: لا تبرحوا هذا المكان، فإنا لانزال غالبين ما ثبتم مكانكم.
4. ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ أي: تقتلونهم ﴿بِإِذْنِهِ﴾:
أ. أي: بعلمه.
ب. وقيل: بلطفه، لأن أصل الإذن هو الإطلاق في الفعل، واللطف: تيسير للفعل كما أن الإذن كذلك، فحسن إجراء اسمه عليه.
5. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ معناه: جبنتم عن عدوكم وكففتم، ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أي: اختلفتم ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ أمر نبيكم في حفظ المكان ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ من النصرة على الكفار، وهزيمتهم، والظفر بهم والغنيمة:
أ. أكثر المفسرين على أن المراد بالجميع يوم أحد.
ب. وقال أبو علي الجبائي: معناه إن تحسونهم يوم بدر حتى إذا فشلتم يوم أحد، وتنازعتم وعصيتم يوم أحد من بعد ما أراكم ما تحبون يوم بدر.
ج. والأولى أن يكون حكاية عن يوم أحد، على ما بيناه.
6. جواب ﴿إِذَا﴾ ها هنا محذوف يدل الكلام عليه، وتقديره: حتى إذا فعلتم ذلك، ابتلاكم وامتحنكم، ورفع النصرة عنكم ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ يعني الغنيمة، وهم الذين أخلوا المكان الذي رتبهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه، وأمرهم بلزومه.
7. ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ أراد عبد الله بن جبير، ومن ثبت مكانه أي: يقصد بجهاده إلى ما عند الله، وروي عن ابن مسعود قال: ما كنت أدري أن أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يريد الدنيا، حتى نزلت فينا هذه الآية يوم أحد.
8. ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ قد ذكرنا في إضافة انصرافهم إلى الله سبحانه وجوه:
أ. أحدها: إنهم كانوا فريقين: منهم من عصى بانصرافه، ومنهم من لم يعص، لأنهم قلوا بعد انهزام تلك الفرقة، فانصرفوا بإذن الله، لئلا يقتلوا، لأن الله تعالى أوجب ثبات المائة للمأتين، فإذا نقصوا لا يجب عليهم ذلك، فجاز أن يذكر الفريقين بأنه صرفهم، وعفا عنهم: يعني صرف بعضهم، وعفا عن بعض، عن أبي علي الجبائي.
ب. ثانيها: إن معناه رفع النصرة عنكم، ووكلكم إلى أنفسكم بخلافكم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فانهزمتم، عن جعفر بن حرب.
ج. ثالثها: إن معناه لمن يأمركم بمعاودتهم من فورهم، ليبتليكم بالمظاهرة في الانعام عليكم، والتخفيف عنكم، عن البلخي.
9. ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ معناه: ليختبركم أي: يعاملكم معاملة المختبر، مظاهرة في العدل، وذلك أنه تعالى إنما يجازي عباده على ما يفعلونه، دون ما قد علمه منهم.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾:
أ. قيل: أي: صفح عنكم بعد أن خالفتم أمر الرسول.
ب. وقيل: عفا عنكم تتبعهم، بعد أن أمركم بالتتبع لهم، عن البلخي قال: لما بلغوا (حمراء الأسد)، عفا عنهم في ذلك.
ج. وقال أبو علي الجبائي: هو خاص بمن لم يعص الله بانصرافه.
د. والأولى أن يكون عاما في الجميع فإنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد عفا لهم عن المعصية.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾:
أ. قيل: أي: ذو من ونعمة عليهم بنعم الدنيا والدين.
ب. وقيل: بغفران ذنوبهم.
ج. وقيل: بأن لا يستأصلهم كما فعل بمن كان قبلهم.
12. روى الواحدي بإسناده عن سهل بن سعد الساعدي قال: جرح رسول الله يوم أحد، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة بنته تغسل عنه الدم، وعلي بن أبي طالب عليه السلام يسكب عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة ان الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة حصير فأحرقته، حتى إذا صار رمادا، ألزمته الجرح، فاستمسك الدم.
13. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿صَدَّقَ﴾ يتعدى إلى مفعولين.
ب. جواب ﴿إِذَا﴾ في قوله ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ قيل فيه وجهان:
• أحدهما: إنه محذوف وتقديره: حتى إذا فشلتم امتحنهم.
• الثاني: إنه على زيادة الواو، والتقديم والتأخير، وتقديره: حتى إذا تنازعتم في الأمر فشلتم، عن الفراء وقال: هذا كقوله ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ﴾ ومعناه: ناديناه، والواو زيادة، و﴿حتى جاؤوها وفتحت أبوابها﴾ وأنشد:
çحتى إذا قملت بطونكم... ورأيتم أبناءكم شبوا
وقلبتم ظهر المجن لنا... إن اللئيم العاجز الخبé
والبصريون لا يجيزون هذا، ويؤولون جميع ما استشهد به على الحذف، لأنه أبلغ في الكلام وأحسن.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/859.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾:
أ. قال محمّد بن كعب القرظيّ: لما رجع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه من أحد، قال قوم منهم: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النّصر!؟ فنزلت هذه الآية.
ب. وقال المفسرون: وعد الله تعالى المؤمنين النّصر بأحد، فنصرهم فلمّا خالفوا، وطلبوا الغنيمة، هزموا.
ج. وقال ابن عباس: ما نصر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في موطن ما نصر في أحد، فأنكر ذلك عليه، فقال: بيني وبينكم كتاب الله، إنّ الله يقول: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾
2. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ الحسّ هو القتل، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والسّدّيّ، والجماعة، وقال ابن قتيبة: تحسّونهم، أي تستأصلونهم بالقتل، يقال: سنة حسوس: إذا أتت على كلّ شيء، وجراد محسوس: إذا قتله البرد.
3. في قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: بأمره، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: بعلمه، قاله الزجّاج.
ج. الثالث: بقضائه، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
4. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ قال الزجّاج: أي: جبنتم ﴿وَتَنَازَعْتُمْ﴾ أي: اختلفتم، أما تنازعهم، فإنّ بعض الرّماة قال قد انهزم المشركون، فما يمنعنا من الغنيمة؟ وقال بعضهم: بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله ، فترك المركز بعضهم، وطلب الغنيمة، وتركوا مكانهم، فذلك عصيانهم، وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أوصاهم: (لو رأيتم الطّير تخطّفنا فلا تبرحوا من مكانكم)
5. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ يعني: النّصرة، وقال الفرّاء: فيه تقديم وتأخير، معناه: حتى إذا تنازعتم في الأمر، فشلتم وعصيتم، وهذه الواو زائدة، كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ﴾ معناه: ناديناه.
6. ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ قال المفسرون: هم الذين طلبوا الغنيمة، وتركوا مكانهم ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ وهم الذين ثبتوا، وقال ابن مسعود: ما كنت أظنّ أحدا من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية.
7. ﴿صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ أي: ردّكم عن المشركين بقتلكم وهزيمتكم، ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ أي: ليختبركم، فيبيّن الصّابر من الجازع.
8. في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: عفا عن عقوبتكم، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: عفا عن استئصالكم، قاله الحسن، وكان يقول: هؤلاء مع رسول الله، في سبيل الله غضاب لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فضيّعوه، فما تركوا حتى غمّوا بهذا الغمّ، والفاسق اليوم يتجرّم كلّ كبيرة ويركب كلّ داهية، ويزعم أن لا بأس عليه، فسوف يعلم.
9. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إذا عفا عنهم، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: إذ لم يقتلوا جميعا، قاله مقاتل.
__________
(1) زاد المسير: 1/334.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اتصال هذه الآية بما قبلها من وجوه:
أ. الأول: أنه لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم بأحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر! فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ب. الثاني: قال بعضهم كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رأى في المنام أنه يذبح كبشاً فصدق الله رؤياه بقتل طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين يوم أحد، وقتل بعده تسعة نفر على اللواء فذاك قوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ يريد تصديق رؤيا الرسول .
ج. الثالث: يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ﴾ [آل عمران: 125] إلا أن هذا كان مشروطاً بشرط الصبر والتقوى.
د. الرابع: يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [الحج: 40] إلا أن هذا أيضاً مشروط بشرط.
هـ. الخامس: يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [آل عمران: 151]
و. السادس: قيل: الوعد هو ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال للرماة: (لا تبرحوا من هذا المكان، فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان)
ز. السابع: قال أبو مسلم: لما وعدهم الله في الآية المتقدمة إلقاء الرعب في قلوبهم أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعد بالنصر في واقعة أحد، فإنه لما وعدهم بالنصرة بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتوا بذلك الشرط لا جرم، وفي الله تعالى بالمشروط وأعطاهم النصرة، فلما تركوا الشرط لا جرم فاتهم المشروط.
2. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ قال الواحدي: الصدق يتعدى إلى مفعولين، تقول: صدقته الوعد والوعيد.
3. ذكرنا في قصة أحد أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل، وأمرهم أن يثبتوا هناك ولا يبرحوا، سواء كانت النصرة للمسلمين أو عليهم، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون نبلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا، والمسلمون على آثارهم يحسونهم.
4. ﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾ قال الليث: الحس: القتل الذريع، تحسونهم: أي تقتلونهم قتلا كثيرا، قال أبو عبيد، والزجاج، وابن قتيبة: الحس: الاستئصال بالقتل، يقال: جراد محسوس، إذا قتله البرد، وسنة حسوس: إذا أتت على كل شيء، ومعنى ﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾ أي تستأصلونهم قتلا، قال أصحاب الاشتقاق: (حسه) إذا قتله لأنه أبطل حسه بالقتل، كما يقال: بطنه إذا أصاب بطنه، ورأسه، إذا أصاب رأسه.
5. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي بعلمه، ومعنى الكلام أنه تعالى لما وعدكم النصر بشرط التقوي والصبر على الطاعة فما دمتم وافين بهذا الشرط أنجز وعده ونصركم على أعدائكم، فلما تركتم الشرط وعصيتم أمر ربكم لا جرم زالت تلك النصرة.
6. سؤال وإشكال: ظاهر قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ بمنزلة الشرط، ولا بد له من الجواب فأين جوابه؟ والجواب: للعلماء هاهنا طريقين:
أ. الأول: أن هذا ليس بشرط، بل المعنى، ولقد صدقكم الله وعده حتى إذا فشلتم، أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع، لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصرة بشرط التقوي والصبر على الطاعة، فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر، وعلى هذا القول تكون كلمة ﴿حَتَّى﴾ غاية بمعنى (إلى) فيكون معنى قوله: ﴿حَتَّى إِذَا﴾ إلى أن، أو إلى حين.
ب. الثاني: أن يساعد على أن قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ شرط، وعلى هذا القول اختلفوا في الجواب على وجوه:
• الأول: وهو قول البصريين أن جوابه محذوف، والتقدير: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منعكم الله نصره، وإنما حسن حذف هذا الجواب لدلالة قوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ عليه، ونظائره في القرآن كثيرة، قال تعالى: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾ [الأنعام: 35] والتقدير: فافعل، ثم أسقط هذا الجواب لدلالة هذا الكلام عليه، وقال: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ [الزمر: 9] والتقدير: أم من هو قانت كمن لا يكون كذلك؟
• الثاني: وهو مذهب الكوفيين واختيار الفراء أن جوابه هو قوله: ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ والواو زائدة كما قال: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ﴾ [الصافات: 103 ـ 104] والمعنى ناديناه، كذا هاهنا، الفشل والتنازع صار موجبا للعصيان، فكان التقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم، فالواو زائدة، وبعض من نصر هذا القول زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب (حتى إذا) بدليل قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ [الزمر: 71] والتقدير حتى إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها، سؤال وإشكال: إن فشلتم وتنازعتم معصية، فلو جعلنا الفشل والتنازع علة للمعصية لزم كون الشيء علة لنفسه وذلك فاسد، والجواب: المراد من العصيان هاهنا خروجهم عن ذلك المكان، ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عن ذلك المكان، فلم يلزم تعليل الشيء بنفسه.. والبصريون لم يقبلوا هذا الجواب لأن مذهبهم أنه لا يجوز جعل الواو زائدة.
• الثالث: أن يقال تقدير الآية: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، صرتم فريقين، منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة، فالجواب: هو قوله: صرتم فريقين، إلا أنه أسقط لأن قوله: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ يفيد فائدته ويؤدي معناه، لأن كلمة (من) للتبعيض فهي تفيد هذا الانقسام، وهذا احتمال خطر ببالي.
• الرابع: قال أبو مسلم: جواب قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ هو قوله: ﴿صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ والتقدير حتى إذا فشلتم وكذا وكذا صرفكم عنهم ليبتليكم وكلمة (ثم) هاهنا كالساقطة.. وهذا الوجه في غاية البعد.
7. ذكر الله تعالى أمورا ثلاثة:
أ. أولها: الفشل وهو الضعيف، وقيل الفشل هو الجبن، وهذا باطل بدليل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾ [الأنفال: 46] أي فتضعفوا، لأنه لا يليق به أن يكون المعنى فتجبنوا.
ب. ثانيها: التنازع، والمراد من التنازع أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة، وجعل أميرهم عبد الله بن جبير؛ فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون، ثم إن الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخيلهن، فقالوا الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله: عهد الرسول إلينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة، وبقي عبد الله مع طائفة قليلة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون فهذا هو التنازع، وفي قوله: ﴿فِي الْأَمْرِ﴾ وجهان:
• الأول: أن الأمر هاهنا بمعنى الشأن والقصة، أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن.
• الثاني: أنه الأمر الذي يضاده النهي، والمعنى: وتنازعتم فيما أمركم الرسول به من ملازمة ذلك المكان.
ج. ثالثها: وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، والمراد عصيتم بترك ملازمة ذلك المكان.
8. سؤال وإشكال: لم قدم ذكر الفشل على ذكر التنازع والمعصية؟ والجواب: أن القوم لما رأوا هزيمة الكفار وطمعوا في الغنيمة فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة، ثمّ تنازعوا بطريق القول في أنا: هل نذهب لطلب الغنيمة أم لا؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة.
9. سؤال وإشكال: لما كانت المعصية بمفارقة تلك المواضع خاصة بالبعض فلم جاء هذا العتاب باللفظ العام؟ والجواب: هذا اللفظ وإن كان عاماً إلا أنه جاء المخصص بعده، وهو قوله: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾
10. سؤال وإشكال: ما الفائدة في قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾؟ والجواب: المقصود منه التنبيه على عظم المعصية، لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية، فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم.
11. اختلف أهل السنة، والأشاعرة خصوصا والمعتزلة ـ ومن وافقهم ـ في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾، وذلك لأن صرفهم عن الكفار معصية، فكيف أضافه إلى نفسه؟
أ. أما أهل السنة، والأشاعرة خصوصا فهذا الأشكال غير وارد عليهم، لأن مذهبهم أن الخير والشر بإرادة الله وتخليقه، فعلى هذا قالوا معنى هذا الصرف أن الله تعالى رد المسلمين عن الكفار، وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم، وهذا قول جمهور المفسرين.
ب. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: هذا التأويل غير جائز ويدل عليه القرآن والعقل:
• أما القرآن فهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ [آل عمران: 155] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان، فكيف يضيفه بعد هذا إلى نفسه؟
• وأما المعقول فهو أنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف، ولو كان ذلك بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه، كما لا يجوز معاتبتهم على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم.
12. ذكر المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ وجوها من التأويل:
• الأول: قال الجبائي: إن الرماة كانوا فريقين، بعضهم فارقوا المكان أولا لطلب الغنائم، وبعضهم بقوا هناك، ثم هؤلاء الذين بقوا أحاط بهم العدو، فلو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو، ألا ترى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه وتحصنوا به ولم يكونوا عصاة بذلك، فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه إلى نفسه بمعنى أنه كان بأمره وإذنه، ثم قال: ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ والمراد أنه تعالى لما صرفهم إلى ذلك المكان وتحصنوا به أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين، ولا شك أن الاقدام على الجهاد بعد الانهزام، وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقربائهم وأحبائهم هو من أعظم أنواع الابتلاء، سؤال وإشكال: على هذا التأويل هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مذنبين، فلم قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ والجواب: الآية مشتملة على ذكر من كان معذورا في الانصراف ومن لم يكن، وهم الذين بدءوا بالهزيمة فمضوا وعصوا فقوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ راجع إلى المعذورين، لأن الآية لما اشتملت على قسمين وعلى حكمين رجع كل حكم إلى القسم الذي يليق به، ونظيره قوله تعالى: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ [التوبة: 40] والمراد الذي قال له: ﴿لَا تَحْزَنْ﴾ وهو أبو بكر، لأنه كان خائفاً قبل هذا القول، فلما سمع هذا سكن، ثم قال: ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾ [التوبة: 40] وعنى بذلك الرسول دون أبي بكر، لأنه كان قد جرى ذكرهما جميعا، فهذا جملة ما ذكره الجبائي في هذا المقام.
• الثاني: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أن المراد من قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة منه على عصيانهم وفشلهم، ثم قال: ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله وترجعوا إليه وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة، ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم.
• الثالث: قال الكعبي: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ بكثرة الإنعام عليكم والتخفيف عنكم، فهذا ما قيل في هذا الموضع.
13. ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ ظاهره يقتضي تقدم ذنب منهم، قال القاضي: إن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بأنه عفا عنهم من غير توبة، وإن كان من باب الكبائر، فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو والمغفرة.
14. لا شك أن الذنب كان كبيرة، لأنهم خالفوا صريح نص الرسول ، وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمين، وقتل جمع عظيم من أكابرهم، ومعلوم أن كل ذلك من باب الكبائر وأيضا: ظاهر قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ [الأنفال: 16] يدل على كونه كبيرة، وقول من قال إنه خاص في بدر ضعيف، لأن اللفظ عام، ولا تفاوت في المقصود، فكان التخصيص ممتنعا، ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة، لأن التوبة غير مذكورة، فصار هذا دليلا على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر، وأما دليل المعتزلة في المنع عن ذلك، فقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة.
15. ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ هو راجع إلى ما تقدم من ذكر نعمه سبحانه وتعالى بالنصر أولا، ثم بالعفو عن المذنبين ثانياً.
16. هذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن، لأنا بيّنا أن هذا الذنب كان من الكبائر، ثم إنه تعالى سماهم المؤمنين، فهذا يقتضي أن صاحب الكبيرة مؤمن بخلاف ما يقوله المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/387.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في سبب النزول.
2. ﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾ معناه تقتلونهم وتستأصلونهم، قال الشاعر:
çحسسناهم بالسيف حسا فأصبحت...بقيتهم قد شردوا وتبددواé
وقال جرير:
çتحسهم السيوف كما تسامى...حريق النار في الأجم الحصيدé
قال أبو عبيد: الحس الاستئصال بالقتل، يقال: جراد محسوس إذا قتله البرد، والبرد محسة للنبت، أي محرقة له ذاهبة به، وسنة حسوس أي جديه تأكل كل شي، قال رؤبة:
çإذا شكونا سنة حسوسا...تأكل بعد الأخضر اليبيساé
أصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة، فمعنى حسه أذهب حسه بالقتل.
3. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بعلمه، أو بقضائه وأمره.
4. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ أي جبنتم وضعفتم، يقال: فشل يفشل فهو فشل وفشل، وجواب ﴿حَتَّى﴾ محذوف، أي حتى إذا فشلتم امتحنتم، ومثل هذا جائز كقوله: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ﴾ [الانعام] فافعل، وقال الفراء: جواب ﴿حَتَّى﴾،﴿وَتَنَازَعْتُمْ﴾ والواو مقحمة زائدة، كقوله: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ﴾ [الصافات] أي ناديناه، وقال امرؤ القيس: (فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى)، أي انتحى، وعند هؤلاء يجوز إقحام الواو من ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾، أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم عصيتم، وعلى هذا فيه تقديم وتأخير، أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم وفشلتم، وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب ﴿صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾،﴿ثُمَّ﴾ زائدة، والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم، وقد أنشد بعض النحويين في زيادتها قوله الشاعر:
çأراني إذا ما بت على هوى...فثم إذا أصبحت أصبحت عادياé
وجوّز الأخفش أن تكون زائدة، كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة]، وقيل: ﴿حَتَّى﴾ بمعنى ﴿إِلَى﴾ وحينئذ لا جواب له، أي صدقكم الله وعده إلى أن فشلتم، أي كان ذلك الوعد بشرط الثبات.
5. معنى ﴿تَنَازَعْتُمْ﴾ اختلفتم، يعني الرماة حين قال بعضهم لبعض: نلحق الغنائم، وقال بعضهم: بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالثبوت فيه.
6. ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ أي خالفتم أمر الرسول في الثبوت، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ يعني من الغلبة التي كانت للمسلمين يوم أحد أول أمرهم، وذلك حين صرع صاحب لواء المشركين على ما تقدم، وذلك أنه لما صرع انتشر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه وصاروا كتائب متفرقة فحاسوا العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم، وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا، فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله تعالى قد فتح لإخوانهم قالوا: والله ما نجلس هاهنا لشيء، قد أهلك الله العدو وإخواننا في عسكر المشركين، وقال طوائف منهم: علام نقف وقد هزم الله العدو؟ فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ألا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا، وألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم، ووجه التوبيخ لهم أنهم رأوا مبادئ النصر، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات لا في الانهزام.
7. ثم بين الله تعالى سبب التنازع فقال: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾، يعني الغنيمة، قال ابن مسعود: ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد.
8. ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ وهم الذين ثبتوا في مركزهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أميرهم عبد الله بن جبير، فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه، وكانا يومئذ كافرين فقتلوه مع من بقي.
9. العتاب مع من انهزم لا مع من ثبت، فإن من ثبت فاز بالثواب، وهذا كما أنه إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون، ولكن لا يكون ما حل بهم عقوبة، بل هو سبب المثوبة.
10. ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ أي بعد أن استوليتم عليهم ردكم عنهم بالانهزام، ودل هذا على أن المعصية مخلوقة لله تعالى، وقالت المعتزلة: المعنى ثم انصرفتم، فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين من المسلمين ابتلاء لهم، قال القشيري: وهذا لا يغنيهم، لأن إخراج الرعب من قلوب الكافرين حتى يستخفوا بالمسلمين قبيح ولا يجوز عندهم، أن يقع من الله قبيح، فلا يبقى لقوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ معنى، وقيل: معنى ﴿صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ أي لم يكلفكم طلبهم.
11. ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، والخطاب قيل هو للجميع، وقيل: هو للرماة الذين خالفوا ما أمروا به، واختاره النحاس، وقال أكثر المفسرين: ونظير هذه الآية قوله: ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ﴾ [البقرة]
12. ﴿وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالعفو والمغفرة، وعن ابن عباس قال: ما نصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في موطن كما نصر يوم أحد، قال: وأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله تعالى، إن الله تعالى يقول في يوم أحد: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ ـ يقول ابن عباس: والحس القتل.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/234.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ نزلت لما قال بعض المسلمين: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء، حتى قتلوا صاحب لواء المشركين وتسعة نفر بعده؛ فلما اشتغلوا بالغنيمة؛ وترك الرماة مركزهم طلبا للغنيمة؛ كان ذلك سبب الهزيمة.
2. الحسّ: الاستئصال بالقتل، قاله أبو عبيد، يقال: جراد محسوس: إذا قتله البرد، وسنة حسوس، أي: جدبة تأكل كل شيء، قيل: وأصله من الحسّ الذي هو الإدراك بالحاسة، فمعنى حسه: أذهب حسه بالقتل، وتحسونهم: تقتلونهم وتستأصلونهم، قال الشاعر:
çحسسناهم بالسيف حسّا فأصبحت...بقيّتهم قد شرّدوا وتبدّدواé
وقال جرير:
çتحسّهم السّيوف كما تسامى...حريق النّار في الأجم الحصيدé
3. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي: بعلمه، أو بقضائه ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ أي: جبنتم وضعفتم، قيل: جواب حتى محذوف، تقديره: امتحنتم، وقال الفراء: جواب حتى: قوله: ﴿وَتَنَازَعْتُمْ﴾ والواو مقحمة زائدة، كقوله: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب صرفكم عنهم؛ وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي: حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم؛ وقيل: إن الجواب: عصيتم، والواو مقحمة، وقد جوّز الأخفش مثله في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ﴾؛ وقيل: حتى: بمعنى إلى، وحينئذ لا جواب لها، والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم: نلحق الغنائم، وقال بعضهم: نثبت في مكاننا كما أمرنا رسول الله .
4. معنى قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد، كما تقدّم، ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ يعني: الغنيمة ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ أي: الأجر بالبقاء في مراكزهم امتثالا لأمر رسول الله ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ أي: ردّكم الله عنهم بالانهزام بعد أن استوليتم عليهم ليمتحنكم.
5. ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ لما علم من ندمكم، فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، والخطاب لجميع المنهزمين، وقيل: للرماة فقط.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/447.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لَمَّا رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أُحد إلى المدينة قال بعض الصحابة: من أين أصابنا هذا وقد وُعدنا بالنصر؟ فنزل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ وفَّى لَكُم وَعْدَهُ بالنصر المذكور في قوله تعالى: ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ﴾ الآية [آل عمران: 125]
2. ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُم﴾ أي: تبطلون حسَّهم بالقتل، وتصيبون حواسَّهم بالسوء، كقولك: (كَبَدْته): أصبت كبده، (ورَكَبْته): أصبت ركبته، كما أطلته في شرح لاميَّة ابن مالك، قال صحابيٌّ:
çومنَّا الذي لاقى بسيف محمَّد...فحسَّ به الأعداء عرض العساكرé
3. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بإرادته وقدرته كما وعدكم بالنصر، لَمَّا أقبل المشركون جعل رماتكم يرشقونهم بالنبل، وباقوهم يضربونهم بالسيف والرمح حتَّى انهزموا، وأنتم بأثرهم، فهذا وفاء بالوعد، حتَّى تركتم الشرط ـ وهو الصبر والاتقاء ـ وتركتم المركز سلَّطناهم عليكم، كما قال: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ ضعفت قلوبكم بانقسامكم قسمين، بسبب ميل قسم إلى الغنيمة، فالمائل إليها مُعْرِضٌ عن القتال ضعيف فيه، وغير المائل منكسر القلب ضعيفه بالانفراد عن الآخر، ولا سيما أنَّ غير المائل قليل.
4. (حَتَّى) للابتداء، وجواب (إِذَا) يقدَّر بعد قوله: ﴿مَا تُحِبُّونَ﴾ هكذا: مَنَعَكُم نَصْرَه، أو انهزمتم، أو امتحنكم، أو جبنتم، واعتُرض تقدير (امتحنكم) بجعل الابتلاء غاية للصرف المترتِّب على منع النصر، ويضعف تقديره بـ (أنَّ لكم أمركم)، أو (انقسمتم قسمين) لقلَّة فائدة ذلك، ولأنَّه يغني عنه قوله تعالى : ﴿مِنكُم مَّنْ يُّرِيدُ الدُّنْيَا﴾ إلخ وإن أخرجناها عن الشرط وجررناها بـ (حَتَّى) كان المعنى: تحسُّونهم إلى وقت فشلكم، أو صدقكم وعده إلى وقت فشلكم، أو أدام ذلك إلى وقت فشلكم، وتعلَّق بـ (تَحُسُّ) أو (صَدَقَكُم)
5. ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الَامْرِ﴾ أَمْرِ الحرب، أو أمره ، فمن قائلين: ما مقامنا هنا وقد انهزم المشركون؟ هلمُّوا نغنم، وهم الأكثر، ومن قائلين: لا نخالف موضعا أَمَرَنَا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم به، وهم أمير المركز عبد الله بن جبير ونفر دون العشرة، قُتلوا، والباقون الأكثر عَصَوا وهم المراد بقوله: ﴿وَعَصَيْتُم﴾ فالمراد فيه المجموع لا الجميع؛ لأنَّ مَن لزم المركز مطيع، وإنَّما عصى من انتقل عنه، وهو سفح الجبل، أُمِرَ الجميعُ بلزومه والرمي منه معاونة لأصحاب السيف.
6. ﴿مِّنم بَعْدِ مَآ أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ﴾ من الظَّفَر والغنم وانهزام العدوِّ، وروى أحمد وغيره عن ابن عبَّاس: (ما نصر الله تعالى نبيَّه في موطن كما نصره في أحد)، فأنكروا ذلك، فاحتجَّ عليهم بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم﴾ قال مجاهد: نصر الله تعالى المؤمنين، حتَّى ركبت نساء المشركين على كلِّ صعب وذلول، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم للرماة: (لا تفارقوا موضعكم ولو رأيتم الطير تأكلنا)، ففارقوه، وجاءهم خالد وعكرمة بن أبي جهل فأرسل إليهم صلّى الله عليه وآله وسلّم الزبير فهزمهما ومن معهما، فدخل الرماة العسكر، ودخل خالد ومن معه موضعهم، وقَتَل بعض المسلمين بعضا التباسا.
7. ﴿مِنكُم مَّنْ يُّرِيدُ الدُّنْيَا﴾ وهم من تحوَّلوا عن المركز للغنيمة، ﴿وَمِنكُم مَّنْ يُّرِيدُ الَاخِرَةَ﴾ وهم الملازمون للمركز حتَّى قُتلوا، ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ﴾ عطف على جواب (إذا)، والمعنى: كفَّكم ﴿عَنْهُمْ﴾ بالانهزام وغلبوكم، ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ يعاملكم معاملة المختبر، ليظهر إخلاصكم وثباتكم على الإيمان وعدمهما، وفي ذلك استعارة مركَّبة تمثيليَّة.
8. الآية دليل على أنَّ كلَّ فعل لمخلوق فعلٌ لله، بمعنى أنَّه خَلقه ولو معصية، إذ أسند الصرف إلى نفسه مع أَنَّ الانهزام كبيرة ومخالفة لأمره صلّى الله عليه وآله وسلّم بلزوم المركز.
9. ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ﴾ لعلمه بتوبتكم عن المخالفة؛ فلا ضمان دِيَة ولا عتاب، فهذا تفضُّل، فلا دليل في الآية على تصوُّر العفو بلا توبة، نعم يُتصوَّر في ناسي ذنبه الذي لم يصرَّ عليه، ولا سيما من يستغفر من الذنوب عموما وخصوصًا، فيدخل ذنبُه في العموم، وهو تعميم واجب على المكلَّف، وقيل: عفا عنكم بمحض فضله، وقيل: عفا عن الاستئصال، وقيل: عمَّن لم يعص بانصرافه.
10. ﴿وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُومِنِينَ﴾ يعفو عنهم ويرحمهم، غَلَبُوا أو غُلِبُوا، والمراد المخاطبون، أو عموم المؤمنين، فيدخلون أوَّلاً.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/29.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخبرهم الله تعالى أنه صدقهم وعده في النصر على عدوه، وهو الصادق الوعد، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزموا أمر الرسول لاستمرت نصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة، وفارقوا مركزهم ففارقهم النصر، فصرفهم عن عدوهم عقوبة وابتلاء وتعريفا لهم سوء عواقب المعصية وحسن عاقبة الطاعة بقوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ في قوله: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ﴾، ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ أي تقتلونهم قتلا كثيرا، من (حسه) إذا أبطل حسه.
2. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي بتيسيره وتوفيقه ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ أي ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أي في الإقامة بالمركز، فقال أصحاب عبد الله: الغنيمة، أي قوم! الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله ، فقالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين ـ رواه أحمد ـ و(الأمر) إما بمعنى الشأن والقصة، وإما الذي يضادّه (النهي) أي فيهم أمرتم به من عدم البراح.
3. ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ أي أمر الرسول أن لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا، فلا تعينونا.
4. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ أي من الظفر والغنيمة، وانهزام العدوّ، روى البخاريّ عن البراء قال لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم جيشا من الرماة، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وقال: لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم ـ بلفظ ما تقدم ـ ثم قال البراء: فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة.. الحديث.
5. ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ أي الغنيمة فترك المركز ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ فثبت فيه وهم الذين نالوا شرف الشهادة، ومنهم أنس بن النضر الأسد المقدام، القائل وقتئذ: اللهم! إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني المسلمين ـ وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه، فلقي سعد بن معاذ، فقال أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أحد! فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم ـ هذا لفظ البخاريّ ـ وأخرجه مسلم بنحوه، فرضي الله عنه وأرضاه وقدس روحه الزكية.
6. ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ أي كفكم عنهم حتى حالت الحال، ودالت الدولة، وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى.
7. ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله، وترجعوا إليه، وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره، وملتم إلى الغنيمة، ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ أي تفضلا عليكم لإيمانكم.
8. ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي في الأحوال كلها، إما بالنصرة إما بالابتلاء، فإن الابتلاء فضل ولطف خفيّ، ليتمرنوا بالصبر على الشدائد، والثبات في المواطن، ويتمكنوا في اليقين، ويجعلوه ملكة لهم، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها، ولا يذهلوا على الحق، وليكون عقوبة عاجلة للبعض، فيتمحصوا عن ذنوبهم، وينالوا درجة الشهادة، فيلقوا الله ظاهرين ـ أفاده القاشانيّ ـ.
9. (إذا) في قوله تعالى ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ إما شرط، أو، لا، وعلى الأول فجوابها إما محذوف أو مذكور، فتقديره، على كونه محذوفا، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منعكم الله نصره ـ لدلالة صدر الآية عليه ـ أو صرتم فريقين، لأن قوله تعالى: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ﴾.. يفيد فائدته، ويؤدي معناه، وعلى كونه مذكورا فهو إما (وعصيتم) والواو صلة، وحكي هذا عن الكوفيين والفراء، قالوا: ونظيره قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ [الصافات: 103 ـ 104]، والمعنى ناديناه، وبعض من نصر هذا الوجه زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب (حتى إذا) بدليل قوله أورد عليهم من لزوم تعليل الشيء بنفسه ـ إذ الفشل والتنازع معصية فكيف يكونان علة لها ـ بأن المراد من العصيان خروجهم عن ذلك المكان، ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عنه، فلا لزوم، وإمّا قوله تعالى ﴿صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ وكلمة (ثم) صلة ـ قاله أبو مسلم ـ، وعلى الثاني أعني كونها ليست شرطا فهي اسم و(حتى) حرف جر بمعنى إلى متعلقة بقوله تعالى ﴿صَدَقَكُمُ﴾ باعتبار تضمنه لمعنى النصر كأنه قيل: لقد نصركم الله (إلى) وقت فشلكم وتنازعكم.
10. فائدة قوله تعالى ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ التنبيه على عظم المعصية، لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بإنجاز الوعد، كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية، فلما أقدموا عليها سلبوا ذلك الإكرام.
11. ظاهر قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾، أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة، لأنها لم تذكر، فدل على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر.
12. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾، دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن، فإن الذنب في الآية كان كبيرة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/429.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. روى الواحدي عن محمد بن كعب قال: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد قال ناس من أصحابه: من أين أصبنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله هذه الآية ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ الآية، ونقول: نعم إن الناس قالوا ذلك كما يعلم من قوله تعالى: ﴿أو لما أصابتهم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتهم أنى هذا﴾ [آل عمران: 165]؟ وسيأتي، ولكن هذا القول ليس سببا لنزول هذه الآية وحدها، وإنما نزلت مع هذه الآيات الكثيرة بعد تلك الواقعة وما قيل فيها.
2. الوعد المشار إليه في الآية يحتمل أن يكون المراد به ما تكرر كثيرا في القرآن من نصر الله المؤمنين ونصر من ينصره وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد به ما دل عليه قوله تعالى ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ﴾ [آل عمران: 125] الآية، وقال بعضهم: إن المراد به وعد النبي لهم عند تعبئتهم، واختاره ابن جرير وروى فيه عن السدي أنه قال: لما برز رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال: (لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم).. وإنما ذكرنا هنا رواية السدي لما فيها من التصريح بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال للرماة: (فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم) والتفصيل الذي يعين على فهم الآية وغيرها، ومنها أن الرماة لم يعصوا كلهم وإنما أولئك بعض عامتهم، وأما الخاصة الراسخون في الإيمان العارفون بالواجب فقد ثبتوا.
3. المختار عندنا أن المراد بوعد الله هنا ما تكرر في القرآن، وإنما قال النبي ما قال للرماة عملا بالقرآن وتأولا له، فإنه تعالى قرن الوعد فيه بشروط لا تتم إلا بالطاعة والثبات.
4. ملخص تفسير الآية هكذا (ولقد صدقكم الله وعده) إياكم بالنصر حتى في هذه الواقعة ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ أي المشركين أن تقتلونهم قتلا ذريعا ﴿بِإِذْنِهِ﴾ تعالى أي بعنايته وتأييده لكم ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ ضعفتم في الرأي والعمل فلم تقووا على حبس أنفسكم عن الغنيمة ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ فقال بعضهم ما بقاؤنا هنا وقد انهزم المشركون؟ وقال الآخرون لا نخالف أمر الرسول ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ رسولكم وقائدكم بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه يحمون ظهوركم بنضح المشركين بالنبل ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ من النصر والظفر فصبرتم على الضراء ولم تصبروا في السراء ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ كالذين تركوا مكانهم وذهبوا وراء الغنيمة ليصيبوا منها ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ كالذين ثبتوا من الرماة مع أميرهم عبد الله بن جبير وهم نحو عشرة وكان الرماة خمسين رجلا، والذين ثبتوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم ثلاثون رجلا أي صدقكم وعده ونصركم على قلتكم وكثرة المشركين واستمر هذا النصر إلى أن فشلتم وتنازعتم وعصيتم فعندما وصلتم إلى هذه الغاية لم تعودوا مستحقين لهذه العناية، لمخالفتكم لسننه في استحقاق النصر الذي وعد به أهل الثبات والصبر فعلى هذا تكون (حتى) للغاية و(إذا) في قوله ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ ليست للشرط وإنما هي بمعنى الحين والوقت، هذا هو المختار، والوجه الثاني: أنها للشرط وجوابها محذوف تقديره عند البصريين (منعكم نصره) أو نحوه، وقال محمد عبده: (إن الحكمة في حذف الجواب هنا على القول به هي أن تذهب النفس في تقديره كل مذهب، ومثل هذا الحذف لا يأتي في الكلام البليغ إلا حيث ينتظر الجواب بكل شغف ولهف ولك أن تجعل تقديره: امتحنكم بالإدالة منكم ليمحصكم ويميز المخلصين والصادقين منكم)، وهذا هو صريح قوله ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾، وأبو مسلم قد قال إن هذه الجملة هي جواب (إذا) ولكن اقترن جواب الشرط بثم غير معروف لنا في كلام العرب.
5. حاصل المعنى انه بعد أن صدقكم وعده فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حس واستئصال صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك أي ليعاملكم معاملة من يمتحن ويختبر أو لأجل أن يكون ذلك ابتلاء واختبارا لكم يمحصكم به ويميز بين الصادقين والمنافقين ويزيّل بين الأقوياء والضعفاء، كما علم من الآيات السابقة، وقد أسند الله تعالى صرف المؤمنين عن المشركين إلى نفسه هنا باعتبار غايته الحميدة في تربيتهم وتمحيصهم الذي يعدهم للنصر الكامل والظفر الشامل في المستقبل، وأضاف ما أصابهم إليهم في قوله الذي سيأتي في السياق ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ باعتبار سببه وهو ما كان منهم من الفشل والتنازع والعصيان، وقد وعد بعضهم إسناد الصرف إليه هنا مشكلا لا سيما على مذهب المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ الذين تكلفت علماؤهم في تخريجه تكلفا لا حاجة إليه، إذ لا إشكال فيه ولكن المذاهب والاصطلاحات، هي التي تولد لأصحابها المشكلات.
6. ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ بذلك التمحيص الذي محا أثر الذنب من نفوسكم فصرتم كأنكم لم تفشلوا ولم تتنازعوا ولم تعصوا وقد ظهر أثر هذا العفو في حمراء الأسد كما علم مما مر وما يأتي.
7. ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ فلا يذرهم على ما هم عليه من ضعف يلم ببعضهم، أو تقصير يهبط بنفوس غير الراسخين منهم، حتى يبتلي ما في قلوبهم، ويمحص ما في صدورهم، فيكونوا من المخلصين.
__________
(1) تفسير المنار: 4/182.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ أي ولقد وفي لكم ربكم بوعده الذي وعدكم على لسان رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من النصر على العدو حين تقتلونه قتلا ذريعا بتيسير الله ومعونته، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعدهم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره.
2. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ أي صدقكم الله وعده حتى ضعفتم في الرأي والعمل، فلم تقووا على حبس أنفسكم عن الغنيمة، وتنازعتم، فقال بعضكم: ما بقاؤنا هنا وقد انهزم المشركون؟ وقال آخرون: لا نخالف أمر الرسول ، وعصيتم رسولكم وقائدكم بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه يحمون ظهور المقاتلة بنصح المشركين بالنبل، من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر والظفر، فصبرتم على الضراء ولم تصبروا على السراء.
3. صفوة القول: إن الله نصركم على عدوكم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع وعصيان أمر قائدكم ، فانتهى النصر، لأن الله تعالى إنما وعدكم النصرة بشرط التقوي والصبر على الطاعة.
4. في قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ تنبيه إلى عظم المعصية، لأنه كان من حقهم حين رأوا إكرام الله لهم بإنجاز الوعد أن يمتنعوا عن عصيانه، فلما أقدموا عليه لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم.
5. ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ وهم الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الشّعب من أحد وذهبوا وراء الغنيمة، ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ وهم الذين ثبتوا من الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير وهم نحو عشرة وكان الرماة قبلا نحو خمسين، والذين ثبتوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم ثلاثون رجلا.
6. ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ أي ثم كفكم عنهم حتى تحولت الحال من النصرة إلى ضدها، ليعاملكم معاملة من يمتحن، ليستبين أمركم وثباتكم على الإيمان.
7. الخلاصة ـ إن الله صدقكم وعده، فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حسّ واستئصال، ثم صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم، وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك: أي ليكون ذلك ابتلاء واختبارا لكم يمحصكم به، ويميز الصادقين من المنافقين.
8. ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ بذلك التمحيص الذي محا أثر الذنب من نفوسكم حتى صرتم كأنكم لم تفشلوا، وقد استبان أثر هذا العفو فيما بعد، كما حدث في وقعة (حمراء الأسد)
9. ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي والله ذو فضل وطول على أهل الإيمان به وبرسوله، فيعفو عن كثير مما يستوجبون به العقوبة من الذنوب، ولا يذرهم على ما هم عليه من تقصير يهبط بنفوس بعض، وضعف يلمّ بآخرين، بل يمحص ما في صدورهم حتى يكونوا من المخلصين الطائعين المخبتين.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/99.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها، فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها، ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار، وتركوا وراءهم الغنائم، وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة!.. ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم؛ وتنازعوا فيما بينهم، وخالفوا عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيهم وقائدهم.. وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها، في حيوية عجيبة.
2. إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهدا كاملا لمسرح المعركة، ولتداول النصر والهزيمة، مشهدا لا يترك حركة في الميدان، ولا خاطرة في النفوس، ولا سمة في الوجوه، ولا خالجة في الضمائر، إلا ويثبتها.. وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر، ويحمل في كل حركة صورا جديدة نابضة، وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل، والهروب في دهش وذعر، ودعاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم للفارين المرتدين عن المعركة، المصعدين للهرب، يصحب ذلك كله حركة النفوس، وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع، ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة، تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن، ومنهج القرآن التربوي العجيب.
3. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ وكان ذلك في مطالع المعركة، حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين، أي يخمدون حسهم، أو يستأصلون شأفتهم، قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قال لهم: (لكم النصر ما صبرتم) فصدقهم الله وعده على لسان نبيه.
4. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ وهو تقرير لحال الرماة، وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة؛ ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وانتهى الأمر إلى العصيان، بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه، فكانوا فريقين: فريقا يريد غنيمة الدنيا، وفريقا يريد ثواب الآخرة، وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة، ولم يعد الهدف واحدا، وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة.
5. معركة العقيدة ليست ككل معركة، إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير، ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير، إنها معركة لله، فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له، وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها، فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها؛ كيلا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية.
6. قد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك ـ لحكمة يعلمها الله ـ أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد، فلا يمنحهم الله النصر أبدا، حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا.. وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة، وهذا ما أراد الله سبحانه أن يعلمه للجماعة المسلمة، وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح!
7. ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ القرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم، عن عبد الله بن مسعود قال: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يريد الدنيا، حتى نزل فينا يوم أحد: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾.. وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها؛ ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها!
8. في الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره؛ وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها؛ ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾، لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر، فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل، وصرف المقاتلين عن الميدان، فلاذوا بالفرار.
9. وقع كل هذا مرتبا على ما صدر منهم؛ ولكن مدبرا من الله ليبتليهم.. ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح؛ وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب، ومن تمحيص النفوس، وتمييز الصفوف ـ كما سيجيء.. وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها، وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها، بلا تعارض بين هذا وذاك، فلكل حادث سبب، ووراء كل سبب تدبير.. من اللطيف الخبير.
10. ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان؛ وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد.. عفا عنكم فضلا منه ومنة، وتجاوزا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة.. عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله، والاستسلام له، وتسليم قيادكم لمشيئته.
11. ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم، ما داموا سائرين على منهجه، مقرين بعبوديتهم له؛ لا يدعون من خصائص الألوهية شيئا لأنفسهم، ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم، ولا موازينهم إلا منه.. فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة.. فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/494.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في أولى الآيات التي استفتح الله بها ذكر تلك المعركة ـ معركة أحد ـ جاء قوله تعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾.. وكان هذا وعدا من الله المؤمنين بالمدد العلوىّ، الذي يحمل معه النصر لهم، وقد جاء هذا الوعد مشروطا وأنه لن يحققه الله لهم إلا إذا وفوا بهذا الشرط، وهو أن يصبروا ويتقوا.
2. وقد صبر المسلمون في أول القتال، وأعطوا أنفسهم كلها للمعركة، فصدقهم الله وعده، وأراهم بشائر النصر.. فإنه منذ الساعات الأولى من القتال استولى المسلمون على زمام المعركة، وبدأت طلائع بدر تطل عليهم، فقتلوا مقتلة عظيمة في المشركين، وأدخلوا في صفوفهم الخلل والاضطراب، حتى همّوا بالهزيمة والفرار، وأخلوا أيديهم مما معهم من متاع.. وإذ ذاك امتدت أبصار كثير من المسلمين إلى هذا المتاع الذي تخلّى عنه أهله، وكان الأولى بهم أن يلتفتوا إلى رؤوس المشركين أولا، فيزيلوها عن مكانها، فهذا هو الأمر الذي ندبهم الله له، وانتظموا في سبيل المجاهدين من أجله، وإذن فقد تخلّى المسلمون عن الشرط الذي اشترطه الله عليهم ليمنحهم نصره.. فكان أن تخلّى عنهم النصر، واستقبلتهم الهزيمة!
3. في قوله تعالى: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ إشارة إلى ما فعل المسلمون بالمشركين أول الأمر، وأنهم حصدوهم حصدا.. فالحسّ معناه: القتل الذّريع الكثير.
4. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ يشير إلى ما كان من جماعة الرّماة التي جعلها الرسول الكريم من وراء جيش المسلمين، تحمى ظهورهم من أن يأخذهم كمين من العدو على غرّة، وقد وصّى النبيّ هؤلاء الرماة أن يلزموا أماكنهم، وألا يتحولوا عنها بحال أبدا، سواء انتصر المسلمون أو انهزموا، ولكن الذي كان من الرماة غير هذا.. فإنهم ما كادوا يرون الهزيمة في المشركين، ويرون الأسلاب والغنائم وقد تخلّى عنها أصحابها، حتى قال قائل منهم: ما موقفنا هنا، وقد ولّى المشركون وانهزموا؟ وقال آخرون: إن الرسول لم يلزمنا أن نكون حيث نحن إلا لنحمى ظهر المسلمين من العدو.. فأين هذا العدوّ؟ وقال رئيس الجماعة، وهو عبد الله بن جبير: (يا قوم.. الزموا أماكنكم كما أمرنا رسول الله، ولا تتحولوا عنها..) فأبى عليه كثيرون، وتركوه في نفر من أصحابه.. وما هي إلا لحظات حتى رأى خالد بن الوليد، ـ وكان على فرسان المشركين ـ رأى موقف الرماة يكاد يكون خلوا فاستدار إليهم بمن معه من فرسان، فاستقبله عبد الله بن جبير، ومن معه، مقاتلين، حتى استشهدوا جميعا، رحمهم الله، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾
5. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ إشارة إلى أن تحوّل المعركة من جانب المسلمين إلى المشركين كان عن حكمة أرادها الله، وهى أن يبتلى المؤمنين بهذا البلاء، وأن يضعهم أمام تجربة يواجهون فيها الشدائد والمحن، ليروا ما عندهم من صبر واحتمال، وليسدّوا الخلل الذي يجدونه في أنفسهم، استعدادا للمعارك المقبلة بينهم وبين المشركين.
6. في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ إشارة أخرى إلى أن ما كان من المسلمين من تحول عن القتال، وانصراف إلى الغنائم، وإن كان مما كسبته أيديهم ـ قد عفا الله عنه، وتجاوز عن مقترفيه، لأنهم كانوا مقهورين تحت إرادة غالبة لله، في هذا الذي كان منهم، ليكون لهم فيه درس نافع في لقاء المشركين بعد هذا.. وفي توكيد فعل العفو باللام الموطئة للقسم، وبحرف التحقيق قد ـ (ولقد) ـ إظهار لسعة رحمة الله، وتمام فضله على عباده، المجاهدين في سبيله.
7. ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ يغفر لهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويعيدهم إليه إذا بعدت الطريق بهم عنه.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/613.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ﴾ عطف على قوله: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [آل عمران: 151] وهذا عود إلى التّسلية على ما أصابهم، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين: تطمينا لهم بذكر نظيره ومماثله السابق، فإنّ لذلك موقعا عظيما في الكلام على حدّ قولهم (التّاريخ يعيد نفسه) وليتوسّل بذلك إلى إلقاء تبعة الهزيمة عليهم، وأنّ الله لم يخلفهم وعده، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله: ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79]
2. صدق الوعد: تحقيقه والوفاء به، لأنّ معنى الصدق مطابقة الخبر للواقع، وقد عدّي صدق هنا إلى مفعولين، وحقّه أن لا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد، قال الزمخشري في قوله تعالى ـ في سورة الأحزاب [23] ـ: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾ ـ يقال: صدقني أخوك وكذبني إذا قال لك الصدق والكذب، وأمّا المثل (صدقني سنّ بكره) فمعناه صدقني في سنّ بكره بطرح الجارّ وإيصال الفعل، فنصب ﴿وَعْدُهُ﴾ هنا على الحذف والإيصال، وأصل الكلام صدقكم في وعده، أو على تضمين صدق معنى أعطى.
3. الوعد هنا وعد النصر الواقع بمثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: 7] أو بخبر خاصّ في يوم أحد، وإذن الله بمعنى التقدير وتيسير الأسباب.
4. (إذ) في قوله: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ نصب على الظرفية لقوله: ﴿صَدَقَكُمُ﴾ أي: صدقكم الله الوعد حين كنتم تحسّونهم بإذنه فإنّ ذلك الحسّ تحقيق لوعد الله إيّاهم بالنّصر، و(إذ) فيه للمضيّ، وأتى بعدها بالمضارع لإفادة التجدّد أي لحكاية تجدّد الحسّ في الماضي.
5. الحسّ ـ بفتح الحاء ـ القتل أطلقه أكثر اللغويين، وقيّده في (الكشاف) بالقتل الذريع، وهو أصوب.
6. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ (حتّى) حرف انتهاء وغاية، يفيد أنّ مضمون الجملة الّتي بعدها غاية لمضمون الجملة الّتي قبلها، فالمعنى: إذ تقتلونهم بتيسير الله، واستمرّ قتلكم إيّاهم إلى حصول الفشل لكم والتنازع بينكم، و(حتّى) هنا جارّة و(إذا) مجرور بها و(إذا) اسم زمان، وهو في الغالب للزمان المستقبل وقد يخرج عنه إلى الزمان مطلقا كما هنا، ولعلّ نكتة ذلك أنّه أريد استحضار الحالة العجيبة تبعا لقوله: ﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾
7. (إذا) هنا مجرّدة عن معنى الشرط لأنّها إذا صارت للمضيّ انسلخت عن الصلاحية للشرطية، إذ الشرط لا يكون ماضيا إلّا بتأويل لذلك فهي غير محتاجة لجواب فلا فائدة في تكلّف تقديره: انقسمتم، ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلا عليه وهو قوله: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ إلى آخرها.
8. الفشل: الوهن والإعياء، والتنازع: التخالف، والمراد بالعصيان هنا عصيان أمر الرسول، وقد رتّبت الأفعال الثلاثة في الآية على حسب ترتيبها في الحصول، إذ كان الفشل، وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة موقفهم للطمع في الغنيمة، قد حصل أولا فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش للغنيمة، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقف الّذي أمرهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بملازمته وعدم الانصراف منه، وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ما لم يقتض الحال العدول عنه.
9. التعريف في قوله: ﴿فِي الْأَمْرِ﴾ عوض عن المضاف إليه أي في أمركم أي شأنكم.
10. معنى ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ أراد به النّصر إذ كانت الريح أوّل يوم أحد للمسلمين، فهزموا المشركين، وولوا الأدبار، حتّى شوهدت نساؤهم مشمّرات عن سوقهنّ في أعلى الجبل هاربات من الأسر، وفيهنّ هند بنت عتبة بن ربيعة امرأة أبي سفيان، فلمّا رأى الرماة الّذين أمرهم الرسول أن يثبتوا لحماية ظهور المسلمين، الغنيمة، التحقوا بالغزاة، فرأى خالد بن الوليد، وهو قائد خيل المشركين يومئذ، غرّة من المسلمين فأتاهم من ورائهم فانكشفوا واضطرب بعضهم في بعض وبادروا الفرار وانهزموا، فذلك قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ فيكون المجرور متعلّقا بفشلهم، والكلام على هذا تشديد في الملام والتنديم.
11. الأظهر عندي أن يكون معنى ما تحبّون هو الغنيمة فإنّ المال محبوب، فيكون المجرور يتنازعه كلّ من (فشلتم، وتنازعتم، وعصيتم)، وعدل عن ذكر الغنيمة باسمها، إلى الموصول تنبيها على أنّهم عجّلوا في طلب المال المحبوب، والكلام على هذا تمهيد لبساط المعذرة إذ كان فشلهم وتنازعهم وعصيانهم عن سبب من أغراض الحرب وهو المعبّر عنه بـ (إحدى الحسنيين) ولم يكن ذلك عن جبن، ولا عن ضعف إيمان، أو قصد خذلان المسلمين، وكلّه تمهيد لما يأتي من قوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾
12. المراد بقوله: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ إرادة نعمة الدنيا وخيرها، وهي الغنيمة، لأنّ من أراد الغنيمة لم يحرص على ثواب الامتثال لأمر الرسول بدون تأويل، وليس هو مفرّطا في الآخرة مطلقا، ولا حاسبا تحصيل خير الدنيا في فعله ذلك مفيتا عليه ثواب الآخرة في غير ذلك الفعل، فليس في هذا الكلام ما يدلّ على أنّ الفريق الّذين أرادوا ثواب الدنيا قد ارتدّوا عن الإيمان حينئذ، إذ ليس الحرص على تحصيل فائدة دنيوية من فعل من الأفعال، مع عدم الحرص على تحصيل ثواب الآخرة من ذلك الفعل بدالّ على استخفاف بالآخرة، وإنكار لها، كما هو بيّن، ولا حاجة إلى تقدير: منكم من يريد الدنيا، فقط، وإنّما سمّيت مخالفة من خالف أمر الرسول عصيانا، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف، إذ كانوا قالوا: إنّ رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين، فلمّا نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتّى تفوتنا الغنائم، فكانوا متأوّلين، فإنّما سمّيت هنا عصيانا لأنّ المقام ليس مقام اجتهاد، فإنّ شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل، أو لأنّ التأويل كان بعيدا فلم يعذروا فيه، أو لأنّه كان تأويلا لإرضاء حبّ المال، فلم يكن مكافئا لدليل وجوب طاعة الرّسول.
13. إنّما قال: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء، ليظهر للرسول وللنّاس من ثبت على الإيمان من غيره، ولأنّ في الابتلاء أسرارا عظيمة في المحاسبة بين العبد وربّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه.
14. عقب هذا الملام بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ تسكينا لخواطرهم، وفي ذلك تلطّف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 43]، فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو، وفيه أيضا دلالة على صدق إيمانهم إذ عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفا من غضب الله تعالى.
في تذييله بقوله: ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ تأكيد ما اقتضاه قوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ والظاهر أنّه عفو لأجل التأويل، فلا يحتاج إلى التّوبة، ويجوز أن يكون عفوا بعد ما ظهر منهم من الندم والتّوبة، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأنّ المعصية تسلب الإيمان.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/251.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآيات السابقات إشارات إلى بعض ما كان في غزوة أحد من اضطراب القلوب، والرجفة التي أصابت الصفوف، وشيوع القالة المثبطة للعزائم الممزقة للوحدة، وإنتاج هذه المقالة نتائجها في قلوب ضعيفة، ونفوس مريضة بالنفاق، وفي هذه الآيات وما وليها يذكر الله سبحانه وتعالى سبب الهزيمة مقترنا بنتائجها في نفوس المؤمنين الثابتين في إيمانهم، الأقوياء في عزيمتهم، الذين احتسبوا النية لله رب العالمين، فقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
2. وعد الله تعالى الذين آمنوا بالنصر وعدا عاما عندما أذن لهم بالقتال، ووعدهم في أحد وعدا خاصا، فقد قال سبحانه وتعالى في الوعد العام: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج]، والوعد الخاص في أحد جاء ذكره في قوله تعالى: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران]
3. نرى الوعد بالنصر في الآية الأولى التي كان الوعد فيها عاما كان مقيدا بأن ينصروا الله في قتالهم، لا يريدون مأربا دنيويا ولا عرضا من أعراض الدنيا، كما ترى الوعد في أحد خاصة كان مقيدا بأن يصبروا، وقد تخلف الشرطان في أحد، فإن فريقا منهم أراد عرضا من أعراض الدنيا في أثناء المعركة، ولم يصبروا؛ إذ لم يضبطوا إرادتهم ولم تستحصد عزائمهم في طاعة القائد، فإن طاعة القائد من سبل النصر، وتحتاج إلى صبر وضبط نفس، ولذلك لم يكن في أحد ما ينافى صدق الله وعده لنبيه، وصدق النبيّ في وعده لهم بإذن من ربه سبحانه وتعالى.
4. معنى صدق الوعد في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ أن يقع الأمر في الوجود كما وعد الله تعالى وهنا (صدق) متعدية إلى مفعولين، والمعنى قد أوقع الله سبحانه وتعالى الأمر في الوجود، كما وعدكم، بروح منه، ولكنكم أنتم الذين لم تلتزموا الجادة، ولم تكونوا ناصرين الله تعالى في المعركة كلها؛ إذ لم يكن قتالكم لله تعالى في هذه المعركة من مبتدئها إلى انتهائها، ولم تضبطوا أنفسكم، وإن وعد الله تعالى لكم بتأييد الملائكة، وهى الأرواح الطاهرة المطهرة، كان مقيدا بالصبر النفسي، ولم تصبروا أنفسكم وبين سبحانه وتعالى وقت النصر، وهو وقت ابتداء الحرب.
5. ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ ومعنى تحسونهم أي تصيبون حسّهم بإزالته، وذلك يكون بقتله، فمعنى حسّه أصاب حسه، مثل كبده أصاب كبده، وفأده أصاب فؤاده، وشغفه أصاب شغاف قلبه، ولقد قال في ذلك الأصفهاني: (حسست، وحسيت، وأحسست) يقال على وجهين:
أ. أحدهما: يقال أصبته بحسى (أي أدركته بإحساسى، ومنه شيء محسوس) و.
ب. الثاني: أصبت حاسته نحو كبدته، وفأدته، ولما كان ذلك قد يتولد عنه القتل عبر به عن القتل، فقيل: (حسسته أي قتلته)
6. المعنى كان وعد الله صادقا كل الصدق عندما كنتم تقتلونهم بإذنه، مؤيدين منصورين، ومعنى الإذن هنا يتضمن معنى التأييد والتقوية والتثبيت، ولكنكم أنتم الذين أبعدتم أنفسكم عن نصر الله تعالى، وأشار إلى ذلك سبحانه بقوله: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ أي حتى إذا ضعفت نفوسكم وعجزتم عن مقاومة أهوائكم، وتنازعتم فيما بينكم أنتبع الغنائم نجمعها، أم نطيع الرسول؟ وانتهى أكثركم إلى العصيان من بعد ما أراكم الله تعالى ما تحبون من نصر مؤزر ثابت أو من غنائم تحبونها، وتهواها أنفسكم، وهذا يفيد أن الترتيب النفسي يتفق مع الترتيب في الذكر؛ وذلك لأن الفشل، ومعناه العجز النفسي عن الصبر والاحتمال، ترتب عليه التنازع وعصيان الرسول، ولا بد أن نذكر هنا بعض ما روى عن ذلك في غزوة أحد، فقد روى البخاري عن البراء بن عازب: (لما كان يوم أحد، ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أناسا من الرماة، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير، وقال لهم: (لا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا عليهم) فلما التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يشتددن في الجبل وقد رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فجعلوا (أي ناس من الرماة) يقولون: الغنيمة الغنيمة، فقال لهم عبد الله: امهلوا أما عهد إليكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ألا تبرحوا؟ فانطلقوا، فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا)
7. الرماة لم يذهبوا جميعا إلى الغنائم يجمعونها، بل بقى منهم عدد قليل، قيل إنهم عشرة، ولكن نسب العصيان إليهم جميعا، بل نسب إلى الجيش كله، مع أن غير الرماة كانوا الفريسة لعصيان كثرة الرماة؛ وذلك لأن ما يعم أثره ينسب إلى الجميع، باعتبار ذلك الأثر، وأنهم جميعا كان عليهم أن يتواصوا بالطاعة المطلقة للقائد الخبير، وذلك كقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال] فعلى كل جماعة أن تتضافر في منع ما يضر أثره بها كلها، لا بالظالمين فقط منها، وإن إثم الآثمين في الجماعات والأمم، ينشأ من سكوت أهل الحق والعدل، ويعيش في ظل صمتهم، ولذلك ينسب العصيان إلى الجميع، ولقد بين سبحانه أن العصيان وإن نسب إلى الجميع كان فيهم من أراد الحق، وفيهم من أراد الدنيا من غير طريقها، فقال سبحانه: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾
8. هذا تفصيل للتنازع الذي كان بين الرماة، وما كان في الجيش نفسه، وهو خطاب لجمهور الذين اتبعوا النبيّ .. منكم أيها المحاربون من يريد الدنيا بإرادة الغنائم، والقصد إليها، وقد غلبته على نفسه حتى نسى الطاعة الواجبة والخطة المرسومة، وهو إذ يطلب الدنيا في هذا المقام، إنما يطلبها بغير الأخذ في أسبابها الحقيقية التي توصل إلى الغاية فيها، ولذلك ذهب طمعهم بالغنيمة والنصر معا، ولو صبروا حتى سارت الحرب في طريقها، والخطة إلى غاياتها، لنالوا النصر والغنيمة معا، فإنه لا غنيمة إلا بالنصر المستقر، ولا نصر إلا بالتزام خطة القائد الرشيد، ومنكم أيها المجاهدون من يريد الآخرة، وهم أنتم الذين ضبطوا أنفسهم عن الغنيمة، ولم يعصوا ما أمر به رسول الله ، ولو ذهبت الغنائم، وأنتم الذين صبرتم في فتنة الهزيمة العارضة بعد أن اضطربت القلوب وأرجف المرجفون، وتنادى الكاذبون بأن محمدا قد مات، فقد صبرتم وصابرتم، وجاهدتم ونازلتم في الشديدة، والقوى حقا من يملك نفسه عندما تضطرب النفس، ويثبت عندما تكون دواعي الهزيمة، وأولئك أرادوا الآخرة؛ لأنهم ما طلبوا غنيمة، وكان ثباتهم في وقت الفزع دليلا على امتلاء قلوبهم بالإيمان بالله واليوم الآخر.
9. هنا بحث لفظي يثيره العلماء، وموضوعه (إذا) في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ﴾ فقد ذكر الزمخشري وغيره أن فيها وجهين:
أ. أحدهما: أن تكون (حتى) بمعنى (إلى)، وأن تكون (إذا) لمجرد الوقت أي أن النصر كان حليفكم تقتلون فيه القتل الذريع، إلى وقت أن فشلتم وتنازعتم في الأمر.
ب. الثاني أن تكون شرطية، وجواب الشرط محذوف، وإن كان مفهوما أنه شر لا خير فيه، وضرر لا نفع معه؛ لأن ما يكون مقدمه عجزا واضطرابا نفسيا وتنازعا في أمر، ثم عصيانا يترتب عليه عدم تنفيذ خطة القائد الحكيم ـ لا يكون التالي المترتب عليه خيرا قط، ولم يذكر لتذهب فيه العقول كل مذهب، وللإشارة إلى أنه شر عظيم لا يكتنه كنهه، ولا يتصورون حقيقته، وإنه كان من نتائج ذلك الضرر أنكم لم تنالوا بغيتكم من المشركين، ولذا قال تعالى: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾
10. أي النتيجة التي صرتم إليها غير المقصد الذي قصدتم إليه، لقد خرجتم إليهم من مدينتكم لتقتلوهم وتنالوا منهم ما نلتموه في بدر، ولم تريدوا أن تكونوا في المدينة يأتون إليكم، بل أردتم أن تواجهوهم في الميدان لا في الأزقة وبين الجدران، ولكن بسبب ذلك العصيان من بعضكم صرفكم الله عنهم، أي انصرفتم عنهم بإرادة الله تعالى، ورضيتم أن تعودوا مقهورين، وقد خرجتم لتعودوا منصورين بتأييد الله، ولتفاوت ما بين المقصد الأصلي والنتيجة التي انتهوا إليها بسبب هذا الخطأ الجزئي ـ عطف سبحانه وتعالى بـ (ثم) بدل الواو أو الفاء.
11. كان التعبير بكلمة (صرفكم) بدل (هزمتم) لأن ما حدث في أحد لم يكن هزيمة، وإن لم يكن نصرا؛ لأن الهزيمة تقتضى أن يولى المسلمون الأدبار، وأن يتحكم الأعداء، وليس ما حدث أكثر من أن القتلى في المؤمنين كانوا أكثر من القتلى في المشركين، ولم ينل المشركون بذلك مأربا، فكأن الله سبحانه وتعالى يشير لهم بأن ما حدث لا يصح أن تبتئسوا له، ولا يصيبكم الحزن؛ لأنه ليس هزيمة، بل هو نوع من الصرف عن الغاية التي من أجلها خرجتم، وكان هذا لا بد منه ليمحص قلوبكم، وليختبركم بالشدائد التي تصقل نفوسكم، وتجعلها مستعدة لما يأتي به القدر، ولبيان أن الطاعة للقائد الحكيم هي أساس الظفر، والعصيان سبب للاندحار.
12. ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ في هذا النص السامي يبين سبحانه عفو الله تعالى ليرفع من نفوسهم، ويذهب الحسرة من قلوبهم، ويحيى موات العزة التي اختفت في وسط ذلك المضطرب، ولقد أكد سبحانه وتعالى عفوه بعدة تأكيدات:
أ. أولها: بالتعبير بـ (قد)، فإنها للتحقيق، واستعمالها في أكثر آي القرآن للتحقيق.
ب. ثانيها: باللام.
ج. ثالثها: بالتعبير بالماضي.
13. سؤال وإشكال: لما ذا أكد سبحانه وتعالى عفوه بهذا التأكيد؟ والجواب: لأن أولئك الأبرار الذين أخلصوا دينهم لله تعالى قد تجسم في نفوسهم خطؤهم، حتى توهموا أنه غير قابل للغفران، فإن المؤمن التقى يستكثر هفوته، ويستصغر حسنته؛ لأنه يحس بحق الله تعالى عليه، ووجوب شكر النعم التي أنعم بها، وبمقدار قوة الإيمان يغلب المؤمن خوف العقاب على رجاء الثواب.
14. ذيل سبحانه الآية بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ لبيان فضل الله تعالى العميم على عباده المؤمنين، فكل شيء بفضله، فنصرهم في بدر بفضل منه، ونصرهم في الابتداء في أحد كان بفضل منه، وخذلانهم بفشلهم وتنازعهم فيه فضل بتعليمهم حق الجهاد وواجبه، وعفوه عنهم هو الفضل كله، ولقد تأكد فضل الله تعالى في الآية بقوله: ﴿ذُوفَضْلٍ﴾ أي صاحب فضل، والمرمى أن الفضل يلازمه، ولا ينقطع عنه سبحانه وتعالى أبدا.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1452.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾، ما زال الكلام والخطاب مع الأصحاب الذين كانوا في أحد.. وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم قد وعدهم النصر يومئذ ان امتثلوا أمره، وقد وفي الله لهم بما قاله على لسان نبيه، ذلك ان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أقام الرماة عند الجبل صيانة لمؤخرة المسلمين، وأوصاهم ان لا يبرحوا مكانهم، حتى ولو رأوا العدو تتخطفه الطير، ووعدهم النصر بهذا الشرط، وكان الرماة خمسين رجلا، ولما ابتدأت المعركة شرع الرماة يرشقون المشركين، وبقية الأصحاب يضربونهم بالسيوف، وقتلوهم قتلا ذريعا، حتى انهزموا، وهذا معنى ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾، أي تقتلونهم بأمر الله، وفي تفسير ابن جرير الطبري والمراغي وغيرهما ان طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين المعروف بكبش الكتيبة قام فقال: يا معشر أصحاب محمد انكم تزعمون ان الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة، أو يعجلني بسيفه إلى النار؟، فقام اليه علي بن أبي طالب عليه السلام وضربه فقطع رجله وسقط، فانكشفت عورته، فقال طلحة لعلي: أنشدك الله والرحم يا ابن عم.. فتركه علي عليه السلام وكبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال لعلي أصحابه: ما منعك أن تجهز عليه؟ قال ناشدني الله والرحم.. هذا هو علي في خلقه يفيض قلبه بالحنان والرحمة، حتى على أعدى أعدائه الذي برز له شاهرا السيف في وجهه مصمما على قتاله وقتله.
2. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ بعد أن ولى المشركون الدبر ـ وكانوا ثلاثة آلاف مشرك ـ امتلأ الوادي بما خلفوه من الغنائم، وحين رآها الرماة، وإخوانهم المسلمون ينتهبونها دونهم عصف بهم ريح الطمع، واختلفوا فيما بينهم، وقال بعضهم: ما بقاؤنا هنا؟ وتجاهلوا وصية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتشديده عليهم بالبقاء، فقال لهم أميرهم عبد الله بن جبير: امكثوا ولا تخالفوا أمر الرسول .. ولكن أكثرهم غادروا مواقعهم هابطين إلى انتهاب الأسلاب والأموال، وتركوا أميرهم عبد الله في نفر دون العشرة، والى هذا التنازع والعصيان يشير قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ﴾، أما قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ فيشير إلى انهزام المشركين وغنائمهم، وكان خالد بن الوليد يحارب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أبي سفيان، وحين رأى مؤخرة المسلمين مكشوفة بعد أن أخلاها الرماة اغتنم الفرصة، وانقض مع جماعة من المشركين على البقية الباقية من الرماة، وقاتل هؤلاء بشجاعة وحرارة، حتى استشهدوا جميعا، وخلا ظهر المسلمين، ورجع المشركون إلى الميدان، وأحاطوا بالمسلمين من الخلف والأمام، وأكثروا فيهم القتل والجراح، ودارت الدائرة عليهم بعد ان كانت لهم.. وهذه هي النتيجة الحتمية للتنازع والتخاصم.
3. ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾، وهم الرماة الذين تركوا مقاعدهم طمعا بالغنيمة، ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾، وهم الذين ثبتوا مكانهم مع أميرهم عبد الله بن جبير، حتى نالوا الشهادة، ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾، أي ردكم عن الكفار بعد أن نصركم عليهم بسبب تنازعكم وعصيانكم، ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾، أي عاملكم معاملة من يمتحنكم ليظهر ثباتكم على الايمان، وصبركم على الشدائد، ويميز بين المخلصين والمنافقين.
4. ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾، وكثيرا ما يخطئ الإنسان عن طيش، ثم يؤوب إلى رشده، فيعفو الله عما سلف منه، ولكن من عاد فينتقم الله منه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/177.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ إلى آخر الآية الحس ـ بالفتح ـ: القتل على وجه الاستيصال، ولقد اتفقت الروايات وضبطه التاريخ في قصة غزوة أحد أن المؤمنين غلبوهم وظهروا عليهم في أول الأمر ووضعوا فيهم السيوف وشرعوا في نهب أموالهم حتى إذا خلى الرماة مكانهم في المكمن حمل خالد بن الوليد فيمن معه على عبد الله بن جبير ومن بقي معه من الرماة فقتلوهم، وحملوا على المؤمنين من ورائهم، وتراجع المشركون عن هزيمتهم ووضعوا السيوف في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقتلوا منهم سبعين ثم هزموهم أشد هزيمة.
2. فقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾، تثبيت صدق وعده بالنصر بشرط التقوي والصبر، وقوله: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾، يقبل الانطباق على ما رزقهم في أول الأمر من الظهور على عدوهم يوم أحد، وقوله: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾، ينطبق على ما صنعه الرماة حيث تنازعوا فيما بينهم في ترك مراكزهم واللحوق بمن مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لنيل الغنيمة ففشلوا وتنازعوا في الأمر وعصوا أمر النبي بأن لا يتركوا مراكزهم على أي حال، وعلى هذا فلا بد من تفسير الفشل بضعف الرأي، وأما كونه بمعنى الجبن فلا ينطبق عليهم إذ لم يكن ذلك منهم جبنا بل طمعا في الغنيمة، ولو كان الفشل بمعنى الجبن كان منطبقا على حال جميع القوم ويكون على هذا ﴿ثُمَّ﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ﴾، مفيدة للتراخي الرتبي دون الزماني.
3. يدل لفظ التنازع على أن الكل لم يكونوا مجمعين على الفشل والمعصية بل كان بعضهم يصر على الإطاعة والبقاء على الائتمار ولذا قال تعالى بعده: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾
4. ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾، أي كفكم عن المشركين بعد ظهور الفشل والتنازع والمعصية، وبالجملة بعد وقوع الاختلاف بينكم ليمتحنكم ويختبر إيمانكم وصبركم في الله إذ الاختلاف في القلوب هو أقوى العوامل المقتضية لبسط الابتلاء ليتميز المؤمن من المنافق، والمؤمن الراسخ في إيمانه الثابت على عزيمته من المتلون السريع الزوال، ومع ذلك فإن الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/44.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ وَعْدَهُ بالنصر، أو ﴿وَعْدُهُ﴾ بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، كما في (سورة الأنفال) وهذه السورة، قال الشرفي في (المصابيح): (اعلم أنا قد ذكرنا في قصة أحد أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا هناك ولا يبرحوا سواء كانت النصرة للمسلمين أو عليهم، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم، والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون من ورائهم ﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾ قال الليث: الحَسُّ: القتل الذريع، يحسونهم: أي يقتلونهم قتلاً كثيراً، ومعنى ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي بلطف الله وتيسيره)، وفي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): ﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾ معناه: تقتلونهم) إنتهى، ومثله في (مفردات الراغب الأصفهاني)
2. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ فسروا (الفشل) تارة بالضعف مع الجبن، وتارة بالضعف والجبن، والأولى: أنه الضعف، وأن الجبن سمي فشلاً لأنه ضعف، فالفشل هنا ليس إلا ضعف الرأي وإخلاء الرماة مواضعهم أعني الذين أخلوها منهم، ولعل الجمهور سكتوا عنهم لما وصلوا إليهم ولم يأمروهم بالعودة فوراً إلى مقاعدهم، ولذلك نسب الفشل إليهم كلهم، ويظهر أن الفشل هو الضعف قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ فليس معناه: أن تجبنا، بل قد حصل الجبن، وإنما هموا بالضعف الذي هو ترك القتال، قال في (لسان العرب): (الفشل: الفزع، والجبن، والضعف، ومنه: حديث جابر: (فينا نزلت: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ وكذلك في (حديث الإستسقاء) وكقول الشاعر: (سوى الحنظل العامي والعلْهز الفَشْل)، أي الضعيف يعني الفشل مدخره وآكله، فصرف الوصف إلى العلهز وهو في الحقيقة لآكله، فظهر من هذا: أن الضعف معنى للفشل مستقل غير مشروط فيه الجبن، فقوله: الفشل: الفزع والجبن والضعف، محمول على أن كل واحد من الثلاثة معنى مستقل، ومثله قول (صاحب الكشاف): (الفشل: الجبن وضعف الرأي، فهو محمول على أنهما معنيان، وفي (سيرة ابن هشام) عن ابن اسحاق: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ أي تخاذلتم)
3. ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ وكان عليكم أن تبقوا مجمعين على رأي قائدكم وطاعته، ولا سيما وهو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي لا ينبغي عنده تنازع، بل الواجب الإنقياد لقضائه، والتسليم الكامل، كما قال تعالى: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:65]
4. ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ بإخلاء الرماة مقاعدهم وموافقة من وافق من الآخرين ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ من قتل الأعداء وقوة المسلمين وهي نعمة كان الواجب شكرها، والثبات على طاعة الله ورسوله، لا المبادرة إلى المعصية.
5. ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ في تلك الحالة التي يجب فيها إيثار طاعة الله لو لم يكن إلا للحذر من العقوبة بتسليط العدو وهو حاضر ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ وهم من ثبت من الرماة لم يفارق مقعده ومن وافقهم في رأيهم من الآخرين، قال الشرفي في (المصابيح): (أي منكم من مال إلى الغنيمة، ومنكم من أراد ثواب الآخرة، بأن لزم الشعب ولم يبرح على طاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو عبد الله بن جبير ومن ثبت معه، قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: أحكام الفريقين مختلفة، فحكم من يريد الدنيا بينه الله في قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود:15 ـ 16] وحكم من يريد الآخرة بينه الله في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء:19]
6. في الآية دلالة على تفسير من أراد الدنيا أنه الذي يختار الغرض الدنيوي على عمل الآخرة عند التعارض بين الغرض الدنيوي وبين طاعة الله ورسوله .
7. قوله تعالى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ يدل على أن المراد بقوله تعالى: ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ هو جمهورهم بالفعل والرضى لا كلهم، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَتَنَازَعْتُمْ﴾ يحمل على: أنهم جعلوا الموضوع محل رأي وتدبير جديد، فتنازعوا بأن أدلى كل طرف برأيه، ولو كان التنازع مجرد المعصية وتقريرها من طرف وإنكارها من طرف آخر لما كان هناك تنازع مذموم، إنما المذموم المعصية وتقريرها أما المنكر لها الآمر بالمعروف، فلا يعد منازعاً مذموماً.
8. ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ ﴿صَرَفَكُمْ﴾ بأن سلبكم ذلك التأييد الذي كان في أول المعركة فانهزمتم عنهم ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ ليختبركم أي يفعل بكم فعلاً كفعل المختبر، وذلك: أنه انكشف عند الهزيمة أهل الإيمان القوي الثابت، وضعاف الإيمان الذي هو عواري بين الصدور والقلوب، والذين في قلوبهم مرض، والمنافقون، حيث ظن بعضهم أن الإسلام قد سقط، وطلب أن يأخذوا لهم الأمان من أبي سفيان.
9. هذا الصرف كان لبعضهم ولعلهم العصاة والراضون والمتنازعون؛ لأنه روي: أن الرماة الذين ثبتوا ولم يفارقوا مقاعدهم ثبتوا حتى قتلوا، وكذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلي عليه السلام، وأبو دجانة الأنصاري، وقليل ثبتوا وقاتلوا قتالاً شديداً، ولعل قتال أمير المؤمنين عليه السلام للجماعات الذي تقدم ذكره من رواية الطبري عن أبي رافع كان في تلك الحال الذي قل فيها المدافع كما يفهم من سياقها، وفي (سيرة ابن هشام): عن أبي سعيد الخدري: (أن عتبة ابن أبي وقاص رمى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يومئذ فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شَجّه في جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لايعلمون، فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائماً) إلخ، وفي (سيرة ابن هشام) أيضاً: قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: (اغسلي عن هذا دمه يابنية فوالله لقد صدقني اليوم) وناولها علي بن أبي طالب سيفه فقال: (وهذا أيضاً فأغسلي عنه دمه فو الله لقد صدقني اليوم) فقال رسول الله : (لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة)، وفيها: وأخرج الحاكم في (المستدرك) بسنده عن ابن عباس بقال: جاء علي رضي الله عنه بسيفه يوم أحد قد انحنى، فقال لفاطمة عليها السلام: (هاكي السيف حميداً فإنها قد شفتني) فقال رسول الله : (لئن كنت أجدت الضرب بسيفك لقد أجاده سهل بن حنيف، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت الأفلح، والحارث ابن الصمة) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه)، وأقره الذهبي في (تلخيصه) وفي (تاريخ اليعقوبي): أن المسلمين إنهزموا ما بقي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا ثلاثة نفر علي والزبير وطلحة)، وفي (سيرة ابن هشام): أن ابن أبي بحيح، قال نادى مناد يوم أحد: (لاسيف إلا ذو الفقار ولافتى إلا علي)، ومن أوضح الواضحات: ثباته يوم أحد؛ لأنه لو فر ما خفي على الأمة لكثرة أعدائه وحساده الذين يكتمون فضائله، فلو وقع ذلك لأذاعوا به وشاع في بلاد الإسلام كلها، ولا شك في هذا عند من عرف انحراف كثير من الأمه وقتال كثير منهم وتوارثهم لبغضه.
10. ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ الخطاب للمؤمنين لا للمنافقين والذين في قلوبهم مرض لقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ يتفضل عليهم بالنعم التي لا يحصونها ومن فضله تبشيرهم بعفوه عنهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/554.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ لقد وعد الله المسلمين النصر في معركة أحد، على لسان رسول الله ، ولكنه لم يكن وعدا مطلقا على كلّ حال، بل كان وعدا مشروطا بالسير على وفق الخطّة الموضوعة التي تنسجم مع الأسباب التي تهيّئ ظروف النصر للمعركة، وكان من بينها وضع الرّماة في الثغرة التي كانت تمثّل نقطة الضعف في دفاعات المسلمين في الجبل، وسارت الخطّة على ما يرام، فقد انتصر المسلمون في بداية المعركة عندما أخذوا بأسباب النصر، ونفّذوا الخطّة الموضوعة من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بدقّة وأمانة وإخلاص.
2. ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾، وكان المسلمون يحسّون الكافرين أي يستأصلونهم بالقتل، فكأنّ القاتل يبطل حسّ المقتول، وكانت العملية بإذن الله وتوجيهه، ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ ولكن المسلمين وقعوا في الفشل وتركوا أسباب النجاح، ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ وتنازعوا في أمرهم، ففرقة كانت ترفض النزول إلى ساحة المعركة من أجل الحصول على الغنائم، وفرقة كانت تصرّ على ذلك، ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ وتغلّب الفريق المصرّ على المعصية الذي يريد الدنيا على الفريق الذي يريد السير على خط الانضباط لأنه يريد الحياة الآخرة، وابتعد المسلمون عن خطّ النصر عندما ابتعدوا عن روحه وإرادته وأجوائه.
3. ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾، وصرفهم الله عن المشركين من خلال الأسباب الاختيارية التي ينصرف فيها المجاهد عن صنع النصر، ليبتلي المسلمين ويختبرهم ويدفعهم إلى مواجهة الموقف بإيمان وصدق واستعداد للاستفادة من هذه التجربة الصعبة في سبيل نصر جديد، على أساس الالتزام بالخطّة الحكيمة، وشعر المسلمون بالخطإ الذي وقعوا فيه، وعاشورا روح الندم، وتعمّقت التجربة في داخلهم، ورجعوا إلى إيمانهم، وعادوا إلى الله يستغفرونه ويطلبون منه القوّة على الانطلاق نحو المستقبل بروح إسلامية عالية، وعلى صنع الموقف على أساس الإرادة.
4. ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ وعفا الله عنهم بفضله، فإنه ذو فضل على المؤمنين وهو يحب المؤمنين لإيمانهم وجهادهم في سبيله، ويعلم نقاط الضعف الكامنة في نفوسهم والطارئة عليهم، كما يعلم أنهم في ساعة الضعف لا يبتعدون عنه، ولكنهم يغفلون عن ذكره بفعل الضغوط الهائلة المسيطرة عليهم، ولذلك لم يعاجلهم بالعقوبة، ولم يهملهم أو يكلهم إلى أنفسهم، بل تعهدهم بفضله بما يثيره في نفوسهم من الرغبة في العودة إليه والتوبة والاندفاع ـ من جديد ـ نحو جولة جديدة من الجهاد في موقع جديد، لأن الهزيمة في موقع معين لا تلغي الإيمان ولا تسقط الإرادة ولا تبتعد بالمؤمن عن الله، لأن الإيمان لا يمثل حالة طارئة، فينطلق هذا الفضل الإلهي الذي يغمر به الله عباده المؤمنين في الحب الإلهي، لهم لأنهم بادلوه حبا في حركة الإيمان والطاعة، فبادلهم حبا في إرادة العفو والمغفرة.
5. هكذا نستوحي من هذه الآية، أن الله سبحانه قد يطلق الوعد لعباده بالنصر في مواقف المعركة، كما يطلق الوعد لهم في أشياء أخرى، كاستجابة الدعاء عند الدعاء، وكالمغفرة عند التوبة.. ولكن لذلك شروطا روحيّة وعملية لا بدّ للإنسان من مراعاتها ودراستها وتنفيذها إذا أراد لهذه الوعود أن تتحقق، لأنّ الله سبحانه يريد لعباده أن يواجهوا الحياة على طريق سننه في الكون ليأخذوا بأسبابها، فإنه لم يخضع الأمور للمعجزة الخارقة للعادة إلّا في حالات التحدي الكبير، فلا يستوحش الإنسان إذا دعا ولم يستجب له، أو تاب ولم يغفر له، أو انطلق في المعركة فلم يحقق لنفسه النصر.. ولا يعتقد أو يتساءل كيف لم يتحقق وعد الله!؟ بل ينبغي له أن يبحث هل أنه راعى في ذلك الشروط الإلهية التي ربط الله بها تحقيق وعده أم لا؟
__________
(1) من وحي القرآن: 6/314.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قاتل المسلمون في المرحلة الأولى من معركة (أحد) بشجاعة خاصّة، ووقفوا وقفة رجل واحد فأحرزوا انتصارا سريعا، وبددوا جيش العدو في أقرب وقت، فدب السرور والفرح في المعسكر الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه كما أسلفنا، إلّا أنّ تجاهل فريق من الرماة لأوامر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم المشددة بالبقاء عند ثغر الجبل والمحافظة عليه سبّب في أن تنقلب الآية، فقد أقدم ذلك الفريق من الرماة الذين كلّفهم النبي القائد صلّى الله عليه وآله وسلّم بحراسة الثغر الموجود في جبل (عينين) بقيادة (عبد الله بن جبير) على ترك موقعهم المهم جدا عندما عرفوا بهزيمة قريش، واشتغال المسلمين بجمع الغنائم، وفسح هذا الأمر المجال لكمين من قريش في أن يهاجموا المسلمين من الخلف فيتحمل الجيش الإسلامي ضربة نكراء، وعند ما عاد المسلمون بعد تحمل خسائر عظيمة إلى المدينة كان يسأل أحدهم رفيقه: ألم يعدنا الله سبحانه بالفتح والنصر، فلما ذا هزمنا في هذه المعركة؟ فكانت الآيات الحاضرة جوابا على هذا السؤال، وتوضيحا للعلل الحقيقية التي سببت تلك الهزيمة.
2. ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ في هذه العبارة يشير القرآن الكريم بل ويصرح بأن الله قد صدق وعده وأنزل النصر على المسلمين في بداية تلك المعركة، فقتلوا العدو، وفرقوا جمعهم ومزقوا شملهم ما داموا كانوا يتبعون تعاليم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويتقيدون بأوامره، وما داموا كانوا يتحلون بالثبات والاستقامة، فلم تلحق بهم الهزيمة إلّا عندما وهنوا وتجاهلوا أوامر القيادة النبوية الدقيقة، وهذا يعنى أن عليهم أن لا يتوهموا بأن الوعد بالتأييد والنصر مطلق لا قيد له ولا شرط، بل كل الوعود الإلهية بالنصر مقيدة باتباع تعاليم الله بحذافيرها، والتمسك بأهدافها، أما متى وعد الله المسلمين بالنصر في هذه المعركة، فهناك احتمالان:
أ. الأوّل: أن يكون المراد هو تلك الوعود العامة التي يعد الله بها المؤمنين دائما حيث يخبرهم بأنّه سبحانه ينصرهم على الكافرين والأعداء.
ب. الآخر: ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد وعد المسلمين بصراحة قبل أن يخوضوا معركة (أحد) بأنهم منتصرون في تلك المعركة، ووعد النبي هو الوعد الإلهي بلا ريب.
3. ثمّ إنه سبحانه يقول بعد بيان هذه الحقيقة حول النصر الإلهي: ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾، ومن هذه العبارة التي هي إشارة إلى ما طرأ على وضع الرماة في جبل (عينين) يستفاد بوضوح بأن الرماة الذين كلفوا بحراسة الثغر قد اختلفوا فيما بينهم في ترك ذلك الثغر ومغادرة ذلك الموقع في الجبل فعصى فريق كبير منهم، (وهذا قد يستفاد من لفظة عصيتم التي تفيد أن الأغلبية والأكثرية من الرماة قد عصت وتجاهلت تأكيدات النبي بالبقاء هناك)، ولهذا يقول القرآن الكريم بأنّكم عصيتم من بعد ما أراكم النصر الساحق الذي كنتم تحبون، أي أنّكم بذلتم غاية الجهد لتحقيق النصر، ولكنكم وهنتم في حفظه، وتلك حقيقة ثابتة أبدا أن الحفاظ على الانتصارات أصعب بكثير من تحقيقها.
4. أجل لقد اختلفتم فيما بينكم وتنازعتم في تلك اللحظات الحساسة البالغة الأهمية ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾، ففي الوقت الذي كان البعض (وهم الأغلب كما قلنا) يفكرون في الغنائم وقد سال لعابهم لها حتّى أنهم تركوا موقعهم الخطير في الجبل، بينما بقيت جماعة أخرى قليلة مثل (عبد الله بن جبير) وبعض الرماة ثابتين في مكانهم يذبون عنه الأعداء ويطلبون الآخرة والثواب الإلهي العظيم، وهنا تغير مجرى الأمور، وانعكست القضية فبدل الله الانتصار إلى الهزيمة ليمتحنكم وينبّهكم، ويربّيكم: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾
5. ثمّ إن سبحانه غفر لكم كلّ ما صدر وبدر عنكم من عصيان وتجاهل لأوامر الرسول وما ترتب على ذلك من التبعات في حين كنتم تستحقون العقاب، وما ذلك إلّا لأن الله لا يضن بنعمة على المؤمنين، ولا يبخل عليهم بموهبة ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾، أجل، إنه تعالى يحب المؤمنين، ولا يتركهم وشأنهم ولا يكلهم إلى أنفسهم إلّا في بعض الأحيان ليتنبهوا، ويثوبوا إلى رشدهم فيزدادوا التصاقا بالشريعة، واهتماما بالمسؤوليات، ويقظة وإحساسا.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/733.
80. التولي والغم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈80⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: 153]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ أصعدوا في أحد فرارا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ فرجعوا، وقالوا: والله لنأتينهم، ثم لنقتلنهم؛ قد جرحوا منا، فقال رسول الله : (مهلا، فإنما أصابكم الذي أصابكم من أجل أنكم عصيتموني)، فبينما هم كذلك إذ أتاهم القوم وقد أيسوا، وقد اخترطوا سيوفهم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ فكان غم الهزيمة، وغمهم حين أتوهم(2).
4. روي أنّه قال: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من الغنيمة، ﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ من القتل والجراحة(2).
5. روي أنّه قال: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ لكيلا تأسوا على ما فاتكم من القتل(3).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٤٨ وفيه بلفظ: صعدوا في الجبل فرارًا، وابن المنذر: ١٠٧٤.
(2) ابن جرير: ٦/١٥٧.
(3) ابن أبي حاتم: ٣/٧٩٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: انحازوا إلى النبي ، فجعلوا يصعدون في الجبل، والرسول يدعوهم في أخراهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ إصعادهم لها يبغونها(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ فرة بعد الفرة الأولى حين سمعوا الصوت أن محمدا قد قتل، فرجع الكفار فضربوهم مدبرين، حتى قتلوا منهم سبعين رجلا، ثم انحازوا إلى النبي ، فجعلوا يصعدون في الجبل والرسول يدعوهم في أخراهم(3).
4. روي أنّه قال: أصاب الناس حزن وغم على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا، فلما تولجوا في الشعبـ وهم فل مصابون ـ وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب، فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضا، فأصابهم حزن من ذلك أنساهم حزنهم في أصحابهم، فذلك قوله سبحانه: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾(4).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٤٧.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٩٠.
(3) ابن جرير: ٦/١٥١.
(4) ابن جرير: ٦/١٥٦.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ فروا منهزمين في شعب شديد، لا يلوون على أحد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ الرسول يدعوهم في أخراهم: (إلي عباد الله، إلي عباد الله)، ولا يلوي عليه أحد(1).
3. روي أنّه قال: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ غما ـ والله ـ شديد على غم شديد، ما منهم إنسان إلا وقد همته نفسه(2).
4. روي أنّه قال: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾، يعني: بغم المشركين يوم بدر(3).
5. روي أنّه قال: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من العدو، ﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ ما أصابهم في أنفسهم(4).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٩٠.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٩١.
(3) تفسير الثعلبي: ٣/١٨٦.
(4) ابن أبي حاتم: ٣/٧٩٢.
العوفي:
روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أنّه قال: لما كان يوم أحد، وانهزم الناس؛ صعدوا في الجبل، والرسول يدعوهم في أخراهم، فقال الله: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُم﴾(1).
__________
(1) ابن المنذر: ٢/٤٤٨.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ ذاكم يوم أحد، أصعدوا في الوادي فرارا، ونبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعوهم في أخراهم: (إلي عباد الله، إلي عباد الله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ الغم الأول الجراح والقتل، والغم الآخر حين سمعوا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل، وما كانوا يرجون من الغنيمة، وذلك قوله: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٤٦.
(2) ابن جرير: ٦/١٥١.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ معناه تباعدون في الأرض(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فِي أُخْرَاكُمْ﴾ معناه في أخركم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ فالغمّ الأول: الجرح والقتل.. والغمّ الأخير: حين سمعوا بقتل النّبي ، ويقال ما كانوا يرجون من الغنيمة(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 113.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لما شد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم؛ دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة، فقاموا عليها، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو الناس: (إلي عباد الله، إلي عباد الله)، فذكر الله صعودهم على الجبل، ثم ذكر دعاء نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إياهم، فقال: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من الغنيمة، ﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ من القتل حين تذكرون، فشغلهم أبو سفيان(2).
3. روي أنّه قال: لما برز رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المشركين بأحد؛ أمر الرماة، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين، وقال: (لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم)، وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير، ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام، فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة، أو يعجلني بسيفه إلى النار؟ فقام إليه الإمام علي، فقال: والذي نفسي بيده، لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة، فضربه علي، فقطع رجله، فسقط، فانكشفت عورته، فقال: أنشدك الله والرحم، يا ابن عم، فتركه، فكبر رسول الله ، وقال لعلي أصحابه: ما منعك أن تجهز عليه؟ قال إن ابن عمي ناشدني الله حين انكشفت عورته، فاستحييت منه، ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين، فهزماهم، وحمل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، فهزموا أبا سفيان، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل، فرمته الرماة، فانقمع، فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينهبونه، بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله ، فانطلق عامتهم، فلحقوا بالعسكر؛ فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله، ثم حمل، فقتل الرماة، ثم حمل على أصحاب النبي ، فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا، فشدوا على المسلمين، فهزموهم، وقتلوهم، فدخل [بعض المسلمين] المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة، فقاموا عليها، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو الناس: (إلي، عباد الله، إلي، عباد الله)...، حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه، فأراد أن يرميه، فقال: (أنا رسول الله)، ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيا، وفرح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه، وهمهم أبو سفيان، فقال رسول الله : (ليس لهم أن يعلونا، اللهم، إن تقتل هذه العصابة لا تعبد)، ثم ندب أصحابه، فرموهم بالحجارة، حتى أنزلوهم، فذلك قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ الغم الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والغم الثاني إشراف العدو عليهم(3).
4. روي أنّه قال: انطلق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه، فأراد أن يرميه، فقال: (أنا رسول الله)، ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيا، وفرح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه، وهمهم أبو سفيان، فقال رسول الله : (ليس لهم أن يعلونا، اللهم، إن تقتل هذه العصابة لا تعبد)، ثم ندب أصحابه، فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، فذلك قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ الغم الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والغم الثاني إشراف العدو عليهم(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٤٧.
(2) ابن جرير: ٦/١٥٢.
(3) ابن جرير: ٦/١٢٩.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾، وذلك أنهم كانوا يذكرون فيما بينهم بعد الهزيمة ما فاتهم من الفتح والغنيمة، وما أصابهم بعد ذلك من المشركين، وقتل إخوانهم، فهذا الغم الأول، والغم الآخر إشراف خالد بن الوليد عليهم من الشعب في الخيل، فلما أن عاينوه ذعرهم ذلك، وأنساهم ما كانوا فيه من الغم الأول والحزن(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٣٠٧.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أنبهم الله بالفرار عن نبيهم وهو يدعوهم، لا يعطفون عليه لدعائه إياهم، فقال: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾، أي: كربا بعد كرب، قتل من قتل من إخوانكم، وعلو عدوكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قول من قال قتل نبيكم، فكان ذلك مما تتابع عليكم غما بغم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من ظهوركم على عدوكم بعد أن رأيتموه بأعينكم، ﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ من قتل إخوانكم حين فرجت بذلك الكرب عنكم، ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، وكان الذي فرج به عنهم ما كانوا فيه من الكرب والغم الذي أصابهم؛ أن الله ـ تعالى ذكره ـ رد عنهم كذبة الشيطان بقتل نبيهم، فلما رأوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيا بين أظهرهم هان عليهم ما فاتهم من القوم بعد الظهور عليهم، والمصيبة التي أصابتهم في إخوانهم، حين صرف الله القتل عن نبيهم (2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٤٩.
(2) ابن جرير: ٦/١٥٥.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ على ما فاتكم من الغنيمة التي كنتم ترجون، ولا تحزنوا على ما أصابكم من الهزيمة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٥٩.
ابن سلام:
روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) أنّه قال: كانوا تحدثوا يومئذ أن نبي الله أصيب، وكان الغم الآخر قتل أصحابهم والجراحات التي فيهم، وذكر لنا: أنه قتل يومئذ سبعون رجلا؛ ستة وستون من الأنصار، وأربعة من المهاجرين(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٣٢٧.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: أما ما سأل عنه وقال، وتوهم من المحال، في قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾، وأن ذلك الغم: هو غمهم يوم حنين حين أدال الله المشركين على النبي والمؤمنين والجواب: غلط وأخطأ في ذلك، ولم يكن ـ ولله الحمد ـ كذلك، ولم يدل الله الكافرين على المؤمنين؛ لأن الإدالة هي: معونة وتأييد، ونصر وتسديد، ولن يقول مؤمن بالله: إن الله نصر في ذلك اليوم أعداءه على أوليائه، ولا نصر جيش أبي سفيان، على جيش رسول الرحمن، ؛ ولكن الله أراد بالمؤمنين: المحنة والبلاء، حتى يعلم الله أهل الصبر والاحتساب والتقى؛ ألا تسمع كيف قال الله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد: 31]، فنصرهم في أول الأمر، وأراهم ما يحبون؛ فخالفوا نبيه وعصوه، في تنحيهم عن باب الشعب الذي أوقفهم عليه، وأمرهم أن يرموا من صار من المشركين إليه، فلما رأوا الهزيمة على المشركين قد أقبلت، وتيقنوا أنها بهم قد حلت ـ طمعوا فيما يطمع فيه مثلهم من الغنائم، ورجوا أن يكون شدهم على الكفار مع أصحابهم أصلح، وفي الأمر الذين يراودون أنجح، فزلوا وعصوا الرسول فيما أمرهم به من الثبوت على باب الشعب، وكان ثباتهم عليه على المشركين أصعب، فلما أن تنحوا أمكن للكافرين ما أرادوا، فظفروا من المسلمين ببعض ما أحبوا، ثم لاقوا من بعد ذلك من نصر الله للحق ما كرهوا، فثبت الله من بعد ذلك المؤمنين، وغفر لأهل الخطيئة المذنبين، وأنزل عليهم السكينة، وغشاهم النعاس أمنة منه، كما قال الله سبحانه: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾، قال الله سبحانه لنبيه : ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾، ثم قال سبحانه لنبيه: ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾، ثم أخبر عما أخفوا، وما من المنكر أجنوا، فقال: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾؛ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين أتته قريش ونزلوا بأحد ـ شاور أصحابه، فأشاروا عليه أن يثبت في المدينة، فإن أقاموا أضر بهم المقام حتى ينصرفوا، وإن صاروا إلى المدينة فدخلوا ـ قاتلهم بها الصغير والكبير، والنساء من فوق البيوت؛ فأراد ذلك رسول الله ، ثم أشاروا عليه من بعد بالخروج إليهم، فنهض، فلبس لامته، ثم خرج عليهم، فقالوا: يا رسول الله قد رأينا رأيا، إنا لم نقاتل ببلدنا وبين دورنا أحدا إلا أظهرنا الله عليه، وبلغنا فيه ما نريد، فأقم بنا مكاننا على رأينا الأول، فقال رسول الله : (كان هذا أولا، إنه ليس لنبي إذا لبس لامته أن ينزعها حتى يقاتل عدوه)، فخرج وخرج معه ألف من الناس، فلما فصل من المدينة رجع عنه عبدالله بن أبي سلول، رأس المنافقين، في ثلثمائة من الفاسقين، ومضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى لقي القوم، فكان من أمرهم ما ذكرنا، ومن حالهم ما شرحنا؛ فذلك قولهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شيء ما قتلنا ها هنا﴾ يقولون: لو أطاعنا، أو كان الرأي إلينا؛ لكنا قد ثبتنا في بلدنا حتى يدخلوا علينا فنقاتلهم، أو يرجعوا عنا فنتبعهم، فقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾، أي: الأمر أمر نبيه الذي افترض عليكم طاعته، فليس لأحد منكم سبيل إلى مخالفته، إلا بالكفر والعصيان، للواحد العزيز الرحمن، ثم أعلاهم من بعد تلك السقطة، وأنزل عليهم الأمنه، ورد إليهم النصر، وشد لهم ما ضعفوه من الأمر، وصرف عنهم أعداءهم، لم يدركوا كل ما طلبوا، وطمعوا به فيهم، من القوة والظهور عليهم.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/186.
الناصر:
ذكر الإمام الناصر بن الإمام الهادي (ت 325 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: وسألت: عن قول الله عز وجل: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾، فقلت: ما معنى هذا، وكيف يثيبهم غما بغم؟ والجواب: هذا القول يخرج على أن حروف الصفات يعقب بعضها بعضا؛ لأن الباء تقوم مقام (على)، يريد سبحانه: فأثابكم غما على غم، مثل قوله: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾، فقامت (في) مقام (على)، وذلك جائز في لغة العرب؛ قال الشاعر:
çهم صلبوا العبدي في جذع نخلة... فلا عطست شيبان إلا بأجدعاé
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/187.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ﴾ لغتان: (تصعدون) بفتح التاء، وهو من الصعود أن صعدوا الجبل، (وتصعدون) بالرفع، وهو أن أصعدوا أصحابهم نحو الوادي؛ لأن المنهزم الأوّل إذا التفت فرأى منهزما آخر اشتدّ.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ﴾:
أ. قيل: أصعدوا أصحابهم نحو الوادي؛ لأن المنهزم الأوّل إذا التفت فرأى منهزما آخر اشتدّ.
ب. وقيل: الإصعاد هو الإبعاد في الأرض.
ج. وقيل: تصعدون من صعود الجبل، وتصعدون في الوادي من الجبل.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾:
أ. قيل: أي: لا تلتفتون على أحد، ولا ترجعون، ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾
ب. وقيل: أي: الرسول يدعوكم وينادي وراءكم: إلىّ أنا الرسول.
ج. وقيل: يناديكم من بعدكم: إلىّ أنا رسول الله يا معشر المؤمنين، وكان يصل نداؤه في أخراهم بأولهم بعضهم ببعض، فلم يرجعوا إليه.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾:
أ. قيل: غمّ الأول: الهزيمة والنكبة التي أصابتهم، والغم الآخر: الصوت الذي سمعوا: قتل محمد ـ عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات ـ فذلك غم على غم.
ب. ويحتمل: ﴿غَمًّا﴾ بعصيانهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اغتموا، والغم الآخر: أن كيف يعتذرون إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بتركهم المركز، وعصيانهم إياه والخلاف له.
ج. وقيل: قوله عزّ وجل: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ أي: مرة بعد المرة الأولى.
د. وقيل: ﴿غَمًّا بِغَمٍّ﴾ أي: هزيمة بعد هزيمة: أصابتهم هزيمة بعد هزيمة من قتل إخوانهم، وإصابتهم الجراحات.
هـ. وقيل: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا﴾ بعصيانكم رسول الله ، ﴿بِغَمٍّ﴾ الذي أدخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بترككم المركز والطاعة له، وفي قوله عزّ وجل: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ وهو غم الهزيمة والنكبة، بالغم الذي أدخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في عصيانهم إياه، وإهمالهم المقعد الذي أمرهم بالمقام فيه.
و. وقيل: غما بالغم الذي له تركوا المركز، وهو أن غمهم اغتنام أصحابهم.
ز. وقيل: غم الاعتذار إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالغم الذي جنوه به؛ حيث مالوا إلى الدنيا، وعصوه فيما أمرهم.
ح. وقيل: غما على أثر غم، نحو: القتل، والهزيمة، والإرجاف بقتل رسول الله ، وحقيقته: أن يكون أحد الغمين جزاء، والآخر ابتداء، وفي ذلك تحقيق الزّلة والجزاء؛ وذلك كقوله عزّ وجل: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]
5. قوله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: يعني: من الفتح والغنيمة، ولا ما أصابكم من القتل والهزيمة.
ب. ويحتمل قوله: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من الدنيا، ﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ فيها من أنواع الشدائد؛ بما أدخلتم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الغمّ بعصيانكم إيّاه.
6. ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ على الوعيد.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/509.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾: أي ولا تعطفون على أحد.. ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾، واللي: هو العطف، قال الشاعر:
çكَفَتُّ ثوبي لا ألوي على أحد... إني سليب القنا كالبكر يحتطمé
2. ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾: أي غماً بعد غم، كافأكم بالغم على هزيمتكم وتوليكم عن العدو وإدباركم.
3. معنى قوله: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾: أي لئلا تغتموا على ما فاتكم من الدنيا، ويكون همكم لطلب ثواب الله، ويكون هذا الغم عقوبة لكم على هزيمتكم ومحرضاً لكم على التوبة إلى ربكم، ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾: أي ثم جلى عنكم الغم بالعطف على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأمان من العدو، بعد صبركم ونعاساً، ولكنه حذف الواو، وإنما جعل النعاس لأوليائه يغشاهم ليذهب تعبهم ونصبهم، ويريح بذلك من الحركة جوارحهم.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 264.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ بين الإصعاد والصعود فرق وهو أن الإصعاد في مستوي الأرض والصعود في ارتفاع قيل إنهم صعدوا في الجبل فرراً يوم أحد ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ قيل: كان يقول: (يا عباد الله ارجعوا) ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ فالغم الأول القتل والجراح والغم الثاني الإرجاف بقتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ ولا ما أصابكم من الهزيمة.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/155.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ والفرق بين الإصعاد والصعود أن الإصعاد في مستوى الأرض، والصعود في ارتفاع، وهذا قول الفراء، وأبي العباس، والزجاج، وروي عن ابن عباس أنهم صعدوا في جبل أحد فرارا.
2. ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ قيل إنه كان يقول: (يا عباد الله ارجعوا) ذكر ذلك عن ابن عباس، والسدي، والربيع.
3. في قوله تعالى: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ قولان:
أ. أحدهما: غما على غم.
ب. الثاني: غمّا مع غم.
4. في الغم الأول والثاني تأويلان:
أ. أحدهما: أن الغم الأول القتل والجراح، والغم الثاني الإرجاف بقتل النبي ، وهذا قول قتادة، والربيع.
ب. الثاني: غما يوم أحد بغم يوم بدر، وهو قول الحسن.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/430.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ التقدير اذكروا ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ إِذْ تُصْعِدُونَ﴾، والقراء كلهم على ضم التاء من الإصعاد، وقرأ الحسن بفتح التاء والعين من الصعود، وقيل: الإصعاد في مستوي الأرض، والصعود في ارتفاع يقال أصعدنا من مكة إذا ابتدأنا السفر منها وكذلك أصعدنا من الكوفة إلى خراسان على قول الفراء، والمبرد، والزجاج، ووجه ذلك أن الإصعاد إبعاد في الأرض كالابعاد في الارتفاع، وعلى ذلك تأويل ﴿تُصْعِدُونَ﴾ أي أصعدوا في الوادي يوم أحد عن قتادة، والربيع، وقال ابن عباس والحسن انهم صعدوا في أحد في الجبل فراراً، فيجوز أن يكون ذلك بعد أن أصعدوا في الوادي.
2. ﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ معناه لا تعرجون على أحد، ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ قال ابن عباس والسدي، والربيع: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يدعوهم، فيقول: ارجعوا أي عباد الله ارجعوا أنا رسول الله.
3. في قوله تعالى: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إنه إنما قيل في الغم ثواب، لأن أصله ما يرجع من الجزاء على الفعل طاعة كان أو معصية ثم كثير في جزاء الطاعة كما قال الشاعر:
çواراني طرباً في إثرهم...طرب الواله أو كالمختبلé
فعلى هذا يكون الغم عقوبة لهم على فعلهم، وهزيمتهم.
ب. الثاني: أن يكون وضع الشيء مكان غيره، كما قال: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي ضعه موضع البشارة، كما قال الشاعر:
çأخاف زياداً أن يكون عطاؤه...أداهم سودا أو محدرجة سمراé
أراد بقوله سودا قيودا.
4. في قوله تعالى: ﴿غَمًّا بِغَمٍّ﴾ قولان:
أ. أحدهما: غماً على غم، كما يقال: نزلت ببني فلان وعلى بني فلان، وقال قتادة، والربيع: الغم الأول: القتل والجراح، والثاني: الإرجاف بقتل محمد .
ب. الثاني: غماً بغم أي مع غم كما يقال: ما زلت بزيد حتى فعل أي مع زيد، وقال الحسن: غما يوم أحد بعد غم يعني يوم بدر، أي كله للاستصلاح وان احتلف الحال، وقال الحسين بن علي المغربي: معنى ﴿غَمًّا بِغَمٍّ﴾ يعني غم المشركين بما ظهر من قوة المسلمين على طلبهم على حمراء الأسد، فجعل هذا الغم عوض غم المسلمين بما نيل منهم.
5. ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ معناه ما فاتكم من الغنيمة ﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ من الهزيمة في قول ابن زيد.
6. اللام في قوله: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل أن يكون متعلقاً بقوله: ﴿عَفَا عَنْكُمْ﴾ ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾
ب. ويحتمل أن يتعلق بـ ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من الغنيمة ولا ما أصابكم من الشدة في طاعة الله، لأن ذلك يؤديكم إلى مضاعفة الغم عليكم.
7. ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فيه تجديد تحذير بأنه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/21.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الإصعاد: السير في مستوى الأرض والشعاب ونحوه، والصعود: الارتفاع على الجبال ونحوه، أصعدنا من مكة أي ابتدأنا السفر منها، وأصعدنا من الكوفة إلى خراسان، عن ابن العباس والفراء والزجاج، وقال المبرد: أصعد أبعد في الذهاب، وعن الفراء: الإصعاد: الابتداء في كل سفر، والانحدار: الرجوع عنه، وقال المفضل: صعد وأصعد وصَعَّد بمعنى واحد.
ب. اللَّيُّ: هو الالتفات، عن أبي علي، وأصله من لَوَى يَدَهُ ولوى رأسه إذا أماله، ويقال: لوى عليه إذا عرج وأقام.
ج. الأخرى آخِر كما أن الأولى أول، وقيل: جاء في أخريات الناس أي آخرهم.
د. الثواب الجزاء، وأصله في الحسنات، ثم استعمل في العقوبة لوجهين:
• أحدهما: أن أصله ما يرجع من الجزاء على الفعل طاعة أو معصية ثم كبر في جزاء الطاعة، كقول الشاعر:
çوَأُراني طَرِبًا في إِثرِهِم... طَرَبَ الواِلهِ أَوكالمُختَبَلé
• الثاني: على البدل كوضع الشيء مكان غيره، نحو قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ﴾ أي ضعه موضع البشارة، وقال الشاعر:
çأَخَافُ زيادًا أن يكوِن عطاؤُهُ... أَدَاهِمَ سُودًا أو مُحَدْرَجَةً سُمْرَاé
عنى بالسود القيد، وبالمحدرجة السياط.
2. بَيَّنَ تعالى ما كان منهم يوم أحد فقال سبحانه: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾:
أ. قيل: تصيرون في الوادي يوم أحد عن قتادة والربيع.
ب. وقيل: صعدوا الجبل فرارًا، عن ابن عباس والحسن.
ج. ويحتمل أن بعضهم أصعد في الوادي وبعضهم صعد الجبل إذ يحتمل أنهم صعدوا الجبل بعدما أصعدوا في الوادي.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْوُونَ﴾:
أ. قيل: لا تقومون على من خلفتم في الحرب.
ب. وقيل: لا ترجعون إلى من خلفتم ولا تلتفتون إليهم، عن أبي علي.
ج. وقيل: لا يقف أحد على أحد من شدة الهزيمة.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلَى أَحَدٍ﴾:
أ. قيل: عني به الرسول؛ أي لا يُقْدِمون عليه وهو يدعوهم.
ب. وقيل: من ورائهم في الحرب.
ج. وقيل: أحد على أحد.
5. ﴿وَالرَّسُولُ﴾ يعني محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿يَدْعُوكُمْ﴾ إلى القتال، وروي أنه كان يقول: (أي عباد الله ارجعوا، أي عباد الله ارجعوا) عن ابن عباس والربيع والسدي.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِي أُخْرَاكُمْ﴾:
أ. قيل: معناه مِنْ، يعني: يدعوكم من أخراكم.
ب. وقيل: يدعوكم وهو واقف في أخراكم يعني في آخر الناس وهم تقدموه.
7. ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ أي جازاكم على فراركم وخلافكم أمر نبيكم ﴿غَمًّا بِغَمٍّ﴾:
أ. قيل: معناه غَمًّا على غم، كقولهم: نزلت ببني فلان أي عليهم.
ب. وقيل: غَمًّا مع غم كما يقال: ما زلت بزيد حتى فعل كذا، وحروف الصفات يبدل بعضها ببعض.
ج. وقيل: معناه غَمًّا متصلاً بغم.
8. الغم: الحزن، واختلفوا في الغمين:
أ. فقيل: الأول القتل والجراح، والثاني الإرجاف بقتل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عن قتادة والربيع.
ب. وقيل: غَمًّا يوم أحد بعد غم يوم بدر عن الحسن، وروي عنه أيضًا: غم المؤمنين يوم أحد بغم المشركين يوم بدر، قال الأصم: وليس ذلك بشيء.
ج. وقيل: الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والغم الثاني ما نالهم من القتل والجراح والهزيمة.
د. وقيل: الغم الأول ما ندموا على مخالفتهم أمر نبيهم والثاني قتل أقاربهم عن أبي علي.
هـ. وقيل: جازاكم غَمًّا بغم على معصية الرسول عن الأصم.
و. وقيل: الأول خوف العدو عند الفشل، والثاني ما نالهم عند الهزيمة عن أبي مسلم.
ز. وقيل: الأول إشراف خالد بن الوليد عليهم، والثاني إشراف أبي سفيان، وروي أنه لما وقف أبو سفيان بباب الشِّعب والمؤمنون فيه ساءهم ذلك فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ورموه بالحجارة حتى هربوا.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾:
أ. قيل: ما فاتكم من الغنيمة وما أصابكم من الهزيمة عن أبي زيد.
ب. وقيل: لتكون حسرتكم على مخالفة النبي فقط دون ما فاتكم، وما أصابكم تقديره: ليشغلكم بحربهم عن سوء ما صنعتم عنٍ الحرب، عن الأصم.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾:
أ. قيل: ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ﴾ أي عليم ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي بعملكم يجازي كلّا بما عمل.
ب. وقيل: إنه كان عليمًا بما يكون منكم فلم يبتلكم لاستفادة علم، ولكن ليظهر المعلوم ليكون الجزاء على المفعول، لا على المعلوم، في معنى قول أبي مسلم.
11. تدل الآية الكريمة على:
أ. شدة هزيمة القوم.
ب. أن ذلك كان معصية لذلك وبَّخهم به.
ج. أنه تعالى إنما خلى بينهم جزاء على صنيعهم فلذلك قال: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾
د. أن حزن الإنسان يجب أن يكون لمخالفة أمر ربه، واهتمامه يجب أن يكون بأمر دينه دون ما فاته أو أصابه من الدنيا؛ لأن ذلك يسير في جنب ما يؤتيه الله، إن أطاعه من الثواب، وإن عصاه من العقاب.
هـ. أن الإصعاد فعْلُهم، وكذلك قوله: ﴿تَعْمَلُونَ﴾ لذلك أضافه إليهم وجازاهم عليه، وذلك يبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.
12. قراءات ووجوه:
أ. قراءة العامة ﴿تُصْعِدُونَ﴾ بضم التاء وكسر العين من الإصعاد، وعن السلمي والحسن وقتادة بفتح التاء والعين من الصعود، وهو الارتفاع على الجبال والتلال، وإنما أجمعوا على تصعدون؛ لأن القوم عند انهزامهم أخذوا في بطن الوادي، وعن أبي: إذ تصعدون في الوادي، وعلى القراءة الشاذة روي أن بعضهم انطلق على الجبل ووقف حتى دعاه النبي ، وقيل: كان منهم مصعد وصاعد.
ب. قراءة العامة ﴿تَلْوُونَ﴾ بواوين، وعن الحسن بواو واحدة اتباعًا للخط، والقراء كلهم في ﴿تُصْعِدُونَ﴾ و﴿تَلْوُونَ﴾ بالتاء معجمة خطابًا للمؤمنين، وعن ابن محيصن وشبل بالياء فيهما كناية عن المؤمنين، ثم رجع عن الخطاب فقال: ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ﴾
13. مسائل لغوية ونحوية:
أ. في اتصال قوله: ﴿إِذِ﴾ والعامل فيه قولان:
• أحدهما: عفا عنكم إذ تصعدون.
• الثاني: واذكروا إذ تصعدون عن أبي علي.
ب. في اتصال اللام في قوله: ﴿لِكَيْلَا﴾ قولان:
• أحدهما تقديره: عفا الله عنكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم؛ لأن في عفوه ما يذهب كل غم وحزن.
• الثاني: فأتاكم غمًا بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ولا ما أصابكم من الشدة في سبيل الله؛ لأن ذلك يؤديكم إلى مضاعفة الغم.
ج. ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ في موضع خفض، أي: ولا على ما أصابكم، ولا تحزنوا نصب بـ (كيلا)
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/421.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الفرق بين الإصعاد والصعود أن الإصعاد في مستوى من الأرض، والصعود في ارتفاع، يقال: أصعدنا من مكة إذا ابتدأنا السفر منها، ومنه قول الشاعر:
çهواي مع الركب اليمانين مصعد... جنيب، وجثماني بمكة موثقé
وروي عن الحسن أنه قرأ ﴿تُصْعِدُونَ﴾ بفتح التاء والعين، وقال: إنهم صعدوا في الجبل فرارا، وقال الفراء: الإصعاد الابتداء في كل سفر، والانحدار: الرجوع عنه.
ب. ﴿وَلَا تَلْوُونَ﴾ أي: لا تعرجون على أحد، كما يفعله المنهزم، ولا يذكر هذه إلا في النفي، لا يقال: لويت على كذا، وأصله من لي العنق للالتفات.
2. ثم ذكر تعالى المنهزمين من أصحاب رسول الله يوم أحد، فقال: ﴿إذ تصدون﴾ معناه: ولقد عفا عنكم إذ تذهبون في وادي أحد للانهزام، فرارا من العدو، عن قتادة والربيع، ﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ أي: لا تقيمون على من خلفتم في الحرب، ولا تلتفتون إليهم، ولا يقف أحد منكم على أحد.
3. ﴿وَالرَّسُولُ﴾ يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ أي: يناديكم من ورائكم فيقول: ارجعوا إلي عباد الله! ارجعوا إلي أنا رسول الله! يقال: فلان جاء في آخر الناس، وآخرة الناس، وأخرى الناس: إذا جاء خلفهم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ على أقوال:
أ. أحدها: إن معناه جعل مكان ما ترجونه من الثواب، أن غمكم بالهزيمة وظفر المشركين بكم، بغمكم رسول الله إذ عصيتموه، وضيعتم أمره، فالغم الأول لهم، والثاني للنبي ، واختاره الزجاج.
ب. ثانيها: إن معناه غما على غم، أو غما مع غم، أو غما بعد غم، كما يقال: نزلت بفلان، وعلى فلان، حتى فعل كذا، ويقال: ما نزلت بزيد حتى فعل أي: مع زيد، وأراد به كثرة الغم بالندم على ما فعلوا، وبما أصابهم من الشدائد، وأنهم لا يدرون ما استحقوا به من عقاب الله
ج. وثالثها: إن الغم الأول: القتل والجراح، والثاني: الإرجاف بقتل محمد ، عن قتادة والربيع.
د. رابعها: أثابكم غما يوم أحد بغم ألحق المشركين يوم بدر، عن الحسن، وفي هذا القول نظر، لأن ما لحق المشركين من الغم يوم بدر من جهة المسلمين، إنما توجب المجازاة بالكرامة دون الغم.
هـ. خامسها: إن المراد غم المشركين، بما ظهر من قوة المسلمين على طلبهم، وخروجهم إلى (حمراء الأسد) فجعل هذا الغم عوضا عن غم المسلمين، بما نيل منهم، عن الحسين بن علي المغربي.
5. إنما قيل في الغم ثواب:
أ. لأن أصله ما يرجع إلى المجازاة على الفعل، طاعة كان أو معصية، ثم كثر في جزاء الطاعة، فهو كما قال الشاعر:
çوأراني طربا في إثرهم... طرب الواله، أو كالمختبلé
ب. وقيل: إنه مما وضع مكان غيره، كقوله تعالى ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي: ضعه موضع البشارة، فهو كما قال الشاعر:
çأخاف زيادا أن يكون عطاؤه... أداهم سودا، أو مدحرجة سمراé
6. ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾:
أ. قيل: معناه: فعل بكم هذا الغم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة، ولا تتركوا أمر النبي ، ولئلا تحزنوا على ما أصابكم من الشدائد في سبيل الله، وليكن غمكم بأن خالفتم النبي فقط، وتقديره: ليشغلكم حزنكم على سوء ما صنعتم، عن الحزن على غيره.
ب. وقيل: معناه ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم، فإن عفو الله تعالى يذهب كل حزن.
7. ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فيه ترغيب في الطاعة، وترهيب عن المعصية.
8. قراءات ووجوه:
أ. قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (تغشى طائفة) بالتاء، والباقون ﴿يَغْشَى﴾ بالياء.. قال أبو علي: حجة من قرأ يغشى بالياء ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً﴾ والنعاس هو الغاشي، ولأن يغشى أقرب إلى النعاس فإسناد الفعل إليه أولى، ويقال: غشيني النعاس، وغلب علي النعاس، ولا يقال غشيتني الأمنة، وحجة من قرأ بالتاء أن النعاس، وإن كان بدلا من الأمنة، فليس المبدل منه في طريق ما يسقط من الكلام، يدلك على ذلك قولهم: الذي مررت به زيد أبو عبد الله، وقال:
çوكأنه لهق السراة، كأنه... ما حاجبيه مغير بسوادé
فجعل الخبر على الذي أبدل منه.
ب. قرأ أهل البصرة ﴿كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ بالرفع، والباقون: بالنصب.. حجة من نصب ﴿كُلِّهِ﴾: أن كله بمنزلة أجمعين في أنه الإحاطة والعموم، فالوجه أن لا يلي العوامل، كما لا يليها أجمعون، وحجة أبي عمرو في رفعه ﴿كُلِّهِ﴾ وابتداؤه به أنه لان كان في أكثر الأمر بمنزلة أجمعين لعمومها، فقد ابتدئ بها كما ابتدئ بسائر الأسماء نحو قوله ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ فابتدأ به في الآية.
9. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾: العامل في ﴿إِذِ﴾ قوله ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾، واللام في قوله ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا﴾ يتعلق به أيضا، وقيل: يتعلق بقوله ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾
ب. ﴿لا تحزنوا﴾: منصوب بكي.
ج. ﴿أَمَنَةً﴾: مفعول ﴿أَنْزَلَ﴾، و﴿نُعَاسًا﴾: بدل منها.
د. ﴿طَائِفَةٌ﴾ الأولى: مفعول يغشى، و﴿طَائِفَةٌ﴾ الثانية: مرفوعة بالابتداء وخبرها ﴿يَظُنُّونَ﴾
هـ. ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾: في موضع رفع بالصفة، ويجوز أن يكون ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ خبرا.
و. الواو في ﴿طَائِفَةٌ﴾: واو الحال على تقدير: يغشى النعاس طائفة في حال ما أهمت طائفة منهم أنفسهم، فالجملة في موضع الحال، ويجوز النصب على أن يجعل الواو واو العطف، كما تقول: ضربت زيدا، وعمرا أكرمته، فيكون منصوبا علي إضمار فعل الذي قد ظهر تفسيره.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/860.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ قال المفسرون: (إذ) متعلّقة بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ وأكثر القرّاء على ضمّ التاء، وكسر العين، من قوله تعالى: ﴿تُصْعِدُونَ﴾ وهو من الإصعاد، وروى أبان عن ثعلب، عن عاصم فتحهما، وهي قراءة الحسن، ومجاهد، وهو من الصّعود، قال الفرّاء: الإصعاد في ابتداء الأسفار، والمخارج، تقول: أصعدنا من بغداد إلى خراسان، فإذا صعدت على سلّم أو درجة، قلت: صعدت، ولا تقول: أصعدت، وقال الزجّاج: كلّ من ابتدأ مسيرا من مكان، فقد أصعد، فأما الصّعود، فهو من أسفل إلى فوق، قال ومن فتح التاء والعين، أراد الصّعود في الجبل، وللمفسرين في معنى الآية قولان:
أ. أحدهما: أنه صعودهم في الجبل، قاله ابن عباس ومجاهد.
ب. الثاني: أنه الإبعاد في الهزيمة، قاله قتادة، وابن قتيبة.
2. ﴿تَلْوُونَ﴾ بمعنى: تعرّجون، وقوله تعالى: ﴿عَلَى أَحَدٍ﴾ عامّ، وقد روي عن ابن عباس أنه أريد به النبيّ ، قال: والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يناديهم من خلفهم: (إليّ عباد الله، أنا رسول الله)، وقرأت عائشة وأبو مجلز وأبو الجوزاء وحميد (على أحد) بضم الألف والحاء، يعنون الجبل.
3. ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ أي: جازاكم، قال الفرّاء: الإثابة هاهنا بمعنى عقاب، ولكنه كما قال الشاعر:
çأخاف زيادا أن يكون عطاؤه...أداهم سودا أو محدرجة سمراé
المحدرجة: السّياط، والسّود فيما يقال: القيود.
4. في الباء في قوله تعالى: ﴿غَمًّا بِغَمٍّ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنّها بمعنى (مع)
ب. الثاني: بمعنى (بعد)
ج. الثالث: بمعنى (على)، فعلى هذه الثلاثة الأقوال يتعلّق الغمّان بالصّحابة.
د. الرابع: أن الباء بمعنى الجزاء، فتقديره: غمّكم كما غممتم غيركم، فيكون أحد الغمّين للصحابة، وهو أحد غمومهم التي ذكرناها عن المفسرين، ويكون الغمّ الذي جوزوا لأجله لغيرهم، وفي المراد بغيرهم قولان:
• أحدهما: أنهم المشركون غمّوهم يوم بدر، قاله الحسن.
• الثاني: أنه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم غمّوه حيث خالفوه، فجوزوا على ذلك بأن غمّوا بما أصابهم، قاله الزجّاج.
5. للمفسرين في المراد بهذين الغمّين خمسة أقوال:
أ. أحدها: أن الغمّ الأول ما أصابهم من الهزيمة والقتل، والثاني: إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين عليهم، قاله ابن عباس ومقاتل.
ب. الثاني: أن الأول قرارهم الأول، والثاني، قرارهم حين سمعوا أن محمدا قد قتل، قاله مجاهد.
ج. الثالث: أن الأول ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من القتل والجراح الثاني: حين سمعوا أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، قاله قتادة.
د. الرابع: أنّ الأول ما فاتهم من الغنيمة، والفتح الثاني: إشراف أبي سفيان عليهم، قاله السّدّيّ.
هـ. الخامس: أن الأوّل إشراف خالد بن الوليد عليهم الثاني: إشراف أبي سفيان عليهم، ذكره الثّعلبيّ.
6. في (لا) في قوله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها باقية على أصلها، ومعناها النّفي، فعلى هذا في معنى الكلام قولان:
• أحدهما: فأثابكم غمّا أنساكم الحزن على ما فاتكم وما أصابكم، وقد روي أنهم لما سمعوا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، نسوا ما أصابهم وما فاتهم.
• الثاني: أنه متّصل بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ فمعنى الكلام: عفا عنكم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم، لأنّ عفوه يذهب كلّ غمّ.
ب. الثاني: أنها صلة، ومعنى الكلام: لكي تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم عقوبة لكم في خلافكم، ومثلها قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ أي: ليعلم، هذا قول المفضّل، قال ابن عباس: والذي فاتهم: الغنيمة، والذي أصابهم: القتل والهزيمة.
__________
(1) زاد المسير: 1/336.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه متعلق بما قبله، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه:
• أحدها: كأنه قال وعفا عنكم إذ تصعدون، لأن عفوه عنهم لا بد وأن يتعلق بأمر اقترفوه، وذلك الأمر هو ما بينه بقوله: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ والمراد به ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين لا يلوون على أحد.
• ثانيها: التقدير: ثم صرفكم عنهم إذ تصعدون.
• ثالثها: التقدير: ليبتليكم إذ تصعدون.
ب. الثاني: أنه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله، والتقدير: أذكر إذ تصعدون.
﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ قال الزمخشري: قرأ الحسن إذ تصعدون في الجبل، وقرأ أبي إذ تصعدون في الواد وقرأ أبو حياة إذ تصعدون بفتح التاء وتشديد العين، من تصعد في السلم، والإصعاد: الذهاب في الأرض والإبعاد فيه، يقال صعد في الجبل، وأصعد في الأرض، ويقال أصعدنا من مكة إلى المدينة، قال أبو معاذ النحوي: كل شيء له أسفل وأعلى مثل الوادي والنهر والأزقة، فإنك تقول: صعد فلان يصعد في الوادي إذا أخذ من أسفله إلى أعلاه، وأما ما ارتفع كالسلم فإنه يقال صعدت.
2. ﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾: أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب، وأصله أن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته، فإذا مضى ولم يعرج قيل لم يلوه، ثم استعمل اللي في ترك التعريج على الشيء وترك الالتفات إلى الشيء، يقال: فلان لا يلوي على شيء، أي لا يعطف عليه ولا يبالي به.
3. ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ﴾ كان يقول: (إلي عباد الله أنا رسول الله من كرّ فله الجنة) فيحتمل:
أ. أن يكون المراد أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده، ولا يتفرقوا.
ب. ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يدعوهم إلى المحاربة مع العدو.
4. ﴿فِي أُخْرَاكُمْ﴾ أي آخركم، يقال: جئت في آخر الناس وأخراهم، كما يقال: في أولهم وأولاهم، ويقال: جاء فلان في أخريات الناس، أي آخرهم، والمعنى أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يدعوهم وهو واقف في آخرهم، لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه.
5. ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير، ويجوز أيضاً استعماله في الشر، لأنه مأخوذ من قولهم: ثاب إليه عقله، أي رجع إليه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: 125] والمرأة تسمى ثيباً لأن الواطئ عائد إليها، وأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيراً أو شرًّا، إلا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير، فإن حملنا لفظ الثواب هاهنا على أصل اللغة استقام الكلام، وإن حملناه على مقتضى العرف كان ذلك وارداً على سبيل التهكم، كما يقال: تحيتك الضرب، وعتابك السيف، أي جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: 34]
6. الباء في قوله: ﴿غَمًّا بِغَمٍّ﴾ يحتمل أن تكون بمعنى المعارضة، كما يقال: هذا بهذا أي هذا عوض عن ذاك، ويحتمل أن تكون بمعنى (مع) والتقدير: أثابهم غماً مع غم، أما على التقدير الأول ففيه وجوه:
أ. الأول: وهو قول الزجاج أنكم لما أذقتم الرسول غماً بسبب أن عصيتم أمره، فالله تعالى أذاقكم هذا الغم، وهو الغم الذي حصل لهم بسبب الانهزام وقتل الأحباب، والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم.
ب. الثاني: قال الحسن: يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين، والمقصود منه أن لا يبقى في قلبكم التفات إلى الدنيا، فلا تفرحوا بإقبالها ولا تحزنوا بإدبارها، وهو المعنى بقوله: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ في واقعة أحد ﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [الحديد: 23] في واقعة بدر، طعن القاضي في هذا الوجه وقال: إن غمهم يوم أحد إنما كان من جهة استيلاء الكفار، وذلك كفر ومعصية، فكيف يضيفه الله إلى نفسه؟ ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في تسليط الكفار على المسلمين نوع مصلحة، وهو أن لا يفرحوا بإقبال الدنيا ولا يحزنوا بإدبارها، فلا يبقى في قلوبهم اشتغال بغير الله.
ج. الثالث: يجوز أن يكون الضمير في قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ يعود للرسول، والمعنى أن الصحابة لما رأوا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شج وجهه وكسرت رباعيته وقتل عمه، اغتموا لأجله، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لما رأى أنهم عصوا ربهم لطلب الغنيمة ثم بقوا محرومين من الغنيمة، وقتل أقاربهم اغتم لأجلهم، فكان المراد من قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ هو هذا، أما على التقدير الثاني وهو أن تكون الباء في قوله: ﴿غَمًّا بِغَمٍّ﴾ بمعنى (مع) أي غما مع غم، أو غما على غم، فهذا جائز لأن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض، تقول: ما زلت به حتى فعل، وما زلت معه حتى فعل، وتقول: نزلت ببني فلان، وعلى بني فلان.
7. ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ قال (2): وعندنا أن الله تعالى ما أراد بقوله: ﴿غَمًّا بِغَمٍّ﴾ اثنين، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها، أي إن الله عاقبكم بغموم كثيرة، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم، ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم، ومثل إقدامكم على المعصية، فكأنه تعالى قال: أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زاجرا لكم عن الاقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى.. والغموم هناك كانت كثيرة:
أ. فأحدها: غمهم بما نالهم من العدو في الأنفس والأموال.
ب. ثانيها: غمهم بما لحق سائر المؤمنين من ذلك.
ج. ثالثها: غمهم بما وصل إلى الرسول من الشجة وكسر الرباعية.
د. رابعها: ما أرجف به من قتل الرسول .
هـ. خامسها: بما وقع منهم من المعصية وما يخافون من عقابها.
و. سادسها: غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم، وذلك لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الانهزام، وذلك من أشق الأشياء، لأن الإنسان بعد صيرورته منهزما يصير ضعيف القلب جباناً، فإذا أمر بالمعاودة، فإن فعل خاف القتل، وإن لم يفعل خاف الكفر أو عقاب الآخرة، وهذا الغم لا شك أنه أعظم الغموم والأحزان.
8. كل واحد من المفسرين فسر هذه الآية بواحد من هذه الوجوه ونحن نعدها:
أ. الأول: أن الغم الأول ما أصابهم عند الفشل والتنازع، والغم الثاني ما حصل عند الهزيمة.
ب. الثاني: أن الغم الأول ما حصل بسبب فوت الغنائم، والغم الثاني ما حصل بسبب أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعاً عظيماً.
ج. الثالث: أن الغم الأول ما كان عند توجه أبي سفيان وخالد بن الوليد عليهم بالقتل والغم الثاني هو أن المشركين لما رجعوا خاف الباقون من المسلمين من أنهم لو رجعوا لقتلوا الكل فصار هذا الغم بحيث أذهلهم عن الغم الأول.
د. الرابع: أن الغم الأول ما وصل إليهم بسبب أنفسهم وأموالهم، والغم الثاني ما وصل إليهم بسبب الإرجاف بقتل النبي .
9. معنى أن الله أثابهم غماً بغم عند أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ أنه خلق الغم فيهم، وأما المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ فهذا لا يليق بأصولهم، فذكروا في علة هذه الإضافة وجوها:
أ. الأول: قال الكعبي: إن المنافقين لما أرجفوا أن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل ولم يبين الله تعالى كذب ذلك القائل، صار كأنه تعالى هو الذي فعل ذلك الغم، وهذا كالرجل الذي يبلغه الخبر الذي يغمه ويكون معه من يعلم أن ذلك الخبر كذب، فإذا لم يكشفه له سريعا وتركه يتفكر فيه ثم أعلمه فإنه يقول له: لقد غممتني وأطلت حزني وهو لم يفعل شيئاً من ذلك، بل سكت وكف عن إعلامه، فكذا هاهنا.
ب. الثاني: أن الغم وإن كان من فعل البعد فسببه فعل الله تعالى، لأن الله طبع العباد طبعا يغتمون بالمصائب التي تنالهم وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون.
ج. الثالث: أنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى الغم في قلب بعض المكلفين لرعاية بعض المصالح.
10. في قوله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا﴾ وجهان:
أ. الأول: أنها متصلة بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ [آل عمران: 152] كأنه قال: ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا، لأن في عفوه تعالى ما يزيل كل غم وحزن.
ب. الثاني: أن اللام متصلة بقوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ ثم على هذا القول ذكروا وجوها:
• الأول: قال الزجاج: المعنى أثابكم غم الهزيمة من غمكم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بسبب مخالفته، ليكون غمكم بأن خالفتموه فقط، لا بأن فاتتكم الغنيمة وأصابتكم الهزيمة، وذلك لأن الغم الحاصل بسبب الإقدام على المعصية ينسي الغم الحاصل بسبب مصائب الدنيا.
• الثاني: قال الحسن: جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلتموهم مغمومين يوم بدر، لأجل أن يسهل أمر الدنيا في أعينكم فلا تحزنوا بفواتها ولا تفرحوا بإقبالها.
11. هذان الوجهان مفرعان على قولنا الباء في قوله: ﴿غَمًّا بِغَمٍّ﴾ للمجازاة، أما إذا قلنا إنها بمعنى (مع) فالمعنى أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا أمر الرسول لوقعنا في غم فوات الغنيمة، فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في هذه الغموم العظيمة التي كل واحد منها أعظم من ذلك الغم أضعافا مضاعفة، والعاقل إذا تعارض عنده الضرران، وجب أن يخص أعظمهما بالدفع، فصارت إثابة الغم على الغم مانعاً لكم من أن تحزنوا بسبب فوات الغنيمة، وزاجراً لكم عن ذلك، ثم كما زجرهم عن تلك المعصية بهذا الزجر الحاصل في الدنيا، زجرهم عنها بسبب الزواجر الموجودة في الغنيمة فقال: ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي هو عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم، قادر على مجازاتها، إن خيراً فخير وإن شرا فشر، وذلك من أعظم الزواجر للعبد عن الاقدام على المعصية.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/390.
(2) الكلام هنا للقفال
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. (إذ) متعلق بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾، وقراءة العامة ﴿تُصْعِدُونَ﴾ بضم التاء وكسر العين، وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة بفتح التاء والعين، يعني تصعدون الجبل، وقرأ ابن محيصن وشبل (إذ يصعدون ولا يلوون) بالياء فيهما، وقرأ الحسن (تلون) بواو واحدة، وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم ﴿وَلَا تَلْوُونَ﴾ بضم التاء، وهي لغة شاذة ذكرها النحاس.
2. ﴿تُصْعِدُونَ﴾ قال أبو حاتم: أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره، فالإصعاد: السير في مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب، والصعود: الارتفاع على الجبال والسطوح والسلاليم والدرج، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي، فيصح المعنى على قراءة ﴿تُصْعِدُونَ﴾، قال قتادة والربيع: أصعدوا يوم أحد في الوادي، وقراءة أبي إذ تصعدون في الوادي)، قال ابن عباس: صعدوا في أحد فرارا، فكلتا القراءتين صواب، كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد، والله أعلم، قال القتبي والمبرد: أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه، فكأن الإصعاد إبعاد في الأرض كإبعاد الارتفاع، قال الشاعر:
çألا أيهذا السائلي أين أصعدت...فإن لها من بطن يثرب موعداé
وقال الفراء: الإصعاد الابتداء في السفر، والانحدار الرجوع منه، يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر، وانحدرنا إذا رجعنا، وأنشد أبو عبيدة:
çقد كنت تبكين على الإصعاد...فاليوم سرحت وصاح الحاديé
وقال المفضل: صعد وأصعد وصعد بمعنى واحد.
3. معنى ﴿تَلْوُونَ﴾ تعرجون وتقيمون، أي لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا، فإن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته، ﴿عَلَى أَحَدٍ﴾ يريد محمدا ، قاله الكلبي.
4. ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ أي في آخركم، يقال: جاء فلان في آخر الناس وأخرة الناس وأخرى الناس وأخريات الناس، وفي البخاري ﴿أُخْرَاكُمْ﴾ تأنيث آخركم.. عن البراء بن عازب قال: جعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على الرجالة يوم أحد عبد الله ابن جبير وأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، ولم يبق مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم غير اثني عشر رجلا، قال ابن عباس وغيره: كان دعاء النبي : أي (عباد الله ارجعوا)، وكان دعاءه تغييرا للمنكر، ومحال أن يرى صلّى الله عليه وآله وسلّم المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه.. هذا على أن يكون الانهزام معصية وليس كذلك، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
5. ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ الغم في اللغة: التغطية، غممت الشيء غطيته، ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين، ومنه غم الهلال إذا لم ير، وغمني الأمر يغمني، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: الغم الأول القتل والجراح، والغم الثاني الإرجاف بقتل النبي ، إذ صاح به الشيطان، وقيل: الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والثاني ما أصابهم من القتل والهزيمة، وقيل: الغم الأول الهزيمة، والثاني إشراف أبي وسفيان وخالد عليهم في الجبل، فلما نظر إليهم المسلمون غمهم ذلك، وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم، فعند ذلك قال النبي : (اللهم لا يعلن علينا)
6. الباء في ﴿بِغَمٍّ﴾ على هذا بمعنى على، وقيل: هي على بابها، والمعنى أنهم غموا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمخالفتهم إياه، فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم، وقال الحسن: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا﴾ يوم أحد ﴿بِغَمٍّ﴾ يوم بدر للمشركين، وسمي الغم ثوابا كما سمي جزاء الذنب ذنبا، وقيل: وقفهم الله على ذنبهم فشغلوا بذلك عما أصابهم.
7. ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ اللام متعلقة بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ وقيل: هي متعلقة بقوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ أي كان هذا الغم بعد الغم لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة، ولا ما أصابكم من الهزيمة، والأول أحسن.
8. ﴿غَمًّا﴾ في قوله: ﴿مَا أَصَابَكُمْ﴾ في موضع خفض، وقيل: ﴿لَا﴾ صلة، أي لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم على مخالفتكم رسول الله ، وهو مثل قوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف] أي أن تسجد، وقوله ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ [الحديد] أي ليعلم، وهذا قول المفضل، وقيل: أراد بقوله ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ أي توالت عليكم الغموم، لكيلا تشتغلوا بعد هذا بالغنائم،﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فيه معنى التحذير والوعيد.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/240.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ متعلق بقوله: ﴿صَرَفَكُمْ﴾ أو بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ أو بقوله: ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ وقرأه الجمهور: بضمّ التاء وكسر العين، وقرأ أبو رجاء العطاردي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة: بفتح التاء والعين، وقرأ ابن محيصن وقنبل: (يصعدون) بالتحتية، قال أبو حاتم: أصعدت: إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت: إذا ارتقيت في جبل، فالإصعاد: السير في مستوى الأرض وبطون الأودية، والصعود: الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدرج، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي، فيصح المعنى على القراءتين، وقال القتبي: أصعد: إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه، ومنه قول الشاعر:
çألا أيّهذا السّائلي أين أصعدت...فإنّ لها من بطن يثرب موعداé
وقال الفراء: الإصعاد: الابتداء في السفر، والانحدار: الرجوع منه، يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة، وإلى خراسان، وأشباه ذلك: إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر، وانحدرنا: إذا رجعنا، وقال المفضل: صعد وأصعد بمعنى واحد.
2. معنى: ﴿تَلْوُونَ﴾: تعرجون وتقيمون، أي: لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا، فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته ﴿عَلَى أَحَدٍ﴾ أي: على أحد ممن معكم؛ وقيل: على رسول الله ، وقرأ الحسن: (تلون) بواو واحدة، وقرأ عاصم في رواية عنه: بضم التاء، وهي لغة.
3. ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ أي: في الطائفة المتأخرة منكم، يقال: جاء فلان في آخر الناس، وآخرة الناس، وأخرى الناس، وأخريات الناس، وكان دعاء النبي : (أي عباد الله ارجعوا)
4. ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ عطف على صرفكم، أي: فجازاكم الله غما حين صرفكم عنه بسبب غمّ أذقتموه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعصيانكم، أو غما موصولا بغمّ بسبب ذلك الإرجاف والجرح والقتل وظفر المشركين، والغمّ في الأصل: التغطية، غميت الشيء: غطيته، ويوم غمّ، وليلة غمة: إذا كانا مظلمين، ومنه: غمّ الهلال؛ وقيل: الغمّ الأول: الهزيمة، والثاني: إشراف أبي سفيان وخالد بن الوليد عليهم في الجبل.
5. ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا﴾ اللام متعلقة بقوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ أي: هذا الغمّ بعد الغمّ، لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة، ولا ما أصابكم من الهزيمة، تمرينا لكم على المصائب، وتدريبا لاحتمال الشدائد، وقال المفضل: معنى ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا﴾ لكي تحزنوا، ولا زائدة كقوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ أي: أن تسجد، وقوله: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ أي: ليعلم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/447.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ اذكر إذ تصعدون، أو عصيتم إذ تصعدون، أو تنازعتم إذ تصعدون، أو فشلتم إذ تصعدون، أو لقد عفا عنكم إذ تصعدون، أو ذو فضل على المؤمنين إذ تصعدون، إن خصصنا المؤمنين بالمنهزمين.
2. الإصعاد: الإبعاد في الأرض والذهاب فيها هاربين، كقولك: أعرقَ بمعنى دخل العراق، أو إذ تصعدون الجبل حين ضايقكم العدوُّ، ولا مانع من خطابين بلا عطف؛ لأنَّ الخطاب في (تُصْعِدُونَ) شامل له أيضًا، كقولك: اذكر يا زيد وقت جئتَ أنتَ وعمرو فأكرمتكما، ولا مخالفة للظاهر، وذلك كقوله تعالى: ﴿يَآ أَيـُّهَا النَّبِيءُ اِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ﴾ [سورة الطلاق: 1]، أي: طلَّقت أنت أو أصحابك.
3. ﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَىآ أَحَدٍ﴾ لا تقيمون لأحد من أصحابكم ليلتحق بكم، أو لتردُّوا عنه، و(لوى) في هذا المعنى لا يستعمل إِلَّا في النفي، ﴿وَالرَّسُولُ﴾ قبل أن يعرفه كعب بن مالك، ونادى: هذا رسول الله! وقال له: (اسكت)، وقد مرَّ، ﴿يَدْعُوكُم﴾ لتجتمعوا عنده ولا تفرَّقوا ولتجاهدوا ﴿فِي أُخْرَاكُمْ﴾ من ورائكم: (إليَّ عباد الله! إليَّ عباد الله! من يكرُّ فله الجنَّة، مَن صَبَرَ واحتسب فله الجنَّة)، أي: من آخركم، أو في جماعتكم الأخرى، أي: الآخرة.
4. ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ جازاكم، والثواب في اللُّغة: الجزاء ولو بشرٍّ، ولو خصَّ في العرف بخير حتَّى قيل: إنَّه هنا تهكُّم، ﴿غَمًّا﴾ بالهزيمة والجراح والقتل وفوت الغنيمة، والإرجاف بموت رسول الله ، وهو غمٌّ كثير متكرِّر، ﴿بِغَمٍّ﴾ بسبب غمِّكم رسول الله ، وقيل: وقف عليهم بباب الشِّعب أبو سفيان، فخافوا أَن يقتلهم خوفا أنساهم قتل من قتل، قيل بمخالفة المركز والتفرُّق عنه، أو غمًّا مع غمٍّ، أي: متكرِّرا كثيرا لَا غمَّين فقط.
5. ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من الغنيمة والغلبة، ﴿وَلَا مَآ أَصَابَكُمْ﴾ ولا على ما أصابكم من القتل في أقاربكم وأصحابكم، والهزم، والمعنى: لتمهِّدوا أنفسكم بعد على الصبر في الشدائد، من فوت نفعٍ أو لخوف ضرٍّ، وعلى أَنَّ الدنيا دُوَل، كما فرحتم ببدر وحزنتم بأحد، ولا دليل على زيادة (لا) في الموضعين هكذا: (لتحزنوا على ما فاتكم، وعلى ما أصابكم)، ولا دليل على أَنَّ ضمير (أَثَابَ) لرسول الله ، أي: اقتدى بكم في الإغمام بما نزل عليكم، كما اغتممتم بما نزل عليه، ولم يعاتبكم على مخالفة المركز تسلية لكم كي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا على ما أصابكم، وذلك أنَّهم لَمَّا رأوه مشجوجا مكسور الرباعيَة مقتول العمِّ، اِغتمُّوا لأجله، ورآهم عصوا بالمخالفة وحُرموا من الغنيمة وقُتلت أقاربُهم وأصحابُهم وهُزموا، اِغتمَّ.
6. ﴿وَاللهُ خَبِيرُم بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من نيَّة وقصد وقول وعمل الجوارح، والجزاء على ذلك، قال ابن عمر: فرَّ عثمان يوم أحد، وعفا الله عنه وعن من فرَّ معه، ولم يحضر بدرا لأمره صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يقيم مع زوجه لمرضها، وهي بنته ، وقال: (لك أجر من شهد وسهمه)، ولم يحضر بيعة الرضوان لوقوعها بعدما أرسله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى مكَّة، وقد ضرب بيمناه بدلا عن بيعة عثمان.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/32.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم ذكرهم تعالى بحالهم وقت الفرار بقوله: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ متعلق بـ (صرفكم) أو بقوله (ليبتليكم)، أو بمقدر، والإصعاد الإبعاد في الأرض، أي تبعدون في الفرار، وقرئ: تصعدون، من الثلاثيّ، أي في الجبل.
2. ﴿وَلَا تَلْوُونَ﴾ أي لا تعطفون بالوقوف ﴿عَلَى أَحَدٍ﴾ أي من قريب ولا بعيد، من الدهش والروعة ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ أي ساقتكم وجماعتكم الأخرى، إلى ترك الفرار من الأعداء وإلى العود والكرة عليهم، وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير وثوقا بوعد الله ومراقبة له.
3. ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ أي جازاكم بهذا الهرب والفرار ﴿غَمًّا بِغَمٍّ﴾ أي غما متصلا بغم، يعني غم الهزيمة والكسرة، وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمدا قتل، وقيل الباء بمعنى مع، وقيل بمعنى على، وهما قريبان من الأول، وقيل الباء للمقابلة والعوض، أي أذاقكم غما بمقابلة غم أذقتموه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو عصيانكم أمره، قاله الزجاج، وقال الحسن: يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين، وقيل: المعنى غما بعد غم أي غما مضاعفا.
4. ثم أشار إلى سر ذلك بقوله: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ أي لتتمرنوا بالصبر على الشدائد، والثبات فيها، وتتعودوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة، وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم، فلا تحزنوا على ما فاتكم من الحظوظ والمنافع، وقوله: ﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ من الغموم والمضار، قال ابن القيّم في (زاد المعاد): وقيل جازاكم غما بما غممتم به رسوله بفراركم عنه، وأسلمتموه إلى عدوه، فالغم الذي حصل لكم جزاء على الغم الذي أوقعتموه بنبيه، والقول الأول أظهر لوجوه:
أ. أحدها: أن قوله: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم، وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر، وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح، فنسوا بذلك السلب، وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر.
ب. الثاني: أنه مطابق للواقع، فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة، ثم أعقبه غم الهزيمة، ثم غم الجراح الذي أصابهم، ثم غم القتل ثم غم سماعهم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم، وليس المراد غمين اثنين خاصة، بل غما متتابعا لتمام الابتلاء والامتحان.
ج. الثالث: أن قوله (بغم) من تمام الثواب، لا أنه سبب جزاء الثواب، والمعنى أثابكم غما متصلا بغم، جزاء على ما وقع منكم من الهرب، وإسلامكم نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، وترك استجابتكم له وهو يدعوكم، ومخالفتكم له في لزوم مركزكم، وتنازعكم في الأمر وفشلكم، وكل واحد من هذه الأمور يوجب غمّا يخصه، فترادفت عليهم الغموم، كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها، ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمرا آخر، ومن لطفه بهم، ورأفته ورحمته، أن هذه الأمور التي صدرت منهم كان من أمور الطباع، وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة، فقيض لهم بلطفه أسبابا أخرجها من القوة إلى الفعل، فيترتب عليها آثارها المكروهة، فعلموا حينئذ أن التوبة منها، والاحتراز من أمثالها، ودفعها بأضدادها، أمر متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به، فكانوا أشد حذرا بعدها ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها، وربما صحت الأجسام بالعلل.
5. لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير، ويجوز أيضا استعماله في الشر، لأنه مأخوذ من قولهم: ثاب إليه عقله، أي رجع إليه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: 125]، والمرأة تسمى (ثيّبا) لأن الواطئ عائد إليها، وأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله، سواء كان خيرا أو شرّا، إلا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير، فإن حملنا لفظ الثواب هاهنا على أصل اللغة استقام الكلام، وإن حملنا على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم، كما يقال: تحيته الضرب وعتابه السيف، أي جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب على حد: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ﴾ [آل عمران: 21] ـ قاله الرازيّ ـ.
6. ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا﴾ قال المفضل: (لا) زائدة، والمعنى للتتأسفوا على ما فاتكم وعلى ما أصابكم عقوبة لكم، كقوله: ﴿أَلَّا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: 12]، و: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ﴾ [الحديد: 29]، أي أن تسجد وليعلم، وعندي أنه بعيد، لا سيما مع تكرار (لا) في المعطوف، واستقامة المعنى الجيد على اعتبارها، فالوجه ما سلف.
7. ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ خيرا وشرا، قادر على مجازاتكم، وفيه أعظم زاجر عن الإقدام على المعصية.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/432.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ أي صرفكم عنهم في ذلك الوقت الذي أصعدتم فيه أي ذهبتم وأبعدتم في الأرض منهزمين ـ وهو غير الصعود الذي هو الذهاب في المرتفعات كالجبال ـ لا تلوون أي لا تعطفون على أحد بنجدة ولا مدافعة ولا تلتفتون إلى من ورائكم لشدة الدهشة التي عرتكم والذعر الذي فاجأكم.
2. ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ أي تفعلون ذلك والرسول من ورائكم يدعوكم إليه فيمن تأخر معه منكم فكانوا ساقة الجيش ـ روي انه كان يقول في دعوته: (إلي عباد الله إلي عباد الله، أنا رسول الله من يكر فله الجنة)، وانتم لا تسمعون ولا تنظرون وكان يجب ان يكون لكم أسوة حسنة في الرسول فتقتدوا به في صبره وثباته ولكن أكثركم لم يفعل.
3. ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ أي فجازاكم الله غما بسبب الغم الذي أصاب الرسول من فشلكم وهزيمتكم أو غما متصلا بغم، فنال العدو منكم ونلتم من أنفسكم إذ صرتم من الدهشة يضرب بعضكم بعضا وفاتتكم الغنيمة التي طمعتم فيها، قال محمد عبده: (الغم هو الألم الذي يفاجئ الإنسان عند نزول المعصية، وأما الحزن فهو الألم الذي يكون بعد ذلك ويستمر زمنا)، والمتبادر أن الغم ألم أو ضيق في الصدر يكون في الأمر الذي يسوءك وإن لم تتبين حقيقته أو سببه أو لا تدري كيف يكون المخرج منه فإن المادة تدل على معنى الخفاء يقولون: غم الشيء إذا أخفاه، وغم عليهم الهلال لم يظهر ولم ير، ورجل أغم الوجه: كثير شعره، ومنه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾ [يونس: 17] وفي الأساس (وإنه لفي غمة من أمره: إذا لم يهتد للخروج منه)
4. ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ أي لأجل ان لا تحزنوا بعد هذا التأديب والتمرين على ما فاتكم من غنيمة ومنفعة ﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ من قرح ومصيبة، فإن التربية إنما تكون بالعمل والتمرن الذي به يكمل الإيمان وترسخ الأخلاق قال في الكشاف: ويجوز أن يكون الضمير في ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ للرسول أي فآساكم في الاغتمام وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ولا على ما أصابكم من غلبة العدو.
5. ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ لا يخفى عليه شيء من دقائقه وأسبابه ولا من نيتكم فيه وعاقبته فيكم، ومن بلاغة هذه الجملة في هذه الموضع أن كل واحد من المخاطبين يتذكر عند سماعها أو تلاوتها أن الله تعالى مطلع على عمله عالم بنيته وخواطره فيحاسب نفسه، فإن كان مقصرا تاب من ذنبه وإن كان مشمرا ازداد نشاطا خوف الوقوع في التقصير وأن يراه الله حيث لا يرضى، قال محمد عبده: يقول فلا تعتذروا عن أنفسكم ولا تخادعوها فإن الخبير بأعمالكم المحيط بنفوسكم لا يخفى عليه من أمركم خافية، وإنما المعول على علمه وخبره لا على أعذاركم وتأويلكم لأنفسكم.
__________
(1) تفسير المنار: 4/186.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ أي صرفكم عنهم حين أصعدتم أو ذهبتم منهزمين، لا تلتفتون من شدة الدهشة التي عرتكم، والذّعر الذي فجأكم، وبينا أنتم في هذه الحال إذا بالرسول يدعوكم من ورائكم وينادى، (هلمّ إلىّ عباد الله، إلىّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكر فله الجنة)، وأنتم لا تسمعون ولا تنظرون، وقد كان لكم أسوة بالرسول، فتقتدون به في الصبر والثبات.
2. ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ قال في الأساس: إنه لفي غمّة من أمره: إذا لم يهتد للخروج منه، ومنه قوله تعالى: ﴿لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾ والغم الأول ما حصل للصحابة بالهزيمة والقتل، والغم الثاني للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بمخالفة أمره، أي إنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب عصيانكم أمره، أذاقكم الله غم الانهزام وقتل الأحباب، والخلاصة ـ إنه أذاقكم هذا عوض هذا، وقد يكون المعنى ـ جازاكم غما متصلا بغم من الإرجاف بقتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد الجرح والقتل وظفر المشركين بكم حتى صرتم من شدة الدهش يضرب بعضكم بعضا، وقد فاتتكم الغنيمة التي طمعتم فيها.
3. ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ أي لأجل أن تمرنوا على تجرّع الغموم، وتتعودوا احتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على ما يفوت من المنافع والمغانم، ﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ أي ولا تحزنوا على ما أصابكم من المضارّ، إذ التربية إنما تكون بالعمل والمران الذي يكمل به الإيمان وتثبت الفضائل.
4. ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فهو عالم بجميع أعمالكم ومقاصدكم، والدواعي التي حفزتكم عليها، وقادر على مجازاتكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وفي هذا ترغيب في الطاعة، وزجر عن الإقدام على المعصية.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/103.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يستحضر الله تعالى صورة الهزيمة حية متحركة: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ كي يعمق وقع المشهد في حسهم؛ ويثير الخجل والحياء من الفعل، ومقدماته التي نشأ عنها، من الضعف والتنازع والعصيان.. والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في ألفاظ قلائل.. فهم مصعدون في الجبل هربا، في اضطراب ورعب ودهش، لا يلتفت أحد منهم إلى أحد! ولا يجيب أحد منهم داعي أحد! والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعوهم؛ ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح: إن محمدا قد قتل، فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم.. إنه مشهد كامل في ألفاظ قلائل.
2. كانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بفرارهم، غما يملأ نفوسهم على ما كان منهم، وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه ـ وهو ثابت دونهم، وهم عنه فارون ـ ذلك كيلا يحفلوا شيئا فاتهم ولا أذى أصابهم، فهذه التجربة التي مرت بهم، وهذا الألم الذي أصاب نبيهم ـ وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم ـ وذلك الندم الذي ساور نفوسهم، وذلك الغم الذي أصابهم.. كل ذلك سيصغر في نفوسهم كلّ ما يفوتهم من عرض، وكل ما يصيبهم من مشقة: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾
3. والله المطلع على الخفايا، يعلم حقيقة أعمالكم، ودوافع حركاتكم: ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/495.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ تذكير للمسلمين بما كان منهم في هذه المعركة ـ معركة أحد ـ وغمزة عتاب لهم على أن فرّوا صاعدين الجبل، لا يلوون على أحد، أي غير ملتفتين إلى من وراءهم.. وإن وراءهم إخوانا لهم صمدوا للمشركين، واستقبلوا الموت راضين.. بل وراءهم، نبيّهم يواجه العدوّ وحده في بضعة رجال من أصحابه.. فكيف يفرّون؟ ثم إذا كانت منهم فرّة أفلا كانت منهم لفتة إلى النبيّ وقد أحاط العدوّ به؟ ثم ألا كانت منهم كرّة إلى العدوّ، يدفعون يده الضاغطة على رسول الله ومن معه؟ وهل شيء أحبّ إلى المسلم وأعزّ عنده من النبيّ.. ولو كانت نفسه التي بين جنبيه؟ إن ذلك خيانة للنفس ذاتها، وتضييع لها، بسلبها هذا الشرف العظيم، شرف الدفاع عن رسول الله، والموت في موطن الدفاع عنه!
2. في قوله تعالى: ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ مواجهة صريحة للمسلمين الذين فرّوا صاعدين في الجبل، وأنهم أمعنوا في الفرار، وبعدوا عن ميدان المعركة.. حتى لا يكاد صوت الرسول يبلغ مؤخرتهم وهو يهتف بهم: إلىّ عباد الله!
3. ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ الإثابة من الثواب، وهو الجزاء على عمل الإحسان بالإحسان! وفي التعبير بالإثابة عن الغمّ بالغمّ، إثارة لمشاعر الندم عند هؤلاء المسلمين الذين فرّوا، لما فاتهم من الثواب العظيم الذي كان لهم أن يحصلوا عليه في هذا الموطن، لو أنهم صبروا، وثبتوا.. ونعم إنهم أثيبوا.. ولكن لا يكادون يمدون أيديهم إلى هذا الثواب حتى يجدوه غمّا! فأي ثواب هذا؟ إن ذلك هو ما يمكن أن يجازوا عليه إن كان لهم أن يطلبوا مثوبة على ما كان منهم! والغم الذي جوزوا عليه بغم.. هو ما كان في فرارهم الذي رآه النبيّ فاغتمّ له.
4. أما الغم الذي كان جزاء لهم.. فهو ما وقع في نفوسهم من حسرة وألم، حين انكشف لهم موقفهم، وعاينوا الآثار السيئة التي نجمت عن فعلتهم تلك، والتي نفذ منها المشركون إلى المسلمين، وأوقعوا الهزيمة بهم، وهذه الحسرة التي ملأت قلوبهم، وذلك الألم الذي استولى على كيانهم، قد غطّيا على كلّ ما أصيبوا به في هذا الموطن.. فلم يبالوا بعد هذا بالغنائم التي أفلتت من أيديهم، ولم يهتمّوا لما أصيبوا به في أنفسهم، وفي إخوانهم، بعد أن استجابوا الرسول، وأقبلوا إليه، يقاتلون معه، ويتلقون عنه، سهام المشركين، وسيوفهم.
5. لقد كان هذا الغمّ الّذى وجدوه في أنفسهم حاجزا تتحطم عنده كل واردات الهمّ والحزن لما فاتهم، ولما أصابهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾.. وفي هذا رحمة بهم، وفضل من الله عليهم.. بل هو ثواب في مقام العقاب، وجزاء حسن في معرض الحساب والمؤاخذة!
6. هكذا يلقى الله عباده وأولياءه في كل موطن.. يلقاهم بالخير دائما، وبالفضل والإحسان في كل متّجه، حتى ولو كانوا على غير ما يحبّ الله منهم، فإنه إذّاك يعاقبهم، ولكنه عقاب كلّه رحمة، وكلّه خير، إذ يعالج هموما، ويدفع آلاما.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/615.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ متعلّق بقوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ [آل عمران: 152] أي دفعكم عن المشركين حين أنتم مصعدون، والإصعاد: الذهاب في الأرض لأنّ الأرض تسمّى صعيدا، قال جعفر بن علبة: (هواي مع الركب اليمانين مصعد)، والإصعاد أيضا السّير في الوادي، قال قتادة والربيع: أصعدوا يوم أحد في الوادي، والمعنى: تفرّون مصعدين، كأنّه قيل: تذهبون في الأرض أي فرارا، ف إذ) ظرف للزمان الّذي عقب صرف الله إيّاهم وكان من آثاره.
2. ﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ أي في هذه الحالة، واللّيّ مجاز بمعنى الرّحمة والرفق مثل العطف في حقيقته ومجازه، فالمعنى ولا يلوي أحد عن أحد فأوجز بالحذف، والمراد على أحد منكم، يعني: فررتم لا يرحم أحد أحدا ولا يرفق به، وهذا تمثيل للجدّ في الهروب حتّى إنّ الواحد ليدوس الآخر لو تعرّض في طريقه.
3. جملة ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ حال، والأخرى آخر الجيش أي من ورائكم، ودعاء الرسول دعاؤه إيّاهم للثبات والرجوع عن الهزيمة، وهذا هو دعاء الرسول النّاس بقوله: (إليّ عباد الله من يكر فله الجنّة)
4. ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا﴾ إن كان ضمير ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ ضمير اسم الجلالة، وهو الأظهر والموافق لقوله بعده: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ﴾ [آل عمران: 154] فهو عطف على ﴿صَرَفَكُمْ﴾ [آل عمران: 152] أي ترتّب على الصرف إثابتكم، وأصل الإثابة إعطاء الثّواب وهو شيء يكون جزاء على عطاء أو فعل، والغمّ ليس بخير، فيكون أثابكم إمّا استعارة تهكمية كقول عمرو بن كلثوم:
çقريناكم فعجّلنا قراكم...قبيل الصبح مرادة طحوناé
أي جازاكم الله على ذلك الإصعاد المقارن للصرف أن أثابكم غمّا أي قلقا لكم في نفوسكم، والمراد أن عاقبكم بغمّ كقوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: 21] وفي هذا الوجه بعد: لأنّ المقام مقام ملام لا توبيخ، ومقام لا تنديم، وإمّا مشاكلة تقديرية لأنّهم لما خرجوا للحرب خرجوا طالبين الثّواب، فسلكوا مسالك باؤوا معها بعقاب فيكون كقول الفرزدق:
çأخاف زيادا أن يكون عطاؤه...أداهم سودا أو محدرجة سمراé
وقول الآخر: (قلت: اطبخوا لي جبّة قميصا)، ونكتة هذه المشاكلة أن يتوصّل بها إلى الكلام على ما نشأ عن هذا الغمّ من عبرة، ومن توجّه عناية الله تعالى إليهم بعده.
5. الباء في قوله: ﴿بِغَمٍّ﴾ للمصاحبة أي غمّا مع غمّ، وهو جملة الغموم الّتي دخلت عليهم من خيبة الأمل في النّصر بعد ظهور بوارقه، ومن الانهزام، ومن قتل من قتل، وجرح من جرح، ويجوز كون الباء للعوض، أي: جازاكم الله غمّا في نفوسكم عوضا عن الغمّ الّذي نسبتم فيه للرسول وإن كان الضّمير في قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ عائدا إلى الرسول في قوله: ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ﴾، وفيه بعد، فالإثابة مجاز في مقابلة فعل الجميل بمثله أي جازاكم بغمّ، والباء في قوله: ﴿بِغَمٍّ﴾ باء العوض، والغمّ الأوّل غمّ نفس الرسول، والغمّ الثّاني غمّ المسلمين، والمعنى أنّ الرسول اغتمّ وحزن لما أصابكم، كما اغتممتم لما شاع من قتله فكان غمّه لأجلكم جزاء على غمّكم لأجله.
6. ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ تعليل أوّل لـ (أثابكم) أي ألهاكم بذلك الغمّ لئلّا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة، وما أصابكم من القتل والجراح، فهو أنساهم بمصيبة صغيرة مصيبة كبيرة، وقيل: (لا) زائدة والمعنى: لتحزنوا، فيكون زيادة في التوبيخ والتنديم إن كان قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ تهكّما أو المعنى فأثابكم الرسول غمّا لكيلا تحزنوا على ما فاتكم: أي سكت عن تثريبكم، ولم يظهر لكم إلّا الاغتمام لأجلكم، لكيلا يذكّركم بالتثريب حزنا على ما فاتكم، فأعرض عن ذكره جبرا لخواطركم، وقيل: المعنى أصابكم بالغمّ الّذي نشأ عن الهزيمة لتعتادوا نزول المصائب، فيذهب عنكم الهلع والجزع عند النوائب.
7. في الجمع بين ﴿مَا فَاتَكُمْ﴾ و﴿مَا أَصَابَكُمْ﴾ طباق يؤذن بطباق آخر مقدّر، لأنّ ما فات هو النافع وما أصاب هو من الضّار.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/255.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ هذا بيان لبعض ما جرى للمسلمين في أحد، بعد أن نزل الرماة إلى ميدان الغنيمة في غير الوقت المحدود، وهو يصور جيش الحق، وقد اضطرب بسبب ذلك الغلط الذي كان يبدو صغيرا لمن وقعوا فيه، وله نتائج خطيرة، والصورة البيانية التي تستمد من النص الكريم ترينا كيف كان المقاتلون يسيرون على غير مقصد يقصدون إليه، لا إلى النجاة بأنفسهم يسعون، وقد أحيط بهم، ولا إلى العدو يقصدون، وقد أظهر أنه استعلى عليهم مؤقتا وظنوا هم في أنفسهم الظنون، ولا فوضى في جند أكثر من أن يسير على غير مقصد، وجيش الإسلام وهو في هذه الحيرة وهذا التيه كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في آخره يدعو جنده قائلا فيما روى عنه: (إلىّ عباد الله إلىّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكرّ فله الجنة)
2. معنى ﴿تُصْعِدُونَ﴾ تسيرون في بطن الوادي؛ لأن الصعود معناه الارتفاع، والإصعاد معناه السير في بطن الوادي؛ وقال أبو حاتم في هذا: (أصعدت إذا أمضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره)، وقال قتادة: أصعدوا يوم أحد في الوادي.
3. معنى ﴿تَلْوُونَ﴾ تعطفون في سيركم إلى مقصد تقصدونه، ولقد جاء في المفردات للأصفهانى: يقال فلان لا يلوى على أحد إذا أمعن في الهزيمة.
4. المعنى: عفا الله عنكم في الوقت الذي وقعتم فيه في الفوضى والاضطراب، وأصبحتم تسيرون في بطن الوادي لا تقصدون، ولا تبتغون أمرا، ولا تتبعون غاية أيا كانت، بل تضربون في الأرض وتخبطون خبط عشواء.
5. ذكر الله تعالى النتيجة الحتمية لهذا الاضطراب، وهى الغم الشديد، فقال تعالت كلماته: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾:
أ. أثاب معناه أعاد وأعقب ما ارتكبوه كنتيجة غما بغم، فمعنى الثوب عودة الشيء ورجوعه إلى الأمر الذي كان مقدرا له على أنه غايته ونتيجته.
ب. والغم أصل معناه في اللغة التغطية، ومنه غم الهلال إذا غطاه الغمام فلم ير، والغمّ يطلق على الألم الذي يغطى العقل والإحساس والمشاعر، والذى يكون الشخص معه في حال استسلام لا يدرى ما الخلاص منه، فهو من الغمّة، وقد جاء في أساس البلاغة: (وأنه لفي غمة من أمره إذا لم يهتد للخروج منه)
6. الباء في قوله تعالى: ﴿بِغَمٍّ﴾ يحتمل أن تكون للسببية، ويحتمل أن تكون بمعنى (على) أو دالة على المصاحبة:
أ. وعلى الأول يكون المعنى: أعقبكم الله تعالى غما بأن فاتكم النصر، ونزلت بكم الجراح، وقتل من قتل منكم بسبب الغم الذي أنزلتموه على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمخالفة وعصيان أمره.
ب. وعلى الثاني يكون المعنى أعقب الله تعالى فيكم غما بعد غم أو غما مصطحبا بغم، فقد أصابكم غم فوات الغنيمة، وغم فوات النصر، وغم الإرجاف بقتل الرسول ، وغم الاضطراب، وكان ترادف الغموم هذه كنتيجة لمخالفتكم الأولى له غاية ونتيجة مؤكدة إن اعتبرتم واتعظتم، هو: ألا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم ونصر، وما أصابكم من جراح وتقتيل، بل تستحصدون العزائم، وتتقون الخطأ من بعد، ويقول الزمخشري في تعليل ترتب عدم الحزن على ترادف الغموم: (لكيلا تحزنوا: لتتمرنوا على تجرع الغموم، وتضروا باحتمال الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا مصيب من المضار)، وإن ما ذكرنا من ترتب عدم الحزن أظهر في نظرنا، والله سبحانه أعلم بمراده.
7. ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ذيّل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا النص للإشارة إلى أن ما وقع كله كان في علم الله، يعلمه علما دقيقا قد أحصى فيه كل أعمالكم قبل وقوعها، وقدر نتائجها ونهاياتها، وما يعقبه بعد ذلك من عبرة يحملكم على الطاعة المطلقة للقائد الحكيم الذي يهديكم سبيل الرشاد، وأنه لا نصر مع المعصية، ولا هزيمة مع الطاعة واحتساب النية، والله بكل شيء محيط.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1458.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾، الخطاب للذين انهزموا يوم أحد، وهو يذكرهم بخوفهم من المشركين، وفرارهم غير ملتفتين إلى أحد، ولا مستجيبين إلى دعوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حين كان يناديهم، وهو واقف في آخرهم، ويقول: هلم إليّ عباد الله.. أنا رسول الله.. من يكر فله الجنة.. وقد فعل هذا ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح: ان محمدا قد قتل، وتزلزلت قلوب المسلمين.
2. ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾، أمر الرسول الرماة أن لا يبرحوا الجبل بحال، فعصوه وخالفوا أمره، فاغتم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لذلك، فجزاهم الله بدل غم الرسول غما بالهزيمة، فالغم الأول ما حصل للصحابة المنهزمين، والغم الثاني ما حصل للرسول .. وقيل: ان الغمين حصلا للصحابة، وانه قد كثرت عليهم الغموم غما بعد غم، منها قتل إخوانهم، ومنها انتصار المشركين عليهم، ومنها ندمهم على المعصية.
3. ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من المنفعة والغنيمة، ﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ من القرح والهزيمة، والمعنى ان الله أذاقكم مرارة القتل والهزيمة كي تتمرنوا بعدها على تحمل المشاق والشدائد، وتصبروا على طاعة الله ورسوله مهما تكن النتائج، ولا تحزنوا على ما يفوتكم من الغنائم، ولا ما يصيبكم من المضار.
4. سبقت الاشارة إلى ان الرماة تركوا أماكنهم طمعا بانتهاب الغنائم، وانه قد ترتب على ذلك انهزام المسلمين.. فنبههم الله سبحانه بأن عليهم أن يستفيدوا من هذه الهزيمة، ويأخذوا منها درسا نافعا، ولا يخالفوا الرسول بعدها أبدا، ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، المعنى واضح، والقصد الحث على الطاعة، والزجر عن المعصية.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/180.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ الإصعاد هو الذهاب والإبعاد في الأرض بخلاف الصعود فهو الارتقاء إلى مكان عال يقال: أصعد في جانب البر أي ذهب فيه بعيدا، وصعد في السلم أي ارتقى، وقيل: إن الإصعاد ربما استعمل بمعنى الصعود، والظرف متعلق بمقدر أي اذكروا إذ تصعدون، أو بقوله: ﴿صَرَفَكُمْ﴾، أو بقوله: ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾، ـ على ما قيل ـ وقوله: ﴿وَلَا تَلْوُونَ﴾، من اللي بمعنى الالتفات والميل قال في المجمع: ولا يستعمل إلا في النفي لا يقال: لويت على كذا.
2. ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾، الأخرى مقابل الأولى وكون الرسول يدعو وهو في أخراهم يدل على أنهم تفرقوا عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم سواد ممتد على طوائف أولاهم مبتعدون عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخراهم بقرب منه، وهو يدعوهم من غير أن يلتفت إليه لا أولاهم ولا أخراهم فتركوه صلّى الله عليه وآله وسلّم بين جموع المشركين وهم يصعدون فرارا من القتل.
3. قوله تعالى قبيل هذا: ﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ ـ وقد مر تفسيره ـ يدل على أن منهم من لم يتزلزل في عزيمته ولم ينهزم لا في أول الانهزام، ولا بعد شيوع خبر قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما يدل عليه قوله: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ﴾ الآية، ومما يدل عليه قوله: ﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ إن خبر قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما انتشر بينهم بعد انهزامهم وإصعادهم.
4. ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾.. أي جازاكم غما بغم ليصرفكم عن الحزن على كذا، وهذا الغم الذي أثيبوا به كيفما كان هو نعمة منه تعالى بدليل قوله: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾، فإن الله تعالى ذم في كتابه هذا الحزن كما قال: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾، فهذا الغم الذي يصرفهم عن ذاك الحزن المذموم نعمة وموهبة فيكون هو الغم الطارئ عليهم من جهة الندامة على ما وقع منهم والتحسر على ما فاتهم من النصر بسبب الفشل، ويكون حينئذ الغم الثاني في قوله: ﴿بِغَمٍّ﴾، الغم الآتي من قبل الحزن المذكور، والباء للبدلية، والمعنى: جازاكم غما بالندامة والحسرة على فوت النصر بدل غم بالحزن على ما فاتكم وما أصابكم.
5. من الجائز أن يكون قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ مضمنا معنى الإبدال فيكون المعنى: فأبدلكم غم الحزن من غم الندامة والحسرة مثيبا لكم، فينعكس المعنى في الغمين بالنسبة إلى المعنى السابق، وعلى كل من المعنيين يكون قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾، تفريعا على قوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾، ويتصل به ما بعده أعني قوله: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ﴾، أحسن اتصال، والترتيب: أنه عفا عنكم فأثابكم غما بغم ليصونكم عن الحزن الذي لا يرتضيه لكم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا.
6. هاهنا وجه آخر يساعده ظهور السياق في تفريع قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾، على ما يتصل به بمعنى أن يكون الغم هو ما يتضمنه قوله: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾، والمراد بقوله: ﴿بِغَمٍّ﴾ هو ما أدى إليه التنازع والمعصية وهو إشراف المشركين عليهم من ورائهم، والباء للسببية وهذا معنى حسن، وعلى هذا يكون المراد بقوله: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا﴾ الآية: نبين لكم حقيقة الأمر لئلا تحزنوا، كما في قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ الآية.
7. هذا ما يستقيم به نظم الآية واتساق الجمل المتعاقبة، وللمفسرين احتمالات كثيرة في الآية من حيث ما عطف عليه قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾، ومن حيث معنى الغم الأول والثاني ومعنى الباء ومعنى قوله: ﴿لِكَيْلَا﴾، ليست من الاستقامة على شيء ولا جدوى في نقلها والبحث عنها، وعلى ما احتملناه من أحد معنيين يكون المراد مما فات في قوله: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ هو الغلبة والغنيمة، ومما أصاب ما أصاب القوم من القتل والجرح.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/45.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ ﴿إِذِ﴾ منصوب بتقدير: اذكر، أو اذكروا، قال في (الصحاح): (قال الأخفش: أصعد في الأرض، أي مضى وسار، واصعَّد في الوادي وصعَّد تصعيداً، أي انحدر فيه) انتهى، وقال في (المصابيح): أي تذهبون في الوادي يوم أحد)
2. ﴿وَلَا تَلْوُونَ﴾ لا تلتفتون ولا تعطفون ﴿عَلَى أَحَدٍ﴾ بعدكم إمعاناً في الهزيمة ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ واقفاً في أخرى المنهزمين يدعوكم لترجعوا إليه وأنتم لا تلوون عليه على أنه قريب منكم تسمعونه.
3. ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ الله ﴿غَمًّا﴾ جزاء غم، فبسبب غم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بمعصيتكم حين خالف بعض الرماة مقاعدهم وتنازعتم وعصيتم، وكان ذلك سبب غم للقائد شديد من حيث هو معصية لله ومن حيث هو سبب لرفع النصر، فبسبب ذلك أثابكم الله غم صرفكم عن عدوكم وسلبكم القوة التي كانت في أول اليوم، حتى انهزمتم الهزيمة بهذا الشكل المذكور ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ هذه الإثابة ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ لما قد جربتم في هذه المرة ﴿وَلَا﴾ تحزنوا ل ـ ﴿مَا أَصَابَكُمْ﴾ لما قد جربتم في هذه المصيبة، فهي كما قال الله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة:216] فكانت مصلحتهم إذ عصوا في التمحيص والتهذيب والإعداد، لتحمل الشدائد وفهم موقعهم أنه موقع اختبار وابتلاء، ليخلصوا لله ويبتعدوا عن الأنانية ولا يتجرؤوا على عصيان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المستقبل ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من حسن أو ضده، فراقبوه ولا تغفلوا عنه لتعملوا ما فيه صلاح أمركم وتتركوا ما يوجب لكم العقوبة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/559.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه صورة من صور معركة أحد، في نهاياتها التي رافقت أجواء الهزيمة بعد النصر، وأبرزت كثيرا من السلبيات الفكرية والروحية في النماذج المتنوعة المتواجدة في المعركة: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾، فقد انهزم المسلمون وأبعدوا في الأرض هربا من الموقف الصعب الذي فرضته الهزيمة؛ وانطلق الرسول يدعوهم في أخراهم فيقول: ارجعوا إليّ عباد الله، ارجعوا إني أنا رسول الله، من يكرّ فله الجنة
2. ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ أي: غمّا أذقتموه للرسول بعصيانكم له، أو غما مضاعفا، أي غما بعد غمّ، وغما متصلا بغمّ، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة.. مما يوحي بأنهم كانوا ممتدين في هربهم في خط طويل ابتعد أولهم عنه، واقترب آخرون منه؛ فقد كان يريدهم أن يتوقفوا قليلا ليدرس معهم طبيعة الموقف، ويحاول من خلاله تحويل الهزيمة إلى نصر جديد، ولكنهم لا يلوون على أحد، فلا يلتفتون إلى نداء الرسول أو غيره، فقد أخذت الهزيمة الداخلية مأخذها منهم، فهربوا من الموت، وعاشوا الغمّ النفسي الذي أثاره الله في نفوسهم في ما واجهوه من حالة الانسحاق الذاتي والندم المرير على ما قاموا به، وأفاقوا على واقع لم يحسبوا له حسابا، وذلك كردّ فعل على الغم الذي جلبوه للرسول وللمسلمين وللإسلام.
3. وقد أراد الله لهم من خلال ذلك أن يعرّفهم كيف يربطون بين النتائج وأسبابها، فلا يبادرون إلى الاندفاع في موقف إلا بعد التفكير والتأمّل في عواقبه، لأنهم باندفاعهم يملكون الذهنية الساذجة أمام مشاكل الحياة وآلامها وهزائمها، لذا عليهم أن يملكوا الذهنية التي تجلس في كل مجال من هذه المجالات، لتحلّل وتناقش وتستنتج من أجل أن تحوّل نقاط الضعف إلى نقاط قوّة، وتغير السلبيات إلى إيجابيات، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فإن الظاهر منها أن الله أراد لهم أن يعيشوا الحالة النفسية التي تمثل ما يشبه الصدمة في الداخل على أساس ما حدث من أجل أن تكون تجربة ودرسا يبعدهم عن مشاعر الحزن إزاء الخسارة أو المصيبة.
4. إن الخط الإسلامي في أمثال هذه الحالات الصعبة التي يمر بها المسلمون في الواقع السلبي الذي قد تتمخض عنه الحرب بالهزيمة العسكرية، هو عدم السقوط أمام التجربة المرّة بالحزن العاطفي الذي يجتر معه الإنسان الآلام في حالة نفسية مدمّرة، كما لو كانت الهزيمة أو الفشل نهاية المطاف في حياته، فلا يصير إلى غلبة أو نجاح بعدها أبدا، فإن الحزن عاطفة إنسانية نبيلة، ولكن لا بد للإنسان من أن يحركها في الاتجاه الإيجابي الذي يثير في النفس المرارة لتدخل في هذا الجو في وعي التجربة، لاستخلاص العبر منها، من أجل الدخول في تجربة جديدة في مستقبل جديد، وهكذا يتحوّل هذا الغم الذي يمثل ضيقا في الصدر، وألما في الإحساس، إلى انفتاح على كل مفردات القضية السلبية، من أجل أن يتفهموا طبيعتها، وتفاصيلها، على صعيد الخسائر البشرية والمادية والمعنوية، فالله لا يريد للحزن أن يكون طابع المجاهدين العاملين في نتائج الأوضاع المعقّدة في حياتهم، فعليهم أن يراقبوا الله في ذلك من خلال إيمانهم بأنه خبير بما يفعلونه، سواء كان ذلك من خلال باطن أفعالهم أو ظاهرها، لينفتحوا على مواقع الصواب من خلال المحاسبة الدقيقة لكل الماضي المعقد في انتظار المستقبل المنفتح، وهكذا يرتفع الحزن على الخسارة ليحل محله الوعي والأمل بانتظار الربح في المستقبل الآتي.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/318.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يذكر الله تعالى المسلمين بموقفهم في نهاية معركة (أحد) فيقول: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ أي تذكروا إذ فررتم من المعركة، ورحتم تلوذون بالجبل أو تنتشرون في السهل، تاركين رسول الله وحده بين المهاجمين المباغتين من المشركين وهو يدعوكم من ورائكم ويناديكم قائلا: (إليّ عباد الله ـ إليّ عباد الله فإني رسول الله) وأنتم لا تلتفتون إلى الوراء أبدا، ولا تلبون نداء النبي ، وفي ذلك الوقت أخذت الهموم والأحزان تترى عليكم ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾، لما أصابكم من النكسة ولفقدان مجموعة كبيرة من خيار فرسانكم وجنودكم ولما أصاب جماعة منكم من الجراحات والإصابات ولما بلغكم من شائعة قتل النبي .
2. لقد كان كلّ ذلك من نتائج مخالفتكم لأوامر القيادة النبوية، وتجاهلكم لتأكيداتها بالمحافظة على المواقع المناطة لكم، ولقد كان هجوم تلك الغموم عليكم من أجل أن لا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم الحرب، وما أصابكم من الجراحات في ساحة المعركة في سبيل تحقيق الانتصار ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾
3. ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فهو يعرف جيدا من ثبت منكم وأطاع، وكان مجاهدا واقعيا، ومن هرب وعصى، وعلى ذلك فليس لأحد أن يخدع نفسه، فيدعي خلاف ما صدر منه في تلك الحادثة، فإذا كنتم من الفريق الأول بحق وصدق فاشكروه سبحانه، وإن لم تكونوا كذلك فتوبوا إليه واستغفروه من ذنوبكم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/736.
81. طوائف المنهزمين وظن السوء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈81⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 154]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عوف:
روي عن عبد الرحمن بن عوف (ت 32 هـ): ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ ألقي علينا النوم يوم أحد(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/١٦٢.
الزبير:
روي عن الزبير بن العوام (ت 36 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: رفعت رأسي يوم أحد، فجعلت أنظر، وما منهم أحد إلا وهو يميد تحت حجفته من النعاس، وتلا هذه الآية: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ الآية(1).
2. روي أنّه قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين اشتد الخوف علينا، أرسل الله علينا النوم، فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، فوالله، إني لأسمع قول معتب بن قشير ـ ما أسمعه إلا كالحلم ـ: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ إلى قوله: ﴿ما قتلنا ها هنا﴾ لقول معتب بن قشير(2).
__________
(1) الترمذي.
(2) أبو نعيم في الدلائل: ص٤٨٧.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: معتب الذي قال يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، فأنزل الله في ذلك من قوله: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ﴾ إلى آخر القصة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ يعني: التكذيب بالقدر، وهو قولهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾(2).
__________
(1) سيرة ابن هشام: ١/٥٢٢.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/١٨٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ كتب الله على المؤمنين أن يقاتلوا في سبيله، وليس كل من يقاتل يقتل، ولكن يقتل من كتب الله عليه القتل(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٧١.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ ألقى الله عليهم النعاس، فكان أمنة لهم، قال وذكر أن أبا طلحة قال ألقي علي النعاس يومئذ، فكنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ وكانوا يومئذ فرقتين؛ فأما فرقة فغشيها النعاس، وأما الفرقة الأخرى فالمنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم، أرعب قوم، وأخبثه، وأخذله للحق(2).
3. روي أنّه قال: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ ظنونا كاذبة، إنما هم أهل شك وريبة في أمر الله، ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾(3).
4. روي أنّه قال: ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ ظن أهل الشرك(4).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/١٣٧.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٩٣.
(3) ابن جرير: ٦/١٦٥.
(4) ابن جرير: ٦/١٦٦.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: إن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين، فواعدوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بدرا من قابل، فقال لهم: (نعم)، فتخوف المسلمون أن ينزلوا المدينة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رجلا، فقال: (انظر، فإن رأيتهم قعدوا على أثقالهم، وجنبوا خيولهم؛ فإن القوم ذاهبون، وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم، وجنبوا أثقالهم؛ فإن القوم ينزلون المدينة، فاتقوا الله واصبروا)، ووطنهم على القتال، فلما أبصرهم الرسول قعدوا على الأثقال سراعا عجالا نادى بأعلى صوته بذهابهم، فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي الله ، فناموا، وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم، فقال الله يذكر حين أخبرهم النبي ؛ إن كانوا ركبوا الأثقال، فإنهم منطلقون، فناموا: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٦٠.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ ألقى الله تعالى عليهم النعاس، فكان ذلك أمنة لهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ ظن أهل الشرك(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٦٣.
(2) ابن جرير: ٦/١٦٦.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: كان ما أخفوا في أنفسهم أن قالوا: لو كنا على شيء من الأمر ـ أي: من الحق ـ ما قتلنا ها هنا، ولو كنا في بيوتنا ما أصابنا القتل(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٣٢٨.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: إن المنافقين قالوا لعبد الله بن أبي ـ وكان سيد المنافقين في أنفسهم ـ: قتل اليوم بنو الخزرج، فقال: وهل لنا من الأمر شيء، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وقال: لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٦٧ من طريق حجاج، وابن المنذر: ١٠٨٨.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾، يعني: من بعد غم الهزيمة أمنة نعاسا، وذلك أن الله تعالى ألقى على بعضهم النعاس، فذهب غمهم، فذلك قوله تعالى: ﴿يَغْشَى﴾ النعاس: ﴿طَائِفَةٍ مِنْكُمْ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾، يعني: الذين لم يلق عليهم النعاس(1).
3. روي أنّه قال: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ﴾ يعني: النصر: ﴿كُلُّهُ لله﴾، ثم قال سبحانه: ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ يسرون في قلوبهم ما لا يظهرون لك بألسنتهم، والذى أخفوا في أنفسهم أنهم قالوا: لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا(1).
4. روي أنّه قال: قال الله تعالى لنبيه : ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد: ﴿لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ﴾ كما تقولون: لخرج من البيوت ﴿الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ فمن كتب عليه القتل لا يموت أبدا، ومن كتب عليه الموت لا يقتل أبدا(1).
5. روي أنّه قال: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ الله عليم بما في القلوب من الإيمان والنفاق، والذين أخفوا في أنفسهم قولهم: إن محمدا قد قتل، وقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا، يعني: هذا المكان، فهذا الذي قال الله سبحانه لهم: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد: ﴿لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ كما تقولون: ﴿لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾(1).
6. روي أنّه قال: ﴿والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ الله عليم بما في القلوب من الإيمان والنفاق(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٧.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ أنزل الله النعاس أمنة منه على أهل اليقين به، فهم نيام لا يخافون(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ أهل النفاق قد أهمتهم أنفسهم تخوف القتل، وذلك أنهم لا يرجون عاقبة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ وذلك أنهم كانوا لا يرجون عاقبة، فذكر الله تلاومهم وحسرتهم على ما أصابهم(3).
4. روي أنّه قال: ذكر الله تلاومهم ـ يعني: تلاوم المنافقين ـ، وحسرتهم على ما أصابهم، ثم قال لنبيه : ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ لم تحضروا هذا الموضع الذي أظهر الله جل وعز فيه منكم ما أظهر من سرائركم؛ لأخرج الذين كتب عليهم القتل إلى موطن غيره يصرعون فيه(3).
5. روي أنّه قال: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ يبتلي به ما في صدوركم(3).
6. روي أنّه قال: ﴿والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، أي: لا يخفى عليه ما في صدورهم مما استخفوا به منكم(3).
7. روي أنّه قال: كان أول من عرف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد الهزيمة وقول الناس: قتل رسول الله صلى وسلم ـ كما حدثني ابن شهاب الزهري ـ كعب بن مالك أخو بني سلمة، قال عرفت عينيه تزهران تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله ، فأشار إلي رسول الله أن أنصت، فلما عرف المسلمون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نهضوا به، ونهض نحو الشعب، معه الإمام علي، وأبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والحارث بن الصمة، في رهط من المسلمين، قال فبينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل، فقال رسول الله : (اللهم، إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا)، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم عن الجبل، ونهض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد بدن، وظاهر بين درعين، فلما ذهب لينهض، فلم يستطع؛ جلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض حتى استوى عليها، ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل، هبل، أي: ظهر دينك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمر: (قم، فأجبه، فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار)، فلما أجاب عمر أبا سفيان، قال له أبو سفيان: هلم إلي، يا عمر، فقال له رسول الله : (ائته، فانظر ما شأنه؟)، فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله، يا عمر، أقتلنا محمدا؟ فقال عمر: اللهم، لا، وإنه ليسمع كلامك الآن، فقال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر، لقول ابن قميئة لهم: إني قتلت محمدا، ثم نادى أبو سفيان، فقال: إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله، ما رضيت ولا سخطت، وما نهيت ولا أمرت(4).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٦٣.
(2) ابن جرير: ٦/١٦٥.
(3) ابن جرير: ٦/١٧٠.
(4) ابن جرير: ٦/١٥٤.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ هؤلاء المنافقون(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٦٦.
الرسّي:
ذكر الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سألت عن قوله تعالى: ﴿لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾، والكتاب ـ رحمك الله ـ فقد يكون من الله: علم، ويكون إيجابا من الله؛ فـ (كتب) في هذه الآية عليهم إنما هو: علم منهم وفيهم، وليس معنى (كتب) يكون معنى: فرض ووجد فيما ذكر من هذه الآية ومثلها؛ ولكنه خبر عن إحاطة علمه بالأشياء كلها، وقد قال غيرنا بغير ما قلنا به في الآية من جوابك، فأما ما يقول به من ليس يعلم، فليس يسع مؤمنا به جواب ولا تكلم.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/190.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ [آل عمران: 154]، ما معنى ﴿كُتب﴾ [آل عمران: 154]، وما الكتاب؟ والجواب: الكتاب يكون على ثلاثة معاني: وكلها ـ والحمد له ـ بَيَّنٌ، مبين عند من رزقه الله المعرفة بالكتاب والتفسير:
أ. فمنها العلم، وهو ما سألت عنه، وما كان في الكتاب، مثل قول الله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ [الأنبياء: 94] يريد: بكاتبين عالمين، ومثل قوله في آخر سورة الحج: ﴿أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج: 70] يريد سبحانه وجل عن كل شأن شأنه، بقوله في ﴿كِتَابٌ﴾ أي: في علم معلوم، عند الله غير مكتوم.
ب. الثاني: معنى الحكم من الرحمن، وفي ذلك ما يقول في واضح الفرقان: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾... إلى قوله: ﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾ [الأحزاب: 6] فقال: في كتاب، وإنما أراد: في حكم الله، وكذلك قوله: ﴿وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ [الطور: 1 ـ 2] في الحكم مثبتا مفروضا.. ومن ذلك قوله: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45] وقال: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا﴾ يريد: وحكمنا عليهم فيها، فذكر أنه حكم على بني إسرائيل، بما ذكر من النفس بالنفس، ومعنى قوله ﴿فِيهَا﴾ في التوراة التي أنزلها على موسى صلى الله عليه، وما أشبه ذلك في القرآن، مما أراد به الحكم على الإنسان.. والمعنى.
ج. الثالث: فهو إسم الكتاب المنزل نفسه، مثل قوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89] فأراد بذلك: هذا الكتاب الكريم، الذي يخط في الصحف والدفاتر، وتعيه وتطمئن عليه الصدور والضمائر، ومثل ذلك قوله: وما أقسم به في كتابه وتنزيله، حين يقول ﴿وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ وما كان في الكتاب مثل هذا وغيره، مما أراد به تفسير تنزيله ووحيه، فعلى هذا الثلاثة معاني يخرج معنى الكتاب، ولن يوجد معنى رابع بسبب من الأسباب.
2. أما وجه الحق في ذلك، ومعنى قول الله سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِمُ﴾، هو: علم منهم، لا أنه أكرههم، ولا قضى عليهم؛ ولكن علم من يختار الخروج، ولقاء الأعداء، ومن يقتل عند التنازل واللقاء؛ فعلمه وقع على اختيارهم وخروجهم؛ فخروجهم فعلهم، لا فعله، وقتلهم فعل الكفار، لا قضاؤه، فهم على خروجهم وقتالهم واجتهادهم مأجورون، وعند الله مستشهدون.. والفسقة المشركون على قتلهم معاقبون، وعند الله في الآخرة معذبون، فكل نال بفعله من الله ما أوجبه عليه من الثواب والعقاب، والحمد لله رب الأرباب، والمجازي للخلق يوم الحساب.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/186، وتفسير الإمام الهادي: 1/170.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ قيل فيه بوجهين:
أ. قيل: الطائفة التي أتاهم النعاس هم المؤمنون، سمعوا بانصراف العدو عنهم فصدقوا الخبر فناموا؛ لأن الخوف إذا غلب يمنع النوم، وأمّا الطائفة التي قد أهمتهم أنفسهم هم المنافقون، لم يصدّقوا الخبر فلم يذهب عنهم الخوف، فلم ينعسوا؛ وذلك كقوله عزّ وجل: ﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا﴾ [الأحزاب: 20] الآية.
ب. وقيل: كانت الطائفتان جميعا من المؤمنين، لكن إحداهما قد أتاها النعاس؛ لما أمنوا من العدو، والأخرى لا؛ بعصيانهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتركهم أمره منع ذلك النوم عنهم؛ إذ كيف يلقون رسول الله ، وكيف يعتذرون إليه؟ والله أعلم، وعن ابن مسعود قال: النّعاس في الصّلاة من الشّيطان، وفي القتال أمنة من الله)
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾:
أ. قيل: يظنون بالله ألا ينصر محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، ذا في غير المؤمنين.
ب. وقيل: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ نونا كاذبة، إنما هم أهل شرك وريبة في أمر الله، يقولون: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾:
أ. قيل: يقولون بعضهم لبعض: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ يعني بالأمر: النصر والغنيمة.
ب. وقيل: قالوا ذلك للمؤمنين.
4. ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ يعنى النصر والفتح كلّه بيد الله، ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾ والذين يخفون قولهم: لو أقمنا في منازلنا ما قتلنا هاهنا، وقيل: يقولون: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ قالوا: ليس لنا من الأمر من شيء؛ إنما الأمر إلى محمد، ولو كان الأمر لنا ما خرجنا إلى هؤلاء حتى قتلنا هاهنا.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾:
أ. قيل: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ كما يقولون: ﴿لَبَرَزَ﴾ يعني: لخرج من البيوت ﴿الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ ليقتلوا.
ب. وقيل: من كتب عليه القتل يظهر الذي كتب عليه حيث كان.
ج. وقيل: إذا كتب على أحد القتل لأتاه، ولو كان في البيت، وكقوله: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النساء: 78]
د. وقيل: متى كتب الله على قوم القتل فلم يموتوا أبدا!؟ وفي هذا بيان أن الآجال المكتوبة هي التي تنقضي بها الأعمار: إن كان قتلا فقتل، وإن كان موتا فموت، لا على ما قالت المعتزلة: إن القتل تعجيل عن أجله المكتوب له وعليه
6. ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ والابتلاء هو الاستظهار؛ كقوله عزّ وجل: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق: 9] تبدي وتظهر، وذلك يكون بوجهين: يظهر بالجزاء مرة، ومرة بالكتاب، يعلم الخلق من كانت سريرته حسنة بالجزاء، وكذلك إذا كانت سيئة، أو يعلم ذلك بالكتاب.
7. ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ أي: ليظهر الله للخلق ما في صدورهم مما مضى، وليجعله ظاهرا لهم، ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ من الذنوب، وعن ابن عباس قال: الابتلاء والتمحيص هما واحد)، وقوله عزّ وجل: ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ يقول: هو عالم بما في صدورهم من سرائرهم، ولكن يجعلها ظاهرا عندكم.
8. يحتمل الابتلاء ـ هاهنا ـ الأمر بالجهاد؛ ليعلموا المنافق منهم من المؤمن.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/511.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾: أي قل لهم لو كنتم في بيوتكم لما نفعتكم البيوت من الموت، ولبرزتم يا هؤلاء الذين كتب وفرض عليهم القتل والقتال، إلى قبوركم حتى تضجعون فيها، ولا تنفعكم النجاة من القتل، لأنكم لو سلمتم مما كتب عليكم من القتال أو القتل وفرضه الله وحكم به، لما سلمتم من الموت وخرجتم صاغرين إلى القبور.
2. معنى ﴿كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾: أي فرض عليهم القتل لأعداء الله، ولكنه اختصر، وجعله متشابهاً لما أراد من محنة جميع البشر.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 264.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ من الخوف وهم عبدالله بن أبي بن سلول وسبب ذلك أن المشركين يوم أحد توعدوا المؤمنين بالرجوع فكان من أخذته الأمنة من المؤمنين تحت الحجف متأهبين فناموا حين أخذتهم الأمنة وطائفة قد أهمتهم أنفسهم من الخوف وهم عبدالله بن أبي بن سلول وجماعة من المنافقين أخذهم الخوف فلم يناموا لسوء الظن ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ يعني في التكذيب بوعده.
2. ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ أي أخرجنا كرهاً ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا، والثاني أنه ليس لنا من الظفر شيء كما وعدنا على وجه التكذيب بذلك ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ يعني لو قعدتم وتخلّفتم لخرج الذين كتب عليهم القتل ولم ينجهم قعودهم، ويحتمل وجه آخر أنكم لو تخلّفتم لخرج منكم المؤمنون ولم يتخلّفوا بتخلّفكم ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ أي يعاملكم معاملة المبتلي المختبر ويعرف صبركم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/155.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ وسبب ذلك أن المشركين يوم أحد توعدوا المؤمنين بالرجوع، فكان من أخذته الأمنة من المؤمنين متأهبين للقتال، وهم أبو طلحة، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وغيرهم فناموا حتى أخذتهم الأمنة.
2. ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ من الخوف وهم من المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير، ومن معهما أخذهم الخوف فلم يناموا لسوء الظن.
3. ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ يعني في التكذيب بوعده.
4. في قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ قولان:
أ. أحدهما: إنّا أخرجنا كرها ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا، وهذا قول الحسن.
ب. الثاني: أي ليس لنا من الظفر شيء، كما وعدنا، على جهة التكذيب لذلك.
5. في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: يعني لو تخلفتم لخرج منكم المؤمنون ولم يتخلفوا بتخلفكم.
ب. الثاني: لو تخلفتم لخرج منكم الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، ولم ينجهم قعودهم.
6. في قوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر.
ب. الثاني: معناه ليبتلي أولياء الله ما في صدوركم فأضاف الابتلاء إليه تفخيما لشأنه.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/431.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ حمزة، والكسائي: تغشي بالتاء الباقون بالياء، فمن قرأ بالتذكير أراد النعاس، ومن أنث أراد الامنة، ومثله ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾ و﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي﴾ بالتاء، والياء، وقرأ أبو عمرو، وحده ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ﴾ بالرفع، الباقون بالنصب، ووجه الرفع أنه على الابتداء، كما قال: ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ ويكون (لله) خبره، لأنه لما وقع الأمر في الجواب اديت صورته في الاسم ثم جاءت الفائدة في الخبر، ولأنه نقيض بعض، فكما يجوز الرفع في (بعض) يجوز في (كل) نحو إن الأمر بعضه لزيد، والنصب على أنه تأكيد للأمر (وامنة) منصوب، لأنه مفعول به، ونعاساً بدلا منه، والنعاس هو الامنة.
2. هذه الأمنة التي ذكرها الله في هذه الآية نزلت يوم أحد في قول عبد الرحمن بن عوف وأبي طلحة، والزبير بن العوام، وقتادة، والربيع، وكان السبب في ذلك توعد المشركين لهم بالرجوع، فكانوا تحت الجحف متهيئين للقتال، فأنزل الله تعالى الأمنة على المؤمنين، فناموا دون المنافقين الذين أزعجهم الخوف بأن يرجع الكفار عليهم أو يغيروا على المدينة لسوء الظن، فطير عنهم النوم على ما ذكره ابن إسحاق وابن زيد، وقتادة، والربيع.
3. ﴿يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ يعني النعاس يغشى المؤمنين ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ﴾ الفراء على الرفع، والواو واو الحال كأنه قال يغشى النعاس طائفة في حال ما أهمت طائفة منهم أنفسهم، ورفعه بالابتداء، والخبر يظنون، ويصلح أن يكون الخبر ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ والجملة في موضع الحال، ولا يجوز النصب على أن يجعل واو العطف كما تقول ضربت زيداً وعمراً كلمته، والتقدير وأهمت طائفة أهمتهم أنفسهم.
4. في قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال الحسن: أخرجنا كرهاً، ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا، وذلك من قبل عبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير على قول الزبير بن العوام، وابن جريج.
ب. والآخر: أي ليس لنا من الظفر شيء كما عدونا على وجه التكذيب بذلك.
5. ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾ أي من الشك، والنفاق، وتكذيب الوعد بالاستعلاء على أهل الشرك ذكره الجبائي.
6. قوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: ليعاملكم معاملة المبتلي المختبر لكم مظاهرة في العدل عليكم وإخراج مخرج كلام المختبر لهذه لعلة، لأنه تعالى عالم بالأشياء قبل كونها، فلا يبتلي ليستفيد علماً.
ب. الثاني: ليبتلي أولياء الله ما في صدوركم إلا أنه أضيف الابتلاء إلى الله عز وجل تفخيما لشأنه.
7. قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: لو تحلتفتم لخرج منكم الذين كتب عليهم القتل ولم يكن لينجيه قعودكم، عن أبي علي.
ب. الثاني: لو تخلفتم لخرج المؤمنون، ولم يتخلفوا بتخلفكم ذكره البلخي، ولا يوجب ذلك أن يكون المشركون غير قادرين على ترك القتال من حيث علم الله منهم ذلك، وكتبه، لأنه كما علم أنهم لا يختارون ذلك بسوء اختيارهم علم انهم قادرون، ولو وجب ذلك لوجب أن لا يكون تعالى قادرا على ما علم أنه لا يفعله وذلك كفر بالله.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/23.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الأمَنَةُ والأمن سواء، وهما ضدا الخوف، والأمَنَةُ مصدر كالعظمة والغلبة.
ب. النعاس: الوَسَنُ، يقال: نَعَسَ نُعَاسًا وناقة نَعُوس، توصف بالسماحة في الدَّرِّ؛ لأنها إذا درت نعست.
ج. البروز: الخروج، وأصله من برز فهو بارز، والبَراز: المتسع من الأرض، وامرأة بَرْزَة: جليلة تبرز للناس وتجلس لهم.
د. التمحيص: البلاء والاختبار، يقال: محّصت الذهب بالنار إذا خلصته مما يشوبه، والمحص خلوص الشيء.
هـ. البلاء: الاختبار ويكون بالخير والشر، بلوته: اختبرته.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. عن الزبير بن العوام قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين اشتد الخوف أرسل علينا النوم، والله كأني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ﴾
ب. وقيل: كان هذا يوم أحد عن أبي طلحة وعبد الرحمن بن عوف والزبير وقتادة والربيع، وكان السبب فيه توعد المشركين لهم بالرجوع، وكانوا متهيئين للقتال، فأنزل الله تعالى الأمنة على المؤمنين فناموا دون المنافقين الَّذِينَ أزعجهم الخوف بسوء الظن فطيّر عنهم النوم عن قتادة والربيع وابن إسحاق وابن زيد، فنزلت الآية.
ج. وقيل: إن أبا سفيان قال: نمر بالمدينة فنغير عليهم، فقال النبي : انظروا، إن قعدوا على أحمالهم وجنبوا أفراسهم فهم يهربون، وإن قعدوا على الأفراس وجنبوا الأحمال فإن القوم ينزلون المدينة، فاتقوا الله واصبروا) فقعدوا على الأثقال، فنادى رسول الله : (القوم ذاهبون) فأنزل الله تعالى الأمنة على المؤمنين حتى استراحوا وناموا وزاد خوف المنافقين؛ لأنهم لم يصدقوا فيما أخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
3. لما تقدم ذكر ما نالهم عقّبه بذكر ما منّ عليهم من الأمن فقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ﴾ لفظ الإنزال توسع، والمراد به وهب وأعطى أمنة ونعاسًا وحقيقة أنه خلق فيهم النوم ومعناه: وهب الله لكم أيها المؤمنون، ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ ما نالكم يوم أحد من الغم ﴿أمنَةً﴾ يعني أمنًا ﴿نُعَاسًا﴾ أي نومًا؛ لأن النوم يقارن الأمن، كما أن الأرق يقارن الخوف، وهذا أمر معروف معتاد بين الناس.
4. ثم بيّن تعالى أن تلك الأمنة لم تكن عامة، بل كانت لأهل الإخلاص، وبقي لأهل النفاق الخوف والسهر فقال تعالى: ﴿يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ يعني المؤمنين ﴿وَطَائِفَةٌ﴾ استأنف الكلام بذكر المنافقين يعني وطائفة وهم المنافقون عبد الله ابن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾:
أ. قيل: حملتهم على الهم، يقال: أمر مهم فمنه قول العرب: هَمُّكَ ما أهَمَّك، قال أبو مسلم: ومن عادة العرب أن يقولوا لمن يخاف: قد أهمته نفسه.
ب. وقيل: لا همَّ لهم غير أنفسهم وخوف المنية قد طَيَّرَ عنهم الكرى عن أبي علي.
ج. وقيل: كان المؤمن همه النبي والمؤمنون، والمنافق همه نفسه.
د. وقيل: همهم خوف رجوع الكفار إليهم؛ لأنهم كانوا لا يصدقون الرسول فيما أخبرهم به من هرب القوم عن الأصم.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾:
أ. قيل: كان ظنهم أنهم سيغلبون؛ لأن أهل الجاهلية لم يكونوا على ثقة بالدين وكان ظن المنافقين كظنهم.
ب. وقيل: ظنهم يأسهم من نصر الله وشكهم في سابق وعده بنصره رسوله عن أبي مسلم.
ج. وقيل: ظنهم أن محمدًا قد قتل.
د. وقيل: ظنهم أن أمر محمد باطل كظن أهل الجاهلية عن الأصم.
هـ. وقيل: ظنهم ما ذكر بعده.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾:
أ. قيل: هذا التفسير ظنهم، يعني يقول بعضهم لبعض: هل لنا أي أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هَؤُلَاءِ!؟
ب. وقيل: هو استفهام والمراد به الإنكار، يعني ليس مما وعدنا محمد من الظفر عليهم شيء على جهة التكذيب لذلك عن أبي علي.
ج. وقيل: المراد أنا أخرجنا كرهًا ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا عن الحسن، وهذا القائل قيل: عبد الله بن أُبيّ ومعتب بن قشير عن الزبير بن العوام وابن جريج.
8. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهَؤُلَاءِ المنافقين ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ قيل: العواقب لِحِزْبِهِ، والأمر إليه يصرفه كيف يشاء، فربما عجَّل النصر وربما أخره لنوع من المصلحة ولا يكون لوعده خلف.
9. ثم عاد إلى الإخبار عن نفاقهم فقال سبحانه ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾:
أ. أي يضمرون من الكفر ما لا يظهرون.
ب. وقيل: يخفون إليك في خبرك بالظفر على الكفار عن أبي علي.
ج. وقيل: تفسير يخفون ما لا يبدون قوله: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمرِ شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾
10. ﴿يَقُولُونَ﴾ يعني المنافقين بعضهم لبعض ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾:
أ. يعني لو كان الأمر باختيارنا ما خرجنا إلى هَؤُلَاءِ ولا قُتلنا ولكنا أخرجنا كرهًا عن الحسن.
ب. وقيل: لو كان الأمر على ما وُعدنا من النصر والغلبة والظفر لنا لم يقتل من قتل منا، وكان هذا شكًّا منهم في وعد الله عن أبي مسلم.
11. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم في جواب ذلك ﴿لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ يعني لو كنتم في بيوتكم فلم تخرجوا إلى البراري لخرج إلى بَرَاز من الأرض الذين كُتب عليهم القتل ﴿إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ مصارعهم، وفيه قولان:
أ. الأول: لو تخلفتم لخرج منكم الَّذِينَ كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، يعني مصارعهم، والمواضع التي يصرعون فيها قتلاً، ولم يكن ينجيكم قعودكم؛ لأنه إذا علم تعالى أنهم يقتلون فيكون معلومه كما علم عن أبي علي.
ب. الثاني: لو تخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون ولم يتخلفوا بتخلفكم عن أبي القاسم.
ج. وجوز الأصم وأبو مسلم الوجهين، فعلى الأول يعني كتب عليهم أي كتب آجالهم وموتهم في ذلك الوقت وذلك المكان في اللوح المحفوظ، وعلى القول الثاني كتب عليهم القتل أي فرض عليهم الجهاد من المؤمنين فكانوا لا يتخلفون بتخلف المنافقين.
د. وقيل: إنه تعالى أخبر أن ما عَلِمَ كَوْنَهُ يكون كذلك لا محالة.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾:
أ. قيل: ما أمركم به من الجهاد ونصرته ببدر وتخليته في أحد كل ذلك ابتلاء عن أبي علي، وأما معنى الابتلاء فهو أنه يعاملكم معاملة المختبر لكم ليكون الجزاء على المفعول لا على المعلوم؛ مظاهرة في العدل فذكر الاختبار لهذا الوجه.
ب. وقيل: ليبتلي أولياءُ الله ما في صدوركم إلا أنه أضاف الابتلاء إلى نفسه تفخيمًا لشأنهم كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ﴾ أي: أولياء الله.
ج. وقيل: إنما ذكر الابتلاء لأن عنده يتميز المؤمن من المنافق.
د. وقيل: ليظهر للخلق المخلص من المنافق.
13. سؤال وإشكال: لم ذكر الابتلاء وقد سبق ذكره في قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾؟ والجواب:
أ. قيل: إنه لما طال الكلام أعاد ذكره وعطف بالواو على الأول.
ب. وقيل: الابتلاء الأول عند هزيمة المؤمنين، والثاني عند سائر الأحوال الجارية بينهم وبكَتبهِ للقتل عليهم.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾:
أ. قيل: ليطهر قلوبكم.
ب. وقيل: ليمحصكم بالعبادة بما يطهر به ما في قلوبكم.
ج. وقيل: ليكفر عنكم السيئات فيمحصها بذلك عنكم عن أبي علي.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾:
أ. قيل: أي بما يضمر كل أحد في قلبه من إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين وغير ذلك من خير وشر.
ب. وقيل: إنه كان يعلم إسراركم فيما ابتلاكم لا لاستفادة علم، وإنما ابتلاكم ليظهر أسراركم فيقع الجزاء على ما ظهر.
16. تدل الآية الكريمة على:
أ. أنه تعالى خص بالأمنة المؤمنين ليعلم حالهم فيوالي المؤمنين دون المنافقين.
ب. معجزة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث أخبرهم عن ضمائرهم، وذلك مما لا يطلع عليه أحد إلا الله تعالى ومن يطلعه عليه من رسله.
ج. يدل قوله تعالى: ﴿لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ أن المقتول قد يكون معلومًا موته في ذلك الوقت لو لم يقتل فكان يموت لا محالة، خلاف قول البغدادية أنه لو لم يقتل لعاش لا محالة.
د. أن ما كتب الله يكون لا محالة ويكون قضاءً حتمًا.
هـ. أن اللطف في التكليف لا بد أن يقع؛ لأنه بيّن أنه لو لم يقع القتل في الجهاد لكان سيحصل ما يقع منه التمحيص والابتلاء، وذلك يدل على قولنا في اللطف.
و. أن أفعال القلوب يؤخذ بها العبد خلاف قول بعضهم: إنه إن هم بسيئة ولم يفعل فلا إثم عليه.
ز. أن ذلك الظن والقول فِعْلُ العبد حادث من جهتهم؛ لذلك صح ذمهم عليه، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.
17. قراءات ووجوه:
أ. قراءة العامة ﴿أَمَنَةً﴾ بفتح الميم، وعن بعضهم ﴿أَمَنَةً﴾ بسكون الميم، ومعناهما واحد، وقرأ حمزة والكسائي تَغْشَى) بالتاء ردًّا إلى الأمنة والباقون بالياء ردًا إلى النعاس، وهو اجتناب حاتم وخلف، وقال أبو عبيدة: النعاس يلي الفعل، والتذكير أولى به مما تقدم.
ب. قرأ أبو عمرو ﴿الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ برفع اللام والباقون بالنصب، فوجه الرفع على الابتداء وخبره في قوله: ﴿لِلَّهِ﴾ وصار هذا الابتداء وخبره خبرًا لـ ﴿أَنْ﴾، كما يقال: إن عبد الله وجهه حسن فيكون ﴿عَبْدُ اللهِ﴾ مبتدأ، ووجهه) ابتداء ثانيًا، وحَسَن: خبره، وجملته خبر للابتداء الأول، وبه قرأ يعقوب الحضرمي، وأما النصب فعلى البدل، وقيل: على النعت.
ج. قراءة العامة ﴿لَبَرَزَ﴾ بالتخفيف على فعل ماض ﴿الْقَتْلِ﴾ بغير ألف، وقرأ ابن أبي عبلة ﴿لَبَرَزَ﴾ بضم الباء وتشديد الراء على النقل المجهول، وعن قتادة ﴿كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ بالألف.
18. مسائل لغوية ونحوية:
أ. نصب ﴿النُّعَاسَ﴾؛ لأنه بدل من الأمنة؛ لأن الأمنة كانت مراحل النعاس.
ب. نصب ﴿طَائِفَةٌ﴾ لوقوع الفعل عليه، وهو ﴿يَغْشَى﴾، تقديره: يغشى النوم طائفة، فأما ﴿طَائِفَةٌ﴾ فمرفوع بإجماع القراء وهو رفع بالابتداء وخبره ﴿يَظُنُّونَ﴾ وقيل ﴿أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾، ويجوز النصب في العربية على أن يجعل الواو للعطف، وتقدير الرفع كقولهم: رأيت رجلين يقتتلان، رجلاً راكبا ورجل راجل، يعني رأيت رجلاً راكبًا ورجل هذه حاله.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/424.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. النعاس: الوسن، وناقة نعوس توصف بالسماحة في الدر.
2. ذكر الله تعالى ما أنعم به عليهم بعد ذلك حتى تراجعوا وأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله ، فأنزل النعاس عليهم في تلك الحالة، حتى كانوا يسقطون على الأرض، وكان المنافقون لا يستقرون، حتى طارت عقولهم، فقال: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾: لفظ الإنزال توسع ومعناه: ثم وهب الله لكم أيها المؤمنون بعد ما نالكم من يوم أحد من الغم، أمنة يعني أمنا، نعاسا أي: نوما، وهو بدل الاشتمال عن ﴿أَمَنَةً﴾ لأن النوم يشتمل على الأمن، لأن الخائف لا ينام.
3. ثم ذكر سبحانه أن تلك الأمنة لم تكن عامة، بل كانت لأهل الإخلاص، وبقي لأهل النفاق الخوف والسهر، فقال: ﴿يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ يعني المؤمنين ألقى عليهم النوم، وكان السبب في ذلك توعد المشركين لهم بالرجوع إلى القتال، فقعد المسلمون تحت الجحف، متهيئين للحرب، فأنزل الله الأمنة على المؤمنين فناموا دون المنافقين الذين أزعجهم الخوف، بأن يرجع الكفار عليهم، أو يغيروا على المدينة، لسوء الظن، فطير عنهم النوم، عن ابن إسحاق وابن زيد وقتادة والربيع.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾:
أ. أي: وجماعة قد شغلتهم أنفسهم.
ب. وقيل: حملتهم على الهم، ومنه قول العرب: همك ما أهمك، ومعناه: كان همهم خلاص أنفسهم، والعرب تطلق هذا اللفظ على كل خائف وجل، شغله هم نفسه عن غيره.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾:
أ. قيل: أي: يتوهمون أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه، كظنهم في الجاهلية.
ب. وقيل: كظن أهل الجاهلية، وهم الكفار والمكذبون بوعد الله ووعيده، فكان ظن المنافقين كظنهم.
ج. وقيل: ظنهم ما ذكر بعده من قوله ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ فهذا تفسير لظنهم، يعني: يقول بعضهم لبعض: هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب، قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار أي: أنطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء أي: ليس لنا من ذلك شيء.
د. وقيل: إن معناه إنا أخرجنا كرها، ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا، عن الحسن، وكان هذا القائل عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير وأصحابهما، عن الزبير بن العوام وابن جريج.
6. ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، لا خاذل لمن نصره، ولا ناصر لمن خذله، وربما عجل النصر وربما أخره، لضرب من الحكمة، ولا يكون لوعده خلف، والمراد بالأمر في الموضعين: النصر.
7. ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾ أي: يخفون في أنفسهم الشك والنفاق، وما لا يستطيعون إظهاره لك ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ﴾ أي: من الظفر كما وعدنا ﴿شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ أي: ما قتل أصحابنا، شكا منهم فيما وعده الله تعالى نبيه من الاستعلاء على أهل الشرك، وتكذيبا به.
8. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم في جواب ذلك ﴿لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ ومنازلكم ﴿لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ قيل فيه قولان:
أ. أحدهما: إن معناه لو لزمتم منازلكم أيها المنافقون والمرتابون، وتخلفتم عن القتال، لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال، صابرين محتسبين، فيقتلون ويقتلون، والتقدير: ولو تخلفتم عن القتال لما تخلف المؤمنون.
ب. الثاني: إن معناه لو كنتم في منازلكم، لخرج الذين كتب عليهم القتل أي: كتب آجالهم وموتهم وقتلهم، في اللوح المحفوظ، في ذلك الوقت إلى مصارعهم، وذلك أن ما علم الله كونه، فإنه يكون كما علمه لا محالة، وليس في ذلك أن المشركين غير قادرين على ترك القتال، من حيث علم الله ذلك منهم وكتبه، لأنه كما علم أنهم لا يختارون ذلك، علم أنهم قادرون، ولو وجب ذلك، لوجب أن يكون تعالى قادرا على ما علم أنه لا يفعله، والقول بذلك كفر.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾:
أ. قيل: أي: يختبر الله ما في صدوركم بأعمالكم، لأنه قد علمه غيبا، فيعلمه شهادة، لأن المجازاة إنما تقع على ما علم مشاهدة، لا على ما هو معلوم منهم، غير معمول، عن الزجاج.
ب. وقيل: معناه ليعاملكم معاملة المبتلين، مظاهرة في العدل عليكم.
ج. وقيل: إنه عطف على قوله: ﴿ثم صرفهم عنكم ليبتليكم وليبتلي ما في صدوركم﴾ ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ أي: يخلص.
د. وقيل: هذا خطاب للمنافقين أي: يأمركم بالخروج، فلا تخرجون، فيطهر للمسلمين معاداتكم لهم، وتنكشف أسراركم فلا يعدكم المسلمون من جملتهم.
هـ. وقيل: معناه ليبتلي أولياء الله ما في صدوركم كما في قوله: (الذين يحاربون الله ورسوله.. ويؤذون الله ورسوله)
و. وقيل: إنه عطف على قوله ﴿أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ أي: ليظهر عند هذه الأحوال موافقة باطنكم ظاهركم، وليمحص ما في قلوبكم أي: يطهرها من الشك بما يريكم من عجائب صنعه، ويخلص نياتكم، وهذا التمحيص خاص للمؤمنين دون المنافقين.
10. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ معناه: إن الله لا يبتليكم ليعلم ما في صدوركم، فإن الله عليم بذلك، وإنما ابتلاكم ليظهر أسراركم، فيقع الجزاء على ما ظهر.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/863.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً﴾ قال ابن قتيبة: الأمنة: الأمن، يقال: وقعت الأمنة في الأرض، وقال الزجّاج: معنى الآية: أعقبكم بما نالكم من الرّعب أن أمّنكم أمنا تنامون معه، لأن الشّديد الخوف لا يكاد ينام.
2. ﴿نُعَاسًا﴾ منصوب على البدل من (أمنة)، يقال: نعس الرجل ينعس نعاسا، فهو ناعس، وبعضهم يقول: نعسان، قال الفرّاء: قد سمعتها، ولكني لا أشتهيها، قال العلماء: النّعاس: أخفّ النّوم، وفي وجه الامتنان عليهم بالنّعاس قولان:
أ. أحدهما: أنه أمّنهم بعد خوفهم حتى ناموا، فالمنّة بزوال الخوف، لأنّ الخائف لا ينام.
ب. الثاني: قوّاهم بالاستراحة على القتال.
3. ﴿يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: (يغشى) بالياء مع التّفخيم، وهو يعود إلى النّعاس، وقرأ حمزة، والكسائيّ، وخلف (تغشى) بالتاء مع الإمالة، وهو يرجع إلى الأمنة، فأما الطّائفة التي غشيها النّوم، فهم المؤمنون، والطّائفة الذين أهمّتهم أنفسهم: المنافقون، أهمّهم خلاص أنفسهم، فذهب النّوم عنهم، قال أبو طلحة: كان السّيف يسقط من يدي، ثم آخذه، ثم يسقط، وآخذه من النّعاس، وجعلت أنظر، وما منهم أحد يومئذ إلا يميد تحت حجفته من النّعاس، وقال الزّبير: أرسل الله علينا النّوم، فما منّا رجل إلا ذقنه في صدره، فو الله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ فحفظتها منه.
4. في قوله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنهم ظنّوا أنّ الله لا ينصر محمّدا وأصحابه، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنهم كذّبوا بالقدر، رواه الضّحّاك، عن ابن عباس.
ج. الثالث: أنهم ظنّوا أن محمّدا قد قتل، قاله مقاتل.
د. الرابع: ظنّوا أن أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مضمحل، قاله الزجاج.
5. ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، قال ابن عباس: أي: كظنّ الجاهلية، ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه: الجحد، تقديره: ما لنا من الأمر من شيء، قال الحسن: قالوا: لو كان الأمر إلينا ما خرجنا، وإنما أخرجنا كرها، وقال غيره: المراد بالأمر: النّصر والظّفر، قالوا: إنما النصر للمشركين.
6. ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ﴾، أي: النصر والظفر، والقضاء والقدر ﴿لله﴾، والأكثرون قرؤوا ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ بنصب اللام، وقرأ أبو عمرو برفعها، قال أبو عليّ: حجّة من نصب، أن (كلّه) بمنزلة (أجمعين) في الإحاطة والعموم، فلو قال إنّ الأمر أجمع، لم يكن إلا النّصب، و(كلّه) بمنزلة (أجمعين)، ومن رفع، فلأنّه قد ابتدأ به، كما ابتدأ بقوله تعالى: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ﴾
7. في الذي أخفوه في قوله تعالى: ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه قولهم: (لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا)
ب. الثاني: أنه إسرارهم الكفر، والشّكّ في أمر الله.
ج. الثالث: النّدم على حضورهم مع المسلمين بأحد.
8. قال أبو سليمان الدّمشقيّ: والذي قال: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ عبد الله بن أبيّ، والذي قال: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ معتب بن قشير.
9. ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ أي: لو تخلّفتم، لخرج منكم من كتب عليه القتل، ولم ينجه القعود، والمضاجع: المصارع بالقتل، قال الزجّاج: ومعنى ﴿لَبَرَزَ﴾: صاروا إلى براز، وهو المكان المنكشف، ومعنى ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ أي: ليختبره بأعمالكم، لأنه قد علمه غيبا، فيعلمه شهادة.
10. ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ قال قتادة: أراد ليظهرها من الشّكّ والارتياب، بما يريكم من عجائب صنعه من الأمنة، وإظهار سرائر المنافقين، وهذا التّمحيص خاصّ للمؤمنين، وقال غيره: أراد بالتّمحيص: إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله، ولرسوله، وللمؤمنين، فهو خطاب للمنافقين.
11. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي: بما فيها، وقال ابن الأنباريّ: معناه: عليم بحقيقة ما في الصدور من المضمرات، فتأنيث ذات بمعنى الحقيقة، كما تقول العرب: لقيته ذات يوم، فيؤنّثون لأنّ مقصدهم: لقيته مرة في يوم.
__________
(1) زاد المسير: 1/337.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجهان:
أ. الأول: أنه تعالى لما وعد نصر المؤمنين على الكافرين، وهذا النصر لا بد وأن يكون مسبوقا بإزالة الخوف عن المؤمنين، بين في هذه الآية أنه تعالى أزال الخوف عنهم ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى ينجز وعده في نصر المؤمنين.
ب. الثاني: أنه تعالى بين أنه نصر المؤمنين أولا، فلما عصى بعضهم سلط الخوف عليهم، ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلب من كان صادقا في إيمانه مستقرا على دينه بحيث غلب النعاس عليه.
2. الذين كانوا مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد فريقان:
أ. أحدهما: الذين كانوا جازمين بأن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم نبي حق من عند الله وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وكانوا قد سمعوا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن الله تعالى ينصر هذا الدين ويظهره على سائر الأديان، فكانوا قاطعين بأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال، فلا جرم كانوا آمنين، وبلغ ذلك الأمن إلى حيث غشيهم النعاس، فإن النوم لا يجيء مع الخوف، فمجيء النوم يدل على زوال الخوف بالكلية، فقال هاهنا في قصة أحد في هؤلاء ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ وقال في قصة بدر ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ [الأنفال: 11] ففي قصة أحد قدم الأمنة على النعاس، وفي قصة بدر قدم النعاس على الأمنة.
ب. وأما الطائفة الثانية وهم المنافقون الذين كانوا شاكين في نبوته ، وما حضروا إلا لطلب الغنيمة، فهؤلاء اشتد جزعهم وعظم خوفهم.
3. ثم إنه تعالى وصف حال كل واحدة من هاتين الطائفتين، فقال في صفة المؤمنين: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾، قال الواحدي: (الأمنة) مصدر كالأمن، ومثله من المصادر: العظمة والغلبة، وقال الجبائي: يقال: أمن فلان يأمن أمناً وأماناً، قال صاحب الكشاف: قرئ (أمنة) بسكون الميم، لأنها المرة من الأمن.
4. في قوله تعالى: ﴿نُعَاسًا﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أن يكون بدلا من أمنة.
ب. الثاني: أن يكون مفعولا، وعلى هذا التقدير ففي قوله: ﴿أمَنَةً﴾ وجوه:
• أحدها: أن تكون حالا منه مقدمة عليه، كقولك: رأيت راكباً رجلا.
• ثانيها: أن يكون مفعولا له بمعنى نعستم أمنة.
• ثالثها: أن يكون حالا من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة.
5. ﴿يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ ذكرنا أن هذه الطائفة هم المؤمنون الذين كانوا على البصيرة في إيمانهم قال أبو طلحة: غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه، وعن الزبير قال كنت مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين اشتد الخوف، فأرسل الله علينا النوم، وإني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا، وقال عبد الرحمن بن عوف: ألقى النوم علينا يوم أحد، وعن ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله.
6. في ذلك النعاس فوائد:
أ. أحدها: أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد، فكان ذلك معجزة ظاهرة للنبي ، ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم، ومتى صاروا كذلك ازداد جدهم في محاربة العدو ووثوقهم بأن الله منجز وعده.
ب. ثانيها: أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال، والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة.
ج. ثالثها: أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقي منهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم، فيشتد الخوف والجبن في قلوبهم.
د. رابعها: أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى.
7. من الناس من قال ذكر النعاس في هذا الموضع كناية عن غاية الأمن، وهذا ضعيف لأن صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا عند قيام الدليل المعارض، فكيف يجوز ترك حقيقة اللفظ مع اشتمالها على هذه الفوائد والحكم.
8. قرأ حمزة والكسائي ﴿تَغْشى﴾ بالتاء رداً إلى الأمنة، والباقون بالياء رداً، إلى النعاس، وهو اختيار أبي حاتم وخلف وأبي عبيد، والأمنة والنعاس كل واحد منهما يدل على الآخر، فلا جرم يحسن رد الكناية إلى أيهما شئت، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ﴾ [الدخان: 43 ـ 45] وتغلي، إذا عرفت جوازهما فنقول:
أ. مما يقوي القراءة بالتاء أن الأصل الأمنة، والنعاس بدل، ورد الكناية إلى الأصل أحسن، وأيضاً الأمنة هي المقصود، وإذا حصلت الأمنة حصل النعاس لأنها سببه، فان الخائف لا يكاد ينعس.
ب. أما من قرأ بالياء فحجته أن النعاس هو الغاشي، فإن العرب يقولون غشينا النعاس، وقلما يقولون غشيني من النعاس أمنة، وأيضاً فإن النعاس مذكور بالغشيان في قوله: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ [الأنفال: 11] وأيضاً: النعاس يلي الفعل، وهو أقرب في اللفظ إلى ذكر الغشيان من الأمنة فالتذكير أولى.
9. ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ هؤلاء هم المنافقون عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما، كان همهم خلاص أنفسهم، يقال: همني الشيء أي كان من همي وقصدي، قال أبو مسلم: من عادة العرب أن يقولوا لمن خاف، قد أهمته نفسه، فهؤلاء المنافقون لشدة خوفهم من القتل طار النوم عنهم، وقيل: المؤمنون، كان همهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإخوانهم من المؤمنين، والمنافقون كان همهم أنفسهم وتحقيق القول فيه: أن الإنسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه، صار غافلا عما سواه، فلما كان أحب الأشياء إلى الإنسان نفسه، فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها، فهذا هو المراد من قوله: ﴿أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ وذلك لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ووعد رسوله ما كان معتبراً عندهم، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم، فلا جرم عظم الخوف في قلوبهم.
10. ثم إنه تعالى وصف هذه الطائفة بأنواع من الصفات، الصفة الأولى من صفاتهم قوله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، وفي هذا الظن احتمالان:
أ. أحدهما: وهو الأظهر: هو أن ذلك الظن أنهم كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد:
• أما على قول أهل السنة والجماعة، فلأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه، فان النبوة خلعة من الله سبحانه يشرف عبده بها، وليس يجب في العقل أن المولى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى، بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الإلهية.
• أما على قول من يعتبر المصالح في أفعال الله وأحكامه، فلا يبعد أن يكون لله تعالى في التخلية بين الكافر والمسلم، بحيث يقهر الكافر المسلم، حكم خفية وألطاف مرعية، فإن الدنيا دار الامتحان والابتلاء، ووجوه المصالح مستورة عن العقول، فربما كانت المصلحة في التخلية بين الكافر والمؤمن حتى يقهر الكافر المؤمن، وربما كانت المصلحة في تسليط الفقر والزمانة على المؤمنين، قال القفال: لو كان كون المؤمن محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة المحق بالجبر، وذلك ينافي التكليف واستحقاق الثواب والعقاب، بل الإنسان إنما يعرف كونه محقاً بما معه من الدلائل والبينات، فأما القهر فقد يكون من المبطل للمحق، ومن المحق للمبطل، وهذه جملة كافية في بيان أنه لا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة على أن صاحبها على الحق.
ب. الثاني: أن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون إله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات، وينكرون النبوة والبعث، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أن الله يقويهم وينصرهم.
11. ﴿غَيْرَ الْحَقِّ﴾ في حكم المصدر، ومعناه: يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به و﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ بدل منه، والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق: أديان كثيرة، وأقبحها مقالات أهل الجاهلية، فذكر أولا أنهم يظنون بالله غير الظن الحق، ثم بين أنهم اختاروا من أقسام الأديان التي غير حقة أركها وأكثرها بطلانا، وهو ظن أهل الجاهلية، كما يقال: فلان دينه ليس بحق، دينه دين الملاحدة.
12. في قوله تعالى: ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه كقولك: حاتم الجود، وعمر العدل، يريد الظن المختص بالملة الجاهلية.
ب. الثاني: المراد ظن أهل الجاهلية.
13. الصفة الثانية من الصفات التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء المنافقين هي ما عبّر عنه بقوله: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾، وقوله: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ حكاية للشبهة التي تمسك أهل النفاق بها، وهو يحتمل وجوها:
أ. الأول: أن عبد الله بن أبي لما شاوره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة، ثم إن الصحابة ألحوا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أن يخرج إليهم، فغضب عبد الله بن أبي من ذلك، فقال عصاني وأطاع الولدان، ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع عبد الله بن أبي قيل له: قتل بنو الخزرج، فقال: هل لنا من الأمر من شيء، يعني أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرته بأن يسكن في المدينة ولا يخرج منها، ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران: 168] والمعنى: هل لنا من أمر يطاع وهو استفهام على سبيل الإنكار.
ب. الثاني في التأويل: أن من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لعدوه قالوا: عليه الأمر، فقوله: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي هل لنا من الشيء الذي كان يعدنا به محمد، وهو النصرة والقوة شيء وهذا استفهام على سبيل الإنكار، وكان غرضهم منه الاستدلال بذلك على أن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم كان كاذباً في ادعاء النصرة والعصمة من الله تعالى لأمته، وهذا استفهام على سبيل الإنكار.
ج. الثالث: أن يكون التقدير: أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء، والغرض منه تصبير المسلمين في التشديد في الجهاد والحرب مع الكفار.
14. ثم إن الله سبحانه أجاب عن هذه الشبهة بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ قرأ أبو عمرو (كله) برفع اللام، والباقون بالنصب، أما وجه الرفع فهو أن قوله: (كله) مبتدأ وقوله: (لله) خبره، ثم صارت هذه الجملة خبراً لإن، وأما النصب فلأن لفظة (كل) للتأكيد، فكانت كلفظة أجمع، ولو قيل: إن الأمر أجمع، لم يكن إلا النصب، فكذا إذا قال: كله.
15. الوجه في تقرير هذا الجواب ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾:
أ. إذا قلنا بمذهب أهل السنة لم يكن على الله اعتراض في شيء من أفعاله في الإماتة والإحياء، والفقر والإغناء والسراء والضراء.
ب. إن قلنا بمذهب القائلين برعاية المصالح، فوجوه المصالح مخفية لا يعلمها إلا الله تعالى، فربما كانت المصلحة في إيصال السرور واللذة، وربما كانت في تسليط الأحزان والآلام، فقد اندفعت شبهة المنافقين من هذا الوجه.
احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أن جميع المحدثات بقضاء الله وقدره، وذلك لأن المنافقين قالوا: إن محمدا لو قبل منا رأينا ونصحنا، لما وقع في هذه المحنة، فأجاب الله عنه بأن الأمر كله لله، وهذا الجواب: إنما ينتظم لو كانت أفعال العباد بقضاء الله وقدره ومشيئته إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعا لشبهة المنافقين، فثبت أن هذه الآية دالة على ما ذكرنا، وأيضا فظاهر هذه الآية مطابق للبرهان العقلي، وذلك لأن الموجود، إما واجب لذاته أو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته، فثبت أن كل ما سوى الله تعالى مستند إلى إيجاده وتكوينه، وهذه القاعدة لا اختصاص لها بمحدث دون محدث، أو ممكن دون ممكن، فتدخل فيه أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم، وذلك هو المراد بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ وهذا كلام في غاية الظهور لمن وفقه الله للإنصاف.
16. ثم إنه تعالى قال: ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾ إلى آخر الآية، فهو تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾، وهذا الكلام محتمل، فلعل قائله كان من المؤمنين المحقين، وكان غرضه منه إظهار الشفقة، وأنه متى يكون الفرج؟ ومن أين تحصل النصرة؟ ولعله كان من المنافقين، وإنما قاله طعنا في نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي الإسلام فبين تعالى في هذه الآية أن غرض هؤلاء من هذا الكلام هذا القسم الثاني، والفائدة في هذا التنبيه أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم متحرزا عن مكرهم وكيدهم.
17. النوع الثالث من الأشياء التي حكى الله عن المنافقين، هو ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾، سؤال وإشكال: وفيه إشكال، وهو أن لقائل أن يقول: ما الفرق بين هذا الكلام وبين ما تقدم من قوله: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ والجواب: يمكن أن يجاب عنه من وجهين:
أ. الأول: أنه تعالى لما حكى عنهم قولهم: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ فأجاب عنه بقوله: ﴿الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ واحتج المنافقون على الطعن في هذا الجواب بقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجنا من المدينة وما قتلنا هاهنا، فهذا يدل على أنه ليس الأمر كما قلتم من أن الأمر كله لله، وهذا هو بعينه المناظرة الدائرة بين أهل السنة وأهل الاعتزال فان السني يقول: الأمر كله في الطاعة والمعصية والإيمان والكفر بيد الله، فيقول المعتزلي: ليس الأمر كذلك، فإن الإنسان مختار مستقل بالفعل، إن شاء آمن، وإن شاء كفر، فعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جوابا عن الشبهة الأولى.
ب. الثاني: أن يكون المراد من قوله: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ هو أنه هل لنا من النصرة التي وعدنا بها محمد شيء، ويكون المراد من قوله: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ هو ما كان يقوله عبد الله بن أبي من أن محمدا لو أطاعني وما خرج من المدينة ما قتلنا هاهنا.
18. أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ من ثلاثة أوجه:
أ. الأول: قوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ والمعنى أن الحذر لا يدفع القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير، فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا على جميع التقديرات، لأن الله تعالى لما أخبر أنه يقتل، فلو لم يقتل لانقلب علمه جهلًا؛ وقد بينا أيضا أنه ممكن فلا بد من انتهائه إلى إيجاد الله تعالى، فلو لم يوجد لانقلبت قدرته عجزاً، وكل ذلك محال، ومما يدل على تحقيق الوجوب كما قررنا قوله: ﴿الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ وهذا الكلمة تفيد الوجوب، فإن هذه الكلمة في قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183] ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة: 178] تفيد وجوب الفعل، وهاهنا لا يمكن حملها على وجوب الفعل، فوجب حملها على وجوب الوجود وهذا كلام في غاية الظهور لمن أيده الله بالتوفيق، وللمفسرين فيه قولان:
• الأول: لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل إلى مضاجعهم ومصارعهم حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد.
• الثاني: كأنه قيل للمنافقين لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم، ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم.
ب. الثاني: قوله: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ وذلك لأن القوم زعموا أن الخروج إلى تلك المقاتلة كان مفسدة، ولو كان الأمر إليهم، لما خرجوا إليها، فقال تعالى: بل هذه المقاتلة مشتملة على نوعين من المصلحة: أن يتميز الموافق من المنافق، وفي المثل المشهور: لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين، ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مراراً كثيرة، سؤال وإشكال: لم ذكر الابتلاء وقد سبق ذكره في قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ [آل عمران: 152]؟ والجواب: لما طال الكلام أعاد ذكره، وقيل الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين، والثاني سائر الأحوال.
ج. الثالث: قوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ وفيه وجهان:
• أحدهما: أن هذه الواقعة تمحص قلوبكم عن الوساوس والشبهات.
• الثاني: أنها تصير كفارة لذنوبكم فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات.
19. ذكر في الابتلاء الصدور، وفي التمحيص القلوب، وفيه بحث ثم قال: ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ وذات الصدور هي الأشياء الموجودة في الصدور، وهي الأسرار والضمائر، وهي ذات الصدور، لأنها حالة فيها مصاحبة لها، وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته، وإنما ذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفي عليه ما في الصدور، أو غير ذلك، لأنه عالم بجميع المعلومات وإنما ابتلاهم إما لمحض الإلهية، أو للاستصلاح.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/393.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ الأمنة والأمن سواء، وقيل: الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه، وهي منصوبة بـ ﴿أَنْزَلَ﴾ و﴿نُعَاسًا﴾ بدل منها، وقيل: نصب على المفعول له، كأنه قال: أنزل عليكم للأمنة نعاسا، وقرأ ابن محيصن ﴿أَمَنَةً﴾ بسكون الميم.
2. تفضل الله تعالى على المؤمنين بعد هذه الغموم في يوم أحد بالنعاس حتى نام أكثرهم، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام، روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه.
3. ﴿يَغْشَى﴾ قرئ بالياء والتاء، الياء للنعاس، والتاء للامنة، والطائفة تطلق على الواحد والجماعة، ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ يعني المنافقين: معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وخوف المؤمنين فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور، ويقولون الأقاويل.
4. معنى ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ حملتهم على الهم، والهم ما هممت به، يقال: أهمني الشيء أي كان من همي، وأمر مهم: شديد، وأهمني الأمر: أقلقني: وهمني: أذابني.
5. الواو في قوله ﴿وَطَائِفَةٌ﴾ واو الحال بمعنى إذ، أي إذ طائفة يظنون أن أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم باطل، وأنه لا ينصر.
6. ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ أي ظن أهل الجاهلية، فحذف، ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ لفظه استفهام ومعناه الجحد، أي ما لنا شي من الأمر، أي من أمر الخروج، وإنما خرجنا كرها، يدل عليه قوله تعالى إخبارا عنهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾، قال الزبير: أرسل علينا النوم ذلك اليوم، وإني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول: لو كان لنا من الامر شي ما قلنا ها هنا، وقيل: المعنى يقول ليس لنا من الظفر الذي وعدنا به محمد شي، والله أعلم.
7. ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ قرأ أبو عمرو ويعقوب ﴿كُلِّهِ﴾ بالرفع على الابتداء، وخبره ﴿بِاللهِ﴾، والجملة خبر ﴿أَنْ﴾، وهو كقوله: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر]، والباقون بالنصب، كما تقول: إن الأمر أجمع لله، فهو توكيد، وهو بمعنى أجمع في الإحاطة والعموم، وأجمع لا يكون إلا توكيدا، وقيل: نعت للأمر، وقال الأخفش: بدل، أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء، وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ يعني التكذيب بالقدر، وذلك أنهم تكلموا فيه، فقال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ يعني القدر خيره وشره من الله.
8. ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ أي من الشرك والكفر والتكذيب، ﴿مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾ يظهرون لك، ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ أي ما قتل عشائرنا، فقيل: إن المنافقين قالوا لو كان لنا عقل ما خرجنا إلى قتال أهل مكة، ولما قتل رؤساؤنا، فرد الله عليهم فقال: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ﴾ أي لخرج، ﴿الَّذِينَ كُتِبَ﴾ أي فرض، ﴿عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ يعني في اللوح المحفوظ، ﴿إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ أي مصارعهم، وقيل: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ أي فرض عليهم القتال، فعبر عنه بالقتل، لأنه قد يؤول إليه، وقرأ أبو حياة ﴿لَبَرَزَ﴾ بضم الباء وشد الراء، بمعنى يجعل يخرج، وقيل: لو تخلفتم أيها المنافقون لبرزتم إلى موطن آخر غيره تصرعون فيه حتى يبتلي الله ما في الصدور ويظهره للمؤمنين.
9. الواو في قوله ﴿وَلِيَبْتَلِيَ﴾ مقحمة كقوله: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الانعام] أي ليكون، وحذف الفعل الذي مع لام كي، والتقدير وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم) فرض الله عليكم القتال والحرب ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم، وقيل: معنى (ليبتلي) ليعاملكم معاملة المختبر، وقيل: ليقع منكم مشاهدة ما علمه غيبا، وقيل: هو على حذف مضاف، والتقدير ليبتلي أولياء الله تعالى، وقد تقدم معنى التمحيص.
10. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي ما فيها من خير وشر، وقيل: ذات الصدور هي الصدور، لان ذات الشيء نفسه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/242.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الأمنة والأمن سواء، وقيل: الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه، وهي: منصوبة بأنزل، ونعاسا: بدل منها، أو عطف بيان، أو مفعول له؛ وأما ما قيل من أن أمنة: حال من نعاسا مقدّمة عليه، أو حال من المخاطبين، أو مفعول له، فبعيد، وقرأ ابن محيصن: (أمنة) بسكون الميم.
2. ﴿يَغْشَى﴾ قرئ: بالتحتية، على أن الضمير للنعاس، وبالفوقية، على أن الضمير لأمنة، والطائفة: تطلق على الواحد والجماعة، والطائفة الأولى: هم المؤمنون الذين خرجوا للقتال طلبا للأجر، والطائفة الأخرى: هم معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة، وجعلوا يناشدون على الحضور، ويقولون الأقاويل.
3. معنى: ﴿أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ حملتهم على الهمّ، أهمني الأمر: اقلقني، والواو في قوله: ﴿وَطَائِفَةٌ﴾ للحال، وجاز الابتداء بالنكرة لاعتمادها على واو الحال، وقيل: إن معنى ﴿أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ صارت همهم، لا همّ لهم غيرها.
4. ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ هذه الجملة في محل نصب على الحال، أي: يظنون بالله غير الحق الذي يجب أن يظن به، وظنّ الجاهلية: بدل منه، وهو الظنّ المختص بملة الجاهلية، أو ظن أهل الجاهلية، وهو ظنهم: أن أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم باطل، وأنه لا ينصر ولا يتمّ ما دعا إليه من دين الحق.
5. ﴿يَقُولُونَ﴾ بدل من (يظنون)، أي: يقولون لرسول الله : ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي: هل لنا من أمر الله نصيب، وهذا الاستفهام معناه: الجحد، أي: ما لنا شيء من الأمر، وهو النصر والاستظهار على العدوّ؛ وقيل: هو الخروج، أي: إنما خرجنا مكرهين.
6. ردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ وليس لكم ولا لعدوّكم منه شيء، فالنصر بيده والظفر منه.
7. ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: يضمرون في أنفسهم النفاق ولا يبدون لك ذلك، بل يسألونك سؤال المسترشدين.
﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ استئناف، كأنه قيل: ما هو الأمر الذي يخفون في أنفسهم؟ فقيل: يقولون فيما بينهم، أو في أنفسهم ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ أي: ما قتل من قتل منا في هذه المعركة.
8. ردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ أي: لو كنتم قاعدين في بيوتكم لم يكن بدّ من خروج من كتب عليه القتل إلى هذه المصارع الي صرعوا فيها، فإن قضاء الله لا يردّ.
9. ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ علة لفعل مقدّر قبلها، معطوفة على علل له أخرى مطوية للإيذان بكثرتها، كأنه قيل: فعل ما فعل لمصالح جمة ﴿وَلِيَبْتَلِيَ﴾ الآية؛ وقيل: إنه معطوف على علة مطوية لبرز، والمعنى: ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/449.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنم بَعْدِ الْغَمِّ﴾ صرفكم فأثابكم ثمَّ أنزل، ولفظ (ثُمَّ) كافٍ في الترتيب وزادت بالتراخي، ولكن ذكر لفظ (بَعْدِ) لتأكيد النعمة، ومدَّة الغمِّ لعظمه، كأنَّها طويلة، فالتراخي لذلك، مع أنَّ فيها ما يسيغ لفظ (ثُمَّ) مِن التراخي ولو بلا شدَّة لخروجها عن الاتِّصال، ولك جعل التراخي معنويًّا لعظمة الأمنة المذكورة في قوله: ﴿أَمَنَةً﴾ أمنا، وقيل: الأمن مع زوال سبب الخوف.
2. الأمنة مع بقائه مفعول (أَنزَلَ)، ﴿نُّعَاسًا﴾ بدله الاشتماليُّ، أي: نعاسا بها المذكورة في قوله: ﴿أَمَنَةً﴾، أو عطف بيان على جوازه في النكرات ولا بأس به، أو أنزل عليكم نعاسا حال كونكم ذوي أمن أو آمنين، ككَامِلٍ وكَمَلَة، أو مفعول من أجله، ونعاسا مفعول على أنَّ الأمن يكون لمن وقع عليه ويكون لمن أوقعه، فاتَّحد فاعله وفاعل الإنزال، أو هو اسم مصدر بمعنى الإيمان، وهو جعلهم آمنين.
3. ﴿يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ﴾ قال ابن عبَّاس: (آمن الله المؤمنين بنعاس يغشاهم)، وإنَّما ينعس من يأمن، والخائف لا يأمن، فالمنافقون بقوا على الخوف فلم ينعسوا، قال أبو طلحة والزبير بن العوام: (غشينا النعاس في المصافِّ حتَّى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثمَّ يسقط فيأخذه، فهم يميلون بالنعاس تحت التروس والدرق، وتسقط السيوف من أيديهم، وهم قائمون ويأخذونها جازمين بالنصر، آمنين من الاستئصال لصحَّة إيمانهم، وقيل: ناموا عمدا إذ علموا أَنَّ القوم ذاهبون إلى مكَّة، وقد خاف صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يحاصروا المدينة فأمرهم بالصبر إن حاصروا، وأمر رجلا فذهب فرآهم سراعا إلى جهة مكَّة فناموا)
4. ﴿وَطَآئِفَةٌ قَدَ اَهَمَّتْهُمُ أَنفُسُهُمْ﴾ هم المنافقون لم ينزل عليهم نعاس ولا ناموا باختيارهم، أوقعتهم أنفسهم في الحزن خوفا عليهم، أو جعلتهم في أمر مهمٍّ وهو نجاتهم، أو شكُّوا في نبوءته ، وإنَّما حضروا للغنيمة، والجملة مبتدأ وخبر، وأجيز أن يكون (قَدَ اَهَمَّتْهُم) إلخ نعتا، ويقدَّر الخبر: (معكم) أو (منكم)، والواو للحال على كلِّ حال.
5. ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ كظنِّ الفِرَقِ الجاهليَّة، أو أهل الملَّة الجاهليَّة، أو الظنُّ المختصُّ بالجاهليَّة كقولك: (حاتم الجود)، وذلك أنَّهم ظنُّوا أنَّه لا يُنصَر، وأنَّه قُتل مع أنَّه لا يموت حتَّى يُنصر، وأنَّه غير نبيء.
6. (غَيْرَ) مفعول به، و(ظَنَّ) مفعول مطلق، والمفعول الثاني محذوف، أي: واقعا، و(غَيْرَ الْحَقِّ) أنَّه لا يموت ، أو أنَّه غير نبيء، والجملة خبر ثان لـ (طَائِفَةٌ)، أو نعت ثان له، أو حال.
7. ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الَامْرِ﴾ الذي وعد الله رسوله من الظفر والنصر، استفهام إنكار، أو تقرير، أو تعجُّب، أو لَمَّا كثر القتل في الخزرج قال ابن أبيٍّ: (ما لي أمرٌ مطاعٌ! لو أطاعني محمَّد ولم يخرج، لم يكن هذا القتل)، فالأمر شأن الشورى، فالاستفهام للنفي فزيدت (مِنْ)، والجملة تفسير لـ (يَظُنُّونَ)، ﴿مِن شَيْءٍ﴾ أي: نصيب.
8. ﴿قُلِ اِنَّ الَامْرَ كُلَّهُ لِلهِ﴾ يفعل الله ما يشاء لأنَّ له القضاء، أو ما أصاب المسلمين صورة غلبة، والأمر الحقيق غلبة الله وأوليائه بالعاقبة بعد وبالحجَّة، ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [سورة المائدة: 56]
9. ﴿يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم﴾ من التكذيب، ﴿مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾ ويُظهرون طلب النصرة، وفسَّر ذلك بقوله: ﴿يَقُولُونَ﴾ في أنفسهم، أو بعض لبعض خفية، ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الَامْرِ﴾ من الاقتداء برأينا في عدم الخروج إلى العدوِّ وفي البقاء في المدينة، فنقتلهم إذا جاءونا فيها كما اعتدنا، أو لو كان لنا مِمَّا وعد محمَّد من النصر، ومن قوله: إنَّ الأمر كلَّه لله وأوليائه، ﴿شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ في أُحد، أو لو أخذ برأينا لم نقتل في المدينة، لكن لم يؤخذ فخرجنا فقُتلنا.
10. ﴿قُل﴾ للمنافقين والمرتابين، وقيل: للمنافقين، أو لهما وللمؤمنين، ﴿لَوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ منازلكم في المدينة وما يليها ولم تخرجوا كما خرجتم، ﴿لَبَرَزَ﴾ ظهر بالخروج إلى أُحد، ﴿الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِم﴾ في اللَّوح المحفوظ أو قدِّر، ﴿الْقَتْلُ﴾ منكم، ﴿إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ مصارعهم لا يقدرون أن لا يخرجوا إلى أحد، ولا على أَن لا يموتوا فيه، لقضاء الله ذلك، وقضاؤه لا يتخلَّف، أو لو كنتم في بيوتكم لبرز المؤمنون فيقتلون، ولا يتخلَّفون كما تخلَّفتم.
11. سمَّى المصرع مضجعا تشبيها بموضع الرُّقاد، لجامع لزوم المكان وعدم التصرُّف فيه؛ فذلك استعارة تبعيَّة؛ لأنَّ اسم المكان الميميَّ يتضمَّن حدثا، ولا يصحُّ ما قيل من أنَّه إن اعتبر المضجع بمعنى موضع الامتداد لحيٍّ أو ميِّت فهو حقيقة؛ لأنَّ الميِّت لا يمتدُّ بنفسه بل ولا بغيره؛ لأنَّ من يضعه في قبره يضعه كما هو، لا يحدث له مدًّا ولا يزيده، وأيضًا لا نسلم أَنَّ المضجع لا يختصُّ بمدِّ النوم.
12. ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ لَبَرَزَ لِنفاذِ القضاء وَلِيَبْتَلِيَ، أو لكيلا تحزنوا وليبتلي، أو فعل ذلك القتل في أُحد ليبتلي، أو لبرز لمصالح كثيرة وليبتلي، وابتلاء الله ما في الصدور: إظهاره ما فيها من إخلاص أو نفاق، يظهر بالجزاء مرَّة وبالوحي أخرى، في خير أو شرٍّ، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ﴾ [سورة الطارق: 9]، والصدور: القلوب، تسميةً للحالِّ باسم المحلِّ، فإنَّ القلب كزائد حادث متدلٍّ في الصدر، أو تسميةً للجزء باسم الكلِّ، وذكر القلوب تفنُّنٌ بعدُ، والتمحيص للاعتقاد والإيمان، ولا يقال: آمن بصدره، وينسب للصدر الشرح كما في مواضع من القرآن، وعبارة بعضهم: (القلب مقرُّ الإيمان، والصدر محلُّ الإسلام، والفؤاد مشرق المشاهدة، واللُّب مقام التوحيد)
13. ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ من السرائر، يخلِّصه من الوساويس، من الشكِّ والارتياب، بما يريكم من عجائب صنعه في إلقاء الأمنة وصرف العدوِّ وإعلان المنافقين، أو يُصفِّي ما في قلوبكم من تبعات المعاصي بتكفيره بما أصابكم، وعن ابن عبَّاس: (الابتلاء والتمحيص واحد)
14. ﴿وَاللهُ عَلِيمُم بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ فيجازي عليها، ولا يحتاج إلى ظهورها، وإنَّما أظهرها ليميز المنافق من المؤمن بالقلوب صاحبة الصدور، والمعنى: بما في القلوب التي في الصدور، كأنَّها مالكة للصدور، أو عليم باعتقادات صاحبة الصدور.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/33.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم إنه تداركهم سبحانه برحمته، وخفف عنهم ذلك الغم، وغيّبه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمنا منه، كما قال: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً﴾ أي أمنا، والأمنة (بتحريك الميم) مصدر، يقال: أمن أمنا وأمانا وأمنا وأمنة (محركتين) وفي حديث نزول عيسى عليه السلام، وتقع الأمنة في الأرض، أي الأمن، ومثله من المصادر العظمة والغلبة، وهو منصوب على المفعولية.
2. ﴿نُعَاسًا﴾ بدل من ﴿أَمَنَةً﴾ وقيل: هو المفعول، و﴿أَمَنَةً﴾ حال أو مفعول له ﴿يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ وهم المخلصون، أهل اليقين والثبات والتوكل الصادق، والجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله، والنعاس في حال الحرب دليل على الأمان، كما قال في سورة الأنفال: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ [الأنفال: 11] الآية.
3. ساق الرازيّ لذلك النعاس فوائد: منها أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدلّ الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم، ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى.
4. ثم أخبر تعالى أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نفسه، لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه، بقوله: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ أي ما بهم إلا هم أنفسهم وقد قصد خلاصها، فلم يغشهم النعاس، من القلق والجزع والخوف ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ كما قال تعالى في الآية الأخرى: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا﴾ [الفتح: 12] الآية ـ وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة، قال ابن القيّم في (زاد المعاد): وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل، وفسر بأن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، ويظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح، حيث يقول: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [الفتح: 6]، وإنما كان هذا ظن السوء، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظن غير الحق، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل سوء، بخلاف ما يليق بحكمته وحمده، وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون:
أ. فمن ظن به أنه لا ينصر رسله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد جنده، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق، إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا ـ فقد ظن بالله السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته، فإن عزته وحكمة إلهيته تأبى ذلك، ويأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به ـ فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته وكماله.
ب. وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه، ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته.
ج. وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة، وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب، وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى، ولا أنشأها عبثا، ولا خلقها باطلا: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: 27]
5. قال ابن القيّم في (زاد المعاد): أكثر الناس يظنون بالله غير الحق، ظن السوء، فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته: فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء، ومن جوّز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أن يترك خلقه سدى معطلين من الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملا كالأنعام، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه الكريم على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد، وأنه يعاقبه بما لا صنيع له فيه، ولا اختيار له، ولا قدرة ولا إرادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم، يضلون بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقتضي بقبح أحدهما وحسن الآخر: فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزا بعيدة، وأشار إليه إشارات ملغزة، لم يصرح به، وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي، أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه، وصفاته على عقولهم وآرائهم، لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان ـ فقد ظن به ظن السوء، فإنه إن قال إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه، فقد ظن بقدرته العجز، وإن قال إنه قادر ولم يبين، وعدل عن البيان، وعن التصريح بالحق، إلى ما يوهم، بل يوقع في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد ـ فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء، وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وإن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين الحيارى هو الهدى والحق، وهذا من أسوأ الظن بالله، فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين به غير الحق، ظن الجاهلية، ومن ظن به يكون في ملكه ما يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه ـ فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه كان معطلا من الأزل إلى الأبد، عن أن يفعل ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادرا عليه بعد أن لم يكن قادرا ـ فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه، بائنا من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، ومن قال سبحان ربي الأسفل، كمن قال سبحان ربي الأعلى ـ فقد ظن به أقبح الظن(2).
6. ثم قال: وبالجملة فيمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه، ووصفه به ورسله، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفته به رسله ـ فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيدعونهم ويخافونهم، ويرجونهم ـ فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.. ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه، أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله ـ فقد ظن به ظن السوء، وظن به خلاف ما هو أهله.. ومن ظن به أنه إن عصاه أو أسخطه وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه وليّا، ودعا من دونه ملكا أو بشرا، حيّا أو ميتا، يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه، ويخلصه من عذابه ـ فقد ظن به ظن السوء، وذلك زيادة في بعده من الله، وفي عذابه، ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد أعداءه تسليطا مستقرّا دائما في حياته وفي مماته، وابتلاه بهم لا يفارقونه، فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيته، وظلموا أهل بيته، وسلبوهم حقهم، وأذلوهم، وكان العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائما من غير جرم ولا ذنب لأوليائه وأهل الحق، وهو يرى قهرهم لهم، وغصبهم إياهم حقهم، وتبديلهم دين نبيهم، وهو يقدر على نصر أوليائه، وحزبه وجنده، ولا ينصرهم ولا يديلهم، بل يديل أعداءهم عليهم أبدا، أو أنه لا يقدر على ذلك، بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئته، ثم جعل أعداءه الذين بدلوا دينه مضاجعيه في حضرته، تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه (3).
7. ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل بقوله: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي هل لنا من أمر التدبير والرأي من شيء، استفهام على سبيل الإنكار، أي ما لنا أمر يطاع، ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران: 168]، وذلك أن عبد الله بن أبيّ لما شاوره النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه الواقعة، أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة، ثم إن الصحابة ألحوا على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في أن يخرج إليهم، كما تقدم: ولما رجع عبد الله بن أبيّ بمن معه، وأخبر بكثرة القتلى من بني الخزرج، قال هل لنا من الأمر شيء؟ يعني أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يقبل قولي حين أمرته بأنه يبقى في المدينة ولا يخرج منها ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ أي التدبير كله لله، فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائه فلا مردّ له، قال ابن القيّم: ليس مقصودهم بقولهم: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ وقولهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾، إثبات القدر، ورد الأمر كله إلى الله، ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه، لما حسن الرد عليهم بقوله: ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾، ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية، ولهذا قال غير واحد من المفسرين: إن ظنهم الباطل هاهنا هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه تبعا لهم، ويسمعون منهم، لما أصابهم القتل، ويكون النصر والظفر لهم، فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل، الذي هو ظن الجاهلية، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل، الذين يزعمون، بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه، أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء، فأكذبهم الله بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾، فلا يكون إلا ما سبق قضاؤه وقدره، وجرى به علمه وكتابه السابق، وما شاء الله كان ولا بد، شاء الناس أم أبوا، وما لم يشأ لم يكن، شاء الناس أو لم يشاءوه، وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل، فبأمره الكونيّ الذي لا سبيل إلى دفعه، سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن، وأنكم لو كنتم في بيوتكم، وقد كتب القتل على بعضكم، لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بد، سواء أن يكون لهم من الأمر شيء أو لم يكن، وهذا من أظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية النفاة، الذين يجوّزون أن يقع ما لا يشاؤه الله، وأن يشاء ما لا يقع.
8. ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ أي يضمرون فيها، أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية ﴿مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾ لكونه لا يرضاه الله تعالى، ثم بين ذلك بعد إجماله فقال: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ﴾ أي المسموع ﴿شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ أي ما غلبنا، أو ما قتل من قتل منا، لأنا كنا نمكث في المدينة ولا نخرج إلى العدوّ، ولما أخبر تعالى بما أخفوه جهلا منهم، ظنّا أن الحذر يغني من القدر، أمره تعالى بالرد عليهم بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ أي أجمع رأيكم على أن لا تبرحوا من منازلكم أنتم والمقتولون.
9. ﴿لَبَرَزَ﴾ أي خرج ﴿الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ في اللوح المحفوظ ﴿إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ أي التي قدر الله قتلهم فيها، ولم يثبتوا في ديارهم، لأنه يوقع في قلوبهم الخروج إمضاء لقدره وحكمه المحتوم الذي لا يقع خلافه ولا يردّ، لقوله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22]، وفيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة، حيث لم يقتصر على تحقيق نفس القتل، بل عين مكانه أيضا، وفي التعبير بـ (مضاجعهم) من إجلالهم وتكريمهم ما لا يخفى على صاحب الذوق السليم.
10. ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ أي ليعاملكم معاملة الممتحن، ليستخرج ما في صدوركم من الإخلاص والنفاق، ليجعله حجة عليكم، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيمانا وتسليما، والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه؛ وهو علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى مطوية، للإيذان بكثرتها، كأنه قيل: فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلي.. إلخ، أو لفعل مقدر بعدها، أي: وللابتلاء المذكور فعل ما فعل، لا لعدم العناية بأمر المؤمنين، وجعلها عللا ل (برز) يأباه الذوق السليم، فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول، لا بيان حكمة البروز المفروض ـ أفاده أبو السعود ـ
11. ثم ذكر تعالى حكمة أخرى بقوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ أي يخلصه وينقيه ويهذبه، فإن القلوب يخالطها بغلبة الطبائع، وميل النفوس، وحكم العادة، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة ـ ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبرّ والتقوى، فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة، ولم تتمحص منه، فاقتضت حكمة العزيز الرحيم أن يقضي لها من المحن والبلاء، ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء، إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده، وإلا خيف عليه منه الفساد والهلاك، فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة، وقتل من قتل منهم، تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم، فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا ـ أفاده ابن القيّم، وقال القاشانيّ: البلاء سوط من سياط الله، يسوق به عباده إليهم بتصفيتهم عن صفات نفوسهم، وإظهار ما فيهم من الكمالات، وانقطاعهم من الخلق إلى الحق، ولهذا كان متوكّلا بالأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيانا لفضله: (ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت)، كأنه قال ما صفى نبيّ مثل ما صفيت، ولقد أحسن من قال:
çلله در النائبات فإنها...صدأ اللئام وصيقل الأحرارé
إذ لا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده.
12. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي الضمائر الملازمة لها، وعد ووعيد.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/434.
(2) للأسف هذا من إقحام التشبيه والتجسيم ضمن المعاني الصحيحة
(3) وهذا أيضا من المغالطات، لأن القرآن الكريم ذكر ذلك، والأحاديث الكثيرة تشير إليه، وتحذر منه
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ الأمنة الأمن وهو ضد الخوف، والنعاس معروف، وهو فتور يتقدم النوم ويظهر أثره في العينين قرأ حمزة والكسائي (تغشى) بالفوقية أي الأمنة والباقون (يغشى) بالتحتية أي النعاس يقال غشية النعاس أو النوم كما يقال ران عليه أي عرض له فاستولى عليه وغطاه كما يلقي الستر على الشيء، وقد تقدم في ملخص القصة ذكر هذا النعاس وأنه كان في أثناء القتال، وإنما كان مانعا من الخوف فهو ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر ولكن روي أن السيوف كانت تسقط من أيديهم.
2. اختار محمد عبده أنه كان بعد القتال قال ما مثاله: اختلف المفسرون في وقت هذا النعاس فقال بعضهم إن ذلك كان في أثناء الواقعة وأن الرجل كان ينام تحت ترسه كأنه آمن من كل خوف وفزع إلا المنافقين فإنهم أهمتهم أنفسهم فاشتد جزعهم، وحمل بعضهم هذه الآية على آية الأنفال: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ [الأنفال: 11] وإنما هذه غزوة بدر، وقد مضت السنة في الخلق بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هولا كبيرا ومصابا عظيما فإنه يتجافى جنبه عن مضجعه ويبيت بليلة الملسوع فيصبح خاملا ضعيفا وقد كان المؤمنون يوم بدر يتوقعون مثل ذلك، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاث أضعاف سيحاربهم غدا وهو أشد منهم قوة وأعظم عدة، فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد يضربون أخماسا لأسداس، ويفكرون بما سيلاقون في غدهم من الشدة والبأس، ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس، غشيهم فناموا واثقين بالله تعالى مطمئنين لوعده، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه، فالنعاس لم يكن يوم بدر في وقت الحرب بل قبلها، ومثله المطر الذي أنزل عليهم عند شدة حاجتهم إليه وقد قرن ذكره به في الآية الذي ذكرتهم بعناية الله بهم في ذلك، أما النعاس يوم أحد فقد قيل إنه كان في أثناء الحرب وقيل إنه كان بعدها وقد اتفق المفسرون وأهل السير على أن المؤمنين قد أصابهم يوم أحد شيء من الضعف والوهن لما أصابهم من الفشل والعصيان وقتل طائفة من كبارهم وشجعانهم فكانوا بعد انتهاء الواقعة قسمين: فقسم منهم ذكروا ما أصابهم فعرفوا انه كان بتقصير من بعضهم وذكروا الله ووعده بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم ووثقوا بوعد ربهم (راجع آية 135) ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ﴾ وعلموا أنهم إن كانوا قد غلبوا في هذه المرة فإن الله سينصرهم في غيرها حيث لا يعودون إلى مثل ما وقع منهم فيها من الفشل والتنازع وعصيان قائدهم ورسولهم، فأنزل الله عليهم النعاس أمنة أو الأمنة نعاسا، حتى يستردوا ما فقدوا من القوة بما أصابهم من القرح وما عرض لهم من الضعف، والنوم للمصاب بمثل تلك المصائب نعمة كبيرة وعناية من الله عظيمة، وقد كان من أثر هذا الاطمئنان في القلوب، والراحة للأجسام والتسليم للقضاء، أن سهل على هؤلاء المؤمنين اقتفاء أثر المشركين بعد انصرافهم وعزموا على قتالهم في حمراء الأسد عندما دعاهم الرسول إلى ذلك فاستجابوا له مذعنين.
3. قال محمد عبده: واتفق الرواة أيضا على أن كثيرا منهم كانوا مثقلين بالجراح فلم يقدروا على اقتفاء أثر المشركين فذلك قوله تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ فهذه طائفة من المؤمنين الضعفاء ولا حاجة إلى جعلها في المنافقين كما قيل، فإن هؤلاء سيأتي الكلام فيهم، وما من أمة إلا وفيها الضعفاء والأقوياء في الإيمان وغيره، وقد بين ظنهم بقوله: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ فنلام ان ولينا وغلبنا؟ يعنون أنه ليس لهم من أمر النصر وعدمه شيء، فإنهم فهموا مما وقع يوم بدر أن النصر وحقية الدين متلازمان وعجبوا مما وقع في أحد كأنه مناف لحقية الدين، وهذا خطأ عظيم، أي فإن نصر الله لرسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا والعاقبة للمتقين، أقول: وسيأتي بيان ما جرى عليه جمهور المفسرين مخالفا لهذا.
4. ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ لا أمر النصر وحده، أي إن كل أمر يجري بحسب سنته تعالى في خلقه نظامه الذي ربط فيه الأسباب بالمسببات ومنه نصر من ينصره من المؤمنين ﴿يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا﴾ أي لو كان أمر النصر والظفر في أيدينا لما وقع فينا القتل ههنا، يقررون رأيهم، ويستدلون عليه بما وقع لهم، غافلين عن تحديد الآجال ولذلك أمر الله نبيه أن يجيبهم بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ أي لو كنتم وادعين في بيوتكم في سلم وأمان لخرج من بينكم من انتهت آجالهم، وثبت في علم الله أنهم يقتلون كما يثبت المكتوب في الألواح والأوراق إلى حيث يقتلون ويسقطون من البراز ـ الأرض المستوية ـ فتكون مصارعهم ومضاجع الموت لهم، فقتل من قتل لم يكن لأن الأمر ليس كله بيد الله بل لأن آجالهم قد جاءت كما سبق في علم الله.
5. ﴿وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم﴾ أي يقع ذلك لأجل أن يكون القتل عاقبة من جاء أجلهم منكم ولأجل أن يمتحن الله نفوسكم فيظهر لكم ما انطوت عليه من ضعف وقوة في الإيمان، ويطهرها حتى تصل إلى الدرجات العلى من الإيقان، وقد تقدم تفسير الابتلاء والتمحيص في هذا السياق ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي بالسرائر والوجدانات الملازمة للصدور حيث القلوب المنفعلة بها، والمنبسطة أو المنقبضة بتأثيرها، وقد يخفى ذلك على أصحابها فينخدعون للشعور العارض لها الذي لم يرسخ بالتجارب والابتلاء كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه.
6. هذا وإن جمهور المفسرين قد جروا على خلاف ما اختاره محمد عبده في هذه الطائفة، فقالوا: إن المراد بها المنافقون، فهم الذين كانت تهمهم أنفسهم إذ كان هم المؤمنين محصورا فيما أصاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وما وقع لبعضهم من التقصير، وكان في غشيان النعاس ونزول الأمنة على المؤمنين من دونهم معجزة ظاهرة لأنه جاء على غير العادة، وهم الذين يظنون في الله ظن مشركي الجاهلية كظنهم أن ظهور المشركين دليل على بطلان دعوة النبي والمؤمنين، وهم الذين يخفون ما في أنفسهم ما لا يبدونه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من الكفر به ويحتجون عليه بألسنتهم بما يعتذرون به عن أنفسهم، ولكن يعارض فهمهم هذا كون الخطاب قبله وبعده للمؤمنين والكلام عن المنافقين سيأتي بعده، وكذا قوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ فإن المصائب إنما تكون بعد الابتلاء والاختبار تمحيصا للمؤمنين كما قال: ﴿ليمحص الله الذين آمنوا﴾ وبأسا وضعفا للكافرين كما قال: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ وتقدم بيانه، إلا أن يجعلوا الخطاب بقوله: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ﴾ لمن خوطبوا بقوله: (ولقد صدقكم الله وعده) ودون من خوطبوا بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ إن كان هذا هو الأقرب في الذكر، ولكن هذا تفكيك وتشويش لا ترضاه بلاغة القرآن.
7. سؤال وإشكال: قد يقال: إن ظاهر الآية فيما تحكيه عن الذين قد أهمتهم أنفسهم يوهم المحال على الوجه المختار عند محمد عبده، من أنهم ضعفاء الإيمان من المؤمنين، إذ يكون مغزى قولهم: إنه ليس لهم من الأمر من شيء عين مغزى قوله تعالى في جوابهم: ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ اعتذروا عن تقصيرهم بأنه ليس لهم من الأمر شيء، وأنه لو كان لهم منه شيء لما قتلوا هناك، يعني أن الأمر كله بيد الله وتصرف مشيئته وحده، وهذا عين الإيمان الذي يثبته القرآن، فكيف جعله من ظن الجاهلية؟ والجواب: إنه تعالى قد بين لنا ظن الجاهلية في قوله: ﴿سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم ألا تخرصون﴾ [الأنعام: 8] وقد قال قبل هذه الآية: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾ [الأنعام: 107] وهو يشبه قوله لهذه الطائفة التي ظنت مثل ظنهم ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ فالظاهر أن الذي أثبته في الموضعين هو مثل الذي أنكره عليهم وسماه ظنا لا يوثق به في هذا المقام الذي لا يقبل فيه إلا العلم اليقين، وقال في سورة يس: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 47] فقد جعل تبرؤ الناس من الكسب والعمل واعتذارهم بمشيئة الله وتفويض الأمر إليه من شأن المشركين والكفار الذين يتخبطون في دياجي الظن ويهيمون في أودية الضلال، مع إثباته لكون الأمر كله لله وحصول كل شيء بمشيئته، وقد نظر في كل طرف من الطرفين من رآه يوافق مذهبه حتى جعل الفخر الرازي الآية التي نحن بصدد تفسيرها هي عين ما عليه الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في مسألة أفعال العباد وجعل الحجة فيها للأشاعرة.
8. تحرير الكلام في هذه المسألة إنه تعالى بين لنا في كتابه ثلاث حقائق وبين لنا ضلال الذين ضلوا فيها واحتجوا بواحدة على بطلان أخرى.
أ. الحقيقة الأولى: إنه تعالى هو خالق كل شيء الذي بيده ملكوت كل شيء وبمشيئته يجري كل شيء، فلا قاهر له على شيء وهو القاهر فوق كل شيء.
ب. الحقيقة الثانية: إن خلقه وتدبيره إنما يجري بحسب مشيئته وحكمته على سنن مطردة ومقادير معلومة، كما أشرنا إلى ذلك في تفسير ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ وفي تفسير كثير من الآيات التي تذكر فيها المشيئة أو السنن الإلهية.
ج. الحقيقة الثالثة: إن في جملة سننه في خلقه وقدره في تدبير عباده أن الإنسان خلق ذا علم ومشيئة وإرادة وقدرة فيعمل بقدرته وإرادته ما يرى بحسب ما وصل إليه علمه وشعوره أنه خير له، والآيات الناطقة بأن الإنسان يعمل وبعمله تناط سعادته وشقاوته في الدنيا والآخرة كثيرة جدا، وهو ليس في ذلك معارضا لمشيئته الله ولا مزيلا لها، بل مشيئته تابعة لمشيئته الله ومظهر من مظاهرها كما قال: ﴿وما تشاؤون إلا أن يشاء الله﴾ [الإنسان: 3] و[التكوير: 29] وقد جرت سنته بأن يشاء لنا أن نعمل عندما يترجح في علمنا أن العمل خير من تركه وأن نترك عندما يترجح في عملنا أن الترك خير من الفعل كما هو معلوم لكل من يعرف ما هو الإنسان.
9. نرى الكتاب العزيز يذكر بعض هذه الحقائق الثلاث في بعض الآيات ويسكت عن الأخرى لأن المقام يقتضي ذلك ولكل مقام مقال، ولكنه ينكر على من يجحد شيئا منها جحوده ويبين للناس خطأه وضلاله، كما بين خطأ الذين قالوا ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ في موضع وبين خطأ من ينكر مشيئته تعالى في موضع آخر، فهو ينكر على من ينكر ما آتاه الله من المواهب والقوى ويكفر له نعمة العلم والإرادة والقدرة لا سيما في مقام الاعتذار عن تقصيره في شكر هذه القوى باستعمالها في الخير والحق، كما ينكر من يغفل عن كونه تعالى هو المنعم بهذه القوى التي يجلب بها الخير عندما تبطره النعمة فينسبها لنفسه وحده وينسى ذكر ربه وشكره، وقد جمع تعالى بين الأمرين في بعض المواضع كقوله في سورة النساء: ﴿أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة، وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كل من عند الله، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا﴾ [الناس: 28 ـ 29]
10. حرصوا بأن هذه الآيات نزلت في قوم من المسلمين آمنوا، ثم لما علموا بأنه كتب عليهم القتال ضعفوا وأنكروا وقالوا ما قالوا احتجاجا لأنفسهم واعتذارا عنها، فأجابهم تعالى مبينا لهم الحقيقة الأولى، وهي أن كل شيء من الله من حيث إنه الخالق للقوى والواضع للسنن والمقادير، ثم بين لهم الفرع الذي اقتضى المقام بيانه من فروع الحقيقة الثانية، وهو أن الحسنة التي تصيب الإنسان هي من عند الله بمعنى أنه خالقها وواضع السنن الطبيعية الاجتماعية التي يوصل بها إليها والخالق للقوى الكاسبة لأسبابها، فينبغي أن يذكر عندها ليشكر عليها وأن السيئة التي تصيبه من عند نفسه بمعنى أنه الكاسب لها والمنحرف عن سنن الله وشريعته في طريق تحصيلها، فيجب أن يرجع على نفسه باللائمة ويردها إلى التوبة كذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها قد جمعت بين الحقيقتين، الأولى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ والثانية قوله: ﴿لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ أي لما حصل القتل الثابت في علم الله تعالى إلا ببروزهم من بيوتهم إلى مواضع القتال التي يصرعون فيها، وبروزهم هذا هي أعمالهم الاختيارية: فليس في الآية محال ولا نصر لمذهب على مذهب، وإنما هي جامعة للحقائق مستعلية على جميع المذاهب، مبطلة لكل من دعوى الجبر المحض والتعطيل المحض ودعوى الذبذبة بينهما، ويؤيد إثباتها لحقيقة عمل الإنسان واختياره الآية الكريمة التالية وهي: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾
__________
(1) تفسير المنار: 4/186.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ أي ثم وهبكم من بعد الغم الذي اعتراكم أمنا أزال عنكم الخوف الذي كان بكم، حتى نعستم وغلبكم النوم، لتستردوا ما فقدتم من القوة بما أصابكم من القرح وما عرض لكم من الضعف، والنوم نعمة كبرى لمن يصاب بمثل تلك المصائب، وعناية من الله يخص بها بعض عباده في مثل تلك المحن ليخفف وقعها على النفوس.
2. ﴿يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ قال ابن عباس هم المهاجرون وعامة الأنصار الذين كانوا على بصيرة في إيمانهم، ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ يقال همنى الشيء أي كان من همى وقصدى أي وجماعة من المنافقين كعبد الله بن أبىّ ومعتب بن قشير ومن لف لفهم، قد شغلوا بأنفسهم عن الرسول والدفاع عن الدين.
3. خلاصة هذا: إن المؤمنين بعد انتهاء الموقعة صاروا فريقين:
أ. فريق ذكروا ما أصابهم فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم، وذكروا وعد الله بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم، ووثقوا بوعد ربهم، وأيقنوا أنهم إن غلبوا هذه المرة بسبب ما أصابهم من الفشل والتنازع وعصيان الرسول، فإن الله سينصرهم بعد، فأنزل الله عليهم النعاس أمنة حتى يستردوا ما فقدوا من قوة، ويذهب عنهم ما عرض لهم من ضعف.
ب. فريق أذهلهم الخوف حتى صاروا مشغولين عن كل ما سواهم، إذ الوثوق بوعد الله ووعد رسوله لم يصل إلى قرارة نفوسهم، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم، لا جرم عظم الخوف لديهم، وحق عليهم ما وصفهم الله به من قوله: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ غير الحق أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظنوه، إذ كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد نبيا حقا ما سلط الله عليه الكفار، وهذا مقال لا يقوله إلا أهل الشرك بالله.
4. ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار: هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب؟ يعنون أنه ليس لهم من ذلك شيء، لأن الله سبحانه وتعالى لا ينصر محمدا ، فهم قد فهموا أن النصر وحقية الدين متلازمان، فما حدث في ذلك اليوم دليل على أن هذا الدين ليس بحق، وهذا خطأ كبير، فإن نصر الله رسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا ولكن العاقبة للمتقين.
5. ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ أي إن كل أمر يجرى فهو بحسب سننه تعالى في الخليقة، ووفق النظم التي وضعها، وربط فيها الأسباب بالمسببات، ومن ذلك نصر من ينصره من المؤمنين كما وعد بذلك في قوله: ﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ وقوله: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾
6. ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾ أي يضمرون في أنفسهم ما لا يستطيعون إعلانه لك، فهم يظهرون أنهم يسألون مسترشدين طالبين النصر بقولهم ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ويبطنون الإنكار والتكذيب.
7. ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ أي يقولون لو كان أمر النصر والظفر بأيدينا كما ادعى محمد أن الأمر كله لله ولأوليائه، وأنهم الغالبون لما غلبنا، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة، وهذا منهم تقرير لرأيهم واستدلال عليه بما وقع لهم، وقد غفلوا عن أن الآجال محدودة، والأعمار موقوتة بوقت لا تعدوه، ومن ثم أمر الله نبيه أن يجيبهم بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ أي لو كنتم في بيوتكم ولم تخرجوا للقتال ـ لخرج من بينكم من انتهت آجالهم وثبت في علم الله أنهم يقتلون إلى حيث يقتلون ويسقطون في البراز (الأرض المستوية) فتكون مصارع ومضاجع لهم.
8. الخلاصة ـ إن الحذر لا يدفع القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير؛ فالذين قدر عليهم القتل لا بد أن يقتلوا على كل حال، وإلا انقلب علم الله جهلا، فقتل من قتل إنما جاء لانتهاء آجالهم كما قدر ذلك في اللوح المحفوظ، وكتب مع ذلك أنهم هم الغالبون، وأن العاقبة لهم، وأن دين الإسلام سيظهر على الدين كله.
9. ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ أي وقد فعل ذلك ليكون القتل عاقبة من انتهت آجالهم، وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص وعدمه، فيظهر ما انطوت عليه من ضعف وقوة، ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان، ويطهرها حتى تصل إلى الغاية القصوى من الإيقان، وقد قيل: لا تكرهوا الفتن، فإنها حصاد المنافقين.
10. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي عليم بالأسرار والضمائر، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وفي هذا ترغيب وترهيب، وتنبيه إلى أن الله غنى عن الابتلاء والامتحان، وإنما يظهر ذلك على هذه الصورة لحكم يعلمها كمران المؤمنين على الصبر وتحمل المشاق وإظهار حال المنافقين، لأن الحقائق قد تخفى على أربابها، فينخدعون للشعور العارض بدون تمحيص ولا ابتلاء، كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه كما تقدم.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/104.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أعقب هول الهزيمة وذعرها، وهرجها ومرجها، سكون عجيب، سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم، وثابوا إلى نبيهم، لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين! والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم، حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾، وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين؛ فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين، ولو لحظة واحدة، يفعل في كيانهم فعل السحر، ويردهم خلقا جديدا، ويسكب في قلوبهم الطمأنينة، كما يسكب في كيانهم الراحة، بطريقة مجهولة الكنه والكيف! أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة، فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة!
2. أما الطائفة الأخرى؛ فهم ذوو الإيمان المزعزع، الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم، والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية، ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة، ولم يستسلموا بكليتهم لقدره، ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص، وليس تخليا من الله عن أوليائه لأعدائه، ولا قضاء منه سبحانه للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾
3. إن هذه العقيدة تعلم أصحابها ـ فيما تعلم ـ أن ليس لهم في أنفسهم شيء، فهم كلهم لله؛ وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له، ويتحركون له، ويقاتلون له، بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد، وأنهم يسلمون أنفسهم لقدره، فيتلقون ما يأتيهم به هذا القدر في رضى وفي تسليم، كائنا هذا القدر ما يكون.
4. أما الذين تهمهم أنفسهم، وتصبح محور تفكيرهم وتقديرهم، ومحور اهتمامهم وانشغالهم.. فهؤلاء لم تكتمل في نفوسهم حقيقة الإيمان، ومن هؤلاء كانت تلك الطائفة الأخرى التي يتحدث عنها القرآن في هذا الموضع، طائفة الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم، فهم في قلق وفي أرجحة، يحسون أنهم مضيعون في أمر غير واضح في تصورهم، ويرون أنهم دفعوا إلى المعركة دفعا ولا إرادة لهم فيها؛ وهم مع ذلك يتعرضون للبلاء المرير، ويؤدون الثمن فادحا من القتل والقرح والألم.. وهم لا يعرفون الله على حقيقته، فهم يظنون بالله غير الحق، كما تظن الجاهلية، ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه سبحانه مضيعهم في هذه المعركة، التي ليس لهم من أمرها شيء، وإنما دفعوا إليها دفعا ليموتوا ويجرحوا، والله لا ينصرهم ولا ينقذهم؛ إنما يدعهم فريسة لأعدائهم، ويتساءلون: (هل لنا من الأمر من شيء؟)
5. ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ تتضمن قولتهم هذه الاعتراض على خطة القيادة والمعركة.. ولعلهم ممن كان رأيهم عدم الخروج من المدينة؛ ممن لم يرجعوا مع عبد الله بن أبي.. ولكن قلوبهم لم تكن قد استقرت واطمأنت.
6. وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم، يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه، ويرد على قولتهم: (هل لنا من الأمر من شيء؟): ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ فلا أمر لأحد، لا لهم ولا لغيرهم، ومن قبل قال الله لنبيه : ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، فأمر هذا الدين، والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض، وهداية القلوب له.. كلها من أمر الله، وليس للبشر فيها من شيء، إلا أن يؤدوا واجبهم، ويفوا ببيعتهم، ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون!
7. ويكشف كذلك خبيئة نفوسهم قبل أن يكمل عرض وساوسهم وظنونهم: ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾، فنفوسهم ملأى بالوساوس والهواجس، حافلة بالاعتراضات والاحتجاجات؛ وسؤالهم: (هل لنا من الأمر من شيء).. يخفي وراءه شعورهم بأنهم دفعوا إلى مصير لم يختاروه! وأنهم ضحية سوء القيادة، وأنهم لو كانوا هم الذين يديرون المعركة ما لاقوا هذا المصير.
8. ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ وهو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص للعقيدة، حينما تصطدم في موقعة بالهزيمة، وحينما تعاني آلام الهزيمة! حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن؛ وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع؛ وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحا ولا مستقرا؛ وحين تتخيل أن تصرف القيادة هو الذي ألقى بها في هذه المهلكة، وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها! وهي لا يمكن ـ بهذا الغبش في التصور ـ أن ترى يد الله وراء الأحداث، ولا حكمته في الابتلاء، إنما المسألة كلها ـ في اعتبارها ـ خسارة في خسارة! وضياع في ضياع!
9. هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله، لأمر الحياة والموت، ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ قل لو كنتم في بيوتكم؛ ولم تخرجوا للمعركة تلبية لنداء القيادة، وكان أمركم كله لتقديركم.. لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم.. إن هنالك أجلا مكتوبا لا يستقدم ولا يستأخر، وإن هنالك مضجعا مقسوما لا بد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه! فإذا حم الأجل، سعى صاحبه بقدميه إليه، وجاء إلى مضجعه برجليه، لا يسوقه أحد إلى أجله المرسوم، ولا يدفعه أحد إلى مضجعه المقسوم! ويا للتعبير العجيب.
10. ﴿إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾.. فهو مضجع إذن ذلك الرمس الذي تستريح فيه الجنوب، وتسكن فيه الخطى، وينتهي إليه الضاربون في الأرض.. مضجع يأتون إليه بدافع خفي لا يدركونه ولا يملكونه، إنما هو يدركهم ويملكهم؛ ويتصرف في أمرهم كما يشاء، والاستسلام له أروح للقلب، وأهدأ للنفس، وأريح للضمير!
11. إنه قدر الله، ووراءه حكمته: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾، فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور، ويصهر ما في القلوب، فينفي عنها الزيف والرياء، ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء.. فهو الابتلاء والاختيار لما في الصدور، ليظهر على حقيقته، وهو التطهير والتصفية للقلوب، فلا يبقى فيها دخل ولا زيف، وهو التصحيح والتجلية للتصور؛ فلا يبقى فيه غبش ولا خلل.
12. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ وذات الصدور هي الأسرار الخفية الملازمة للصدور، المختبئة فيها، المصاحبة لها، التي لا تبارحها ولا تتكشف في النور! والله عليم بذات الصدور هذه، ولكنه سبحانه يريد أن يكشفها للناس، ويكشفها لأصحابها أنفسهم، فقد لا يعلمونها من أنفسهم، حتى تنفضها الأحداث وتكشفها لهم!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/496.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وأكثر من هذا، فإن هذا الغمّ الذي (أثاب) الله به أولئك المؤمنين يومئذ، لم يكن إلا دواء، وفي الدواء مرارة.. شأن كل دواء، ومع هذا، فإن رحمة الله بهم لم تدع هذه المرارة تسكن في نفوسهم، وتستقر في كيانهم.. فما هي إلا أن يفعل الدواء فعله في تسكين الداء، وفي الذهاب به، حتى تجيء رحمة الله فتنتزع تلك المرارة وتذهب بها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ فقد ألقى الله على المسلمين وهم في ذروة المعركة خفقة من نعاس، مرّت بهم مرور النسمة العليلة، فملأت قلوبهم سكينة وأمنا، ومسحت على أجسامهم بيد السلامة والعافية! وعجب أن يطوف النعاس بجفن المحارب، والرّماح تنوشه، والسّهام والسيوف تتعاوره.. ولكنه القلب حين يستخفّ بالموت، والإيمان حين يرتفع بالإنسان فوق هذا التراب الذي تدبّ فوقه قدماه، فإذا هو محلّق في السماء، يعلو فوق كل خطر، ويسمو فوق كل شدّة! والطائفة التي تشير إليها الآية الكريمة، والتي أفرغ الله في قلوبها هذا الأمن، وساق إليها تلك الخفقة من النعاس، هي الطائفة التي ثبتت مع النبي ، سواء من كان منها الذي ثبت طوال المعركة كلّها، أو من انهزم أو فرّ، ثم عاد إلى مكانه من القتال.
2. هناك طائفة أخرى، ممن كانوا مع المسلمين أول الأمر، وعلى رأسهم عبد الله بن أبىّ بن سلول، فإنهم حين أوشك القتال أن يلتحم بين المسلمين وبين المشركين، انحاز بهم صاحبهم جانبا، متذرّعين بتلك الكلمة المنافقة، التي حكاها القرآن الكريم عنهم.
3. في قوله تعالى: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ وهم يعلمون يقينا أن القتال وشيك بين المسلمين وبين المشركين، ولكنهم لكى يجدوا لأنفسهم عذرا في النكوص على أعقابهم قالوا تلك القولة الكاذبة التي حكاها القرآن عنهم.
4. هذه الطائفة لم يكن لها من هذا الأمن الذي سكبه الله في قلوب المؤمنين، نصيب، وهى التي أشار الله سبحانه وتعالى إليها بقوله: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾، فهذه الطائفة، طائفة ابن سلول، قد أهمتهم أنفسهم، ولم يكن همّهم الإسلام، ولا الدفاع عنه.. بل طلبوا السلامة لأنفسهم أولا، فتجنبوا المعركة، ووقفوا بعيدا ينتظرون من تدور الدائرة عليه، من الفئتين المقاتلتين.
5. في قوله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ اتهام لهؤلاء الذين أهمّتهم أنفسهم، ومواجهة لهم بالجرم الذي ارتكبوه.. إنهم يظنون بالله ظنّ السّوء، فيكذّبون بما وعدهم الله به، وينظرون إلى الله تلك النظرة الباردة التي كانوا ينظرون بها إلى آلهتهم من الأصنام التي كانوا يعبدونها، فيجعلون حساب الله عندهم كحساب هذه الأصنام، حتى لكأن الإسلام لم يغيّر من حالهم في جاهليتهم شيئا.
6. في قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ كشف لبعض ظنونهم السيئة بالله.. فهم يسألون في استبعاد واتهام ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾، والأمر الذي يسألون أو يتساءلون عنه هو أمر النصر والغلب الذي وعد الله به النبيّ والمؤمنين.
7. وقد أمر الله الرسول أن يجيبهم بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾.. فلو كانوا مؤمنين بالله حقّا لما سألوا هذا السؤال، ولعلموا أن كل شيء بيد الله، وليد الله.. ولكان عليهم أن يستقيموا على ما دعاهم الله إليه من الجهاد، معتصمين بالصبر والتقوى.. ثم ليستقبلوا ما يكون بعد ذلك من نصر أو هزيمة، فإن كان النصر، حمدوا الله وشكروا له، وإن كانت الهزيمة أسلموا أمرهم لله، وصبروا على ما أصابهم.. وقالوا قولة المؤمنين عند لقاء الأمور على وجوهها المختلفة: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾ يكشف للنبيّ عن دخيلة هؤلاء الضعاف الإيمان، وأنهم يقولون في أنفسهم، أي فيما بين المرء ونفسه، أو فيما بين بعضهم وبعض ـ يقولون شيئا غير هذا الذي واجهوا به النبي والمسلمين في قولهم: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ فهذا السؤال على ما فيه خبث، وضعف إيمان، يمكن أن يقبل منهم، ويحمل على الجهل وسوء الظن بالله.
8. لكن الذي يدور في أنفسهم، ويجرى فيما بينهم، هو اتهام صريح لله، وتجديف عليه، يكاد يكون ردّة عن الإسلام.. وهذا ما فضحه الله منهم وأعلنه على العالمين، في قوله سبحانه: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ إنهم ـ هنا ـ يقولونها صريحة، بأن ما وعدهم الله لم يكن إلا غرورا، وأنه لو كان هذا الوعد حقّا، لما كانت هذه الدائرة التي دارت على المسلمين، وذهبت بكثير من النفوس.
9. في قولهم: ﴿مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ بإضافة القتل إليهم، مع أنهم لم يقتلوا، بل ولم يقاتلوا ـ في هذا القول ما يكشف عن مدى إيمانهم بهذا القول المنكر، وأنه هو القول الذي كان ينبغي أن يكون لسان حال المسلمين جميعا، حسب تصويرهم وتقديرهم.
10. وقد ردّ الله عليهم بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ أي أن هذا القتل الذي وقع في المسلمين لم يكن يعصمهم منه عاصم، فما هو إلا أجل قد انقضى، وموت أنهى هذا الأجل عند انقضائه، على الصورة التي قضى الله أن ينتهى به عليها، فهؤلاء الذين استشهدوا في أحد، قد كتب الله عليهم أن يقتلوا في هذا الوقت، وفي هذا المكان، وأن يكرموا بالشهادة.. وليس في الوجود قوة تمنع قضاء الله أن ينفذ على الوجه الذي أراده، وقضى به.
11. قوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ معطوف على مفهوم من قوله تعالى: ﴿لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾.. أي لو لزمتم بيوتكم، وأصررتم على التزامها، لدعا قضاء الله الذي قضاه على هؤلاء الذين قتلوا، أن يخرجوا إلى حيث التقوا بالعدوّ، وإلى حيث دارت المعركة، وسقط القتلى، فذلك أمر قضى الله به فيمن أراد قتله، وليبتلى ما في قلوبكم أيها المجدفون على الله، من ضعف، وليخرج ما في صدوركم من نفاق.. فلولا هذه المحنة وما كان فيها، لما ظهر ضعف إيمانكم، ولما استعان نفاقكم للمؤمنين.. وهذا بعض حكمة الابتلاء الذي يبتلى الله به المؤمنين، فيما فرضه عليهم من جهاد الكافرين والمنافقين!
12. في قوله تعالى، ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بيان لسعة علم الله، ونفوذه إلى كل خفىّ.. فعلم ـ سبحانهـ لا يقف عند ظواهر الأشياء، ولكنه ينفذ إلى كل ذرة من ذراتها، وإلى كل دقيقة من دقائقها، وذات الشيء: حقيقته، وكنهه، وما اشتمل عليه من أسرار وخفايا، وذات الصدور، حقيقتها، وما تلبّس بها من خفايا وأسرار.. فالصدور وما تكنّ، والضمائر وما تجنّ، يعلم منها الله ما لا يعلم صاحبها.. فسبحانه، سبحانه، وسع كل شيء علما!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/618.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الضمير في قوله: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ﴾ ضمير اسم الجلالة، وهو يرجّح كون الضمير ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ مثله لئلا يكون هذا رجوعا إلى سياق الضمائر المتقدّمة من قوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ والمعنى ثمّ أغشاكم بالنعاس بعد الهزيمة، وسمّي الإغشاء إنزالا لأنّه لمّا كان نعاسا مقدّرا من الله لحكمة خاصّة، كان كالنازل من العوالم المشرّفة كما يقال: نزلت السكينة.
2. الأمنة ـ بفتح الميم ـ الأمن، والنعاس: النوم الخفيف أو أوّل النّوم، وهو يزيل التعب ولا يغيّب صاحبه، فلذلك كان أمنة إذ لو ناموا نوما ثقيلا لأخذوا، قال أبو طلحة الأنصاري، والزبير، وأنس بن مالك: غشينا نعاس حتّى أنّ السيف ليسقط من يد أحدنا، وقد استجدّوا بذلك نشاطهم، ونسوا حزنهم، لأنّ الحزن تبتدئ خفّته بعد أوّل نومة تعفيه، كما هو مشاهد في أحزان الموت وغيرها، و(نعاسا) بدل على (أمنة) بدل مطابق، وكان مقتضى الظاهر أن يقدّم النعاس ويؤخّر أمنة: لأنّ أمنة بمنزلة الصفة أو المفعول لأجله فحقّه التقديم على المفعول كما جاء في آية الأنفال [11]: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ ولكنّه قدّم الأمنة هنا تشريفا لشأنها لأنّها جعلت كالمنزل من الله لنصرهم، فهو كالسكينة، فناسب أن يجعل هو مفعول أنزل، ويجعل النعاس بدلا منه.
3. قرأ الجمهور: يغشى ـ بالتحتية ـ على أنّ الضّمير عائد إلى نعاس، وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف ـ بالفوقية ـ بإعادة الضّمير إلى أمنة، ولذلك وصفها بقوله: ﴿مِنْكُمْ﴾
4. لمّا ذكر الله تعالى حال طائفة المؤمنين، تخلّص منه لذكر حال طائفة المنافقين، كما علم من المقابلة، ومن قوله: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، ومن ترك وصفها بمنكم كما وصف الأولى.
5. ﴿وَطَائِفَةٌ﴾ مبتدأ وصف بجملة ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾، وخبره جملة ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ والجملة من قوله: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ اعتراض بين جملة ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ﴾ الآية، وجملة ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ [آل عمران: 155] الآية.
6. معنى ﴿أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ أي حدّثتهم أنفسهم بما يدخل عليهم الهمّ وذلك بعدم رضاهم بقدر الله، وبشدّة تلهفهم على ما أصابهم وتحسّرهم على ما فاتهم ممّا يظنّونه منجيا لهم لو عملوه: أي من الندم على ما فات، وإذ كانوا كذلك كانت نفوسهم في اضطراب وتحرّق يمنعهم من الاطمئنان ومن المنام، وهذا كقوله الآتي: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 156]، وقيل معنى ﴿أَهَمَّتْهُمْ﴾ أدخلت عليهم الهمّ بالكفر والارتداد، وكان رأس هذه الطائفة معتّب بن قشير.
7. جملة ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ إمّا استئناف بياني نشأ عن قوله: ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ وإمّا حال من (طائفة)، ومعنى ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ أنّهم ذهبت بهم هواجسهم إلى أن ظنوا بالله ظنونا باطلة من أوهام الجاهلية، وفي هذا تعريض بأنّهم لم يزالوا على جاهليتهم لم يخلصوا الدين لله، وقد بيّن بعض ما لهم الظنّ بقوله: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ وهل للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، بقرينة زيادة (من) قبل النكرة، وهي من خصائص النفي، وهو تبرئة لأنفسهم من أن يكونوا سببا في مقابلة العدوّ، حتّى نشأ عنه ما نشأ، وتعريض بأنّ الخروج للقتال يوم أحد خطأ وغرور، ويظنّون أنّ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس برسول إذ لو كان لكان مؤيّدا بالنصر.
8. القول في ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ بدل اشتمال من جملة ﴿يَظُنُّونَ﴾ لأنّ ظنّ الجاهلية يشتمل على معنى هذا القول، ومعنى ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ أي من شأن الخروج إلى القتال، أو من أمر تدبير النّاس شيء، أي رأي ما قتلنا هاهنا، أي ما قتل قومنا، وليس المراد انتفاء القتل مع الخروج إلى القتال في أحد، بل المراد انتفاء الخروج إلى أحد الّذي كان سببا في قتل من قتل، كما تدلّ عليه قرينة الإشارة بقوله: (هاهنا)، فالكلام كناية، وهذا القول قاله عبد الله بن أبي ابن سلول لمّا أخبروه بمن استشهد من الخزرج يومئذ، وهذا تنصّل من أسباب الحرب وتعريض بالنّبيء ومن أشار بالخروج من المؤمنين الّذين رغبوا في إحدى الحسنيين.
9. إنّما كان هذا الظنّ غير الحقّ لأنّه تخليط في معرفة صفات الله وصفات رسوله وما يجوز وما يستحيل، فإنّ لله أمرا وهديا وله قدر وتيسير، وكذلك لرسوله الدعوة والتشريع وبذل الجهد في تأييد الدّين وهو في ذلك معصوم، وليس معصوما من جريان الأسباب الدنيوية عليه، ومن أن يكون الحرب بينه وبين عدوّه سجالا، قال أبو سفيان لهرقل وقد سأله: كيف كان قتالكم له؟ فقال أبو سفيان: ينال منّا وننال منه، فقال هرقل: وكذلك الإيمان حتّى يتمّ، فظنّهم ذلك ليس بحقّ.
10. بيّن الله تعالى أنّه ظنّ الجاهلية الّذين لم يعرفوا الإيمان أصلا فهؤلاء المتظاهرون بالإيمان لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقيت معارفهم كما هي من عهد الجاهلية، والجاهلية صفة جرت على موصوف محذوف يقدّر بالفئة أو الجماعة، وربما أريد به حالة الجاهلية في قولهم أهل الجاهلية، وقوله تعالى: ﴿تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ والظاهر أنّه نسبة إلى الجاهل أي الّذي لا يعلم الدين والتّوحيد، فإنّ العرب أطلقت الجهل على ما قابل الحلم، قال ابن الرومي:
çبجهل كجهل السيف والسيف منتضى...وحلم كحلم السيف والسيف مغمدé
وأطلقت الجهل على عدم العلم قال السموأل: (فليس سواء عالم وجهول)، وقال النابغة: (وليس جاهل شيء مثل من علما)، وأحسب أن لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن، وصف به أهل الشرك تنفيرا من الجهل، وترغيبا في العلم، ولذلك يذكره القرآن في مقامات الذمّ في نحو قوله: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة: 50] ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب: 33] ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [الفتح: 26]، وقال ابن عبّاس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: (اسقنا كأسا دهاقا)، وفي حديث حكيم بن حزام: أنّه سأل النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أشياء كان يتحنّث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم، وقالوا: شعر الجاهلية، وأيّام الجاهلية، ولم يسمع ذلك كلّه إلّا بعد نزول القرآن وفي كلام المسلمين.
11. ﴿غَيْرَ الْحَقِّ﴾ منتصب على أنّه مفعول ﴿يَظُنُّونَ﴾ كأنّه قيل الباطل، وانتصب قوله: ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ على المصدر المبيّن للنوع إذ كلّ أحد يعرف عقائد الجاهلية إن كان متلبّسا بها أو تاركا بها.
12. جملة ﴿يَخْفَوْنَ﴾ حال من الضّمير في ﴿يَقُولُونَ﴾ أي يقولون ذلك في حال نيّتهم غير ظاهره، فـ ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾ إعلان بنفاقهم، وأنّ قولهم: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ وقولهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ هو وإن كان ظاهره صورة العتاب عن ترك مشورتهم فنيّتهم منه تخطئة النّبي في خروجه بالمسلمين إلى أحد، وأنّهم أسدّ رأيا منه.
13. جملة ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ بدل اشتمال من جملة ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ إذ كانوا قد قالوا ذلك فيما بينهم ولم يظهروه، أو هي بيان لجملة ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ إذا أظهروا قولهم للمسلمين، فترجع الجملة إلى معنى بدل الاشتمال من جملة ﴿يَظُنُّونَ﴾ لأنها لما بينت جملة هي بدل فهي أيضا كالتي بينتها، وهذا أظهر لأجل قوله بعده: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ فإنّه يقتضي أنّ تلك القالة فشت وبلغت الرسول، ولا يحسن كون جملة ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ﴾ إلى آخره مستأنفة خلافا لما في (الكشاف)
14. وهذه المقالة صدرت من معتّب بن قشير قال الزبير بن العوّام: غشيني النّعاس فسمعت معتّب بن قشير يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا، فحكى القرآن مقالته كما قالها، وأسندت إلى جميعهم لأنّهم سمعوها ورضوا بها.
15. جملة ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ ردّ عليهم هذا العذر الباطل أي أنّ الله ورسوله غير محتاجين إلى أمركم، والجملة معترضة، وقرأ الجمهور: كلّه ـ بالنصبـ تأكيدا لاسم إنّ، وقرأه أبو عمرو، ويعقوبـ بالرفع ـ على نيّة الابتداء، والجملة خبر إنّ.
16. ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ لقن الله رسوله الجواب عن قولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا، والجواب إبطال لقولهم، وتعليم للمؤمنين لدفع ما عسى أن يقع في نفوسهم من الريب، إذا سمعوا كلام المنافقين، أو هو جواب للمنافقين ويحصل به علم للمؤمنين، وفصلت الجملة جريا على حكاية المقاولة كما قرّرنا غير مرّة، وهذا الجواب جار على الحقيقة وهي جريان الأشياء على قدر من الله والتسليم لذلك بعد استفراغ الجهد في مصادفة المأمول، فليس هذا الجواب ونظائره بمقتض ترك الأسباب، لأنّ قدر الله تعالى وقضاءه غير معلومين لنا إلّا بعد الوقوع، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفا عن مصادفة قدر الله لمأمولنا، فإن استفرغنا جهودنا وحرمنا المأمول، علمنا أنّ قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا، فأمّا ترك الأسباب فليس من شأننا، وهو مخالف لما أراد الله منّا، وإعراض عمّا أقامنا الله فيه في هذا العالم وهو تحريف لمعنى القدر، والمعنى: لو لم تكونوا هاهنا وكنتم في بيوتكم لخرج الّذين كتب الله عليهم أن يموتوا مقتولين فقتلوا في مضاجعهم الّتي اضطجعوا فيها يوم أحد أي مصارعهم فالمراد بقوله: ﴿كُتُبٌ﴾ قدّر، ومعنى ﴿لَبَرَزَ﴾ خرج إلى البراز وهو الأرض.
17. المضاجع جمع مضجع ـ بفتح الميم وفتح الجيم ـ وهو محلّ الضجوع، والضجوع: وضع الجنب بالأرض للراحة والنّوم، وفعله من باب منع ومصدره القياسي الضجع، وأمّا الضجوع فغير قياسي، ثمّ غلب إطلاق المضجع على مكان النّوم قال تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة: 16] وفي حديث أمّ زرع: (مضجعه كمسلّ شطبة)، فحقيقة الضجوع هو وضع الجنب للنّوم والراحة وأطلق هنا على مصارع القتلى على سبيل الاستعارة، وحسّنها أنّ الشهداء أحياء، فهو استعارة أو مشاكلة تقديرية لأنّ قولهم، ما قتلنا هاهنا يتضمّن معنى أنّ الشهداء كانوا يبقون في بيوتهم متمتّعين بفروشهم.
18. ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ عطف على قوله: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ [آل عمران: 153] وما بينهما جمل بعضها عطف على الجملة المعلّلة، وبعضها معترضة، فهو خطاب للمؤمنين لا محالة، وهو علّة ثانية لقوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ [آل عمران: 153]، والصّدور هنا بمعنى الضّمائر، والابتلاء: الاختبار، وهو هنا كناية عن أثره، وهو إظهاره للنّاس والحجّة على أصحاب تلك الضّمائر بقرينة قوله: ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ كما تقدّم في قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران: 140]
19. التمحيص تخليص الشيء ممّا يخالطه ممّا فيه عيب له فهو كالتزكية، والقلوب هنا بمعنى العقائد، ومعنى تمحيص ما فيه قلوبهم تطهيرها ممّا يخامرها من الريب حين سماع شبه المنافقين الّتي يبثّونها بينهم.
20. أطلق الصدور على الضّمائر لأنّ الصدر في كلام العرب يطلق على الإحساس الباطني، وفي الحديث: (الإثم ما حاك في الصّدر)، وأطلق القلب على الاعتقاد لأنّ القلب في لسان العرب هو ما به يحصّل التفكّر والاعتقاد، وعدّي إلى الصّدور فعل الابتلاء لأنّه اختبار الأخلاق والضّمائر: ما فيها من خير وشرّ، وليتميّز ما في النفس، وعدّي إلى القلوب فعل التمحيص لأنّ الظنون والعقائد محتاجة إلى التمحيص لتكون مصدر كلّ خير.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/257.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآية الكريمة موصولة بما قبلها، فهي تبين ما أصاب القلوب التي توهمت أنها انهزمت بعد موقعة أحد، وقد بين في الآيات السابقة أنها أصابها غم كان كثيفا على النفوس، وفي هذه الآية يبين ما حدث بعد الغم، فذكر سبحانه أن قلوب المؤمنين بعد هذا الغم اعتراها الاطمئنان إلى قدر الله تعالى المقدور، وثقتهم في المستقبل تحقيقا لوعده بنصر عبده ونبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والاطمئنان هو سبيل التدبير المحكم، والقلق لما كان في الماضي يجعل العقل مأخوذا بحوادثه فلا يفكر ولا يدبر، ولا يتحفز ويتوثب للمقاتلة مرة أخرى، ولقد قال تعالى في وصف حال المؤمنين التي أفاضها عليهم بعد الغم المتولى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ أمنة: مصدر بمعنى الأمن، وقرئ: (أمنة) بتسكين الميم، وهى مصدر بمعنى المرة من الأمن، وقد بين سبحانه نوع الأمن أو مظهره، بقوله:
2. ﴿نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ والنعاس فتور مع استراحة من غير فزع ولا قلق وهو النوم الهادئ، ومعنى يغشى: يغطى، أي أنه يغطى الحس، ويستر الإدراك والتنبه، والمعنى أنه سبحانه وتعالى أفاض وأنزل بعد الغم الذي غمر النفوس بالألم أمنا كان مظهره نعاسا اطمأنت فيه النفوس واسترخت الأعضاء واستسلمت لمقادير الله تعالى وإرادته في خلقه ونصره دينه، مطرحين الماضي مكتفين منه بالعبرة ومتخذين منه نورا يضيء للمستقبل بخطئه وبصوابه.
3. ذكر الله سبحانه وتعالى النعاس مظهرا للاطمئنان قبل واقعة بدر، فقال تعالى: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ [الأنفال]، وفي غزوة أحد كان النعاس مظهر الاطمئنان والتسليم لله سبحانه وتعالى والثقة بالمستقبل ـ بعد الفزع والهلع والاضطراب.
4. تلك الطائفة التي غشيها النعاس واطمأنت بعد الاضطراب، وآمنت بأن ما كان كان بخطإ من بعضهم، وأنه عبرة لأولى الأبصار ـ هم المؤمنون الصادقو الإيمان الذين يريدون ما عند الله تعالى، ولا يبتغون غير رضاه، ولقد اعتبرهم القرآن وحدهم الأهل للخطاب، لأنهم هم الذين يعدون ذخيرة المستقبل، وجند الله الغالب، ولذلك قال: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً﴾ وإن أمنهم ونومهم مع أن الجراح قد أثقلتهم، والاضطراب كان قد أذهلهم، دليل على عمران قلوبهم بذكر الله وصدق وعده: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد]
5. الطائفة التي لم تكن على هذه القوة والإيمان ذكرها سبحانه على أنها خارجة على الخطاب، وكأنها ليست من المؤمنين فقال تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، لأن نسق الآية يومئ إلى أنها بعيدة عن الخطاب، قال أكثر العلماء: إنها من المنافقين، أي أن هذه الطائفة ليست مؤمنة، بل كافرة تظهر الإسلام وتبطن غيره، ولكن الأوصاف التي ذكرت لها من بعد تومئ إلى أنهم من ضعاف المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بأن في قلوبهم مرضا ـ في غير هذا الموضع؛ وذلك لأن الله تعالى يصفهم بأنهم يظنون ظن الجاهلية، وهذا يفيد أنهم ليسوا من أهل الجاهلية، وهم يعتذرون لأنفسهم بالقضاء والقدر، والله سبحانه وتعالى بيّن أن ما نزل كان للابتلاء والتمحيص وأدخلهم فيه، وليس كذلك المنافقون، والنص يومئ إلى أنه كانت فيهم جراح، والمنافقون لم يخوضوا غمار الحرب، فلا جراح فيهم، ولا قتل، وهؤلاء كان فيهم قتل.
6. في الحق إن غزوة أحد كان فيها عدد من ضعاف الإيمان، إذ قال سبحانه: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران]، وعلى ذلك نقول: إن هؤلاء كانوا من ضعاف الإيمان لا من المنافقين.
7. وصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء بأنهم أهمتهم أنفسهم، وبأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وكلمة (أهم) مأخوذ من الهم، والهم ما يهم به الإنسان، وما يحزنه، يقال: همنى الأمر بمعنى أذابنى من الحزن، ومعنى أهمتهم أنفسهم، جعلتهم لا يجعلون لهم أمرا يهتمون به سواها، فلا يهمهم شأن الإسلام، انتصر أو انهزم، ولا شأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحابته، بل الذي يهمهم وحده هو أنفسهم، أو يكون المعنى: أوقعوا أنفسهم في الهم والحزن بعدم اطمئنانهم وعدم صبرهم وجزعهم المستمر، وإن المرء إذا لم يكن له تفكير إلا في نفسه، ولا يهمه شيء سواها، أضفى عليها المعاذير إذا قصرت، وجعل السبب من غيرها لا منها، ومن هنا يجيء الوصف الثاني، وهو ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾
8. الظن هنا ليس هو الاعتقاد الجازم، بل هو الوهم الملازم للضعف، المسيطر على النفس، وقوله: ﴿غَيْرَ الْحَقِّ﴾ مفعول مطلق وصف لمصدر محذوف، والمعنى يظنون ويتوهمون بالله ظنا ليس هو الحق، ولا الذي يجب أن يظن بالله تعالى، وهو العدل والمعاونة الصادقة، والتأييد عند الثبات، وقد بين سبحانه وتعالى ذلك الظن غير الحق والذى لا ينبغي أن يظن بالله تعالى، بينه بطريق عطف البيان، أو البدل المبين فقال: ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ وشأن أهل الجاهلية أن يطرحوا عن أنفسهم التبعات، ويدعوا ألا مسئولية عليهم، وأن الأمر للمقادير وحدها إذ كانت النتيجة على غير ما يبغون، ولذا قال سبحانه في تفسير ظن الجاهلية: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾
9. ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ هذا القول هو مظهر الظن الباطل الذي ظنوه بالله سبحانه وتعالى، والاستفهام هنا استفهام إنكاري بمعنى النفي المطلق الشامل، والمعنى: ليس لنا من الأمر شيء أي شيء، فلسنا مسئولين عن الهزيمة إن انهزمنا، إنما الأمر كله لله تعالى، فأمر النصر والهزيمة بيده، وقد وعدنا بالنصر ولم ننتصر، فهم يلقون عن أنفسهم كل تبعة وكل مسئولية، وإن هذا إنكار للأسباب، وظن جاهلى؛ لأن الجاهلي إذا انتصر فرح وأشر وبطر، وأصابته عزة النصر غير ملتفت إلى إرادة غير إرادته، وإن أصابته كارثة حسبها من المقادير ملقيا عن نفسه كل تبعة، وقد رد سبحانه وتعالى وهمهم بأن أمر النبيّ بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ أي أن تقدير الأمور كلها لله سبحانه وتعالى، لا أمر النصر والهزيمة، فكل شيء عنده بمقدار، ولكنه سبحانه وتعالى خلق كل شيء بحكمته ومشيئته وإرادته وحده، وهو الذي قدر الأسباب ومسبباتها، وربط بين الأفعال ونتائجها، فمن اختلفوا ولم يطيعوا قائدهم، وأقدموا على الغنائم في غير الوقت المعلوم فلا بد أن يحدث عن فعلهم الهزيمة والاضطراب، لأن هذا هو النظام الذي سنه رب البرية في الارتباط بين الأسباب ومسبباتها، فكون الأمر كله لله لا ينفى عنكم التبعة، بل يؤكدها.
10. قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ جملة سامية معترضة بين متلازمين، وهو قولهم: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾
11. وقوله تعالى من بعد ذلك: ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ ظاهر الجملة السابقة أنهم يلقون عن أنفسهم التبعة بتقرير أن أمر النصر بيد الله تعالى، وأنه قد حرمهم منه، وفي هذه الجملة يبين الله سبحانه وتعالى أن لهم غاية يقصدون إليها من وراء هذه الجملة، وهو إثبات أن الذي كان سبب قتلهم ووقوع الهزيمة عليهم هو خروجهم إلى هذا المكان، ولو بقوا في أماكنهم بالمدينة ما قتلوا، وكان في ذلك إشارة إلى ما كان من خلاف عند مجيء المشركين إلى المدينة أيخرج المؤمنون إليهم ليقاتلوهم في أحد أم يبقون في المدينة حتى يقاتلوهم في الأزقة ومن وراء الجدران فلا يبقوا منهم أحدا، وأن الذي اختارته الكثرة هو الخروج، وأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم نزل على حكمها وإن كان يرى غيره، إلى آخر ما كان في هذه المشاورة، وعلى هذا تكون خلاصة المعنى: يخفون بقولهم هل لنا من الأمر من شيء أمرا لا يريدون إبداءه، وهو أنهم لو كان لهم رأى يطاع، وقول يسمع ما خرجوا إلى هذا المكان وقتلوا فيه، بل بقوا في ديارهم آمنين، ولكنه أمر الله تعالى وتقديره، وتطوى هذه الجملة الإشارة إلى أمرين:
أ. أحدهما: أنهم ما كانوا يريدون القتال، ولكنه قدر الله وأمره لهم، وهذا يذكر بقوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ [آل عمران]
ب. الثاني: أنهم ما كانوا يرون الخروج من المدينة للقتال؛ بل ينتظرون حتى يجيء إليهم الأعداء، وأنه لو كان لهم شأن ما خرجوا وما قاتلوا.
12. هم في كلتا الحالين يلقون تبعة الهزيمة عن أنفسهم، ويشيرون إلى أن الخروج لم يكن رأيا حسنا، ولكنه قضاء الله وقدره جعلهم يقعون في هذا الخطأ، وقد رد سبحانه وتعالى ذلك عليهم بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ أي أن الله سبحانه قدر الأمور تقديرا، ولكلّ أجل كتاب، فأولئك الذين كتب عليهم أن يقتلوا في الميدان، لا بد أن يقتلوا، فلو كنتم في بيوتكم، لخرجوا إلى الأماكن التي قتلوا فيها وقتلوا، ومعنى (برز) أي خرج من مكمنه المستور الذي لا يظن الخروج منه، والمضاجع جمع مضجع، وهو مكان النوم، والمراد هنا مكان قتلهم الذي قتلوا فيه وصرعوا وناموا إلى يوم البعث والنشور؛ وهو المكان الذي خرجوا إليه في أحد وماتوا فيه، وفي هذا يدعوهم رب البرية أن يستسلموا لحكمه، ويخضعوا لقدره، ويرضوا به، ويطمئنوا إليه؛ لأن الاطمئنان إلى القدر بعد أخذ الأسباب رضا بحكم الله وقبول لإرادته في خلقه، وعدم الرضا بالقدر تمرد على الخالق، وانزعاج نفسي لا علاج له؛ وإذا كان من الناس من يعيب الرضا بالقدر فهي نزعة إلحاد في النفس، والذين يشكون من المقادير، ويتمردون عليها لا يرضون برب المقادير حكما عدلا وهو اللطيف الخبير، السميع البصير، والرضا بالقدر يلقى في النفس بالاطمئنان والصبر والرضا والقدرة على الاحتمال، والاستعداد للقابل وعدم الالتفات إلى الوراء، فمن لا يؤمن بالقضاء قصير النظر، ومن يؤمن به متجدد الفكر؛ نظره إلى الأمام دائما.
13. ثم قال سبحانه: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ الواو هنا عاطفة؛ والمعطوف عليه فعل دل عليه ما طوى في الكلام السابق، من معنى الدعوة إلى الصبر والاطمئنان والاستجابة للدعوة، لتتعودوا الصبر والاطمئنان والاستجابة للدعوة، ولتتعودوا تحمل الشدائد ولتعرفوا أن الحياة قد اختلط حلوها بمرها، وليبتليكم.
14. معنى قوله سبحانه: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ يعاملكم معاملة المختبر لنفوسكم، فيظهر ما تنطوي عليه فيعالج هذه الأوزار التي تظهر بما يذهب بوضرها ويوجهها نحو الخير، ومعنى يمحص قلوبكم، يزيل ما عساه يعلق بها من أدران، ويطهرها مما يخالطها من ريب يحدث من الشدائد؛ وذلك لأن محص ومحّص في أصل معناهما تخليص الذهب مما يختلط به من مواد غريبة عنه.
15. خلاصة معنى النص الكريم: نزل بكم ما نزل لتتعودوا تحمل الشدائد والمحن، وليظهر الله ما في صدوركم فيصلحها، ويخرج من قلوبكم ما يخالط الإيمان من بعض الأوهام.
16. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ وهو إذ يفعل ذلك يعلم بما في صدوركم، يعلم ما يخالطها وما توسوس به ويعلم مواضع أدوائها، وما تنطوي عليه نفوس الأبرار الأقوياء، ونفوس الضعفاء ونفوس الأشرار، وقد أكد سبحانه وتعالى علمه بخفايا النفوس، بثلاثة تأكيدات: التأكيد الأول: التعبير بالجملة الاسمية الثاني: التعبير بوصف عليم، فهو يعلم صغائر الأمور وجليلها، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض الثالث: التعبير بذات الصدور، فهذا من قبيل ما يشبه التأكيد المعنوي، فمعناه يعلم الصدور ذاتها، فلا يقتصر علمه على ما في الوعاء، بل يعلم الوعاء ذاته.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1460.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾، الذين كانوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد ينقسمون إلى طائفتين:
أ. الأولى كانوا مؤمنين حقا جازمين بأن الإسلام سينتصر، ويظهره الله على جميع الأديان، لأن الرسول قد أخبرهم بذلك، أما الانهزام في واقعة أو أكثر فلا يؤدي إلى استئصال الإسلام، واتباعه، والذين كانوا يعتقدون هذا هم المخاطبون بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾، والنوم عند المحنة نعمة كبرى، تخفف الكثير من وقع المصاب، ﴿يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾، هي نفس الطائفة التي تكلمنا عنها، والتي كان أفرادها على بصيرة في ايمانهم.
ب. الطائفة الثانية من الذين فروا يوم أحد هم المنافقون، وقد وصفهم الله بقوله:
• ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾، هذه الطائفة لم يغشها النعاس لسيطرة الهلع والجزع على نفوس أفرادها، وقال المفسرون: هم عبد الله بن أبيّ، ومتعب بن قشير وأتباعهما، وتشعر هذه الآية ان الإيمان الكامل يستدعي الاهتمام بأمور الناس، وان من لا يهتم إلا بنفسه وذويه فهو ناقص الإيمان، وقد جاء في الحديث: من لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم.
• ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، كل من قنط من رحمة الله، أو ظن انه تعالى قد فعل ما لا ينبغي فعله فقد ظن به ظن الجاهلية.. ومن هؤلاء الذين قالوا يوم أحد: لو كان محمد نبيا لما سلط عليه المشركون جاهلين أو متجاهلين ان الحرب سجال، وان الأمور بخواتيمها.
• ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، أي ليس لنا من الأمر شيء.
2. وقد أمر الله نبيه الأكرم أن يجيبهم بأنه لا أمر لكم ولا لغيركم، وإنما هو لله وحده: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾، وما علينا نحن الا السمع والطاعة، فهو نظير قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، وقد مر تفسيره في الآية 128 من هذه السورة: ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ من التكذيب والنفاق ﴿مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾، من ذلك انهم ﴿يَقُولُونَ﴾ ـ أي في أنفسهم ـ ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾، أي لو كان الأمر لنا ما خرجنا إلى القتال، ولو خرجنا لأدرنا المعركة ادارة حكيمة، ولم يقتل أحد هاهنا، أي في أحد.. فقول المنافقين أولا: (هل كان لنا من الأمر شيء)، ثم قولهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ أشبه بقول القائل: ليس معي دراهم، ولو كان معي دراهم لفعلت وفعلت.
3. ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ هذا رد على من قال لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا، ووجه الرد ان الحذر لا يدفع القدر، وان التدبير لا يقاوم التقدير، سواء أكان أمر القتال لكم أو لم يكن.
4. ﴿لِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ ولِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ واللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ فالحكمة من المحنة يوم أحد انها المحك الذي يميز المؤمن من المنافق، ويظهر كلا على حقيقته للناس، لا لله، لأن الله عليم بذات الصدور.. فالمؤمن يزداد بالابتلاء ايمانا وتسليما، وأجرا وثوابا، ويظهر المنافق على ما هو جليا واضحا.
5. هذا، ولو عاش الإنسان طول حياته معافى من النكبات والصدمات لكان حقيقة غريبة عن أذهان الناس.. ان المصاعب تطهير النفوس، وتهذبها من المضار، وان الصبر على تحمل الشدائد يبلغ بالإنسان إلى غاياته وأهدافه، فلقد دلتنا التجارب ان ما من محارب أو سياسي أو تاجر أو عالم أو أديب أو عامل أو فلاح نال شيئا مما يبتغيه الا بالثبات والصبر على المصاعب.
6. لو بحثنا عن سر الفشل في هذه الحياة لألفيناه الضعف والخوف من طول الطريق، وعدم الصبر على تحمل أتعابه وأوصابه.. أقول هذا، وقد جربته من نفسي، وبلغت بالصبر ما لم أكن لأحلم ببعضه.. الحمد لله.. جربت فأيقنت ان الصبر يصنع المعجزات، وان الذكاء لا يجدي شيئا الا مع الصبر.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/182.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ الأمنة بالتحريك الأمن، والنعاس ما يتقدم النوم من الفتور وهو نوم خفيف، ونعاسا بدل من أمنة للملازمة عادة، وربما احتمل أن يكون أمنة جمع آمن كطالب وطلبة، وهو حينئذ حال من ضمير عليكم، ونعاسا مفعول قوله: أنزل، والغشيان ـ: الإحاطة.
2. الآية تدل على أن هذا النعاس النازل إنما غشي طائفة من القوم، ولم يعم الجميع بدليل قوله: ﴿طَائِفَةٍ مِنْكُمْ﴾، وهؤلاء هم الذين رجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد الانهزام والإصعاد لما ندموا وتحسروا، وحاشا أن يعفو الله عنهم عفو رحمة وهم في حال الفرار عن الزحف وهو من كبائر المعاصي والآثام، وقد قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾، وحاشا أن تشمل عنايته تعالى على مقترف الفحشاء والمنكر حين يقترف من قبل أن يتوب وقد عنى في حقهم حين أثابهم غما بغم لكيلا يحزنوا فيتقذر قلوبهم بما لا يرتضيه الله سبحانه على ما مر بيانه، فهؤلاء بعض القوم وهم النادمون على ما فعلوا الراجعون إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المحتفون به، وكان ذلك إنما كان حين فارق صلّى الله عليه وآله وسلّم جموع المشركين وعاد إلى الشعب، وإن كان عودهم إليه تدريجا بعد العلم بأنه لم يقتل.
3. أما البعض الآخر من القوم فهم الذين يذكرهم الله بقوله: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ وهذه طائفة أخرى من المؤمنين ونعني بكونهم من المؤمنين أنهم غير المنافقين الذين ذكرهم الله أخيرا بقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ الآية وهم الذين فارقوا جماعة المؤمنين في أول الأمر قبل القتال وانخذلوا فهؤلاء المنافقون لهم شأن آخر سينبئ الله بذلك، وهؤلاء الطائفة الثانية الموصوفون بأنهم قد أهمتهم أنفسهم لم يكرمهم الله بما أكرم به الطائفة الأولى من العفو وإثابة الغم ثم الأمنة والنعاس بل وكلهم إلى أنفسهم فأهمتهم أنفسهم ونسوا كل شيء دونها.
4. وقد ذكر الله تعالى من أوصافهم وصفين اثنين وإن كان أحدهما من لوازم الآخر وفروعه، فذكر أنهم أهمتهم أنفسهم، وليس معناه أنهم يريدون سعادة أنفسهم بمعناها الحقيقي فإن المؤمنين أيضا لا يريدون إلا سعادة أنفسهم فالإنسان بل كل ذي همة وإرادة لا يريد إلا نفسه البتة، بل المراد: أن ليس لهم هم إلا حفظ حياتهم الدنيا وعدم الوقوع في شبكة القتل فهم لا يريدون بدين أو غيره إلا إمتاع أنفسهم في الدنيا وإنما ينتحلون بالدين ظنا منهم أنه عامل غير مغلوب، وأن الله لا يرضى بظهور أعدائه عليه، وإن كانت الأسباب الظاهرية لهم فهؤلاء يستدرون الدين ما در لهم، وإن انقلب الأمر ولم يسعدهم الجد انقلبوا على أعقابهم القهقرى.
5. ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ إلى قوله: ﴿بِاللهِ﴾ أي ظنوا بالله أمرا ليس بحق بل هو من ظنون الجاهلية فهم يصفونه بوصف ليس بحق بل من الأوصاف التي كان يصفه بها أهل الجاهلية، وهذا الظن أيا ما كان هو شيء يناسبه ويلازمه قولهم: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾، ويكشف عنه ما أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجيبهم به، وهو قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ فظاهر هذا الجواب أنهم كانوا يظنون أن بعض الأمر لهم ولذا لما غلبوا وفشا فيهم القتل تشككوا فقالوا: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾
6. بذلك يظهر أن الأمر الذي كانوا يرونه لأنفسهم هو الظهور والغلبة، وإنما كانوا يظنونه لأنفسهم من جهة إسلامهم فهم قد كانوا يظنون أن الدين الحق لا يغلب ولا يغلب المتدين به لما أن على الله أن ينصره من غير قيد وشرط وقد وعدهم به، وهذا هو الظن بغير الحق، الذي هو ظن الجاهلية فإن وثنية الجاهلية كانت تعتقد أن الله تعالى خالق كل شيء وأن لكل صنف من أصناف الحوادث كالرزق والحياة والموت والعشق والحرب وغيرها، وكذا لكل نوع من الأنواع الكونية كالإنسان والأرض والبحار وغيرها ربا يدبر أمرها لا يغلب على إرادته، وكانوا يعبدون هؤلاء الأرباب ليدروا لهم الرزق، ويجلبوا لهم السعادة، ويقوهم من الشرور والبلايا، والله سبحانه كالملك العظيم يفوض كل صنف من أصناف رعيته وكل شطر من أشطار ملكه إلى وال تام الاختيار له أن يفعل ما يشاؤه في منطقة نفوذه وحوزة ولايته، وإذا ظن الظان أن الدين الحق لا يصير مغلوبا في ظاهر تقدمه والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وهو أول من يتحمله من ربه ويحمل أثقاله ـ لا يقهر في ظاهر دعوته أو أنه لا يقتل أو لا يموت فقد ظن بالله غير الحق ظن الجاهلية فاتخذ لله أندادا، وجعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ربا وثنيا مفوضا إليه أمر الغلبة والغنيمة، مع أن الله سبحانه واحد لا شريك له، إليه يرجع الأمر كله وليس لأحد من الأمر شيء، ولذلك لما قال تعالى فيما تقدم من الآيات: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾، قطع الكلام بالاعتراض فقال ـ يخاطب نبيه ـ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ لئلا يتوهم أن له صلّى الله عليه وآله وسلّم دخلا في قطع أو كبت، والله سبحانه هو الذي وضع سنة الأسباب والمسببات، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحق والباطل، والخير والشر، والهداية والضلالة، والعدل والظلم، ولا فرق فيه بين المؤمن والكافر، والمحبوب والمبغوض، ومحمد وأبي سفيان.
7. نعم لله سبحانه عناية خاصة بدينه وبأوليائه يجري نظام الكون بسببها جريا ينجر إلى ظهور الدين وتمهد الأرض لأوليائه والعاقبة للمتقين، وأمر النبوة والدعوة ليس بمستثنى من هذه السنة الجارية، ولذلك كلما توافقت الأسباب العادية على تقدم هذا الدين وظهور المؤمنين كبعض غزوات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ذلك، وحيث لم يتوافق الأسباب كتحقق نفاق أو معصية لأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو فشل أو جزع كانت الغلبة والظهور للمشركين على المؤمنين، وكذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع الناس فإن أعداء الأنبياء لكونهم أهل الدنيا، وقصرهم مساعيهم في عمارة الدنيا، وبسط القدرة، وتشديد القوة، وجمع الجموع كانت الغلبة الظاهرية والظهور لهم على الأنبياء، فمن مقتول كزكريا، ومذبوح كيحيى، ومشرد كعيسى إلى غير ذلك.
8. نعم إذا توقف ظهور الحق بحقانيته على انتقاض نظام العادة دون السنة الواقعية وبعبارة أخرى دار أمر الحق بين الحياة والموت كان على الله سبحانه أن يقيم صلب الدين ولا يدعه تدحض حجته، وقد مر شطر من هذا البحث في القول على الإعجاز في الجزء الأول من الكتاب، وفي الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه، ولنرجع إلى ما كنا فيه: فقول هؤلاء الطائفة الذين أهمتهم أنفسهم: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾، تشكك في حقية الدين وقد أدرجوا في هيكله روح الوثنية على ما مر بيانه، فأمر سبحانه نبيه ص أن يجيبهم فقال: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾، وقد خاطب نبيه قبل ذلك بقوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ فبين بذلك أن ملة الفطرة ودين التوحيد هو الذي لا يملك فيه الأمر إلا الله جل شأنه، وباقي الأشياء ومنها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليست بمؤثرة شيئا بل هي في حيطة الأسباب والمسببات والسنة الإلهية التي تؤدي إلى جريان ناموس الابتلاء والامتحان.
9. ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ﴾ الآية، وهذا توصيف لهم بما هو أشد من قولهم: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾، فإنه كان تشكيكا في صورة السؤال، وهذا أعني قولهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ ترجيح في هيئة الاستدلال، ولذلك أبدوا قولهم الأول للنبي ص وأخفوا قولهم الثاني لاشتماله على ترجيح الكفر على الإسلام.
10. فأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجيبهم فقال: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾، فبين لهم:
أ. أولا: أن قتل من قتل منكم في المعركة ليس لعدم كونكم على الحق، وعدم كون الأمر لكم على ما تزعمون بل لأن القضاء الإلهي وهو الذي لا مناص من نفوذه ومضيه جرى على أن يضطجع هؤلاء المقتولون في هذه المضاجع، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فلا مفر من الأجل المسمى الذي لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون.
ب. وثانيا: أن سنة الله جرت على عموم الابتلاء والتمحيص وهي واقعة بهم وبكم لا محالة، فلم يكن بد من خروجكم ووقوع هذا القتال حتى يحل المقتولون محلهم وينالوا درجاتهم، وتحلوا أنتم محلكم فيتعين لكم أحد جانبي السعادة والشقاوة بامتحان ما في صدوركم من الأفكار، وتخليص ما في قلوبكم من الإيمان والشرك.
11. من عجيب ما ذكر في هذه الآية قول عدة من المفسرين إن المراد بهذه الطائفة التي تشرح الآية حالها هم المنافقون مع ظهور سياق الآيات في أنها تصف حال المؤمنين، وأما المنافقون أعني أصحاب عبد الله بن أبي المنخذلين في أول الوقعة قبل وقوع القتال فإنما يتعرض لحالهم فيما سيأتي، اللهم إلا أن يريدوا بالمنافقين الضعفاء الإيمان الذين يعود عقائدهم المتناقضة بحسب اللازم إلى إنكار الحق قلبا والاعتراف به لسانا وهم الذين يسميهم الله بالذين في قلوبهم مرض قال تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾، وقال: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾، أو يريدوا أن جميع المنافقين لم يرجعوا مع أصحاب عبد الله بن أبي إلى المدينة.
12. وأعجب منه قول بعض آخر إن هذه الطائفة كانوا مؤمنين، وأنهم كانوا يظنون أن أمر النصر والغلبة إليهم لكونهم على دين الله الحق لما رأوا من الفتح والظفر ونزول الملائكة يوم بدر فقولهم: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾، وقولهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية اعتراف منهم بأن الأمر إلى الله لا إليهم وإلا لم يستأصلهم القتل، ويرد عليه عدم استقامة الجواب حينئذ وهو قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾، وقوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ الآية، وقد أحس بعض هؤلاء بهذا الإشكال فأجاب عنه بما هو أردأ من أصل كلامه وقد عرفت ما هو الحق من المعنى.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/47.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ ﴿الْغَمِّ﴾ الذي كان عند دعاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنزل الله بعده ﴿نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ حصل به الأمن لها رحمة من الله وفضلاً، والنعاس: أول النوم يميل به الرأس.
2. ﴿وَطَائِفَةٌ﴾ غيرها ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ لا الدين ولا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ وهو أنهم ما وعدهم النصر إلا غروراً كما في (سورة الأحزاب) ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ التي كان الجهل بالله شأنها، فهو أشنع الظن لا يستند إلا إلى الجهل بالله.
3. ﴿يَقُولُونَ﴾ عند الهزيمة أو بعدها ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي ليست لنا دولة ولا أمر وهذا ما طمع فيه المنافقون والكفار، ظن المنافقون أن قد تحقق ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ فهو مالك الملك يؤتي ملكه من يشاء، فدولة الإسلام باقية ماشاء الله بقاءها.
4. ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ﴾ في أنفسهم ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ فهم في أنفسهم يرون أن قد ذهبت دولة الإسلام ولم يبق إلا أخذ الأمان من الكفار قد أهمتهم أنفسهم لهذا الظن السيئ.
5. ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ هذا الجواب يفهم منه: أن القوم ظنوا أن الخروج كان غلطاً لأنه لم يكن لهم قدرة على القتال، فهم خرجوا للقتال بزعمهم وليس لهم من الأمر شيء وليس لهم أي سلطة، وذلك تأكيد لقول قائلهم: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ فهم يزعمون لتثبيط المسلمين عن طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن الخروج قضية انتحارية، فأجابهم الله سبحانه أن بقاءكم في البيوت لم يكن ليدفع القتل عمن قتل لأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين لا بد لهم من القتال حيث قد هجم عليهم المشركون، فسواء خرجوا أو بقوا لا بد أن يقتل من كتب عليه القتل لأنه يبرز لدفاعهم، فيقتل حيث كتب أنه يقتل، وهؤلاء الذين قتلوا لم يكن رأيهم البقاء في البيوت؛ لأن رأيهم كان في الخروج إلى الكفار لئلا يظنوا أنهم قد جبنوا عن لقائهم، وهم يرغبون في الشهادة، فلو لم تخرجوا أيها المعترضون على الخروج لخرج هؤلاء الشهداء بإختيارهم ورغبتهم في الجهاد وقتلوا حيث كتب لهم أنهم يقتلون، لأن رأيهم خلاف رأيكم وشأنهم خلاف شأنكم، فلماذا تحزنون على خروجكم وهم لم يكونوا ليسلموا لو بقيتم في بيوتكم!؟
6. سواء كان معنى ﴿كُتِبَ عَلَيْهِمُ﴾ علم الله أنهم يقتلون في مضاجعهم أي مواضع سقوطهم قتلى، أو كتبت للملائكة في ليلة القدر في كتاب أنهم يقتلون ليزدادوا إيماناً عند صدق الخبر، فهو ليس سائقاً، وإنما هو مطابق للواقع كما لو أخبر بالصدق عما قد مضى في أنه غير مؤثر في وقوع المخبر به وإنما لا يتخلف لأنه لم يخبر به إلا لأنه سيقع، فالخبر لازم للوقوع، ولا يصح معه فرض التخلف لأنه فرض اجتماع النقيضين لا لأن الخبر سائق إلى المخبر به، وكذلك لم يعلم إلا لأنه سيقع فوجب أن يعلمه وإلا كان جاهلاً سبحانه وتعالى، فوجب أن يكون عالماً بوقوعه لأنه سيقع، ففرض عدم وقوعه فرض اجتماع النقيضين ولا يصح، بل يستلزم فرض تخلفه فرض أن الله لم يعلم أنه واقع وإلا كان فرض علم الله تعالى بوقوعه وبتخلفه فرض علمه باجتماع النقيضين وهو محال.
7. ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ أي ليفعل فعل المختبر لما تضمرونه في صدوركم بأنه سيفعل ما يكون سبباً لظهوره، وهو سبحانه عليم بذات الصدور ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ من الإيمان والنيات الحسنة، وهذا بالنسبة إلى المؤمنين الذين كان انهزامهم زلة لا لخبث ضمائرهم، فابتلوا بتلك البلوى لتطهير ضمائرهم، كما قال تعالى ـ فيما مر ـ: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فيذهب عنهم الغلط وتوهم أنهم لابد أن ينصروا لمجرد انتمائهم إلى الإسلام وكونهم مع الرسول ، وتوهم أن لهم الحق في ذلك على الإطلاق أو نحو هذا الوهم بما بان بهذه البلوى خلافه وتصححت به العقيدة ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ من صالح أو سيئ.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/561.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ وعاد البعض إلى رسول الله، وهم يعيشون هذه الصدمة الكبيرة، ويقارنون بين أسباب الهزيمة ونتائجها، وشعروا بالتقصير والندم، وبدأوا في التخطيط لحسابات المستقبل، وكان لا بد من حالة استرخاء يستريحون فيها من متاعب المعركة وانفعالات الندم، ليملكوا زمام تفكيرهم، فألقى عليهم النعاس ليعيشوا الإحساس بالأمن والطمأنينة، فتتجدّد لهم طاقاتهم التي أتعبها الجهد، وتصفو أفكارهم التي كدرها الألم، وترتاح أعصابهم التي أرهقها الانفعال، فغابوا في سبات عميق يفصلهم عن كل هذه الأجواء الخانقة من التوتر والرعب والانفعال.. وتلك هي الفئة المؤمنة التي لا تفقد صوابها، ولا ترتاب في إيمانها، ولا تتزلزل في مواقفها أمام الصدمات والتحديات والهزائم، بل تقف من جديد، لتفكر في المستقبل من خلال دروس الحاضر، ولتواصل المسيرة وتعتبر أن كل ما حدث ما هو إلّا تجربة وامتحان واختبار قد يفشل الإنسان فيه وقد ينجح، ولكن القضية في كلا الحالين تمثل العبرة التي يستفيد منها الفاشل كيف يتفادى الفشل في المستقبل، ويتعلم منها الناجح كيف يمكن أن يستزيد من فرص النجاح في الحياة.
2. ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ وهناك طائفة أخرى قد أهمتهم أنفسهم، فهي المحور الذي يدورون حوله في حركة الحياة، فهم يفكرون في سلامتها وراحتها بعيدا عن أي هدف كبير يدفع الإنسان إلى الجهد والتعب والتضحية؛ فإذا فكروا بالنصر في معركة ما، فإنهم يفكرون فيه من حيث هو وسيلة للحصول على الغنائم والأسلاب، وإذا فكروا بالهزيمة، فإنهم يتفادونها لأنها تمثل خطا أسود في تاريخ حياتهم الذاتي، وموقفا يسيء إلى بعض الأنانية الذاتية في مواقعهم العامّة، وهكذا يختنقون في سجن الذات، فلا يتنفسون هواء الإنسانية الممتد في رحاب الله، وعلى أساس هذا المحور الذي تدور حياتهم حوله.
3. فإنهم ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ فلا يستسلمون له استسلام العبد الواثق بربّه المطيع له، العالم بأن الله لا يريد به إلا الخير، وأن الشرّ عندما يطوف بحياة الإنسان، فإنما هو امتحان واختبار منه سبحانه له؛ بل كل ما عندهم هو أن يمنحهم الله الخير والرزق والبركة، فإذا منع ذلك عنهم تمرّدوا وانحرفوا، فهم لا يتصورون الله إلا من خلال منافعهم، كما أنهم يعملون على إثارة الشك والريب بالنبي وبالإسلام إذا عرضت هناك بعض الانتكاسات في ساحة السلم أو الحرب، انطلاقا من الفكرة الخاطئة التي يعتنقونها في مرادفة النصر للحق، والهزيمة للشك والريب والتزلزل.
4. هكذا كانت ظنونهم منطلقة في الاتجاه المادي للحياة، وهذا من ظنون الجاهلية التي تبتعد عن الحق في خطها الفكري وتصوّرها عن الله والكون والإنسان، لأن التصّور الحق، هو أن الله يجري الأمور على أساس سننه الحتمية التي ترتكز على قاعدة أساسية، وهي ملاحظة المصلحة العميقة للإنسان على مستوى الامتداد الشامل لجوانب حياته، فقد تكون هناك مصلحة في إثارة العقبات أمام شخص أو جماعة، من أجل أن يكون ذلك وسيلة من وسائل تقوية المواقف وتركيز الشخصية ونضوج التجارب، وقد تكون المتاعب في البداية سبيلا للحصول على الراحة في النهاية مما لا يحيط بعلمه إلا الله الذي ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَويَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ وما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]
5. ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ إنهم يثيرون هذا التساؤل أمام نتائج المعركة، ليسجلوا نقطة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه عندما انطلقوا في خط المعركة ولم يستمعوا إلى النصائح التي كان يقدمها رأس النفاق في المدينة في عدم الخروج إلى القتال، فكأنهم يقولون إنه لا رأي لمن لا يطاع، من أجل التخلص من تحمّل نتائج العمل في طبيعة المسؤولية لأنهم لم يشاركوا في اتخاذ القرار، ولولا الإحراج الذي واجهوه من قومهم ومن النبي لما شاركوا في الحرب.
6. ويأتي الجواب حاسما: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ فماذا يمثّل هؤلاء ليكون لهم الأمر كله!؟ إنهم لا يمثّلون شيئا في حجم القوّة والعلم والحركة، بل إن الأمر لله، فهو الذي يخطط ويدبّر ويأمر وينهى ويوجه رسوله والمؤمنين نحو الوقوف في وجه الكفر والطغيان، وهو الذي يعرف ما يصلحهم وما يفسدهم، وما يضرهم وما ينفعهم، لأن ذلك كله بيده، فهو الذي يملك الأمر كله، وإذا أراد شيئا فلا بد من الخضوع والطاعة والانقياد أمام إرادته.
7. ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾ فقد دخلوا المعركة بقلب مغلق ينطوي على الشك والريب والنفاق، ولم يدخلوها بقلب مفتوح ينفتح على الله في صراحة صافية تعرف ماذا تريد، وتصارح الأخرى بكل شيء حتى لا تعيش الزيف باسم الإخلاص، ولا تتحرك في الشك باسم اليقين؛ ولذلك فإنهم يضمرون لك يا محمد الكيد والمكر والمعصية، ويظهرون لك الطاعة والخير والإخلاص.
8. ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ فهم يعتبرون أنفسهم قادرين على تغيير مسير المعركة في جميع نتائجها، أو بالأحرى قادرين على التحكم في مصير حياة أنفسهم وموتها، فلو ترك لهم الأمر، ولم تفرض عليهم الضغوط، لكانوا في بيوتهم التي خرجوا منها في المدينة، ولما تعرضوا للخطر الذي تعرّضوا له الآن، وربما كان مرادهم أنهم لو كانوا ـ كمسلمين ـ على الحق لانتصروا وكسبوا المعركة ولم يخسروا ما خسروه من أرواح وأموال.. كأنهم يريدون أن يبثّوا الريب والشك في الإسلام نفسه، وفي نبوّة النبي محمد .
9. لكن الله سبحانه يواجههم بالحقيقة الكونية التي لا تجعل قضية الحياة والموت خاضعة لاختيار الإنسان بجميع أبعادها، بل هناك أوضاع وظروف قد تقود الإنسان إلى نهايته بعيدا عن جانب الرغبات الذاتية، لأن الله سبحانه لم يجعل الآجال تابعة دائما لعنصر الاختيار، فربما تتدخل فيها بعض العوامل غير الاختيارية ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ انطلاقا من الأجواء الداخلية أو الخارجية التي تبعث في داخلهم الرغبة في الخروج تحت تأثيرات غامضة، كما لو كانت هناك قوّة خفية تسيطر عليهم وتدفعهم إلى مصيرهم المحتوم، فلا مجال بعد ذلك للتعلّل ببعض الجوانب الذاتية الخاصّة.
10. ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ ويختبركم بإظهار ما تخفونه من نوايا سيّئة، حتى لا ينخدع الناس بالجانب الظاهري من حياة الآخرين فيستسلموا للخديعة في علاقتهم ببعضهم البعض.
11. ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ وتلك هي فائدة المحن والنكبات التي تحدث للإنسان، فإنها تمحّص ما في قلبه، فتعزل الخبيث عن الطيب، وتكشف الإيمان الثابت من الإيمان الطارئ المستودع.
12. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ فلا يحتاج في معرفته بدخائل الناس إلى دليل لأنه المحيط بالأشياء الخفيّة من نوايا الإنسان، كما هو محيط بالأشياء الظاهرة منها.
13. هذا هو المفهوم الإسلامي للابتلاء الذي يبتلي به الله عباده، فليس هو ـ في جميع مظاهره ـ نقمة وعذابا، بل قد يكون رحمة يبني بها الله للإنسان شخصيته الصلبة من خلال المعاناة التي يعانيها أمام البلاء، كما يكشف له طبيعة المشاعر والأحاسيس والأفكار التي تعيش في داخله، فيكتشف الزيف من الإخلاص، ويعرف الأشياء العميقة في داخل كيانه من الأشياء الطافية على السطح.
14. وهذا ما ينبغي للعاملين في سبيل الدعوة إلى الله وفي حقل التربية الإسلامية أن يواجهوه في ما يخوضونه من تحدّيات، وما يواجهونه من عقبات وصراعات، وما يدفعون إليه العاملين الآخرين من مهمّات ومسئوليّات، فقد يكون من الأفضل أن لا ينهزموا أمام المصاعب، وأن لا يتعقدوا منها، كما قد يكون الخير لهم أن يوكلوا إلى العاملين معهم بعض القضايا التي تثير المتاعب والمشاكل في بعض مراحل الطريق من أجل بناء شخصيتهم الإسلامية بالصدمات القوية التي توقظ في داخلهم حس المواجهة للأخطاء والانحرافات، وتدفعهم إلى الوقوف بقوة أمام الأعاصير القادمة من بعيد.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/322.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اتسمت الليلة التي تلت معركة (أحد) بالقلق والاضطراب الشديدين، فقد كان المسلمون يتوقعون أن يعود جنود قريش الفاتحون المنتصرون إلى المدينة مرة أخرى لاجتياح البقية الباقية من القوّة الإسلامية، والقضاء على من تبقى من المقاتلين المسلمين، ولعلّ بعض الأخبار كان قد نمّ إلى المسلمين عن اعتزام المشركين ونيتهم في العودة إلى ساحة القتال، ولا شكّ أنهم لو عادوا لكان المسلمون يواجهون أحلك الظروف في تلك الموقعة.
2. كان هناك بين المسلمين ثلة من المجاهدين الصادقين الذين ندموا على الفرار من الميدان في (أحد) فتابوا إلى الله، واطمأنوا إلى وعود النبي الكريم حول المستقبل، قد أخذهم نوم مريح، وغلبهم نعاس هانئ ولذيذ وهم في عدة الحرب، في الوقت الذي كان فيه المنافقون وضعاف الإيمان، والجبناء يعانون من كابوس الأوهام والوساوس طوال الليل، ولم يذوقوا لذة النوم، فكانوا ـ من حيث لا يشعرون ولا يقصدون ـ يحرسون المؤمنين الحقيقين الذين كانوا يستريحون في تلك النومة الطارئة اللذيذة، وإلى هذا كلّه يشير الكتاب العزيز في الآية الحاضرة إذ يقول: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾
3. أجل، إن المنافقين والجبناء وضعاف النفوس والإيمان لم يزرهم النوم ولا حتى النعاس في تلك الليلة خوفا على نفوسهم، وعلى أرواحهم، وجريا وراء الوساوس الشيطانية، والمخاوف التي هي من طبيعة ولوازم النفاق وضعف اليقين ووهن الإيمان، فيما ان المؤمنون الصادقون يستريحون في ذلك النعاس اللذيذ، وتلك النومة الطارئة الهانئة، وهذا هو أحد آثار الإيمان وثماره المهمة البارزة، فإن المؤمن يحظى بالراحة والطمأنينة حتّى في هذه الدنيا، على العكس من غير المؤمنين من الكفار أو المنافقين أو ضعاف الإيمان، فإنهم محرومون من الطمأنينة والراحة اللذيذة تلك.
4. ثمّ إن القرآن الكريم يعمد إلى بيان واستعراض طبيعة ما كان يدور بين أولئك المنافقين وضعاف الإيمان من أحاديث وحوار، وما كان يدور في خلدهم من ظنون وأفكار، إذ يقول: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، إنّهم كانوا يظنون بالله ما كانوا يظنونه به أيام كانوا يعيشون في الجاهلية، وقبل أن تبزغ عليهم شمس الإسلام، فقد كانوا يتصورون أن الله سيكذبهم وعده، ويظنون أن وعود النبي غير محققة ولا صادقة، وكان يقول بعضهم للآخر: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي هل سيصيبنا النصر ونحن في هذه الحالة من السقوط والهزيمة، والمحنة والبلية؟ إنهم كانوا يستبعدون أن ينزل عليهم نصر من الله بعد ما لقوا، أو كانوا يرون ذلك محالا.
5. لكن القرآن يجيبهم قائلا: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ أي كيف تستبعدون ذلك أو ترونه محالا والأمر كلّه بيد الله، وهو قادر أن ينزل عليكم النصر متى وجدكم أهلا لذلك.
6. على أنهم لم يظهروا كلّ ما كان يدور في خلدهم من ظنون وأوهام وهواجس خوفا من أن يعدوا في صفوف الكفار: ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾، وكأنهم كانوا يتصورون أن الهزيمة في (أحد) من العلائم الدالة على بطلان الإسلام، ولذا كانوا يقولون: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ أي لو كنا على حق لكسبنا المعركة، ولم نخسر كلّ هذه الأرواح والنفوس، ولكن الله تعالى أجابهم وهو يشير في هذه الإجابة إلى مطلبين.
أ. الأول: إن عليكم أن لا تتوهموا بأن الفرار من ساحة المعركة، وتجنب الصعاب يمكنه أن ينقذكم من الموت الذي هو قدر لكلّ إنسان ولهذا يقول سبحانه: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ فإن الذين جاء أجلهم، وحان حين موتهم لا بدّ أن يموتوا ولا محالة هم مقتولون حتّى لو كانوا في مضاجعهم، وفي الأساس فإن كلّ أمة استحقت الهزيمة لوهن أكثريتها، لا بدّ أن تذوق الموت، ولا محالة يصيبها القتل، فالأجدر بها أن تموت في ساحات المعارك، وتحت ضربات السيوف، وهي تسطر ملاحم البطولة، وتخط أسطر البسالة، لا أن تموت خانعة، أو تقتل ذليلة على فراشها، وما أروع ما قاله الإمام علي إذ قال عليه السّلام: (لألف ضربة بالسيف أحب إليّ من ميتة على فراش)
ب. الثاني: إن هذه الحوادث لا بدّ أن تقع حتّى يبدي كلّ واحد مكنون صدره، ومكتوم قلبه، فتتشخص الصفوف، وتتميز جواهر الرجال، هذا مضافا إلى أن هذه الحوادث سبب لتربية الأشخاص شيئا فشيئا، ولتخليص نياتهم، وتقوية إيمانهم، وتطهير قلوبهم ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾
7. ثمّ يقول سبحانه: في ختام هذه الآية ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ ولذلك فهو لا ينظر إلى أعمال الناس بل يمتحن قلوبهم، ليطهرها من كلّ ما تعلق بالنفوس والأفئدة من شوائب الشرك والنفاق، والشك والتردد.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/738.
82. المتولون عن الزحف والشيطان
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈82⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 155]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
عمر:
روي عن عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾: لما كان يوم أحد هزمناهم، ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى، والناس يقولون: قتل محمد، فقلت: لا أجد أحدا يقول: قتل محمد إلا قتلته، حتى اجتمعنا على الجبل؛ فنزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ الآية كلها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٧٢.
الزبير:
روي عن الزبير بن العوام (ت 36 هـ) أنّه قال: والله، لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه، يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا، وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء، حتى ما يدنو منه أحد من القوم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٣٢.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ يعني: انصرفوا عن القتال منهزمين: ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ يوم أحد حين التقى الجمعان: جمع المسلمين، وجمع المشركين، فانهزم المسلمون عن النبي ، وبقي في ثمانية عشر رجلا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾، يعني: حين تركوا المركز، وعصوا أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قال للرماة يوم أحد: (لا تبرحوا مكانكم)، فترك بعضهم المركز(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٩٦.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٩٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾، قال المبارك: فكيف عفا عنهم، وقد قتل منهم سبعون، وجرح سبعون، وأسر منهم سبعون، وشج رسول الله ، وكسر رباعيته، وهشم البيضة على رأسه!؟ قال الحسن: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ لم يستأصلكم لمخالفتكم رسول الله ، قال الحسن: إنما خافوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن قال لقوم منهم: (لا تبرحوا مكانكم)، فعاقبهم بما قد رأيت، وعفا عنهم ألا يكون اصطلمهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٩٩.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾، كان أناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تولوا عن القتال، وعن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، وكان ذلك من أمر الشيطان وتخويفه؛ فأنزل الله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ الآية(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٣٢٩.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: لما انهزموا يومئذ تفرق عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه، فدخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة، فقاموا عليها، فذكر الله تعالى الذين انهزموا فدخلوا المدينة؛ فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٧٣.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ زين لهم الشيطان أعمالهم ببعض كسبوا، أي: بشؤم ذنوبهم(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٨٨.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ ولقد عفا الله عنهم إذ لم يعاقبهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٧٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ يعني: انهزموا عن عدوهم مدبرين منهزمين: ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ جمع المؤمنين وجمع المشركين يوم أحد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ حين لم يقتلوا جميعا عقوبة بمعصيتهم النبي ، ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ لذنوبهم، ﴿حَلِيمٌ﴾ عنهم في هزيمتهم فلم يعاقبهم(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٨.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾، فلان، وسعد بن عثمان، وعقبة بن عثمان الأنصاريان ثم الزرقيان، وقد كان الناس انهزموا عن رسول الله ، حتى انتهى بعضهم إلى المنقى دون الأعوص، وفر عقبة بن عثمان وسعد بن عثمان حتى بلغوا الجلعبـ جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص ـ، فأقاموا به ثلاثا، ثم رجعوا إلى رسول الله ، فزعموا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لقد ذهبتم فيها عريضة(1).
__________
(1) قوله: لقد ذهبتم فيها عريضة، يقول: لقد ذهبتم في الأرض حين فررتم مذهبًا واسعًا؛ فأبعدتم المذهب، يتعجب من فعلهم، النهاية.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال في توليهم يوم أحد: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ فلا أدري أذلك العفو عن تلك العصابة، أم عفو عن المسلمين كلهم؟(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٧٥.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ أي ولى الذين عن المشركين بأحد ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ أي أنهم أحبوا الغنائم مع حرصهم على الحياة، ويحتمل أن يكون استزلهم بذكر الخطايا سلفت فكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة منها والخروج من الظلمة فيها ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ إذ لم يعاجلهم بالعقوبة وغفر لهم الخطيئة حين تابوا والذي لم ينهزم وثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمير المؤمنين علي.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/156.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ يعني: إن الذين انصرفوا عن عدوهم مدبرين منهم منهزمين يوم التقى الجمعان: جمع المؤمنين، وجمع المشركين.
2. ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ أي: إنما انهزموا ولم يثبتوا خوفا أن يقتلوا بالثبات؛ فيلقوا الله وعليهم عصيان رسول الله ، فكرهوا أن يقتلوا وعليهم معصية رسول الله ؛ خوفا من الله تعالى
3. ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ بما خافوا الله بعصيانهم رسول الله .
4. يحتمل قوله عزّ وجل: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ ـ أن اللعين لما رآهم أجابوه إلى ما دعاهم من اشتغالهم بالغنيمة، وتركهم المركز، وعصيانهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دعاهم إلى الهزيمة، فانهزموا وتولّوا ـ عدوّهم.
5. يحتمل قوله: ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ أي: بكسبهم، قال الله عزّ وجل: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30]؛ فكذلك هذا قبل توبتكم، وعفا عنكم، ﴿حَلِيمٌ﴾ لم يخزكم وقت عصيانكم، ولا عاقبكم، أو حليم بتأخير العذاب عنكم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/513.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: هم كل من ولّى الدبر من المشركين بأحد وهذا قول عمر، وقتادة، والربيع.
ب. الثاني: أنهم من هرب إلى المدينة وقت الهزيمة، وهذا قول السدي.
2. في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه محبتهم للغنيمة وحرصهم على الحياة.
ب. الثاني: استذلّهم بذكر خطايا سلفت لهم، وكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة منها والخروج من المظلمة فيها، وهذا قول الزجاج.
3. في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: حلم عنهم إذ لم يعاجلهم بالعقوبة، وهذا قول ابن جريج وابن زيد.
ب. الثاني: غفر لهم الخطيئة ليدل على أنهم قد أخلصوا التوبة.
4. قيل: إن الذين بقوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم ينهزموا ثلاثة عشر رجلا، منهم خمسة من المهاجرين: أبو بكر، وعلي، وطلحة، وعبد الرحمن، وسعد بن أبي وقاص، والباقون من الأنصار.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/432.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾:
أ. روي عن عمر بن الخطاب، وقتادة، والربيع: ان المعني بالمتولي في هذه الآية هم الذين ولو الدبر عن المشركين بأحد.
ب. وقال السدي: هم الذين هربوا إلى المدينة في وقت الهزيمة.
2. ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ قيل في الكسب الذي أداهم إلى الفرار الذي اقترفوه قولان:
أ. أحدهما: محبتهم للغنيمة مع حرصهم على تبقية الحياة، وفي ذلك الوجه عما يؤدي إلى الفتور فيما يلزم من الأمور على قول الجبائي.
ب. الثاني: ذكره الزجاج، استزلهم بذكر خطايا سلفت لهم، فكرهوا القتل قبل اخلاص التوبة منها، والخروج من المظلمة فيها.
3. قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: قال ابن جريج، وابن زيد: حلم عنهم إذ لم يعاجلهم بالعقوبة به، ليدل على عظم تلك المعصية.
ب. والآخر: عفا لهم تلك الخطيئة ليدل على أنهم قد أخلصوا التوبة، وقوله:
4. ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ فحلمه تعالى عنهم هو إمهاله بطول المدة بترك الانتقام مع ما فعل بهم من ضروب الانعام، وأصل الحلم الاناة، وهي ترك العجلة، فالامهال بفعل النعمة بدلا من النقمة كالاناة بترك العجلة، ومنه الحلم في النوم، لأن حال السكون والدعة كحال الاناة، ومنه الحلمة: رأس الثدي، لخروج اللبن الذي يحلم الصبي.
5. ذكر البلخي أن الذين بقوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد فلم ينهزموا ثلاثة عشر رجلا: خمسة من المهاجرين: علي عليه السلام وأبو بكر، وطلحة، وعبد الرحمن ابن أبي عوف، وسعد بن أبي وقاص، والباقون من الأنصار، فعلي وطلحة، لا خلاف فيهما، والباقون فيهم خلاف، وأما عمر، فروي عنه أنه قال: رأيتني أصعد في الجبل كاني أروى، فقال له النبي : لقد ذهبت فيها عريضة.
6. في الآية دليل على فساد قول المجبرة: من أن المعاصي من الله، لأنه تعالى نسب ذلك في الآية إلى الاستزلال الشيطان.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/25.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. تولى: تَفَعَّلَ من قولهم: ولى فلان ظهره.
ب. الزلة: الخطيئة، واستزل: استفعل منه.
ج. الحِلم: الأناة، وهو ترك العجلة، والضرب في الأرض السير فيها، وأصله الضرب باليد.
2. بيَّن تعالى ما فعل القوم وما أسدى إليهم ونهى المؤمنين أن يفعلوا مثل فعلهم فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا﴾ أعرضوا ﴿مِنْكُمْ﴾ أيها المؤمنون:
أ. قيل: هو كل من ولى الدبر عن المشركين بأُحدٍ عن عمر بن الخطاب وقتادة والربيع.
ب. وقيل: كل من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة عن السدي.
ج. وقيل: بدلوا من المكان الذي رتبهم فيه رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم لا للفرار من الزحف لكن طمعًا في الغنيمة فقالوا: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هزمهم فوجد الشيطان إليهم سبيلاً لطمعهم في الدنيا فاستزلهم.
3. ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ يعني بأحد أحدهما: جَمْعُ المسلمين وسيدهم رسول الله ، والثاني: جمع المشركين ورئيسهم أبو سفيان بن حرب وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾:
أ. قيل: حملهم على الزلة والخطيئة عن المفضل.
ب. وقيل: طلب زلتهم عن القتبي.
ج. وقيل: أزال واستزل بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾:
أ. قيل: كسبهم حرصهم على الحياة وحبهم للغنيمة، وجد الشيطان إليهم سبيلاً فزين ذلك في قلوبهم، ولو جاهدوا للدار الآخرة لهان عليهم الموت، وفيه زجر عما يؤدي إلى الفتور في أمره تعالى عن أبي علي.
ب. وقيل: استزلهم بذكر خطايا سلفت منهم فكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة منها والخروج من المظلمة عن الأصم والزجاج.
ج. وقيل: كَسْبُهم: قَبولُهم من الشيطان ما وسوس إليهم في أمر الهزيمة عن الحسن.
د. وقيل: كسبهم إخلالهم بالموضع الذي رتبهم فيه فوجد الشيطان إليهم سبيلاً عن أبي مسلم.
هـ. وقيل: إنه تعالى بين أن الشيطان تمكن منكم بما عصيتم لكي يعلم أن الذنوب تؤدي بعضها إلى بعض حتى تجتلب الذنوب كلها.
6. اختلفوا في قصد الآية الكريمة:
أ. قيل: الآية خرجت مخرج الشكاية.
ب. وقيل: بل مخرج إبانة عذرهم.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾:
أ. قيل: عفا عنهم لأنهم أخلصوا التوبة بعد أن فارقوا المكان الذي رتبهم فيه وتركوا أمر الرسول عن أبي علي.
ب. وقيل: عفا عنهم أي حلم فلم يعاجلهم بالعقوبة، ليدل على عظم تلك المعصية عن ابن جريج وابن زيد.
ج. وقيل: عفا عنهم لما حل بهم من الشهادة؛ لأنهم رجعوا إلى الحرب بعد رجوع الكفار.
د. وقيل: عفا عنهم بفضله ورحمته لما علم من حسن ثباتهم وما سبق من طاعاتهم، وكانت عزيمتهم لخوفهم من الله لذنوب سلفت منهم فعفا الله عنهم عن الأصم.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾:
أ. قيل: ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ يغفر الذنوب يسترها بالعفو ﴿حَلِيمٌ﴾ يمهل فلا يعجل بالعقوبة.
ب. وقيل: غفور للتائبين حليم عن المصرين؛ لأنه لا يخاف فوتهم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/430.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر الله تعالى الذين انهزموا يوم أحد أيضا فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾:
أ. أي: إن الذين ولوا الدبر على المشركين بأحد منكم أيها المسلمون، عن قتادة والربيع.
ب. وقيل: هم الذين هربوا إلى المدينة في وقت الهزيمة، عن السدي.
2. ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ جمع المسلمين وسيدهم رسول الله، وجمع المشركين ورئيسهم أبو سفيان.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾:
أ. قيل: أي: طلب زلتهم، عن القتيبي.
ب. وقيل: أزل واستزل بمعنى ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ من معاصيهم السالفة، فلحقهم شؤمها.
ج. وقيل: استزلهم بمحبتهم للغنيمة مع حرصهم على تبقية الحياة، عن الجبائي قال: وفي ذلك الزجر عما يؤدي إلى الفتور فيما يلزم من الأمور.
د. وقيل: استزلهم بذكر خطايا سلفت لهم، فكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة منها، والخروج من المظلمة فيها، عن الزجاج.
4. ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ أعاد تعالى ذكر العفو تأكيدا لطمع المذنبين في العفو، ومنعا لهم عن اليأس، وتحسينا لظنون المؤمنين، ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ قد مر معناه.
5. ذكر أبو القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد إلا ثلاثة عشر نفسا: خمسة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار، فأما المهاجرون فعلي عليه السلام وأبو بكر وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وقد اختلف في الجميع إلا في علي عليه السلام وطلحة، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: ورأيتني أصعد في الجبل، كأني أروى، ولم يرجع عثمان من الهزيمة إلا بعد ثلاث، فقال له النبي : لقد ذهبت فيها عريضة!
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/865.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ الخطاب للمؤمنين، وتولّيهم: فرارهم من العدوّ، والجمعان: جمع المؤمنين، وجمع المشركين، وذلك يوم أحد.
2. ﴿اسْتَزَلَّهُمُ﴾: طلب زللهم، قال ابن قتيبة: هو كما تقول: استعجلت فلانا، أي: طلبت عجلته، واستعملته: طلبت عمله، والذي كسبوا: يريد به الذّنوب.
3. في سبب فرارهم يومئذ قولان:
أ. أحدهما: أنهم سمعوا أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل، فترخّصوا في الفرار، قاله ابن عباس في آخرين.
ب. الثاني: أن الشّيطان أذكرهم خطاياهم، فكرهوا لقاء الله إلّا على حال يرضونها، قاله الزجّاج.
__________
(1) زاد المسير: 1/338.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المراد أن القوم الذين تولوا يوم أحد عند التقاء الجمعين وفارقوا المكان وانهزموا قد عفا الله عنهم، واختلفت الأخبار فيمن ثبت ذلك اليوم وفيمن، فذكر محمد بن إسحاق أن ثلث الناس كانوا مجروحين، وثلثهم انهزموا، وثلثهم ثبتوا، واختلفوا في المنهزمين، فقيل: إن بعضهم ورد المدينة وأخبر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قتل، وهو سعد بن عثمان، ثم ورد بعده رجال دخلوا على نسائهم، وجعل النساء يقلن: عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تفرون! وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن: هاك المغزل أغزل به، ومنهم قال إن المسلمين لم يعدوا الجبل، قال القفال: والذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا منهم تولوا وأبعدوا، فمنهم من دخل المدينة، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب، وأما الأكثرون فإنهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هناك، ومن المنهزمين عمر، إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي ، ومنهم أيضا عثمان انهزم مع رجلين من الأنصار يقال لهما سعد وعقبة، انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (لقد ذهبتم فيها عريضة) وقالت فاطمة لعلي: ما فعل عثمان؟ فنقصه، فقال النبي : (يا علي أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا)(2)
2. الذين ثبتوا مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، وسبعة من الأنصار، فمن المهاجرين أبو بكر، وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام، ومن الأنصار الخباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحرث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن حضير وسعد بن معاذ، وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين: علي وطلحة والزبير، وخمسة من الأنصار: أبو دجانة والحرث بن الصمة وخباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل بن حنيف، ثم لم يقتل منهم أحد، وروى ابن عيينة أنه أصيب مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول: وجهي لوجهك الفداء، ونفسي لنفسك الفداء، وعليك السلام غير مودع.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ هذا خطاب للمؤمنين خاصة يعني الذين انهزموا يوم أحد ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ أي حملهم على الزلة، وأزل واستزل بمعنى واحد، قال تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ [البقرة: 36] وقال ابن قتيبة: استزلهم طلب زلتهم، كما يقال استعجلته أي طلبت عجلته، واستعملته طلبت عمله.
4. ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ قال الكعبي: الآية تدل على أن المعاصي لا تنسب إلى الله، فإنه تعالى نسبها في هذه الآية إلى الشيطان وهو كقوله تعالى عن موسى: ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [القصص: 15] وكقوله يوسف، ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ [يوسف: 100] وكقول صاحب موسى: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ﴾ [الكهف: 63]
5. لم يبين الله تعالى أن الشيطان في أي شيء استزلهم، وذلك لأن مع العفو لا حاجة إلى تعيين المعصية، لكن العلماء جوزوا أن يكون المراد بذلك تحولهم عن ذلك الموضع، بأن يكون رغبتهم في الغنيمة، وأن يكون فشلهم في الجهاد وعدولهم عن الإخلاص، وأي ذلك كان، فقد صح أن الله تعالى عفا عنهم، وروي أن عثمان عوتب في هزيمته يوم أحد، فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن الله عفا عنه، وقرأ هذه الآية.
6. في قوله تعالى: ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أن الباء للإلصاق كقولك: كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين، والمعنى أنه كان قد صدرت عنهم جنايات، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه:
• الأول: قال الزجاج: إنهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها، وإلا بعد الإخلاص في التوبة، فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه.
• الثاني: أنهم لما أذنبوا بسبب مفارقة ذلك المكان أزلهم الشيطان بشؤم هذه المعصية وأوقعهم في الهزيمة، لأن الذنب يجر إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، ويكون لطفا فيها.
• الثالث: لما أذنبوا بسبب الفشل ومنازعة بعضهم مع بعض وقعوا في ذلك الذنب.
ب. الثاني: أن يكون المعنى: استزلهم الشيطان في بعض ما كسبوا، لا في كل ما كسبوا، والمراد منه بيان أنهم ما كفروا وما تركوا دينهم، بل هذه زلة وقعت لهم في بعض أعمالهم.
7. ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ هذه الآية دلت على:
أ. أن تلك الزلة ما كانت بسبب الكفر، فإن العفو عن الكفر لا يجوز لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]
ب. ثم قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: ذلك الذنب إن كان من الصغائر جاز العفو عنه من غير توبة، وإن كان من الكبائر لم يجز إلا مع التوبة، فههنا لا بد من تقدم التوبة منهم، وإن كان ذلك غير مذكور في الآية، قال القاضي: والأقرب أن ذلك الذنب كان من الصغائر ويدل عليه وجهان:
• الأول: أنه لا يكاد في الكبائر يقال إنها زلة، إنما يقال ذلك في الصغائر.
• الثاني: أن القوم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق إلى ثباتهم في ذلك المكان حاجة، فلا جرم انتقلوا عنه وتحولوا لطلب الغنيمة، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مدخلا، وأما على قول أصحابنا فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز، فلا حاجة إلى هذه التكلفات.
8. ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أي غفور لمن تاب وأناب، حليم لا يعجل بالعقوبة، وقد احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أن ذلك الذنب كان من الكبائر، لأنه لو كان من الصغائر لوجب على قول المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ أن يعفو عنه، ولو كان العفو عنه واجبا لما حسن التمدح به، لأن من يظلم إنسانا فإنه لا يحسن أن يتمدح بأنه عفا عنه وغفر له، فلما ذكر هذا التمدح علمنا أن ذلك الذنب كان من الكبائر، ولما عفا عنه علمنا أن العفو عن الكبائر واقع.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/398.
(2) هذا الحديث ظاهر الكذب
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ هذه الجملة هي خبر ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا﴾ والمراد من تولى عن المشركين يوم أحد، عن عمر وغيره، السدي: يعني من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة دون من صعد الجبل، وقيل: هي في قوم بأعيانهم تخلفوا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في وقت هزيمتهم ثلاثة أيام ثم انصرفوا.
2. معنى ﴿اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ استدعى زللهم بأن ذكرهم خطايا سلفت منهم، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا، وهو معنى ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ وقيل: ﴿اسْتَزَلَّهُمُ﴾ حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلة وهي الخطيئة، وقيل: زل وأزل بمعنى واحد، ثم قيل: كرهوا القتال قبل إخلاص التوبة، فإنما تولوا لهذا، وهذا على القول الأول، وعلى الثاني بمعصيتهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في تركهم المركز وميلهم إلى الغنيمة، وقال الحسن: ﴿مَا كَسَبُوا﴾ قبولهم من إبليس ما وسوس إليهم، وقال الكلبي: زين لهم الشيطان أعمالهم، وقيل: لم يكن الانهزام معصية، لأنهم أرادوا التحصن بالمدينة، فيقطع العدو طمعه فيهم لما سمعوا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قتل، ويجوز أن يقال: لم يسمعوا دعاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للهول الذي كانوا فيه، ويجوز أن يقال: زاد عدد العدو على الضعف، لأنهم كانوا سبعمائة والعدو ثلاثة آلاف، وعند هذا يجوز الانهزام ولكن الانهزام عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خطأ لا يجوز، ولعلهم توهموا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انحاز إلى الجبل أيضا، وأحسنها الأول.
3. على الجملة فإن حمل الأمر على ذنب محقق فقد عفا الله عنه، وإن حمل على انهزام مسوغ فالآية فيمن أبعد في الهزيمة وزاد على القدر المسوغ، وذكر أبو الليث السمرقندي نصر بن محمد بن إبراهيم قال: عن جرير: أن عثمان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتسبني وقد شهدت بدرا ولم تشهد، وقد بايعت تحت شجرة ولم تبايع، وقد كنت تولى مع من تولى يوم الجمع، يعني يوم أحد، فرد عليه عثمان فقال: أما قولك: أنا شهدت بدرا ولم تشهد، فإني لم أغب عن شي شهده رسول الله ، إلا أن بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانت مريضة وكنت معها أمرضها، فضرب لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سهما في سهام المسلمين، وأما بيعة الشجرة فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعثني ربيئة على المشركين بمكة ـ الربيئة هو الناظر ـ فضرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يمينه على شماله فقال: (هذه لعثمان) فيمين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وشماله خير لي من يميني وشمالي، وأما يوم الجمع فقال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ فكنت فيمن عفا الله عنهم، فحج عثمان عبد الرحمن، وهذا المعنى صحيح أيضا عن ابن عمر، كما في صحيح البخاري قال: عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شي أتحدثني؟ قال: أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم، قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال نعم، قال: فكبر، قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكانت مريضة، فقال له النبي : (إن لك أجر رجل من شهد بدرا وسهمه)، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه، فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بيده اليمنى: (هذه يد عثمان) فضرب بها على يده فقال: (هذه لعثمان)، اذهب بهذا الآن معك.. ونظير هذه الآية توبة الله على آدم ، وقوله : (فحج آدم موسى) أي غلبه بالحجة، وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذريته من الجنة بسبب أكله من الشجرة، فقال له آدم: أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن أخلق بأربعين سنة تاب علي منه ومن تاب عليه فلا ذنب له ومن لا ذنب له لا يتوجه عليه لوم، وكذلك من عفا الله عنه، وإنما كان هذا لإخباره تعالى بذلك، وخبره صدق، وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم، وإن قبلت فالخوف أغلب عليهم إذ لا علم لهم بذلك.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/244.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ أي: انهزموا يوم أحد، وقيل المعنى: إن الذين تولوا المشركين يوم أحد.
2. ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ استدعى زللهم بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب التي منها مخالفة رسول الله .
3. ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ لتوبتهم واعتذارهم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/450.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ﴾ انهزموا أو رجعوا إلى المدينة، ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه جمع، والمشركون جمع يوم أحد.
2. ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُم﴾ طلب بالوسوسة منهم الزلل بالانهزام، وبترك المركز، والحرص على الغنيمة، وبذكر ذنوب سبقت كرهوا أن يلقوا الله بها قبل أداء تبعتها، ﴿الشَّيْطَانُ﴾ جنس الشيطان إبليس أو غيره.
3. ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ﴾ من الذنوب، فإنَّ الذنب يجرُّ ذنبا، ويعاقَبُ المذنب بالذنب الآخر، وهذا البعض هو عين الذي زلُّوا به عن الدين، وهو الانهزام وترك المركز والحرص على الغنيمة، أو ذنوب سبقت كرهوا الموت قبل التخلُّص منها أدَّتهم إلى الانهزام، وسوس إليهِم بها الشيطان وما ذكر معه، والحصر بـ (إِنَّمَا) يكون للآخر، أي: ما أزلَّهم إِلَّا ببعض ما كسبوا، ويجوز أن يكون للشيطان، فيكون قوله: ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ﴾ تبعا له، لا مقصودا بالذات.
4. ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُم﴾ لتوبتهم واعتذارهم، ليس العفو والرحمة للآخرة مع الإصرار حكمة، فحيث أُطلقا قيِّدا بالتوبة لئلَّا يكون الخروج عن الحكمة، فإن كان العفو عدم عقاب الدنيا شمل أُبَـيًّا ومن معه، ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ لذنوب التائبين، ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعجِّل بالعقوبة، توسعةً لهم ليتوبوا، زيادةً في الإعذار، مع أنَّه لا يفوته عذابُ المصرِّ، ولا موتُ أحدٍ لأجَلِه، بل يذهب إلى موضع موته في غفلتِهِ أو قصْدِهِ الهروبَ عنه.
5. روي أنَّه نظر ملك الموت نظرة هائلة إلى رجل في مجلس سليمان بن داود عليه السلام ، فقال الرجل لسليمان: (من هذا الرجل الذي شدَّ نظره إليَّ؟)، فقال: (هو ملك الموت)، فقال: (أرسلْني مع الريح إلى عالم آخر)، فألقته في قُطْر سحيق، فما لبث أَن عاد ملك الموت إلى سليمان، فقال: (كنتُ أُمرتُ بقبض ذلك الرجل في هذه الساعة في أرض كذا ـ ويروى: في أرض الهند ـ فلمَّا وجدته في مجلسك قلت: متى يصلها، وقد أوصلته الريح فوجدته فيها فقضى الله أمره في زمانه ومكانه)، ويروى أنَّه تعجَّب بوجوده عند سليمان وقد أُمر بقبضه في أرض بعيدة، فقال له: (مُر الريح تحمله إليها) ففعل، ويُجمع بأنَّه سأله الملَك لإنفاذ القضاء، وسأله الرجل هروبا من الموت غير سامع لسؤال ملك الموت.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/37.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخبر تعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم، وأنه بسبب كسبهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ أي عن القتال ومقارعة الأبطال ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ أي جمع المسلمين وجمع المشركين ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ أي حمله على الزلل بمكر منه، مع وعد الله بالنصر ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ أي بشؤم بعض ما اكتسبوه بهم من الذنوب، كترك المركز، والميل إلى الغنيمة، مع النهي عنه، فمنعوا التأييد وقوة القلب، قال ابن القيّم: كانت أعمالهم جندا عليهم ازداد بها عدوهم قوة، فإن الأعمال جند للعبد، وجند عليه ولا بد للعبد في كل وقت من سرية من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتل بها، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه، فأعمال العبد تسوقه قسرا إلى مقتضاه من الخير والشر، والعبد لا يشعر، أو يشعر ويتعامى، ففرار الإنسان من عدوه، وهو يطيقه، إنما هو بجند من عمله، بعثه له الشيطان واستزله به.
2. ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ أي بالاعتذار والندم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق، ولا شك أنه كان عارضا عفا الله عنه، فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه، ويتجاوز عنهم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/441.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ أي إن الذين تولوا وفروا من أماكنهم يوم التقى جمعكم بجمع المشركين في أحد، لم يكن ذلك التولي منهم إلا بإيقاع الشيطان لهم في الزلل، أي زلوا وانحرفوا عما يجب أن يكونوا ثابتين عليه باستجرار الشيطان لهم بالوسوسة، قال الراغب: (استجرهم حتى زلوا فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه)، ولعله يشير بذلك أن المراد بالذين تولوا الرماة الذين أمرهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يثبتوا في أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين، فإنهم ما زلوا وانحرفوا عن مكانهم إلا مترخصين في ذلك، إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة من هزيمتهم، فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنيمة ضرر، فكان هذا الترخيص والتأويل للنهي الصريح عن التحول وترك المكان سببا لكل ما جرى من المصائب، وأعظمها ما أصاب الرسول ()
2. هناك وجه آخر: وهو أن الذين تولوا هم جميع الذين تخلوا عن القتال من الرماة وغيرهم، كالذين انهزموا عندما جاءهم العدو من خلفهم، واستدل القائلون بهذا الوجه بما روي من أن عثمان بن عفان عوتب في هزيمته يوم أحد فقال: إن ذلك خطأ عفا الله عنه.
3. أما كون الاستزلال قد كان ببعض ما كسبوا فقد قيل: إن الباء في قوله (ببعض) على أصلها، وأن الزلل الذي وقع هو عين ما كسبوا من التولي عن القتال، وقيل إنها للسببية، أي إن بعض ما كسبوا قد كان سببا لزلتهم، ولما كان السبب متقدما دائما على المسبب وجب أن يكون ذلك البعض من كسبهم متقدما على زللهم هذا ومفضيا إليه، فإن كان المراد بالذين تولوا الرماة جاز أن يكون المراد بالزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعا في الغنيمة، ويكون هذا التولي هو المراد ببعض ما كسبوا، ولا يصح هذا التأويل على الوجه الآخر القائل بأن الذين تولوا هم جميع الذين أدبروا عن القتال إلا إذا أريد ببعض ما كسبوا: ما كسب الرماة منهم وهم بعضهم، فيكون المعنى إن الذين تولوا منكم مدبرين عن القتال إنما استزلهم الشيطان بسبب بعض ما كسبت طائفة منهم وهم بعض الرماة، فإنه لولا ذلك لما كر المشركون بعد هزيمتهم وجاؤوا المؤمنين من ورائهم حتى أدهشوهم وهزموهم.
4. للسببية وجه آخر ينطبق على كل من القولين في الذين تولوا وهو أن توليهم عن القتال لم يكن إلا ناشئا عن بعض ما كسبوا من السيئات من قبل، فإنها هي التي أحدثت الضعف في نفوسهم حتى أعدتها إلى ما وقع منها، ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30] فهو بمعنى ما هنا، إلا أنه هنالك عام وهنا خاص بالذين تولوا يوم أحد، فالآيتان واردتان في بيان سنة من سنن الله تعالى في أخلاق البشر وأعمالهم، وهي أن المصائب التي تعرض لهم في أبدانهم وشؤونهم الاجتماعية إنما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم، وأن من أعمالهم ما لا يترتب عليه عقوبة تعد مصيبة وهو المعفو عنه، أي الذي مضت سنة الله تعالى بأن يعفى ويمحى أثره من النفس، فلا تترتب عليه الأعمال وهو بعض اللمم والهفو الذي لا يتكرر ولا يصير ملكة وعادة، وقد عبر عنه في الآية التي هي الأصل والقاعدة في بيان هذه السنة بقوله: ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [الأنعام: 71] أي بجميع ما كسبوا فإن (ما) من الكلمات التي تفيد العموم، وقد بينا هذه السنة الإلهية في مواضع كثيرة من التفسير وجرينا على أنها عامة في عقوبات الدنيا والآخرة فجميعها آثار طبيعية للأعمال السيئة، وقد اهتدى إلى هذه السنة بعض حكماء الغرب في هذا العصر.
5. ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ العفو فيه غير العفو في آية الشورى ذلك عفو عام وهذا عفو خاص، ذلك عفو يراد به أن من سنة الله في فطرة البشر أن تكون بعض هفواتهم وذنوبهم غير مفضية إلى العقوبة بالمصائب في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهذا العفو خاص بالمؤمنين يراد به ان ذنبهم يوم أحد الذي كان من شأنه يعاقب عليه في الدنيا والآخرة قد كانت عقوبته الدنيوية تربية وتمحيصا، وعفا الله عن العقوبة عليه في الآخرة، ولذلك قال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لا يعجل بتحتيم العقاب، ومن آيات مغفرته وحلمه بهم توفيقهم للاستفادة مما وقع منهم وإثابتهم الغم الذي دفعهم إلى التوبة حتى تمحص ما في قلوبهم واستحقوا العفو عن ذنوبهم.
__________
(1) تفسير المنار: 4/192.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ أي إن الرماة الذين أمرهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يثبتوا في أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين، ما تركوا هذه المواقع إلا بإيقاع الشيطان لهم في الزلل واستجراره لهم بالوسوسة، فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخّص فيها الإنسان سهلت استيلاء الشيطان على نفسه، فهم قد انحرفوا عن أماكنهم بتأوّل، إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة من هزيمتهم، فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنائم فوات منفعة ولا وقوع في ضرر، ولكن هذا التأويل كان سببا في كل ما جرى من المصائب التي من أجلها ما أصاب الرسول ، والذنب يجر إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، وعلى هذا فالزلل الذي أوقعهم فيه الشيطان هو ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعا في الغنيمة، وهذا التولي هو بعض ما كسبوا، وفي هذا إيماء إلى سنة من سنن الله في أخلاق البشر وأعمالهم، وهى أن المصائب التي تعرض لهم في خاصة أنفسهم أو في شؤونهم العامة، إنما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم، ولكن الله قد يعفو عن بعض الأعمال التي لا أثر لها في النفس وليست ملكة ولا عادة لها، بل صدرت هفوة غير متكررة، وهى التي عناها سبحانه بقوله: ﴿وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾ وإليها الإشارة بقوله: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾، فهذه المصائب والعقوبات، سواء أكانت في الدنيا أم في الآخرة ـ آثار طبيعية للأعمال السيئة.
2. ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ أي إنّ ما صدر منهم من الذنوب في هذا اليوم يستحق أن يعاقبوا عليه في الدنيا والآخرة، لكن الله عفا عن عقوبتهم الأخروية، وجعل عقوبتهم في الدنيا تربية وتمحيصا، وفي هذا دفع لاستيلاء اليأس على نفوسهم، وتحسين لظنونهم.
3. ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أي إن الله يغفر الذنوب جميعا صغيرها وكبيرها بعد التوبة والاعتذار، حليم لا يعاجل بالعقوبة على الذنب، وقد جاءت هذه الجملة كالسبب للعفو عن هؤلاء المتولين وقد كانوا أكثر المقاتلين، فإنه لم يبق مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد إلا ثلاثة عشر رجلا، خمسة من المهاجرين وباقيهم من الأنصار، وقد بالغ بعض المنهزمين في الفرار حتى إن بعضهم لم يرجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا بعد ثلاثة أيام، فقال لهم لقد ذهبتم بها عريضة، وبعضهم رجع في ذلك اليوم واجتمعوا على الجبل كعمر بن الخطاب.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/107.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. علم الله دخيلة الذين هزموا وفروا يوم التقى الجمعان في الغزوة، إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها؛ فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها، فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ، واستزلهم فزلوا وسقطوا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾
2. قد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم، فكان هذا هو الذي كسبوه، وهو الذي استزلهم الشيطان به، ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة، فتفقد ثقتها في قوتها، ويضعف بالله ارتباطها، ويختل توازنها وتماسكها، وتصبح عرضة للوساوس والهواجس، بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه! وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس، فيقودها إلى الزلة بعد الزلة، وهي بعيدة عن الحمى الآمن، والركن الركين.
3. من هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الرّبيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء، الاستغفار الذي يردهم إلى الله، ويقوي صلتهم به، ويعفى قلوبهم من الأرجحة، ويطرد عنها الوساوس، ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان، ثغرة الانقطاع عن الله، والبعد عن حماه، هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة، حتى ينقطع بهم في التيه، بعيدا بعيدا عن الحمى الذي لا ينالهم فيه!
4. ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم، فلم يدع الشيطان ينقطع بهم، فعفا عنهم.. ويعرفهم بنفسه سبحانه فهو غفور حليم، لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم؛ متى علم من نفوسهم التطلع إليه، والاتصال به؛ ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/498.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هنا يلتفت الله سبحانه إلى المؤمنين، بعد أن كشف لهم عن موقف المنافقين، الذين يعيشون معهم بهذا الثوب الرقيق الذي يلبسونه من نسيج الإسلام! وفي هذه اللفتة يرى الله المسلمين جماعة منهم ضعفوا عند لقاء العدو، فتحول بعضهم عن مكانه إلى حيث السّلب والغنائم، وانهزم بعضهم وفرّ مصعّدا في الجبل.. فهؤلاء جميعا كانوا موضع لوم وعتب بين جماعة المسلمين الذين ثبتوا للعدو، وصمدوا لضرباته.. وقد كثر القول فيهم، وتضاربت الآراء في إيمانهم! وتلك حال جدير بها أن تمزّق وحدة المسلمين، وأن تفتّ في عضدهم، بل وأن تذهب ببعض نفوسهم همّا وكمدا.
2. تجيء رحمة الله، فتهب هؤلاء الملومين عفوا ومغفرة، وتنقلهم من هذه العزلة الباردة القاتلة، إلى حيث دفء الطمأنينة، وروح السلامة والعافية، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾، فهؤلاء الذين تولوا يوم القتال، إنما كان ذلك منهم لما مكّنوا للشيطان من أنفسهم، ببعض ما كسبوا من سيئات! وهذا يعنى أن المؤمن الحريص على إيمانه، الحارس له من نزعات الهوى، هو في حصن حصين من أن ينفذ الشيطان إليه، ويوسوس له، ويستولى على زمام أمره... إن المعاصي التي يرتكبها المؤمن، هي قذائف مدمرة، تدك حصون إيمانه، فيجد الشيطان طريقه إليه، ثم يرميه الرمية القاتلة.
3. في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ إعلان كريم، من رب كريم، بالصلح الجميل، والمغفرة الواسعة، التي تصحح إيمان المؤمن، وتعيد بناءه أقوى قوة، وأشدّ صلاية! وفي قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ إعلان آخر عن سعة رحمة الله ومغفرته، وأنها تسع العصاة كما تسع الطائعين.. فحلمه يستدعى مغفرته أن تغفر للمذنبين، ولا تأخذهم بما اقترفوا، حتى يعذروا بهذا الصفح وتلك المغفرة، مرة، ومرات.
4. نجد فيما كان من رحمة الله ومغفرته لهؤلاء الذين استزلّهم الشيطان ـ نجد في هذا، كيف كان علم الله بما في الإنسان من ضعف، وأنه في معرض الخطأ والزلل، وذلك مما يقيم له عذره عند الله، فيمنحه عفوه ومغفرته، فإن هفا هفوة، أو زلّ زلة، أقال الله عثرته، وأنهضه من كبوته، وأعاده إلى حظيرة الإسلام، ولو تركه لشرد وضلّ، وهلك.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/622.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ استئناف لبيان سبب الهزيمة الخفيّ، وهي استزلال الشيطان إيّاهم، وأراد بـ ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ يوم أحد، و(استزلّهم) بمعنى أزلّهم أي جعلهم زالّين، والزلل مستعار لفعل الخطيئة، والسين والتاء فيه للتأكيد، مثل استفاد واستبشر واستنشق وقول النّابغة:
çوهم قتلوا الطائي بالجوّ عنوة...أبا جابر فاستنكحوا أم جابرé
أي نكحوا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْنَى اللهُ﴾ [التغابن: 6] وقوله: ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ [البقرة: 34]، ولا يحسن حمل السين والتاء على معنى الطلب لأنّ المقصود لومهم على وقوعهم في معصية الرسول، فهو زلل واقع.
2. المراد بالزّلل الانهزام، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضدّه وهو النّصر قال تعالى: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ [آل عمران: 147]
3. الباء في ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ للسببية وأريد ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ مفارقة موقفهم، وعصيان أمر الرّسول، والتنازع، والتعجيل إلى الغنيمة، والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان، رماهم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم، وإبطال ما عرّض به المنافقون من رمى تبعته على أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخروج، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد، وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه، ولأجل تخليص الأفكار من هذا الغلط الخفيّ وضع أهل المنطق باب القضيّة اللزوميّة والقضيّة الاتفاقية.
4. مناسبة ذكر هذه الآية عقب الّتي قبلها أنّه تعالى بعد أن بيّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة، فبيّن لهم أنّه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم، فلم يتفطّنوا إلى السبب، والتبس عليهم بالمقارن، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطئ وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح، وتزكية النفوس، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين، وتعظيمه عندهم، وتنفيرهم من الشيطان، والأفعال الذميمة، ومعصية الرسول، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين، وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ [آل عمران: 152] الآيات، وضمير ﴿مِنْكُمْ﴾ راجع إلى عامّة جيش أحد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا، وعن السديّ أنّ الذين تولّوا جماعة هربوا إلى المدينة.
5. للمفسّرين في قوله: ﴿اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ احتمالات ذكرها الزمخشري والفخر، وهي بمعزل عن القصد.
6. قوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ أعيد الإخبار بالعفو تأنيسا لهم كقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/262.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة بعد ذكر بيان السبب في الذنب، فقال تعالت كلماته: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ والتولي يستعمل بمعنى الإقبال وبمعنى الإدبار، فإن كان متعديا بنفسه كان بمعنى الإقبال، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة]، و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة] وإذا كانت متعدية بـ (عن) أو غير متعدية أصلا كانت بمعنى الإعراض ومنه الإدبار عن الزحف والأمر في وقته، وهى هنا لذلك، والتولي الذي وقع فيه أولئك الذين ذكرهم سبحانه يوم التقى الجمعان كان في أحد ويشمل فريقين:
أ. أحدهما الذين أقبلوا على الغنيمة وتركوا مواقعهم من الرماية فأولئك بتركهم مواقعهم وإقبالهم على الغنيمة كانوا مدبرين يشبهون الفارين.
ب. الثاني الذين فروا من القتال يوم أن اضطربت الموقعة وأصيب المؤمنون بجراح، وكانت فيهم مقتلتهم.
2. ذكر سبحانه السبب فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ ومعنى استزلهم الشيطان طلب لهم الزلل وسهله لهم ببعض ما كسبوا من صغائر؛ فإن تضافر الصغائر، وطلب الدنيا من شأنه أن يسهل ارتكاب الخطايا فإن النفس تمرد عليها وتسير في طريقها، ولقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني: استزله إذا تحرى زلته، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ أي استخرجهم حتى زلوا فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه، ومعنى هذا أن الشيطان لا يفتح معاقل النفس، ويغزو مواضع الفضيلة، إلا بالصغائر التي تسهل الرذائل، فإذا فتح النفس من هذا المعقل هجم بكل أسلحته، فتحكم الهوى والشيطان واستضعفت النفس وذلت، وأحاطت بها الخطايا، وسدت عنها منافذ الهداية والنور.
3. المعنى الجملي أن أولئك الذين كانوا سبب تلك الجراح أو فروا من الموقعة قد وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب أن نفوسهم لم تتجه إلى الله بكليتها ولهذا استزلهم الشيطان، وأمامهم الفرصة لتطهير نفوسهم، وقد أعلن سبحانه العفو عنهم فقال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾، وقد أكد سبحانه عفوه بأربعة تأكيدات:
أ. أولها: باللام فهي تنبئ عن القسم.
ب. الثاني: قد، فإنها تفيد تأكيد تحقق القول.
ج. الثالث: وصف الله تعالى بالمغفرة فإنه يؤكد أن العفو شأن في شؤونه سبحانه.
د. الرابع: الوصف بالحلم فإنه سبحانه لا يسارع بالعقاب: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فاطر]
4. أكد سبحانه أمر العفو، لتذهب عن نفوسهم حيرتها، ولتنخلع من الماضي ولتستقبل الحاضر والمستقبل بقلب جرىء ثابت، ولتشعر بعون الله وتوفيقه وتأييده وتسديده.. ربنا اعف عنا واغفر لنا وارحمنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1466.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾، قال أكثر من واحد: ان المراد من هذه الآية خصوص الرماة الذين أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يثبتوا في أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين، ثم تركوا مواقعهم بعد أن ظنوا ان المشركين انهزموا إلى غير رجعة، ولكن الآية لم تخص الرماة بالذكر، وعليه فهي عامة تشمل الرماة وغيرهم من المنهزمين يوم أحد.
2. أجل، ان عمومها خاص بالمنهزمين المؤمنين بالله والرسول، ولا تشمل المنافقين بدليل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾، لأن الله لا يعفو عن المنافق المصر على النفاق الذي هو أعظم من الشرك العلني.. والخلاصة ان من انهزم يوم أحد غير شاك بالله ورسوله، وإنما فر لعارض من الطمع أو عدم الصبر والتماسك، وما إلى ذلك مما لا ينزه عنه الا المعصوم، ولا يمت إلى النفاق والشك بصلة، ان هذا قد عفا الله عنه وان كان من أثر زلته الذي كان.
3. قيل في تفسير قوله تعالى ﴿اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾: ان الشيطان انما قدر عليهم لذنوب كانوا قد اقترفوها قبل أحد، وهذا مجرد تخمين، والأقرب ان الكسب هنا اشارة إلى جزعهم وعدم صبرهم، ولما رأى الشيطان منهم هذا الجزع استغله، وأغراهم بالهزيمة مموها عليهم بأن فيها أمانهم وسلامتهم.
4. واتفق جميع المفسرين وأهل السير والتاريخ على ان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كان مع الثابتين.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/184.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ استزلال الشيطان إياهم إرادته وقوعهم في الزلة، ولم يرد ذلك منهم إلا بسبب بعض ما كسبوا في نفوسهم ومن أعمالهم فإن السيئات يهدي بعضها إلى بعض فإنها مبنية على متابعة هوى النفس، وهوى النفس للشيء هوى لما يشاكله، أما احتمال كون الباء للآلة وكون ما كسبوا عين توليهم يوم الالتقاء فبعيد من ظاهر اللفظ فإن ظاهر ﴿مَا كَسَبُوا﴾ تقدم الكسب على التولي والاستزلال، وكيف كان فظاهر الآية أن بعض ما قدموا من الذنوب والآثام مكن الشيطان أن أغواهم بالتولي والفرار، ومن هنا يظهر أن احتمال كون الآية ناظرة إلى نداء الشيطان يوم أحد بقتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما في بعض الروايات ليس بشيء إذ لا دلالة عليه من جهة اللفظ.
2. ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ هذا العفو هو عن الذين تولوا، المذكورين في صدر الآية، والآية مطلقة تشمل جميع من تولى يومئذ فتعم الطائفتين جميعا أعني الطائفة التي غشيهم النعاس والطائفة التي أهمتهم أنفسهم، والطائفتان مختلفتان بالتكرم بإكرام الله وعدمه، ولكونهما مختلفتين لم يذكر مع هذا العفو الشامل لهما معا جهات الإكرام التي اشتمل عليها العفو المتعلق بالطائفة الأولى على ما تقدم بيانه.
3. من هنا يظهر أن هذا العفو المذكور في هذه الآية غير العفو المذكور في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾، ومن الدليل على اختلاف العفوين ما في الآيتين من اختلاف اللحن ففرق واضح بين قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ حيث إنه كلام مشعر بالفضل والرأفة وقد سماهم مؤمنين ثم ذكر إثابتهم غما بغم لكيلا يحزنوا ثم إنزاله عليهم أمنة نعاسا، وبين قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ حيث ذكر العفو وسكت عن جميع ما أكرم الطائفة الأولى به، ثم ختم الكلام بذكر حلمه وهو أن لا يعجل في العقوبة والعفو الذي مع الحلم إغماض مع استبطان سخط.
4. سؤال وإشكال: إنما سوى بين الطائفتين من سوى بينهما لمكان ورود العفو عنهما جميعا، والجواب: معنى العفو مختلف في الموردين بحسب المصداق وإن صدق على الجميع مفهوم العفو على حد سواء، ولا دليل على كون العفو والمغفرة وما يشابههما في جميع الموارد سنخا واحدا، وقد بينا وجه الاختلاف.
5. العفو على ما ذكره الراغب ـ وهو المعنى المتحصل من موارد استعمالاته ـ (هو القصد لتناول الشيء، يقال: عفاه واعتفاه أي قصده متناولا ما عنده، وعفت الريح الدار قصدتها متناولة آثارها)، وكان قولهم: عفت الدار إذ بلت مبني على عناية لطيفة وهي أن الدار كأنها قصدت آثار نفسها وظواهر زينتها فأخذته فغابت عن أعين الناظرين، وبهذه العناية ينسب العفو إليه تعالى كأنه تعالى يعني بالعبد فيأخذ ما عنده من الذنب ويتركه بلا ذنب، ومن هنا يظهر أن المغفرة ـ وهو الستر ـ متفرع عليه بحسب الاعتبار فإن الشيء كالذنب مثلا يؤخذ ويتناول أولا ثم يستر عليه فلا يظهر ذنب المذنب لا عند نفسه ولا عند غيره، قال تعالى: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا﴾، وقال: ﴿وَكَانَ اللهُ عَفوا غَفُورًا﴾
6. تبين بذلك أن العفو والمغفرة وإن كانا مختلفين متفرعا أحدهما على الآخر بحسب العناية الذهنية لكنهما بحسب المصداق واحد، وأن معناهما ليس من المعاني المختصة به تعالى بل يصح إطلاقهما على غيره تعالى بما لهما من المعنى كما قال تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ﴾، وقال تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ الآية فأمر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يعفوا عنهم فلا يرتب الأثر على معصيتهم من المؤاخذة والعتاب والإعراض ونحو ذلك، وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم ـ وهو تعالى فاعله لا محالة ـ فيما يرجع إليه من آثار الذنب.
7. وقد تبين أيضا أن معنى العفو والمغفرة يمكن أن يتعلق بالآثار التكوينية والتشريعية والدنيوية والأخروية جميعا، قال تعالى: ﴿وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾، والآية شاملة للآثار والعواقب الدنيوية قطعا، ومثله قوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾، على ظاهر معناه، وكذا قول آدم وزوجته فيما حكاه الله عنهما: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، بناء على أن ظلمهما كان معصية لنهي إرشادي لا مولوي.
8. والآيات الكثيرة القرآنية دالة على أن القرب والزلفى من الله، والتنعم بنعم الجنة يتوقف على سبق المغفرة الإلهية وإزالة رين الشرك والذنوب بتوبة ونحوها كما قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾
9. بالجملة العفو والمغفرة من قبيل إزالة المانع ورفع المنافي المضاد، وقد عد الله سبحانه الإيمان والدار الآخرة حياة، وآثار الإيمان وأفعال أهل الآخرة وسيرهم الحيوي نورا كما قال: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾، فالشرك موت والمعاصي ظلمات، قال تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾، فالمغفرة إزالة الموت والظلمة وإنما تكون بحياة وهو الإيمان، ونور وهو الرحمة الإلهية، فالكافر لا حياة له ولا نور، والمؤمن المغفور له له حياة ونور، والمؤمن إذا كان معه سيئات حي لم يتم له نوره وإنما يتم بالمغفرة، قال تعالى: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا﴾
10. ظهر من جميع ما تقدم أن مصداق العفو والمغفرة إذا نسب إليه تعالى في الأمور التكوينية كان إزالة المانع بإيراد سبب يدفعه، وفي الأمور التشريعية إزالة السبب المانع عن الإرفاق ونحوه، وفي مورد السعادة والشقاوة إزالة المانع عن السعادة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/51.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ انهزموا وفروا منكم أي بعضكم ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ جمع المسلمين وجمع الكفار ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ أوقعهم في الزلل أي في المعصية، وخوفهم أعداءه وتمكن الشيطان من ذلك بسبب بعض ﴿مَا كَسَبُوا﴾ من المعاصي من قبل، كالتهاون بأمر رسول صلّى الله عليه وآله وسلّم للرماة أن يبقوا في مقاعدهم.. أو غير ذلك، وفي هذه فائدة عسكرية مهمة لمن يريد الجهاد: أن يتوب توبة صادقة، ويلازم الحذر من المعاصي، وتجديد التوبة عند كل زلة فوراً ليبقى النصر والتأييد والثبات، ولايكون للشيطان عليه سبيل.
2. ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ لأنهم لم يصروا بل ندموا كما مر في صفة المتقين وعزموا على الثبات فوراً، وهذا فيمن لم يبعد في الهزيمة بل كان كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف:201 ـ 202] والتوبة مقبولة من الكل، لكن ظاهر قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ يفهم: أنه خاص بالخيار من الفارين بالنسبة إلى غيرهم من الذين فروا الذين لم يصروا من حيث جعلها زلة، وليس ذلك إلا فيمن لا يصر، فأما ماسبق منهم من المعصية فلعله كان سبيلاً للشيطان؛ لأنهم لم يتوبوا منه غفلة لإشتغال أذهانهم بالمعركة لا إصراراً ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ فلذلك قبل توبتهم ولم يعجل بعقابهم قبل التوبة لأنه ﴿حَلِيمٌ﴾ والحليم هو الذي لا يعجل بالعقاب، بل يتركه إما مطلقاً وإما مؤقتاً.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/563.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا﴾ وهربوا وولّوا الأدبار وأعرضوا عن مسئولية المعركة ﴿مِنْكُمْ﴾ أيها المسلمون ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ جمع المشركين وجمع المسلمين في الحرب المستعرة بينهما، ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَان﴾ من خلال حركته في داخل حياتهم لإيقاعهم في الزلّة التي تؤدي بهم إلى السقوط والوقوع تحت تأثير سخط الله ورسوله، ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ في نفوسهم وأعمالهم من الذنوب الصغيرة أو الكبيرة التي تترك آثارها العميقة في داخل الإنسان من خلال عناصرها السلبية في تحريكها لكل نقاط الضعف الإنساني في كل وضع من أوضاعهم المستقبلية مما يجعل الذنوب تتتابع، فإن الذنب يجرّ إلى الذنب، من خلال القاعدة التي يركزها في الذات في الأخلاقية المنحرفة للإنسان، تماما كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة في الأخلاقية المستقيمة في قاعدة الإيمان في النفس.
2. سؤال وإشكال: ما هي العناصر الذاتية الداخلية التي ساهمت في إعراض من أعرض وهزيمة من انهزم؟ هل هي أمور عميقة في داخل الإنسان، تملي عليه أعماله وتحددّ له خطواته في الحياة، أو هي حالات طارئة لا تلبث أن تذوب وتتطامى وتهدأ؟ والجواب: إن الآية تجيب عن هذا التساؤل، فتثير أمام الإنسان كثيرا من أخلاقه السلبيّة التي اكتسبها بفعل البيئة والنزعة والشهوة، فقد كسب هؤلاء من خلال أوضاعهم وعلاقاتهم بعض الخصائص في ما يتطلعون إليه من أهداف الحركة في الحياة، وما يعيشون فيه من اهتمامات، فقد عاشوا الاهتمام بتحصيل الغنائم كهدف من أهداف المعركة، كما استسلموا للحياة الدنيا في ما يستريحون إليه من حالات الضعف أمام مطالب الجسد ونوازع النفس الأمّارة بالسوء، مما أدّى إلى النتيجة الطبيعية المؤلمة في إعراضهم عن الوقوف أمام مسئولياتهم في الدفاع عن المواقع المتقدّمة في خط المعركة امتثالا لأوامر الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في ما وضعه من التخطيط للمعركة، فكان ذلك سببا في التفاف المشركين على المسلمين وفي حدوث الهزيمة في نهاية المطاف.
3. ربما نستوحي من خلال ذلك مفهوما إسلاميا تربويا يتصل بحركة الإنسان في خط الاستقامة والانحراف في الحياة، وخلاصته أن المعصية تنطلق من حالات فكرية أو نفسية يكسبها الإنسان من خلال بعض الأوضاع والأفكار والممارسات.. وبذلك تكون نتيجة للمفاهيم السلبية الداخلية، ولا تكون مجرّد حالة طارئة، ولذلك فإن على العاملين في حقل التربية الإسلامية أن يوجهوا اهتمامهم إلى هذا الجانب في شخصية الإنسان بالنفاذ إلى طبيعة المفاهيم التي يحملها، بدلا من أن يتحرك اهتمامهم إلى مواجهة أفعاله كأشياء متناثرة متفرقة لا رابط بينها، وعلى الإنسان ـ في هذا المجال ـ أن ينفذ إلى داخل فكره ليدرس المفاهيم التي اكتسبها من خلال بيئته وعمله، ليصلح نفسه على أساس إصلاح تلك المفاهيم وتغييرها في داخله ليتحرر من حالات الضغط الشعورية عليه.
4. ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ وقد كان العفو من الله رحمة لهم، لأنهم كانوا حديثي عهد بالتجربة الصعبة التي تفرض عليهم الالتزام بالتخطيط العملي للرسالة، فكان انحرافهم نتيجة طبيعيّة للعوامل الداخليّة المؤثّرة في مسيرتهم، فأراد الله لهم أن يرجعوا إلى أنفسهم من جديد ليراجعوا مواقفهم، فينطلقوا نحو التحديات المستقبليّة بروح رسالية صامدة، ويمارسوا المسؤوليات بإرادة قويّة منضبطة.. وهكذا كان عفو الله عن عباده، فرصة جديدة لهم من أجل تصحيح مواقفهم الخاطئة في كل موقف يشعرون فيه بالحاجة إلى التوبة والمغفرة، وقد نستطيع الاستيحاء العملي من هذه الآية في حركة الإنسان المسلم في أجواء المسؤوليات الإسلامية المباشرة عندما تنحرف به الخطى عن الطريق بسبب بعض الضغوط الداخليّة، ثم يندم ويتراجع ليستقيم من جديد على الخط، ويتحرر من كل المؤثرات السلبية في داخله، فقد يكون من الضروري أن لا نتعقد أمامه، بل نفسح له المجال لتجربة المسيرة من جديد.
5. هناك ملاحظة تفسيرية للعلّامة الطباطبائي في (الميزان) جديرة بالاهتمام، وهي متعلقة بالمقارنة بين قوله تعالى في هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ وبين قوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ وذلك بالتأكيد على أن العفو المذكور في الآية الأولى هو غيره المذكور في الآية الثانية، قال: (ومن الدليل على اختلاف العفوين ما في الآيتين من اختلاف اللحن، ففرق واضح بين قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ ثم ذكر إثابتهم غمّا بغم لكيلا يحزنوا، ثم إنزاله عليهم أمنة نعاسا، وبين قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ حيث ذكر العفو وسكت عن جميع ما أكرم الطائفة الأولى به، ثم ختم الكلام بذكر حلمه، وهو أن لا يعجل في العقوبة، والعفو الذي مع الحلم إغماض مع استبطان سخط، فإن قلت: إنما سوّى بين الطائفتين من سوى بينهما لمكان ورود العفو عنهما جميعا، قلت: معنى العفو مختلف في الموردين بحسب المصداق، وإن صدق على الجميع مفهوم العفو على حدّ سواء، ولا دليل على كون العفو والمغفرة وما يشابههما في جميع الموارد سنخا واحدا، وقد بينّا وجه الاختلاف)
6. نلاحظ على ما ذكره، أن اختلاف النقاط التي أحاطت بكلمة العفو في الموردين لا يعني اختلاف كلمتي العفو في المصداق، بل كل ما يوحي به ذلك اختلاف الحديث عن صفة العفو في طبيعته الواحدة وحركته الواقعية في صفة الله التي تلتقي به، فالله ذو فضل على المؤمنين عندما يعفو عنهم في كل موارد العفو بعد استحقاقهم للمؤاخذة من خلال ذنوبهم، وهو الحليم بهم والغفور لهم الذي يتسع حلمه في خط المغفرة، وهكذا يكون الحلم في موقع الفضل، كما يكون الفضل مظهرا للحلم، فهما عنوانان ينطبقان على مصداق واحد، أما مسألة ذكر الإكرام هناك وإغفاله هنا، فهو أمر آخر يضاف إلى العفو ولا يدخل في معناه المصداقي، وهذا هو الأسلوب القرآني في الحديث عن صفات الله، حيث تلتقي كل صفة بصفات الله الأخرى مع اتحاد الورود والمصداق، لأن الله تحدث عن الواقعة كوحدة في أوضاعها ونتائجها مع تعدد في الوقائع وتنوعها في سلوك الأشخاص الذين يمثلون فريقا واحدا، فليس هنا فردان من العفو؛ عفو لا ينفتح على معنى الفضل، وعفو ينفتح عليه، إن ذلك نوع من التكلف.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/327.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية ناظرة أيضا إلى وقائع معركة (أحد)، وتقرر حقيقة أخرى للمسلمين، وهي أن الذنوب والانحرافات التي تصدر من الإنسان بسبب من وساوس الشيطان، تفرز آثاما وذنوبا أخرى بسبب وجود القابلية الحاصلة في النفس الإنسانية نتيجة الذنوب السابقة، والتي تمهد لذنوب مماثلة وآثام أخرى وإلّا فإن القلوب والنفوس التي خلت وطهرت من آثار الذنوب السالفة لا تؤثر فيها الوساوس الشيطان، ولا تتأثر بها، ولهذا قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾
2. هكذا يعلمهم القرآن أن عليهم أن يضاعفوا الجهد في تربية نفوسهم وتطهير قلوبهم لتحقيق الانتصار في المستقبل.
3. يمكن أن يكون المقصود من الذنب الذي كسبوا هو حب الدنيا وجمع الغنائم، ومخالفة الرسول، وتجاهل أوامره في بحبوحة المعركة، أو ذنوب أخرى كانوا قد اقترفوها قبل معركة (أحد) أضعفت من طاقاتهم الإيمانية، وأضرت بالجانب المعنوي فيهم، وقد نقل العلّامة الطبرسي عن أبي القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم (أحد) إلّا ثلاث عشرة نفسا (فيكون عددهم مع النبي 14) خمسة من المهاجرين وثمانية من الأنصار وقد اختلف في الجميع إلّا في علي وطلحة فإنهما ثبتا ولم يفرا باتفاق الجميع.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/741.
83. الشهادة والموت والمفاهيم والمواقف الخاطئة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈83⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ والله يُحْيِي وَيُمِيتُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: 156 ـ 158]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال يوم الجمل: أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيص، ومن لم يمت يقتل، وإن أفضل الموت القتل، والذي نفسي بيده، لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على فراش(1).
2. روي أنّه قال: إن الدنيا دار فناء وعناء، وغير وعبر؛ فمن الفناء أن الدهر موتر قوسه، لا تخطئ سهامه، ولا تؤسى جراحه، يرمي الحي بالموت، والصحيح بالسقم، والناجي بالعطب، آكل لا يشبع، وشارب لا ينقع، ومن العناء أن المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن(2).
3. روي أنّه قال: عجبت لعامر الدنيا دار الفناء، وهو نازل دار البقاء(3).
4. روي أنّه قال: أيها الناس، ألا إن الدنيا دار فناء والآخرة دار بقاء، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم(4).
__________
(1) الكافي: 5/53/4.
(2) نهج البلاغة: الخطبة: 114.
(3) أعلام الدين: ص 296.
(4) عيون أخبار الرضا: 1/298.
الحسين:
روي عن الإمام الحسين (ت 61 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ليس شأني شأن من يخاف الموت ما أهون الموت على سبيل نيل العزّ وإحياء الحقّ، ليس الموت في سبيل العزّ إلّا حياة خالدة، وليست الحياة مع الذلّ إلّا الموت الّذي لا حياة معه أفبالموت تخوّفني هيهات طاش سهمك وخاب ظنّك، لست أخاف الموت إنّ نفسي لأكبر من ذلك وهمّتي لأعلى من أن أحمل الضيم خوفا من الموت، وهل تقدرون على أكثر من قتلي، مرحبا بالقتل في سبيل الله ولكنّكم لا تقدرون على هدم مجدي ومحو عزّي وشرفي، فإذا لا أبالي بالقتل(1).
2. روي أنّه قال: موت في عزّ خير من حياة في ذلّ(1).
__________
(1) أهل البيت: ص448.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ هذا قول عبد الله بن أبي بن سلول والمنافقين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ يحزنهم قولهم، لا ينفعهم شيئا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٧٦.
(2) ابن جرير: ٦/١٨٠.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ هذا قول الكفار، إذا مات الرجل يقولون: لو كان عندنا ما مات، فلا تقولوا كما قال الكفار(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٩٩.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ معناه تباعدوا فيها(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 113.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان قنبر غلام عليّ يحبّ عليّا حبّا شديدا فإذا خرج عليّ خرج على أثره بالسيف، فرآه ذات ليلة، فقال: يا قنبر مالك؟ فقال: جئت لأمشي خلفك يا أمير المؤمنين، قال ويحك أمن أهل السماء تحرسني أو من أهل الأرض!؟ فقال لا، بل من أهل الأرض فقال: إنّ أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئا إلّا بإذن الله من السماء فارجع، فرجع(1).
2. روي أنّه قال: أيها الناس، إن هذه الدنيا دار فراق ودار التواء لا دار استواء، على أن فراق المألوف حرقة لا تدفع، ولوعة لا ترد(2).
__________
(1) أصول الكافي: 2/59.
(2) كمال الدين: ص 74.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم وعظ الله المؤمنين ألا يشكوا كشك المنافقين، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا﴾ في القول ﴿كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: المنافقين، ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ يعني: عبدالله بن أبي، وذلك أنه قال يوم أحد لعبد الله بن رباب الأنصاري وأصحابه ﴿إِذَا ضَرَبُوا﴾ يعني: ساروا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ تجارا ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ جمع غاز ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا﴾ يعني: التجار ﴿وَمَا قُتِلُوا﴾ يعني: الغزاة، قال عبد الله بن أبي ذلك حين انهزم المؤمنون وقتلوا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ﴾ القتل ﴿حَسْرَةً﴾ يعني: حزنا ﴿فِي قُلُوبِهِمْ والله يُحْيِي﴾ الموتى، ﴿وَيُمِيتُ﴾ الأحياء لا يملكهما غيره، وليس ذلك بأيديهم، ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ﴾ في غير قتل ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ﴾ لذنوبكم، ﴿وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ من الأموال(1).
4. روي أنّه قال: ثم حذرهم القيامة، فقال: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ﴾ في غير قتل: ﴿أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ في سبيله: ﴿لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ فيجزيكم بأعمالكم(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٩.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ الآية، أي: لا تكونوا كالمنافقين الذي ينهون إخوانهم عن الجهاد في سبيل الله والضرب في الأرض في طاعة الله وطاعة رسوله، ويقولون إذا ماتوا أو قتلوا: لو أطاعونا ما ماتوا وما قتلوا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ لقلة اليقين بربهم، ﴿والله يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي: يعجل ما يشاء، ويؤخر ما يشاء من آجالهم بقدرته(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ الآية، أي: إن الموت كائن لا بد منه؛ فموت في سبيل الله أو قتل خير ـ لو علموا وأيقنوا ـ مما يجمعون من الدنيا التي لها يتأخرون عن الجهاد تخوف الموت والقتل، لما جمعوا من زهيد الدنيا، زهادة في الآخرة(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾، أي: ذلك كائن، إذ إلى الله المرجع، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا تغتروا بها، وليكن الجهاد وما رغبكم الله فيه منه آثر عندكم منها(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٧٦.
(2) ابن جرير: ٦/١٧٠.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنه سئل عن قول الإمام علي (لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش؟) فقال: في سبيل الله(1).
__________
(1) التهذيب: 6/123/215.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾، لم قال: ﴿إِذَا ضَرَبُوا﴾، وهل يحتمل أن يطرح الألف من (إذا)؟ والجواب: هذا ـ يرحمك الله ـ كلام فصيح، جائز مستقيم، لو كان على غيره لدخله نقصان؛ لأن الله سبحانه إنما أخبر عن قول الظالمين، فقال: ﴿لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾، فأخبر الله عز وجل أنهم إنما يقولون هذا الكلام لإخوانهم إذا أخرجوا بأمر نبيهم، وغزوا في طاعة ربهم، وليسوا إذا قعدوا يقولون لهم من ذلك شيئا، فلما أن كانوا يمسكون عن هذا الكلام في حال قعود إخوانهم، ويتكلمون به عند خروجهم في جهاد أعداء الله وعدوهم ـ كانت هذه حالان؛ فأخبر الله عز وجل بكلامهم في حال الغزو والضرب في الأرض، وبسكوتهم في حال التخلف والخفض؛ فلم يحسن ولم يجز في صحيح اللغة إلا أن يقول: (إذا)؛ لأن (إذا) إخبار عن كلام هؤلاء القوم لإخوانهم، في كل مرة غزوا أو ضربوا في الأرض قالوا لهم هذا الكلام، وخاطبوهم بهذه المخاطبة، لا يقطعونها عنهم أصلا، وإذا كان قولهم: (إذ ضربوا في الأرض) كانوا كأنهم إنما خاطبوهم في فعلة واحدة، وسفر منفرد وحده؛ فهذا الفرق بين بين (إذا) و(إذ(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/192.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في قوله تعالى: ﴿كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾:
أ. قال بعضهم: نهى المؤمنين أن يكونوا كالذين كفروا في السرّ والعلانية، ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ يعني: المنافقين، ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾
ب. وقيل: لا تكونوا كالمنافقين قالوا لإخوانهم، وهم كانوا إخوانهم في النسب، وإن لم يكونوا إخوانهم في الدين والمذهب.
ج. لا حاجة لنا إلى معرفة قائله من كان، ولكن المعنى ألا يقولوا مثل قولهم لمن قتل.
2. ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني: إذا ضربوا في الأرض تجارا أو (غزى)، أي: غزاة، وقيل: قوله: ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أو كانوا غزاة على إسقاط الألف.
3. قوله تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أي: ليجعل الله ذلك القول الذي قالوا حسرة يتردد في أجوافهم.
ب. ويحتمل: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً﴾ يوم القيامة؛ كقوله: ﴿أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: 167]
4. ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي: والله يحيي من ضرب في الأرض وغزا، ويميت من أقام ولم يخرج غازيا، أي: لا يتقدم الموت بالخروج في الغزو، ولا يتأخر بالمقام وترك الخروج، دعاهم إلى التسليم، إنما هي أنفاس معدودة، وأرزاق مقسومة، وآجال مضروبة، ما لم يفناها واستوفاها وانقضى أجلها: لا يأتيها.
5. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وعيد.
6. ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ﴾ أي أن الموت إن كان لا بدّ نازل بكم؛ فقتلكم أو موتكم في طاعة الله وجهاده خير من أن ينزل بكم في غير طاعة الله وسبيله، ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ من الأموال.
7. ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي: إن متم على فراشكم، أو قتلتم في سبيل الله ـ فإليه تحشرون، فمعناه أي: إن لم تقدروا على أن لم تحشروا إليه، كيف تقدرون ألا ينزل على فراشكم بكم الموت، وإن أقمتم في بيوتكم!؟
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/514.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا خطاب متوجه إلى المؤمنين الذين نهاهم الله أن يكونوا مثل الذين كفروا، وقالوا لإخوانهم.. وهم عبد الله بن أبي بن سلول، وأصحابه ـ في قول السدي ومجاهد ـ: ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي سافروا فيها لتجارة أو طلب معيشة ـ في قول ابن إسحاق، والسدي ـ، فأصله الضرب باليد، وقيل الأصل في الضرب في الأرض الإيغال في السير.
2. ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ أي جمع غاز كما قالوا: شاهد وشهد، وقائل وقول، قال رؤية:
çفاليوم قد نهنهني تنهنهي...وأول حلم ليس بالمسفهé
ويجوز فيه غزاة كقاض، وقضاة، وغزاء ممدود كخارب وخراب، وكاتب وكتاب، ويجوز ﴿قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ولا يجوز أكرمتك إذا زرتني على أن توقع إذا موضع إذ، لأمرين:
أ. أحدهما: لأنه متصل بـ (لا تكونوا) كهؤلاء إذا ضرب إخوانكم في الأرض.
ب. الثاني: لأن (الذي) إذا كان مبهما غير موقت يجري مجرى ما في الجزاء، فيقع الماضي فيه، موقع المستقبل، نحو ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ معناه يكفرون، ويصدون، ومثله ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾ معناه إلا من يتوب، ومثله كثير، ويجوز لأكرمن الذي أكرمك إذا زرته، لابهام الذي، ولا يجوز لأكرمن هذا الذي أكرمك إذا زرته، لتوقيت الذي من أجل الاشارة إليه بهذا ولأنه دخله معنى كلما ضربوا في الأرض، فلا يصح على هذا المعنى إلا بإذا دون إذ قال الشاعر:
çواني لآتيكم تشكر ما مضى...من الأمر واستيجاب ما كان في غدé
أي ما يكون في غد، وهذا قول الفراء.
3. اختلف في اللام في قوله تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾:
أ. قيل: متعلقة بـ (لا تكونوا) كهؤلاء الكفار في هذا القول منهم، ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ دونكم.
ب. الثاني: قالوا ذلك ليجعله حسرة على لام العاقبة ـ وهذا قول أبي علي ـ والحسرة عليهم في ذلك من وجهين:
• أحدهما: الخيبة فيما أملوا من الموافقة لهم من المؤمنين، فلما لم يقبلوا منهم، كان ذلك حسرة في قلوبهم.
• والآخر: ما فاتهم من عز الظفر والغنيمة.
4. ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ معناه هاهنا الاحتجاج على من خالف أمر الله في الجهاد طلباً للحياة، وهرباً من الموت، لأن الله تعالى إذا كان هو الذي يحيي ويميت لم ينفع الهرب من أمره بذلك خوف الموت، وطلب الحياة.
5. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي مبصر، ويحتمل أن يكون بمعنى عليم، وفيه تهديد، لأن معناه أن الله يجازي كلا منهم بعمله ان خيراً فخيراً وان شراً فشراً.
6. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ مع تفاوت ما بينهما ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول الإنسان للمدرة خير من البعرة!؟ والجواب: إنما جاز ذلك لأن الناس يؤثرون حال الدنيا على الآخرة حتى أنهم يتركون الجهاد في سبيل الله محبة للدنيا، والاستكثار منها، وما جمعوا فيها.
7. سؤال وإشكال: أين جواب الجزاء بـ (ان)؟ والجواب: استغني عنه بجواب القسم في قوله: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ﴾ وقد اجتمع شيئان كل واحد منهما يحتاج إلى جواب، فكان جواب القسم أولى بالذكر ـ لأن له صدر الكلام ـ مما يذكر في حشوه.
8. سؤال وإشكال: لم شرط ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ وهو خير كيف تصرفت الحال؟ والجواب: لأنه لا يكون (المغفرة) بالتعرض للقتل في سبيل الله خيراً من غير أن يقع التعرض لذلك لاستحالة استحقاقها بما لم يكن منه، لأنه لم يفعل.
9. سؤال وإشكال: لم جاز جواب القسم مع الماضي في الجزاء دون المستقبل في نحو قولهم لئن قتلتم لمغفرة خير؟ والجواب: لأن حرف الجزاء إذا لم يعمل في الجواب لم يحسن أن يعمل في الشرط، لأن إلغاءه من أحدهما يوجب الغاءه من الآخر كما أن اعماله في أحدهما يوجب اعماله في الآخر لئلا يتنافر الكلام بالتفاوت.
10. سؤال وإشكال: لم أعلمت (ان) ولم تعمل (لو) وكل واحدة منهما تعقد الفعل بالجواب؟ والجواب: لأن (ان) تنقل الفعل نقلين على الاستقبال، والجزاء، وليس كذلك (لو) لأنها لما مضى.
11. سؤال وإشكال: كيف وجب بالتعرض للقتل المغفرة وإنما تجب بالتوبة؟ والجواب: لأنه يجب به تكفير الصغيرة مع أنه لطف في التوبة من الكبيرة، ومعنى الآية أن المنافقين كانوا يثبطون المؤمنين عن الجهاد، على ما تقدم شرحه في هذه السورة فبين الله تعالى لو انكم إن قتلتم أو متم من غير أن تقتلوا ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ﴾ تنالونها ﴿خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ من حطام الدنيا، والبقاء فيها، وانتفاعكم في هذه الدنيا، لأن جميع ذلك إلى زوال.
12. اللام في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: أن يكون خلفاً من القسم، ويكون اللام في قوله: ﴿لَإِلَى اللهِ﴾ جواباً كقولك: والله ان متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله.
ب. الثاني: أن تكون مؤكدة لما بعدها، كما تؤكد (ان) ما بعدها، وتكون الثانية جواباً لقسم محذوف، والنون مع لام القسم في فعل المضارع لا بد منها، لأن القسم أحق بالتأكيد من كلما تدخله النون من جهة أن ذكر القسم دليل أنه من مواضع التأكيد فإذا جازت في غيره من الأمر، والنهي، والاستفهام، والعرض، والجزاء مع ما إذ كان ذكر القسم قد أنبأ أنه من مواضع التأكيد، لزمت فيه، لأنه أحق بها من غيره، والفرق بين لام القسم ولام الابتداء: أن لام الابتداء تصرف الاسم إليه، فلا يعمل فيه ما قبلها نحو (قد علمت لزيد خير منك) (وقد علمت بأن زيداً ليقدم)، وليس كذلك لام القسم، لأنها لا تدخل على الاسم، ولا تكسر لها لام (إن) نحو قد علمت ان زيداً ليقومن، ويلزمها النون في المستقبل، والفرق بين (أو) و(أم) أن (أم) استفهام، وفيها معادلة الالف نحو (أزيد في الدار أم عمرو) وليس ذلك في (أو) ولهذا اختلف الجواب فيهما، فكان في (أم) بالتعيين وفي (أو) بـ (نعم) أو (لا) ومعنى الآية الحث على الجهاد وترك التعاقد، ويقال أن الله يحشر العباد ليجزي كل واحد على ما يستحقه: المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته سواء قتل أو مات كيف تصرفت به الحال.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/27.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحسرة: الاغتمام والتلهف على فائت كان يقدر بلوغه.
ب. الموت: بطلان الحياة، وقيل: هو عرض يضاد الحياة.
ج. القتل: نقض البنية التي يعقبها إزهاق الروح.
2. نهى الله تعالى المؤمنين عن الاقتداء بهم في أفعالهم فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خطاب لأصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾:
أ. قيل: أراد المنافقين عبد الله بن أُبي وأصحابه عن السدي ومجاهد.
ب. وقيل: هو عام.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾:
أ. قيل: في النفاق والكفر.
ب. وقيل: في النسب.
4. ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ سافروا لتجارة أو طلب معيشة فماتوا عن السدي وابن إسحاق، وإنما خص الأرض بالذكر:
أ. قيل: لأن أكثر أسفارهم كان في البر.
ب. وقيل: اكتفى بذكر البر عن ذكر البحر كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾
ج. وقيل: لأن الأرض تشتمل على البر والبحر.
5. ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ أي غزاة محاربين للعدو فقتلوا ﴿لَوْ كَانوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا﴾ هذا قول المنافقين لإخوانهم لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾:
أ. قيل: صار عاقبة قولهم أنه جعل ذلك حسرة في قلوبهم؛ إذ لم يُقْتلِ المؤمنون، فجاهدوا ونالوا الظفر، وقعدوا هم فلم ينالوا شيئًا عن أبي علي.
ب. وقيل: لكي يجعل ذلك حسرة في قلوبهم.
ج. وقيل: ليجعل ظنهم أنهم لو لم يحضروا الوقعة لم يقتلوا حسرة؛ لأن حسرتهم مع هذا الظن أشد ممن يعلم أنه كان يموت حضر أو لم يحضر.
د. وقيل: الحسرة عليهم من وجهين:
• أحدهما: الخيبة فيما أملوا من الموافقة.
• والآخر: ما فاتهم من الظفر والغنيمة.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾:
أ. قيل: يعني يحيي من يشاء ويميت من يشاء سفرًا وحضرًا لا يتعجل موت لسفر ولا يتأخر لحَضَرٍ.
ب. وقيل: فيه حث على القتال كي لا يَفْتُروا وإن قل عددهم؛ لأن الموت والحياة إليه، ولا يموت إلا بعد استيفاء أجله.
ج. وقيل: أراد أن الفرار لا يدفع الموت لأنه إليه تعالى.
8. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي عالم بأعمالكم يجازيكم بها.
9. ثم حث على الجهاد بأن بيَّن أن الشهادة خير من الدنيا فقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾:
أ. قيل: أي في الجهاد ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ قاصدين مجاهدة العدو استوجبتم المغفرة، والمغفرة خير مما يجمعون في الدنيا، والعيش الذي لأجله يتثاقلون في الجهاد.
ب. وقيل: أراد قَتْلٌ في سبيل الله أو موت في سفر خير مما يجمعه هَؤُلَاءِ المنافقون، رَدَّ عليهم قولهم.
ج. وقيل: معناه إذا كان الموت لا بد نازلاً بكم فموت في سبيل الله أو قَتْل خَير مما تجمعون من الدنيا التي لها يتأخرون عن الجهاد.
د. وقيل: هو تعزية وتسلية للمؤمنين، يعني قتل من قتل في الجهاد وموت من مات خير مما جمعتم من الغنيمة والمال عن أبي مسلم.
10. المغفرة: الصفح عن الذنب، والرحمة: الثواب والجنة ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ في سبيل الله ﴿لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي إلى حكمه تجمعون فيجازيكم يعني إذا كان مرجعكم إليه فآثروا ما يقربكم منه ويوجب رضاه من الجهاد في سبيله والعمل بطاعته ولا تركنوا إلى الدنيا، والحشر إليه هو الحشر إلى الموضع الذي يحكم هو فيه ولا يملك الضر والنفع غيره عن أبي علي.
11. تدل الآية الكريمة على:
أ. أنه لا ينبغي للمؤمن أن يقبل عمن يصده عن طاعة ربه.
ب. أن التشبه بالكافر محظور، ثم قد يكون فيها ما يكون كفرًا.
ج. أن خوف القتل لا يمنع وجوب الجهاد.
د. أنه إذا كان المرجع إلى الله تعالى فالجهاد في سبيل الله خير من الدنيا، وفيه حث على الجهاد.
هـ. عظم قول أهل الحق مع الخوف؛ لأنه بمنزلة الجهاد.
12. قراءات ووجوه:
أ. قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ﴿وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ بالياء كناية عن الغائبين، والباقون بالتاء على الخطاب.
ب. قرأ ﴿مُتِمُّ﴾ بكسر الميم نافع وحمزة والكسائي [و] وافقهم حفص في سائر المواضع إلا ههنا، وقرأ الباقون بضم الميم، فالضم من مات يموت نحو: قال يقول قلت، وكان يكون كنت، والكسر من مات يَمات، ونظيره: خاف يخاف خِفْتُ، وهاب يهاب هِبتُ.
ج. قرأ ﴿يَجْمَعُونَ﴾ بالياء حفص عن عاصم على الخبر عن الغائبين، والباقون بالتاء خطابًا لهم لقوله: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ﴾
د. القراء على ﴿غُزًّى﴾ بضم الغين وفتح الزاي والتشديد والتنوين، وهو جمع غازٍ نحو: جاهل وجُهّل، وشاهد وشُهّد، ونائم ونوّم، وصائم وصوّم، وقائلٍ وقوّل، ويجوز فيها غزاة كقاض وقضاة، ويجوز غزا ممدود كحارث وحراث، وغُزًّى جمع مقصور لا يعتبر لفظها في رفع ونصب وخفض، وقرأ في السواد ﴿غُزًّى﴾ بتخفيف الزاي، وإنما شدد؛ لأن فاعل لا يُكَسَّر على فُعَل، ولكن المعتل قد يجوز فيه ما لا يجوز في الصحيح.
13. مسائل لغوية ونحوية:
أ. في جواز ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ولم يجز أكرمتك إذ آزرتني على أن يوقع ﴿إِذَا﴾ هو موقع ﴿إِذِ﴾ أقوال:
• الأول: لأنه متصل بلا تكونوا كهَؤُلَاءِ إذا ضربوا إخوانهم في الأرض.
• الثاني: لأن الذي إذا كان مبهمًا غير مؤقت يجري مجرى ﴿مَا﴾ في الجزاء فيقع الماضي فيه موقع المستقبل نحو ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ﴾
• الثالث: لأنه دخله معنى كلما ضربوا في الأرض فلا يصلح على هذا المعنى إلا بـ ﴿إِذَا﴾ دون ﴿إِذِ﴾ عن الفراء.
ب. في اتصال قوله: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ﴾ قولان:
• الأول: يكون كهَؤُلَاءِ الكفار في هذا القول منهم؛ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم دونكم.
• الثاني: قالوا ذلك ليجعله حسرة على لام العاقبة عن أبي علي.
ج. جاز جواب القسم مع الماضي في الجزاء دون المستقبل نحو: لئن قتلتم لمغفرة لأن حرف الجزاء إذا لم يعمل في الجواب لم يحسن أن يعمل في الشرط؛ لأن إلغاءه من أحدهما يوجب إلغاءه من الآخر، كما أن إعماله في أحدهما يوجب إعماله في الآخر؛ لئلا يتنافى الكلام في التفاوت.
د. اللام في قوله: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ﴾ وفي ﴿لَإِلَى اللهِ﴾، أما الأولى ففيها قولان: أحدهما: أنه حلف من القسم، والثانية جوابه كقوله: والله لئن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله، الثاني: أنها مؤكدة لما بعدها، وتكون الثانية جوابًا للقسم المحذوف.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/430.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الضرب في الأرض: السير فيها، وأصله: الضرب باليد، وقيل: هو الإيغال في السير.
ب. غزى: جمع غاز، نحو ضارب وضرب، وطالب وطلب.
2. نهى الله سبحانه المؤمنين عن الاقتداء بالمنافقين في أقوالهم وأفعالهم فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾:
أ. قيل: يريد عبد الله بن أبي سلول، وأصحابه من المنافقين، عن السدي ومجاهد.
ب. وقيل: هو عام.
3. ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ من أهل النفاق ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي: سافروا فيها لتجارة، أو طلب معاش، فماتوا، عن السدي وابن إسحاق، وإنما خص الأرض بالذكر:
أ. قيل: لأن أكثر أسفارهم كان في البر.
ب. وقيل: اكتفى بذكر البر عن ذكر البحر كقوله تعالى ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾
ج. وقيل: لأن الأرض تشتمل على البر والبحر.
4. ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ أي: غزاة محاربين للعدو فقتلوا ﴿لَوْ كَانُوا﴾ مقيمين ﴿عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾:
أ. قيل: معناه: قالوا هذا القول ليثبطوا المؤمنين عن الجهاد، فلم يقبل المؤمنون ذلك، وخرجوا ونالوا العز والغنيمة، فصار حسرة في قلوبهم، واللام على هذا في ﴿لِيَجْعَلَ﴾ لام العاقبة.
ب. وقيل: معناه ولا تكونوا كهؤلاء الكفار في هذه المقالة، لكي يجعل الله تلك المقالة سببا لإلزام الحسرة والحزن في قلوبهم، لما يحصل لهم من الخيبة فيما أملوا من الموافقة، ولما فاتهم من عز الظفر والغنيمة.
5. ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي: هو الذي يحي ويميت في السفر والحضر، عند حضور الأجل، لا مقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم، ولا راد لما قضى، ولا محيص عما قدر، وهذا يتضمن منع الناس عن التخلف في الجهاد خشية القتل، فإن الإحياء والإماتة بيد الله سبحانه، فلا حياة لمن قدر الله موته، ولا موت لمن قدر الله حياته ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾:
أ. أي: مبصر.
ب. وقيل: عليم.
6. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾: هذا يتضمن الترغيب في الطاعة، والترهيب عن المعصية.
7. ثم حث سبحانه على الجهاد، وبين أن الشهادة خير من أموال الدنيا المستفادة بأن قال: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ أي: في الجهاد ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ قاصدين مجاهدة الكفار، استوجبتم (مغفرة من الله ورحمة) والمغفرة: الصفح عن الذنوب، والرحمة: الثواب والجنة، وهاتان ﴿خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ من الأموال والمقاصد الدنيوية، وهذا يتضمن تعزية المؤمنين وتسليتهم عما أصابهم في سبيل الله، وفيه تقوية لقلوبهم، وتهوين للموت والقتل عليهم.
8. ثم قال: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي: سواء متم، أو قتلتم، فإن مرجعكم إلى الله، فيجزي كلا منكم كما يستحقه المحسن على إحسانه، والمسئ على إساءته، فآثروا ما يقربكم منه، ويوجب لكم رضاه من العمل بطاعته، والجهاد في سبيله، ولا تركنوا إلى الدنيا، وفي هذا المعنى البيت الذي ينسب إلى الإمام الحسين بن علي:
çفإن تكن الأبدان للموت أنشئت... فقتل امرئ بالسيف في الله أفضلé
9. سؤال وإشكال: كيف عادل بين مغفرة الله ورحمته، وبين حطام الدنيا، مع تفاوت ما بينهما، ولا يقول أحد الدرة خير من البعرة؟ والجواب: إن الناس يؤثرون الدنيا على الآخرة حتى إنهم يتركون الجهاد في سبيل الله، محبة للاستكثار من الدنيا، وإيثارا للمقام فيها، فعلى هذا جاز ذلك.
10. قراءات ووجوه:
أ. قرأ ابن كثير وأهل الكوفة غير عاصم ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ بالياء، والباقون بالتاء.. قال أبو علي: حجة من قرأ بالتاء قوله: ﴿ولا تكونوا كالذين كفروا﴾، وحجة من قرأ بالياء أن قبلها أيضا غيبة وهو قوله ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ وما بعده، فحمل الكلام على الغيبة.
ب. قرأ نافع وأهل الكوفة غير عاصم ﴿مُتِمُّ﴾ بالكسر، ووافقهم حفص في سائر المواضع إلا هاهنا، وقرأ الباقون ﴿مُتِمُّ﴾ بضم الميم.. والأشهر الأقيس في ﴿مُتِمُّ﴾: ضم الميم، والكسر شاذ في القياس، ونحوه مما شذ: فضل يفضل في الصحيح، وأنشدوا:
çذكرت ابن عباس بدار ابن عامر... وما مر من عمري ذكرت، وما فضلé
ج. قرأ ﴿مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ بالياء، حفص عن عاصم، والباقون: (تجمعون) بالتاء.. وأما (تجمعون) بالتاء فالمعنى على تجمعون أيها المقتولون في سبيل الله، أو المائتون، ومعنى الياء أنه لمغفرة من الله خير مما يجمعه غيركم.
11. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وضع ﴿إِذَا﴾ موضع إذ لأحد أمرين: إما لأنه متصل بلا تكونوا كهؤلاء إذا ضرب إخوانهم في الأرض، وإما لأن الذي إذا كان مبهما غير موقت، يجري مجرى ما في الجزاء، فيقع الماضي فيه موضع المستقبل، نحو ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ معناه: يكفرون ويصدون، ويجوز: لأكرمن الذي أكرمك إذا زرته، لإبهام الذي، ولا يجوز لأكرمن هذا الذي أكرمك إذا زرته، لتوقيت الذي من أجل الإشارة إليه بهذا.
ب. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ اللام فيه يتعلق بلا تكونوا أي: لا تكونوا كهؤلاء الكفار في هذا القول، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم دونكم، وقيل: إنه يتعلق بقوله ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ فيكون لام العاقبة، عن أبي علي الجبائي.
ج. ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾ استغنى عن جواب الجزاء فيه بجواب القسم في قوله ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ وقد اجتمع شيئان كل واحد منهما يحتاج إلى جواب، وكان جواب القسم أولى بالذكر، لأن له صدر الكلام مما يذكر في حشوه.
د. اللام في قوله ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ﴾ تحتمل أمرين أحدهما: أن يكون خلفا من القسم، ويكون اللام في قوله ﴿لَإِلَى اللهِ﴾ جوابا كقولك: والله إن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله والثاني: أن تكون مؤكدة لما بعدها، كما تؤكد أن ما بعدها، وتكون الثانية جوابا لقسم محذوف، والنون لا بد منها في الفعل المضارع، مع لام القسم، لأن القسم أحق بالتأكيد من كل ما يدخله النون من جهة أن ذكر القسم دليل على أنه من مواضع التأكيد، فإذا جازت في غيره من الأمر والنهي والاستفهام والعرض والجزاء، مع ما لزمت في القسم، لأنه أحق بها من غيره، والفرق بين لام القسم، ولام الابتداء أن لام الابتداء يصرف الاسم إليه، فلا يعمل فيه ما قبلها نحو: قد علمت لزيد خير منك، وقد علمت أن زيدا ليقوم، وليس كذلك لام القسم، لأنها لا تدخل على الاسم ولا يكسر لها إن نحو: قد علمت أن زيدا ليقومن، ويلزمها النون في المستقبل.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/866.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي كالمنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النّفاق، وقيل: إخوانهم في النّسب، قال الزجّاج: وإنما قال: ﴿إِذَا ضَرَبُوا﴾ ولم يقل: إذ ضربوا، لأنه يريد: شأنهم هذا أبدا، تقول: فلان إذا حدّث صدق، وإذا ضرب صبر، و(إذا) لما يستقبل، إلا أنّه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خبر منه فيما مضى.
2. معنى ﴿ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾: ساروا وسافروا، و(غزى) جمع غازي، وفي الكلام محذوف تقديره: إذا ضربوا في الأرض فماتوا، أو غزوا، فقتلوا.
3. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ﴾ قال ابن عباس: ليجعل الله ما ظنّوا من أنّهم لو كانوا عندهم، سلموا، ﴿حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي: حزنا، قال ابن فارس: الحسرة: التّلهّف على الشيء الفائت.
﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي: ليس تحرّز الإنسان يمنعه من أجله، ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائيّ: (يعملون) بالياء، وقرأ الباقون بالتاء، قال أبو عليّ: حجّة من قرأ بالياء أنّ قبلها غيبة، وهو قوله عزّ وجلّ: ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾، ومن قرأ بالتاء، فحجّته ﴿لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾
4. ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾ اللام في (لئن) لام القسم، تقديره: والله لئن قتلتم في الجهاد ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ في إقامتكم، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (متّ) و(متّم) و(متنا) برفع الميم في جميع القرآن، وروى حفص عن عاصم: ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ﴾ برفع الميم في هذين دون باقي القرآن، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائيّ كلّ ما في القرآن بالكسر.
5. ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أي: من أعراض الدّنيا التي تتركون الجهاد لجمعها، وقرأ حفص عن عاصم: يجمعون بالياء، ومعناه: خير ممّا يجمع غيركم ممّا تركوا الجهاد لجمعه، قال ابن عباس: خير ممّا يجمع المنافقون في الدنيا.
6. قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ﴾ أي: في إقامتكم، ﴿أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ في جهادكم، ﴿لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ وهذا تخويف من القيامة، والحشر: الجمع من سوق.
__________
(1) زاد المسير: 1/339.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان المنافقون يعيرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار بقولهم: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾، ثم إنه لما ظهر عن بعض المؤمنين فتور وفشل في الجهاد حتى وقع يوم أحد ما وقع وعفا الله بفضله عنهم، ذكر في هذه الآية ما يدل على النهي عن أن يقول أحد من المؤمنين مثل مقالتهم فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لا تقولوا لمن يريد الخروج إلى الجهاد لو لم تخرجوا لما متم وما قتلتم:
أ. فإن الله هو المحيي والمميت، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد، ومن قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد، وهو المراد من قوله: ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾
ب. وأيضا الذي قتل في الجهاد، لو أنه ما خرج إلى الجهاد لكان يموت لا محالة، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يقتل في الجهاد حتى يستوجب الثواب العظيم، كان ذلك خيرا له من أن يموت من غير فائدة، وهو المراد من قوله: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ فهذا هو المقصود من الكلام.
2. اختلفوا في المراد بقوله تعالى: ﴿كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾:
أ. فقال بعضهم: هو على إطلاقه، فيدخل فيه كل كافر يقول مثل هذا القول سواء كان منافقا أو لم يكن.
ب. وقال آخرون: إنه مخصوص بالمنافقين لأن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مختصة بشرح أحوالهم.
ج. وقال آخرون: هذا مختص بعبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير، وسائر أصحابه، وعلى هذين القولين فالآية تدل على أن الايمان ليس عبارة عن الإقرار باللسان، كما تقول الكرامية إذا لو كان كذلك لكان المنافق مؤمنا، ولو كان مؤمنا لما سماه الله كافرا.
3. ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ قال الزمخشري: (أي لأجل إخراجهم كقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: 11])، وتقرير هذا الوجه أنهم لما قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فهذا يدل على أن أولئك الإخوان كانوا ميتين ومقتولين عند هذا القول، فوجب أن يكون المراد من قوله: ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ هو أنهم قالوا ذلك لأجل إخوانهم، ولا يكون المراد هو أنهم ذكروا هذا القول مع إخوانهم.
4. قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل أن يكون المراد منه الأخوة في النسب وإن كانوا مسلمين، كقوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ [الأعراف: 65] ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ [الأعراف: 73] فإن الأخوة في هذه الآيات أخوة النسب لا أخوة الدين، فلعل أولئك المقتولين من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين، فالمنافقون ذكروا هذا الكلام.
ب. ويحتمل أن يكون المراد من هذه الأخوة المشاكلة في الدين، واتفق إلى أن صار بعض المنافقين مقتولا في بعض الغزوات فالذين بقوا من المنافقين قالوا ذلك.
5. المنافقون كانوا يظنون أن الخارج منهم لسفر بعيد، وهو المراد بقوله: ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ والخارج إلى الغزو، وهو المراد بقوله: ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ إذا نالهم موت أو قتل فذلك إنما نالهم بسبب السفر والغزو، وجعلوا ذلك سببا لتنفير الناس عن الجهاد، وذلك لأن في الطباع محبة الحياة وكراهية الموت والقتل، فإذا قيل للمرء: إن تحرزت من السفر والجهاد فأنت سليم طيب العيش، وإن تقحمت أحدهما وصلت إلى الموت أو القتل، فالغالب أنه ينفر طبعه عن ذلك ويرغب في ملازمة البيت، وكان ذلك من مكايد المنافقين في تنفير المؤمنين عن الجهاد.
6. سؤال وإشكال: لما ذا ذكر بعض الضرب في الأرض الغزو وهو داخل فيه؟ والجواب: لأن الضرب في الأرض يراد به الإبعاد في السفر، لا ما يقرب منه، وفي الغزو لا فرق بين بعيده وقريبه، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحد لا يوصف بأنه ضارب في الأرض مع قرب المسافة وإن كان غازيا، فهذا فائدة إفراد الغزو عن الضرب في الأرض.
7. سؤال وإشكال: في الآية إشكال وهو أن قوله: ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ يدل على الماضي، وقوله: ﴿إِذَا ضَرَبُوا﴾ يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما؟ بل لو قال وقالوا لإخوانهم إذ ضربوا في الأرض، أي حين ضربوا لم يكن فيه إشكال، والجواب: من وجوه:
أ. الأول: أن قوله: ﴿قَالُوا﴾ تقديره: يقولون فكأنه قيل: لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لإخوانهم كذا وكذا، وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين:
• أحدهما: أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل فقد يعبر عنه بأنه حدث أو هو حادث قال تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللهِ﴾ [النحل: 1] وقال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ﴾ [الزمر: 30] فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقل لم يكن فيه مبالغة أما لما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي، دل ذلك على أن جدهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية، وصار بسبب ذلك الجد هذا المستقبل كالكائن الواقع.
• الثانية: إنه تعالى لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل ذلك على أنه ليس المقصود الإخبار عن صدور هذا الكلام، بل المقصود الإخبار عن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة، فهذا هو الجواب المعتمد عندي والله أعلم.
ب. الثاني: أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية، والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا في الأرض، فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد وأن يقول: قالوا، فهذا هو المراد بقولنا: خرج هذا الكلام على سبيل حكاية الحال الماضية.
ج. الثالث: قال قطرب: كلمة (إذا) وإذا، يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى، وأقول: هذا الذي قاله قطرب كلام حسن، وذلك لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم، كان ذلك أولى، أقصى ما في الباب أن يقال: (إذ) حقيقة في المستقبل، ولكن لم لا يحوز استعماله في الماضي على سبيل المجاز لما بينه وبين كلمة (إذ) من المشابهة الشديدة؟ وكثيرا أرى النحويين يتحيرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم، فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى.
8. ﴿غُزًّى﴾ جمع غاز، كالقول والركع والسجد، جمع قائل وراكع وساجد، ومثله من الناقص (عفا) ويجوز أيضا: غزاة، مثل قضاة ورماة في جمع القاضي والرامي، ومعنى الغزو في كلام العرب قصد العدو، والمغزى المقصد.
9. قال الواحدي: في الآية محذوف يدل عليه الكلام، والتقدير: إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزاة فقتلوا، لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فقوله: ﴿مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ يدل على موتهم وقتلهم.
10. في قوله تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ وجهان:
أ. الأول: أن التقدير أنهم قالوا ذلك الكلام ليجعل الله ذلك الكلام حسرة في قلوبهم، مثل ما يقال: ربيته ليؤذيني ونصرته ليقهرني ومثله قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: 8] إذا عرفت هذا فنقول: ذكروا في بيان أن ذلك القول كيف استعقب حصول الحسرة في قلوبهم وجوها:
• الأول: أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم، لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر وعن ذلك الغزو لبقي، فذلك الشخص إنما مات أو قتل بسبب أن هذا الإنسان قصر في منعه، فيعتقد السامع لهذا الكلام أنه هو الذي تسبب إلى موت ذلك الشخص العزيز عليه أو قتله، ومتى اعتقد في نفسه ذلك فلا شك أنه تزداد حسرته وتلهفه، أما المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكون إلا بتقدير الله وقضائه، لم يحصل ألبتة في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة، فثبت أن تلك الشبهة التي ذكرها المنافقون لا تفيدهم إلا زيادة الحسرة.
• الثاني: أن المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم تثبطوا عن الغزو والجهاد وتخلفوا عنه، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد والغزو، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة والاستيلاء على الأعداء والفوز بالأماني، بقي ذلك المتخلف عند ذلك في الخيبة والحسرة.
• الثالث: أن هذه الحسرة إنما تحصل يوم القيامة في قلوب المنافقين إذا رأوا تخصيص الله المجاهدين بمزيد الكرامات وإعلاء الدرجات، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللعن والعقاب.
• الرابع: أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضعفة المسلمين ووجدوا منهم قبولا لها، فرحوا بذلك، من حيث إنه راج كيدهم ومكرهم على أولئك الضعفة، فالله تعالى يقول: إنه سيصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل في تقرير هذه الشبهة.
• الخامس: أن جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحيرة والخيبة وضيق الصدر، وهو المراد بالحسرة، كقوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [الأنعام: 125]
• السادس: أنهم متى ألقوا هذه الشبهة على أقوياء المسلمين لم يلتفتوا إليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم.
ب. الثاني: أن اللام في قوله: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ﴾ متعلقة بما دل عليه النهي، والتقدير: لا تكونوا مثلهم حتى يجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغيظهم.
11. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ وجهان:
أ. الأول: أن المقصود منه بيان الجواب عن هذه الشبهة، وتقريره أن المحيي والمميت هو الله، ولا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت، وأن علم الله لا يتغير، وأن حكمه لا ينقلب، وأن قضاءه لا يتبدل، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت؟ سؤال وإشكال: إن كان القول بأن قضاء الله لا يتبدل يمنع من كون الجد والاجتهاد مفيدا في الحذر عن القتل والموت، فكذا القول بأن قضاء الله لا يتبدل وجب أن يمنع من كون العمل مفيدا في الاحتراز عن عقاب الآخرة، وهذا يمنع من لزوم التكليف، والمقصود من هذه الآيات تقرير الأمر بالجهاد والتكليف، وإذا كان الجواب يفضي بالآخرة إلى سقوط التكليف كان هذا الكلام يفضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلا، والجواب: أن حسن التكليف عندنا غير معلل بعلة ورعاية مصلحة، بل عندنا أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
ب. الثاني: أنه ليس الغرض من هذا الكلام الجواب عن تلك الشبهة بل المقصود أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل قول المنافقين، قال: ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ يريد: يحيي قلوب أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان، ويميت قلوب أعدائه من المنافقين.
12. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ المقصود منه الترغيب والترهيب فيما تقدم ذكره من طريقة المؤمنين وطريقة المنافقين.
13. قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يعملون كناية عن الغائبين، والتقدير ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ والباقون بالتاء على الخطاب ليكون وفقاً لما قبله في قوله: ﴿لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ولما بعده في قوله: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ﴾
14. ثم قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ﴾ مما تجمعون، وهذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين، وتقريره أن هذا الموت لا بد واقع ولا محيص للإنسان من أن يقتل أو يموت، فإذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل الله وفي طلب رضوانه، فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الإنسان بها بعد الموت ألبتة، وهذا جواب في غاية الحسن والقوة، وذلك لأن الإنسان إذا توجه إلى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة، فإذا مات فكأنه تخلص عن العدو ووصل إلى المحبوب، وإذا جلس في بيته خائفا من الموت حريصا على جمع الدنيا، فإذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة، ولا شك في كمال سعادة الأول، وكمال شقاوة الثاني.
15. قرأ نافع وحمزة والكسائي (متم) بكسر الميم، والباقون بضم الميم، والأولون أخذوه من: مات يمات مت، مثل هاب يهاب هبت، وخاف يخاف خفت، وروى المبرد هذه اللغة فان صح فقد صحت هذه القراءة، وأما قراءة الجمهور فهو مأخوذ من، مات يموت مت: مثل قال يقول قلت.
16. ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾ قال الواحدي: اللام في قوله: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾ لام القسم، بتقدير الله لئن قتلتم في سبيل الله، واللام في قوله: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ﴾ جواب القسم، ودال على أن ما هو داخل عليه جزاء، والأصوب عندي أن يقال: هذه اللام للتأكيد، فيكون المعنى إن وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم، فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا، فلما ذا تحترزون عنه كأنه قيل: إن الموت والقتل غير لازم الحصول، ثم بتقدير أن يكون لازماً فإنه يستعقب لزوم المغفرة، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه؟
17. قرأ حفص عن عاصم (يجمعون) بالياء على سبيل الغيبة، والباقون بالتاء على وجه الخطاب، أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة الله خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني، وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم مغفرة الله خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا.
18. هذه المعاقد الستة تنبهك على ما لا نهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾، وأن رحمة الله ومغفرته خير من نعيم الدنيا:
أ. أحدها: أن من يطلب المال فهو في نعب من ذلك الطلب في الحال، ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فإنه لا بد وأن ينتفع به لأن الله لا يخلف وعده، وقد قال: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7]
ب. ثانيها: هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد، فكم من إنسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا، وخيرات الآخرة لا تزول لقوله: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [الكهف: 46] ولقوله: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96]
ج. ثالثها: بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد، لكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرهما، ومنافع الآخرة ليست كذلك.
د. رابعها: بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال، ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار، وذلك مما لا يخفى، وأما منافع الآخرة فليست كذلك.
هـ. خامسها: هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر، بل تنقطع وتفنى، وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل، كان التأسف والتحسر عند فواتها أشد وأعظم، ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال.
و. سادسها: أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية، والحسية خسيسة، والعقلية شريفة، أترى ان انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند إشراقها بالأنوار الإلهية.
19. سؤال وإشكال: كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما تجمعون، ولا خير فيما تجمعون أصلا، والجواب: إن الذي تجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيراً، وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات، فقيل: المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
20. ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ رغب الله تعالى المجاهدين في الآية الأولى بالحشر إلى مغفرة الله، وفي هذه الآية زاد في إعلاء الدرجات فرغبهم هاهنا بالحشر إلى الله، يروى أن عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم، ورأى عليهم آثار العبادة، فقال ماذا تطلبون؟ فقالوا: نخشى عذاب الله، فقال: هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه، ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم، فقالوا: نطلب الجنة والرحمة، فقال: هو أكرم من أن يمنحكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم أكثر، فسألهم فقالوا: نعبده لأنه إلهنا، ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة، فقال: أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون.
21. انظر في ترتيب هذه الآيات فإنه قال في الآية الأولى: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ﴾ وهو إشارة إلى من يعبده خوفاً من عقابه، ثم قال ﴿وَرَحْمَةً﴾ وهو إشارة إلى من يعبده لطلب ثوابه، ثم قال في خاتمة الآية: ﴿لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ وهو إشارة إلى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية، وهذا أعلى المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة، ألا ترى أنه لما شرف الملائكة قال: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [الأنبياء: 19] وقال للمقربين من أهل الثواب: ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 55] فبين أن هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعته ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه، واستئناسهم بكرمه، وتمتعهم بشروق نور ربوبيته، وهذا مقام فيه إطناب، والمستبصر يرشده القدر الذي أوردناه.
22. كأنه قيل إن تركتم الجهاد واحترزتم عن القتل والموت بقيتم أياماً قليلة في الدنيا مع تلك اللذات الخسيسة، ثم تتركونها لا محالة، فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم، أما لو أعرضتم عن لذات الدنيا وطيباتها، وبذلتم النفس والمال للمولى يكون حشركم إلى الله، ووقوفكم على عتبة رحمة الله، وتلذذكم بذكر الله، فشتان ما بين هاتين الدرجتين والمنزلتين.
23. في قوله تعالى: ﴿لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ دقائق:
أ. أحدها: أنه لم يقل: تحشرون إلى الله بل قال: ﴿لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾، وهذا يفيد الحصر، معناه إلى الله يحشر العالمون لا إلى غيره، وهذا يدل على أنه لا حاكم في ذلك اليوم ولا ضار ولا نافع إلا هو، قال تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16] وقال تعالى: ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله﴾ [الانفطار: 19]
ب. ثانيها: أنه ذكر من أسماء الله هذا الاسم، وهذا الاسم أعظم الأسماء وهو دال على كمال الرحمة وكمال القهر، فهو لدلالته على كمال الرحمة أعظم أنواع الوعد، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد.
ج. ثالثها: إدخال لام التأكيد في اسم الله حيث قال: ﴿لَإِلَى اللهِ﴾ وهذا ينبهك على أن الإلهية تقتضي هذا الحشر والنشر، كما قال: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ [طه: 15]
د. رابعها: أن قوله: ﴿تُحْشَرُونَ﴾ فعل ما لم يسم فاعله، مع أن فاعل ذلك الحشر هو الله، وإنما لم يقع التصريح به لأنه تعالى هو العظيم الكبير الذي، شهدت العقول بأنه هو الله الذي يبدئ ويعيد، ومنه الإنشاء والإعادة، فترك التصريح في مثل هذا الموضع أدل على العظيمة، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ﴾ [هود: 44]
هـ. خامسها: أنه أضاف حشرهم إلى غيرهم، وذلك ينبه العقل على أن جميع الخلق مضطرون في قبضة القدرة ونفاذ المشيئة، فهم سواء كانوا أحياء أم أمواتا لا يخرجون عن قهر الربوبية وكبرياء الإلهية.
و. سادسها: أن قوله: ﴿تُحْشَرُونَ﴾ خطاب مع الكل، فهو يدل على أن جميع العالمين يحشرون ويوقفون في عرصة القيامة وبساط العدل، فيجتمع المظلوم مع الظالم، والمقتول مع القاتل، والحق سبحانه وتعالى يحكم بين عبيده بالعدل المبرأ عن الجور، كما قال: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأنبياء: 47]
24. من تأمل في قوله تعالى: ﴿لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ وساعده التوفيق علم أن هذه الفوائد التي ذكرناها كالقطرة من بحار الأسرار المودعة في هذه الآية، وتمسك القاضي بهذه الآية على أن المقتول ليس بميت، قال لأن قوله: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ يقتضي عطف المقتول على الميت، وعطف الشيء على نفسه ممتنع.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/400.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني المنافقين، ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ يعني في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بئر معونة، ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ فنهي المسلمون أن يقولوا مثل قولهم.
2. ﴿إِذَا ضَرَبُوا﴾ هو لما مضى، أي إذ ضربوا، لأن في الكلام معنى الشرط من حيث كان ﴿الَّذِينَ﴾ بهما غير موقت، فوقع ﴿إِذَا﴾ موقع ﴿إِذِ﴾ كما يقع الماضي في الجزاء موضع المستقبل، ومعنى ﴿ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ سافروا فيها وساروا لتجارة أو غيرها فماتوا.
3. ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ غزاة فقتلوا، والغزى جمع منقوص لا يتغير لفظها في رفع وخفض، واحدهم غاز، كراكع وركع، وصائم وصوم، ونائم ونوم، وشاهد وشهد، وغائب وغيب، ويجوز في الجمع غزاة مثل قضاة، وغزاء بالمد مثل ضراب وصوام، ويقال: غزى جمع الغزاة، قال الشاعر:قل للقوافل والغزى إذا غزوا وروي عن الزهري أنه قرأه ﴿غُزًّى﴾ بالتخفيف، والمغزية المرأة التي غرا زوجها، وأتان مغزية متأخرة النتاج ثم تنتج، وأغزت الناقة إذا عسر لقاحها، والغزو قصد الشيء، والمغزى المقصد، ويقال في النسب إلى الغزو: غزوى.
4. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ يعني ظنهم وقولهم، واللام متعلقة بقوله ﴿قَالُوا﴾ أي ليجعل ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا،﴿حَسْرَةً﴾ أي ندامة ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾، والحسرة الاهتمام على فائت لم يقدر بلوغه، قال الشاعر:
çفوا حسرتا لم أقض منها لبانتي...ولم أتمتع بالجوار وبالقربé
وقيل: هي متعلقة بمحذوف، والمعنى: لا تكونوا مثلهم.
5. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ﴾ القول ﴿حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ لأنهم ظهر نفاقهم، وقيل: المعنى لا تصدقوهم ولا تلتفتوا إليهم، فكان ذلك حسرة في قلوبهم، وقيل: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة.
6. ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي يقدر على أن يحيي من يخرج إلى القتال، ويميت من أقام في أهله، ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ قرئ بالياء والتاء، ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيل الله والموت فيه خير من جميع الدنيا.
7. ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ جواب الجزاء محذوف، استغني عنه بجواب القسم في قوله: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ﴾ وكان الاستغناء بجواب القسم أولى، لأن له صدر الكلام، ومعناه ليغفرن لكم، وأهل الحجاز يقولون: متم، بكسر الميم مثل نمتم، من مات يمات مثل خفت يخاف، وسفلى مضر يقولون: متم، بضم الميم مثل صمتم، من مات يموت، كقولك كان يكون، وقال يقول، هذا قول الكوفيين وهو حسن.
﴿لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ وعظ، وعظهم الله بهذا القول، أي لا تفروا من القتال ومما أمركم به، بل فروا من عقابه وأليم عذابه، فإن مردكم إليه لا يملك لكم أحد ضرا ولا نفعا غيره.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/247.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هم المنافقون الذين قالوا: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا.
﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ في النفاق أو في النسب، أي: قالوا لأجلهم ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ إذا ساروا فيها للتجارة أو نحوها؛ قيل: إن إذا هنا المفيدة لمعنى الاستقبال: بمعنى إذ المفيدة لمعنى المضيّ؛ وقيل: هي على معناها، والمراد هنا حكاية الحال الماضية، وقال الزجاج: إذا هنا تنوب عن ما مضى من الزمان وما يستقبل ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ جمع غاز، كراكع وركع، وغائب وغيب، قال الشاعر: (قل للقوافل والغزيّ إذا غزوا)
2. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ اللام متعلقة بقوله: ﴿قَالُوا﴾ أي: قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة في قلوبهم، والمراد: أنه صار ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا حسرة، أو متعلقة بقوله: ﴿لَا تَكُونُوا﴾ أي: لا تكونوا مثلهم في اعتقاد ذلك، ليجعله الله حسرة في قلوبهم فقط دون قلوبكم؛ وقيل: المعنى: لا تلتفتوا إليهم ليجعل الله عدم التفاتكم إليهم حسرة في قلوبهم؛ وقيل: المراد: حسرة في قلوبهم يوم القيامة لما فيه من الخزي والندامة.
3. ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ فيه ردّ على قولهم، أي: ذلك بيد الله سبحانه يصنع ما يشاء ويحكم ما يريد، فيحيي من يريد، ويميت من يريد من غير أن يكون للسفر أو الغزو أثر في ذلك، واللام في قوله: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾ موطئة، وقوله: ﴿لَمَغْفِرَةٌ﴾ جواب القسم سادّ مسدّ جواب الشرط، والمعنى: أن السفر والغزو ليسا مما يجلب الموت، ولئن وقع ذلك فبأمر الله سبحانه.
4. ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أي: الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدّة أعمارهم، على قراءة من قرأ: بالياء التحتية، أو خير مما تجمعون أيها المسلمون من الدنيا ومنافعها، على قراءة من قرأ: بالفوقية، والمقصود في الآية: بيان مزية القتل أو الموت في سبيل الله، وزيادة تأثيرهما في استجلاب المغفرة والرحمة.
5. ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ على أيّ وجه، حسب تعلق الإرادة الإلهية ﴿لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ هو جواب القسم المدلول عليه باللام الموطئة، سادّ مسدّ جواب الشرط، كما تقدم في الجملة الأولى: أي: إلى الربّ الواسع المغفرة تحشرون، لا إلى غيره، كما يفيده تقديم الظرف على الفعل، مع ما في تخصيص اسم الله سبحانه بالذكر من الدلالة على كمال اللطف والقهر.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/451.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أشركوا بقلوبهم ونافقوا بألسنتهم، ﴿وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِم﴾ في شأن إخوانهم، فقيل: أو عن إخوانهم، أو لأجل إخوانهم، أو خاطبوا إخوانهم تجوُّزا ولو غابوا أو ماتوا، وعلى هذا الأخير يكون مقتضى الظاهر: لو كنتم عندنا ما متُّم وما قتلتم، بطريق التفات السكَّاكيِّ، والمراد بإخوانهم: المسلمون من الأنصار أُخوَّة النَّسَب، أو إخوانهم في النفاق أُخوَّة الدِّين والنَّسَب.
2. ﴿إِذَا ضَرَبُواْ فِي الَارْضِ﴾ سافروا لتجرٍ أو معاش وماتوا، لقوله: ﴿مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُوا﴾ وخصَّ الأرض لأنَّ سفرهم في البحر قليل.
3. (إِذَا) بمعنى إذْ للمضيِّ، بدليل (قَالُوا)، أو على ظاهرها فيكون (قَالُوا) بمعنى: يقولون، أو يبقى (قَالُوا) على المضيِّ زمانا، إِلَّا أنَّه يعتبر مُغنِيًا عن الجواب، فيفيد الاستقبالَ بواسطة الشرط، كقوله: ﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلَآ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبـِّهِ﴾ [سورة يوسف: 24]، أو يصوّر المخاطب كونه قبل القول، فيصحُّ له استقبال (إِذَا)، أو يراد بـ (إِذَا) الاستمرار، فيفيد الاستحضار نظرا إلى الاستمرار، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالوُا ءَامَنَّا﴾ [سورة البقرة: 14]، والضرب في الأرض: السفر فيها، والإبعاد عند بعض، ولا يتمُّ، إذ لا يختصُّ بالإبعاد، ولا الإبعاد في الآية شرط، ولا يصحُّ تفسير الأرض بما يشمل البحر إذ لا سير في البحر إِلَّا على الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو عموم المجاز وهو مطلق الذهاب عن الأهل.
4. ﴿أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ فقتلوا، بدليل قوله تعالى : ﴿وَمَا قُتِلُواْ﴾، والمفرد: غازٍ، ووزنه فُعَّل، كراكع ورُكَّع، قلبت الواو ألفا لأنَّها تحرَّكت بعد فتح، فحذف للساكن بعدها، وهو التنوين، والقياس فيه: غزاة، كقضاة، بوزن فُعَلَة بضمٍّ ففتح، بإعلال اللَّام.
5. ﴿لَوْ كَانُواْ عِندَنَا﴾ لم يسافروا ولم يغزوا، ﴿مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ﴾ والموت أعمُّ من القتل إذ يكون بلا قتل وبه، وقدِّم لأنَّه يكون في إقامة وذهاب، والغزو يكون بالذهاب، كما ذهب المسلمون من المدينة إلى أُحد.
6. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَالِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ اللَّام متعلِّق بـ (قَالُوا) وهي لام المآل لا التعليل؛ لأنَّهم قالوا ذلك للتثبيط عن الجهاد، لا يكون ذلك حسرة، ولكنَّ مآله الحسرة، وهي أشدُّ الندم، والإشارة [بـ (ذَلِكَ)] إلى الظنِّ، إذ ظنُّوا أنَّهم لو حضروا لكانوا أحياء، أو إلى النطق والاعتقاد المدلول عليه بالقول، أو إلى النهي والانتهاء.
7. المعنى: لا تعتقدوا أيُّها المسلمون ذلك الذي اعتقده الكفَّار، ولا تقولوه كما اعتقدوه وقالوه، ووجه التحسُّر اعتقاد أنَّ الموت أو القتل بسبب تقصيرهم في المنع من السفر والغزو، وأيضا إذا قالوا ذلك وسَمِعَهُم قرابةُ المقتول تحسَّرَ هؤلاء القرابة، وربَّما قاله بعض المؤمنين الضعفاء فتسمعهم الأقارب فيتحسَّرون، وإذا ألقوا مثل هذه الشبهات على أقوياء المسلمين ولم يلتفتوا إليها ضاع كيدهم فتحصل لهم حسرة، وأيضًا إذا رأوا يوم القيامة نجاة المجاهدين وفضلهم وكراماتهم على إيمانهم وجهادهم تحسَّروا، وأجيز تعلُّق اللَّام بـ (لَا تَكُونُوا)، أي: لا تكونوا مثلهم في قول ذلك ليختصُّوا بالحسرة، فتزداد شدَّةً بخلاف ما لو قالوا، ولا ضعف في ذلك، وهذا كقولك: لا تعص لتدخل الجنَّة، أي: اترك العصيان لتدخلها.
8. ﴿وَاللهُ يُحْيِي﴾ من أراد حياته ولو ضرب في الأرض، أو غزا، أو مرض مرضا لا يُرجى معه، أو اقتحم الشدائد، ﴿وَيُمِيتُ﴾ من أراد موته، ولو قعد ولم يغز ولم يمرض ولم يقتحم شدَّة، وروح كلِّ حيٍّ يقبضها الله بالخلق، وملك الموت بالمباشرة، وزعمت المعتزلة أنَّ ملك الموت يقبض أرواح الثقلين فقط، وبعض أهل البدعة يقولون: يقبض كلَّ حيٍّ إِلَّا أرواح البهائم فإنَّ أعوانه يقبضونها، والحقُّ أَنَّ الله يقبض الكلَّ، ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الَانفُسَ﴾ [سورة الزمر: 42]، أي: يخلق الموت، ومعنى: ﴿يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [سورة السجدة: 11] يباشر، ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ تهديد للذين آمنوا أن يعتقدوا أو يقولوا مثل ما قال الذين كفروا، فإنَّ الله جلَّ وعلا بصير بذلك القول واعتقاده وما يترتَّب عليهما.
9. ﴿وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ قدَّم القتل لأنَّه أعظم ثوابا، ﴿أَوْ مِتُّمْ﴾ في السفر إلى الجهاد، أو في موطن الجهاد، أو في الرجوع منه بلا قتل، والكسرة في الميم دليل على كسر العين، كخاف يخاف، وهو لغة في مات يموت، ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ﴾ لذنوبكم، أي: تجاوز عنها لموتكم في سبيل الله بقتل أو دونه، وهذا يناسب من يعبد الله خوفا من عقابه، و(مِنَ اللهِ) نعت لـ (مَغْفِرَةٌ) ويقدَّر مثله في قوله: ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ جنَّة، أي: منه، فإنَّ (رحمة) من أسماء الجنَّة، أو تفضَّل بالإنعام، وهذا يناسب من يعبده طلبا للثواب، وأخَّرها لأنَّ التحلِّي بعد التخلِّي.
10. زعم بعض أنَّه أشار إلى من يعبده إعظاما له لا خوفا من عقاب ولا قصدًا لإنعامٍ بقوله: ﴿لإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾، ولا وجه له، إذ لا يدلُّ الحشر على ذلك، إِلَّا إن زعم أنَّه يُحشَر فَيَرَى اللهَ، وهو اعتقاد فاسد باطل منكر، أو يقصد أَنَّ الحشر إلى الله بالموت أو بالبعث باب للقاء المحبوب سبحانه، ويناسبه اختيار تقديم مطلق الموت على القتل في الآية بعدُ، ﴿خَيْرٌ مِّمَّا تَجْمَعُونَ﴾ في الدنيا من مال وولد، وعزٍّ وجاه، وخدم وأعوان.
11. ﴿وَلَئِن مِّـتُّم﴾ في الجهاد أو غيره، ﴿أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ في أحدهما، ﴿لإِلَى اللهِ﴾ لا إلى غيره مِمَّن يَنسى أو يغفل، أو يريد ضرَّكم، أو يريد نفع الكفَّار، أو يداهن، أو يصيبه خلل، وقدَّم الموت لأنَّه أكثر مع استوائه مع القتل في الحشر، ﴿تُحْشَرُونَ﴾ للجزاء.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/38.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهم المنافقون القائلون: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾، ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي سافروا فيها للتجارة فأصيبوا بغرق أو قتل ﴿أَوْ كَانُوا﴾ أي إخوانهم ﴿غُزًّى﴾ جمع غاز فأصيبوا باصطدام أو قتل ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا﴾ أي مقيمين ﴿مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ قال أبو السعود: (ليس المقصود بالنهي عدم مماثلتهم في النطق بهذا القول، بل في الاعتقاد بمضمونه والحكم بموجبه)، بل الآية تفيد الأمرين، أعني حفظ الاعتقاد المقصود أولا وبالذات، وحفظ المنطق مما يوقع في إضلال الناس، ويخل بالمقام الإلهي، كما بينته السنة، وسنذكره في التنبيه الآتي.
2. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ﴾ أي القول ﴿حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ متعلق بـ (قالوا) على أن اللام لام العاقبة، مثلها في ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: 8] أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة في قلوبهم، والمراد بالتعليل المذكور بيان عدم ترتب فائدة ما، على ذلك أصلا.
3. ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ رد لقولهم الباطل، إثر بيان غائلته، أي هو المؤثر في الحياة والممات وحده، من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخل في ذلك، فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما لموارد الحتوف، ويميت المقيم مع حيازته لأسباب السلامة.
4. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ تهديد للمؤمنين في مماثلة من ذكر.
5. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية أنه لا يجوز التشبه بالكفار، قال الحاكم: وقد يكون منه ما يكون كفرا، وفيها أيضا دلالة على أنه لا يسقط وجوب الجهاد بخشية القتل.
6. أشعرت الآية بوجوب حفظ المنطق مما يشاكل ألفاظ المشركين من الكلمات المنافية للعقيدة الإسلامية كما ذكرنا، وقد عقد ابن القيّم في (زاد المعاد) فصلا في هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم في حفظ النطق واختيار الألفاظ قال كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يتخير في خطابه، ويختار لأمته أحسن ألفاظ وأجملها وألطفها، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش، إلى أن قال ومن ذلك نهيه عن قول القائل بعد فوات الأمر: لو أني فعلت كذا وكذا، وقال: إنها تفتح عمل الشيطان، وأرشده إلى ما هو أنفع له من هذه الكلمة، وهو أن يقول: قدر الله، وما شاء فعل، وذلك لأن قوله: لو كنت فعلت كذا وكذا لم يفتني ما فاتني أو لم أقع فيما وقعت فيه، كلام لا يجدي عليه فائدة البتة، فإنه غير مستقبل لما استدبر من أمره، وغير مستقيل عثرته بـ (لو)، وفي ضمن (لو) ادعاء أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه، لكان غير ما قضاه الله وقدره وشاءه، فإنّ ما وقع مما يتمنى خلافه، إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته، فإذا قال لو أني فعلت كذا لكان خلاف ما وقع، فهو محال، إذ خلاف المقدّر المقضيّ محال، فقد تضمن كلامه كذبا وجهلا ومحالا، وإن سلم من التكذيب بالقدر لم يسلم من معارضته بقوله: لو أني فعلت لدفعت ما قدر عليّ، فإن قيل: ليس في هذا رد للقدر ولا جحد له، إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضا من القدر، فهو يقول: لو وفقت لهذا القدر لاندفع به عني ذلك القدر، فإن القدر يدفع بعضه ببعض، كما يدفع قدر المرض بالدواء، وقدر الذنوب بالتوبة، وقدر العدو بالجهاد، فكلاهما من القدر، قيل: هذا حق، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه، وأما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه، وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر فهو أولى به من قوله: لو كنت فعلته، بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل فعله الذي يدفع به أو يخفف، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه، فإنه عجز محض، والله يلوم على العجز، ويحب الكيس ويأمر به، والكيس هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده، فهذه تفتح عمل الخير والأمر، وأما العجز فإنه يفتح عمل الشيطان، فإنه إذا عجز عما ينفعه وصار إلى الأمانيّ الباطلة بقوله: لو كان كذا وكذا، ولو فعلت كذا، يفتح عمل الشيطان، فإن بابه العجز والكسل، ولهذا استعاذ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم منهما، وهو مفتاح كل شر، ويصدر عنهما الهم والحزن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال، فمصدرها كلها عن العجز والكسل، وعنوانها (لو)، فلذلك قال النبيّ : فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، فالمتمني من أعجز الناس وأفلسهم، فإن المنى رأس أموال المفاليس، والعجز مفتاح كل شر، وأصل المعاصي كلها العجز، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات، وعن الأسباب التي تعرضه عن المعاصي، ويحول بينها وبينه، فيقع في المعاصي، بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)، فجمع في هذا الحديث الشريف، في استعاذته صلّى الله عليه وآله وسلّم أصول الشر وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره، وهو مشتمل على ثمان خصال، كل خصلتين منها قرينتان فقال: أعوذ بك من الهم والحزن، وهما قرينان، فإن المكروه الوارد على القلب ينقسم باعتبار سببه إلى قسمين: فإنه إما أن يكون سببه أمرا ماضيا، فهو يحدث الحزن، وإما أن يكون توقع أمر مستقبل، فهو يحدث الهم، وكلاهما من العجز، فإن ما مضى لا يدفع بالحزن، بل بالرضاء والحمد والصبر والإيمان بالقدر، وقول العبد: قدر الله وما شاء فعل، وما يستقبل لا يدفع أيضا بالهم، بل إما أن يكون له حيلة في دفعه فلا يعجز عنه، وإما أن لا تكون له حيلة في دفعه، فلا يجزع منه، ويلبس له لباسه، ويأخذ له عدته، ويتأهب له أهبته اللائقة، ويستجن بجنة حصينة من التوحيد والتوكل والانطراح بين يدي الرب تعالى، والاستسلام له، والرضا به ربّا في كل شيء، ولا يرضى به ربّا فيما يحبّ دون ما يكره، فإذا كان هكذا لم يرض به ربّا على الإطلاق، فلا يرضاه الرب له عبدا على الإطلاق.. فالهم والحزن لا ينفعان العبد البتة، بلا مضرتهما أكثر من منفعتهما، فإنهما يضعفان العزم، ويوهنان القلب، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه، ويقطعان عليه طريق السير، أو ينكسانه إلى وراء أو يعوقانه ويقفانه أو يحجبانه عن العلم الذي كلما رآه شمر إليه، وجدّ في سيره، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر، بل إن عاقة الهم والحزن عن شهواته وإرادته التي تضره في معاشه ومعاده، انتفع به من هذا الوجه، وهذا من حكمة العزيز الحكيم، أن سلط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه، الفارغة من محبته وخوفه ورجائه والإنابة إليه، والتوكل عليه، والأنس به، والفرار إليه، والانقطاع إليه، ليردها بما يبتليها به من الهموم والغموم والأحزان، والآلام القلبية، عن كثير من معاصيها وشهواتها المردية، وهذه القلوب في سجن من الجحيم في هذه الدار، وإن أريد بها الخير، كان حظها من سجن الجحيم في معادها، ولا تزال في هذا السجن، حتى تتخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله، والأنس به، وجعل محبته في محل دبيب خواطر القلب ووساوسه، بحيث يكون ذكره تعالى وحبه وخوفه ورجاؤه والفرح به والابتهاج بذكره، هو المستولي على القلب الغالب عليه، الذي متى فقده، فقد قوته، الذي لا قوام له إلا به، ولا بقاء له بدونه، ولا سبيل إلى خلاص القلب من هذه الآلام التي هي أعظم أمراضه، وأفسدها له، إلا بذلك، ولا بلاغ إلا بالله وحده، فإنه لا يوصل إليه إلا هو، ولا يأتي بالحسنات إلّا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، ولا يدل عليه إلا هو، وإذا أراد عبده لأمر هيأه له، فمنه الإيجاد ومنه الإعداد ومنه الإمداد، وإذا أقامه في مقام، أيّ مقام كان، فبحمده أقامه فيه، وحكمته أقامته فيه، ولا يليق به غيره، ولا يصلح له سواه، ولا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا يمنع عبده حقّا هو للعبد، فيكون بمنعه ظالما، بل منعه ليتوسل إليه بمحابه ليعطيه، وليتضرع إليه ويتذلل بين يديه ويتملقه ويعطي فقره إليه حقه، بحيث يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة فاقة تامة إليه، على تعاقب الأنفاس، وهذا هو الواقع في نفس الأمر وإن لم يشهده، فلم يمنع عبده ما العبد محتاج إليه، بخلا منه ولا نقصان من خزائنه ولا استئثارا عليه بما هو حق للعبد، بل منعه ليردّه إليه وليعزه بالتذلل له، وليغنيه بالافتقار إليه، وليجبره بالانكسار بين يديه، وليذيقه بمرارة المنع، حلاوة الخضوع ولذة الفقر، وليلبسه خلعة العبودية، ويوليه بعزله أشرف الولايات، وليشهده حكمته في قدرته، ورحمته في عزته، وبره ولطفه في قهره، وأنّ منعه عطاء وعزله تولية وعقوبته تأديب وامتحانه محبة وعطية وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه إليه، وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه، وحكمته وحمده أقاماه في مقامه الذي لا يليق به سواه ولا يحسن أن يتخطاه.
7. ثم أشار تعالى إلى أن الموت في سبيل الله ليس مما يوجب الحسرة حتى يحذر منه، بل هو مما يوجب الفرح والسرور، فقال: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ﴾ أي فيه من غير قتال ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ﴾ أي لذنوبكم تنالكم ﴿وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أي الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها الفانية.
8. ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ على أي وجه كان حسب القضاء السابق ﴿لَإِلَى اللهِ﴾ أي الذي هو متوفيكم لا غيره ﴿تُحْشَرُونَ﴾ فيجزيكم بأعمالكم.
9. أطال نحاة المفسرين في قوله تعالى ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا﴾ إلخ، من الوجوه النحوية في (إذا) هنا، وإنه ربما يتبادر أن الموقع ل (إذ) لا لها حيث إن متعلقها وهو (قالوا) ماض، و(إذا) ظرف لما يستقبل، فمن قائل بأن (إذا) لحكاية الحال الماضية، ومن قائل بأنها للاستمرار، وقيل: إن (كفروا) و(قالوا) مراد بهما المستقبل، وفي كلّ مناقشات وتعسفات، والحق أنها تكون للمضيّ أيضا، قال المجد الفيروز آباديّ: وتجيء (إذا) للماضي كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾، فلا إشكال، ونقل الرازيّ عن قطرب: أن كلمة (إذ) و(إذا) يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى، قال الرازيّ: وهذا الذي قاله قطرب كلام حسن، وذلك لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم أولى، ثم قال: (وكثيرا أرى النحويين يتحيرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم، فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى)
10. الجمهور على ضم الميم في قوله تعالى: ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ وهو الأصل لأن الفعل منه يموت، ويقرأ بالكسر وهو لغة طائية، يقال مات يمات مثل خاف يخاف فكما تقول خفت تقول مت.
11. قدم القتل على الموت في الأولى لأنه أكثر ثوابا وأعظم عند الله، فترتيب المغفرة والرحمة عليه أقوى، وقدم الموت في الثانية لأنه أكثر، وهما مستويان في الحشر.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/442.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين ان هزيمة من تولى منهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا أراد أن يحذرهم من مثل تلك الوسوسة التي أفسد الشيطان بها قلوب الكافرين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ أي لا تكونوا مثل هذا الفريق من الناس، وهم الذين كفروا وقالوا لأجل إخوانهم، أو في شأن إخوانهم في النسب أو المودة والمذهب، إذا هم ضربوا في الأرض ـ أي سافروا فيها للتجارة والكسب ـ فماتوا، أو كانوا غزى أي غزاة ـ وهو جمع لغاز من الجموع النادرة ومثله عفَّى جمع عاف ـ سواء كان غزوهم في وطنهم أو بلاد أخرى فقتلوا: لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا، أي ما مات أولئك المسافرون، وما قتل أولئك الغازون.
2. قرن هذا القول بالكفر مشعر بأن مثله لا ينبغي أن يصدر عن مؤمن لأنه إنما يصدر من الكافرين وبيان ذلك من وجهين:
أ. أحدهما: إن هذا القول مخالف للمعقول مصادم للوجود، فإن من مات أو قتل فقد انتهى أمره وصار قول (لو كان كذا) عبثا لأن الواقع لا يرتفع، والحسرة على الفائت لا تفيد، ومن شأن المؤمن أن يكون صحيح العقل سليم الفطرة، ولذلك جعل سبحانه الخطاب في كتابه موجها إلى العقلاء، وبين أن أولي الألباب هم الذين يعقلونه ويتذكرون به ويقبلون هدايته، وقال فيمن لا إيمان لهم: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]
ب. ثانيهما: إن هذا القول يدل على جهل قائله بالدين أو جحوده، فإن الدين يرشد إلى تحديد الآجال وكونها بإذن الله كما تقدم قريبا في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾
3. المشهور في كتب التفسير المتداولة أن المراد بالذين كفروا المنافقون الذين تقدم ذكرهم في الآيات، وقال محمد عبده: يقول بعض المفسرين إن هذا القول وقع من بعض الكفار فعلا فنهى الله المؤمنين أن يقولوا مثله، والمختار أن هذا قول لا يصدر إلا عن كافر فلا يليق مثله بالمؤمنين.
4. سؤال وإشكال: سئل محمد عبده في هذا المقام عن مسألة القضاء والقدر، فقال إنني أجيب السائل بمثل ما أجبت به من سألني عن ذلك من غير المسلمين، إذ قال إن هذه العقيدة هي السبب في تأخر المسلمين عن غيرهم من الأمم، فإنهم ينكرون الأسباب ولا يحفلون بها، والجواب: إن ما ينتقد على المسلمين من ذلك لا يرجع منه شيء إلى الإسلام الخالص، فما قرره فهو الحق الواقع في نفسه الذي لا يمكن لمؤمن ولا ملحد إنكاره، وبين ذلك بذكر أن القضاء عبارة عن تعلق العلم الإلهي بالشيء والعلم انكشاف لا يفيد الإلزام، والقدر وقوع الشيء على حسب العلم، والعلم لا يكون إلا مطابقا للواقع وإلا كان جهلا، أو الواقع غير واقع، وهو محال، وهنا أمران كل منهما ثابت في نفسه: أحدهما أن الله خالق كل شيء وثانيهما أن هذا النوع من المخلوقات الذي يسمى (الإنسان) يعمل أعماله بقصد واختيار، ولكنه غير تام القدرة ولا الإرادة ولا العلم، فقد يعزم على العمل ثم تنفسخ عزيمته لتغير علمه بالمصلحة أو لعجزه عن تنفيذ ما عزم عليه مع بقاء علمه بأنه هو الموافق للمصلحة وذلك لمرض يلم به، أو مانع يحول دون ما أراده، وهذا يقع من الناس كل يوم، ولكنهم قد يغفلون عنه ويغترون بما ينفذ من عزائمهم فيظنون أن الإنسان يفعل ما يشاء.. جاء مصر رجلان من الأوروبيين الذين جرت عادة أمثالهم بأن يحددوا مدة سفرهم ومقامهم في كل بلد يزورونه قبل الشروع في السفر، كان مما كتباه في برنامج سفرهما أنهما يقيمان بمصر ستة أيام، فمرض أحدها فاضطر إلى أن يمد في مدة السفر بغير حساب، وهكذا شأن الإنسان: يعزم فيعمل، أو يعجز أو يموت قبل التمكن من العمل، فاختياره في أعماله وقدرته عليها ومعرفته الأسباب وقيامها به، كل ذلك له حدود لا يتجاوزها، فهو لا يحيط علما بأسباب الموت ولا يقدر على اجتناب كل ما يعمل من أسبابه، وما كل سبب يتعرض له يقع، فجميع الذي يصطلون بنار الحرب يعرضون أنفسهم للقتل، وقد يسلم أكثرهم ويقتل أقلهم.
5. يؤخذ من هذا كله أمران: أحدهما أن الشيء متى وقع يعلم بعد وقوعه إن لم يكن منه بد، وثانيهما أن الإنسان إذا كان يؤمن بأن لله تعالى عناية به وقد يلهمه إذا هو توجه إليه علم ما يجهل من أسباب سعادته ويوفقه إلى ما يعجز عنه من الأسباب بمحض حوله وقوته، فإنه بهذا الإيمان يكون مع أخذه بالأسباب أنشط في العمل؛ عند عجزه عنها بعد اليأس والكسل.
6. ﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾:
أ. أي لا تكونوا يا معشر المؤمنين مثل أولئك الكافرين في اعتقادهم ولا تقولوا مثل قولهم الناشئ عن ذلك الاعتقاد ليكون ذلك منكم سببا لتحسرهم وغمهم بحسب سنة الله تعالى؛ فإنهم إذا رأوكم أشداء أقوياء لا يضعفكم فقد من فقد منكم، ولا يقعد بكم عن القتال خوف أن يصيبكم ما أصاب أولئك الذين قتلوا؛ فإنهم يحزنون ويتحسرون، هذا وجه في التعليل متعلق بالنهي نفسه وملخص المعنى عليه: لا تكونوا مثلهم لأجل أن يتحسروا بامتيازكم عليهم إذا يضعفون بفقد من يفقد منهم وأنتم لا تضعفون.
ب. وفيه وجه آخر متعلق بقول الذين كفروا باعتبار الاعتقاد الفاسد الذي نشأ عنه، والمعنى: لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا، ليكون أثر ذلك القول مع الاعتقاد وعاقبته حسرة في قلوبهم على من فقد من إخوانهم، يزيدهم ضعفا ويورثهم ندما على تمكينهم إياهم من التعرض لما ظنوه سببا ضروريا للموت، فإنكم إذا كنتم مثلهم في ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم، وتضعفون عن القتال كما يضعفون، فلا يكون لكم امتياز عليهم بالبصيرة النيرة التي يرى صاحبها أن الذي وقع هو ما لا بد منه فلا يتحسر عليه، ولا بالإيمان الذي لا يزيد ذلك صاحبه إلا إيمانا وتسليما.
7. ﴿وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي والحقيقة أن الله تعالى يحيي من يشاء بمقتضى سننه في بقاء أسباب الحياة وإن طوى بالأسفار بساط كل بر، ونشر شراع كل بحر، وخاض معامع الحروب، وصارع الأهوال والخطوب، ويميت من يشاء بمقتضى سننه في أسباب الموت وإن اعتصم في الحصون المشيدة؛ وحرس بالجنود المجندة.
8. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فلا يخفى عليه ما تكنون في أنفسكم من الاعتقاد، وما يؤثر في قلوبكم من الأقوال والأحوال؛ فاحرصوا على أن يكون ترككم لأقوال الكفار ناشئا عن طهارة نفوسكم من وساوسهم.
9. قال محمد عبده: أي إن الحياة والممات بيد الله تعالى وهو ممد الموجودات كلها بما يحفظ وجودها والعالمين بحياتهم وموتهم فلا يليق بالعاقل أن يقول لمن أماته لو كان في مكان كذا لما مات بل كانت حياته أطول قال: وهناك علة أخرى من علل النهي عن مثل ذلك القول وهي ما أفاده قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
10. ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ وبيان ذلك أن حظ الحي من هذه الحياة هو ما يجمعه من المال والمتاع الذي تتحقق به شهواته وحظوظه، وما يلاقيه من يقتل أو يموت في سبيل الله من مغفرته تعالى ورحمته فهو خير له من جميع ما يتمتع به في هذه الدار الفانية، والموت في سبيل الله هو الموت في أي عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان لله، أي سبيل البر والخير التي هدى الله الإنسان إليها ويرضاها منه، وقد يموت الإنسان في أثناء الحرب من التعب أو غير ذلك من الأسباب التي يأتيها المحارب في أثنائها، فيكون ذلك من الموت في سبيل الله عز وجل.. وهذا هو المقصود هنا أولا وبالذات، لأن السياق في الحرب، ولذلك قدم ذكر القتل على الموت، فإن القتل هو الذي يقع كثيرا في الحرب والموت يكون فيها أقل، فذكره تبعا، بخلاف الآية الآتية.
11. حاصل معنى الآية: أن رب العزة يخبرنا مؤكدا خبره بالقسم بأن من يقتل في سبيله أو يموت، فإن ما ينتظره من مغفرةٍ تمحو ما كان من ذنوبه وسيئاته، ورحمةٍ ترفع درجاته خير له مما يجمع الذين يحرصون على الحياة ليتمتعوا بالشهوات واللذات، إذ لا يليق بالمؤمنين الذين يؤثرون مغفرة الله ورحمته الدائمة على الحظوظ الفانية أن يتحسروا على من يقتل منهم أو يموت في سبيل الله، ويودوا لو يكونوا خرجوا من دورهم إلى حيث لقوا حتفهم، فإن ما يلقونه بعد هذا الحتف خير مما كانوا فيه قبله، وبهذا الذي بينته تظهر نكتة الخطاب في أول الآية والغيبة في آخرها، وكذا تنكير مغفرة ورحمة.
12. ثم قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ قالوا: إن الموت والقتل هنا أعم مما في الآية السابقة، لأن كل من يموت ومن يقتل في سبيل الله، وهي طريق الحق والخير أو في سبيل الشيطان، وهي طريق الباطل والشر، فلا بد أن يحشر إلى الله تعالى دون غيره؛ فهو الذي يحشرهم بعد الموت في نشأة أخرى، وهو الذي يحاسبهم ويجازيهم، وههنا قدم ذكر الموت لأنه أعم من القتل وأكثر، قال محمد عبده، في معنى الحشر إلى الله تعالى: إنه ليس لله تعالى مكان يحصره فيحشر الناس ويساقون إليه، ولكن الإنسان يغفل في هذه الدار عن الله فينسى هيبته وجلاله، وينصرف عن استشعار عظمته وسلطانه، لاشتغاله بدفع المكاره عن نفسه وجلب اللذات والرغائب لها، وأما ذلك اليوم الذي يحشر له الناس فلا اشتغال فيه بتقويم بنية، ولا التمتع بلذة، ولا مدافعة عدو؛ ولا مقاومة مكروه، ولا بتربية نفس؛ ولا تنزيه حس، وإنما يستقبل فيه كل أحد ما يلاقيه من الله تعالى جزاء على عمله لا يشغله عنه شيء، فيكون بذلك راجعا عن كل شيء كان فيه إلى الله تعالى محشورا مع سائر الناس إليه لا يشغله عنه شيء، قال: وإذا كان مصير كل من يموت أو يقتل إلى الله تعالى مهما كان سبب موته أو قتله، ومهما طالت حياته، فالاشتغال بذكر سبب هذا المصير ومبدأه لا يفيد، وإنما الذي يفيد هو الاهتمام بذلك المستقبل والاشتغال بالاستعداد له، وذلك دأب العقلاء من المؤمنين.
__________
(1) تفسير المنار: 4/194.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا ـ حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ أي لا تكونوا أيها المؤمنون كأولئك المنافقين الذين قالوا في شأن إخوانهم حين سافروا في الأرض للتجارة والكسب فماتوا، أو كانوا غزاة في وطنهم أو في بلاد أخرى فقتلوا: لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا.
3. عبر عن هؤلاء المنافقين بالكافرين، لبيان أن مثل هذا لا ينبغي أن يصدر من المؤمنين، بل إنما يصدر من الكافرين، إذ أن من مات أو قتل فقد انتهى أمره، فقولهم: (لو كان كذا) عبث لأن ما وقع لا يرتفع، والحسرة عليه لا تفيد، ومن شأن المؤمنين أن يكونوا صحيحى العقل والإدراك، إلى أن في هذا القول جهلا بالدين وجحدا له فإن الله يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾
4. عقيدة القضاء والقدر لا تجعل المسلم مجبورا على أفعاله التي تصدر منه، فإن القضاء تعلق العلم الإلهي بالشيء، والعلم انكشاف لا يفيد الإلزام، والقدر وقوع الشيء بحسب العلم، والعلم لا يكون إلا مطابقا للواقع وإلا كان جهلا، والله تعالى قد جعل للإنسان اختيارا في أعماله، لكنه خلقه مع ذلك ناقص القدرة والإرادة والعلم، فقد يعزم على العمل ثم تنفسخ عزيمته لتغير علمه بالمصلحة أو لعجزه عن تنفيذ ما عزم عليه، مع اعتقاده بأنه هو الموافق للمصلحة لمرض يلمّ به، أو مانع يحول بينه وبين تنفيذ ما عزم عليه.
5. إنا لنرى هذا يحدث كل يوم، فليس الإنسان بقادر على أن يفعل كل ما يشاء كما يخيل إلى الناس اغترارا بما ينفذونه من عزائمهم، فاختياره في أعماله وقدرته عليها ومعرفته الأسباب، كل ذلك له حدود لا يتعداها، فهو لا يحيط علما بأسباب الموت، ولا يقدر على اجتناب كل ما يعلم من أسبابه، وما كل ما يتعرض له يقع، فالذين يعرّضون أنفسهم لنار الحرب قد يسلم أكثرهم ويقتل أقلهم، ومن هذا تعلم أن الشيء متى وقع علم أن وقوعه لم يكن منه بد، وأن الإنسان إذا كان يؤمن بمعونة الله وتأييده، وأنه يوفقه إلى علم ما يجهل من أسباب سعادته، يكون مع أخذه بالأسباب أنشط في العمل، وأبعد عن اليأس والكسل.
6. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا، ليكون عاقبة ذلك القول مع الاعتقاد حسرة في قلوبهم على من فقد من إخوانهم تزيدهم ضعفا وتورثهم ندما على تمكينهم إياهم من التعرض لما ظنوه سببا ضروريا للموت، فإنكم إذا كنتم مثلهم في ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم، وتضعفون عن القتال كما يضعفون، فلا يكون لكم ميزة عنهم بالعقل الراجح الذي يهدى صاحبه إلى أن الذي وقع كان لا بد أن يقع، فلا يتحسر عليه، ولا بالإيمان الصادق الذي يزيد صاحبه إيقانا وتسليما بكل ما يجرى به القضاء.
7. ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي والله هو المؤثر وحده في الحياة والموت بمقتضى سننه في أسبابهما، وليس للإقامة والسفر مدخل فيهما، فإن الله قد يحيى المسافر والغازي مع تعرضهما لأسباب الهلاك، ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم.
8. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فلا يخفى عليه شيء مما تكنّون في أنفسكم من المعتقدات التي لها أثر في أقوالكم وأفعالكم، فاجعلوا نفوسكم طاهرة من وساوس الشيطان حتى لا يصدر منها ما يصدر من الكفار، وفي هذا تهديد للمؤمنين حتى لا يماثلوا الكفار في أقوالهم وأفعالهم.
9. ثم بشر من قتل أو مات في سبيل الله بحسن المآل فقال: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ الموت في سبيل الله هو الموت في عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان في سبيل البر والخير التي هدى الله الإنسان إليها ويرضاها منه، فالمحارب قد يموت في أثناء الحرب من التعب والإعياء، أو الإتيان بعمل من الأعمال التي تستدعيها الحروب فيكون هذا موتا في سبيل الله، أي إن مغفرة الله ورحمته لمن يموت أو يقتل في سبيل الله، خير لكم من جميع ما يتمتع به الكفار من المال والمتاع في هذه الدار الفانية، فإن هذا ظل زائل، وذاك نعيم خالد.
10. الخلاصة ـ إن ما ينتظره المؤمن المقاتل في سبيل الله من المغفرة التي تمحو ما كان من ذنوبه، والرحمة التي ترفع درجاته ـ خير له مما يجمع أولئك الحريصون على الحياة الذين يتمتعون باللذات والشهوات، فما أجدر المؤمنين أن يؤثروا مغفرة الله ورحمته على الحظوظ الفانية، وألا يتحسروا على من يقتل منهم أو يموت في سبيل الله فإن ما يلقونه بعدهما خير لهم مما كانوا فيه قبلهما.
11. ثم حثهم الله تعالى على العمل في سبيل الله، لأن المآل إليه فقال: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي إنكم بأي سبب كان هلاككم فإنكم إلى الله تحشرون لا إلى غيره، فيجزى كلا منكم بما يستحق من الجزاء، فيجازى المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ولا يرجى من غيره ثواب، ولا يتوقع منه دفع عقاب، فآثروا ما يقربكم إليه، ويجلب لكم رضاه من العمل بطاعته، وعليكم بالجهاد في سبيله، ولا تركنوا إلى الدنيا ولذاتها، فإنها فانية، وتلك الحياة الأخرى باقية خالدة.
12. المراد من الحشر إلى الله في مثل هذا مما جاء في القرآن الكريم، أن الإنسان في ذلك اليوم الذي يحشر فيه الناس يستقبل ما يلاقيه من الله جزاء عمله، لا يشغله عنه شيء، فيكون بذلك راجعا عن كل شيء فيه إلى الله، محشورا مع سائر الناس، أما الإنسان في هذه الدار فقد يغفل عن الله وينسى هيبته وجلاله، وعظمته وسلطانه، لاشتغاله بدفع المكاره عن نفسه، وجلب اللذات والرغائب لها، وإذا كان هذا مصير كل حي مهما كان سبب موته أو قتله، فالاشتغال بذكر سبب المصير ومبدئه لا يفيد، وإنما الذي يجدر بالعاقل هو الاهتمام بالمستقبل والاستعداد له، والعمل لما به الفوز والسعادة فيه.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/108.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة، وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر، مناديا الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء، ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات.
2. ظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة، أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة، والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام؛ ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات، وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد، مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم، واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة ـ نتيجة لخروجهم ـ ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة، ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات، ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه.
3. إن قول الكافرين: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾.. ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها، للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها: سراؤها وضراؤها.. إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله، متعرف إلى مشيئة الله، مطمئن إلى قدر الله، إنه يعلم أن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع، ولا يتلقى السراء بالزهو، ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك؛ ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا، أو ليستجلب كذا، بعد وقوع الأمر وانتهائه! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة، كله قبل الإقدام والحركة؛ فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير ـ في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه ـ فكل ما يقع من النتائج، فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم؛ موقنا أنه وقع وفقا لقدر الله وتدبيره وحكمته؛ وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع؛ ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله!.. توازن بين العمل والتسليم، وبين الإيجابية والتوكل، يستقيم عليه الخطو، ويستريح عليه الضمير.. فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة، فهو أبدا مستطار، أبدا في قلق! أبدا في (لو) و(لولا) و(يا ليت) و(وا أسفاه)! والله ـ في تربيته للجماعة المسلمة، وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها ـ يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا، أولئك الذين تصيبهم الحسرات، كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق، أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون، ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري، فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية، بسبب انقطاعهم عن الله، وعن قدره الجاري في الحياة.
4. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا، أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا، إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل، يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل، ونداء المضجع، وقدر الله، وسنته في الموت والحياة، ما تحسروا، ولتلقوا الابتلاء صابرين، ولفاؤوا إلى الله راضين.
5. ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ فبيده إعطاء الحياة، وبيده استرداد ما أعطى، في الموعد المضروب والأجل المرسوم، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم، أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة، وعنده الجزاء، وعنده العوض، عن خبرة وعن علم وعن بصر: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
6. على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل؛ فهذه ليست نهاية المطاف، وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء، فهناك قيم أخرى، واعتبارات أرقى في ميزان الله: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾، فالموت أو القتل في سبيل الله ـ بهذا القيد، وبهذا الاعتبار ـ خير من الحياة، وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار: من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع، خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته، وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون، وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين.. إنه لا يكلهم ـ في هذا المقام ـ إلى أمجاد شخصية، ولا إلى اعتبارات بشرية، إنما يكلهم إلى ما عند الله، ويعلق قلوبهم برحمة الله، وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق، وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض.
7. وكلهم مرجوعون إلى الله، محشورون إليه على كل حال، ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان، فما لهم مرجع سوى هذا المرجع؛ وما لهم مصير سوى هذا المصير.. والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه، والاهتمام.. أما النهاية فواحدة: موت أو قتل في الموعد المحتوم، والأجل المقسوم، ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر.. ومغفرة من الله ورحمة، أو غضب من الله وعذاب.. فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس، وهو ميت على كل حال! بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة، وحقيقة قدر الله، وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر؛ وإلى ما وراء القدر من حكمة، وما وراء الابتلاء من جزاء.. وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة، وفيما صاحبها من ملابسات.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/499.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ دعوة للمؤمنين أن يتجنبوا وساوس الكافرين الذين لا يؤمنون بقضاء الله، ولا يستسلمون لقدره.. فإذا مات لهم ميت أو قتل لهم قتيل، وهو يجاهد في سبيل الله قالوا هذا القول المنكر، الذي حكاه القرآن عنهم: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾.. وهذا ضلال في الرأي وكفر بالله، ودفع لقضائه.. فقد مات من مات وقتل من قتل، حين استوفى كل أجله، وهذا الضلال في الرأي إنما هو ـ فوق أنه كفر بالله ـ هو مبعث حسرة وندم، تمتلئ بهما قلوب الكافرين كمدا وألما أن ذهب إخوانهم في هذا الوجه، فكان ذلك سبب موتهم أو قتلهم، ولو أقاموا معهم ما ماتوا وما قتلوا.
2. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ ولو أنهم عقلوا وآمنوا، لعلموا أن الموت والحياة بيد الله، ليس لأحد شأن أو تدبير فيهما: ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ قد أحاط علمه بكل شيء، ونفذ حكمه في كل شيء وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان إلى التسليم والرضا بالشر والخير، والضرّ والنفع.
3. سؤال وإشكال: كيف يكون منهم قول لأولئك الذين قتلوا أو ماتوا؟ والجواب: للإجابة عن هذا السؤال يتكلف النحاة القول بأن اللام في (لإخوانهم) بمعنى (عن) والتقدير على هذا: أنهم قالوا عن إخوانهم الذين قتلوا أو ماتوا هذا القول: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ وبهذا التخريج أخذ المفسرون، ونحن لا نقبل أن تخضع كلمات الله لمثل هذا التمحّك الذي يمكن أن يحمل عليه كل كلام، وننظر فنجد القرآن الكريم يعيد هذا القول مرة أخرى، على لسان هؤلاء القوم.. فيقول تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾، فالتزام القرآن للام التعدية بعد القول في الموضعين، فيه دلالة على إجراء القول على حقيقته، وهو أن يتعدى إلى مفعوله باللام، تقول: قلت له، وقال لي وعلى هذا تكون (اللام) في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ ـ في الموضعين ـ هي لام التعدية، وأنهم فعلا قالوا لإخوانهم وتحدّثوا إليهم!
4. سؤال وإشكال: لكن كيف هذا؟ وهؤلاء أحياء وأولئك أموات؟ والجواب: أن هؤلاء المنافقين أو الكافرين، حين لم يؤمنوا بالله، ولم يستسلموا لحكمه، ويرضوا بقضائه ـ قد تلقوا مصرع من مات منهم في ميدان القتال، أو في طريقه إليه، قد تلقوه جزعين مذهولين، كأنهم يستقبلون أمرا لم يكن في حسابهم أن يقع، لأنهم ينكرون الموت الذي يكون في غير البيت، أو على غير فراش المرض، ويعدّون مثل هذا الموت خيانة لهم ممن مات منهم به، فتشتد حسرتهم، ويتضاعف ألمهم، ويخرج بهم ذلك إلى شيء من الهلوسة والخبل، فيندبون موتاهم هؤلاء، وينادونهم من قريب نداءات منكرة محمومة: ألم أقل لك يا فلان لا تذهب إلى القتال؟ إنك لو أطعتنى لما أصابك سوء.. ألم أحذرك يا فلان عاقبة الأمر الذي انطلقت إليه؟ إنك لو استمعت إلى نصحى لما قطعت حبل حياتك وأنت في ريعان الصّبا، وفتاء الشباب؟ وهكذا يظلون أياما وليالى ينادون، ويناجون، ويندبون موتاهم، ويستحضرونهم في تصوراتهم المريضة، ويرونهم في مصارعهم تنهشهم السباع وتتخطفهم الطير، فيزداد حزنهم، وتشتد حسرتهم: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾
5. سؤال وإشكال: كيف يسمّون إخوانهم، وهؤلاء كافرون وأولئك مؤمنون؟ والجواب:
أ. أولا: أن هؤلاء الكافرين كانوا في جماعة المؤمنين أولا، فلما كانت وقعة أحد، ورأوا ما رأوا مما أصاب المسلمين، ساء ظنّهم بالله الذي آمنوا به، ثم بلغ بهم سوء الظن إلى الارتداد عن الإسلام ـ فتسميتهم إخوانا لهؤلاء المؤمنين تذكير لهم بالدين الذي كانوا عليه، ودعوة مجدّدة من الله إليهم ليدخلوا فيه، بعد أن خرجوا منه.
ب. وثانيا: في هذه التسمية للكافرين بأنهم إخوان لأولئك المؤمنين الذين قتلوا في سبيل اللهـ فضح لهم، ومواجهة صريحة بالحكم الذي حكم الله به عليهم وهو أنهم كافرون، وفي هذا ما يجعلهم يتعرفون إلى أنفسهم، ويرون الهاوية التي سقطوا فيها، وهم يقولون هذه المقولات المنكرة ـ وأنهم إذا كان عند أحدهم شك في أن هذه المقولات التي يقولها لا تدخل به إلى مداخل الكفر، فليعلم أنه يخدع نفسه، ويضلّلها.. فما هو بعد هذا من المؤمنين، فإما أن يتوب ويرجع إلى الله، وإما أن يمضى في طريقه، مع ضلاله وكفره.
6. انظر في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ تجد أن الله سبحانه، قد حكم عليهم أولا بأنهم كافرون، ثم أكّد كفرهم هذا بأنهم كانوا إخوانا لأولئك المؤمنين.. وأنهم منذ قالوا هذا القول ليسوا من الإيمان ولا المؤمنين في شيء.
7. ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ التفات إلى المؤمنين الذين سيقتلون أو سيموتون في سبيل الله، وأنهم سيلقون مغفرة من الله ورحمة، وأن هذا الذي يلقونه من مغفرة ورحمة خير مما يجمع هؤلاء الكافرون من مال ومتاع.
8. ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾.. هو خطاب عام للناس جميعا.. مؤمنين وكافرين ـ من قتل منهم ومن مات بغير قتل ـ بأنهم سيحشرون إلى الله، ويقفون بين يديه للحساب، وسيوفّى كل منهم حسابه عند الله.. إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/624.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ تحذير من العود إلى مخالجة عقائد المشركين، وبيان لسوء عاقبة تلك العقائد في الدنيا أيضا، والكلام استئناف، والإقبال على المؤمنين بالخطاب تلطّف بهم جميعا بعد تقريع فريق منهم الّذين تولّوا يوم التقى الجمعان.
2. اللام في قولهم: ﴿لِإِخْوَانِهِمُ﴾ ليست لام تعدية فعل القول، بل هي لام العلّة كقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ لأنّ الإخوان ليسوا متكلّما معهم بل هم الّذين ماتوا وقتلوا، والمراد بالإخوان الأقارب في النسب، أي من الخزرج المؤمنين، لأنّ الشهداء من المؤمنين.
3. (إذ) هنا ظرف للماضي بدليل فعليّ (قالوا وضربوا)، وقد حذف فعل دلّ عليه قوله: ﴿مَا مَاتُوا﴾ تقديره: فماتوا في سفرهم أو قتلوا في الغزو.
4. الضرب في الأرض هو السفر، فالضرب مستعمل في السير لأنّ أصل الضّرب هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به، فالسير ضرب في الأرض بالأرجل، فأطلق على السفر للتجارة في قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ [المزمل: 20]، وعلى مطلق السفر كما هنا، وعلى السفر للغزو كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ [النساء: 94] وقوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ [النساء: 101] والظاهر أنّ المراد هنا السفر في مصالح المسلمين لأنّ ذلك هو الّذي يلومهم عليه الكفار، وقيل: أريد بالضرب في الأرض التجارة، وعليه يكون قرنه مع القتل في الغزو لكونهما كذلك في عقيدة الكفار.
5. ﴿غُزًّى﴾ جمع غاز، وفعّل قليل في جمع فاعل الناقص، وهو مع ذلك فصيح، ونظيره عفّى في قول امرئ القيس: (لها قلب عفّى الحياض أجون)
6. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ علّة لـ (قالوا) باعتبار ما يتضمّنه من اعتقاد ذلك مع الإعلان به توجيها للنّهي عن التشبيه بهم أي فإنّكم إن اعتقدتم اعتقادهم لحقكم أثره كما لحقهم، فالإشارة بقوله: (ذلك) إلى القول الدال على الاعتقاد، وعلى هذا الوجه فالتعليل خارج عن التشبيه، وقيل: اللام لام العاقبة، أي: لا تكونوا كالّذين قالوا فترتّب على قولهم أن كان ذلك حسرة في قلوبهم، فيكون قوله: ﴿لِيَجْعَلَ﴾ على هذا الوجه من صلة (الّذين)، ومن جملة الأحوال المشبّه بها، فيعلم أنّ النّهي عن التّشبّه بهم فيها لما فيها من الضرّ.
7. الحسرة: شدّة الأسف أي الحزن، وكان هذا حسرة عليهم لأنّهم توهّموا أنّ مصابهم نشأ عن تضييعهم الحزم، وأنّهم لو كانوا سلكوا غير ما سلكوه لنجوا فلا يزالون متلهّفين على ما فاتهم، والمؤمن يبذل جهده فإذا خاب سلّم لحكم القدر.
8. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ تحذير لهم من أن يضمروا العود إلى ما نهوا عنه.
9. ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ ذكر ترغيبا وترهيبا، فجعل الموت في سبيل الله والموت في غير سبيل الله، إذا أعقبتهما المغفرة خيرا من الحياة وما يجمعون فيها، وجعل الموت والقتل في سبيل الله وسيلة للحشر والحساب فليعلم أحد بما ذا يلاقي ربّه، والواو للعطف على قوله: ﴿لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وعلى قوله: ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [آل عمران: 156]
10. اللام في قوله: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾ موطّئة للقسم أي مؤذنة بأنّ قبلها قسما مقدّرا، ورد بعده شرط فلذلك لا تقع إلّا مع الشرط، واللام في قوله: ﴿لَمَغْفِرَةٌ﴾ هي لام جواب القسم، والجواب هو قوله: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ﴾ لظهور أنّ التقدير: لمغفرة ورحمة لكم، وقرأه نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف: متّم ـ بكسر الميم ـ على لغة الحجاز لأنّهم جعلوا ماضيه مثل خاف، اعتبروه مكسور العين وجعلوا مضارعه من باب قام فقالوا: يموت، ولم يقولوا: يمات، فهو من تداخل اللغتين، وأمّا سفلى مضر فقد جاؤوا به في الحالين من باب: قام فقرأوه: متّم، وبها قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب، وقرأ الجمهور، مما تجمعون ـ بتاء الخطابـ وقرأ حفص عن عاصم ـ بياء الغائبـ على أنّ الضّمير عائد إلى المشركين أي خير لكم من غنائم المشركين الّتي جمعوها وطمعتم أنتم في غنمها.
11. قدّم القتل في الأولى والموت في الثانية اعتبارا بعطف ما يظنّ أنّه أبعد عن الحكم فإنّ كون القتل في سبيل الله سببا للمغفرة أمر قريب، ولكن كون الموت في غير السبيل مثل ذلك أمر خفي مستبعد، وكذلك تقديم الموت في الثّانية لأنّ القتل في سبيل الله قد يظنّ أنّه بعيد عن أن يعقبه الحشر، مع ما فيه من التفنّن، ومن ردّ العجز على الصدر وجعل القتل مبدأ الكلام وعوده.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/264.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ما زالت النصوص القرآنية الكريمة تذكر العبر في هزيمة أحد، وكأن هذه الهزيمة التي لم تكن فاصلة، بل رجع فيها المنتصرون لم يلووا على شيء ـ فيها دروس فائدتها أكبر من فائدة النصر، وفيها كشف لأحوال نفسية، ومعرفتها ذريعة إلى الاستمرار على القتال والانتصار فيه، وفي هذه الآيات بين الله سبحانه وتعالى الفرق بين النفس المؤمنة إذا فقدت أحبابها أو أصفياءها في جهاد أو ما يشبهه، والنفس الكفارة إذا أصيبت بمثل هذه الإصابة، وفي هذه الآيات أيضا يبين سبحانه أن النظر إلى الماضي المؤلم من غير الاقتصار على الاعتبار يؤدى إلى الحسرة والحزن الدائم، فالنفس الدبرية التي تلاحقها دائما بآلام الماضي لا تسعد في ذاتها، ولا تتأهب لعمل يحتاج إلى تضافر الهمم وتحفز العزائم، فإن تقرّح القلب بآلام الماضي كفر بالله، وعدم تفويض إليه سبحانه، وعدم إيمان بالمستقبل الذي يكون يوم القيامة، ويكون الأمر فيه كله لله تعالى، وإن هذه الروح الدبرية هي روح الكافرين، وقد نهى الله سبحانه عن أن يكونوا مثلهم، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾
2. الخطاب واضح بأنه للمؤمنين الصادقي الإيمان، وهو نهى عن التشبه بالذين كفروا، في حالهم التي يبينها سبحانه وتعالى، وفي التعبير بالذين كفروا إشارة إلى أن الجزع للحاضر أو الماضي والالتفات إلى الماضي والنظر إلى وجوب تغييره، وقد سجل في الوجود، وأصبح لا سبيل إلى تغييره؛ لأن ما وقع لا يكون ـ كل هذا من شأن الكافرين الذين يأسرهم ما يقع، ويتخذون (لو) التي هي سبيل الشيطان دائما وسواسا لنفوسهم، يكررون ما كان يجب، وقد وقع ما وجب، والبصير الذي آتاه الله نعمة الهداية والتوفيق لا يفكر إلا فيما يجب في المستقبل على ضوء ما وقع في الماضي.
3. صيغة النهى التي عبر بها سبحانه: ﴿لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ تفيد تباعد ما بين المقامين: مقام الإيمان، ومنزل الكفران، وأنه لا يصح بالمؤمن أن ينزل إلى المرتبة الدون، بعد أن علا بالإيمان إلى مقام الأعلين الأبرار، وفي هذا تقبيح المنهى عنه بأبلغ تعبير، وأرق تصوير؛ إذ حسب الذين أهمتهم أنفسهم، وقالوا عن إخوانهم في حال يأس مستول: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ [آل عمران]، أن يكونوا في هذا كالذين كفروا؛ إذ يوسوس إليهم الجزع بأن يقولوا مثل هذه المقالة ـ حتى يبتعد المؤمنون عنها، ويجانبوها كل المجانبة.
4. والأمر نهى عن المماثلة فيما حكاه سبحانه يقول: ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ ضربوا في الأرض معناها سافروا وأبعدوا في السفر، ولم يكن سفرا قاصدا، بل كان سفرهم فيه مشقة وجهد، وتعرض فيه المسافر للأذى، وغزّى: جمع غاز، كراكع وركّع، وصائم وصوّم، ونائم ونوّم، وشاهد وشهّد، وغائب وغيّب.
5. اللام في قوله تعالى: ﴿لِإِخْوَانِهِمُ﴾ إما أن تكون دالة على موضع الخطاب، ويكون المعنى أن هؤلاء الذين كفروا لفرط جزعهم على الذين فقدوهم يقولون لإخوانهم الأحياء: لو كانوا مقيمين معنا، وملازمين بيوتهم، ولم يضربوا في الأرض ولم يغزوا فيها ما ماتوا وما قتلوا؛ فالأحياء يتبادلون الكلام في شأن الذين قتلوا أو ماتوا، ويقول الزمخشري: (إن اللام هنا ليست دالة على الخطاب، إنما هي للتعليل، والمعنى: يقول أولئك الذين نجوا لأجل ما فقدوه من إخوانهم، تحسرا وأسفا عليهم: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا)
6. ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ هذا القول ينبعث من قلوب غير مؤمنة يسيطر عليها غم حاضر وهم غابر، وهو يدل على ضيق العقول، ومصادمة لكل معقول تحت تأثير الهوى الجامع المسيطر، فإنهم ما داموا قد خرجوا مختارين، فليس لكلمة (لو) مقام بعد ذلك في اعتبارهم، ثم إن هذا الكلام يضعف العزيمة، ويفتح القلوب للخور، فالمأسور بهزيمة الماضي لا ينتصر في المستقبل، وفوق هذا فإن ذلك القول يدل على عدم تفويض الأمور لله سبحانه، فهو مسيّر كل شيء، وكل شيء عنده بمقدار، وعلى المؤمن أن يعمل ويجد، ويترك تقدير الأمور لرب العالمين، وما حاول إنسان أن يضبط شؤون المستقبل كما يجب إلا أصابه الله سبحانه وتعالى بما يخالف تقديره، ويبطل تدبيره، وهذا القول لا يصدر أيضا إلا عن قوم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يرجون ما عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك ذكر سبحانه أنه من خواص الذين كفروا بالله واليوم الآخر، وإن تلك الحال اليائسة القاتلة شأن من شؤون الذين يلحدون في الله دائما، وهى عقاب دنيوي لهم، ولذا قال سبحانه: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾
7. اللام في قوله تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ هي التي تسمى لام العاقبة، وهى تدل على المآل، ولا تدل على التعليل الباعث، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص] فإنه ما كان الباعث على الالتقاط هو أن يكون لهم عدوا وحزنا، بل كانت النتيجة هي العداوة، ويصح أن تكون اللام للتعليل، ويكون المعنى: أن الله سبحانه وتعالى خلق الكفار على هذه الأخلاق اليائسة، أو قدر لهم هذه الأحوال المويسة ليلقى الحسرة في قلوبهم، والغم في نفوسهم، والضلال بهذه الأقوال في عقولهم.
8. الحسرة هي الهم المعيى الكاشف للنفس الذي يلقى بالحزن المستمر فيها، وقد قال الأصبهانى في هذه المادة: (الحاسر من لا درع له، والحاسر المعيا لانكشاف قواه، ويقال للمعيا حاسر ومحسور، أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره، وقوله عزّ وجل: ﴿يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وهُوَحَسِيرٌ﴾ [الملك] يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور، وقال تعالى: ﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء]، والحسرة الغم على ما فاته، والندم عليه، كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، وانحسرت قواه من فرط غم، وأدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه، قال تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ﴾ [الحاقة]، ومن هذا يتبين أن معنى الحسرة يتضمن هما وحزنا وإعياء، وتكشفا للآلام يلقى تشاؤما وارتياعا وانزعاجا مستمرا.
9. الكلام السابق على أساس أن الحسرة نتيجة لقولهم واعتقادهم الفاسد، ذلك أنها تلقى في قلوبهم ضعفا وألما، فالسبب في الحسرة على هذا التوجيه من أنفسهم التي ركبها الله سبحانه وتعالى ذلك التركيب، ويصح أن تكون الحسرة نتيجة للنهى، وتكون اللام للتعليل، ولا تصلح أن تكون للنتيجة والمآل، ويكون المعنى على هذا: يا أيها المؤمنون لا تكونوا كالذين كفروا إذ يشغلهم الماضي ولا يفكرون في الحاضر، بل اتخذوا من الماضي عبرة، وفوّضوا الأمور إلى الله تعالى ليجعل الله لكم بهذا قوة، ويكون ذلك حسرة في قلوب الكافرين؛ إذ يرونكم مستبشرين بنعمة من الله وفضل دائما، فلا تألمون لمن تفقدون، ولا تتخاذلون بمن يقتلون من صفوفكم، بل تأخذون الأهبة، وتتقدمون طالبين الشهادة أو النصر المؤزر، وذلك هو سبب الحسرة.
10. ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ في هذه الجملة السامية ترشيح وتقوية لمعنى النهى السابق، وتأكيد لضلال الكفار ومن يحاكونهم في انشغال أنفسهم بمن ماتوا، وظنهم أن الخروج هو الذي كان سببا في قتل من قتلوا، كما قال الكافرون: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ ففي هذه الجملة يبين سبحانه أن الأرواح كلها بيد الله تعالى يقبضها إن شاء، ويرسلها إ أراد، فهو سبحانه لا يتقيد بخروج للقتال، فالقعود لا يضمن الحياة، والخروج لا يكون معه التلف، بل ربما كانت فيه النجاة، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النساء] وإنه إذا كانت الحياة والموت بيد الله وحده قد جعل لكل أجل كتابا ومن جاء أجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم، وأن الله سبحانه وتعالى خالق الأسباب ومسبباتها، وهو الذي يربط بينهما برباط السببية لحكمة يراها، والأسباب لا تلزمه سبحانه، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، والله سبحانه في أفعاله كلها بالإحياء والإماتة يتصرف تصرف العليم الخبير، ولذا قال سبحانه: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي أن الله تعالى عليم علم من يرى ويبصر بأعمالكم التي تعملونها، يعلم البواعث والنتائج ويعلم الحقائق والوقائع، فلا تذهب أنفسكم حسرات على الماضي واستعدوا.
11. وقد بين سبحانه أن الله غافر ما كان منكم من خطأ في ماضيكم، ومجازيكم بخير مما ينال هؤلاء، ولذا قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ اشتمل الكلام على قسم وجملة شرطية واقعة، فالله سبحانه وتعالى يقسم وهو العزيز الحكيم بأن من يموت أو يقتل في سبيل الله طالبا رضاه محتسبا النية في جهاده يناله جزاءان عظيمان:
أ. أحدهما: أن يغفر الله تعالى ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتلك نعمة عظيمة، لا يشعر بها إلا من يشعر بتقصيره ويحاول رضا مولاه، ويغلب الخوف على الرجاء، ويستصغر حسناته بجوار ما يرتكب من هفوات، وتلك مرتبة الصديقين والشهداء والصالحين، وذلك ما يتضمنه الوعد بالمغفرة من رضوان الله تعالى، فإن الله تعالى لا يغفر إلا لمن يرضى عنه، ويذهب عنه سخطه سبحانه وتعالى، ففي الوعد بالمغفرة نعمة الغفران، ونعمة الرضوان، وهو أكبر.
ب. الثاني: الرحمة من الله تعالى، ورحمة الله تعالى تتضمن الثواب، والنعيم المقيم يوم القيامة، وذكر رحمة الله تعالى في هذا المقام لكيلا تذهب نفوس المؤمنين حسرة على ما ماتوا منهم، فإنهم ليسوا في شقاء بل هم في نعيم، ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران]
12. هنا بحوث ثلاثة حول هذا النص الكريم:
أ. أولها: أنه سبحانه وتعالى صرح بأن مغفرته ورحمته خير مما يجمع المشركون من أموال وعقار وكل أغراض الدنيا، ويقول ابن عباس فيما روى عنه من تفسير: (خير من طلائع الأرض ذهبة حمراء) أي خير من ملء الأرض ذهب أحمر، و(خير) أفعل تفضيل، وهو هنا ليس على بابه فإن الخيرية في مغفرة الله تعالى، ولا خيرية فيما يكنزون، فإنها تكوى بها جباههم وجنوبهم، أو تقول أفعل التفضيل على بابه، ويكون المراد من الخير مطلق النفع، ولا شك أن رحمة الله ومغفرته أنفع لأنهما أبقى.
ب. ثانيها: أنه ذكر أن الموت قد يكون في سبيل الله وذلك إذا كان المؤمن يعيش طول حياته مخلصا لله وللحق وللمعرفة والهداية يحب الشيء لا يحبه إلا لله تعالى، وكان الله ورسوله أحب إليه من نفسه، فإن من يكون كذلك يعيش لله وفي سبيل الله ويموت في سبيل الله.
ج. ثالثها: أنه قدم ﴿قُتِلْتُمْ﴾ في هذا المقام لأنه المناسب؛ لأن الكلام الكريم في أعقاب مقتلة أصابت المسلمين وأصابهم هم بسببها فناسب تقديم ﴿قُتِلْتُمْ﴾ على ﴿مُتِمُّ﴾ وإن الخطاب هنا للمؤمنين الذين جاهدوا، وهو مبين لجزائهم وقال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ الخطاب الأول للتبشير بالنسبة للمجاهدين كما أشرنا والخطاب هنا يعم المجاهدين وغيرهم، ولذا قدم فيه (متم) على (قتلتم)، وبين أن الجميع سيلقون ربهم، وأنهم سيحشرون إليه، أي سيجمعون جميعا يوم الحشر مسوقين إليه سبحانه وتعالى، والتعبير بالحشر إشارة إلى أن الجميع يجتمعون لا يفلت منهم أحد؛ فالمنافقون والمشركون والمؤمنون الذين قتلوا والذين نجوا مجموعون عند ربهم، وسيلقاهم، وسيحاسب كل امرئ بما كسب، للمجاهدين مقامهم، ولغيرهم مهواهم الذي هووا إليه، ففي هذا إنذار وتبشير وتذكير بلقاء الله العلى الكبير، اللهم هب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الغفور الرحيم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1468.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الذي ينبغي بيانه في هذه الفقرة هو ما احتوت عليه الآيات الثلاث من اللامات، وهي ست:
أ. اللام في لإخوانهم من قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ وهذه اللام للتعليل لا للتبليغ، أي ليست مثل ما قلت لك، بل هي تعليل للقول مثل اني قلت ما قلت لأجلك، والمعنى ان الذين قالوا لأجل موت إخوانهم ـ وهم مسافرون أو في الحرب ـ لو كانوا معنا ما ماتوا وما قتلوا، فاللام للتعليل تماما كاللام في قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾، أي قالوا لأجل ايمان من آمن: لو كان الإيمان خيرا.. بحيث لو لم يحصل الإيمان ممن آمن فلا يقول الكافرون هذا القول.
ب. اللام في قوله: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ وهي لام كي، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، والمصدر مجرور باللام متعلق بـ ﴿لَا تَكُونُوا﴾ والمعنى يا معشر المسلمين لا تكونوا مثل الكافرين في قول أو فعل، لأن عدم مشابهتكم لهم في شيء تحدث حسرة في نفوسهم.
ج. اللام في ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾ وهي لام القسم، وان شرطية.
د. اللام في لمغفرة، وهي في جواب القسم، أما جواب ان الشرطية فمحذوف، وقد سد مسده جواب القسم لكونه دالا عليه.
هـ. اللام في ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ﴾ وهي مثل سابقتها.
و. اللام في ﴿لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ وهي مثل اللام في (لمغفرة)
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾، لفظ الذين كفروا عام يشمل كل كافر، سواء أكان منافقا يبطن الكفر، ويظهر الإيمان، أو كان كافرا ظاهرا وباطنا.. ولكن كثيرا من المفسرين قالوا: المراد خصوص المنافقين لأن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مختصة بشرح أحوالهم، ولأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد مادة للدس والفتنة.. وليس هذا القول ببعيد.
3. ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾، أي قالوا ما قالوه لأجل موت إخوانهم، فاللام للتعليل، لا لتبليغ المخاطب، لأن الميت لا يخاطب، ولأن المنافقين قالوا: لو كانوا ـ الواو يعود لإخوانهم ـ عندنا ما ماتوا وما قتلوا.. ولم يقولوا: لو كنتم عندنا ما متم وما قتلتم.
4. ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ كان المنافقون يسندون موت المسافر في السفر، وقتل الغازي إلى نفس الحرب والسفر، لا إلى الأجل المرسوم عند الله.. وقد نهى سبحانه المؤمنين عن مثل هذا القول، لأن فيه استجابة لدسائس المنافقين وتلبية لأهوائهم، أما إذا لم يقولوا ذلك، وأسندوا موت من مات، وقتل من قتل في الحل والترحان، والسلم والحرب، أسندوا ذلك إلى الله وحده فإنهم يردون كيد المنافقين الكائدين في نحورهم، ويثيرون الحسرة واللوعة في قلوبهم.
5. المراد بالاخوة هنا مطلق العلاقة نسبا كانت أو صداقة أو مشابهة في العقيدة والأخلاق.
6. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي ان الله نهى المؤمنين عن التشبه بالمنافقين قولا وفعلا، لأن هذا التشبه يسرهم، ويحقق مقاصدهم، وعدمه يزعجهم ويغيظهم.
7. ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾، فالآجال كلها بيده، ولا تأثير للحرب، ولا للسفر.. فقد يسلم المسافر والمحارب، ويميت المقيم والقاعد، وهذا رد على قول المنافقين: ان كلا من السفر والحرب سبب للموت، ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، هذا ترغيب في طاعة الله، وتهديد لمن يقتدي بأهل الكفر والنفاق في قول أو فعل.
8. 9. ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ كل من دافع عن الحق أو عن نفسه بسيفه أو قلمه أو لسانه وقتل فقد قتل في سبيل الله، وكل من كافح وناضل من أجل العيش أو العلم أو ما ينفع الناس بجهة من الجهات ومات فقد مات في سبيل الله، وكل من قتل أو مات في سبيل الله فقد استوجب الصفح عن الذنوب وعلو الدرجات في الدنيا والآخرة.
10. ﴿خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ معناه ان الأجدر بالمؤمن أن يؤثر الآجلة الدائمة، وهي مغفرة الله ورحمته على العاجلة الفانية، وهي ما يجمعه الذين يحرصون على التمتع بالشهوات والملذات.
11. ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾، هذا هو مصير الإنسان، سواء أفارق الحياة بالقتل أو بأي سبب من الأسباب.. وهو مجزي بما أسلف، ان خيرا فخير، وان شرا فشر.. والعاقل يستعد لهذا اليوم، ولا يلهو بالباطل، وقول: لو كان.. ولولا يكون.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/185.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد أيضا، وهي تتضمن التعرض لأمر آخر عرض لهم، وهو الأسف والحسرة الواردة في قلوبهم من قتل رجالاتهم وسراة قومهم، ومعظم المقتولين كانوا من الأنصار فما قتل من المهاجرين ـ على ما قيل ـ إلا أربعة، وهذا يقوي الحدس أن معظم المقاومة كانت من ناحية الأنصار، وأن الهزيمة أسرعت إلى المهاجرين قبلهم.
2. بالجملة الآيات تبين ما في هذا الأسف والحسرة من الخطإ والخبط، وتعطف على أمر آخر يستتبعه هذا الأسف والتحسر وهو سوء ظنهم برسول الله ، وأنه هو الذي أوردهم هذا المورد وألقاهم في هذه التهلكة كما يشير إليه قولهم على ما تلوح إليه هذه الآيات: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ الآية، وقول المنافقين فيما سيجيء: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ الآية، أي أطاعونا ولم يطيعوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو الذي أهلكهم، فهي تبين أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس له أن يخون أحدا بل هو رسول منه تعالى شريف النفس كريم المحتد عظيم الخلق يلين لهم برحمة من الله، ويعفو عنهم ويستغفر لهم ويشاورهم في الأمر منه تعالى، وأن الله من به عليهم ليخرجهم من الضلال إلى الهدى.
3. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية المراد بهؤلاء الذين كفروا ما هو ظاهر اللفظ أعني الكافرين دون المنافقين ـ كما قيل ـ لأن النفاق بما هو نفاق ليس منشأ لهذا القول ـ وإن كان المنافقون يقولون ذلك ـ وإنما منشؤه الكفر فيجب أن ينسب إلى الكافرين.
4. الضرب في الأرض كناية عن المسافرة، وغزي جمع غاز كطالب وطلب وضارب وضرب، وقوله: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً﴾، أي ليعذبهم بها فهو من قبيل وضع المغيا موضع الغاية، وقوله: ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾، بيان لحقيقة الأمر التي أخطأ فيها الكافرون القائلون: لو كانوا، وهذا الموت يشمل الموت حتف الأنف والقتل كما هو مقتضى إطلاق الموت وحده على ما تقدم، وقوله: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ في موضع التعليل للنهي في قوله: ﴿لَا تَكُونُوا﴾ الآية.
5. ﴿مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾، قدم فيه الموت على القتل ليكون النشر على ترتيب اللف في قوله: ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾، ولأن الموت أمر جار على الطبع والعادة المألوفة بخلاف القتل فإنه أمر استثنائي فقدم ما هو المألوف على غيره.
6. محصل الآية نهي المؤمنين أن يكونوا كالكافرين فيقولوا لمن مات منهم في خارج بلده أو قومه، وفيمن قتل منهم في غزاة: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ فإن هذا القول يسوق الإنسان إلى عذاب قلبي ونقمة إلهية وهو الحسرة الملقاة في قلوبهم، مع أنه من الجهل فإن القرب والبعد منهم ليس بمحيي ومميت بل الإحياء والإماتة من الشؤون المختصة بالله وحده لا شريك له فليتقوا الله ولا يكونوا مثلهم فإن الله بما يعملون بصير.
7. ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ الظاهر أن المراد مما يجمعون هو المال وما يلحق به الذي هو عمدة البغية في الحياة الدنيا، وقد قدم القتل هاهنا على الموت لأن القتل في سبيل الله أقرب من المغفرة بالنسبة إلى الموت فهذه النكتة هي الموجبة لتقديم القتل على الموت، ولذلك عاد في الآية التالية: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ إلى الترتيب الطبعي بتقديم الموت على القتل لفقد هذه النكتة الزائدة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/54.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ في النسب ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ (الذين كفروا) يحتمل أن المراد بهم: الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، ويحتمل: أنهم من اليهود الذين كانوا في المدينة ولم يكونوا أسلموا لأن وقعة الخندق متقدمة، وكانوا صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يكن نزل الأمر بقتالهم أو الجزية.
2. ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي سافروا، والتقدير: سافروا فماتوا في سفرهم أو قتلوا ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ جمع غازِ، أي فقتلوا أو ماتوا، قال الذين كفروا لهم، أي فيهم: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ فنهى الله الذين ءامنوا أن يكونوا مثلهم، أو يعتقدوا اعتقادهم، أو يقولوا كقولهم، لأنه قول باطل، من حيث أنهم لا يعلمون الغيب، ومن الممكن أن لو كانوا عندهم لماتوا بسبب معتاد أو لغير سبب ظاهر، أو لقتلوا بأي سبب، ومن حيث أن الحياة والموت بإذن الله لا يملكون موتاً ولا حياة، فليس تدبيرهما إليهم، ومن حيث أن هذا يمنع الضرب في الأرض لابتغاء فضل الله والجهاد في سبيل الله محاذرة الموت والقتل؛ وعلى المؤمن أن يَكِلْ أمره إلى الله ولايترك الأسباب المشروعة ولا الجهاد لأنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله له، ليست المصائب بالصدفة.
3. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ قالوا ذلك ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ﴾ القول ﴿حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أسفاً على من مات أو قتل عقوبة لهم، فـ (اللام) مثلها في قوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص:8]
4. ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ فمن أحياه فلن يستطاع إماتته، ومن أماته فلن يستطاع إحياؤه؛ لأن الله غالب على أمره ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجعل لكل عمل حكمه، ويرتب عليه من الخير والشر مايناسبه.
5. ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ فهذا جواب آخر يبطل قولهم: ﴿مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ الموهم أن القتل خسارة، فبين الله: أن السعادة في الشهادة في سبيل الله.
6. ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ يفيد: أن الموت في سبيل الله يحصل معه المغفرة من الله والرحمة، ولعل ذلك لكون الخاتمة الجهاد في سبيل الله.
7. ﴿خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أي من المال ونحوه من أغراض الدنيا الفانية، وقراءة ﴿يَجْمَعُونَ﴾ بالمثناة من تحت، أي مما يجمع أولئك الذين كفروا وقالوا لإخوانهم، وقراءة ﴿تَجْمَعُون﴾ بالتاء، خطاب للناس أو الذين آمنوا؛ لأن الشهيد يصير إلى ما هو خير له من أهله وماله.
8. ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ ﴿تُحْشَرُونَ﴾ إليه لا إلى غيره، فحيث متم أو قتلتم في سبيله فيكفيكم أنكم تحشرون إليه لأنكم تفوزون برضوانه وحسن ثوابه؛ لأنه ﴿لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [التوبة:120] وهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/564.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا نداء جديد من الله للمؤمنين يستهدف إفراغ مشاعرهم من السلبيات العاطفية الضاغطة التي تهيمن على الروح والفكر والوجدان، فتنحرف بها عن الخط الإيماني الأصيل في التصوّر والشعور، فتدفعها إلى الاستسلام لحالات الضعف التي تهزم مواقفها من ناحية نفسية قبل أن تنهزم في معركتها من العدوّ، ولذلك أراد الله سبحانه أن يعيش المؤمن في مواقعه الإيمانية فكريا وروحيا وعمليّا، فيظلّ في وعي دائم لمقتضيات الإيمان، بعيدا عن الضغوط العاطفية السلبية، فيرصد مشاعره في اتجاهاتها الإيجابية والسلبيّة، ويراقب الكلمات التي يسمعها في ما يختبئ في داخلها من خلفيّات خيّرة أو شرّيرة، ويربط ذلك كله بالموقف الإسلامي في خطواته العملية في الحياة، ليتعرف على مدى تأثير تلك الأشياء عليها في ما تستتبعه من اهتزاز أو ثبات.
2. إن الله يثير ذلك ـ في ما نستوحيه ـ في هذا النداء الذي يكشف للمؤمنين بعض الأوضاع التي يعيشها الكافرون الذين يخوضون المعارك المنطلقة من حالات الغزو فيفقدون فيها بعض إخوانهم في المعركة، أو يسافرون ويضربون في الأرض فيتعرضون لبعض أخطار السفر فيموتون تحت تأثيرها؛ فإذا حدث ذلك كان ردّ الفعل لديهم أن يطلقوا التمنّيات الحزينة والافتراضات غير الواقعيّة، فيقولون: لو كان هؤلاء الذين ماتوا عندنا، فلم يخرجوا إلى الغزو وإلى السفر لظلّوا أحياء، لأنهم يبتعدون بذلك عن أسباب الموت، كما ابتعدنا عنها فبقينا أحياء، وتتحوّل هذه الكلمات لديهم إلى مشاعر تتفاعل في وجدانهم وتملأ قلوبهم بالحسرة، في ما أودعه الله في تكوين الإنسان من ارتباط المشاعر السلبية بالأفكار غير الواقعية البعيدة عن خط الإيمان، ويبتعد الإنسان من خلال ذلك عن الحركة المستقبلية نحو أهدافه الكبيرة، وتتجمد مشاريعه، فيخاف من السفر وأخطاره إذا دعته المصلحة إلى ذلك، فيتركه استسلاما لحالة الخوف من الموت، ويخشى من نتائج المعركة التي تفرض عليه حياته أن يخوضها، فيبتعد عنها ويجلس في بيته مهزوما، خشية من الموت، فتتجمد أوضاعه تبعا لذلك.
3. إن هذا النداء يحذّر المؤمنين الذين قد يعيشون في مجتمع الكافرين فيتأثّرون بأساليبهم العاطفية، لا سيما في حالات الألم الشديد، فتتأثر بذلك مسيرتهم في الجهاد الذي يفرضه عليهم إيمانهم أمام التّحدّيات الدائمة الحاضرة والمستقبلة من قبل الكافرين، ويفقدون حركة إيمانهم في الداخل، فإن المؤمن يعتقد أن الحياة والموت بيد الله لا بيد الإنسان، وأن ظروف الموت وأسبابه ليست محصورة في نطاق الأخطار التي تواجه الإنسان، بل ربما يموت الإنسان في حالة السلم وينجو في حالة الحرب، وقد يخرج سليما من قبضة الخطر ويقع صريعا في حالات الاسترخاء.. وبذلك كانت القضية لدى المؤمن هي أن تكون حياته لله، وأن يكون مماته لله من حيث طبيعة الهدف الكبير الذي يشمل حياته، فلا مجال أمام ذلك للتراجع عن الخطر والابتعاد عن المعركة والاستسلام للانفعالات العاطفية التي تصيب الإنسان عندما يفقد حبيبا أو قريبا أو صديقا، بل هو الصبر والثبات والرضى بقضاء الله والشكر على نعمة الجهاد، والفرح الروحي الذي يستشعره المؤمن في كل هذه الحالات بأنه تحت سمع الله وبصره، فتهتز مشاعره أمام النظرة الإلهية الراحمة عند مواقف الطاعة المخلصة الممتدة في خطوات الإيمان.
4. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الذين لا تزال الرواسب التاريخية في مجتمعهم الذي كان يتخبط في تقاليد الجاهلية ويتأثر بمفاهيمها، تفرض نفسها عليهم بطريقة لا شعورية، أو تتحرك في الأحاديث العامة الخاضعة لأجواء الحزن في مشاعره السلبية في مواجهة الإنسان للجانب العاطفي في حياته المتأثر بالمصائب الطارئة عليه التي تصيبه في أقربائه وأصدقائه وأحبائه.. أيها المؤمنون، لا تتأثروا بتلك الرواسب، واندفعوا إليها بوعي الإيمان الحق المنفتح على سنة الله في الحياة وحكمته في تقديره للأمور، من حيث هو مالك كل شيء، والمهيمن على الأمر كله، لتطردوها من نفوسكم، فلا تسقطوا أمامها ولا تتأثروا بها بعيدا عن الخط الإيماني الشعوري والفكري والعملي.
5. ﴿لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله وابتعدوا عن وعي الحياة في كل أحداثها المتنوعة في حركة الآلام في واقع الإنسان في مسيرته في الدنيا، من خلال تعقيداتها الكثيرة وتأثيراتها عليه، فلم يتعمقوا في معناها من حيث ارتباطها بإرادة الله وقدرته وتخطيطه للنظام الكوني والإنساني في سننه في الكون والحياة والإنسان، بل استغرقوا في الجانب الحسّي المحدود الذي يتطلع إلى الأمور من جانب واحد في الأفق الضيّق، لا من جميع جوانبها في الأفق الواسع، وهكذا واجهوا مسألة مصابهم بإخوانهم بهذا المنطق السطحي الانفعالي، فتحدثوا ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ الذين يلتقون معهم في النسب أو في النوع والخصائص القريبة، والمراد بقولهم لهم، هو الحديث عنهم لأجل التعبير عن تمنياتهم لهم بالأخذ بأسباب السلامة والتنديد باقتحامهم أخطار السفر والحرب، كما لو كانوا أحياء معهم ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وسافروا فيها وابتعدوا في قطع المسافات الشاسعة للتجارة أو غيرها، ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ في ساحة المعركة الضارية ضد الأعداء، ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا﴾ مقيمين بيننا في حالة الدعة والأمن والاسترخاء والبعد عن مواقع الأخطار ﴿مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ لأن أسباب الحياة متوفرة لدينا، وعوامل الخطر بعيدة عنّا، ولذلك امتدت الحياة بنا بكل عناصرها ولذّاتها.
6. هكذا كانوا يتحدثون بأسلوب المتمني اليائس الحزين الذي يتطلع إلى الأحداث من مواقع انفعاله لا من موقع تفكيره، ليوجه مشاعره نحو السقوط العاطفي فيتحول ذلك إلى حالة قريبة من اليأس ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ يجترونها في أحاديثهم الانفعالية، واللام هنا للعاقبة، أي لتكون عاقبة ذلك الحسرة النفسية بدلا من الطمأنينة الروحية في مواجهة البلاء على أسلوب قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: 8]، وفي هذا تحذير للمسلمين أن لا يقولوا مثل هذا القول، ولا يفكروا بهذه الطريقة، لأنها تبتعد بالإنسان المؤمن عن عقيدته، وتملأ بالحسرة نفسه، فيسقط بروحه أمامها وتعطل حركته نحو الجهاد في مواجهة الأعداء، وتسقط طموحه في الوصول إلى المواقع المتقدمة في الحياة.
7. ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ فهو الذي يملك أمر الحياة والموت من خلال سنته المتحركة من مواقع إرادته في خط حكمته وقدرته، فقد يموت الإنسان في داره في حالة الأمن والدعة، وقد يعيش الإنسان المتحرك في مواقع الخطر في السفر الشاق والحرب الخطرة.
8. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فهو المطلّع على كل أعمالكم في سرّكم وعلانيتكم، وعليكم مراقبته في كل حركة أفكاركم ومشاعركم وأقوالكم وأفعالكم لتنسجموا مع إيمانكم الذي يحقق لكم رضاه.
9. ثم يؤكّد الله سبحانه للمؤمنين في هذا النداء حقيقتين إيمانيتين في ما يريده لهم أن يعيشوه من حقائق الإيمان، ليستثيروا بذلك الأجواء التي تمنع العواطف السلبية المضادة من النمو والتأثير على مجرى التفكير والشعور:
أ. الأولى: في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ إن المؤمنين الذين يعيشون حياتهم في خطّ الطاعة لله والجهاد في سبيله، فيقتلون في سبيل الله أو يموتون في طريق الطاعة، لا يعيشون الشعور بالخسارة إزاء الموت، بل يتطلعون إلى الربح الأعلى، لأن الإيمان يخضع المشاعر الإيمانية للتطلع إلى ما عند الله من المغفرة والرحمة لأنها السبيل الوحيد إلى الطمأنينة والسعادة الخالدة التي تصغر أمامها كل رغبات الدنيا وامتيازاتها وشهواتها وأموالها، لأنها النعيم الزائل الذي لا يخلو من الكثير من الآلام، بينما تمثل الآخرة في نعيمها الخلود واللذة التي لا يشوبها الألم من قريب أو من بعيد، وفي ضوء ذلك، لا بد للمؤمنين من استقبال أخطار الجهاد بالإقدام والإرادة القويّة بعيدا عن كل السلبيات العاطفية، ليستقبلوا ألطاف الله في مغفرته ورحمته.
ب. الثانية: في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ إن المؤمن يعرف ـ من خلال إيمانه ـ أن الموت لا يمثل النهاية المحتومة التي ينتهي إليها وجوده، فيغرق في أمواج العدم الباردة التي تملأ كيانه بالصقيع، حتى يعيش الحسرة أمام الموت، لأنه يفقد بذلك قوة الحياة في نعيمها ولذتها، ولكنه يمثل الجسر الذي يلتقي فيه الإنسان بالله عندما يحشر إليه مع كل الخلائق، فيجد عنده الأمن والطمأنينة عندما يقدم إليه حسابه فيوفيه أجره خالصا كاملا غير منقوص، فيدفعه ذلك إلى استقبال حالة الموت بروح هادئة مطمئنة تستعجل لقاء الله طلبا لما عنده، وذلك هو الفوز العظيم.
10. قد نحتاج إلى استيحاء هاتين الآيتين في واقع الجهاد الذي يخوضه المؤمنون الآن عندما يلتقون بالمشاعر السلبية الحزينة التي يثيرها المجتمع المنحرف الخاضع لأساليب الكفر، فيواجهون التجربة الصعبة عند أوّل حالة جهاد يخوضونها ويفقدون فيها إخوانهم، وتتحرك التأوهات والتمنيات لتثير أمام المؤمنين مشاكل عاطفية ونفسية.. فقد ينبغي لنا ـ في هذا المجال ـ أن نثير هذه الأجواء القرآنية بشكل عميق تستيقظ فيه روحية الإيمان لتحرّك المشاعر الإنسانية في الاتجاه الصحيح، وتوجّهها إلى الوجهة المستقيمة، وذلك في ضمن خطّة تربوية مستمرة تعمل لتفريغ وجدان المسلمين من السلبيات الفكرية والشعورية التي قد يلتقون بها في مجتمعاتهم، فيفقدون من خلال ذلك أصالة الشخصية وعمقها وامتدادها، لأن مشكلة المسيرة الإسلامية في كثير من مظاهرها، هي في أن المسلمين يغفلون عن بعض مستلزمات الإيمان، فيندمجون في تقاليد المجتمع وعاداته وتصوراته، ويتحولون ـ عندئذ ـ إلى طاقات تتحرك باسم الإسلام، ولكن بمؤثرات غير إسلامية، وتتراكم من خلال ذلك في واقعهم الأوضاع والأساليب غير الإسلامية، وتفسح المجال للأفكار المنحرفة لتدخل في عمق الفكر والشعور بطريقة خفيّة، فتتأثر بذلك خطواتهم لتنحرف إلى خط الكفر من حيث لا يشعرون.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/332.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت حادثة (أحد) تحظى بأهمية كبيرة من وجهة نظر المسلمين وذلك من جهتين:
أ. أولا: لأنها كانت تعتبر خير مرآة تعكس حقيقة المسلمين في تلك المرحلة، وتساعدهم على رؤية نقاط ضعفهم، فإصلاحها وإزالتها، ولهذا السبب ركز القرآن على أحداث هذه الواقعة وملابساتها وقضاياها ذلك التركيز الكبير وأولاها ذلكم الاهتمام البالغ، فنحن نرى كيف نستفيد منها دروسا وعبرا كثيرة وكبيرة، في الآيات القادمة كما في الآيات السابقة.
ب. ومن جهة أخرى هيأت أحداث هذه الواقعة أرضية وفرصة مناسبة للمنافقين بأن يقوموا بمحاولاتهم التشويشية، ومن أجل هذا نزلت آيات عديدة لإبطال مفعول هذه المحاولات وتفشيل هذه المساعي الماكرة، من جملتها هذه الآيات الكريمة.
2. هذه الآيات تتوجه بالخطاب أولا إلى المؤمنين بهدف تحطيم جهود المنافقين ومحاولاتهم التخريبية، وتحذير المسلمين منهم فتقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ هذه الكلمات وإن كانوا يطلقونها في ستار من التعاطف وتحت قناع الإشفاق، إلّا أنهم لم يكونوا ـ في الحقيقة ـ يقصدون منها إلّا تسميم روحية المسلمين، وإضعاف معنوياتهم، وزعزعة إيمانهم، فينبغي ألا تقعوا تحت تأثيرها، وتكرروا نظائرها من العبارات.
3. ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أنكم أيها المؤمنون إذا وقعتم تحت تأثير هذه الكلمات المضلة الغاوية، وكررتم نظائرها ستضعف روحيتكم أيضا، وستمتنعون أيضا عن الخروج إلى ميادين الجهاد والسفر والرحيل من أجل الله وفي سبيله، وحينئذ سيتحقق للمنافقين ما يصبون إليه، ولكن لا تفعلوا ذلك، وتقدموا إلى سوح الجهاد وميادين القتال بمعنوية عالية، وعزم أكيد ودون تردد ولا كلل، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب المنافقين المخذلين، أبدا.
4. ثمّ إن القرآن الكريم يرّد على خبث المنافقين وتسويلاتهم وتشويشاتهم بثالث أجوبة منطقية هي:
أ. إن الموت والحياة بيد الله على كلّ حال، وأن الخروج والحضور في ميدان القتال لا يغير من هذا الواقع شيئا، وأن الله يعلم بأعمال عباده جميعها: ﴿وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
ب. ثمّ إنكم حتّى إذا متم أو قتلتم، وبلغكم الموت المعجل ـ كما يحسب المنافقون ـ فإنكم لم تخسروا شيئا، لأن رحمة الله وغفرانه أعظم وأعلى من كلّ ما تجمعه أيديكم أو يجمعه المنافقون مع الاستمرار في الحياة من الأموال والثروات ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾، وأساسا لا تصحّ المقارنة بين هذين الأمرين فأين الثرى من الثرايا، ولكنه أمر لا مفر منه عند مخاطبة تلك العقول المنحطة التي تفضل أياما معدودة من الحياة الفانية وجفنة من الثروة الزائلة على عزة الجهاد وفخر الشهادة، إنه ليس من سبيل أمام هؤلاء إلّا أن يقال لهم: إن ما يحصل عليه المؤمنون عن طريق الشهادة أو الموت في سبيل الله، أفضل من كلّ ما يجمعه الكفّار من طريق حياتهم الموبوءة، المزيجة بالشهوات الرخيصة وعبادة المال والدنيا.
ج. وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فإن الموت لا يعني الفناء والعدم حتّى يخشى منه هذه الخشية ويخاف منه هذا الخوف، ويستوحش منه هذا الاستيحاش، إنه نقلة من حياة إلى حياة أوسع وأعلى وأجل وأفضل، حياة مزيجة بالخلود موصوفة بالبقاء ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾
5. الجدير بالملاحظة في هذه الآيات هو جعل الموت في أثناء السفر، في مصاف الشهادة في سبيل الله، لأن المراد بالسفر هنا هي تلك الأسفار التي يقوم بها الإنسان في سبيل الله ولأجل الله كالسفر وشد الرحال إلى ميادين القتال أو للعمل التبليغي، وذلك لأن الأسفار في تلك العصور كانت محفوفة بالمشاكل، ومقترنة بالمصاعب والمتاعب، وكانت تلازم في الأغلب الأمراض التي تؤدي في أكثر الأحيان إلى الموت، ولذلك لم يكن ذلك الموت بأقل فضلا من القتل والشهادة في ميادين الجهاد وسوح النضال، وأما ما احتمله بعض المفسّرين من أن الأسفار المذكورة في هذه الآية هي الأسفار التجارية فهو بعيد جدا عن معنى الآية، لأن الكفّار لم يتأسفوا قط لهذا الأمر بل كان هذا هو نفسه وسيلة من وسائل الحصول على الثروة وتكريسها، هذا مضافا إلى أن هذا الموضوع لم يكن له أي تأثير في إضعاف روحية المسلمين بعد معركة أحد، كما وان عدم تنسيق المسلمين مع الكفّار في هذا المورد لم يوجد ولم يسبب أية حسرة للكفّار، ولهذا فإن الظاهر هو أن المراد من الموت في أثناء السفر في هذه الآية هو الموت في السفر الذي يكون بهدف الجهاد في سبيل الله، أو لغرض القيام بغير ذلك من البرامج الإسلامية.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/743.
84. النبي والرحمة والعفو والمشاورة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈84⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لا تدخلنّ في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزيّن لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظنّ بالله!(1).
2. روي أنّه قال: خير من شاورت ذوو النّهى والعلم واولوا التجارب والحزم(2).
3. روي أنّه قال: ما عطب امرئ استشار(3).
4. روي أنّه قال: من شاور ذوي الأسباب، دلّ على الرشاد(4).
5. روي أنّه قال: شاور في حديثك الّذين يخافون الله(5).
6. روي أنّه قال: من ملك استأثر، ومن استبدّ برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها(6).
7. روي أنّه قال: لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب، ولا ظهير كالمشاورة(7).
8. روي أنّه قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى اليمن فقال لي وهو يوصيني: يا عليّ، ما حار من استخار، ولا ندم من استشار.. يا عليّ، عليك بالدّلجة، فإن الأرض تطوى باللّيل ما لا تطوى بالنّهار، يا عليّ، اغد باسم الله فإن عزّ وجلّ بارك لأمتي في بكورها(8).
9. روي أنّه قال: ما حار من استخار، ولا ندم من استشار(9).
10. روي أنّه قال: يوصي بعض أهله: اضمم آراء الرجال بعضها إلى بعض، ثمّ اختر أقربها من الصواب وأبعدها من الارتياب.. وقد خاطر بنفسه من استغنى برأيه، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطاء(10).
11. روي أنّه قال: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه(11).
12. روي أنّه قال: انّ الجاهل من عدّ نفسه بما جهل من معرفته للعلم عالما وبرأيه مكتفيا(12).
13. روي أنّه قال: من لم يستشر يندم(13).
__________
(1) نهج البلاغة عهد: 53.
(2) غرر الحكم: ص 389.
(3) الخصال: ص620.
(4) كنز الكراجكي على ما في: المستدرك، 2/65.
(5) المحاسن: ص 601.
(6) نهج البلاغة الحكمة: 152/1165.
(7) نهج البلاغة الحكمة: 51/1112.
(8) بحار الأنوار 75/78.
(9) تحف العقول: ص 207.
(10) من لا يحضره الفقيه 4/278.
(11) نهج البلاغة حكمة: 202/1181.
(12) مستدرك الوسائل 2/65.
(13) تفسير العيّاشي 1/120.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ لانصرفوا عنك(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٨٧.
ابن أرقم:
روي عن زيد بن أرقم (ت 68 هـ) أنّه قال: كان رجل من الأنصار يدخل على رسول الله ، ويأمنه رسول الله ، وأن ذلك الرجل عقد له عقدا، فألقاه في بئر، فصرع ذلك النبي ، فأتاه ملكان يعودانه، فأخبراه أن فلانا عقد له عقدا، وهي في بئر فلان، وقد اصفرّ من شدة عقده، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليا فاستخرج العقد، فوجد العاقد اصفر، فحل العقد، وقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فما ذكر ذلك رسول الله ، ولا رآه في وجهه قط، ولم يعاتبه حتى مات(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة والبخاري، وأبو الشيخ، والبيهقي، سبل الهدى: 7/9.
أنس:
روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عشر سنين(1).. في السفر والحضر، والله ما قال لي: أفّ قط، ولا لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا هكذا؟ ولا لشيء صنعته: أسأت صنعته، أو لبئس ما صنعت، ولا عاب عليّ شيئا قط، ولا أمرني بأمر فتوانيت عنه، أو ضيعته فلا مني، ولا لامني أحد من أهله إلا قال دعوه فلو قدّر أو قال قضي أن يكون كان، وأرسلني في حاجة يوما فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمر به رسول الله ، فخرجت على صبيان وهم يلعبون في السوق، وإذا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قبض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه، وهو يضحك، فقال: (يا أنس، اذهب حيث أمرتك) فقلت له: أنا أذهب يا رسول الله(2).
2. روي أنّه قال: لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سبّابا ولا لمّاما ولا فاحشا، وكان يقول لأحدنا عند المعاتبة: (ماله ترب جبينه(3).
3. روي أنّه قال: كانت الأمة والعبد لتأخذ بيد رسول الله ، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت، ويجيب إذا دعي(4).
4. روي أنّه قال: ما رأيت رجلا التقم أذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنحى رأسه عنه، حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، وما رأيت رجلا أخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فترك يده، حتى يكون الرجل هو الذي ينزع(5).
5. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا صافحه الرجل لا ينزع يده من يده، حتى يكون الرجل ينزع، وإن استقبله بوجهه لا يصرفه عنه حتى يكون الرجل ينصرف، ولم ير مقدّما ركبتيه بين يدي جليس له(6).
6. روي أنّه قال: شاور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة، فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا، قال: فندب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدرا(7).
__________
(1) وفي لفظ: إحدى عشرة سنة، وأنا ابن ثمان سنين.
(2) البخاري: 10/471: 6038.
(3) البخاري: 10/467: 6031.
(4) البخاري: 10/504: 6072.
(5) أبو داوود: 4/251: 4794.
(6) البيهقي في السنن: 10/192 وفي دلائل النبوة: 1/320.
(7) مسلم: 1779.
ابن عمرو:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاحشا ولا متفاحشا وكان يقول: إنّ خياركم أحسنكم أخلاقا(1).
2. روي أنّه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم موصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن.. ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق ولا يجزئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح(2).
__________
(1) البخاري: 10/470: 6035.
(2) البخاري، سبل الهدى: 7/7.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ما أمر الله نبيه بالمشاورة إلا لما علم فيها من الفضل والبركة(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ٩/٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ قد علم الله أنه ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده(1).
__________
(1) سعيد بن منصور: ٥٣٤.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أوّل الحزم المشورة لذي الرأي الناصح، والعمل بما يشير به(1).
2. روي أنّه قال: في التوراة أربعة أسطر: من لا يستشر يندم، والفقر الموت الأكبر، وكما تدين تدان، ومن ملك استأثر(2).
__________
(1) نزهة الناظر: ص 102.
(2) المحاسن: ص 601.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ فبرحمة من الله ﴿لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ إي والله، لطهره الله من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبا رحيما رؤوفا بالمؤمنين، وذكر لنا: أن نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخوب في الأسواق، ولا يجزئ بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أمر الله نبيه أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء؛ لأنه أطيب لأنفس القوم، وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا، وأرادوا بذلك وجه الله؛ عزم لهم على رشده(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ أمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا عزم على أمر أن يمضي فيه، ويستقيم على أمر الله، ويتوكل على الله(3).
4. روي أنّه قال في الآية: منّ من الله عظيم، من غير دعوة ولا رغبة من هذه الأمة، جعله الله رحمة لهم، يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم، بعثه الله إلى قوم لا يعلمون فعلمهم، وإلى قوم لا أدب لهم فأدبهم(4).
5. روي أنّه قال: أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يشاور أصحابه في الأمور، وهو يأتيه الوحيّ من السّماء لأنّه أطيب لأنفس القوم، وأن القوم إذا شاور بعضهم بعضا، وأرادوا بذلك وجه الله تعالى عزم عليهم على أرشده(5).
__________
(1) عَبد بن حُمَيد كما في قطعة من تفسيره: ص٦١.
(2) ابن جرير: ٦/١٨٨.
(3) ابن جرير: ٦/١٩٢.
(4) ابن جرير: ٦/٢١٣.
(5) ابن جرير وابن أبي خيثمة، سبل الهدى: 9/398.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ معناه لا نصرفوا في الأرض بكلّ وجه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ معناه أجمعت(2).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 113.
(2) تفسير الإمام زيد، ص 114.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه الوحي من السماء؛ لأنه أطيب لأنفسهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٨٩.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ فظا في القول، غليظ القلب في الفعل(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ يعني: ناظرهم في لقاء العدو، ومكان الحرب عند الغزو(2).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٩٠.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/١٩١.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: استشر العاقل من الرجال؛ الورع، فإنّه لا يأمر إلّا بخير، وإيّاك والخلاف، فإن خلاف الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا(1).
2. روي أنّه قال: إنّ المشورة لا تكون إلّا بحدودها، فمن عرفها بحدودها وإلّا كانت مضرّتها على المستشير أكثر من منفعتها له، فأوّلها: أن يكون الّذي يشاوره عاقلا، والثانية: أن يكون حرّا متديّنا، والثالثة: أن يكون صديقا مؤاخيا، والرابعة: أن تطلعه على سرّك، فيكون علمه به كعلمك بنفسك، ثمّ يستر ذلك ويكتمه، فإنّه إذا كان عاقلا انتفعت بمشورته، وإذا كان حرّا متديّنا جهد نفسه في النصيحة لك، وإذا كان صديقا مؤاخيا كتم سرّك إذا أطلعته على سرّك، وإذا أطلعته على سرّك فكان علمه به كعلمك، تمّت المشورة وكملت النصيحة(1).
3. روي أنّه قال: ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه مالا قبل له به أن يستشير رجلا عاقلا له دين وورع!؟.. أما إنّه إذا فعل ذلك لم يخذله الله؛ بل يرفعه الله، ورماه بخير الأمور وأقربها إلى الله(1).
4. روي أنّه قال: شاور في أمورك ما يقتضي الدين، من فيه خمس خصال: عقل وعلم وتجربة ونصح وتقوى، فإن تجد فاستعمل الخمسة واعزم وتوكّل على الله، فإن ذلك يؤدّيك إلى الصواب، وما كان من أمور الدنيا التي هي غير عائدة إلى الدين فأمضها ولا تتفكّر فيها، فإنّك إذا فعلت ذلك أصبت بركة العيش وحلاوة الطاعة، وفي المشاورة اكتساب العلم، والعاقل من يستفيد منها علما جديدا ويستدلّ به على المحصول من المراد، ومثل المشورة مع أهلها مثل التفكّر في خلق السماوات والأرض وفنائهما وهما غنيّان عن العبد لأنّه كلّما قوي تفكّره فيهما غاص في بحار نور المعرفة وازداد بهما اعتبارا ويقينا ولا تشاور من لا يصدّقه عقلك وإن كان مشهورا بالعقل والورع، وإذا شاورت من يصدّقه قلبك فلا تخالفه فيما يشير به عليك وإن كان بخلاف مرادك فإن النفس تجمح عن قبول الحقّ وخلافها عند قبول الحقائق أبين، قال الله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159] وقال الله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38] أي متشاورون فيه(2).
5. روي أنّه قال: من لم يكن له واعظ من قلبه، وزاجر من نفسه، ولم يكن له قرين مرشد، استمكن عدوّه من عنقه(3).
6. روي أنّه قال: استشيروا في أمركم الّذين يخشون ربّهم(4).
7. روي أنّه قال: يوصي بعض أصحابه: شاور في أمرك الّذين يخشون الله عزّ وجلّ(5).
8. روي أنّه قال: يوصي بعض أصحابه: إن كنت تحبّ أن تستتب لك النعمة، وتكمل لك المروة، وتصلح لك المعيشة، فلا تستشر السفلة في أمرك، فإنّك إن ائتمنتهم خانوك، وإن حدّثوك كذبوك، وإن نكبت خذلوك، وإن وعدوك بوعد لم يصدقوك(6).
9. روي أنّه قال: لا مال أعود من العقل، ولا مصيبة أعظم من الجهل، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا ورع كالكفّ، ولا عبادة كالتفكّر، ولا قائد خير من التوفيق، ولا قرين خير من حسن الخلق، ولا ميراث خير من الأدب(7).
10. روي أنّه قال: لن يهلك امرئ عن مشورة(4).
11. روي أنّه قال: المستبدّ برأيه موقوف على مداحض الزلل(8).
12. روي أنّه قال: لا تشر على المستبدّ برأيه(8).
13. روي أنّه قال: لا رأي لمن انفرد برأيه(9).
14. روي أنّه قال: من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرّأي سلبه الله عزّ وجلّ رأيه(10).
15. روي أنّه قال: قال لقمان لابنه: إذا سافرت مع قوم فاكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم، وأكثر التبسّم في وجوههم، وكن كريما على زادك بينهم، وإذا دعوك فأجبهم، وإذا استعانوا بك فأعنهم، واستعمل طول الصمت وكثرة الصلاة وسخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد، وإذا استشهدوك على الحقّ فاشهد لهم، واجهد رأيك لهم إذا استشاروك، ثمّ لا تعزم حتى تثبّت وتنظر، ولا تجب في مشورة حتّى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلّي وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورتك فإن من لم يمحض النصيحة لمن استشاره سلبه الله رأيه ونزع عنه الأمانة(11).
__________
(1) المحاسن: ص 602.
(2) مصباح الشريعة: ص36.
(3) أمالي الصدوق: ص441.
(4) المحاسن: ص 601.
(5) الخصال، 1/169.
(6) علل الشرائع: ص558.
(7) الاختصاص: ص246.
(8) أعلام الدين: ص304.
(9) كنز الكراجكي 1/367.
(10) أصول الكافي 2/363.
(11) من لا يحضره الفقيه 2/194.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ فبرحمة الله كان إذ لنت لهم في القول، ولم تسرع إليهم بما كان منهم يوم أحد، يعني: المنافقين، ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا﴾ باللسان: ﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، وذلك أن العرب في الجاهلية كان إذا أراد سيدهم أن يقطع أمرا دونهم ولم يشاورهم شق ذلك عليهم، فأمر الله تعالى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يشاورهم في الأمر إذا أراد، فإن ذلك أعطف لقلوبهم عليه، وأذهب لضغائنهم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ فإذا فرق الله لك الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ فثق بالله، ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ عليه، يعني: الذين يثقون به(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٩.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ ذكر لينه لهم، وصبره عليهم لضعفهم، وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه في كل ما خالفوا فيه مما افترض عليهم من طاعة نبيهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، أي: لتركوك(1).
3. روي أنّه قال: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ أي: فتجاوز عنهم، ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ﴾ ذنوب من قارف من أهل الإيمان منهم(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، أي: لتريهم أنك تسمع منهم، وتستعين بهم، وإن كنت عنهم غنيا، تألفهم بذلك على دينهم(3).
5. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ أي: على أمر جاءك مني، أو أمر من دينك في جهاد عدوك، لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك؛ فامض على ما أمرت به على خلاف من خالفك، وموافقة من وافقك ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ أي: ارض به من العباد، ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(4).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٨٧.
(2) ابن جرير: ٦/١٨٨.
(3) ابن جرير: ٦/١٨٩.
(4) ابن جرير: ٦/١٩١.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه قال: من استشار لم يعدم عند الصواب مادحا، وعند الخطأ عاذرا(1).
__________
(1) نزهة الناظر: ص 123.
عيينة:
روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ هي للمؤمنين؛ أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه أثر(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٩٠.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عزّ وجل: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: فبرحمة من الله عليك لنت لهم؛ كقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]
ب. ويحتمل قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ فيجب أن يكون الإنسان رحيما على خلقه؛ على ما جاء في الخبر قال لأصحابه: (لن تدخلوا الجنّة حتّى تراحموا)، فقيل: كلنا نرحم يا رسول الله، فقال: (ليس تراحم الرّجل ولده أو أخاه، ولكن يتراحم بعضهم بعضا) أو كلام نحو هذا، وما جاء: (من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقّر كبيرنا ـ فليس منّا)، وما جاء: (من لم يرحم أهل الأرض لم يرحمه أهل السّماء)؛ كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ﴾ [الجاثية: 14] الآية.
2. أمر الله عباده أن يعامل بعضهم بعضا بالرحمة واللين، إلا عند المعاندة والمكابرة؛ فحينئذ أمر بالقتال؛ كقوله لموسى وهارون ـ حيث أرسلهما إلى فرعون ـ فقال: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44]، وكان اللين في القول أنفذ في القلوب، وأسرع إلى الإجابة، وأدعى إلى الطاعة من الخشن من القول، وذلك ظاهر في الناس؛ لذلك أمر الله عزّ وجل رسلهم باللين من المعاملة، والرحمة على خلقه، وجعله سبب تأليف القلوب وجمعها، وجعل الخشن من القول والفظ سبب الفرقة بقوله: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا﴾ في القول.
3. قوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: بأذاهم إياك ولا تكافهم، واستغفر لهم فيما بينهم وبين ربهم.
ب. ويحتمل قوله: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ بما عصوك ولا تنتصر منهم.
4. وكذلك أمر الله المؤمنين جملة أن يعفوا عنهم، وألا ينتصروا منهم بقوله: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ﴾ [البقرة: 109]، وكان أرجى للمؤمنين.
5. ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ﴾ كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ﴾ الآية [الجاثية: 14]، وقوله ـ أيضا ـ: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 19]: لا جائز أن يؤمر بالاستغفار لهم ثم لا يفعل، وإذا فعل لا يجاب؛ فدل أنه ما ذكرنا وكذلك دعاء إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 41]، ودعاء نوح عليه السلام: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [نوح: 28] لا يجوز أن يدعو هؤلاء الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ثم لا يجاب لهم.
6. ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أمر الله عزّ وجل نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يشاور أصحابه في الأمر؛ ففيه وجوه:
أ. أحدها: أنه لا يجوز له أن يأمره بالمشاورة فيما فيه النص، وإنما يأمر بها فيما لا نصّ فيه؛ ففيه دليل جواز العمل بالاجتهاد.
ب. الثاني: لا يخلو أمره بالمشاورة، إما لعظم قدرهم وعلوّ منزلتهم عند الله، أو لفضل العقل ورجحان اللب؛ فكيفما كان فلا يجوز لمن دونهم أن يسووا أنفسهم بهم، ولا جائز ـ أيضا ـ أن يأمر نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بمشاورة أصحابه، ثم لا يعمل برأيهم؛ دل أنهم إذا اجتمعوا كان الحق لا يشذ عنهم.
ج. وقال بعضهم: إنما أمر نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بمشاورتهم في أمر الحرب والقتال، وعن الحسن: (لما أنزل الله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ ـ قال رسول الله : (إنّ الله ورسوله غنيّان عن مشاورتكم)؛ ولكنه أراد أن يكون سنة لأمته)، وعن ابن عباس أنه كان يقرأ: (وشاورهم في بعض الأمر)
د. وقيل: أمر الله نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يشاور أصحابه في الأمور، وهو يأتيه وحي السماء؛ لأنه أطيب لأنفس القوم، وأن القوم إذا شاورهم بعضهم بعضا فأرادوا بذلك وجه الله ـ عزم الله لهم على أرشده.
هـ. وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا إذا أراد سيّدهم أن يقطع أمرا دونهم، لا يشاورهم في الأمر شق عليهم؛ فأمر الله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يشاورهم في الأمر إذا أراد؛ فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم.
7. في بعض الأخبار قيل: (يا رسول الله، ما العزم؟ قال: أن تستشير ذا الرأي، ثم تطيعه)، وكان يقال: ما هلك امرؤ عن مشورة، ولا سعد ثبور، قيل: الثبور: الذي لا يستشير ويعمل برأيه.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾:
أ. قيل: أي: لا تتكلن إلى نفسك، ولا تعتمدن على أحد؛ ولكن اعتمد على الله وكل الأمر إليه.
ب. وقيل: فإذا فرق ذلك الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك، فإن كان في أمر الحرب على ما قيل فهو لا تعجبن بالكثرة، ولا ترينّ النصر به، ولكن اعتمد بالنصر على الله؛ كقوله تعالى: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾ [التوبة: 25]، والله أعلم بما أراد، بذلك؛ كقوله: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ [آل عمران: 126]
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/515.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾: أي فبرحمة من الله لنت لهم وحسن خلقك، ولان قولُك وفعلُك، واتسع لهم صدرك وفضلك.
2. ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾: أي لو كنت جافياً غليظ الطباع، لافترق عنك المؤمنون، ولما تبعك أحد من المسلمين، ولكن برحمة الله وتأديبه حسن فعلك، ولان لعباد الله جانبك وقلبك، حتى رحمتهم برحمة الله وأمره وتأييده، وتوفيقه وتسديده.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 265.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ أي فبرحمة من الله و(ما) صلة دخلت لحسن النظم ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ الفظ الجافي الغليظ القلب القاسي وجمع بين الصفتين وإن كان معناهما واحد للتأكيد.
2. ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ وإنما أمر بمشاورتهم في الحرب ليستقر له الرأي الصحيح وقيل ما شاور قوم إلا هدوا إلى رشد الأمور وقيل إنه أمر بمشاورتهم ليستن من بعده به.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/156.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ الفظ: الجافي، والغيظ القلب: القاسي، وجمع بين الصفتين، وإن كان معناهما واحدا للتأكيد.
2. في أمره بالمشاورة في قوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنه أمره بمشاورتهم في الحرب ليستقر له الرأي الصحيح فيه، قال الحسن: ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم.
ب. الثاني: أنه أمره بمشاورتهم تأليفا لهم وتطييبا لأنفسهم، وهذا قول قتادة، والربيع.
ج. الثالث: أنه أمره بمشاورتهم لما علم فيها من الفضل، ولتتأسى أمته بذلك بعده ، وهذا قول الضحاك.
د. الرابع: أنه أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون ويتبعه فيها المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنيا، وهذا قول سفيان.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/433.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ معناه فبرحمة، وما زائدة بإجماع المفسرين ذهب إليه قتادة، والزجاج، والفراء وجميع أهل التأويل، ومثله قوله: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ فجاءت (ما) مؤكدة للكلام وسبيل دخولها لحسن النظم، كدخولها لا تزان الشعر، وكل ذلك تأكيد ليتمكن المعنى في النفس، فجرى مجرى التكرير، قال الحسن بن علي المغربي عندي أن معنى (ما) أي وتقديره فبأي رحمة من الله، وهذا ضعيف، ورحمة مجرورة بالباء، ولو رفعت كان جائزاً على تقدير فيما هو رحمة، والمعنى ان لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين، لأنك تأتيهم بالحجج والبراهين مع لين خلق.
2. ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ فالفظ الجافي، والغليظ القلب القاسي، يقال فيه فظت تفظ فظاظة، فأنت فظ، وهو على وزن فعل إلا أنه ادغم كضب، وأصل الفظاظة الجفوة، ومنه الفظاظة، ومنه الفظاظ: خشونة الكلام، والافتظاظ: شرب ماء الكرش لجفائه على الطباع.
3. ﴿فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ انما جمع بين الصفتين مع اتفاقهما في المعنى، لإزالة التوهم أن الفظاظة في الكلام دون ما ينطوي عليه القلب من الحال، وهو وجه من وجوه التأكيد إذ يكون لإزالة الغلط في التأويل، ولتمكين المعنى في النفس بالتكرير، وما يقوم مقامه.
4. ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أمر من الله تعالى لنبيه أن يشاور أصحابه يقال شاورت الرجل مشاورة وشواراً وما يكون عن ذلك اسمه المشورة، وبعضهم يقول المشورة، وفلان حسن الشورة، والصورة أي حسن الهيئة واللباس وإنه لشير صير، وحسن الشارة، والشوار: متاع البيت، ومعنى شاورت فلاناً أي أظهرت ما عندي في الرأي، وما عنده، وشرت الدابة أشورها: إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها.
5. في وجه مشاورة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إياهم مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: قال قتادة، والربيع، وابن إسحاق أن ذلك على وجه التطييب لنفوسهم، والتألف لهم، والرفع من أقدارهم إذ كانوا ممن يوثق بقوله: (ويرجع إلى رأيه)
ب. الثاني: قال سفيان بن عيينه: وجه ذلك لتقتدي به أمته في المشاورة ولا يرونها منزلة نقيصة كما مدحوا بأن أمرهم شورى بينهم.
ج. الثالث: قال الحسن، والضحاك: انه للأمرين، لاجلال الصحابة واقتداء الأمة به في ذلك، وأجاز أبو علي الجبائي: أن يستعين برأيهم في بعض أمور الدنيا.
د. وقال قوم: وجه ذلك أن يمتحنهم فيتميز الناصح في مشورته من الغاش النية.
6. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ التوكل على الله هو تفويض الأمر إليه للثقة بحسن تدبيره، وأصله الاتكال، وهو الاكتفاء في فعل ما يحتاج إليه بمن يسند إليه، ومنه الوكالة، لأنها عقد على الكفاية بالنيابة والوكيل هو المتكل عليه بتفويض الأمر إليه.
7. ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ معناه يريد ثوابهم على توكلهم واسنادهم أمورهم إلى الله تعالى.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/31.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. لانَ: يَلينُ لِينًا وليانًا إذا رق له وحسن خلقه، واللين ضد الخشونة، يقال: شيء لَيِّن، وفلان [ذو] مَلْيَنَةٍ أي لين الجانب.
ب. الفَظُّ: الجافي، يقال: فظِظْت تَفَظُّ فظاظة فأنت فَظّ، وهو فَعَل، كجَهَر إلا أنه أدغم كضب، والانفظاظ شرب ماء الكرش لجفائه على الطباع، والفظ: ماء الكرش، وقال بعضهم للرجل الفظ الكريه الخلق، مشتق من فَظُّ الكَرِش؛ لأنه ماء لا يتناول إلا من ضرورة، والفضْ بالضاد تفريق الشيء، وأصله الكسر، وانفض القوم تفرقوا، ومنه: فَضَضْتُ الكتاب، ومنه درع فَضْفَاض.
ج. المشاورة مصدر شاور يشاور مشاورة، يقال: شاورت فلانًا في أمري، وقيل: مأخوذ من قولهم: شُرْتُ العسل أشوره إذا أخذته في موضعه واستخرجته، وقيل: مأخوذ من شُرْتُ الدابة شَورًا إذا عرضتها، والمكان الذي تعرض فيه الدواب مِشْوار، كأنه بالعرض يعلم خيره وشره، وكذلك بالمشاورة تعلم خير الأمور وشرها.
د. العزم عقد القلب على الشيء تريد أن تفعله، وكذلك العزيمة، وهو يرجع إلى الإرادة، وعزمت: قَسَمٌ، قال ابن دريد: عزمت عليك أقسمت عليك.
هـ. التوكل: إظهار العجز والاعتماد على الغير، وأصله الاتكال، وهو الاكتفاء في فعل ما يحتاج إليه بمن أسند إليه، ومنه الوكالة؛ لأنها عقد على الكفاية بالنيابة والوكيل؛ لأنه يوكل إليه الأمر، والوِكال في الدواب أن تسير بِسَيْرِ الأخرى، وهو أن تتأخر أبدًا خلف الدواب.
2. بيّن الله تعالى أن مجاوزة الرسول عنهم عند مخالفتهم ومساهلته إياهم من رحمته حيث جعله لَيِّنَ الجانب حسن الخلق، فقال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ أي برحمة منه، عن قتادة وأكثر المفسرين، ومعناه: بلطفه ﴿لِنْتَ لَهُمْ﴾ أي سهلت لهم وحَسُنَت أخلاقك معهم يعني أصحابه وأتباعه حتى احتملت أذاهم وعفوت عن إجرامهم.
3. ﴿وَلَوْ كُنْتُ﴾ يا محمد ﴿فَظًّا﴾ أي جافيًا سيئ الخلق ﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ يعني قاسي القلب غير ذي رحمة ولا رأفة، وإنما جمع بين الصفتين وإن كان المعنى متفقًا؛ لأن الفظاظة في الكلام والقساوة في القلب، فنفى الخنا عن لسانه والقسوة عن قلبه.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾:
أ. قيل: لتفرقوا عنك.
ب. وقيل: كان ذلك سبب نفورهم عنك وداعية إلى فراقك.
5. في الكتب المتقدمة في صفة النبي : ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح.
6. بين تعالى ما يرفع شأنهم ويفخم أمرهم فقال تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾:
أ. قيل: تجاوز عنهم إن آذوك بمكروه.
ب. وقيل: فاعف عنهم فِرارَهم بأحد.
ج. وقيل: اصفح عنهم تَرْكَهُمْ في أمرك بلزوم المكان.
7. ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ﴾ أي ادع لهم بالمغفرة لأشفعك فيهم، واختلفوا:
أ. قيل: هذا في الَّذِينَ تابوا يوم أحد.
ب. وقيل: عام في جميع التائبين.
ج. وقيل: هو في أصحاب الصغائر؛ لأنه لا يأمره بالاستغفار إلا إذا استغفر غفر لهم.
8. ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أي استخرج رأيهم، واختلف العلماء في فائدة مشاورته معهم مع استغنائه بالوحي:
أ. فقيل: تطييبًا لنفوسهم ورفعًا من أقدارهم إذا كانوا ممن يوثق بقولهم ويرجع إلى رأيهم عن قتادة والربيع وابن إسحاق، وعن النبي : (إن الله لغني عن المشورة ولكن لتأليف القلوب)
ب. وقيل: لتقتدي به أمته فلا يراها منزلة نقص كما مدحوا بأن أمرهم شورى بينهم عن سفيان بن عيينة، وعن الحسن: ما شاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم، وعن سهل بن سعد عن النبي، : (ما شقى أحد بمشاورة، والله ورسوله غني عن المشاورة، ولكن الله أراد أن تكون سنة فشاوروا)
ج. وقيل: هو لمجموع الأمرين لتفخيم شأنهم وفضيلة المشاورة واقتداء الأمة في معنى قول الحسن والضحاك.
د. وقيل: هو في أمور الدنيا، ومكايد الحرب ولقاء العدو، وفي مثل ذلك يجوز أن يستعين برأيهم عن أبي علي.
هـ. وقيل: شاورهم فيما لا وحي فيه، ولا بد أن يحمل على أمور الدنيا لأن الشرائع لا تثبت إلا بوحي يدل عليه قراءة ابن عباس: (وشاورهم في بعض الأمر) وهذا محمول على أنه فسر لا أنه قراءة.
9. اختلف في ﴿هُمْ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾:
أ. قيل: كناية عن الصحابة عند أكثر المفسرين.
ب. وقيل: سادات العرب عن قتادة والربيع ومقاتل.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾:
أ. قيل: عقدت قلبك على الفعل وإمضائه.
ب. وقيل: إذا صح عزمك بتسديدنا إياك فامض لما أمرناك، به.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾:
أ. قيل: أي استعن به فيما تأتي وتذر، وذر رأيك ورأي غيرك.
ب. وقيل: استعن به دون غيره.
ج. وقيل: سله حسن نظره.
د. وقيل: فوض إليه.
12. ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ الَّذِينَ ينقطعون إليه، ويكلون أمورهم إلى لطفه وتدبيره، وقيل لحاتم الأصم: علام ثبت أمرك في التوكل؟ فقال: على أربع خلال: علمت أن رزقي لا يفوتني فلست أشتغل به، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت بغتة، فأنا أبادره، وعلمت أني بعين الله في كل حال، فأنا مستح منه.
13. تدل الآية الكريمة على:
أ. اختصاصه صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكارم الأخلاق وحسن الفعال، وقد قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وسئلت عائشة عن خلقه فقالت: كان خلقه القرآن ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾
ب. أن الواجب التمسك بمحاسن الأخلاق خصوصًا لمنْ يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف.
ج. أن التفرق فعلهم؛ إذ لو كان خلَقَه تعالى لما اختلف ذلك بأحواله صلّى الله عليه وآله وسلّم وذلك يبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.
د. على قولنا في اللطف؛ لأنه نبه أنه لولا رحمته لم يقع اللين ولو لم يقع لما أجابوك، فبين أن الأمور المنفرة تنفى عنه وعن سائر الأنبياء صلوات الله عليهم وذلك يوجب تنزيههم عن الكبائر؛ لأن التنفير فيه أكثر.
هـ. حسن المشاورة في الأمور وقد بينا أن أمور الشرع لا تدخلها المشاورة وإنما تثبت بدليل شرعي فلا بد أن تحمل على أمور الدنيا ومكايد الحرب، وقد روي أنه كان يرجع إليهم في كثير من ذلك.
و. أن لغير النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المشاورة في الأمور؛ لأنه إذا تعبد به هو فغيره أولى.
ز. أن ما طريقه الاجتهاد من أمور الدين عند الاشتباه يجب فيه المشاورة خصوصًا على الحكام والمدفوعين إلى تنفيذ الأحكام.
ح. أن الأحكام قد تتعلق بغالب الظن، فتدل على وجوب الانقطاع إلى الله تعالى والتوكل عليه في الأمور.
14. القراءة الظاهرة ﴿عَزَمْتَ﴾ بفتح التاء يعني إذا عزمت أنت يا محمد، وعن جابر بن يزيد برفع التاء يعني عزمتُ لك،.
15. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾ قيل: صلة، وتقديره: فبرحمة، عن الزجاج ونحوه كقوله: ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ جاءت مؤكدة للكلام، قال الشاعر:
çفَاذهَبي ما إِلَيكِ أَدرَكَني الحِلـ... مُ عَداني عَن ذِكرِكُم أَشغاليé
وقيل: هو ﴿مَا﴾ الاستفهام والمراد به التعجب، تقديره: فبأي رحمة من الله لنت لهم حتى سهلت لهم أخلاقك، وتجاوزت عنهم ما فعلوا يوم أحد.
16. ﴿فَظًّا﴾ نصب لأنه خبر كان.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/435.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الفظ: الغليظ الجافي القاسي القلب، يقال منه: فظظت تفظ فظاظة، وأنت فظ على وزن فعل، إلا أنه أدغم كصب، والفظاظة: خشونة الكلام، والافتظاظ: شرب ماء الكرش لجفائه على الطبائع، فإن أصل الفظاظة: الجفوة، والفظ: ماء الكرش، والفض بالضاد: تفريق الشيء، والانفضاض: التفرق.
ب. شاورت الرجل مشاورة وشوارا، والاسم المشورة، وقيل: المشورة، وفلان حسن الشورة والصورة أي: الهيئة واللباس، وإنه لصير شير، وهو حسن الشارة، ومعنى قولهم، شاورت فلانا: أظهرت في الرأي ما عندي وما عنده، وشرت الدابة أشورها: إذا امتحنتها، فعرفت هيئتها في سيرها، وشرت العسل وأشرته: إذا أخذته من مواضع النحل، وعسل مشور ومشار، قال الشاعر:
çكأن القرنفل والزنجبيل... باتا بفيها أريا مشوراé
وقال عدي بن زيد:
çوغناء يأذن الشيخ له... وحديث مثل ماذي مشارé
ج. العزم: عقد القلب على الشيء، تريد أن تفعله، والعزيمة كذلك، قال ابن دريد: يقال عزمت عليك يعني: أقسمت عليك.
د. التوكل: إظهار العجز، والاعتماد على الغير والتوكل على الله هو تفويض الأمر إليه، والثقة بحسن تدبيره، وأصله الإتكال وهو الاكتفاء في فعل ما يحتاج إليه ممن يستند إليه، ومنه الوكالة، لأنه عقد على الكفاية بالنيابة، والوكيل: هو المتكل عليه بتفويض الأمر إليه.
2. بين سبحانه أن مساهلة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إياهم، ومجاوزته عنهم من رحمته تعالى، حيث جعله لين العطف، حسن الخلق ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾ أي: فبرحمة ﴿مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ معناه: إن لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين، لأنك تأتيهم مع سماحة أخلاقك، وكرم سجيتك، بالحجج والبراهين ﴿وَلَوْ كُنْتُ﴾ يا محمد ﴿فَظًّا﴾ أي: جافيا سئ الخلق، ﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ أي: قاسي الفؤاد، غير ذي رحمة ولا رأفة ﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ أي: لتفرق أصحابك عنك، ونفروا منك.
3. قيل: إنما جمع بين الفظاظة والغلظة، وإن كانتا متقاربتين، لأن الفظاظة في الكلام، فنفى الجفاء عن لسانه، والقسوة عن قلبه.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾:
أ. قيل: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ ما بينك وبينهم ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ﴾ ما بينهم وبيني.
ب. وقيل: معناه فاعف عنهم فرارهم من أحد، واستغفر لهم من ذلك الذنب.
5. ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أي: استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم، واختلفوا في فائدة مشاورته إياهم مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد على أقوال:
أ. أحدها: إن ذلك على وجه التطييب لنفوسهم، والتألف لهم، والرفع من أقدارهم، ليبين أنهم ممن يوثق بأقوالهم، ويرجع إلى آرائهم، عن قتادة والربيع وابن إسحاق.
ب. ثانيها: إن ذلك لتقتدي به أمته في المشاورة، ولم يروها نقيصة، كما مدحوا بأن أمرهم شورى بينهم، عن سفيان بن عيينة.
ج. ثالثها: إن ذلك ليمتحنهم بالمشاورة، ليتميز الناصح من الغاش.
د. رابعها: هو لمجموع الأمرين لتفخيم شأنهم وفضيلة المشاورة واقتداء الأمة في معنى قول الحسن والضحاك.
هـ. خامسها: إن ذلك في أمور الدنيا، ومكائد الحرب، ولقاء العدو، وفي مثل ذلك يجوز أن يستعين بآرائهم، عن أبي علي الجبائي.
6. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ أي: فإذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه، ورووا عن جعفر بن محمد، وعن جابر بن يزيد ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ بالضم، فعلى هذا يكون معناه: فإذا عزمت لك ووفقتك وأرشدتك ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ أي: فاعتمد على الله، وثق به، وفوض أمرك إليه ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ يعني الواثقين به، والمعتمدين عليه، والمنقطعين إليه، الواكلين أمرهم إلى لطفه وتدبيره.
7. في هذه الآية دلالة على اختصاص نبينا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، ومن عجيب أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان أجمع الناس لدواعي الترفع، ثم كان أدناهم إلى التواضع، وذلك أنه كان أوسط الناس نسبا، وأوفرهم حسبا، وأسخاهم وأشجعهم، وأزكاهم وأفصحهم، وهذه كلها من دواعي الترفع، ثم كان من تواضعه أنه كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ويركب الحمار، ويعلف الناضح، ويجيب دعوة المملوك، ويجلس في الأرض، ويأكل على الأرض، وكان يدعو إلى الله من غير زأر، ولا كهر، ولا زجر، ولقد أحسن من مدحه في قوله:
çفما حملت من ناقة فوق ظهرها... أبر، وأوفى ذمة، من محمدé
8. في الآية أيضا ترغيب للمؤمنين في العفو عن المسئ، وحثهم على الاستغفار لمن يذنب منهم، وعلى مشاورة بعضهم بعضا فيما يعرض لهم من الأمور، ونهيهم عن الفظاظة في القول، والغلظة والجفاء في الفعل، ودعائهم إلى التوكل عليه، وتفويض الأمر إليه.
9. وفي الآية الكريمة أيضا دلالة على ما نقوله في اللطف، لأنه سبحانه نبه على أنه لولا رحمته لم يقع اللين والتواضع، ولو لم يكن كذلك، لما أجابوه، فبين أن الأمور المنفرة منفية عنه، وعن سائر الأنبياء، ومن يجري مجراهم في أنه حجة على الخلق، وهذا يوجب تنزيههم أيضا عن الكبائر، لأن التنفير في ذلك أكثر.
10. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾: ما زائدة بإجماع المفسرين، ومثله قوله: عما قليل، جاءت ما مؤكدة للكلام، ودخولها تحسن النظم، كدخولها لاتزان الشعر في نحو قول عنترة:
çيا شاة! ما قنص لمن حلت له... حرمت علي، وليتها لم تحرمé
وقال الفرزدق:
çناديت أنك إن نجوت، فبعدما... يأس، وقد نظرت إليك شعوبé
وذلك ليتمكن المعنى في النفس، فجرى مجرى التكرير.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/869.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ قال الفرّاء وابن قتيبة والزجّاج: (ما) هاهنا صلة، ومثله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾، قال ابن الأنباريّ: دخول (ما) هاهنا يحدث توكيدا، قال النّابغة:
çالمرء يهوى أن يعيش...وطول عيش ما يضرّهé
فأكّد بذكر (ما)
2. فيمن تتعلّق به هذه الرّحمة قولان:
أ. أحدهما: أنها تتعلّق بالنبيّ .
ب. الثاني: بالمؤمنين.
3. قال قتادة: ومعنى ﴿لِنْتَ لَهُمْ﴾ لان جانبك، وحسن خلقك، وكثر احتمالك، قال الزجّاج: والفظّ: الغليظ الجانب، السّيئ الخلق، يقال: فظت تفظّ فظاظة وفظا، والفظّ: ماء الكرش والفرث، وإنما سمّي فظا لغلظ مشربه، فأمّا الغليظ القلب، فقيل: هو القاسي القلب، فيكون ذكر الفظاظة والغلظ ـ وإن كانا بمعنى واحد ـ توكيدا، وقال ابن عباس: الفظّ: في القول، والغليظ القلب: في الفعل.
4. ﴿لَانْفَضُّوا﴾ أي: تفرّقوا، وتقول: فضضت عن الكتاب ختمه: إذا فرّقته عنه.
5. ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ أي: تجاوز عن هفواتهم، وسل الله المغفرة لذنوبهم.
6. ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ معناه: استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم، ويقال: إنه من: شرت العسل، وأنشدوا:
çوقاسمها بالله حقّا لأنتم...ألذّ من السّلوى إذا ما نشورهاé
قال الزجّاج: يقال: شاورت الرجل مشاورة وشورا، وما يكون عن ذلك اسمه المشورة وبعضهم يقول: المشورة، ويقال: فلان حسن الصّورة والشّورة، أي: حسن الهيئة واللباس، ومعنى قولهم: شاورت فلانا، أظهرت ما عنده وما عندي، وشرت الدّابة: إذا امتحنتها، فعرفت هيئتها في سيرها، وشرت العسل: إذا أخذته من مواضع النّحل، وعسل مشار، قال الأعشى:
çكأنّ القرنفل والزّنجبيل...باتا بفيها وأريا مشاراé
والأري: العسل.
7. اختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيّه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي، تامّ التّدبير، على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: ليستنّ به من بعده، وهذا قول الحسن، وسفيان بن عيينة.
ب. الثاني: لتطيب قلوبهم، وهو قول قتادة، والرّبيع، وابن إسحاق، ومقاتل، قال الشّافعيّ: نظير هذا قوله : (البكر تستأمر في نفسها)، إنما أراد استطابة نفسها، فإنها لو كرهت، كان للأب أن يزوّجها، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أمر بذبحه.
ج. الثالث: للإعلام ببركة المشاورة، وهو قول الضّحّاك.
8. من فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره، علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ومنها أنه قد يعزم على أمر، فيبين له الصّواب في قول غيره، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح، قال عليّ عليه السلام: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتّدبير قبل العمل يؤمّنك من النّدم، وقال بعض الحكماء: ما استنبط الصّواب بمثل المشاورة، ولا حصنت النّعم بمثل المواساة، ولا اكتسب البغضاء بمثل الكبر.
9. إنّما أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي، وعمّهم بالذّكر، والمقصود أرباب الفضل والتّجارب منهم، وفي الذي أمر بمشاورتهم فيه قولان، حكاهما القاضي أبو يعلى:
أ. أحدهما: أنه أمر الدّنيا خاصّة.
ب. الثاني: أمر الدّين والدّنيا، وهو أصحّ.
10. قرأ ابن مسعود، وابن عباس (وشاورهم في بعض الأمر)
11. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ قال ابن فارس: العزم: عقد القلب على الشيء ويريد أن يفعله، وقد قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وعكرمة، والجحدريّ: (فإذا عزمت) بضمّ التاء، فأمّا التّوكّل، فقد سبق شرحه، ومعنى الكلام: فإذا عزمت على فعل شيء، فتوكّل على الله، لا على المشاورة.
__________
(1) زاد المسير: 1/340.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما انهزم القوم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتغليط والتشديد، وإنما خاطبهم بالكلام اللين، ثم إنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على عفوه عنهم، وتركه التغليظ عليهم فقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ ومن أنصف علم أن هذا ترتيب حسن في الكلام.
2. لينه صلّى الله عليه وآله وسلّم مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم، قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 215] وقال: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾، وقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4] وقال: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوف رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128] وقال : (لا حلم أحب إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه)، فلما كان صلّى الله عليه وآله وسلّم إمام العالمين، وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقاً.. روي عن بعض الصحابة أنه قال: (لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان، كنا مشركين، فلو جاءنا رسول الله بهذا الدين جملة، وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا، فما كنا ندخل في الإسلام، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الايمان، قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة)، وروي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إنما أنا لكم مثل الوالد فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها)
3. سر الأمر في حسن الخلق أمران: اعتبار حال القائل، واعتبار حال الفاعل:
أ. أما اعتبار حال القائل فلأن جواهر النفوس مختلفة بالماهية، كما قال : (الأرواح جنود مجندة) وقال: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة)، وكما أنها في جانب النقصان تنتهي إلى غاية البلادة والمهانة والنذالة، واستيلاء الشهوة والغضب عليها واستيلاء حب المال واللذات، فكذلك في جانب الكمال قد تنتهي إلى غاية القوة والجلالة:
• أما في القوة النظرية فيكون كما وصفه الله تعالى بقوله: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور: 35] وقوله: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]
• وأما في القوة العملية، فكما وصفه الله بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ كأنها من جنس أرواح الملائكة، فلا تنقاد للشهوة ولا تميل لدواعي الغضب، ولا تتأثر من حب المال والجاه، فإن من تأثر عن شيء كان المتأثر أضعف من المؤثر، فالنفس إذا مالت إلى هذه المحسوسات كانت روحانياتها أضعف من الجسمانيات، وإذا لم تمل إليها ولم تلتفت إليها كانت روحانياتها مستعلية على الجسمانيات، وهذه الخواص نظرية، وكانت نفسه المقدسة في غاية الجلالة والكمال في هذه الخصال.
ب. أما اعتبار حال الفاعل، فقوله : (من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب)، فإنه يعلم أن الحوادث الأرضية مستندة إلى الأسباب الإلهية، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر، فلا جرم إذا فاته مطلوب لم يغضب، وإذا حصل له محبوب لم يأنس به، لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات، فلا ينازع أحداً من هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها، ولا يغضب على أحد بسبب فوت شيء من مطالبها، ومتى كان الإنسان كذلك كان حسن الخلق، طيب العشرة مع الخلق، ولما كان صلوات الله وسلامه عليه أكمل البشر في هذه الصفات الموجبة لحسن الخلق، لا جرم كان أكمل الخلق في حسن الخلق.
4. احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ في مسألة القضاء والقدر بقوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ وجه الاستدلال أنه تعالى بين أن حسن خلقه مع الخلق، إنما كان بسبب رحمة الله تعالى، بينما رحمة الله عند المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ عامة في حق المكلفين، فكل ما فعله مع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من الهداية والدعوة والبيان والإرشاد، فقد فعل مثل ذلك مع إبليس وفرعون وهامان وأبي جهل وأبى لهب، فإذا كان على هذا القول كل ما فعله الله تعالى مع المكلفين في هذا الباب مشتركا فيه بين أصفى الأصفياء، وبين أشقى الأشقياء لم يكن اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفاداً من رحمة الله، فكان على هذا القول تعليل حسن خلق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم برحمة الله باطلا، ولما كان هذا باطلا علمنا أن جميع أفعال العباد بقضاء الله وبقدره، والمعتزلة ـ ومن وافقهم ـ يحملون هذا على زيادة الألطاف وهذا في غاية البعد، لأن كل ما كان ممكناً من الألطاف، فقد فعله في حق المكلفين، والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف، فذاك في الحقيقة إنما اكتسبه من نفسه لا من الله، لأنه متى فعل الطاعة استحق ذلك المزيد من اللطف، ووجب إيصاله اليه، ومتى لم يفعل امتنع إيصاله، فكان ذلك للعبد من نفسه لا من الله.
5. اختلف في (ما) في قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾:
أ. ذهب الأكثرون إلى أن (ما) في قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ صلة زائدة ومثله في القرآن كثير، كقوله: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ و﴿جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ﴾ [ص: 11]، ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ [النساء: 155، المائدة: 13]، ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ﴾ [نوح: 25] قالوا: والعرب قد تزيد في الكلام للتأكيد على ما يستغنى عنه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ﴾ [يوسف: 96] أراد فلما جاء، فأكد بأن.
ب. وقال المحققون: دخول اللفظ المهمل الضائع في كلام أحكم الحاكمين غير جائر، وهاهنا يجوز أن تكون (ما) استفهاما للتعجب تقديره: فبأي رحمة من الله لنت لهم، وذلك لأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم إنه ما أظهر ألبتة، تغليظا في القول، ولا خشونة في الكلام علموا أن هذا لا يتأتى الا بتأييد رباني وتسديد إلهي، فكان ذلك موضع التعجب من كمال ذلك التأييد والتسديد، فقيل: فبأي رحمة من الله لنت لهم، وهذا هو الأصوب عندي.
6. هذه الآية دلت على أن رحمة الله هي المؤثرة في صيرورة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم رحيماً بالأمة، فإذا تأملت حقيقة هذه الآية عرفت دلالتها على أنه لا رحمة إلا لله سبحانه، والذي يقرر ذلك وجوه:
أ. أحدها: أنه لولا أن الله ألقى في قلب عبده داعية الخير والرحمة واللطف لم يفعل شيئاً من ذلك، وإذا ألقى في قلبه هذه الداعية فعل هذه الأفعال لا محالة، وعلى هذا التقدير فلا رحمة إلا لله.
ب. ثانيها: أن كل رحيم سوى الله تعالى فإنه يستفيد برحمته عوضا، إما هربا من العقاب، أو طلبا للثواب، أو طلبا للذكر الجميل، فإذا فرضنا صورة خالية عن هذه الأمور كان السبب هو الرقة الجنسية، فإن من رأى حيوانا في الألم رق قلبه، وتألم بسبب مشاهدته إياه في الألم، فيخلصه عن ذلك الألم دفعا لتلك الرقة عن قلبه، فلو لم يوجد شيء من هذه الأعراض لم يرحم ألبتة، أما الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يرحم لا لغرض من الأغراض، فلا رحمة إلا لله.
ج. ثالثها: أن كل من رحم غيره فإنه إنما يرحمه بأن يعطيه مالا، أو يبعد عنه سببا من أسباب المكروه والبلاء، إلا أن المرحوم لا ينتفع بذلك المال معه سلامة الأعضاء، وهي ليس إلا من الله تعالى، فلا رحمة في الحقيقة إلا لله، وأما في الظاهر فكل من أعانه الله على الرحمة سمي رحيما، قال : (الراحمون يرحمهم الرحمن)، وقال في صفة محمد : ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوف رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
7. كمال رحمة الله في حق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه عرفه مفاسد الفظاظة والغلظة، قال الواحدي: الفظ، الغليظ الجانب السيء الخلق، يقال: فظظت تفظ فظاظة فأنت فظ، وأصله فظظ، كقوله: حذر من حذرت، وفرق من فرقت، إلا أن ما كان من المضاعف على هذا الوزن يدغم نحن رجل صب، وأصله صبب، وأما (الفض) بالضاد فهو تفريق الشيء، وانفض القوم تفرقوا، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: 11] ومنه: فضضت الكتاب، ومنه يقال: لا يفضض الله فاك.
8. سؤال وإشكال: ما الفرق بين الفظ وبين غليظ القلب؟ والجواب: الفظ الذي يكون سيء الخلق، وغليظ القلب هو الذي لا يتأثر قلبه عن شيء، فقد لا يكون الإنسان سيء الخلق ولا يؤذي أحدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم، فظهر الفرق من هذا الوجه.
9. المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم اليه وسكنت نفوسهم لديه، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيما كريما، يتجاوز عن ذنبهم، ويعفو عن إساءتهم، ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق، وكما يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب، بل يكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء، كثير القيام بإعانة الفقراء، كثير التجاوز عن سيئاتهم، كثير الصفح عن زلاتهم، فلهذا المعنى قال: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة، وحمل القفال هذه الآية على واقعة أحد قال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ وشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لا نفضوا من حولك، هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام، فكان ذلك مما لا يطمع العدو فيك وفيهم.
10. اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله، فأما إذا أدى إلى ذلك لم يجز، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 73] وقال للمؤمنين في إقامة حد الزنا: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ﴾ [النور: 2]، وهاهنا دقيقة أخرى: وهي أنه تعالى منعه من الغلظة في هذه الآية، وأمره بالغلظة في قوله: ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ فههنا نهاه عن الغلظة على المؤمنين، وهناك أمره بالغلظة مع الكافرين، فهو كقوله: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 54] وقوله: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29] وتحقيق القول فيه أن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان، والفضيلة في الوسط، فورود الأمر بالتغليظ تارة، وأخرى بالنهي عنه، إنما كان لأجل أن يتباعد عن الإفراط والتفريط، فيبقى على الوسط الذي هو الصراط المستقيم، فلهذا السر مدح الله الوسط فقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143]
11. ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أمره الله تعالى في هذه الآية بثلاثة أشياء: أولها: بالعفو عنهم، وكمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى، قال : (تخلقوا بأخلاق الله)، ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضاً أن يعفو عنهم ليحصل للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فضيلة التخلق بأخلاق الله، قال الزمخشري: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ فيما يتعلق بحقك ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ﴾ فيما يتعلق بحق الله تعالى.
12. ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ ظاهر الأمر للوجوب، والفاء في قوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ يدل على التعقيب، فهذا يدل على أنه تعالى أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال، وهذا يدل على كمال الرحمة الإلهية حيث عفا هو عنهم، ثم أوجب على رسوله أن يعفو في الحال عنهم.
13. في قوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ إيجاب للعفو على الرسول ، ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم، بل ندبهم إليه فقال تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 134] ليعلم أن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
14. ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ﴾ في هذه الآية دلالة قوية على أنه تعالى يعفو عن أصحاب الكبائر، وذلك لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ إلى قوله: ﴿فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ [الأنفال: 16] فثبت أن انهزام أهل أحد كان من الكبائر، ثم إنه تعالى نص في الآية المتقدمة على أنه عفا عنهم وأمر رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه الآية بالعفو عنهم، ثم أمره بالاستغفار لهم، وذلك من أدل الدلائل على ما ذكرنا.
15. ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ﴾ أمر له بالاستغفار لأصحاب الكبائر، وإذا أمره بطلب المغفرة لا يجوز أن لا يجيبه إليه، لأن ذلك لا يليق بالكريم، فدلت هذه الآية على أنه تعالى يشفع محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم في الدنيا في حق أصحاب الكبائر، فبأن يشفعه في حقهم في القيامة كان أولى.
16. عفا الله تعالى عنهم أولا بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾ [آل عمران: 155]، ثم أمر محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه الآية بالاستغفار لهم ولأجلهم، كأنه قيل له: يا محمد استغفر لهم فإني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم، واعف عنهم فإني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم، وهذا يدل على كمال رحمة الله لهذه الأمة.
17. ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ يقال: شاورهم مشاورة وشواراً ومشورة، والقوم شورى، وهي مصدر سمي القوم بها كقوله: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ [الإسراء: 47] قيل: المشاورة مأخوذة من قولهم: شرت العسل أشوره إذا أخذته من موضعه واستخرجته، وقيل مأخوذة من قولهم: شرت الدابة شوراً إذا عرضتها، والمكان الذي يعرض فيه الدواب يسمى مشواراً، كأنه بالعرض يعلم خيره وشره، فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها.
18. الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه:
أ. الأول: أن مشاورة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إياهم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم، وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته، ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة.
ب. الثاني: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن كان أكمل الناس عقلا إلا أن علوم الخلق متناهية، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله، لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا فإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم)، ولهذا السبب قال : (ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم)
ج. الثالث: قال الحسن وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته.
د. الرابع: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم شاورهم في واقعة أحد فأشاروا عليه بالخروج، وكان ميله إلى أن يخرج، فلما خرج وقع ما وقع، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر، فأمره الله تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة.
هـ. الخامس: وشاورهم في الأمر، لا لتستفيد منهم رأياً وعلما، لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول فبين لهم على قدر منازلهم.
و. السادس: وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج إليهم، ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله، وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد.
ز. السابع: لما أمر الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بمشاورتهم ذل ذلك على أن لهم عند الله قدراً وقيمة، فهذا يفيد أن لهم قدرا عند الله وقدرا عند الرسول وقدرا عند الخلق.
ح. الثامن: الملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده، فهؤلاء لما أذنبوا عفا الله عنهم، فربما خطر ببالهم أن الله تعالى وإن عفا عنا بفضله إلا أنه ما بقيت لنا تلك الدرجة العظيمة، فبين الله تعالى أن تلك الدرجة ما انتقصت بعد التوبة، بل أنا أزيد فيها، وذلك أن قبل هذه الواقعة ما أمرت رسولي بمشاورتكم، وبعد هذه الواقعة أمرته بمشاورتكم، لتعلموا أنكم الآن أعظم حالا مما كنتم قبل ذلك، والسبب فيه أنكم قبل هذه الواقعة كنتم تعولون على أعمالكم وطاعتكم، والآن تعولون على فضلي وعفوي، فيجب أن تصير درجتكم ومنزلتكم الآن أعظم مما كان قبل ذلك، لتعلموا أن عفوي أعظم من عملكم وكرمي أكثر من طاعتكم، والوجوه الثلاثة الأول مذكورة، والبقية مما خطر ببالي عند هذا الموضع والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
19. اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس، فأما ما لا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أم لا؟
أ. قال الكلبي وكثير من العلماء: هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب وحجته أن الألف واللام في لفظ (الأمر) ليسا للاستغراق، لما بين أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه، فوجب حمل الألف واللام هاهنا على المعهود السابق، والمعهود السابق في هذه الآية إنما هو ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو، فكان قوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ مختصا بذلك، ثم قال القائلون بهذا القول: قد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنزول على الماء فقبل منه، فأشار عليه السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا، فقبل منهما وخرق الصحيفة.
ب. ومنهم من قال: اللفظ عام خص عنه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي.
ج. والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2] وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم سيد أولي الأبصار، ومدح المستنبطين فقال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83] وكان أكثر الناس عقلا وذكاء، وهذا يدل على أنه كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأمورا بالمشاورة، وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان من أمور الدين، والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم، ثم إن إبليس خص نفسه بالقياس وهو قوله: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12] فصار ملعونا، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استحق اللعن بهذا السبب.
20. ظاهر الأمر للوجوب فقوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ﴾ يقتضي الوجوب، وحمل الشافعي ذلك على الندب فقال: هذا كقوله : (البكر تستأمر في نفسها)، ولو أكرهها الأب على النكاح جاز، لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا هاهنا.
21. روى الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال: الذي أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر، وعندي فيه إشكال، لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون، فهب أن عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية، إلا أن أبا بكر ما كان منهم فكيف يدخل تحت هذه الآية.
22. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ المعنى أنه إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته، والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله في جميع الأمور.
23. دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه، كما يقوله بعض الجهال، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل، بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعول بقلبه عليها، بل يعول على عصمة الحق.
24. حكي عن جابر بن زيد أنه قرأ ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ بضم التاء، كأن الله تعالى قال للرسول إذا عزمت أنا فتوكل، وهذا ضعيف من وجهين:
أ. الأول: وصف الله بالعزم غير جائز، ويمكن أن يقال: هذا العزم بمعنى الإيجاب والإلزام، والمعنى وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه، فتوكل علي، ولا تشاور بعد ذلك أحدا.
ب. الثاني: أن القراءة التي لم يقرأ بها أحد من الصحابة لا يجوز إلحاقها بالقرآن.
25. ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ والغرض منه ترغيب المكلفين في الرجوع إلى الله تعالى والإعراض عن كل ما سوى الله.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/406.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَبِمَا﴾ صلة فيها معنى التأكيد، أي فبرحمة، كقوله: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ [المؤمنون]، ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ [النساء]، ﴿جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ﴾ [ص]، وليست بزائدة على الإطلاق، وإنما أطلق عليها سيبويه معنى الزيادة من حيث زال عملها، وقال ابن كيسان: ﴿فَبِمَا﴾ نكرة في موضع جر بالباء، ﴿وَرَحْمَةً﴾ بدل منها، ومعنى الآية: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه، وقيل: ﴿فَبِمَا﴾ استفهام، والمعنى: فبأي رحمة من الله لنت لهم، فهو تعجيب، وفيه بعد، لأنه لو كان كذلك لكان ﴿فَبِمَ﴾ بغير ألف.
2. ﴿لِنْتَ﴾ من لان يلين لينا وليانا بالفتح، والفظ الغليظ الجافي، فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ، والأنثى فظة والجمع أفظاظ، وفي صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق وأنشد المفضل في المذكر:
çوليس بفظ في الأداني والأولى...يؤمون جدواه ولكنه سهل
وفظ على أعدائه يحذرونه...فسطوته حتف ونائله جزلé
وقال آخر في المؤنث:
çأموت من الضر في منزلي...وغيري يموت من الكظه
ودنيا تجود على الجاهلي...ن وهي على ذي النهى فظهé
3. غلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر:
çيبكى علينا ولا نبكي على أحد؟...لنحن أغلظ أكبادا من الإبلé
4. معنى ﴿لَانْفَضُّوا﴾ لتفرقوا، فضضتهم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا، ومن ذلك قول أبي النجم يصف إبلا:
çمستعجلات القيض غير جرد...ينفض عنهن الحصى بالصمدé
وأصل الفض الكسر، ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك، والمعنى: يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم.
5. ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ قال العلماء: أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة، فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور.
6. ﴿وَشَاوِرْهُمْ﴾ قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره، ويقال للموضع الذي تركض فيه: مشوار، وقد يكون من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه، قال عدي بن زيد:
çفي سماع يأذن الشيخ له...وحديث مثل ماذي مشارé
7. مما قيل فيه الشورى:
أ. قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى]، قال أعرابي: ما غبنت قط حتى يغبن قومي، قيل: وكيف ذلك؟ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم.
ب. وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، وجوه والناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها، وكان يقال: ما ندم من استشار، وكان يقال: من أعجب برأيه ضل.
8. قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ يدل على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع إمكان الوحي، فإن الله أذن لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك، واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يشاور فيه أصحابه:
أ. فقالت طائفة: ذلك في مكايد الحروب، وعند لقاء العدو، وتطييبا لنفوسهم، ورفعا لأقدارهم، وتألفا على دينهم، وإن كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه، روي هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي، قال الشافعي: هو كقوله (والبكر تستأمر) تطيبا لقلبها، لا أنه واجب.
ب. وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم، فأمر الله تعالى، نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يشاورهم في الأمر، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم، فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم.
ج. وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحي، روي ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا: ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته من بعده، وفي قراءة ابن عباس: وشاورهم في بعض الأمر، ولقد أحسن القائل:
çشاور صديقك في الخفي المشكل...واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذاك نبيه...في قوله: شاورهم و﴿فَتَوَكَّلْ﴾é
9. جاء في مصنف أبي داوود عن أبي هريرة قال قال رسول الله : (المستشار مؤتمن)، قال العلماء: وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالما دينا، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل، قال الحسن: ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله، فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه، قاله الخطابي وغيره.
10. صفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير، قال: (شاور صديقك في الخفي المشكل)، وقد تقدم، وقال آخر:
çوإن باب أمر عليك التوى...فشاور لبيبا ولا تعصهé
في أبيات، والشورى بركة، وقال : (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار)، وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله : (ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي)، وقال بعضهم: شاور من جرب الأمور، فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا وأنت تأخذه مجانا.. قال البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، وقال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة، ومن يخشى الله تعالى، وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم، وروي عن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله : (ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم)(2)
11. الشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب، وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية.
12. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ قال قتادة: أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم، والعزم هو الأمر المروى المنقح، وليس ركوب الرأي دون روية عزما، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب، كما قال:
çإذا هم ألقى بين عينيه عزمه...ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه...ولم يرض إلا قائم السيف صاحباé
وقال النقاش: العزم والحزم واحد، والحاء مبدلة من العين، قال ابن عطية: وهذا خطأ، فالحزم جودة النظر في الأمر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه، والعزم قصد الإمضاء، والله تعالى يقول: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ﴾، فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم، والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم، وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ بضم التاء، نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه، كما قال: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ [الأنفال]، ومعنى الكلام أي عزمت لك ووفقتك وأرشدتك ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾، والباقون بفتح التاء، قال المهلب: وامتثل هذا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أمر ربه فقال: (لا ينبغي لنبي يلبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله)، أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف، لأنه نقض للتوكل الذي شرطه الله تعالى مع العزيمة، فلبسه لأمته صلّى الله عليه وآله وسلّم حين أشار عليه بالخروج يوم أحد من أكرمه الله بالشهادة فيه، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا، دال على العزيمة، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم أشار بالقعود، وكذلك عبد الله بن أبي أشار بذلك وقال: أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن جاءونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية وأفواه السكك، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام، فو الله ما حاربنا قط عدو في هذه المدينة إلا غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا، وأبى هذا الرأي من ذكرنا، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الجمعة، ودخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه، فندم أولئك القوم وقالوا: أكرهنا رسول الله ، فلما خرج عليهم في سلاحه قالوا: يا رسول الله، أقم إن شئت فإنا لا نريد أن نكرهك، فقال النبي : (لا ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل)
13. ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ التوكل: الاعتماد على الله مع إظهار العجز، والاسم التكلان، يقال منه: اتكلت عليه في أمري، وأصله: (اوتكلت) قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبد لت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال، ويقال: وكلته بأمري توكيلا، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها.
14. اختلف العلماء في التوكل:
أ. فقالت طائفة من المتصوفة: لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى.
ب. وقال عامة الفقهاء: ما تقدم ذكره عند قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران]، وهو الصحيح كما بيناه، وقد خاف موسى وهارون بإخبار الله تعالى عنهما في قوله ﴿لَا تَخَافَا﴾، وقال: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ﴾ [طه]، وأخبر عن إبراهيم بقوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ﴾ [هود]، فإذا كان الخليل وموسى والكليم قد خافا وحسبك بهما ـ فغيرهما أولى.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/249.
(2) لا نرى صحة هذا لمعارضته الواضحة للقرآن الكريم
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ مزيدة للتأكيد، قال سيبويه وغيره؛ وقال ابن كيسان: إنها نكرة في موضع جرّ بالباء، ورحمة: بدل منها، والأوّل أولى بقواعد العربية، ومثله قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ والجار والمجرور متعلق بقوله: ﴿لِنْتَ لَهُمْ﴾ وقدّم عليه لإفادة القصر، وتنوين رحمة للتعظيم؛ والمعنى: أنّ لينه لهم ما كان إلا بسبب الرحمة العظيمة منه؛ وقيل: إن: ما، استفهامية، والمعنى: فبأيّ رحمة من الله لنت لهم؟ وفيه معنى التعجيب وهو بعيد، ولو كان كذلك لحذف الألف من ما؛ وقيل: فبم رحمة من الله.
2. الفظّ: الغليظ الجافي، وقال الراغب: الفظّ هو الكريه الخلق، وأصله: فظظ، كحذر، وغلظ القلب: قساوته، وقلة إشفاقه، وعدم انفعاله للخير، والانفضاض: التفرّق، يقال: فضضتهم فانفضوا، أي: فرّقتهم فتفرّقوا، والمعنى: لو كنت فظا غليظ القلب لا ترفق بهم لتفرّقوا من حولك، هيبة لك، واحتشاما منك، بسبب ما كان من توليهم.
3. وإذا كان الأمر كما ذكر ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ فيما يتعلق بك من الحقوق ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ﴾ الله سبحانه فيما هو إلى الله سبحانه، ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أي: الذي يرد عليك، أيّ أمر كان مما يشاور في مثله، أو في أمر الحرب خاصة، كما يفيده السياق، لما في ذلك من تطييب خواطرهم واستجلاب مودّتهم، ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك، حتى لا يأنف منه أحد بعدك، والمراد هنا: المشاورة في غير الأمور التي يرد الشرع بها، قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشورتها: إذا علمت خبرها؛ وقيل: من قولهم: شرت العسل: إذا أخذته من موضعه، قال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا، ومشاورة وجوه الجيش، فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها، وحكى القرطبي عن ابن عطية: أنه لا خلاف في وجوب عزل من لا يستشير أهل العلم والدين.
4. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ أي: إذا عزمت عقب المشاورة على شيء، واطمأنت به نفسك، فتوكل على الله في فعل ذلك، أي: اعتمد عليه وفوّض إليه؛ وقيل: إن المعنى: فإذا عزمت على أمر أن تمضي فيه، فتوكل على الله لا على المشاورة، والعزم في الأصل: قصد الإمضاء أي: فإذا قصدت إمضاء أمر فتوكل على الله، وقرأ جعفر الصادق، وجابر بن زيد: (فإذا عزمتُ): بضم التاء، بنسبة العزم إلى الله تعالى، أي: فإذا عزمت لك على شيء، وأرشدتك إليه، فتوكل على الله،
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/452.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ﴾ (مَا) صلة للتأكيد، وكذا: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم﴾ [سورة النساء: 155]، و﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ [سورة المؤمنون: 40]، و﴿جُندٌ مَّا هُنَالِكَ﴾ [سورة ص: 11]، و﴿مِنْ خَطَايَاهُم﴾ [سورة العنكبوت: 12]، و﴿مِّمَّا خَطِيئَاتِهِم﴾ [سورة نوح: 25]، أو بمعنى شيء، أو خصلة فتُبدل منها (رَحْمَةٍ)، أَبْهَمَ ثمَّ بيَّن، وقدِّم ـ للحصر ـ على متعلَّقه، وهو قوله: ﴿لِنتَ لَهُمْ﴾ سهلت بتحمُّل أذاهم ومخالفتهم إيَّاك يوم أُحد، إذ تركوا المركز الذي تركه أدَّى إلى قتل مسلمين كثيرين، وإفراح العدوِّ بالقتل والأسر، ولم تعنِّفهم، ولم تحقد عليهم بذلك، مع عظم موقعه في الدِّين، ومع مقتضى جبلَّة البشر من الحقد والعقاب، وسكنوا إليك لذلك، وهو ضدُّ أخلاق الفظِّ الغليظ، كما قال الله جلَّ وعلا:
2. ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا﴾ سيِّئَ الخُلُق، ﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ قاسيَهُ، ففظظت وأغلظت عليهم، وقيل: فظُّ القول غليظ القلب في الفعل، وقيل: الفظُّ في القول والفعل ظاهرا، وغلظ القلب سوء الباطن، وجاء الخبر: (إنَّ أبعد القلوب عن الله القلوب القاسية)، ﴿لَانفَضُّواْ﴾ تفرَّقوا، ﴿مِنْ حَوْلِكَ﴾ والله يأمر باللّين للسلامة معه من الظلم، ولجلب الناس إلى دين الله، ولإبقائهم عليه، ولو لم يلن لهم لتفرَّقوا عنه إلى أحوال أنفسهم، أو إلى العدوِّ فيطمع العدوُّ فيه وفيهم لو لم يلن، وإذا أفضى اللّين إلى إهمال حقٍّ من حقوق الله أو إلى جسارة العدوِّ فهو حرام، كما قال الله تعالى: ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [سورة التوبة: 73]، وقال: ﴿فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾ [سورة الأنفال: 57]، وقال: ﴿وَلَا تَاخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ﴾ [سورة النور: 2]، وقال: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ [سورة الفتح: 29]
3. ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ فيما فعلوه، من ترك المركز ومن انهزامهم، وإلحاحهم قبل ذلك في الخروج إلى أُحد، وغير ذلك مِمَّا هو من حقوقك، ﴿واسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ فيما لك وفيما لله، ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الَامْرِ﴾ الحرب وغيرها من أمور الدنيا والدِّين، إِلَّا أنَّ المشاورة فيه إنَّما هي في طريق إمضائه بأيِّ وجه، وأمَّا ما أمضاه فواجب لا مشاورة فيه.
4. حكمة المشاورة: الاستعانة برأيهم، وترك رأيه إلى رأيهم إذا ظهر له الصلاح في الترك، وظهور نصح من ينصحه، ومعرفة مقادير عقولهم وأفهامهم، وتطييب نفوسهم وجلبهم، وإذهاب أضغانهم، وأنَّه يشقُّ على سادات العرب أن لا يشاوروا، وأن تقتدي الأمَّة به في الشورى، فيظفروا بالرأي الصالح.. أخرج الطبريُّ عن قتادة: (إنَّ الله تعالى أمر نبيئه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه الوحي من السماء؛ لأنَّه أطيب لنفوس القوم، وليكون سنَّة لأمَّته بعده، ولا يشاورهم فيما أوحي إليه إِلَّا على بيان طريق إنفاذه)، وروى ابن عديٍّ والبيهقيُّ أنَّه قال صلّى الله عليه وآله وسلّم لَمَّا نزلت الآية: (أما إنَّ الله ورسوله لَغنيَّان عن الشورى، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمَّتي)، وفي البخاري: قرأ ابن عبَّاس: (وشاورهم في بعض الأمر) وليست الآية في أن يشاورهم مطلقًا أو كلَّهم، بل من يتأهَّل لها بالتدبير، روى الحاكم والبيهقيُّ عن ابن عبَّاس أنَّها نزلت في أبي بكر وعمر، أي: ويحكم لمثلهما بحكمهما، و(ال) في (الَامْرِ) للحقيقة لا للاستغراق ولا للعهد.
5. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ ثبتتَّ على العزم بأن كان الأمر دينيًّا لا يحتاج إلى تفكُّر يؤدِّي إلى إمضائه، أو جزم الله طريقه، أو دنيويًّا وعيَّنَه، أو غير ذلك، وقد عزمت فيه بعد الشورى على رأيك أو رأيهم.
6. ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ اِعتقدْ أنَّ النافع الضارَّ هو الله، ولا تأثير لغيره من أحد أو رأي، والتوكُّل لا ينافي الكسب والمشاورة، فإنَّ الإنسان يراعي الأسباب، ولا يعوِّل عليها، بل على قضاء الله تعالى ، وليس التوكُّل إهمال النفس عن الأسباب فيما يحتاج إلى الأسباب، وذلك نصُّ الآية إذ جمعت بين المشاورة ـ وهي استخراج الرأي كاستخراج العسل ـ وبين التوكُّل، وأقوى التوكُّل أن لا تطلب لنفسك ناصرا غير الله، ولا لرزقك خازنا غيره، ولا لعملك مشاهدا غيره، وإذا لم يحتج أمر إلى كسب فالتوكُّل فيه مجرَّد عن الكسب، أو كان مِمَّا لا يضرُّ فيه ترك الكسب جاز ترك الكسب فيه، ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ﴾ ينصر وينفع ويهدي، ﴿الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ عليه جلَّ وعلا.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/42.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يتعلق بمعاملتهم يقول تعالى لنبيه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ قال محمد عبده ما مثاله مع زيادة وإيضاح: الفاء للتعقيب لأن الكلام في واقعة خالف النبي فيها بعض أصحابه فكان لذلك من الفشل وظهور المشركين ما كان، حتى أصيب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع من أصيب فكان من لينه في معاملتهم ومخاطبتهم ومن رحمته بهم أن صبر وتجلد فلم يتشدد في عتب ولا توبيخ اهتداء بكتاب الله تعالى، فقد أنزل الله عليه آيات كثيرة في الواقعة بين فيها ما كان من ضعف في المسلمين وعصيان وتقصير حتى ما كان متعلقا بالظنون الفكرية والهموم النفسية ولكن مع العتب اللطيف المقرون يذكر العفو والوعد بالنصر وإعلاء الكلمة وفوائد المصائب وقد كان خُلقه صلّى الله عليه وآله وسلّم القرآن كما ورد في الصحيح من حديث عائشة.
2. كأنه يقول إنه كان من أصحابك يا محمد ما كان، كما دلت عليه الآيات وهو مما يؤاخذون عليه فلنت لهم وعاملتهم بالحسنة، وإنما لنت لهم بسبب رحمة عظيمة أنزلها الله على قلبك وخصك بها فعمت الناس فوائدها وجعل القرآن ممدا لها بما هداك إليه من الآداب العالية والحكم السامية التي هونت عليك المصائب وعلمتك منافعها وحكمها وحسن عواقبها للمعتبر بها: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ لأن الفظاظة وهي الشراسة، والخشونة في المعاشرة وهي القسوة والغلظة وهما من الأخلاق المنفرة للناس لا يصبرون على معاشرة صاحبهما وإن كثرت فضائله ورجيت فواضله بل يتفرقون، ويذهبون من حوله ويتركونه وشأنه لا يبالون ما يفوتهم من منافع الإقبال عليه، والتحلق حواليه، وإذا لفاتتهم هدايتك، ولم تبلغ قلوبهم دعوتك.
3. ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ فلا تؤاخذهم على ما فرطوا واسأل الله تعالى أن يغفر لهم ولا يؤاخذهم أيضا، فبذلك تكون محافظا على تلك الرحمة التي خصك الله بها ومداومة لتلك السيرة الحسنة، التي هداك الله إليها.
4. ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم، والخوف والأمن؛ وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية، أي دم على المشاورة وواظب عليها، كما فعلت قبل الحرب في هذه الواقعة (غزوة أحد) وإن اخطؤوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل دون العمل برأي الرئيس وإن كان صوابا، لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم (المشاورة) فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر، قال محمد عبده: ليس من السهل أن يشاور الإنسان ولا أن يشير، وإذا كان المستشارون كثارا كثر النزاع وتشعب الرأي، ولهذه الصعوبة والوعورة أمر الله تعالى نبيه أن يقرر سنة المشاورة في هذه الأمة بالعمل فكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يستشير أصحابه بغاية اللطف ويصغي إلى كل قوله ويرجع عن رأيه إلى رأيهم، وليس عندي عن الأستاذ في هذه المسألة غير هذا.
5. الأمر المعرّف هنا هو أمر المسلمين المضاف إليهم في القاعدة الأولى التي وضعت للحكومة الإسلامية في سورة الشورى المكية وهي قوله تعالى في بيان ما يجب أن يكون عليه أهل هذا الدين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38] فالمراد بالأمر أمر الأمة الدنيوي الذي يقوم به الحكام عادة، لا أمر الدين المحض الذي مداره على الوحي دون الرأي، إذ لو كانت المسائل الدينية كالعقائد والعبادات والحلال والحرام مما يقرر بالمشاورة لكان الدين من وضع البشر، وإنما هو وضع إلهي ليس لأحد فيه رأي لا في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا بعده، وقد روي أن الصحابة كانوا لا يعرضون رأيهم مع قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في مسائل الدنيا إلا بعد العلم بأنه قاله عن رأي لا عن وحي(2)، كما فعلوا يوم بدر إذ جاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أدنى ماء من بدر فنزل عنده، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله ليس هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه الخ ما قال فقال له النبي ) لقد أشرت بالرأي) وعمل برأيه.
6. أقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا الركن (الشورى) في زمنه بحسب مقتضى الحال من حيث قلة المسلمين واجتماعهم معه في مسجد واحد في زمن وجوب الهجرة التي انتهت بفتح مكة فكان يستشير السواد الأعظم منهم وهم الذين يكونون معه ويخص أهل الرأي والمكانة من الراسخين بالأمور التي يضر إفشاؤها فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش من مكة للحرب؛ فلم يبرم الأمر حتى صرح المهاجرون ثم الأنصار بالموافقة، واستشارهم جميعا يوم أحد أيضا كما تقدم، وهكذا كان يستشيرهم في كل أمر من أمور الأمة إلا ما ينزل عليه الوحي ببيانه فينفذه حتما، ولما كثر المسلمون وامتد حكم الإسلام بعد الفتح إلى الأماكن البعيدة عن المدينة، وكان في كل قبيلة أو قرية من أولئك المسلمين رجال أهل المكانة والرأي يمكن أن يقال إنه قد احتيج إلى وضع قاعدة أو نظام للشورى يبين فيه طرق اشتراك أولئك البعداء من مكان السلطة العليا فيها.
7. لكن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يضع هذه القاعدة أو النظام لحكم وأسباب:
أ. ومنها: أن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان وكانت تلك المدة القليلة التي عاشها صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد فتح مكة مبدأ دخول الناس في دين الله أفواجا وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلم أن هذا الأمر سينمو ويزيد، وأن الله سيفتح لأمته الممالك ويخضع لها الأمم وقد بشرها بذلك، فكل هذا كان مانعا من وضع قاعدة للشورى تصلح للأمة الإسلامية في عام الفتح وما بعد من حياة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي العصر الذي يتلو عصره إذ تفتح الممالك الواسعة وتدخل الشعوب التي سبقت لها المدنية في الإسلام أو في سلطان الإسلام؛ إذ لا يمكن أن تكون القواعد الموافقة لذلك الزمن صالحة لكل زمن والمنطبقة على حال العرب في سذاجتهم منطبقة على حالهم بعد ذلك وعلى حال غيرهم، فكان الأحكم أن يترك صلّى الله عليه وآله وسلّم وضع قواعد الشورى للأمة تضع منها في كل حال ما يليق بها بالشورى.
ب. ومنها: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لو وضع قواعد موقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمن لاتخذها المسلمون دينا وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان، وما هي من أمر الدين.. وإذا تأمل المنصف المسألة حق التأمل وكان ممن يعرف حقيقة شعور طبقات المؤمنين من العامة والخاصة في مثل ذلك يتجلى له أنه يصعب على أكثر الناس أن يرضوا بتغيير شيء وضعه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للأمة وإن أجاز لها تغييره بل يقولون: إنه أجاز ذلك لنا تواضعا منه وتهذيبا لنا حتى لا يصعب علينا الرجوع عن آرائنا، ورأيه هو الرأي الأعلى في كل حال، وقريب مما نحن فيه تقديم الإمام أحمد العمل بالحديث الضعيف والمرسل على القياس وتعليله بما علله به.
ج. ومنها: أنه لو وضع تلك القواعد من عند نفسه صلّى الله عليه وآله وسلّم لكان غير عامل بالشورى وذلك محال في حقه لأنه معصوم من مخالفة أمر الله؛ ولو وضعها بمشاورة من معه من المسلمين لقرر فيها رأي الأكثرين منهم كما فعل في الخروج إلى أحد، وقد تقدم أن رأي الأكثرين كان خطأ ومخالفا لرأيه صلّى الله عليه وآله وسلّم فهل يرضى صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يحكم أمثال أولئك القوم ومن دونهم، كأكثر من دخل في الإسلام بعد الفتح في أصول الحكومة الإسلامية وقواعدها؟ أليس تركها للأمة تقرر في كل زمان ما يؤهلها له استعدادها هو الأحكم؟
8. قال تعالى بعد أمر نبيه بالمشاورة: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ أي فإذا عزمت بعد المشاورة في الأمر على إمضاء ما ترجحه الشورى وأعددت له عدته فتوكل على الله في إمضائه وكن واثقا بمعونته وتأييده لك فيه ولا تتكل على حولك وقوتك بل اعلم أن وراء ما أتيته وما أوتيته قوة أعلى وأكمل، يجب أن تكون بها الثقة وعليها المعول وإليها اللجأ إذا تقطعت الأسباب وأغلقت الأبواب، قال محمد عبده ما معناه: إن العزم على الفعل وإن كان يكون بعد الفكر وإحكام الرأي والمشاورة وأخذ الأهبة فذلك كله لا يكفي للنجاح إلا بمعونة الله وتوفيقه لأن الموانع الخارجية له والعوائق دونه لا يحيط بها إلا الله تعالى فلا بد للمؤمن من الاتكال عليه والاعتماد على حوله وقوته.
9. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ على حوله وقوته، مع العمل في الأسباب بسنته، أقول: ومن أحبه الله عصمه من الغرور باستعداده، والركون إلى عدته وعتاده، والبطر الذي يصرفه عن النظر فيما يعرض له بعد ذلك حتى لا يقدره قدره، ولا يحكم فيه أمره، فبدلا من أن يكون نظره في الأمور بعين العجب والغرور، واستماعه لأنبائها بأذن الغفلة والازدراء، ومباشرته لها بيد التهاون، يلقي السمع وهو شهيد، وينظر بعين العبرة فبصره حينئذ حديد، ويبطش بيد الحزم فبطشه قوي شديد؛ ذلك بأنه يسمع ويبصر ويعمل للحق لا للباطل الذي يزينه الهوى ويدلي به الغرور؛ فيكون مصداقا للحديث القدسي: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها)
10. الآية صريحة في وجوب إمضاء العزيمة المستكملة لشروطها ـ وأهمها في الأمور العامة حربية كانت أو سياسية أو إدارية المشاورة ـ وذلك أن نقض العزيمة ضعف في النفس وزلزال في الأخلاق لا يوثق بمن اعتاده في قول ولا عمل، فإذا كان ناقص العزيمة رئيس حكومة أو قائد جيش كان ظهور نقض العزيمة منه ناقضا للثقة بحكومته وبجيشه؛ ولا سيما إذا كان بعد الشروع في العمل، ولذلك لم يصغ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى قول الذين أشاروا عليه بالخروج وكان قد لبس لأمته وخرج وذلك شروع في العمل بعد أن أخذت الشورى حقها كما تقدم تفصيله، فعلمهم بذلك أن لكل عمل وقتا وأن وقت المشاورة متى انتهى جاء دور العمل، وأن الرئيس إذا شرع في العمل تنفيذا للشورى لا يجوز أن ينقض عزيمته ويبطل عمله وإن كان يرى أن أهل الشورى أخطؤوا الرأي ـ كما كان يرى صلّى الله عليه وآله وسلّم في مسألة الخروج إلى أحد كما تقدم ـ ويمكن إرجاع ذلك إلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين، وأي ضرر أشد من فسخ العزيمة وما فيه من الضعف والفشل وإبطال الثقة؟
11. إننا نرى أهل السياسة والحرب يجرون على هذه القاعدة في هذا العصر، ومن الوقائع التي توجب العبرة في ذلك أن محمد عبده لما كان في لندن عاصمة إنكلترا سنة 1301 ذاكر وزراء الإنكليز في أمور مصر والسودان التماس خدمته لبلاده، وقد سأله يومئذ رئيس الوزراء أو غيره منهم (الشك مني) عن رأيه في حملة هكس باشا التي أرسلوها لمحاربة مهدي السودان الذي ظهر في ذلك الوقت، فبين له بعد مراجعة طويلة أن هذه الحملة لا تنجح بل يقضي عليها السودانيون، ثم عاد الأستاذ من أوروبا إلى بيروت وبعد عودته جاءت الأخبار بقتل هكس باشا وتنكيل السودانيين بحملته فبعث محمد عبده برسالة برقية إلى الوزير الإنكليزي يذكره فيها برأيه وكيف صدق، فجاءه الجواب في ذلك اليوم من الوزير ومعناه قد علمنا أن ما قلته لنا معقول وجيه ولكن السياسة متى قررت شيئا وشرعت فيه وجب إمضاؤه وامتنع نقضه والرجوع عنه وإن كان خطأ.
__________
(1) تفسير المنار: 4/199.
(2) المراد بالصحابة هنا المنتجبون منهم أما غيرهم فقد عارضوه في مسائل كثيرة، ولعل أخطرها ما يطلق عليه رزية الخميس
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم ـ زاد في الفضل والإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على عفوه عنهم وتركه التغليظ عليهم، وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعض أصحابه، وكان من جرّاء ذلك ما كان من الفشل وظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع من أصيب، فضبر وتجلد ولان في معاملة أصحابه وخاطبهم بالرفق ولم يعاتبهم، اقتداء بكتاب الله إذ أنزل في هذه الواقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين وعصيانهم وتقصيرهم، حتى ذكر الظنون والهواجس النفسية، لكن مع العتب المقترن بذكر العفو والوعد بالنصر وإعلاء الكلمة.
2. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ أي إنه قد كان من أصحابك ما يستحق الملامة والتعنيف بمقتضى الطبيعة البشرية، إذ صدروا عنك حين اشتداد الأهوال، وشمّروا للهزيمة والحرب قائمة على قدم وساق، ومع ذلك لنت لهم وعاملتهم بالحسنى بسبب الرحمة التي أنزلها الله على قلبك، وخصّك بها، إذ أمدك بآداب القرآن العالية، وحكمه السامية، حتى هانت عليك المصائب، وعلّمتك ما لها من المنافع وحسن العواقب.
3. مدح الله نبيه بحسن الخلق في مواضع من كتابه فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ وقال: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوف رَحِيمٌ﴾، وقال : (لا حلم أحبّ إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه)
4. ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ أي ولو كنت خشنا جافيا في معاملتهم لتفرقوا عنك، ونفروا منك، ولم يسكنوا إليك، ولم يتم أمرك من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط السوىّ، ذاك أن المقصود من بعثة الرسل تبليغهم شرائع الله إلى الخلق، ولا يتم ذلك إلا إذا مالت قلوبهم إليهم، وسكنت نفوسهم لديهم، وذلك إنما يكون إذا كان الرسول رحيما كريما يتجاوز عن ذنب المسيء ويعفو عن زلاته، ويخصه بوجوه البر والمكرمة والشفقة.
5. ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أي واسلك معهم سبيل المشورة التي اتبعتها في هذه الواقعة ودم عليها ـ فإنهم وإن أخطئوا الرأي فيها، فإن في تربيتهم عليها دون الانقياد لرأى الرئيس وإن كان صوابا نفعا في مستأنف أمرهم ومستقبل حكومتهم ما حافظوا عليها، فالجماعة أبعد عن الخطإ من الفرد في أكثر الحالات، وما ينشأ من الخطر على الأمة بتفويض أمرها إلى واحد مهما حصف رأيه، أشد من الخطر الذي يترتب على رأى الجماعة.
6. لما كانت الاستشارة سبيلا للنزاع ولا سيما إذا كثر المستشارون ـ أمر الله نبيه أن يقرر هذه السنة عملا، فكان يستشير صحبه بهدوء وسكينة ويصغى إلى كل قول ويرجح رأيا على رأى بما يرى فيه من المصلحة والفائدة بقدر المستطاع، وقد عمل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالشّورى في حياته، فكان يستشير السواد الأعظم من المسلمين، ويخص بها أهل الرأي والمكانة في الأمور التي يضر إفشاؤها، فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش من مكة للحرب ولم يبرم الأمر حتى صرح المهاجرون والأنصار بالموافقة، واستشارهم يوم أحد كما علمت، وهكذا كان يستشيرهم في كل مهمّ ما لم ينزل عليه فيه وحي، فإنه إذ ذاك لا بد من نفاذه، ولم يضع للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قواعد الشورى، لأنها تختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية، وبحسب الزمان والمكان، ولأنه لو وضع لها قواعد لاتخذها المسلمون دينا وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان.
7. لكن الخلفاء فيما بعد لم يتبعوا هذه السنة، ولا سيما زمن الدولة العباسية، إذ كان للأعاجم سلطان كبير في ملكهم(2)، ثم جرى على ذلك سائر الملوك من المسلمين فيما بعد، وجاراهم على ذلك علماء الدين، حتى ظن كثير من غير المسلمين أن السلطة في الإسلام استبدادية، وأن الشورى اختيارية، ولكن هذا بعيد من الصواب، بعد أن صرح القرآن بالشورى وأمر نبيه بها وهو المعصوم عن الهوى.
8. للشورى فوائد جمة منها:
أ. إنها تبين مقادير العقول والأفهام، ومقدار الحب والإخلاص للمصالح العامة.
ب. إن عقول الناس متفاوتة وأفكارهم مختلفة، فربما ظهر لبعضهم من صالح الآراء ما لا يظهر لغيره وإن كان عظيما.
ج. إن الآراء فيها تقلّب على وجوهها، ويختار الرأي الصائب من بينها.
د. إنه يظهر فيها اجتماع القلوب على إنجاح المسعى الواحد، واتفاق القلوب على ذلك مما يعين على حصول المطلوب، ومن ثم شرعت الاجتماعات في الصلوات، وكانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة، وعن الحسن: قد علم الله أن ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستنّ به من بعده، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم)، وعن أبى هريرة: ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من أصحاب النبي .
9. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ أي فإذا عقدت القلب على فعل شيء وإمضائه بعد المشاورة ومبادلة الرأي فيه، فتوكل على الله، وفوّض الأمر إليه بعد أخذ الاهبة واستكمال العدّة، ومراعاة الأسباب التي جعلها الله وسيلة للوصول إلى المسببات كما ورد في الحديث (اعقلها وتوكل)، ولا تتكل على ما أوتيت من حول وقوة، ولا على إحكام الرأي وأخذ العدة، فذلك كله ليس بكاف في النجاح ما لم تقرن به معونة الله وتوفيقه، لأن الموانع الخارجية والعوائق التي تحول دون الوصول إلى البغية، لا يحيط بها إلا علام الغيوب، فلا بد من الاتكال عليه والاعتماد على حوله وقوته.
10. في الآية إيماء إلى وجوب إمضاء العزيمة متى استكملت شروطها التي من أهمها المشورة، وسر هذا أن نقض العزائم خور في النفس، وضعف في الأخلاق يجعل صاحبه غير موثوق به في قول ولا فعل، ولا سيما إذا كان رئيس حكومة، أو قائد جيش، ومن ثم لم يصغ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى مشورة من رجع عن رأيه الأول وهو الخروج إلى أحد حين لبس لامته وخرج، إذ رأى أن هذا شروع في العمل بعد أن أخذت الشورى حقها، وبذلك علمهم أن لكل عمل ميقاتا محدودا، وأن وقت المشورة متى انتهى جاء طور العمل، وأن الرئيس إذا شرع في العمل تنفيذا للشورى لا يجوز أن ينقض عزيمته، ويبطل عمله، ولو كان يرى أن أهل الشورى أخطئوا الرأي والتدبير كما حدث في مسألة أحد كما تقدم، ولا يزال أهل السياسة والحرب في البلاد ذات الحضارة والمدنية يجرون على هذه القاعدة ويجعلونها دستورا لأعمال أممهم، ولا ينقضونها على أي حال، حتى قال أحد كبار الساسة الإنجليز: إن السياسة متى قررت شيئا وشرعت فيه وجب إمضاؤه وامتنع نقضه والرجوع عنه وإن كان خطأ.
11. ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ عليه الواثقين به، فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة، وفي الآية إرشاد للمكلفين، وترغيب لهم في التوكل على الله، والرجوع إليه، والإعراض عن كل ما سواه، قال الرازي: (دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه كما يقول بعض الجهال وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل التوكل عليه أن يراعى الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعوّل بقلبه عليها، بل يعول على عصمة الحكمة)
12. التوكل الصحيح إنما يكون مع الأخذ بالأسباب، وبدونها يكون دعوى التوكل جهلا بالشرع وفسادا في العقل، قال تعالى: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ وقال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ وقال: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ وقال لنبيه لوط ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ وقال لموسى عليه السلام: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا﴾ وقال حكاية عن نبيه يعقوب لابنه يوسف: ﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ وقال أيضا حاكيا عنه: ﴿يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ ففي هذا أمر بالحذر مع التنبيه إلى أنه متوكل على الله، ولا تنافى بينهما ولا غنى للمؤمن عنهما.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/112.
(2) هذه العلة تتنافى مع قيم الإسلام، خاصة وأن الدولة الإسلامية كانت تشمل العرب والعجم
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم يمضي السياق القرآني في جولة جديدة، جولة محورها شخص رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحقيقته النبوية الكريمة؛ وقيمة هذه الحقيقة الكبيرة في حياة الأمة المسلمة؛ ومدى ما يتجلى فيها من رحمة الله بهذه الأمة.. وحول هذا المحور خيوط أخرى من المنهج الإسلامي في تنظيم حياة الجماعة المسلمة، وأسس هذا التنظيم؛ ومن التصور الإسلامي والحقائق التي يقوم عليها، ومن قيمة هذا التصور وذلك المنهج في حياة البشرية بصفة عامة.
2. ننظر في هذه الفقرة، وفي الحقائق الكثيرة الأصيلة المشدودة إلى محورها ـ وهي الحقيقة النبوية الكريمة ـ فنجد كذلك أصولا كبيرة تحتويها عبارات قصيرة.. نجد حقيقة الرحمة الإلهية المتمثلة في أخلاق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وطبيعته الخيرة الرحيمة الهينة اللينة، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب وتتألف حولها النفوس، ونجد أصل النظام الذي تقوم عليه الحياة الجماعية الإسلامية ـ وهو الشورى ـ يؤمر به في الموضع الذي كان للشورى ـ في ظاهر الأمر ـ نتائج مريرة! ونجد مع مبدأ الشورى مبدأ الحزم والمضي ـ بعد الشورى ـ في مضاء وحسم، ونجد حقيقة التوكل على الله ـ إلى جانب الشورى والمضاء ـ حيث تتكامل الأسس التصويرية والحركية والتنظيمية، ونجد حقيقة قدر الله، ورد الأمر كله إليه وفاعليته التي لا فاعلية غيرها في تصريف الأحداث والنتائج، ونجد التحذير من الخيانة والغلول والطمع في الغنيمة، ونجد التفرقة الحاسمة بين من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله، تبرز منها حقيقة القيم والاعتبارات والكسب والخسارة.. وتختم الفقرة بالإشادة بالمنة الإلهية الممثلة في رسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى هذه الأمة، المنة التي تتضاءل إلى جانبها الغنائم، كما تتضاءل إلى جانبها الآلام سواء! هذا الحشد كله في تلك الآيات القلائل المعدودات! ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾
3. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم؛ فجعلته صلّى الله عليه وآله وسلّم رحيما بهم، لينا معهم، ولو كان فظا غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب، ولا تجمعت حوله المشاعر، فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء؛ ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه؛ ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء.. وهكذا كان قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهكذا كانت حياته مع الناس، ما غضب لنفسه قط، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، ولا احتجز لنفسه شيئا من أعراض هذه الحياة، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية، ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم، وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه؛ نتيجة لما أفاض عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم من نفسه الكبيرة الرحيبة.
4. وكان هذا كله رحمة من الله به وبأمته.. يذكرهم بها في هذا الموقف، ليرتب عليها ما يريده سبحانه لحياة هذه الأمة من تنظيم: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
5. بهذا النص الجازم: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾.. يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم ـ حتى ومحمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي يتولاه، وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه.. أما شكل الشورى، والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها، وكل شكل وكل وسيلة، تتم بها حقيقة الشورى ـ لا مظهرها ـ فهي من الإسلام.
6. لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة! فقد كان من جرائها ظاهريا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم! اختلفت الآراء، فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها، حتى إذا هاجمهم العدو قاتلوه على أفواه الأزقة، وتحمست مجموعة أخرى فرأت الخروج للقاء المشركين، وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف، إذ عاد عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش، والعدو على الأبواب ـ وهو حدث ضخم وخلل مخيف ـ كذلك بدا أن الخطة التي نفذت لم تكن ـ في ظاهرها ـ أسلم الخطط من الناحية العسكرية، إذ أنها كانت مخالفة (للسوابق) في الدفاع عن المدينة ـ كما قال عبد الله ابن أبي ـ وقد اتبع المسلمون عكسها في غزوة الأحزاب التالية، فبقوا فعلا في المدينة، وأقاموا الخندق، ولم يخرجوا للقاء العدو، منتفعين بالدرس الذي تلقوه في أحد!
7. لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج، فقد كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة، التي رآها، والتي يعرف مدى صدقها، وقد تأولها قتيلاً من أهل بيته، وقتلى من صحابته، وتأول المدينة درعاً حصينة.. وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى.. ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات. لأن إقرار المبدأ، وتعليم الجماعة، وتربية الأمة، أكبر من الخسائر الوقتية.
8. لقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة! ولكن الإسلام كان ينشئ أمة، ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية، وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة، أن تربى بالشورى وأن تدرب على حمل التبعة، وأن تخطئ ـ مهما يكن الخطأ جسيماً وذا نتائج مريرة ـ لتعرف كيف تصحح خطأها، وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها. فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ..
9. الخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة المدركة المقدرة للتبعة، واختصار الأخطاء والعثرات والخسائر في حياة الأمة ليس فيها شيء من الكسب لها، إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية، إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية، ولكنها تخسر نفسها، وتخسر وجودها، وتخسر تربيتها، وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية، كالطفل الذي يمنع من مزاولة المشي ـ مثلا ـ لتوفير العثرات والخبطات، أو توفير الحذاء! كان الإسلام ينشئ أمة ويربيها، ويعدها للقيادة الراشدة، فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها، ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية، كي تدرب عليها في حياة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وبإشرافه، ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى، ويمنع تدريب الأمة عليها تدريبا عمليا واقعيا في أخطر الشؤون ـ كمعركة أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائيا، وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانبـ ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة ـ لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون، لكان وجود محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى ـ كافيا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى! ـ وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ضلل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمية، ولكن وجود محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث، ووجود تلك الملابسات، لم يلغ هذا الحق، لأن الله سبحانه يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشؤون، ومهما تكن النتائج، ومهما تكن الخسائر، ومهما يكن انقسام الصف، ومهما تكن التضحيات المريرة، ومهما تكن الأخطار المحيطة.. لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة، المدربة بالفعل على الحياة؛ المدركة لتبعات الرأي والعمل، الواعية لنتائج الرأي والعمل.
10. ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي، في هذا الوقت بالذات: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله؛ وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أيا كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق؛ وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة، ولو كان هو انقسام الصف، كما وقع في (أحد) والعدو على الأبواب.. لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ، ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق! على أن الصورة الحقيقية للنظام الإسلامي لا تكمل حتى نمضي مع بقية الآية؛ فنرى أن الشورى لا تنتهي أبدا إلى الأرجحة والتعويق، ولا تغني كذلك عن التوكل على الله في نهاية المطاف: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾
11. إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة، فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد، انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ.. التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله، يصل الأمر بقدر الله، ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء.
12. وكما ألقى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم درسه النبوي الرباني، وهو يعلم الأمة الشورى، ويعلمها إبداء، الرأي، واحتمال تبعته بتنفيذه، في أخطر الشؤون وأكبرها.. كذلك ألقى عليها درسه الثاني في المضاء بعد الشورى، وفي التوكل على الله، وإسلام النفس لقدره ـ على علم بمجراه واتجاهه ـ فأمضى الأمر في الخروج، ودخل بيته فلبس درعه ولأمته ـ وهو يعلم إلى أين هو ماض، وما الذي ينتظره وينتظر الصحابة معه من آلام وتضحيات.. وحتى حين أتيحت فرصة أخرى بتردد المتحمسين، وخوفهم من أن يكونوا استكرهوه صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما لا يريد، وتركهم الأمر له ليخرج أو يبقى.. حتى حين أتيحت هذه الفرصة لم ينتهزها ليرجع، لأنه أراد أن يعلمهم الدرس كله، درس الشورى، ثم العزم والمضي، مع التوكل على الله والاستسلام لقدره، وأن يعلمهم أن للشورى وقتها، ولا مجال بعدها للتردد والتأرجح ومعاودة تقليب الرأي من جديد، فهذا مآلة الشلل والسلبية والتأرجح الذي لا ينتهي.. إنما هو رأي وشورى، وعزم ومضاء، وتوكل على الله، يحبه الله: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾
13. الخلة التي يحبها الله ويحب أهلها هي الخلة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون، بل هي التي تميز المؤمنين، والتوكل على الله، ورد الأمر إليه في النهاية، هو خط التوازن الأخير في التصور الإسلامي وفي الحياة الإسلامية، وهو التعامل مع الحقيقة الكبيرة: حقيقة أن مرد الأمر كله لله، وأن الله فعال لما يريد.
14. لقد كان هذا درسا من دروس (أحد) الكبار، هو رصيد الأمة المسلمة في أجيالها كلها، وليس رصيد جيل بعينه في زمن من الأزمان.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/500.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه لينة خاصة من الله سبحانه إلى رسوله الكريم، وأن الله سبحانه وتعالى قد أودع قلب نبيّه الرّحمة بالمؤمنين، ليكون فيهم الأب الودود الرحيم، يرعى أبناءه، ويسدّد خطاهم، ويتقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم.. هكذا النبيّ في مجتمع المسلمين.. إنه أب لهذه الأسرة الكبيرة، يسعها قلبه الكبير، بعطفه، وحلمه، ومودته، ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ﴾.. على هذا الخلق الكريم صنعه الله وطبعه، وبهذه الرحمة أرسله رحمة وهدى للعالمين.
2. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ الباء هنا للسببية، أي بسبب ما أودع الله فيك من رحمة، كان منك هذا اللّين، وذلك العطف على المؤمنين.
3. ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ وفي هذا كشف للطبيعة البشرية، وأن الناس إنما يألفون من يتألفهم، ويحسن إليهم، ويلقاهم بالصفح الجميل.. وعلى غير هذا من كان حادّ الطبع، شرس الخلق، غليظ القلب، لا يقيل عثرة، ولا يغفر زلة.. إنه لن يجد من الناس إلّا المقت والنفور، وأنه إذا صح لإنسان ـ وهو غير صحيح ـ أن يسوّى حسابه مع الناس على هذا الوجه، القائم على الغلظة والشدة، والمنتهى به إلى القطيعة والعزلة ـ فإنه لا يصح أبدا، ولا يستقيم بحال، لمن كان بمكان الرئاسة والقيادة لأية جماعة من الجماعات، كثر عددهم أو قلّ.. فإن الخيط الذي يمسك به كيان الجماعة ويشدّها إليه، هو ما يفيض عليها من قلبه، من رحمة، وحدب، ولين، ولطف، وإلّا تقطعت بينه وبينها الأسباب، ولو كانوا أبناءه وخاصة أهله!
4. في قوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ بيان لبعض الأسس التي يقوم عليها منهج التربية، التي يأخذ بها النبيّ جماعة المؤمنين:
أ. وأول هذه الأسس: العفو عن المسيء.. وفي هذا ما يفتح منافذ قلبه ويصفيه من دواعي الحسرة والألم، وينزع منه وساوس السوء والشر.
ب. وثاني هذه الأسس: الاستغفار لهذا المسيء وطلب الرحمة والمغفرة له من الله.. وهذا إحسان بعد إحسان.. يزيد قلبه صفاء، ونفسه إشراقا، وولاء.
ج. فإذا استوت جماعة المسلمين على تلك الصورة الكريمة، فلم يكن فيها مذموم أو مطرود، ولم ينتظم في عقدها النظيم معطوب أو مقهور ـ كانت جميعها قلبا واحدا، ومشاعر واحدة، تتحرّى خير الجماعة، وتنشد أمنها وسلامتها، هنا يجيء ثالث الأسس في مكانه الصحيح: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ فتعطى المشورة ثمرتها الطيبة، التي هي خلاصة ما في القلوب من خير، ومنخول ما في العقول من رأى.
5. هنا يتضح الأمر المنظور إليه، ولم يبق إلا انعقاد العزم عليه، وإمضائه على الوجه المرسوم.. وهذا ما أمر الله به في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ الذين يعتمدون عليه، ويفوضون أمرهم إليه، بعد أن يعطوا هذا الأمر كل ما عندهم من رأى وعزم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/627.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ أي للذين تولوا عنك حين عادوا إليك بعد الانهزام، وللمؤمنين عموما كما قال تعالى: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوف رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، و(ما) مزيدة للتوكيد أو نكرة، و(رحمة) بدل منها مبيّن لإبهامها، والنون للتفخيم، أي ما لنت هذا اللين الخارق للعادة، مع ما سبّب فعلهم من الغضب الموجب للعنف والسطوة لا سيما مع اعتراض من اعترض على ما أشار به، إلا بسبب رحمة عظيمة.
2. ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا﴾ أي سيّئ الخلق خشن الكلام ﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ أي قاسيه وشديدة، تعاملهم بالعنف والجفا ﴿لَانْفَضُّوا﴾ أي تفرقوا ﴿مِنْ حَوْلِكَ﴾ فلم يسكنوا إليك فلا تتم دعوتك، ولكن الله جعلك سهلا سمحا طلقا لينا لطيفا بارّا رؤوفا رحيما.
3. ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ أي فيما فرطوا في حقك كما عفا الله عنهم ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ﴾ إتماما للشفقة عليهم ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أي أمر الحرب وغيره توددا إليهم وتطيبا لنفوسهم واستظهارا بآرائهم وتمهيدا لسنة المشاورة في الأمة، وقد ساق العلامة الرازيّ وجوها أخرى في فائدة أمره تعالى له صلّى الله عليه وآله وسلّم بمشاورتهم، منها: أنه ، وإن كان أكمل الناس عقلا، إلا أن علوم الخلق متناهية، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله، لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا، فإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: أنتم أعرف بأمور دنياكم، ومنها: أن الأمر بمشاورتهم لا لأجل أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم محتاج إليهم، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله، وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد.
4. ثبت مشاورته صلّى الله عليه وآله وسلّم لأصحابه في عدة أمور:
أ. منها أنه شاورهم في يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا: يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، ولكن نقول: اذهب فنحن معك وبين يديك، وعن يمينك وشمالك مقاتلون.
ب. وشاورهم أيضا أين يكون المنزل حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم.
ج. وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم.
د. وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى ذلك عليه السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فترك ذلك.
هـ. وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم في قصة الإفك: أشيروا عليّ، معشر المسلمين، في قوم أبنوا أهلي ورموهم، وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء، وأبنوهم بمن، والله، ما علمت عليه إلا خيرا.
و. واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة، فكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يشاورهم في الحروب ونحوها، أفاده الحافظ ابن كثير.
5. قال الخفاجيّ: في الآية إرشاد إلى الاجتهاد وجوازه بحضرته ، وقال الرازيّ: دلت على أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة، فلهذا كان مأمورا بالمشاورة.
6. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية وجوب التمسك بمكارم الأخلاق وخصوصا لمن يدعو إلى الله تعالى ويأمر بالمعروف.
7. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ أي بعد المشاورة على أمر واطمأنت به نفسك ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ في الإعانة على إمضاء ما عزمت، لا على المشورة وأصحابها، قال الرازيّ: دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه، كما يقول بعض الجهال، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/447.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ الفاء للتفريع على ما اشتمل عليه الكلام السابق الّذي حكي فيه مخالفة طوائف لأمر الرسول من مؤمنين ومنافقين، وما حكي من عفو الله عنهم فيما صنعوا، ولأنّ في تلك الواقعة المحكية بالآيات السابقة مظاهر كثيرة من لين النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للمسلمين، حيث استشارهم في الخروج، وحيث لم يثرّبهم على ما صنعوا من مغادرة مراكزهم، ولمّا كان عفو الله عنهم يعرف في معاملة الرّسول إيّاهم، ألان الله لهم الرسول تحقيقا لرحمته وعفوه، فكان المعنى: ولقد عفا الله عنهم برحمته فلان لهم الرسول بإذن الله وتكوينه إيّاه راحما، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]
2. ﴿فَبِمَا﴾ الباء للمصاحبة، أي لنت مع رحمة الله: إذ كان لينه في ذلك كلّه لينا لا تفريط معه لشيء من مصالحهم، ولا مجاراة لهم في التساهل في أمر الدّين، فلذلك كان حقيقا باسم الرحمة، وتقديم المجرور مفيد للحصر الإضافي، أي: برحمة من الله لا بغير ذلك من أحوالهم، وهذا القصر مفيد التعريض بأنّ أحوالهم كانت مستوجبة الغلظ عليهم، ولكن الله ألان خلق رسوله رحمة بهم، لحكمة علمها الله في سياسة هذه الأمّة.
3. ﴿فَبِمَا﴾ زيدت (ما) بعد باء الجرّ لتأكيد الجملة بما فيه من القصر، فتعيّن بزيادتها كون التّقديم للحصر، لا لمجرد الاهتمام، ونبّه عليه في (الكشاف)
4. اللين هنا مجاز في سعة الخلق مع أمّة الدعوة والمسلمين، وفي الصفح عن جفاء المشركين، وإقالة العثرات، ودلّ فعل المضيّ في قوله: ﴿لِنْتَ﴾ على أنّ ذلك وصف تقرّر وعرف من خلقه، وأنّ فطرته على ذلك برحمة من الله إذ خلقه كذلك و﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، فخلق الرسول مناسب لتحقيق حصول مراد الله تعالى من إرساله، لأنّ الرسول يجيء بشريعة يبلّغها عن الله تعالى، فالتبليغ متعيّن لا مصانعة فيه، ولا يتأثّر بخلق الرسول، وهو أيضا مأمور بسياسة أمّته بتلك الشريعة، وتنفيذها فيهم، وهذا عمل له ارتباط قوي بمناسبة خلق الرسول لطباع أمّته حتّى يلائم خلقه الوسائل المتوسّل بها لحمل أمّته على الشّريعة الناجحة في البلوغ بهم إلى مراد الله تعالى منهم.
5. أرسل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم مفطورا على الرحمة، فكان لينه رحمة من الله بالأمّة في تنفيذ شريعته بدون تساهل وبرفق وإعانة على تحصيلها، فلذلك جعل لينه مصاحبا لرحمة من الله أودعها الله فيه، إذ هو قد بعث للنّاس كافّة، ولكن اختار الله أن تكون دعوته بين العرب أول شيء لحكمة أرادها الله تعالى في أن يكون العرب هم مبلغي الشّريعة للعالم، والعرب أمّة عرفت بالأنفة، وإباء الضيم، وسلامة الفطرة، وسرعة الفهم، وهم المتلقّون الأوّلون للدين فلم تكن تليق بهم الشّدة والغلظة، ولكنّهم محتاجون إلى استنزال طائرهم في تبليغ الشريعة لهم، ليتجنّبوا بذلك المكابرة الّتي هي الحائل الوحيد بينهم وبين الإذعان إلى الحقّ، وورد أن صفح النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعفوه ورحمته كان سببا في دخول كثير في الإسلام، كما ذكر بعض ذلك عياض في كتاب الشفاء.
6. ضمير ﴿لَهُمْ﴾ عائد على جميع الأمّة كما هو مقتضى مقام التّشريع وسياسة الأمّة، وليس عائدا على المسلمين الّذين عصوا أمر الرسول يوم أحد، لأنّه لا يناسب قوله بعده: ﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ إذ لا يظنّ ذلك بالمسلمين، ولأنّه لا يناسب قوله بعده: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ إذا كان المراد المشاورة للاستعانة بآرائهم، بل المعنى: لو كنت فظّا لنفرك كثير ممّن استجاب لك فهلكوا، أو يكون الضّمير عائدا على المنافقين المعبّر عنهم بقوله: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ [آل عمران: 154] فالمعنى: ولو كنت فظّا لأعلنوا الكفر وتفرّقوا عنك، وليس المراد أنّك لنت لهم في وقعة أحد خاصّة، لأنّ قوله بعده: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.. ينافي ذلك المحمل.
7. الفظّ: السيئ الخلق، الجافي الطبع، والغليظ القلب: القاسية، إذ الغلظة مجاز عن القسوة وقلّة التسامح، كما كان اللين مجازا في عكس ذلك، وقالت جواري الأنصار لعمر ـ حين انتهرهنّ ـ (أنت أفظّ وأغلظ من رسول الله) يردن أنت فظّ وغليظ دون رسول الله، والانفضاض: التفرق.
8. ﴿مِنْ حَوْلِكَ﴾ أي من جهتك وإزائك، يقال: حوله وحوليه وحواليه وحواله وحياله وبحياله، والضّمير للذين حول رسول الله، أي الّذين دخلوا في الدّين لأنّهم لا يطيقون الشدّة، والكلام تمثيل: شبّهت هيئة النفور منه وكراهية الدخول في دينه بالانفضاض من حوله أي الفرار عنه متفرّقين، وهو يؤذّن بأنّهم حوله متّبعون له.
9. التّفريع في قوله: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ على قوله: ﴿لِنْتَ لَهُمْ﴾ الآية، لأنّ جميع الأفعال المأمور بها مناسب للين، فأمّا العفو والاستغفار فأمرهما ظاهر، وأمّا عطف ﴿وَشَاوِرْهُمْ﴾ فلأنّ الخروج إلى أحد كان عن تشاور معهم وإشارتهم، ويشمل هذا الضّمير جميع الّذين لان لهم صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم أصحابه الّذين حوله سواء من صدر منهم أمر يوم أحد وغيرهم.
10. المشاورة مصدر شاور، والاسم الشّورى والمشورة ـ بفتح الميم وضم الشّين ـ أصلها مفعلة ـ بضمّ العين، فوقع فيها نقل حركة الواو إلى الساكن ـ، قيل: المشاورة مشتقّة من شار الدابّة إذا اختبر جريها عند العرض على المشتري، وفعل شار الدابّة مشتقّ من المشوار وهو المكان الّذي تركض فيه الدوابّ، وأصله معرّب (نشخوار) بالفارسية وهو ما تبقيه الدابّة من علفها، وقيل: مشتقّة من شار العسل أي جناه من الوقبة لأنّ بها يستخرج الحقّ والصّواب، وإنّما تكون في الأمر المهمّ المشكل من شؤون المرء في نفسه أو شؤون القبيلة أو شؤون الأمة.
11. (أل) في الأمر للجنس، والمراد بالأمر المهمّ الّذي يؤتمر له، ومنه قولهم: أمر أمر، وقال أبو سفيان لأصحابه ـ في حديث هرقل ـ: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنّه يخافه ملك بني الأصفر)، وقيل: أريد بالأمر أمر الحرب فاللام للعهد.
12. ظاهر الأمر أنّ المراد المشاورة الحقيقية الّتي يقصد منها الاستعانة برأي المستشارين بدليل قوله عقبه: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ فضمير الجميع في قوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ﴾ عائد على المسلمين خاصة: أي شاور الّذين أسلموا من بين من لنت لهم، أي لا يصدّك خطل رأيهم فيما بدا منهم يوم أحد عن أن تستعين برأيهم في مواقع أخرى، فإنّما كان ما حصل فلتة منهم، وعشرة قد أقلتهم منها، ويحتمل أن يراد استشارة عبد الله بن أبي وأصحابه، فالمراد الأخذ بظاهر أحوالهم وتأليفهم، لعلّهم أن يخلصوا الإسلام أو لا يزيدوا نفاقا، وقطعا لأعذارهم فيما يستقبل.
13. دلّت الآية على أن الشّورى مأمور بها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما عبّر عنه بـ (الأمر) وهو مهمّات الأمّة ومصالحها في الحرب وغيره، وذلك في غير أمر التّشريع لأنّ أمر التّشريع إن كان فيه وحي فلا محيد عنه، وإن لم يكن فيه وحي وقلنا بجواز الاجتهاد للنّبي في التّشريع فلا تدخل فيه الشورى لأنّ شأن الاجتهاد أن يستند إلى الأدلّة لا للآراء، والمجتهد لا يستشير غيره إلّا عند القضاء باجتهاده.. فتعيّن أنّ المشاورة المأمور بها هنا هي المشاورة في شؤون الأمّة ومصالحها، وقد أمر الله بها هنا ومدحها في ذكر الأنصار في قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38] واشترطها في أمر العائلة فقال: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ [البقرة: 233]، فشرع بهاته الآيات المشاورة في مراتب المصالح كلّها: وهي مصالح العائلة ومصالح القبيلة أو البلد، ومصالح الأمّة.
14. اختلف العلماء في مدلول قوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ﴾ هل هو للوجوب أو للندب، وهل هو خاصّ بالرسول ، أو عامّ له ولولاة أمور الأمّة كلّهم:
أ. فذهب المالكية إلى الوجوب والعموم: قال ابن خويزمنداد: (واجب على الولاة المشاورة، فيشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدّين، ويشاورون وجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب، ويشاورون وجوه النّاس فيما يتعلّق بمصالحهم ويشاورون وجوه الكتّاب والعمّال والوزراء فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها، وأشار ابن العربي إلى وجوبها بأنّها سبب للصّواب فقال: والشورى مسبار العقل وسبب الصّواب، يشير إلى أنّنا مأمورون بتحرّي الصّواب في مصالح الأمّة، وما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب)
ب. وقال ابن عطية: (الشورى من قواعد الشّريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وهذا ما لا اختلاف فيه)
ج. واعترض عليه ابن عرفة قوله: فعزله واجب ولم يعترض كونها واجبة، إلّا أنّ ابن عطية ذكر ذلك جازما به وابن عرفة اعترضه بالقياس على قول علماء الكلام بعدم عزل الأمير إذا ظهر فسقه، يعني ولا يزيد ترك الشورى على كونه ترك واجب فهو فسق، وقلت: من حفظ حجّة على من لم يحفظ، وإنّ القياس فيه فارق معتبر فإنّ الفسق مضرّته قاصرة على النفس وترك التشاور تعريض بمصالح المسلمين للخطر والفوات، ومحمل الأمر عند المالكية للوجوب والأصل عندهم عدم الخصوصية في التّشريع إلّا لدليل.
د. وعن الشافعي أنّ هذا الأمر للاستحباب، ولتقتدي به الأمّة، وهو عامّ للرسول وغيره، تطييبا لنفوس أصحابه ورفعا لأقدارهم، وروى مثله عن قتادة، والرّبيع، وابن إسحاق.
هـ. وردّ هذا أبو بكر أحمد بن عليّ الرازي الحنفي المشهور بالجصّاص بقوله: لو كان معلوما عندهم أنّهم إذا استفرغوا جهدهم في استنباط الصّواب عمّا سئلوا عنه، ثمّ لم يكن معمولا به، لم يكن في ذلك تطييب لنفوسهم ولا رفع لأقدارهم، بل فيه إيحاشهم فالمشاورة لم تفد شيئا فهذا تأويل ساقط.
و. وقال النووي، في صدر كتاب الصلاة من (شرح مسلم): الصحيح عندهم وجوبها وهو المختار، وقال الفخر: ظاهر الأمر أنّه للوجوب.
ز. ولم ينسب العلماء للحنفية قولا في هذا الأمر إلا أنّ الجصّاص قال في كتابه أحكام القرآن عند قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾: هذا يدلّ على جلالة وقع المشورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصّلاة ويدلّ على أنّنا مأمورون بها، ومجموع كلامي الجصّاص يدلّ أن مذهب أبي حنيفة وجوبها.
15. من السلف من ذهب إلى اختصاص الوجوب بالنّبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم قاله الحسن وسفيان، قالا: وإنّما أمر بها ليقتدي به غيره وتشيع في أمّته وذلك فيما لا وحي فيه، وقد استشار النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه في الخروج لبدر، وفي الخروج إلى أحد، وفي شأن الأسرى يوم بدر، واستشار عموم الجيش في ردّ سبي هوازن.
16. الظاهر أنّها لا تكون في الأحكام الشرعية لأنّ الأحكام إن كانت بوحي فظاهر، وإن كانت اجتهادية، بناء على جواز الاجتهاد للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأمور الشرعية، فالاجتهاد إنّما يستند للأدلّة لا للآراء وإذا كان المجتهد من أمّته لا يستشير في اجتهاده، فكيف تجب الاستشارة على النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أنّه لو اجتهد وقلنا بجواز الخطإ عليه فإنّه لا يقرّ على خطأ باتّفاق العلماء.، ولم يزل من سنّة خلفاء العدل استشارة أهل الرأي في مصالح المسلمين، أخرج الخطيب عن عليّ قال: قلت: يا رسول الله الأمر ينزل بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء ـ قال اجمعوا له العابد من أمّتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد)
17. هذا والشورى ممّا جبل لله عليه الإنسان في فطرته السليمة أي فطره على محبّة الصلاح وتطلّب النجاح في المساعي، ولذلك قرن الله تعالى خلق أصل البشر بالتّشاور في شأنه إذ قال للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، إذ قد غني الله عن إعانة المخلوقات في الرأي ولكنّه عرض على الملائكة مراده ليكون التّشاور سنّة في البشر ضرورة أنّه مقترن بتكوينه، فإنّ مقارنة الشيء للشيء في أصل التكوين يوجب إلفه وتعارفه.
18. لمّا كانت الشورى معنى من المعاني لا ذات لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التكوين، ولم تزل الشورى في أطوار التاريخ رائجة في البشر فقد استشار فرعون في شأن موسى ـ عليه السّلام ـ فيما حكى الله عنه بقوله: ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الأعراف: 110]، واستشارت بلقيس في شأن سليمان عليه السلام فيما حكى الله عنها بقوله: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ وإنّما يلهي النّاس عنها حبّ الاستبداد، وكراهية سماع ما يخالف الهوى، وذلك من انحراف الطبائع وليس من أصل الفطرة، ولذلك يهرع المستبدّ إلى الشورى عند المضائق، قال ابن عبد البرّ في بهجة المجالس: الشورى محمودة عند عامّة العلماء ولا أعلم أحدا رضي الاستبداد إلّا رجل مفتون مخادع لمن يطلب عنده فائدة، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة، وكلا الرجلين فاسق، ومثل أوّلهما قول عمر بن أبي ربيعة:
çواستبدّت مرّة واحدة...إنّما العاجز من لا يستبدّé
ومثل ثانيهما قول سعد بن ناشب:
çإذا همّ ألقى بين عينيه عزمه...ونكّب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في أمره غير نفسه...ولم يرض إلا قائم السيف صاحباé
ومن أحسن ما قيل في الشورى قول بشار بن برد:
çإذا بلغ الرأي المشورة فاستعن...بحزم نصيح أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة...مكان الخوافي قوّة للقوادمé
وهي أبيات كثيرة مثبتة في كتب الأدب.
19. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ العزم هو تصميم الرأي على الفعل وحذف متعلّق (عزمت) لأنّه دلّ عليه التفريع عن قوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، فالتقدير: فإذا عزمت على الأمر، وقد ظهر من التفريع أنّ المراد: فإذا عزمت بعد الشورى أي تبيّن لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فعزمت على تنفيذه سواء كان على وفق بعض آراء أهل الشورى أم كان رأيا آخر لاح للرّسول سداده فقد يخرج من آراء أهل الشورى رأي، وفي المثل: (ما بين الرأيين رأي)
20. ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ التوكّل حقيقته الاعتماد، وهو هنا مجاز في الشروع في الفعل مع رجاء السداد فيه من الله، وهو شأن أهل الإيمان، فالتوكّل انفعال قلبي عقلي يتوجّه به الفاعل إلى الله راجيا الإعانة ومستعيذا من الخيبة والعوائق، وربّما رافقه قول لساني وهو الدعاء بذلك، وبذلك يظهر أن قوله: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ دليل على جواب إذا، وفرع عنه، والتقدير: فإذا عزمت فبادر ولا تتأخّر وتوكّل على الله، لأنّ للتأخّر آفات، والتردّد يضيّع الأوقات، ولو كان التّوكل هو جواب إذا لما كان للشورى فائدة لأنّ الشورى كما علمت لقصد استظهار أنفع الوسائل لحصول الفعل المرغوب على أحسن وجه وأقربه، فإنّ القصد منها العمل بما يتّضح منها، ولو كان المراد حصول التوكّل من أوّل خطور الخاطر، لما كان للأمر بالشورى من فائدة، وهذه الآية أوضح آية في الإرشاد إلى معنى التّوكل الّذي حرف القاصرون ومن كان على شاكلتهم معناه، فأفسدوا هذا الدين من مبناه.
21. ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ لأنّ التوكّل علامة صدق الإيمان، وفيه ملاحظة عظمة الله وقدرته، واعتقاد الحاجة إليه، وعدم الاستغناء عنه وهذا، أدب عظيم مع الخالق يدلّ على محبّة العبد ربّه فلذلك أحبّه الله.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/266.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين سبحانه حال المؤمنين قبيل المعركة في غزوة أحد، وبعدها، وفي أثنائها وما أصابهم من غم، ثم بين سبحانه دواء أسقامهم، ودعاهم إلى استئناف الجهاد، وإن يكونوا قد مسهم قرح، فقد مس القوم قرح مثله، وقد بين سبحانه أسباب الهزيمة ليتوقوها، فإن الغلط الذي يعلّم الصواب خير، وليس بشرّ، ولقد بين بعد ذلك سبحانه حال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في القيادة الحكيمة، وما اتبعه وما تحلى به، وأمره سبحانه وتعالى بالاستمرار عليها، فبين سبحانه أن القيادة الحكيمة تكون مع العزيمة رحيمة، ومع استقبال الأحداث بقوة تكون خالية من الفظاظة والقسوة، وتلتزم الصفح عن الخطأ ليعتزموا الصواب، والاستغفار من الذنب لتجدد التوبة، ولذا قال تعالى في حال النبيّ ، وما انبعث منه في موقفه يوم أحد، فقال تعالت كلماته: ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
2. ﴿فَبِما﴾ (الباء) هنا باء السببية، و(ما) زائدة في الإعراب، ولكنها في المعنى لتقوية معنى الرحمة، والمعنى: بسبب رحمة أي رحمة عظيمة فياضة أفاضها المولى العلى القدير كنت ليّنا معهم في كل أحوالك، وكنت لينا لهم بعد الأخطاء التي وقعوا فيها، والكارثة التي نتجت عن مخالفتك، فما لمتهم، ولا عنّفتهم بل سكتّ حيث رأيت ما أصابهم من غم استغرقهم، وحزن استولى عليهم.
3. لقد شكر الله سبحانه وتعالى لنبيه ذلك اللين؛ إذ لم يؤاخذهم، ولم يفرط في القول معهم؛ لأن اللوم على الماضي ييئس النفس من غير جدوى، وهو رجعة إلى الوراء، والقائد الحكيم يتجه إلى الأمام، ولا يلتفت إلى ورائه إلا بمقدار ما ينير له السبيل أمامه، وبمقدار ما يجنبه خطأ وقع فيه، وبمقدار ما يحفز همة من معه، ويشحذ عزيمتهم، وإن المبالغة في اللوم على ما وقع في الماضي يلقى باليأس، وفي اليأس الهزيمة، واليأس والقنوط إسراف على النفس بالهموم، ولا نجاح لمن في هم دائم، وحزن واصب، فكان لين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم معهم في هذه الآلام التي أصابتهم كالبلسم الشافي لأسقامهم، والقائد الماهر الحكيم يجب أن يجمع إلى العزيمة القوية الموجهة إلى العمل البشر ولين العريكة، وتسهيل الخروج من أوضار الخطأ، حتى لا يعنتهم ولا يبهظهم، وحسبهم ما أصابهم، وإن الشدة في مثل هذه الأحوال والغلظة في القول والعمل تنفر ولا تجمع، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله: ﴿ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
4. ﴿ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ هذا النص الكريم يثبت أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس فظا ولا غليظا ولا قاسيا؛ لأن (لو) تدل على نفى الجواب لنفى الشرط، والمعنى أنك لست فظا ولا غليظ القلب، وهذا هو الذي يتفق مع صفات النبوة والقيادة الحكيمة الرشيدة الهادية الموجهة إلى أمثل الطرق الجامعة للقلوب، لأنك لو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك، والفظاظة خشونة المظهر، والعشرة السّيّئة، وسوء القول، وتجهّم الوجه؛ وغلظ القلب قسوته، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن نبيه الغلظة في المظهر والباطن، فالغلظة في المظهر هي الفظاظة، والغلظة في الباطن قسوة القلب وكلا الوضعين من شأنه أن ينفر، ولقد قال الله تعالى في وصف نبيه: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة]، وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم باشا لطيف المعشر متسامحا رحيما لا يقسو ولا يعنّت أحدا ولا يغضب ولا يسب، وما ضرب أحدا بيده قط، وكان سهلا في معاملاته متسامحا، وكان طلق الوجه دائما، رآه أعرابي، فاسترعاه بشاشته وطلق محياه فقال له: أأنت الذي تقول عنه قريش إنه كذاب؟ والله ما هذا الوجه بوجه كذاب!، وأسلم إذ دعاه النبيّ ، ولقد وصف عبد الله بن عمرو بن العاص النبيّ ، فقال: (إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزى السيئة بمثلها، ولكن يعفو ويصفح)، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يثير غيظه شيء، ويدارى الناس إلا أن يكون في المداراة حق مضيع، ولقد روت عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض)
5. إذا كانت الغلظة منفرة فالعفو جامع، ولذلك أمر الله تعالى نبيه الكريم بما يترتب على الرفق والبشاشة، وهو العفو فقال: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، الفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه يترتب على اتصافك بالعفو والرحمة والبشاشة، والبعد عن الفظاظة وغلظ القلب أن تكون عفوا، ولذا أمره سبحانه بالعفو عن المخالفة التي وقعوا فيها، وترتب عليها ما ترتب من هزيمة وفوات فرصة، وإن العفو في هذه الحال ليس للرحمة فقط، بل هو للمصلحة أيضا؛ لأنه يشحذ العزائم، إذ هو يقيل من العثرة، ويرفع من الكبوة، وعندئذ تستقيم القلوب نحو الحق، كما قامت الأجسام بعد الوقوع.
6. أمره سبحانه بأن يستغفر لهم، بأن يطلب من الله أن يغفر لهم ما أساؤوا، وأن يغفر هو لهم هذا الخطأ، وإن في استغفاره الله تعالى لهم، وإعلانه ذلك الاستغفار بينهم تأكيدا لعفوه، وتشجيعا، وضراعة إليه سبحانه أن يجعل حاضرهم وقابلهم خيرا من ماضيهم الذي أخطئوا فيه.
7. وقد أمر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بأمر ثالث، وهو أن يشاورهم، وإن المشاورة من بعد ما كان منهم دليل على عفو النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد عفو الله تعالى وغفرانه؛ لأن مما أخطئوا فيه في الماضي أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم شاورهم في أمر الخروج إلى لقاء المشركين في أحد، وأنه كان يميل إلى البقاء حتى يدخلوا المدينة، وشبابهم كان يريد الخروج، فنزل صلّى الله عليه وآله وسلّم عند رأيهم، ثم كان ما كان منهم من أن طائفتين همّتا بأن تفشلا، ثم ما كان من خروج الرماة عن مواقفهم، ولو بقوا في المدينة ما وقع هذا، ولكن الله سبحانه مع ذلك أمره بمشاورتهم للإعلان عن سماحته المطلقة، ولأن المشاورة إن أخطأت فيها النتيجة مرة، فصوابها كثير.
8. الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، قد التزمها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل أمر كان يمس أمور المسلمين العامة فقد استشار في غزوة بدر قبل وقوعها، واستشار في الأسارى غبّ وقوعها، واستشار في أحد، واستشار في غزوة الأحزاب، وكان من نتائج الشورى حفر الخندق والتحصن وراءه، واستشار في القتال يوم الحديبية.. وما اضطرب حبل الأمور من بعد إلا عندما منعت أمر الشورى.
9. الأمر الذي وجه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الشورى قال بعضهم إنه أمر إلزام، وقال آخرون إنه بالنسبة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس أمر إلزام، بل طلب استحباب، ولكن الأكثرين على أنه أمر إلزام، بدليل التزام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم للمشاورة في كل أمر يمس مصلحة المسلمين في السلم أو في الحرب، ولم يكن تبليغا لرسالة ربه؛ وإن أفعال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تعليم لنا.
10. من المتفق عليه أن الشورى لازمة بالنسبة لغير النبيّ ، ولذلك قال تعالى: ﴿وأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى] أي الأمر الجامع للمسلمين يكون بالشورى وتبادل الآراء، والتعاون والإخلاص في القول، ولذا يقول النبيّ : (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، والنصيحة لعامة المؤمنين هي بالشورى التي تبدى فيها الآراء لله وحده، لا لشيء سواه، ولا لطلب الجاه عند الناس.
11. سؤال وإشكال: مع اتفاق الفقهاء على أن الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام لم نجد نصا قرآنيا وضع منهاجا لها، ولم نجد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وضح أسسها وطرائقها، نعم إنه كان يستشير من معه من أهل المدينة، فلما ذا لم يبين ذلك في كتاب ولا سنة؟ والجواب: أن مناهج الشورى تختلف باختلاف الجماعات وباختلاف الأحوال، وباختلاف الموضوعات ولا يوجد نظام ضابط لكل ذلك، بل ترك سن النظام للناس، ولا بد أن يتحقق معنى الشورى في النظام على أن يكون أهل الشورى من ذوى العلم والخبرة، ففي أمور الحروب يستشار أهل الحرب، وفي أمور القانون يستشار الفقهاء والمشرعون، وفي أمور العمران يستشار أهل الهندسة، ولذلك تتألف اللجان في المجالس النيابية من أهل الخبرة في كل أمر من أمور العامة، وفي الجملة فإن الشورى مطلب كالعدل، يجب تحققه من أقرب الوسائل إليه توصيلا، ولقد جاء في تفسير القرطبي ما نصه: (والشورى بركة، وقال : (ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار) وروى سهل بن سعد الساعدى عن رسول الله : (ما شقى قط عبد بمشورة، وما سعد باستغناء رأى)
12. يجب أن نعلم حقيقتين ثابتتين:
أ. أولاهما: أن الشورى إحساس نفسي من الحاكم يدفعه إلى طلب أمثل الطرق للحكم وتحقيق العدالة والمصلحة، فإن لم يكن في الحاكم ذلك الخلق، فإنه لا ينتفع بأي نظام للشورى مهما يكن، وإذا لم يكن المستشار يحس بأن إبداء القول في الشورى واجب عليه وليس مجرد حق له فإنه لا يمكن أن يكون من رجال الشورى.
ب. ثانيهما: أنه لا يعادى الشورى من الحكام إلا أحد اثنين إما رجل قد أصابه داء الغرور، فظن أن قوله الحق الذي لا يخالطه باطل، وإما رجل يخاف من اطلاع الناس حتى لا يظهر شيء من أموره.
13. المشاورة لها وقت معلوم، وهو وقت الدراسة والفحص، فإذا تمت المشاورة وجب الأخذ بالعزيمة في الأمر والإقدام على العمل؛ ولذا قال سبحانه بعد الأمر بالشورى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾
14. العزيمة عقد النية على إتمام الأمر بعد الاستشارة، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اشترط لتحقق العزم سبق الاستشارة فاعتبر الشورى ركنا من أركان العزم، فقد سئل صلّى الله عليه وآله وسلّم عن العزم، فقال: (مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم)، وفي النص القرآني الكريم، والحديث النبوي الشريف إشارة إلى أنه بعد تعرف كل وجوه الرأي يكون الاعتزام ثم يكون العمل، ولا يصح أن تكون مشاورة أخرى بعد الدراسة العميقة السابقة إلا إذا جد أمر لم يكن في الحسبان ولم يكن في تقدير الذين استشيروا أولا فإنه يعاد النظر إليهم، وفي غير هذه الصورة تكون العودة إلى الاستشارة ترددا يدعو إلى الهزيمة والاضطراب، ولا يصح أن يكون التعصب لرأى إذا لم يؤخذ به باعثا على إعادة النظر، فإن ذلك استبداد من أصحاب هذا الرأي وفوضى في الشورى؛ لأن ما يعتزم من آراء بعد الشورى هو رأى الجميع، ويجب أن يفنى معه كل رأى معارض وإن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أنه في غزوة أحد كان يرى البقاء في المدينة حتى يجيء إليها المشركون فيضيعوا في طرقها وأزقتها، وتكون الدور حصونا يرمون منها ولكن الكثرة رأت غيره، فنزل على رأيها، وأمضى الأمر، ولما وجدت حركة تدعو إلى رأيه وتكونت له كثرة، قال الرسول الحازم الرشيد: (لا ينبغي لنبي يلبس لأمته أن يضعها، حتى يحكم الله) واللأمة: الدرع أو السلاح.
15. أمر سبحانه وتعالى بالتوكل بعد المشاورة وأخذ الأهبة، وأن يكون التوكل مصاحبا للعزيمة والإقدام على العمل، وإن ذلك يستفاد منه أن التوكل على الله تعالى حق التوكل لا بد أن يقترن بالعمل، وأن يسبقه دراسة للموضوع من كل نواحيه، وإن التوكل بعد ذلك أمر لا بد منه؛ لأن العلم بالحق الأمثل من المناهج والأعمال عند علام الغيوب، فمهما يكن علم الإنسان فهو ناقص، فالتوكل عليه سبحانه فيه معنى الشعور بالنقص الإنساني مهما يظهر كماله، ولأن الله تعالى خالق الأسباب والمسببات، وهو القادر على تغييرها، أو جعل الأمور على غير ما توجبه أسبابها، فالتوكل عليه ضراعة وإحساس بالكمال المطلق لله تعالى وقدرته الشاملة الكاملة على كل ما خلق، وإن عدم التفويض مع العمل غرور من الإنسان، واستعلاء بغير سبب، وإنه مهما يدبر الإنسان فقد يخطئه التنفيذ كما كان في غزوة أحد.
16. يجب أن نقرر هنا حقيقتين:
أ. إحداهما: أن قدرة الله تعالى واضحة في نتائج الأفعال، فعليه المعتمد، ألم تر إلى رجلين يبذران بذرا، ويلقيانه في قطع متجاورات من الأرض، ويأتي الله لأحدهما بأبرك الثمرات، والآخر تأكل الآفات زرعه وكلاهما احتاط وأخذ بالأسباب.
ب. الثانية: أن الاتكال على الله تعالى ذكر لله، فتطمئن القلوب ويذهب الخوف والجزع ويكون الإقدام.
17. لهذه المعاني النفسية العالية في التوكل الحق صرح بحب المتوكلين المولى العلى القدير فقال تعالت كلماته: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ وأي منزلة أعلى في الوجود من هذه المحبة التي تتضمن الرضا، ورضوان الله أكبر من كل شيء، فكيف تكون محبته، والمتوكل على الله حق توكله قد تسامى بنفسه عن أعلاق الأرض، ودرج بنفسه في مدارج الروحانية؛ لأنه اعتبر إرادته وعزيمته وتدبيره وعمله ليست بشيء بجوار قدرة الله.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1474.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾، خاطب الله سبحانه صحابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما سبق من الآيات، ثم اتجه بهذه الآية إلى نبيه الكريم ، وسبق البيان ان المسلمين خالفوا أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، وكان من نتيجة مخالفتهم وعصيانهم لنبيهم ان انقلبوا على أعقابهم منهزمين، وتركوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عند الشدة، حيث كانت الحرب قائمة على قدم وساق، حتى أثخنه الأعداء بالجراح، فكسرت رباعيته، وشج وجهه، ونزفت جراحه، وهو صامد مع نفر قليل، يدعو الفارين، ولا يستجيبون له، وبعد ان انتهت المعركة رجع المسلمون إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم يعنفهم، ويخاطبهم بالملامة، وهم مستحقون لأكثر منها.. بل تجاهل كل شيء، ورحب بهم، وكلمهم برفق ولين، وما هذا الرفق واللين الا رحمة من الله بنبيه وعون له على رباطة الجأش وضبط الأعصاب.
2. إذا مدح الله نبيه بكظم الغيظ والرفق بأصحابه على إساءتهم له فبالأولى أن يعفو الله ويصفح عن عباده المسيئين.. قال الإمام علي عليه السلام في وصف الباري جل وعز: (لا يشغله غضب عن رحمته)، وفي الدعاء المأثور: يا من سبقت رحمته غضبه.
3. ثم بيّن سبحانه الحكمة من لين جانب نبيه الكريم ، بخطابه له: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، وشمت العدو بك، وطمع فيك، ولم يتم أمرك وتنتشر رسالتك.. ان المقصود من بعثة الرسول هداية الخلق إلى الحق، وهم لا يستمعون إلا لمن تميل قلوبهم اليه، وتسكن نفوسهم لديه، والنفوس لا تسكن ولا تركن إلا إلى قلب رحيم كبير، كقلب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي وسع الناس، كل الناس، وما ضاق بجهل جاهل، أو ضعف ضعيف، بل كان يأمر بالرحمة بالحيوان ويقول: إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ليحد أحدكم شفرته، ليريح ذبيحته، وقال: لكل كبد أجر.
4. ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾، فيما يتعلق بحقك الخاص، حيث تركوه في ساعة الشدة، حتى أثخن بالجراح، ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ﴾، فيما يختص بحقوق الله تعالى، حيث عصوه بالهزيمة وترك القتال.. وقوله تعالى لنبيه: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ يدل بالفحوى على ان الله سبحانه قد عفا عنهم، وغفر لهم، وإلا لم يأمر نبيه بذلك.
5. ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، قال الرازي: ذهب كثير من العلماء إلى ان الألف واللام في لفظ الأمر ليسا للاستغراق، بل للعهد، والمعهود في هذه الآية الحرب ولقاء العدو، فيكون قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ مختصا بالحرب فقط، وقال آخرون: انه يشمل جميع الأمور الدنيوية دون غيرها.. ثم نقل الرازي عن الشافعي ان شاورهم هنا للندب لا للوجوب.. والحكمة في المشورة أن تطيب قلوبهم، وترتاح نفوسهم.. وهذا القول أقرب إلى الاعتبار، لأن المعصوم لا يسترشد برأي غير المعصوم، ومهما يكن، فان الدين بعقيدته وشريعته هو من وحي السماء، وليس لأحد فيه رأي، حتى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنه مبلغ لا مشرّع، وقد خاطبه الله بقوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾.. ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ﴾
6. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾، أي إذا عقدت الرأي على فعل شيء بسبب المشورة أو غيرها فامض في التنفيذ، على أن تأخذ الاهبة، وتستكمل العدة معتمدا على إعانة الله وحده في النجاح والظفر.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/189.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ إلى آخر الآية، الفظ هو الجافي القاسي، وغلظ القلب كناية عن عدم رقته ورأفته، والانفضاض التفرق، وفي الآية التفات عن خطابهم إلى خطاب رسول الله ، وأصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا برحمة منا، ولذلك أمرناه أن يعفو عنكم ويستغفر لكم ويشاوركم في الأمر وأن يتوكل علينا إذا عزم.
2. نكتة الالتفات ما تقدم في أول آيات الغزوة أن الكلام فيه شوب عتاب وتوبيخ، ولذلك اشتمل على بعض الأعراض في ما يناسبه من الموارد ومنها هذا المورد الذي يتعرض فيه لبيان حال من أحوالهم لها مساس بالاعتراض على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فإن تحزنهم لقتل من قتل منهم ربما دلهم على المناقشة في فعل النبي ، ورميه بأنه أوردهم مورد القتل والاستيصال، فأعرض الله تعالى عن مخاطبتهم والتفت إلى نبيه ص فخاطبه بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾
3. الكلام متفرع على كلام آخر يدل عليه السياق، والتقدير: وإذا كان حالهم ما تراه من التشبه بالذين كفروا والتحسر على قتلاهم فبرحمة منا لنت لهم وإلا لانفضوا من حولك.
4. ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ إنما سيق ليكون إمضاء لسيرته صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنه كذلك كان يفعل، وقد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم أحد، وفيه إشعار بأنه إنما يفعل ما يؤمر والله سبحانه عن فعله راض، وقد أمر الله تعالى نبيه ص أن يعفو عنهم فلا يرتب على فعالهم أثر المعصية، وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم ـ وهو تعالى فاعله لا محالة ـ واللفظ وإن كان مطلقا لا يختص بالمورد غير أنه لا يشمل موارد الحدود الشرعية وما يناظرها وإلا لغا التشريع، على أن تعقيبه بقوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ لا يخلو عن الإشعار بأن هذين الأمرين إنما هما في ظرف الولاية وتدبير الأمور العامة مما يجري فيه المشاورة معهم.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/57.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (الفاء) للتفريع على ما سبق منهم من المخالفة قبل الهزيمة، والمخالفة بالهزيمة، فتفرع الكلام في لين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم بعد هذه المخالفات، وهو أن هذا اللين كان بـ ﴿رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ لهم لأنه الذي جعلك على خلق عظيم، وهداك للرفق بهم، واللين بعد أن صدر منهم ما يدعو إلى الإغلاظ عليهم في معاملة قادة الجيوش.
2. الضمير في قوله: ﴿لَهُمْ﴾ لأصحابه، قال في (الصحاح): (الفظ: الرجل الغليظ)، أي سيئ الخلق، كقول الشاعر:
çجعلت جزائي غلظة وفظاظة... كأنك أنت المنعم المتفضلé
3. غليظ القلب: قاسي القلب قليل الرحمة، أو لا يرحم، ﴿لَانْفَضُّوا﴾ لتفرقوا ﴿مِنْ حَوْلِكَ﴾ بعد إجتماعهم.
4. ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ وهذه زيادة في اللين وقوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ يتناول ما قد وقع من الخلاف يوم أحد أوقبله، وقوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ﴾ يتناول هذه الحادثة في أحد، وما جرى مجراها مما ندموا وتابوا منه.
5. ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ في الشأن المهم، غير ما حكم الله فيه بحكمه، مثل تدبير حرب أو صلح، والمشاورة: أن يشير النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم برأيه ويعرضه عليهم، ويطلب منهم إبداء ما يرون أنه الأحسن، قال الراغب في (مفردات القرآن): (والمشاورة، والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض، من قولهم: شُرتُ العسل: إذا اتخذته من موضعه واستخرجته منه)، قال الشرفي في (المصابيح): (والأمر هنا الحرب وغيره مما ليس فيه وحي)، يعني بالحرب: التفاصيل فيها كما شاورهم صلّى الله عليه وآله وسلّم هل يلقون العدو ليقاتلوهم أو يبقون في المدينة فإذا جاءوهم قاتلوهم فيها، فأما الحرب جملة فقد جاء فيها في (سورة الأنفال) و(سورة الحج) ما يدل على القتال للمدافعة، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله﴾ [الأنفال:39]
6. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ على أمر بعد المشاورة فأمض له وتوكل ﴿عَلَى اللهِ﴾ كِل أمرك إليه، وإلى حسن رعايته لك، ولا تتردد وتعاود المشاورة، بل امض اعتماداً على ما يدبره الله لك، قال الشرفي في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: الواجب الإقتداء برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب:21]) لعله عليه السلام يعني ما ذكر في الآية كله.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/566.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تنفصل السورة قليلا عن أجواء الحرب وما يثأر فيها من سلبيّات وإيجابيات في الكلمة والحركة والفكرة، لتلتقي بالصورة المشرقة المتمثلة في رسول الله ، في قلبه الكبير الرحيم الرقيق الذي يتسع لكل مشاكل المسلمين وأخطائهم، فلا يتعقد ولا يتشنّج ولا يضيق ولا يقسو، بل ينفتح ويتسع ويرقّ ويلين، وفي أسلوبه الرقيق الذي يتفايض بالأحاسيس الطيّبة والمشاعر الطاهرة والنبضات الرحيمة، فلا تتحرك كلماته من موقع قسوة لتؤذي المشاعر، ولا تنطلق من حالة فظاظة لتدمي الإحساس، بل هو اللين والرحمة واللطف والعاطفة الحميمة التي تدخل إلى القلوب بكل عفويّة وبساطة ومحبّة.
2. تلك هي شخصية الإنسان الرساليّ في ما يريده الإسلام للرسالة من سمات في حركة الرسول والداعية، فقد ينبغي أن نتعلم من شخصية رسول الله في خطواته العملية في أسلوبه في الدعوة، أنّ علينا التوقف أمام حقيقة إنسانيّة إسلاميّة، وهي أن أخلاقية الرسول أساسيّة في حركة الرسالة، فلا يكفي في نجاحه أو نجاحها أن يملك الفكر العميق الذي يستطيع من خلاله أن يقنع الآخرين بالحجة والبرهان، أو يملك القوّة العظيمة التي يسيطر بها على خصومه بالوسائل العنيفة القاسية، بل يجب أن يتّصف بالأخلاق العالية التي لا تعيش في خارج ذاته بطريقة تمثيليّة ظاهريّة، بل تتعمق في داخل الذات رحمة ومحبة وانفتاحا على الناس ووعيا للظروف الموضوعية المحيطة بهم، ليكون التعامل معهم من موقع الفهم الواعي لمشاكلهم الحقيقية ولنوازعهم الذاتية، فتتحرك الرحمة في نفس الرسول، في ممارسته لأسلوب رسالته، في دراسة كلّ المؤثّرات في ما يختاره من الكلمات اللطيفة والأساليب الحكيمة والأجواء الموحية، لتصل الدعوة إلى قلوب الناس في الوقت الذي تصل فيه إلى عقولهم، لأن قيمة الرسالة في حركة الشخصية الإسلامية، تتمثل في تحوّلها إلى وعي للفكرة في عمق الذات وانسجام عفويّ مع كلّ آفاقها وأفكارها، بحيث تنطلق منها انطلاقة النهر من قلب الينابيع والشعاع المتفجّر من قلب الشمس.
3. هكذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أسلوب رسالته الذي يمثّل أسلوب شخصيته في خلقه العظيم وقلبه الكبير، فاستطاع من خلال ذلك أن يدخل الرسالة إلى كل قلب، وأن يطلق صوتها في كلّ فمّ، وأن يحرّك شريعته في قلب كل مساحة من مساحات الحياة.. وهذا هو سرّ نجاح الداعية في الدعوة، فليس له أن يستسلم لنوازعه الذاتية ليفرضها على الدعوة، بل ينبغي له أن يصوغ شخصيته صياغة إسلاميّة، تنبع من روح الإسلام وخلقه كما تتحرك مع فكره، ويترك مزاجه الشخصي لأجوائه الفرديّة التي تبتعد عن جوّ الدعوة والعمل.
4. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ أي فبرحمة وما زائدة بإجماع المفسرين ـ قاله صاحب مجمع البيان ـ قال ومثله قوله: عما قليل، جاءت (ما) مؤكدة للكلام ودخولها تحسن النظم كدخولها لاتزان الشعر في نحو قول عنترة:
çيا شاة ما قنص لمن حلّت له...حرمت علي وليتها لم تحرمé
ويكون معنى الآية: أي بسبب الرحمة التي رحم الله بها المسلمين الذين اتبعوك وآمنوا بك، ما أودعه في شخصيتك الرسالية في محبتها لهم وانفتاحها على قضاياهم وإحساسها بالمسؤولية في تثبيتهم على الخط الإيماني والتزامهم به، وفي إبعادهم عن حالة الاهتزاز النفسي التي قد تحركها في الذات الأجواء السلبية، التي قد تسيطر عليها من خلال ردود الفعل على قسوة هنا وغضب هناك، وتشنج من الداعية في بعض المواقع.
5. ﴿لِنْتَ لَهُمْ﴾ فكنت الرقيق في أسلوبك وكلامك معهم وخطابك لهم، والرّقيق في نبضات قلبك أمام آلامهم وأحلامهم ومشاكلهم، والمتسامح معهم إذا أخطئوا، والمتساهل معهم إذا خالفوا تعاليمك، وذلك هو سر العظمة في أخلاقه النبوية وروحيته الإنسانية وسلوكيته الإسلامية التي تعمق إحساس النبي بالآخرين في خط الانتماء، وانفتاح الإنسان على الناس الذين يلتقي بهم في الخط الفكري والعملي، لتأكيد الانتماء والعلاقة القوية وحركية المسلم الداعية في تقوية روحية المسلمين في مواقع الصراع.
6. ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا﴾ أي فظ اللسان والطباع، خشن المعاملة، سيّئ الخلق، ﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ في قسوة الإحساس الداخلي في خفقاته ونبضاته بالطريقة السلبية، ﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ أي لتفرقوا عنك، لأن الناس يبتعدون عن أي شخص يغلق قلبه عنهم، ويقسو في المعاملة معهم، ويضغط بالخلق السّيّء على مشاعرهم، لأن النفس مجبولة على النفور ممن يسيء إليها، كما هي مجبولة على حب من أحسن إليها، وهكذا كنت ـ يا محمد ـ تمثل الرسول القائد الذي ينطلق بروحية الرسالة وعفوية الإنسانية لاحتضان الناس الذين اتبعوه وعاشوا معه، كوسيلة من وسائل تأكيد قوة الرسالة في جمهورها والتزام جمهورها بقيادتهم الحكيمة الحميمة.
7. لا بد للرسول في الدعوة، وللداعية في وعيه للعمل، من أن يعيش الأجواء الواقعية للمسلمين في ما يقعون فيه من الأخطاء، أو يتأثرون به من الانحرافات، أو يخضعون له من الضغوط الخاصّة والعامة، انطلاقا من حركة الصراع في داخل النفس التي قد تؤدي إلى الحق، وقد تقع في قبضة الباطل، وذلك بإفساح المجال لهم للتراجع عن الخطأ، والاستقامة في مواقع الانحراف، والرجوع إلى الحق في مواطن الباطل.. بالابتعاد عن الإيحاء الدائم بذلك كعقدة مستعصية غير قابلة للحلّ، أو كجريمة غير خاضعة للعفو، فلا بدّ من إعطاء المجال للعفو عن كل ذلك والمغفرة للفاعلين، للإيحاء لهم بأنّ الخطيئة ليست ضريبة مفروضة على الإنسان، وأنّ الانحراف ليس قدر الإنسان في حركته في الحياة، بل يمكن له أن يتحرر من هذه أو ذاك في عمليّة تجديد الشخصية في خطة روحية فكرية عمليّة، تحتوي كل أوضاع الإنسان في كل ما يقوله وما يفعله، وهذا ما أراد الله سبحانه أن يثيره أمام رسوله: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ داعيا له إلى العفو عن المسلمين الذين يخطئون في حالة السلم وفي حالة الحرب في ما يتعلق بحقوقه كرسول وقائد وحاكم.. وإلى الاستغفار لهم في ما يتعلق بحقوق الله من ترك طاعته والإقبال على معصيته، ليستقيم لهم الطريق من جديد، وتتحرك الطاعة في حياتهم على طريق الله.
8. ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ وهذا توجيه عمليّ آخر يوجّه به الله رسوله، ويوجّه الأمّة من خلاله، وهو مبدأ المشاورة في الأمور التي تمس حياتهم وحياة الإسلام بشكل عام في ما يريد أن يقوم به الرسول من عمل، أو يقرّره من قرار، أو يخطط له من وسائل وأهداف في حالة السلم وفي حالة الحرب، ليحقّق من خلال ذلك أمرين تربويين عمليين في حركة العاملين في الحياة:
أ. الأوّل: التخطيط للسلوك الفردي والاجتماعي على أساس الابتعاد عن الاستبداد بالرأي في اتخاذ المواقف الحاسمة والقرارات المصيريّة، والتأكيد على أن يرجع الإنسان إلى فكر الآخرين الذين يملكون الفكر السليم فيحاورهم ويناقشهم ويستشيرهم في كل خطوة من خطوات العمل، ثم يرجع إلى فكره ليقارن بين الآراء ويدرس كل واحد منها بمفرده بهدوء وموضوعية، لينتهي إلى النتيجة الأخيرة بطريقة فكريّة سليمة، فيعمل على أساسها بقوّة وثبات.
ب. الثاني: إعداد الأمّة التي تمثل القاعدة الواسعة لتفكر مع القيادة في كل ما تريد القيادة أن تقوم به من خطط ومشاريع، لتعرف ـ من موقع الفكر ـ كيف يكون التحرك وأين تقع الوسيلة من خط الهدف، فتتابع القرارات من بدايتها بوعي وتأمل وتركيز، وتتدرّبـ بذلك ـ على ممارسة الدور القيادي في المرحلة الفكرية، من أجل أن تعدّ نفسها لاستلام القيادة في حالات الفراغ بكفاءة وقدرة على اتخاذ القرارات وتخطيط المواقف، وتتعلم كيف تراقب خطوات القيادة غير المعصومة، أو ترصد قراراتها، لئلا تنحرف أو تغفل أو تخون، فتكون بالمرصاد لها من بداية الطريق، قبل أن تتعقد المشكلة ويستفحل الأمر في نهايته، وبذلك يصعب على القيادات المنحرفة التي قد تفرض نفسها على الساحة في المستقبل، أن تمارس حريتها في التلاعب بمقدرات الأمة واللعب على عواطفها ومشاعرها بالكلمات المبهمة، لأن الأمّة قد أعدّت لترصد الحكم في عمليّة محاكمة ومناقشة على أساس تحصيل القناعة من قاعدة الحجة والبرهان المتمثل بحركة الحوار الفكري.
9. تلك هي عظمة التربية الإسلامية التي توحي للقادة، وإن كانوا في مستوى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي لا يحتاج إلى فكر أحد، بأن يبحثوا عن القاعدة التي تفكر وتقتنع لتطيع من خلال ذلك، لا عن القاعدة التي تطيع من دون فهم ووعي، وذلك كوسيلة مثلي من وسائل التحضير العملي لقيادات المستقبل من بين أفراد القاعدة.
10. أثار الكثيرون من المفكرين الإسلاميين في حديثهم عن هذه الفقرة من الآية، موضوع الشورى وعلاقتها بشرعيتها كأساس للحكم الإسلامي، فرأوا في هذه الآية قاعدة التشريع التي توحي للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وللأمّة من خلاله، بأن يعتمد الشورى كأساس للقضايا العامة ليكون ذلك دستورا عمليا شاملا، حتى في الحالات التي لا تحتاج فيها القيادة إلى ذلك كما في حالة وجود إمام معصوم، لكننا لا نستطيع أن نوافق على إخضاع الآية لهذه الفكرة، فإننا لا نلمح فيها مثل هذا الجو، فقد وردت في الحديث عن السلوك العملي للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مع المسلمين كوجه للصورة الإنسانية الإسلاميّة التي تتمثّل فيها إنسانيّة الرسالة وواقعيتها في ما يعيشه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أصحابه من الرحمة في رقّة القلب ولين الكلمة، وفي ما يريد الله له أن يعيشه معهم من العفو عنهم والاستغفار لهم إذا أخطئوا، ومن استشارتهم في الأمر كأسلوب من أساليب تأكيد اهتمامه بهم وتقديره لهم، وإعدادهم من خلال ذلك للمستقبل ليعتادوا على التفكير في الأمور، ولم تتحدث الآية الكريمة عمّا تفرضه الاستشارة من مسئوليات على المستشير إذا لم يقتنع بالرأي المشار به، كما هو المفروض في ما تقتضيه فكرة الشورى في اعتبارها قاعدة لشرعية الحكم في الدولة الإسلامية من حيث الإلزام للأمة بما تفرضه من قرارات وما تستتبعه من التزامات.. بل ربما نستوحي من الفقرة التالية ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ أن الاستشارة لا تفرض شيئا، بل القضية هي إرادة الإنسان وعزمه المنطلق من قناعته بعد الاستشارة سواء كانت منسجمة معها أو غير منسجمة، ويؤكد هذا المعنى، أو يوحي به، بعض الأحاديث الواردة في هذا المجال، فقد جاء في بعضها: لما نزلت ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ قال رسول الله : (أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمّتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ومن تركها لم يعدم غيّا)، وجاء عن علي بن مهزيار قال: كتب إليّ أبو جعفر ـ الإمام محمد الباقر عليه السّلام ـ أن (سل فلانا أن يشير عليّ ويتخيّر لنفسه، فهو يعلم ما يجوز في بلده، وكيف يعامل السلاطين؛ فإن المشورة مباركة، قال الله تعالى لنبيه في محكم كتابه: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾، فإن كان ما يقول ممّا يجوز كنت أصوّب رأيه، وإن كان غير ذلك رجوت أن أضعه على الطريق الواضح إن شاء الله)، وجاء عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام لبعض أصحابه، (أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد)، وقد روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم شاور أصحابه يوم بدر في الذهاب إلى قافلة أبي سفيان فقالوا: يا رسول الله، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماء لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24]، ولكن نقول: اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون.
11. كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في تربيته الناس على الشورى يحضهم على التمييز، في كل مورد يريدون أن يدلوا إليه برأيهم في بعض مسائل الحرب والسلم، بين ما هو تكليف إلهي شرعي، وبين ما هو تدبير بشري صادر عن شخص النبي، ليشيروا عليه بآرائهم فيما لو كان رأيه صلّى الله عليه وآله وسلّم رأيا خاصّا، وهذا ما رواه كتّاب السيرة في يوم بدر، فقد نزل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في موقع هناك، كان أدنى ماء من بدر ـ كما يقولون ـ فقال الحباب بن المنذر يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزله الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، ليس هذا بمنزل، فانهش بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فينزله ثم تفور ما وراءه.. فقال له النبي : لقد أشرت بالرأي، وعمل برأيه، وربما كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقوم بالعمل ليستثير رأي أصحابه بالمناقشة فيه ليفكروا بالرأي البديل، فيدربهم على التفكير في الأمور، ويوجه القيادات من بعده إلى الاستماع إلى آراء القاعدة الشعبية في قرارات القيادة، من أجل تسديد الرأي وتعميق العلاقة بين القيادة والقاعدة على أساس المسؤولية المشتركة في التقرير والتنفيذ، مع الحفاظ على الموقع القيادي للقيادة، لأن مسألة الشورى تتحرك في المرحلة التي تسبق القرار الحاسم في الموقف أو في المعركة.
12. لا بد لنا من التدقيق في الروايات التي تتحدث عن مشاورة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للمسلمين من حيث توثيق رواتها ودراسة مضمونها، لأن بعض هذه الروايات تسيء إلى صورة وعي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للرسالة وإنسانيته في نظرته إلى الناس؛ كما جاء في رواية أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شاور أصحابه في يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين، فقال له أبو بكر: إنا لم نجئ لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قال فنحن نلاحظ أن هذه الرواية توحي بأن أبا بكر كان أكثر وعيا للمهمة التي جاء المسلمون لتنفيذها من رسول الله ، في الوقت الذي نعرف فيه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي قادهم على أساس القيام بالعمرة لا على أساس القتال، ولذلك لم يجيء مقاتلا في حال استعداد شامل للقتال، لأنه كان يهيّئ الظروف والأسباب لفتح مكة، ثم كيف يفكر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الإجهاز على الذراري، في الوقت الذي لم يبدأ فيه القتال مع المشركين المعاندين!؟ وكيف يمكن لنا أن نقدم صورة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي يفكر في قتل النساء والأطفال الصغار قبل الدخول في حرب، في الوقت الذي تتمثل فيه صورة النبي ـ الإنسان ـ في القرآن وفي السنة في كل أقواله وأفعاله، وهذا يفرض علينا أن ندرس شخصية الرواة الذين رووا هذه الرواية قبل الأخذ بها، وندقق في مفرداتها التي لا تتناسب مع صورة النبي الحقيقية الرسالية في إنسانيته وأخلاقيته وحكمته وعدالته، في النظر إلى الأشياء من مواقع المسؤولية العملية مع الناس.
13. إذا كنا قد لاحظنا في فهمنا للآية أنها لا تطرح الشورى كقاعدة ملزمة في حركة القيادة، فإننا نحاول أن نؤكّد أن المسألة تتجاوز أخلاقية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في صفته الإنسانية إلى موقعه في صفته القيادية، سواء من حيث سلوك القائد مع القاعدة، أو من حيث مسئوليته في التعرف على آراء الناس الآخرين في حركة القضايا المتصلة بالمسيرة الإسلامية، لأن الإسلام يرفض استبداد القائد في حركته العامة من الناحية الأخلاقية أو السياسية، ولهذا فإن الأمر بالمشاورة للناس في هذه الآية ينطلق من الخط العام، بعيدا عما إذا كان النبي محتاجا لذلك في الواقع الخارجي أو غير محتاج، مما يعني أن على القائد أن ينفتح على شعبه من خلال الشورى ليكون حكمه منسجما مع الخط الإسلامي العام في هذه القضية الحيوية المهمّة، وفي غيرها من القضايا الجزئية والكلية في حياة الناس، لأن المسألة لا تتصل بالجانب الذاتي في شخصيته بل بالجانب العام في حكمه.
14. لا تقتصر مسألة الشورى على الدائرة القيادية، بل تمتد إلى الواقع العام للناس لأنها من المسائل الحية التي تكفل لهم المزيد من الانفتاح على بعضهم البعض في موقع الفكر المشترك في كل قضاياهم، كما تمنع الكثير من الزلل الذي يقع فيه المستبدون من خلال استبدادهم في إدارة أمورهم، ولذلك اعتبرها الإسلام عنوانا من عناوين المجتمع الإسلامي في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ فإن المؤمن ينطلق في حياته من موقع العزم المرتكز على الفكر الذاتي والاستشارة، لدراسة كل الجوانب المحيطة بالموضوع، حتى إذا استكمل كل الأسباب الموضوعية للقرار، أعطى الموقف قوّة الإلزام من إرادته، وتحرّك نحو الهدف متوكلا على الله غير خائف من الطوارئ التي تعيش في أجواء الغيب المجهول، لأن الثقة بالله تدفع الإنسان إلى الثقة بالموقف، فإن الله قد تكفّل لعبده المتوكل عليه بأن يكفيه ما أهمّه مما لم يحتسبه من أوضاع إذا أعدّ كل ما يحتسبه من أسباب ومؤثرات، وذلك هو معنى التوكل في ما يجمعه من واقعية النظرة إلى الساحة، وغيبيّة الاستسلام للمستقبل المجهول بالاعتماد على الله.
15. ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ لأنهم يمثّلون في توكلهم عليه، قوّة الثقة به والاعتماد عليه، وينطلقون من سنّته الحكيمة إلى الكون في ما أراده من توفير الوسائل للحركة من خلال ما أودعه في الحياة من ذلك كله.. وبذلك يخلصون له بالإخلاص لسننه، وبالإخلاص العميق لقدرته التي تحمي الإنسان من كل مفاجات المجهول.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/339.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية وإن كانت تتضمن سلسلة من التعاليم الكلية الموجهة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتشتمل من حيث المحتوى على برامج كلية وأساسية، ولكنها من حيث النزول ترتبط بواقعة (أحد) لأنه بعد رجوع المسلمين من (أحد) أحاط الأشخاص الذين فروا من المعركة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأظهروا له الندامة من فعلتهم وموقفهم، وطلبوا منه العفو، فأصدر الله سبحانه إلى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أمره بأن يعفو عنهم، ويتجاوز عن سيئهم ويستقبل المخطئين التائبين منهم بصدر رحب، إذ قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
2. أشير في هذه الآية ـ قبل أي شيء ـ إلى واحدة من المزايا الأخلاقية لرسول الله ، ألا وهي اللين مع الناس والرحمة بهم، وخلوه من الفظاظة والخشونة.
3. (الفظّ) ـ في اللغة ـ هو الغليظ الجافي الخشن الكلام، و(غليظ القلب) هو قاسي الفؤاد الذي لا تلمس منه رحمة، ولا يحس منه لين، وهاتان الكلمتان وان كانتا بمعنى واحد هو الخشونة، إلّا أن الغالب استعمال الأولى في الخشونة الكلامية، واستعمال الثانية في الخشونة العملية والسلوكية، وبهذا يشير سبحانه إلى ما كان يتحلى به الرسول الأعظم من لين ولطف تجاه المذنبين والجاهلين.
4. ثمّ إنه سبحانه يأمر نبيه بأن يعفو عنهم إذ يقول: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾، وهذا الكلام يعني أنه سبحانه يطلب منه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يتنازل عن حقه لهم إذ تفرقوا عنه في أحلك الظروف، وسببوا له تلك المصائب والمتاعب في تلك المعركة، وأنه يشفع لهم لدى نبيه بأن يتجاوز عنهم، وأن يشفع هو بدوره لهم عند الله ويطلب المغفرة لهم منه سبحانه، وبتعبير آخر أنه سبحانه يطلب من نبيه أن يعفو عنهم فيما بينه وبينهم، وأما ما بين الله وبينهم فهو سبحانه يغفر لهم ذلك، وقد فعل الرسول الكريم ما أمره به ربه وعفى عنهم جميعا.
5. من الواضح أن هذا المقام كان من الموارد التي تتطلب حتما العفو والمغفرة، واللطف واللين، ولو أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فعل غير ذلك لكان يؤدي ذلك إلى انفضاض الناس من حوله، وتفرقهم عنه، إذ أن الجماعة رغم أنها أصيبت بالهزيمة النكراء، وتحملت ما تحملت من القتلى والجرحى، وكانوا هم السبب في ذلك، إلّا أنهم أحوج ما يكونون إلى العطف واللطف وإلى اللين والعفو، وإلى البلاسم التي تبل جراحاتهم، وإلى المراهم التي تهدئ خواطرهم، حتّى يتهيئوا بعد شفائها واستعادة معنوياتهم إلى مواجهة أحداث المستقبل، وتحمل المسؤوليات القادمة.
6. إن في هذه الآية إشارة صريحة إلى إحدى أهم الصفات التي يجب توفرها في أية قيادة، ألا وهي العفو واللين تجاه المتخلفين التائبين، والعصاة النادمين، والمتمردين العائدين، ومن البديهي أن الذي يتصدى للقيادة لو خلى عن هذه الخصلة الهامة، وافتقر إلى روح السماحة، وافتقد صفة اللين، وعامل من حوله بالخشونة والعنف والفظاظة فسرعان ما يواجه الهزيمة، وسرعان ما تصاب مشاريعه وبرامجه بنكسات ماحقة، تبدد جهوده، وتذري مساعيه أدراج الرياح، إذ يتفرق الناس من حوله، فلا يمكنه القيام بمهام القيادة ومسئولياتها الجسمية، ولهذا قال الإمام أمير المؤمنين مشيرا إلى هذه الخصلة القيادية الحساسة (آلة الرياسة سعة الصدر)
7. بعد إصدار الأمر بالعفو العام يأمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يشاور المسلمين في الأمر ويقف على وجهات نظرهم، وذلك إحياء لشخصيتهم، ولبث الروح الجديدة في كيانهم الفكري والروحي اللذين أصابهما الفتور بعد الذي حدث.
8. على أن هذا الأمر للنبي بمشاورة المسلمين إنما هو لأجل أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كما أسلفنا ـ قد استشار المسلمين قبل الدخول في معركة (أحد) في كيفية مواجهة العدو واستقر رأي الأغلبية منهم على التعسكر عند جبل (أحد) فكان ما كان من نتائجها المفيدة الكثيرة لو قيست إلى بعض النتائج السلبية وغير المفيدة تبدو أكثر أضعافا كما وأن أثرها في صياغة الأفراد والجماعات وإنماء شخصيتهم من الأهمية بحيث يغطي على نقاط ضعفها، بل هو أبرز آثارها وأهم فوائدها الذي لا يمكن ولا يجوز التغاضي عنه.
9. صحيح أن كلمة (الأمر) في قوله تعالى ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ ذات مفهوم واسع يشمل جميع الأمور، ولكن من المسلم أيضا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يشاور الناس في الأحكام الإلهية مطلقا، بل كان في هذا المجال يتبع الوحي فقط، وعلى هذا الأساس كانت المشاورة في كيفية تنفيذ التعاليم والأحكام الإلهية على أرض الواقع، وبعبارة أخرى: إن النبي لم يشاور أحدا في التقنين، بل كان يشاور في كيفية التطبيق ويطلب وجهة نظر المسلمين في ذلك، ولهذا عندما كان يقترح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرا ـ أحيانا ـ بادره المسلمون بهذا السؤال: هل هذا حكم إلهي لا يجوز إبداء الرأي فيه، أو أنه يرتبط بكيفية التطبيق والتنفيذ؟ فإذا كان من النوع الثاني، أدلى الناس فيه بآرائهم، وأما إذا كان من النوع الأول لم يكن منهم تجاهه سوى التسليم والتفويض، ففي يوم بدر جاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أدنى ماء من بدر فنزل عنده، فقال: الحباب ابن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزله الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة) فقال: يا رسول الله ليس هذا بمنزل، فانهض بالناس حتّى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثمّ نغور ما وراءه إلى آخر ما قال.. فقال له النبي : (لقد أشرت بالرأي) وعمل برأيه.
10. لقد حظيت مسألة المشاورة بأهمية خاصة في نظر الإسلام، فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رغم أنه كان يملك ـ بغض النظر عن الوحي الإلهي ـ قدرة فكرية كبيرة تؤهله لتسيير الأمور وتصريفها دون حاجة إلى مشاورة أحد، إلّا أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كيما يشعر المسلمين بأهمية المشاورة وفوائدها حتّى يتخذوها ركنا أساسيا في برامجهم وحتّى ينمي فيهم قواهم العقلية والفكرية نجده يشاور أصحابه في أمور المسلمين العامة التي تتعلق بتنفيذ القوانين والأحكام الإلهية (لا أصل الأحكام والتشريعات التي مدارها الوحي) ويقيم لآراء مشيريه أهمية خاصة ويعطيها قيمتها اللائقة بها، حتّى أنه كان ـ أحيانا ـ ينصرف عن الأخذ برأي نفسه احتراما لهم ولآرائهم كما فعل ذلك في (أحد)، ويمكن القول بأن هذا الأمر بالذات كان أحد العوامل المؤثرة وراء نجاح الرسول الأكرم في تحقيق أهدافه الإسلامية العليا.
11. الحقّ أن أية أمة أقامت إدارة شؤونها على أساس من الشورى والمشاورة، قل خطأها، وندر عثارها، على العكس من الأفراد الذين يعانون من استبداد الرأي، ويرون أنفسهم في غنى عن نصح الناصحين ورأي الآخرين فإنهم إلى العثار أقرب، ومن الصواب والرشد أبعد، مهما تمتعوا بسديد الرأي، وقوي التفكير، هذا مضافا إلى أن الاستبداد في الرأي يقضي على الشخصية في الجمهور، ويوقف حركة الفكر وتقدمه، ويميت المواهب المستعدة بل يأتي عليها، وبهذا الطريق تهدر أعظم طاقات الأمة الإنسانية، ومضافا أيضا إلى أن الذي يشاور الآخرين في أموره وأعماله إذا حقق نجاحا قل أن يتعرض لحسد الحاسدين، لأن الآخرين يرون أنفسهم شركاء في تحقيق ذلك الانتصار والنجاح، وليس من المتعارف أن يحسد الإنسان نفسه على نجاح حققه، أو انتصار أحرزه، وأما إذا أصابته نكسة لم تلمه ألسن الناس، ولم يتعرض لسهام نقدهم واعتراضهم، لأن الإنسان لا يعترض على عمل نفسه، ولا ينقد فعل ذاته، بل سيشاطرونه الألم، ويتعاطفون معه، ويشاركونه في التبعات، كلّ ذلك لأنهم شاركوه في الرأي وشاطروه في التخطيط، ولم يكن متفردا في العمل، ولا مستبدا في الرأي.. ثمّ إن هناك فائدة أخرى للمشاورة وهي أن المشاورة خير محك لمعرفة الآخرين، والتعرف على ما يكنونه للمستشير من حب أو كراهية، وولاء أو عداء، ولا ريب في أن هذه المعرفة ممّا يمهد سبيل النجاح.
12. لعلّ استشارات النبي الأكرم ـ مع ما كان يتمتع به من قوة فكرية وعقلية جبارة ـ كانت لهذه الأسباب مجتمعة، وقد ورد حث شديد وتأكيد ليس فوقه تأكيد على سنة المشاورة، وفي الأحاديث والأخبار الإسلامية ففي حديث منقول عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (ما شقي عبد قط بمشورة ولا سعد باستغناء رأي)، كما نقرأ في كلمات الإمام علي عليه السّلام قوله: (من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)، ونقل عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أيضا أنّه قال: (إذا كان امراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاؤكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاؤكم، ولم يكن أمركم شورى بينكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها)
13. من المسلم أن للمشورة أهلا، فلا يصح أن يستشار كلّ من هب ودب، فرب مشيرين يعانون من نقاط ضعف، توجب مشورتهم فساد الأمر، وضياع الجهود، وفشل العمل، والتأخر والسقوط، فعن علي عليه السّلام أنه قال في هذا الصدد: لا تدخلن في مشورتك:
أ. بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك بالفقر.
ب. ولا جبانا يضعفك عن الأمور.
ج. ولا حريصا يزين لك الشره بالجور.
14. كما تأكد الحث في الإسلام على المشاورة فقد أكدت النصوص على المشيرين أيضا بأن لا يألوا جهدا في النصح، ولا يدخروا في هذا السبيل خيرا، وتعتبر خيانة المشير للمستشير من الذنوب الكبيرة، بل وتذهب أبعد من ذلك حيث لا تفرق في هذا الحكم بين المسلم والكافر، يعني أنه لا يحق لمن تكفل تقديم النصح والمشورة أن يخون من استشاره، فلا يدله على ما هو الصحيح في نظره، مسلما كان ذلك المستشير أو كافرا، في رسالة الحقوق عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السّلام أنّه قال: (وحق المستشير إن علمت له رأيا أشرت عليه، وإن لم تعلم أرشدته إلى من يعلم، وحق المشير عليك أن لا تتهمه في لا يوافقك من رأيه)
15. بقدر ما يجب على المستشير أن يتخذ جانب الرفق واللين في المشورة مع مستشاريه، يجب عليه أن يكون حاسما وحازما في اتخاذ القرار الأخير، وعلى هذا يجب التخلص من أي تردد، أو استماع إلى الآراء المتشتتة بعد استكمال مراحل المشاورة واتضاح نتيجتها، ويجب اتخاذ القرار الأخير بصرامة وحسم، وهذا هو ما يعبر عنه بالعزم في قوله سبحانه في هذا السياق إذ يقول: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾
16. إن الجدير بالتأمل هو أن مسألة المشاورة ذكرت في الآية الحاضرة بصيغة الجمع (وشاورهم) ولكن اتخاذ القرار الأخير جعل من وظيفة الرسول الكريم خاصة إذا جاء بصيغة المفرد (عزمت)، إن الاختلاف في التعبير إشارة إلى نكتة مهمة وهي أن تقليب وجوه الأمر، ودراسة القضية الاجتماعية من جميع جوانبها وأطرافها يجب أن تتم بصورة جماعية، وأما عندما يتم التصديق على شيء فإن إجراءه وإبرازه في صورة القرار القطعي يجب أن يوكل إلى إرادة واحدة، وإلّا وقع الهرج والمرج، ودبت الفوضى في الأمة لأن التنفيذ بوساطة قادة متعددين من دون الانطلاق من قيادة واحدة متمركزة سيواجه الاختلاف، ويؤول إلى النكسة والهزيمة، ولهذا تتم المشاورات في عالمنا الراهن بصورة جماعية، ولكن إجراء نتائجها تناط إلى الدول والأجهزه التي تدار وتعمل تحت إشراف شخص واحد، وفرد معنى لا متعددين.
17. الموضوع المهم الآخر الذي تشير إليه الجملة السابقة ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ هو أن اتخاذ القرار الأخير يجب أن يقترن بالتوكل على الله، بمعنى أن عليكم أن تستمدوا العون من الله القادر المطلق ولا تنسوه في الوقت الذي تهيئون فيه الأسباب العادية والوسائل المادية للأمر، على أن التوكل لا يعني بالمرة أن يتجاهل الإنسان الأسباب المادية والوسائل العادية للنصر والتي جعلها الله سبحانه في عالم المادة، ومكن الإنسان الأخذ بها، فقد روي في حديث أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأعرابي حضر عند النبي وقد ترك ناقته سادرة في الصحراء دون أن يعقلها حتّى لا تفر أو تضل، ظنا بأن هذا من التوكل على الله (أعقلها وتوكل)
18. ليس المراد من التوكل هو هذا المفهوم الخاطئ، بل المراد منه هو أن لا ينحصر الإنسان في حصار هذا العالم المادي، وفي حدود قدرته الضيقة، فلا ينطلق قدما إلى الأمام، بل يعلّق أمله ـ إلى جانب الأخذ بالأسبابـ على عناية الله وحمايته ولطفه ومنّه، ولا ريب أن مثل هذه الالتفاتة تهب للإنسان استقرار نفسيا عاليا، وطاقة روحية فعالة، ومعنوية تتضائل أمامها كلّ الصعاب والمشاق، وتتحطم عندها كلّ أمواج المشكلات العاتية، أو تنزاح أمامها كلّ الأهوال (وسوف نشرح بإسهاب إن شاء الله مسألة التوكل وكيفية العلاقة بينها وبين الاستفادة من وسائل العالم المادي في ذيل قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾
19. ثمّ إنه سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين في ختام الآية أن يتوكلوا على الله فحسب لأنه تعالى يحب المتوكلين إذ يقول: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾
20. ويستفاد من هذه الآية أن التوكل يجب أن يكون بعد التشاور، وبعد الأخذ والاستفادة من جميع الإمكانيات المتاحة للإنسان حتما.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/747.
85. النصر والخذلان والتوكل
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈85⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الإيمان له أركان أربعة: التوكّل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والرّضا بقضاء الله، والتّسليم لأمر الله عزّ وجلّ(1).
2. روي أنّه قال: أنّه مرّ يوما على قوم فرآهم اصحّاء جالسين في زاوية المسجد، فقال: (من أنتم؟) قالوا: نحن المتوكّلون، قال: لا بل أنتم المتأكّلة، فإن كنتم متوكّلين فما بلغ بكم توكّلكم؟ قالوا: إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا، قال: هكذا تفعل الكلاب عندنا) قالوا: فما نفعل؟ قال: كما نفعل) قالوا: كيف تفعل؟ قال: إذا وجدنا بذلنا، وإذا فقدنا شكرنا(2).
3. روي عن ابن نباتة أن الإمام علي عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين تفرّ من قضاء الله؟ فقال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجلّ(3).
4. روي أنّه قال: الإيمان أربعة أركان: الرضا بقضاء الله، والتوكّل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والتسليم لأمر الله(1).
5. روي أنّه قال: التوكّل كفاية شريفة لمن اعتمد عليه(4).
__________
(1) أصول الكافي: 2/47.
(2) مستدرك الوسائل: 2/289.
(3) التوحيد: ص369.
(4) غرر الحكم، كما في: تصنيفه: ص196.
السجاد:
روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: في دعائه عند الشدّة والجهد: لا تكلني إلى خلقك، بل تفرّد بحاجتي، وتولّ كفايتي، وانظر إليّ وانظر لي في جميع أموري، فإنّك إن وكلتني إلى نفسي عجزت عنها، ولم اقم ما فيه مصلحتها، وإن وكلتني إلى خلقك تجهّموني، وإن ألجأتني إلى قرابتي حرموني، وإن أعطوا أعطوا قليلا نكدا، ومنّوا عليّ طويلا، وذمّوا كثيرا(1).
2. روي أنّه قال: خرجت حتّى انتهيت إلى هذا الحائط فاتّكأت عليه؛ فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان، ينظر في تجاه وجهي ثمّ قال مالي أراك كئيبا حزينا؟ أعلى الدنيا؟ فرزق الله حاضر للبرّ والفاجر، قلت: (ما على هذا أحزن وإنّه لكما تقول) قال فعلى الآخرة؟ فوعد صادق يحكم فيه ملك قاهر، قلت: (ما على هذا أحزن وإنّه لكما تقول) فقال: ممّ حزنك؟ قلت: (مّما نتخوّف من فتنة ابن الزبير وما فيه الناس) قال فضحك، ثمّ قال هل رأيت أحدا دعا الله فلم يجبه؟ قلت: (لا) قال فهل رأيت أحدا توكّل على الله فلم يكفه؟ قلت: (لا) قال فهل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه؟ قلت: (لا) ثمّ غاب عنّي(2).
3. روي أنّه قال: الغنى والعزّ يجولان في قلب المؤمن، فإذا وصلا إلى مكان فيه التوكّل أوطناه(3).
4. روي أنّه قال: رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس، ومن لم يرج الناس في شيء، وردّ أمره إلى الله عزّ وجلّ في جميع أموره استجاب الله عزّ وجلّ له في كلّ شيء(4).
__________
(1) الصحيفة السجادية: ص264.
(2) أصول الكافي: 2/63.
(3) حلية الأولياء: 3/181.
(4) أصول الكافي: 2/148.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يريد حاجة فإذا هو بالفضل بن العبّاس، فقال احملوا هذا الغلام خلفي؛ فاعتنق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيده من خلفه على الغلام، ثمّ قال: يا غلام خف الله تجده إمامك، يا غلام خف الله يكفك ما سواه، واذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، ولو أن جميع الخلائق اجتمعوا على أن يصرفوا عنك شيئا قد قدر لك لم يستطيعوا، ولو أن جميع الخلائق اجتمعوا على أن يصرفوا إليك شيئا لم يقدّر لك لم يستطيعوا، واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن اليسر مع العسر، وكلّ ما هو آت قريب، إنّ الله يقول: ولو أن قلوب عبادي اجتمعت على قلب اشقى عبد لي ما نقصني ذلك من سلطاني جناح بعوضة، ولو أن قلوب عبادي اجتمعت على قلب أسعد عبد لي ما زاد ذلك إلّا مثل إبرة جاء بها عبد من عبادي فغمسها في بحر وذلك أن عطائي كلام وعدتي كلام وإنّما أقول لشيء كن فيكون(1).
2. روي أنّه قال: إنّ الله تعالى أوحى إلى داوود عليه السّلام أن أبلغ قومك أنّه ليس من عبد منهم آمره بطاعتي فيطيعني إلّا كان حقّا عليّ أن اطيعه واعينه على طاعتي، وإن سألني أعطيته، وإن دعاني أجبته، وإن اعتصم بي عصمته وإن استكفاني كفيته، وإن توكّل عليّ حفظته من وراء عورته، وإن كاده جميع خلقي كنت دونه(2).
3. روي أنّه قال: من توكّل على الله لا يغلب، ومن اعتصم بالله لا يهزم(3).
__________
(1) أمالي الطوسي: 2/287.
(2) عدّة الداعي: ص311.
(3) روضة الواعظين: 2/425.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان الإمام عليّ يقول: اللهمّ منّ عليّ بالتوكّل عليك، والتفويض إليك، والرضا بقدرك، والتسليم لأمرك حتّى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت، ولا تأخير ما عجّلت يا ربّ العالمين(1).
2. روي أنّه قال: التوكّل كأس مختوم بختام الله عزّ وجلّ فلا يشرب بها ولا يفضّ ختامها إلّا المتوكّل كما قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم: 12] وقال الله عزّ وجلّ: ﴿وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23](2).
__________
(1) أصل زيد الزرّاد: ص4.
(2) مصباح الشريعة: ص51.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ﴾ يعني: يمنعكم ﴿فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ يعني: لا يهزمكم أحد، ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ يعني: يمنعكم من بعد الله، ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣١٠.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال في الآية: أي: إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس، لن يضرك خذلان من خذلك، وإن يخذلك فلن ينصرك الناس، ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي: لا تترك أمري للناس، وارفض الناس لأمري، ﴿وَعَلَى اللهِ﴾ لا على الناس ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٩٣.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنه قيل له: ما حد التوكّل؟ قال: ألا تخاف مع الله أحدا، قيل: فما حدّ التواضع؟ قال: (أن تعطي الناس من نفسك ما تحب أن يعطوك مثله) قيل: جعلت فداك اشتهي أن أعلم كيف أنا عندك؟ فقال: (انظر كيف أنا عندك(1).
__________
(1) أمالي الصدوق: ص199.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ صدق الله من كان الله ناصره؛ فلا يغلبه العدوّ من بعد.
2. ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ أي: يترككم، ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ﴾، والنصر يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: المعونة.
ب. ويحتمل: المنع، كقوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 91]
3. قوله عزّ وجل: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ﴾ أي: أعانكم الله؛ فلا يغلبكم العدو، ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ فلم يعنكم؛ فمن ذا الذي أعانكم سواه!؟ ومن المنع، أي: إن منع الله عنكم العدوّ، فلا غالب لكم، ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ ولم يعنكم، فمن الذي يمنعكم من بعده!؟ والخذلان في الحقيقة هو: ترك المأمول منه ما أمّل منه، واستعمل في هذا كما استعمل الابتلاء على غير حقيقته.
4. ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ هو على الأمر في الحقيقة كأنه قال: وعلى الله فتوكلوا أيها المؤمنون، والتوكل: هو الاعتماد عليه، وتفويض الأمر إليه، لا بالكثرة والأسباب التي يقوم بها، من نحو: القوة والعدة والنصرة والغلبة، وفي الشاهد إنما يكون عند الخلق بثلاث: إمّا بالكثرة، وإمّا بفضل قوّة بطش، وإمّا بفضل تدبير ورأي في أمر الحرب، وجميع نصر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وغلبته على عدوه إنما كان لا بذلك؛ ولكن بالتوكل عليه وتفويض الأمر إليه؛ دل أن ذلك كان بالله عزّ وجل وذلك من آيات نبوّته .
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/518.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى هذه الآية الترغيب في طاعة الله التي يستحق بها النصرة، والتحذير من معصيته التي يستحق بها خذلانه مع إيجاب التوكل عليه الذي يؤمن معه أن يكلهم إلى أنفسهم فيهلكوا، ولأنه إذا نصرهم الله فلا أحد يقدر على مغالبته، وإذا خذلهم فلا أحد يقدر على نصرتهم بعده..
2. (من) في قوله: ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدَهُ﴾ معناها التقرير بالنفي في صورة الاستفهام أي لا ينصركم أحد من بعده، كما تقول من يعد لك إن فسقك الامام، وإنما تضمن حرف الاستفهام معنى النفي، لأن جوابه يجب أن يكون بالنفي، فصار ذكره يغني عن ذكر جوابه، وكان أبلغ لتقرير المخاطب فيه.
3. اختلف في حقيقة نصر الله تعالى للمؤمنين:
أ. قال أبو علي الجبائي: في الآية دليل على أن من غلبه أعداء الله من الباغين لم ينصره الله، لأنه لو نصره لما غلبوه، وذلك بحسب ما في المعلوم من مصالح العباد من تعريض المؤمنين لمنازل الأبرار بالصبر على الجهاد مع خوف القتل من حيث لم يجعل على أمان من غلبة الفجار، وهذا إنما هو في النصر بالغلبة، فأما النصر بالحجة، فان الله تعالى نصر المؤمنين من حيث هداهم إلى طريق الحق بما نصب لهم من الأدلة الواضحة والبراهين النيرة، ولولا ذلك لما حسن التكليف.
ب. قال البلخي: المؤمنون منصورون أبداً إن غلبوا، فهم المنصورون بالغلبة، وان غلبوا، فهم المنصورون بالحجة.
4. اختلفوا في النصر بالغلبة هل هو ثواب أم لا:
أ. قال الجبائي: والنصر بالغلبة ثواب، لأنه لا يجوز أن ينصر الله الظالمين من حيث لا يريد استعلاءهم بالظلم على غيرهم.
ب. وقال ابن الأخشاد: ليس بثواب كيف تصرفت الحال، لأن الله قد أمرنا أن ننصر الفئة المبغي عليها.
ج. وقال البلخي: لا يجوز أن ينصر الله الكافر على وجه، فأما الخذلان فعقاب بلا خلاف، والخذلان هو الامتناع من المعونة على العدو في وقت الحاجة إليها، لأنه لو امتنع إنسان من معونة بعض الملوك على عدوه مع استغنائه عنها لم يكن خاذلا، وكذلك سبيل المؤمن المغلوب في بعض الحروب ليس يحتاج إلى المعونة مع الاستفساد بها بدلا من الاستصلاح، فلذلك لم يكن ما وقع به على جهة الخذلان.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/33.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الغلبة: القهر، غَلَبَ الرجل غَلْبًا وغَلَبَةً وغَلَبًا، والغَلِب: المغلوب والنصرة: المعونة.
ب. الخِذْلان: ترك الإعانة، ورجل خُذَلَة خَاذِلٌ لا يزال يَخْذُل.
2. لما أمر الله تعالى بالجهاد والتوكل على نصره بَيَّنَ أنه لا ناصر سواه، فقال تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ﴾:
أ. أيها المؤمنون على من ناوأكم، وإن كثر أو قل عددكم ﴿فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ فلا تهابوا قلة عددكم وكثرة عددهم.
ب. وقيل: إن ينصركم الله لطاعتكم إياه فلا طاقة لأحد بكم.
3. ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ يمنعكم معونته ويخلي بينكم وبين عدوكم بمعصيتكم إياه ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ يعني لا ناصر ينصركم بعد خذلان الله إياكم.
4. المراد بالآية الحث على الطاعة يعني:
أ. إذا كان نصره لطاعته، وخذلانه لمخالفته فأطيعوا ربكم ولا تخالفوا أمره، وتوكلوا عليه ليأتيكم نصره.
ب. وقيل: إن ينصركم الله كما فعل ببدر مع قلة عددكم لم يغلبكم أحد، وإن يخذلكم كما فعل بأُحُد لمخالفتكم أمر الرسول لم تجدوا ناصرًا.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾:
أ. قيل: هو خبر أن المؤمن يتوكل على ربه.
ب. وقيل: هو أمر، أي ليكن اعتمادكم على ربكم وعلى وعده.
ج. وقيل: هو من المقلوب، أي وعلى المؤمنين أن يتوكلوا على الله.
د. وقيل: على بمعنى الباء أي بِاللهِ يثق المؤمنون.
6. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن نصرته هي النهاية فلا يجوز معها أن يغلب.
ب. أنه قد ينصر المؤمنين وقد لا ينصرهم إذا رأى المصلحة فيه، وهذا مما يتصل بالحرب دون النصرة بالحجة:
• قال أبو علي: النصرة ثواب، ولذلك لا يقال: ينصر الكافرين.
• وقال أبو بكر: ليس بثواب؛ لأنه أمرنا بنصرة الفئة المبغي عليها، وقد لا يكون مستحقًا للثواب.
• وقال أبو القاسم: لا يجوز نصرة الله للكافرين على وجه، فأما الخذلان فعقوبة بالإجماع.
ج. وجوب التوكل على الله في جميع الأمور، والانقطاع إليه في جميع الأحوال.
د. أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين إنما بلغوا ما بلغوا من إظهار الدين وفتح البلاد بنصره دون العدد والعدة، لما رأينا من غلبة الفئة القليلة الفئة الكثيرة، وذلك معجزة لنبينا .
7. ﴿يَخْذُلْكُمْ﴾ بفتح الياء وضم الذال، قراءة العامة، وعن عيسى بن عمر بضم الياء، وكسر الذال، يعني يجعلكم مخذولين، ويحملكم على الخذلان والتخاذل.
8. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي﴾ مخرجه مخرج الاستفهام، ومعناه التقرير بالنفي، أي لا ينصركم أحد من بعده، كقولك: من يعدلك إذا فسقك الإمام.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/439.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أمر الله سبحانه نبيه بالتوكل، بين معنى وجوب التوكل عليه فقال: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ﴾ على من ناوأكم ﴿فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ أي: فلا يقدر أحد على غلبتكم، وإن كثر عدد من يناوئكم، وقل عددكم.
2. ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ أي: يمنعكم معونته، ويخل بينكم وبين أعدائكم بمعصيتكم إياه ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ الهاء عائدة إلى اسم الله على الظن، والمعنى على حذف المضاف، وتقديره: من بعد خذلانه يعني أنه لا ناصر لكم ينصركم بعد خذلان الله إياكم، ومن هاهنا معناه التقرير بالنفي في صورة الاستفهام أي: لا ينصركم أحد من بعده، وإنما تضمن حرف الاستفهام معنى النفي، لأن جوابه يجب أن يكون بالنفي، فصار ذكره يغني عن ذكر جوابه، وكان أبلغ لتقرير المخاطب فيه ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ظاهر المراد.
3. تضمنت الآية الترغيب في طاعة الله التي يستحق بها النصرة، والتحذير من معصية الله التي يستحق بها الخذلان، مع ايجاب التوكل عليه، الذي يؤمن معه أن يكلهم إلى أنفسهم فيهلكوا.
4. اختلف في حقيقة نصر الله تعالى للمؤمنين:
أ. قال أبو علي الجبائي: وفي الآية دليل على أن من غلبه أعداء الله من الباغين، لم ينصره الله، لأنه لو نصره لما غلبوه، وذلك بحسب ما في المعلوم من مصالح العباد، مع تعريض المؤمنين لمنازل الأبرار بالصبر على الجهاد، مع خوف القتل من حيث لم يجعل على أمان من غلبة الفجار، وهذا إنما هو في النصرة بالغلبة، فأما النصرة بالحجة فإن الله نصر المؤمنين من حيث هداهم إلى طريق الحق، بما نصب لهم من الأدلة الواضحة، والبراهين القاطعة، ولولا ذلك لما حسن التكليف.
ب. وقال أبو القاسم البلخي: المؤمنون منصورون أبدا، إن غلبوا فهم المنصورون بالغلبة، وإن غلبوا فهم المنصورون بالحجة، ولا يجوز أن ينصر الله الكافر على وجه.
ج. وقال الجبائي: النصرة بالغلبة ثواب لأنه لا يجوز أن ينصر الله الظالمين من حيث لا يريد استعلاءهم بالظلم على غيرهم.
د. وقال ابن الأخشيد: ليس بصواب، كيف تصرفت الحال، لأن الله تعالى أمرنا أن ننصر الفئة المبغي عليها، وقد لا تكون مستحقة للثواب.
5. أما الخذلان، فلا خلاف أنه عقاب، والخذلان هو الامتناع من المعونة على عدو في وقت الحاجة إليها، لأنه لو امتنع انسان من معونة من يستغني عن معونته، لم يكن خاذلا له.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/871.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ﴾ قال ابن فارس: النّصر: العون، والخذلان: ترك العون، وقيل؛ الكناية في قوله تعالى ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ تعود إلى خذلانه.
__________
(1) زاد المسير: 1/342.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ قيل المقصود من الآية الترغيب في الطاعة، والتحذير عن المعصية، وذلك لأنه تعالى بين فيما تقدم أن من اتقى معاصي الله تعالى نصره الله، وهو قوله: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ [آل عمران: 125]، ثم بين في هذه الآية أن من نصره الله فلا غالب له، فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين، أن من اتقى الله فقد فاز بسعادة الدنيا والآخرة فإنه يفوز بسعادة لا شقاوة معها وبعز لا ذل معه، ويصير غالبا لا يغلبه أحد، وأما من أتى بالمعصية فإن الله يخذله، ومن خذله الله فقد وقع في شقاوة لا سعادة معها، وذل لا عز معه.
2. احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أن الإيمان لا يحصل إلا بإعانة الله، والكفر لا يحصل إلا بخذلانه، والوجه فيه ظاهر لأنها دالة على أن الأمر كله لله.
3. في قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ وجهان:
أ. الأول: يعني من بعد خذلانه.
ب. الثاني: أنه مثل قولك: ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان.
4. ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ يعني لما ثبت أن الأمر كله بيد الله، وأنه لا راد لقضائه ولا دافع لحكمه، وجب أن لا يتوكل المؤمن إلا عليه، وقوله: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ يفيد الحصر، أي على الله فليتوكل المؤمنون لا على غيره.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/412.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ أي عليه توكلوا فإنه إن يعنكم ويمنعكم من عدوكم لن تغلبوا.. ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ يترككم من معونته، ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي لا ينصركم أحد من بعده، أي من بعد خذلانه إياكم، لأنه قال: ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ والخذلان ترك العون.
2. المخذول: المتروك لا يعبأ به، وخذلت الوحشية أقامت على ولدها في المرعى وتركت صواحباتها، فهي خذول، قال طرفة:
çخذول تراعي ربربا بخميلة...تناول أطراف البرير وترتديé
وقال أيضا:
çنظرت إليك بعين جارية...خذلت صواحبها على طفلé
وقيل: هذا من المقلوب، لأنها هي المخذولة إذا تركت، وتخاذلت رجلاه إذا ضعفتا، قال:وخذول الرجل من غير كسح ورجل خذلة للذي لا يزال يخذل.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/254.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ جملة مستأنفة، لتأكيد التوكل، والحثّ عليه، والخذلان: ترك العون، أي: وإن يترك الله عونكم ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ وهذا الاستفهام: إنكاري، والضمير في قوله: ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ راجع إلى الخذلان المدلول عليه بقوله: ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ أو إلى الله.
2. من علم أنه لا ناصر له إلا الله سبحانه، وأن من نصره الله لا غالب له، ومن خذله لا ناصر له، فوّض أموره إليه، وتوكل عليه، ولم يشتغل بغيره.
3. تقديم الجار والمجرور على الفعل في قوله: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾: لإفادة قصره عليه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/452.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَّنصُرْكُمُ اللهُ﴾ على عدوِّكم كما بِبدر وأوَّل حرب أُحد، ﴿فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَّخْذُلْكُمْ﴾ كما في آخر حرب أحد.
2. ﴿فَمَن ذَا الذِي يَنصُرُكُمْ مِّنم بَعْدِهِ﴾ من بعد الله، أو من بعد الخذلان، وهذا تحريض على الطاعة المقتضية للنصر، وتحذير من المعصية المقتضية للخذلان، والاستفهام لنفي الناصر، وهو بصورة الاستفهام إذ كان بصورة الحجَّة أبلغ من النفي الصريح.
3. ﴿وَعَلَى اللهِ﴾ لا على غيره يتوكَّل العاقل إذ لا ناصر سواه، وعطف على هذا المقدَّر بالفاء في قوله: ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُومِنُونَ﴾ عليه عموما، أو المراد بالمؤمنين هؤلاء، ويدخل غيرهم، أو الفاء صلة، و(عَلَى) يتعلَّق بما بعد الفاء.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/45.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ﴾ كما نصركم يوم بدر ﴿فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ كما فعل يوم أحد ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ استفهام إنكاريّ مفيد لانتفاء الناصر ذاتا وصفة وبطريق المبالغة، وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله، وترغيب في الطاعة، وفيما يستحقون به النصر من الله تعالى والتأييد، وتحذير من المعصية، ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان، كذا في الكشاف.
2. ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه، لعلمهم أنه لا ناصر سواه، ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه ـ كذا في الكشاف ـ.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/450.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ الكلام استئناف مسوق لبيان وجه وجوب التوكل على الله تعالى بعد المشاورة والعزيمة المبنية على أخذ الأهبة والاستعداد بما يستطاع من حول وقوة، أي إن ينصركم الله بالعمل بسننه وما يكون لكم من القوة والثبات بالاتكال على توفيقه ومعونته؛ فلا غالب لكم من الناس الذين نصبهم حرمانهم من التوكل عليه تعالى غرضا للقنوط واليأس.
2. ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ بما كسبت أيديكم من الفشل، وعصيان القائد فيما حتمه من عمل، كما جرى لكم في أحد، أو بالإعجاب بالكثرة، والاعتماد على الاستعداد والقوة، وهو مخل بالتوكل كما جرى يوم حنين، ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي من بعد خذلانه أي لا أحد يملك لكم حينئذ نصرا، ولا أن يدفع عنكم ضرا: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ولا يتوكلوا على غيره، لأن النصر بيده، وهوالموفق لأسبابه وأهبه، وقد بينا أكثر من مرة أسباب النصر الحسية والمعنوية.
3. قد علم مما تقدم أن التوكل إنما يكون مع الأخذ بالأسباب وأن ترك الأسباب بدعوى التوكل لا يكون إلا عن جهل بالشرع أو فساد في العقل، فالتوكل محله القلب، والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح، والإنسان مسوق إليه بمقتضى فطرة الله التي فطر الناس عليها ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 30] ومأمور به في الشرع قال تعالى: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: 15]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: 71]، وقال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: 60]، وقال: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197] وقال لنبيه لوط عليه السلام: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: 81] وقال لنبيه موسى عليه السلام: ﴿اسر بعبادي ليلا﴾ [الدخان: 23] وقال في الحكاية عن نبيه يعقوب لنبيه يوسف عليهما السلام: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ [يوسف: 5] وقال حكاية عنه أيضا: ﴿يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شيء، إن الحكم إلا الله عليه توكلت فليتوكل المتوكلون﴾ [يوسف: 67] فأمرهم بالحذر مع التنبيه على أنه متوكل على الله والتذكير بوجوب التوكل عليه فجمع بين الواجبين، وبين أنه لا تنافي بينهما، ولا غناء للمؤمن عنهما.
4. ذلك بأن الإنسان إذا توكل ولم يستعد للأمر ويأخذ له أهبته بحسب سنة الله في الأسباب والمسببات يقع في الحسرة والندم عندما يخيب ويفوته غرضه فيكون ملوما شرعا وعقلا، كما قال تعالى في مسألة الإسراف في المال: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29] وإذا هو استعد وأخذ بالأسباب واعتمد عليها غافلا قلبه عن الله تعالى فإنه يكون عرضة للجزع والهلع إذا خاب سعيه ولم ينل مراده فيفوته الصبر والثبات اللذان يهونان عليه الأمر، حتى لا يدري كيف يستفيد من الخبية ويتدارك أمره فيها، وربما وقع في اليأس الذي لا مطمع معه في فلاح ولا نجاح.
5. لذلك قرن الله الصبر بالتوكل في عدة آيات من كتابه ـ قال تعالى حكاية عن الرسل عليهم السلام في محاجة أقوامهم: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم: 12] وذكروا أن الله هداهم سبله وهي سننه في الأسباب وأنهم موطنون أنفسهم على الصبر لأنهم متوكلون عليه تعالى، ووصف الذين هاجروا من بعد ما ظلموا بقوله: ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: 42] وقال: ﴿نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [العنكبوت: 58] فوصفهم بالعمل وأسند إليهم الصبر والتوكل وقال لخاتم أنبيائه ورسله: ﴿فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ [المزمل: 9 ـ 10] كما قال له: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [الأحزاب: 48] فههنا قرن أمره بالتوكل بنهيه عن العمل بقول من لا يوثق بقوله لأنه يغش ولا ينصح كما أنه قرنه بالأمر المشاورة في الآية السابقة في الآيات التي نحن بصدد تفسيرها أعني قوله ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ وكل ذلك من اتخاذ الأسباب سلبا وإيجابا.
6. جاء ذكر التوكل في مقام ذكر الحرمان من الرزق أو من سعيه، كما جاء في مقام الصبر على إيذاء المعتدين كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3] وقوله في مقام وجوب نبذ الاغترار بسعة الرزق خشية الغفلة عن الآخرة: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الشورى: 31]
7. حسبنا هذه الآية في هداية القرآن وتحقيقه في مقام الجمع بين الأسباب والتوكل وأما الأحاديث الشريفة:
أ. فأصح ما ورد في التوكل منها حديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وقد رواه أحمد والشيخان وغيرهم من حديث ابن عباس مرفوعا وقد روي بعدة ألفاظ منها (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون).. وأنت ترى أنه قرن التوكل بترك الأعمال الوهمية دون غيرها فهو لم ينف من الأعمال إلا الاستشفاء بالرقية، وهي ليست من الأسباب الحقيقة للشفاء، وإنما يطلبها طلابها عند الجهل بالأسباب والعجز عنها أنها من المؤثرات الغيبية وإنما المطلوب شرعا وطبعا ونقلا وعقلا أن يطلب الشيء من سببه الحقيقي الذي يستوي فيه كل من تعاطاه ـ وإلا التطير وهو التيمن والتشاؤم بحركات الطير، ونحوه الاعتياف وهو التفاؤل والتشاؤم بالألفاظ كقول الشاعر:
çألا قد هاجني فازددت وجدا...بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجمي...على غصنين من غرب وبانé
إلى أن قال:
çفكان البان أن بانت سليمى...وفي الغرب اغتراب غير دانé
والطيرة والعيافة من سنة الجاهلين التي نسختها السنة النبوية، لأنها من مفسدات الفطرة البشرية، وكذلك الرقية كانت معروفة في الجاهلية، فكان أناس معروفون يرقون اللديغ والكي بالنار وهو مما كانوا يتداوون به في الجاهلية وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يكرهه لأمته ويعده من الأسباب الضعيفة المؤلمة المستبشعة التي تنافي التوكل ولذلك قال: (لم يتوكل من استرقى أو اكتوى)،
ب. ويلي هذا الحديث حديث (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدوا خماصا وتروح بطانا)، وقد استدل به على أن التوكل يكون مع السعي لأنه ذكر أن الطير تذهب صباحا في طلب الرزق وهي خماص البطون لفراغها وترجع ممتلئة البطون؛ ولم يقل إنها تمكث في أعشاشها وأوكارها فيهبط عليها الرزق من غير أن تسعى إليه.
ج. وفي الباب حديث الرجل الذي جاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأراد أن يترك ناقته وفي رواية أنه قال: أأعقلها وأتوكل، أم أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي : (اعقلها وتوكل)
8. كلام السلف الصالح في ذلك كثير مستفيض:
أ. روي أن رجلا قال للإمام أحمد: أريد الحج على التوكل؛ فقال له: فاخرج في غير القافلة، قال لا؛ قال: على جُرُب الناس توكلت، وقد تقدم أن قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة:198] نزل في تخطئة من قالوا مثل هذا القول.
ب. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: قلت لأبي: هؤلاء المتوكلون يقولون نقعد وأرزاقنا على الله عز وجل، فقال: ذا قول رديء وخبيث، يقول الله عز وجل ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: 9]
ج. وقال أيضا: سألت أبي عن قوم يقولون: نتكل على الله ولا نكتسب؛ فقال: ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب، هذا قول إنسان أحمق.
د. وروي عن ولده صالح أنه سأله عن التوكل فقال: التوكل حسن ولكن ينبغي للرجل أن لا يكون عيالا على الناس، ينبغي أن يعمل حتى يغني أهله وعياله ولا يترك العمل.
هـ. قال: وسئل أبي وأنا شاهد عن قوم لا يعلمون، ويقولون نحن متوكلون، فقال: هؤلاء مبتدعة، قال الخلال راوي ما ذكر: وأخبرني المروزي أنه قال لأبي عبد الله: إن ابن عيينة كان يقول: هم مبتدعة، فقال أبو عبد الله: هؤلاء قوم سوء يريدون تعطيل الدنيا، وروي عنه غيره ذلك، ولا سيما في الحث على الكسب وعدم توق الصلة والنوال.
و. وقال أبو حفص عمر بن مسلم الحداد شيخ الجنيد في التصوف: أخفيت التوكل عشرين سنة وما فراقت السوق، كنت أكتسب في كل يوم دينارا ولا أبيت منه دانقا، ولا أستريح منه إلى قيراط أدخل به الحمام.
9. قال الغزالي: الخروج عن سنة الله ليس شرطا في التوكل، وأحفظ هذه العبارة عنه أو عن غيره بلفظ (ليس من التوكل الخروج عن سنة الله تعالى أصلا) وهذه أحسن وأصح، وقال في بيان أعمال المتوكلين عند الكلام عن الأسباب المقطوع بها) وذلك مثل الأسباب التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته ارتباطا مطردا لا يختلف كما أن الطعام إذا كان موضوعا بين يديك وأنت جائع محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه وتقول أنا متوكل وشرط التوكل السعي، ومد إليه سعي وحركة، وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالي الحنك على أسافله، فهذا جنون محض وليس من التوكل في شيء ـ ثم قال ـ وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت في أن يخلق الله تعالى نباتا من غير بذر أو تلد زوجتك من غير وقاع كما ولدت مريم عليها السلام فكل ذلك جنون، وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن إحصاؤه، ثم ذكر أن الأسباب التي لا تعد قطعية مطردة كالتزود للسفر لا يشترط تركها في التوكل ولكنه يجوز ويعد من أعلى التوكل، وكلامه في هذا الباب وأمثاله كالزهد والفقر لا يسلم من نقد وخطأ لمبالغة في الميل إلى الانقطاع عن الدنيا والإقبال على الآخرة و(لن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه)، وتقدم ذكر إنكار القرآن على من أرادوا أن يحجوا من غير زاد، وسنوفي هذا المقام حقه في تفسير ﴿لا تغلو في دينكم﴾ [النساء: 171] ولغلبة هذا الميل على أبي حامد راج عنده كثير من الأخبار والآثار الواهية والموضوعية، بل راج عنده ما دونها من كلام جهلة المتصوفة وتخيلات الشعراء كقول الشاعر:
çجرى قلم القضاء بما يكون...فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق...ويرزق في غشاوته الجنينé
فانظر كيف ينسي الإنسان ميله وحبه للشيء علمه وفقهه حتى يستحسن ما يخالفهما، وإلا فإن جهالة هذا الشاعر لا تخفى على من دون أبي حامد علما وفقها، فإن جريان قلم القضاء بما يكون ولا يقتضي كون الحركة والسكون سببين لأن الواقع في كل زمان ومكان هو ما جرى به القضاء، ومنه نعلم أن سنة الله في الحركة غير سنته في السكون، وسنن الله لا تتغير ولا تنقض، وكونهما كذلك يناقض كونهما سببين، ولو كان قضاء لله تعالى كما زعم الشاعر الجاهل لما قال: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: 15] ولما قال: ﴿فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 10] والمشي والانتشار في الأرض من الحركة لا من السكون، وما جاء به من الجهل في البيت الثاني أبعد من الصواب مما في البيت الأول، فإنه قاس حياة الرجل العاقل القادر على حياة الجنين، وسنة الله فيهما مختلفة كما هو معلوم بالضرورة، ولو صح هذا القياس لصح أيضا قياس الإنسان على النبات من نجم وشجر فإن غذاء الجنين أشبه بغذاء النبات منه بغذاء الحيوان، فأي الفريقين أحق باسم الجنون؟ أمن يقول إن سنة الله في الجنين يتكون في بطن أمه كسنته في الرجل الذي بلغ أشده وجعل له الله رجلين يمشي بهما ويدين يبطش بهما وسمعا وبصرا يسمع بهما ويبصر، وعقلا به يفكر ويدبر؟ أم من يقول إن سنته تعالى فيهما مختلفة؟
10. هذا وإن كل ما ورد في الكسب حجة على كون التوكل لا ينافي العمل والسعي للدنيا، وقد تقدم ذكر بعض الآيات في ذلك ومنها قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 6] وقوله: ﴿وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم برازقين﴾ [الحجر:20] وقوله؛ ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ: 11] ومن الأحاديث الشريفة قوله : (خير الكسب كسب العامل إذا نصح)، وقوله : (التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء)
__________
(1) تفسير المنار: 4/208.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ أي إن أراد الله نصركم كما حدث يوم بدر حين عملتم بسنته، وثبتم في مواقفكم، واتكلتم على توفيقه ومعونته، فلا غالب لكم من الناس الذين جعلهم حرمانهم من التوكل عليه عرضة لليأس والقنوط، وفي هذا ترغيب في التوكل على الله بعد المشورة والعزيمة الصادقة المترتبة على أخذ الاستعداد بما أوتيه من الحول والقوة.
2. ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي وإن يرد خذلانكم ويمنعكم معونته بما كسبت أيديكم من الفشل والتنازع وعصيان القائد فيما أمركم به كما جرى يوم أحد، فلا أحد يملك لكم نصرا ولا يدفع عنكم الخذلان.
3. ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي فليخصه المؤمنون بالتوكل، لأنه لا ناصر لهم سواه.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/118.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لتقرير حقيقة التوكل على الله، وإقامتها على أصولها الثابتة، يمضي السياق فيقرر أن القوة الفاعلة في النصر والخذلان هي قوة الله، فعندها يلتمس النصر، ومنها تتقى الهزيمة، وإليها يكون التوجه، وعليها يكون التوكل، بعد اتخاذ العدة، ونفض الأيدي من العواقب، وتعليقها بقدر الله: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾
2. إن التصور الإسلامي يتسم بالتوازن المطلق بين تقرير الفاعلية المطلقة لقدر الله سبحانه وتحقق هذا القدر في الحياة الإنسانية من خلال نشاط الإنسان وفاعليته وعمله.. إن سنة الله تجري بترتيب النتائج على الأسباب.
3. لكن الأسباب ليست هي التي (تنشئ) النتائج، فالفاعل المؤثر هو الله، والله يرتب النتائج على الأسباب بقدره ومشيئته.. ومن ثم يطلب إلى الإنسان أن يؤدي واجبه، وأن يبذل جهده، وأن يفي بالتزاماته، وبقدر ما يوفي بذلك كله يرتب الله النتائج ويحققها.. وهكذا تظل النتائج والعواقب متعلقة بمشيئة الله وقدره، هو وحده الذي يأذن لها بالوجود حين يشاء، وكيفما يشاء.. وهكذا يتوازن تصور المسلم وعمله، فهو يعمل ويبذل ما في طوقه؛ وهو يتعلق في نتيجة عمله وجهده بقدر الله ومشيئته، ولا حتمية في تصوره بين النتائج والأسباب، فهو لا يحتم أمرا بعينه على الله!
4. وهنا في قضية النصر والخذلان، بوصفهما نتيجتين للمعركة ـ أية معركة ـ يرد المسلمين إلى قدر الله ومشيئته؛ ويعلقهم بإرادة الله وقدرته: إن ينصرهم الله فلا غالب لهم، وإن يخذلهم فلا ناصر لهم من بعده.. وهي الحقيقة الكلية المطلقة في هذا الوجود، حيث لا قوة إلا قوة الله، ولا قدرة إلا قدرته، ولا مشيئة إلا مشيئته، وعنها تصدر الأشياء والأحداث.. ولكن هذه الحقيقة الكلية المطلقة لا تعفي المسلمين من اتباع المنهج، وطاعة التوجيه، والنهوض بالتكاليف، وبذل الجهد، والتوكل بعد هذا كله على الله: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، وبذلك يخلص تصور المسلم من التماس شيء من عند غير الله؛ ويتصل قلبه مباشرة بالقوة الفاعلة في هذا الوجود؛ فينفض يده من كل الأشباح الزائفة والأسباب الباطلة للنصرة والحماية والالتجاء؛ ويتوكل على الله وحده في إحداث النتائج، وتحقيق المصاير، وتدبير الأمر بحكمته، وتقبل ما يجيء به قدر الله في اطمئنان أيا كان.. إنه التوازن العجيب، الذي لا يعرفه القلب البشري إلا في الإسلام.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/504.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ هذا تعقيب على قوله تعالى في الآية السابقة: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾، فالذين يفوّضون أمرهم إلى الله، ويشدّون عزائمهم إليه، ويعلّقون آمالهم به، هم الذين يحبّهم الله ويتولاهم، لأنهم أحبّوا الله وانتظموا في مجتمع أوليائه.. وإنهم إذ يلوذون بحمى الله فإنما يستمسكون بالعروة الوثقى، ويعتصمون بأقوى معتصم، وهم بهذا في ضمان النصر، وعلى طريقه، ولن يغلبهم أحد.. فإن تخلوا عن الله، ووكلوا أمرهم إلى حولهم وحيلتهم، فقد آذنوا الله أن يتخلّى عنهم، وأن يدعهم إلى أنفسهم، وهذا خذلان مبين، ومن خذله الله فلا ناصر له.
2. في قوله تعالى، ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ إشارة مشرقة يرى منها المؤمنون طريقهم في كل أمورهم، وهى طريق التوكل عليه، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/629.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ استئناف نشأ عن قوله: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ﴾ [آل عمران: 157] أو عن قوله: ﴿لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ [آل عمران: 156] الآية.
2. لو حمل هذا الخبر على ظاهر الإخبار لكان إخبارا بأمر معلوم عند المخاطبين إذ هم مؤمنون، ولا يجهل مؤمن أنّ الله إذا قدّر نصر أحد فلا رادّ لنصره، وأنّه إذا قدّر خذله فلا ملجأ له من الهزيمة، فإنّ مثل هذا المعنى محقّق في جانب الله لا يجهله معترف بإلهيته، مؤمن بوحدانيته، وهل بعد اعتقاد نفي الشريك عن الله في ملكه مجال لاعتقاد وجود ممانع له في إرادته، فيتعيّن أن يكون هذا الخبر مرادا به غير ظاهر الإخبار:
أ. وأحسن ما يحمل عليه أن يكون تقريرا لتسلية المؤمنين على ما أصابهم من الهزيمة، حتّى لا يحزنوا على ما فات لأنّ ردّ الأمور إلى الله تعالى عند العجز عن تداركها مسلاة للنفس، وعزاء على المصيبة، وفي ضمن ذلك تنبيه إلى أنّ نصر الله قوما في بعض الأيّام، وخذله إيّاهم في بعضها، لا يكون إلّا لحكم وأسباب، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر، وتجنّب أسباب السخط الموجب للخذل كما أشار إليه قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: 7] وقوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ [آل عمران: 153] وقوله الآتي: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ [آل عمران: 165]
ب. وعليهم التطلّب للأسباب الّتي قدر لهم النّصر لأجلها في مثل يوم بدر، وأضدادها الّتي كان بها الخذل في يوم أحد، وفي التفكير في ذلك مجال واسع لمكاشفات الحقائق والعلل والأسباب والحكم والمنافع والمضارّ على قدر سعة التفكير الجائل في ذلك، ففي هذا الخبر العظيم إطلاق للأفكار من عقالها، وزجّ بها في مسارح العبر، ومراكض العظات، والسابقون الجياد، فالخبر مستعمل في لازم معناه وهو الحضّ على تحصيل ذلك، وعلى هذا الوجه تظهر مناسبة موقع هذا الاستئناف عقب ما تقدّمه: لأنّه بعد أن خاطبهم بفنون الملام والمعذرة والتسلية من قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ [آل عمران: 137] إلى هنا، جمع لهم كلّ ذلك في كلام جامع نافع في تلقّي الماضي، وصالح للعمل به في المستقبل.
ج. ويجوز أن يكون الإخبار مبنيّا على تنزيل العالم منزلة الجاهل، حيث أظهروا من الحرص على الغنيمة ومن التأوّل في أمر الرسول لهم في الثبات، ومن التلهّف على ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجرح، ما جعل حالهم كحال من يجهل أنّ النصر والخذل بيد الله تعالى، فالخبر مستعمل في معناه على خلاف مقتضى الظاهر.
3. النّصر: الإعانة على الخلاص من غلب العدوّ ومريد الإضرار، والخذلان ضدّه: وهو إمساك الإعانة مع القدرة، مأخوذ من خذلت الوحشية إذا تخلفت عن القطيع لأجل عجز ولدها عن المشي.
4. معنى ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ وإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ إن يرد هذا لكم، وإلّا لما استقام جواب الشرط الأوّل، وهو ﴿فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ إذ لا فائدة في ترتيب عدم الغلب على حصول النصر بالفعل، ولا سيما مع نفي الجنس في قوله: ﴿فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾، لأنّه يصير من الإخبار بالمعلوم، كما تقول: إن قمت فأنت لست بقاعد، وأمّا فعل الشرط الثّاني وهو: ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ فيقدّر كذلك حملا على نظيره، وإن كان يستقيم المعنى بدون تأويل فيه، وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: 6] الآية.
5. جعل الجواب بقوله: ﴿فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ دون أن يقول: لا تغلبوا، للتنصيص على التّعميم في الجواب، لأنّ عموم ترتّب الجزاء على الشرط أغلبي وقد يكون جزئيا أي لا تغلبوا من بعض المغالبين، فأريد بإفادة التعميم دفع التّوهم.
6. الاستفهام في قوله: ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ إنكاري أي فلا ينصركم أحد غيره، وكلمة ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ هنا مستعملة في لازم معناها وهو المغايرة والمجاوزة: أي فمن الّذي ينصركم دونه أو غيره أي دون الله، فالضّمير ضمير اسم الجلالة لا محالة، واستعمال (بعد) في مثل هذا شائع في القرآن قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ﴾ [الجاثية: 23] وأصل هذا الاستعمال أنه كالتمثيلية المكنية: بأن مثلت الحالة الحاصلة من تقدير الانكسار بحالة من أسلم الذي استنصر به وخذله فتركه وانصرف عنه لأن المقاتل معك إذا ولى عنك فقد خذلك فحذف ما يدل على الحالة المشبه بها ورمز إليه بلازمه وهو لفظ ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾
7. جملة ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ تذييل قصد به الأمر بالتّوكل المستند إلى ارتكاب أسباب نصر الله تعالى: من أسباب عادية وهي الاستعداد، وأسباب نفسانية وهي تزكية النفس واتّباع رضى الله تعالى.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/272.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أكد سبحانه وتعالى طلب التفويض والتوكل بعد التدبير وأخذ الأهبة بقوله تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي أنه إذا أراد الله تعالى أن ينصركم، واستحققتم نصره فإنه لا يوجد قوم من شأنهم أن يغلبوكم، والتعبير باسم الفاعل في قوله تعالى: ﴿فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ يفيد أنه لا يوجد من عنده القوة ومن شأنه أن يغلبكم؛ لأنه إن كان قويا في نفسه فالله معكم وهو القاهر فوق عباده، وهو الحفيظ عليهم، وخلق الإنسان ضعيفا مهما تكن قوته، وإن استحقاق نصر الله يكون بأخذ الأهبة ومبادلة الرأي وتعرف أسباب النصر، ثم التوكل على الله تعالى، وتفويض الأمور إليه، وإن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد أن أعد الأهبة أخذ يدعو الله تعالى بالنصر، ويكرر هذه العبارة: (اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)
2. إذا فقد المؤمن نصر الله فلا ناصر له من غيره، ولذلك قال سبحانه: ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي إن يكتب الله سبحانه وتعالى لكم الخذلان، ويحرمكم من معونته وتأييده، فلا أحد ينصركم من بعده أي ممن هو دونه أو من بعد خذلانه، لأنه لا أحد عنده قدرة تقف أمام قدرة الله تعالى، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي وقد جاء النفي على صيغة الاستفهام ليوجه أنظار المخاطبين إلى البحث عن قوى تكون قدرته كافية للوقوف أمام إرادة الله تعالى الخذلان، فإنهم سيبحثون عن قوى لا تكون قوته إلى بقاء، ولن يجدوه، فعندئذ يحكمون بأن الله وحده الكبير المتعال، ولا ناصر سواه.
3. ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي عليه وحده لا على شيء سواه، وأفاد ذلك تقديم ﴿عَلَى اللهِ﴾ أي أن المؤمنين لا يتوكلون إلا على الله سبحانه وتعالى فالاتكال عليه وحده، والإيمان متلازمان لا ينفصلان، فغير المؤمن يعتمد على الأشخاص الفانين، أما المؤمن فلا يعتمد على أحد سوى الله تعالى، والاتكال على الله من مقتضيات الإيمان بالله وحده؛ لأنه جزء من الوحدانية، فالذين يعتمدون على غير الله من العباد يصيبهم نوع من الشرك الخفي؛ لأنهم يفرطون في تقدير العباد، بل قد تفرط منهم عبارات التقديس، وقد كان بعض الذين لا دين لهم يعبرون عن بعض الملوك بالذات العالية، وذلك شرك بلا ريب، وأهل الإيمان الصادق لا يعتمدون إلا على الله بعد أخذ الأسباب؛ لأنهم لا يؤمنون إلا بالله: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [الممتحنة]
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1481.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾، ونصره تعالى انما يكون مع مراعاة الأسباب التي جعلها الله موصلة إلى النصر، وهي بالإضافة إلى التوكل على الله استكمال العدة التي أشار اليها بقوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾
2. ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾، ان الله يخذل المتخاذلين الذين لا تجتمع كلمتهم على خير، قال تعالى، ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾
3. الخلاصة ان استكمال العدة من غير الإخلاص لا يجدي شيئا، كما جرى للمسلمين يوم حنين: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ ـ 26 التوبة)، كما ان الإخلاص من غير عدة ليس بشيء.. (اعقلها وتوكل)، ومن استوفى الأمرين معا فلا غالب له، لأن الله معه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/190.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾، وإذا أحبك كان وليا وناصرا لك غير خاذلك، ولذا عقب الآية بهذا المعنى، ودعا المؤمنين أيضا إلى التوكل فقال: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾
2. ثم أمرهم بالتوكل بوضع سببه موضعه فقال: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي لإيمانهم بالله الذي لا ناصر ولا معين إلا هو.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/58.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ وإن كثر الأعداء ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ فلا ناصر لكم غيره، وقام السؤال بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ﴾ مقام فلا ناصر لكم، لأن من الواضح أنه لا يتوقع نصرهم من أحد؛ لأن من حولهم من العرب كفار وأكثرهم أعداء، والذين هم مسالمون أكثر ما يتوقع منهم أن لا يعتدوا على المسلمين، فأما أن ينصروهم فلا يرجى فالنصر من الله وحده، فعليكم أن تطلبوه منه بطاعته وطاعة رسوله والعمل بما أدبكم به في الجهاد وبالدعاء والإلتجاء إليه.
2. ﴿وَعَلَى اللهِ﴾ وحده ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فالتوكل عليه واجب عليهم تكرر الأمر به في القرآن؛ والتوكل على الله: الإعتماد على رعايته للمؤمن وتدبيره له، وهذا في امتثال أمر الله ونهيه، أي يطيع الله اعتماداً على مايرجوه منه واتكالاً عليه، فلا يصغي إلى تخويف من عدو في القتال، أومن الفقر في الإنفاق أو نحو ذلك، وليس معنى التوكل أن يثق بأنه لايقتل مثلاً، ولكن أن يرضى بما كتب الله له في سبيله فيجاهد راضياً بذلك راجياً أنه يختار له ماهو خير له، ولا يحتاج في هذا الرجاء إلا أن يكون على بصيرة في دينه تائباً إلى ربه فإذا كان كذلك حق له أن يرجو ما هو الخير له، فللتوكل مقدمة هي البصيرة، كما حكى الله عن بعض الرسل: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ [إبراهيم:12] وقال تعالى: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ [النمل:79] فهو إذا كان على بصيرة اعتقد أن الله هو مولاه، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الأنفال:40] ومعنى هذه الولاية: تولي أمور المؤمن بحسن الرعاية، فالمؤمن يعلم أنه لن يصيبه إلا ماكتب الله له، ويرجو أنه لا يكتب له إلا ماهو خير له، ولذلك كان الاحتجاج على الكفار للمؤمنين بهذا ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَمَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة:51]
3. فائدة التوكل: أن لا تتحول عن طاعة الله لخوف أن تؤدي إلى مكروه، وليس من التوكل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة حيث لاتجوز السلامة في مجرى العادة، ولذلك لا يجب التوضي بالماء في السفر في القفر الذي هو ليس مظنة الماء بل يظن الهلاك إن توضأ بالماء، وجاء فيه الحديث في (مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (أنه يمسك الماء لنفسه ويتيمم للصلاة) ولامن التوكل ترك أسباب السلامة من ضرر البرد المعتادة ومن حر الشمس كذلك، ولا ترك كسب الرزق.. نعم.. من التوكل أن لا يشغله الكسب عن الصلاة مثلاً، ومن التوكل إنقاذ الغريق الذي يجب إنقاذه وإن جوز المنقذ هلاك نفسه إذا كان راجياً للسلامة وإنقاذ الغريق.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/568.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ﴾ بتأييده ورعايته ولطفه من خلال ما يوفره لكم من الأسباب الخفية، بالإضافة إلى الأسباب التي تأخذون بها مما يرتبط بالنتائج الطبيعية للنصر في نطاق النظام الكوني والإنساني في سنن الله في الحياة، فإن الله إذا رأى عباده المؤمنين منفتحين على مواقع محبته ورضاه، آخذين بمواقع إرادته في حركة سننه لديهم، فلا بد له من أن يمنحهم نصره بطريقة أو بأخرى، فلا مجال لأية هزيمة في ساحتهم، فإذا انطلقتم في هذا الاتجاه ﴿فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ لأن الله لا يغلب في إرادته مهما كانت الأمور والأوضاع.
2. ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ لأنكم ابتعدتم عن الطاعة لأوامره ونواهيه وفقدتم الإحساس بالوحدة الإيمانية بينكم، ورفضتم السير على وفق حركة الأسباب في وجودكم ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ من كل هؤلاء الذين يملكون القوّة ممن يستعين بهم الناس على تحقيق الانتصار في ساحة الحرب أو الوصول إلى الأهداف في مواقع التحدي، فهو وحده الذي لا بد للمؤمنين من أن يلجأوا إليه ويستعينوا به ويتوكلوا عليه، ليحصلوا على النتائج الكبرى، فلا ملجأ إلا إليه، ولا استعانة إلا به، ولا توكل إلا عليه، ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فهو نعم الوكيل ونعم المولى ونعم النصير.
3. يعود القرآن إلى المعركة من جديد، ليقرّر للمؤمنين الحقيقة الإيمانيّة التي ينبغي لهم أن يتمثلوها في أعماقهم في كل معركة من معاركهم، وهي أن الله هو القوّة المطلقة المهيمنة على الحياة في كل ما تشتمل عليه من انتصارات وهزائم، فهو من وراء ذلك كله، فإذا شاءت إرادته لهم النصر فلن تستطيع كل قوى الأرض أن تغلبهم وتهزمهم، لأنه الذي يملك الأسباب العاديّة وغير العادية للأشياء، فإذا تحرّكت أسباب النصر من خلاله، فكيف يمكن للآخرين أن ينتصروا من دون سبب!؟ وإذا شاءت إرادته الخذلان لهم، لأنهم انحرفوا عن الخط المستقيم الذي يسير بهم نحو النصر واعتمدوا على أنفسهم وعلى الآخرين بعيدا عن الله، فأدّى ذلك إلى أن يفقدوا لطف الله ورحمته ورعايته، فمن هذا الذي يملك أسباب النصر من بعد الله ليحققوه من خلاله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا بإذن الله، فكيف يملكه للآخرين!؟ وفي هذا الجو الإيماني المتحرّك في خط الواقع في ما يريده الله للإنسان من خلال سنته في الكون، تنطلق الدعوة للتوكل على الله في حياة المؤمنين ليستمدوا منه القوّة، وليشعروا بالثقة من عنده، فإنه لا مجال للقوّة إلا منه ولا للثقة إلا به.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/350.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن حث الباري سبحانه وتعالى عباده على أن يتوكلوا عليه، يبين في هذه الآية ـ التي هي مكملة للآية السابقة ـ نتيجة التوكل وثمرته وفائدته العظمى فيقول: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ وهو بهذا يشير إلى أن قدرة الله فوق كلّ القدرات، فإذا أراد بعبد خيرا وأراد نصره وتأييده والدفاع عنه لم يكن في مقدور أية قوة في الأرض ـ مهما عظمت ـ أن تتغلب عليه، فمن كان ـ هكذا ـ منبع كلّ الانتصارات، وجب التوكل عليه، واستمداد العون منه، فهذه الآية تتضمن ترغيبا للمؤمنين بأن يتكلوا على الله وقدرته التي لا تقهر، مضافا إلى تهيئة كلّ الوسائل الظاهرية، والأسباب العادية.
2. الكلام في الآية السابقة موجه إلى شخص النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمر له في الحقيقة ولكنه في هذه الآية موجه إلى جميع المؤمنين وكأنها تقول لهم: إن عليهم أن يتوكلوا على الله كما يفعل النبي، ولهذا يختم هذه الآية بقوله: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾
3. لا يخفى أن تأييد الله للمؤمنين أو عدم تأييده ليس من غير حساب، فهو يتم بناء على أهليتهم لذلك، فمن أعرض عن تعاليم الله، وغفل عن تحصيل المقومات المادية والمعنوية وتقاعس عن إعداد القوى العادية اللازمة لم يشمله التأييد الإلهي مطلقا، على العكس من الذين استعدوا لمواجهة الأعداء بصفوف متراصة ونيات خالصة وعزائم راسخة، مهيئين كلّ الوسائل اللازمة للمواجهة، فإن تأييد الله سيشمل هؤلاء، وستكون يد الله معهم حتّى تحقيق الانتصار.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/757.
86. نزاهة النبي وجزاء الغالين
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈86⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 161]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنه كان يقرأ: (وما كان لنبي أن يُغل)، فقال ابن عباس أنّه قال: بلى، ويقتل! إنما كانت في قطيفة قالوا: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غلها، يوم بدر؛ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٩٥ من طريق معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الأعمش، عن ابن مسعود به، رجال إسناده ثقات، لكنه منقطع، فلم يسمع الأعمش من ابن مسعود شيئًا، بل قيل: لم يسمع من أحد من الصحابة، وفي سماعه من تلاميذ ابن مسعود مقال، وهو مشهور بالتدليس ومكثر منه، ينظر: جامع التحصيل للعلائي: ص١٨٨.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ ما كان للنبي أن يتهمه أصحابه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أن يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة، ويجور في القسمة، ولكن يقسم بالعدل، ويأخذ فيه بأمر الله، ويحكم فيه بما أنزل الله، يقول: ما كان الله ليجعل نبيا يغل من أصحابه، فإذا فعل ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم استنوا به(2).
3. روي أنّه قال: اتهم المنافقون رسول الله بشيء فقد؛ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾(3).
4. روي أنّه كان ينكر على من يقرأ: (وما كان لنبي أن يغل)، ويقول: كيف لا يكون له أن يغل، وقد كان له أن يقتل!؟، قال الله: ﴿وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران: ١١٢]، ولكن المنافقين اتهموا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في شيء من الغنيمة؛ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾(4).
5. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذها، فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾(5).
6. روي أنّه قال: بعث نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جيشا، فردت رايته، ثم بعث فردت بغلول رأس غزالة من ذهب؛ فنزلت: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾(6).
7. روي أنّه قال: فقدت قطيفة حمراء يوم بدر مما أصيب من المشركين، فقال بعض الناس: لعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذها، فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾(7).
__________
(1) البزار كما في كشف الأستار: ٢١٩٧.
(2) ابن جرير: ٦/١٩٦.
(3) ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير: ٢/١٣٠.
(4) الطبراني: ١١٧٤.
(5) أبو داوود: ٦/١٠٠.
(6) الضياء في المختارة: ٩/٥٢٩،: ص ٢٦٣.
(7) الطبراني في الكبير: ١١/٣٦٤.
ابن عمرو:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: لو كنت مستحلا من الغلول القليل لاستحللت منه الكثير، ما من أحد يغل غلولا إلا كلف أن يأتي به من أسفل درك جهنم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٠٥.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ﴾ يعني: برا وفاجرا ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ يعني: ما عملت من خير أو شر، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ يعني: في أعمالهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٠٥.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وهو عار عليهم يوم القيامة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٠٥.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿أَنْ يَغُلَّ﴾ معناه أن يخان(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 114.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ نزلت في الذين طلبوا الغنيمة يوم أحد وتركوا المركز، وقالوا: إنا نخشى أن يقول النبي : (من أخذ شيئا فهو له)، ونحن ها هنا وقوف، فلما رآهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا من المركز حتى يأتيكم أمري!؟)، قالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال النبي : (ظننتم أنا نغل!؟)، فنزلت: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ﴾ بر وفاجر ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ من خير أو شر، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ في أعمالهم(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣١٠.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ ثم يجزى بكسبه غير مظلوم، ولا معتدى عليه(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٠٨.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عزّ وجل: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ فيه قراءتان: (يغل) بنصب الياء، وبرفع الياء ونصب الغين، ومن قرأه بنصب الياء فذلك يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي: لم يكن نبي من الأنبياء غلّ قط، وهو أحق من لا تتهمونه؛ لعلمكم به؛ فكيف اتهمتموه هنا بالغلول!؟
• قيل: إن ناسا من المنافقين خشوا ألا يقسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الغنيمة بينهم؛ فطلبوا القسمة؛ فنزلت هذه الآية.
• وقيل: قالوا: اعدل يا محمد في القسمة؛ فنزل هذا.
ب. ويحتمل قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي: قد كنتم عرفتموه من قبل أن يرسل، فما عرفتموه خان قط أو غلّ؛ فكيف يحتمل الخيانة بعد ما أرسل!؟ هذا لا يحتمل.
2. من قرأه بالرفع، فهو ـ أيضا ـ يحتمل وجهين:
أ. أي: يتهم بالغلول في الغنيمة؛ فهو يرجع إلى تأويل الأول.
ب. ويحتمل: أن يخان في الغنيمة، لا يخون ولا يحل أن يخان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الغنيمة؛ فإنه يطلع على ذلك، يطلع الله ورسوله، على ما جاء في بعض الأخبار أنّه مرّ بقبر، فقال: إنه في عذاب، قيل: بما ذا يا رسول الله!؟ فقال: (إنّه كان أخذ من الغنيمة قدر درهمين أو نحوه)،
ج. ويحتمل: خصوص الغنيمة بما يتناول الغالّ حلّه، بما لا يعرف له صاحب؛ كالمال الذي لا مالك له، وربما يباح التناول منه للحاجة والأخذ بغير البدل بوجه لا يحتمل بتلك أكل الحل من ذلك.
3. قوله عزّ وجل: ﴿يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي: يؤخذ به يوم القيامة، وهكذا كل من أخذ من مال غيره بغير إذنه؛ فإنه يؤخذ به:
أ. وقال بعض الناس: وإنما خص الغنيمة بفضل وعيد؛ لأن الغلول فيها يجحف بحق الفقراء وأهل الحاجة، أو يضر ذلك أصناف الخلق، وسائر الأموال ليس كذا.
ب. وقيل: إنما جاء الوعيد في هذا أنهم كانوا أهل نفاق، يستحلون الغلول في الغنيمة والأخذ منها، وهذا كأنه أشبه.
4. عن ابن عباس قال بعث رسول الله : ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾، وعن ابن عباس أيضا ـ قال فقدت قطيفة حمراء يوم بدر مما أصيب من المشركين؛ فقال الناس: لعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذها لنفسه؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/519.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾: أي وما كان لنبي أن يلزم عنه حقه الذي جعله الله واجباً له.. ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ﴾: أي يلزم ما افترض الله عليه.. ﴿يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: أي يأتي بوزر فعله ومأثمه يوم القيامة.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 265.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ قرئ بفتح الياء وضم الغين قيل إنه تقدم يوم بدر بعض الغنائم فقال رجل من المنافقين: أخذها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأنزل الله هذه الآية، ويحتمل: ما كان لنبي أن يكتم أمته ما بعثه الله به لرهبة منهم أو رغبة فيهم.. وأما من قرأ بضم الياء وفتح الغين وما كان لنبي أن يَغُل أي يغله أصحابه ويخونوه وأصل الغلو الخلل وهو دخول الماء بين الشجر.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/156.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ وفي وجه المنة بذلك:
أ. أن يكون شرفاً لهم.
ب. الثاني: ليسهل عليهم تعلم الحكمة.
ج. الثالث: ليظهر عليهم علم أحواله من الصدق والأمانة والعفة والطهارة.
2. ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي يشهد لهم أنهم أزكياء في الدين ويدعوهم إلى ما يكونون به أزكياء، ويجوز أن يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/157.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو بفتح الياء وضم العين، وقرأ الباقون يغل بضم الياء وفتح الغين:
أ. ففي تأويل من قرأ بفتح الياء وضم الغين ثلاثة أقاويل:
• أحدها: أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس أخذها رسول الله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول عكرمة، وسعيد بن جبير.
• الثاني: أنها نزلت في طلائع كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجههم في وجه، ثم غنم الرسول فلم يقسم للطلائع فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القسم، وهذا قول ابن عباس، والضحاك.
• الثالث: أن معناه وما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله إليهم لرهبة منه ولا رغبة فيهم، وهذا قول ابن إسحاق.
ب. وأما قراءة من قرأ يغل بضم الياء وفتح الغين ففيها قولان:
• أحدهما: يعني وما كان لنبي أن يتهمه أصحابه ويخوّنوه.
• الثاني: معناه وما كان لنبي أن يغل أصحابه ويخونهم، وهذا قول الحسن، وقتادة، وأصل الغلول الغلل وهو دخول الماء في خلال الشجر، فسميت الخيانة غلولا لأنها تجري في المال على خفاء كجري الماء، ومنه الغل الحقد لأنه العداوة تجري في النفس مجرى الغلل.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/434.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ ابن كثير وابن عمرو، وعاصم (يغل) بفتح الياء وضم الغين، الباقون بضم الياء وفتح الغين، فمن قرأ بفتح الياء وضم الغين، فمعناه ما كان لنبي أن يخون يقال من الغنيمة غل يغل: إذا خان فيها، ومن الخيانة أغل يغل قال النمر بن تولب:
çجزى الله عنا حمزة ابنة نوفل...جزاء مغل بالامانة كاذب
بما سألت عني الوشاة ليكذبوا...علي وقد أوليتها في النوائبé
ويقال من الخيانة غل يغل، ومن قرأ بضم الياء وفتح الغين أراد، وما كان لنبي أن يخون أي ينسب إليه الخيانة، ويحتمل أن يكون أراد ما كان لنبي أن يخان بمعنى يسرق منه، ويكون تخصيص النبي بذلك تعظيما للذنب، قال أبو علي الفارسي: لا يكاد يقال: ما كان لزيد أن يضرب، فهذه حجة من قرأ بفتح الياء.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾:
أ. قال ابن عباس، وسعيد بن جبير: سبب نزول هذه الآية أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من المغنم، فقال بعضهم: لعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذها.
ب. وقال الضحاك: إنما لم يقسم للطلائع من المغنم، فعرفه الله الحكم.
ج. وروي عن الحسن أنه قال: معنى يُغل يُخان، وقال بعضهم: هذا غلط، لأنه لا يجوز أن يخان أحد نبياً كان أو غيره، فلا معنى للاختصاص، وهذا الطعن ليس بشيء لأن وجه اختصاصه بالذكر لعظم خيانته على خيانة غيره، كما قال: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ وإن وجب اجتناب جميع الارجاس، وقد يجوز أن يخص النبي بالذكر، لأنه القائم بأمر الغنائم، فيكون بمنزلة ما كان لأحد أن يغل.
3. أصل الغلول هو الغلل، وهو دخول الماء في خلل الشجر تقول: انغل الماء في أصول الشجر ينغل انغلالا، فالمغلول الخيانة، لأنها تجري في الملك على خفى من غير الوجه الذي يحل كالغلل، وإنما خصت الخيانة بالصفة دون السرقة، لأنه يجري إليها بسهولة، لأنها مع عقد الامانة، ومنه الغل الحقد، لأن العداوة تجري به في النفس كالغلل، ومنه الغل، ومنه الغليل: حرارة العطش، والغلة، لأنها تجري في الملك من جهات مختلفة، والغلالة، لأنها شعار تحت، البدن والغلالة مسمار الدرع.
4. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: يأتي به حاملا له على ظهره، كما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان إذا غنم مغنماً بعث منادياً: (ألا لا يغلن أحد مخيطا فما دونه، ألا لا يغلن أحد بعيراً فيأتي به على ظهره له رغاء، ألا لا يغلن أحد فرساً فيأتي به يوم القيامة على ظهره له حمحمة) ـ في قول ابن عباس، وأبي هريرة وأبي حميد الساعدي، وعبد الله بن أنيس وابن عمر، وقتادة ـ وذلك ليفضح به على رؤوس الاشهاد، وقال البلخي: يجوز أن يكون ما تضمنه الخبر على وجه المثل كأن الله تعالى إذا فضحه يوم القيامة جرى ذلك مجرى أن يكون حاملا له وله صوت.
ب. الثاني: يأتي به يوم القيامة، لأنه لم يكفر عنه، كما تكفر الصغائر، فهو يعاقب عليه.
5. في الآية دلالة على فساد قول المجبرة: إن الله تعالى لو عذب الأنبياء والمؤمنين لم يكن ظلماً لهم، لأنه قد بين أنه لو لم يوفها ما كسبت، لكان ظلماً لها.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/35.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الغلول: الخيانة على الرجل، يَغُلّ إذا خان، غل يَغُل إغلالاً، ومنه: لا إغلال ولا إسلال، فالإغلال: الخيانة، والإسلال: الرشوة، وأصل الغلول الغَلَل، وهو دخول الماء في خلال الشجر، الغَلَل: الماء في أصول الشجر، ينغل انغلالاً، فالغُلول: الخيانة؛ لأنها تجري في الملك على خفاء من غير هذا الوجه الذي يحل كالغلل.
ب. ﴿مَا كَانَ﴾ في القرآن على وجهين: نهي ونفي، فالأول كقوله: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ﴾ الثاني ﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روى عكرمة ومقسم عن ابن عباس، أنها نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعضهم: لعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذها، وعن سعيد بن جبير نحوه وعن الضحاك، عن ابن عباس أن رجلاً غله بمخيط، يعني تأثره من غنائم هوازن يوم حنين، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ب. وعن مقاتل: أنها نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول رسول الله : من أخذ شيئًا فهو له، ولا يقسم كما لم يقسم يوم بدر، ووقعوا في الغنائم، فقال : (أظننتم أنا نفعل ولا نقسم لكم)، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ج. وقيل: إنه قسم المغنم، ولم يقسم للطلائع، فلما قدمت الطلائع، قالوا: قسم الفيء، ولم يقسم لنا؟ فعرفه الله تعالى الحكم فيه، ونزلت الآية عن الضحاك.
د. وقيل: نزل هذا في أداء الوحي، كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقرأ القرآن، وفيه عيب دينهم ويسب آلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
هـ. وقيل: إن قومًا ألحوا عليه يسألونه المغنم دون غيرهم فنزلت الآية.
و. وقيل: أراد جميع الغنائم، فقال بعضهم: لم لا يقسم بيننا غنائمنا، فقال: لو كان لكم مثل أحد ذهبًا ما حبست عنكم درهما، أترون أني أغلكم مغنمكم)، فأنزل الله تعالى هذه الآية عن الأصم.
3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: لما ذكر الجهاد واتصل به حديث الغنائم، نهى عن الخيانة فيهما.
ب. وقيل: لما تركوا الموضع الذي رتب لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأُحُد خوف فوت الغنيمة عاتبهم على ذلك، وبين أن ما خافوا منه ليس بعذر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان لا يخون في الغنيمة.
ج. وقيل: لما خالفوا أمر الرسول بين أنه لا ينبغي لأحد أن يخون الرسول، هذا على قراءة من قرأ بضم الياء.
د. وقيل: لما بين ما عليه رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم من محاسن الأخلاق اتصل به محاسن الأفعال، وهو أنه لا يَجُور في أمر من الأمور فيدخل فيه جميع المعاصي.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾:
أ. بفتح الياء:
• قيل: أي لا تجتمع النبوة والخيانة.
• وقيل: ما كان له أن يكتم شيئًا من وحيه عن ابن إسحاق، تقديره: ما كان له أن يغل أمته فيما يؤدي إليهم.
• وقيل: اللام منقولة تقديره: ما كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليغل، فهو نفي الغلول عنه، كقوله: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾
ب. وعلى رفع الياء:
• قيل: ما كان لنبي أن يخان، يعني يخونه أصحابه ويكتمونه شيئًا من المغنم، وخصه بالذكر وإن كان لا يجوز خيانة غيره لوجهين:
● أحدهما: عظم خيانته.
● الثاني: لأنه القائم بأمر الغنائم، فصار كأنه قيل: ما كان لأحد أن يغل.
• وقيل: ما كان لنبي أن ينسب إلى الخيانة.
• وقيل: ما كان لنبي أن يظن به الخيانة عن المفضل.
5. ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ﴾ يَخُنْ ﴿يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾:
أ. قيل: يأتي به حاملاً على ظهره كما روي في خبر طويل: (ألا لا يغلن أحد بعيرًا فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء فيقول: يا محمد يا محمد، ألا لا يغلن أحد فرسًا فيأتي به يوم القيامة على ظهره له حمحمة فيقول: يا محمد يا محمد فيقول: قد بلغت قد بلغت، لا أملك لك من الله شيئًا) عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي حميد الساعدي وابن عمر وقتادة وأبي علي، قال أبو علي: وذلك ليفضح به على رؤوس الأشهاد.. وهو الوجه؛ لأنه الظاهر.
ب. وقيل: يأتي به يوم القيامة؛ لأنه لو لم يكفر عنهم كما تكفر الصغائر فهو يعاقب عليه.
ج. وقيل: يأتي بِوَبَالِهِ وجزائه عن أبي مسلم.
د. وقيل: يمثل له ذلك الشيء في النار، ثم يقال له: انزِلْ فخذه فينزل فيحمله على ظهره، فإذا بلغ موضعه وقع في النار، فَيُكَلَّف أن ينزل إليه فيخرجه يفعل به ذلك عن الكلبي.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾:
أ. قيل: أي تعطى تامًا كل نفس جزاء ما عملت غير منقوص.
ب. وقيل: تجزى كل نفس بقدر ما عملت.
7. ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أي لا يبخس من ثواب المحسن، ولا يزاد في عقاب المسيء.
8. في الآية أحكام عقلية، وأحكام شرعية:
أ. أما العقلية، فتدل على:
• بطلان قول الْمُجْبِرَةِ، وأنه تعالى بين أنه توفى كل نفس جزاءها، ولا يظلمون: لا يبخس حقهم، وعندهم له أن يمنعهم جميع حقهم، ولا يكون ظلمًا، ولو عذب الأنبياء من غير ذنب لم يكن ظلمًا، وهذا خلاف الآية.
• أن الظالم يؤخذ منه الأعواض للمظلوم يوم القيامة؛ لأن المُتَعَالَمَ أن نفس ما غله لا يأتي به، فالمراد ما يستحق عليه بدلاً وهو العوض.
• عظم الخيانة مع الرسول؛ فلذلك خصه بالذكر.
• تنزيه الرسول، لأنه بين أن الغلول تجانب النبوة، فيدخل فيه جميع وجوه الخيانات.
• أنه تعالى يوفي كل نفس جزاء ما كسبت من خير أو شر.
ب. أما الأحكام الشرعية، فتدل على:
• أن الغنيمة يملكها المسلمون لولا ذلك لما كان كتمانه خيانة.
• عظم مأثم الغلول؛ لما فيه من ظلم الغانمين وأصحاب الخمس.
• قال الأصم: وفي الآية دليل على أن الوعيد في أهل الصلاة.
• الوعيد في الغلول في سائر الحقوق، كالزكوات، وسائر العبادات.
• أنه ليس لأحد أن يستبد بالغنيمة، وهذا فيما هو غني عنه دون ما أبيح له كالطعام، وعلف الدواب، وسلاح الحرب، فذلك لا يدخل في الغلول.
9. قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو ﴿يَغُلَّ﴾ بفتح الياء وضم الغين على أن الفعل فيه للنبي، أي ما كان النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم يخون، وقرأ الباقون ﴿يَغُلَّ﴾ بضم الياء وفتح الغين، وفيه وجهان:
أ. أحدهما: أن يكون من الغلول، أي ما كان لنبي أن يخان، يعني تخونه أمته.
ب. الثاني: أن يكون من الأغلال، أي ما كان لنبي أن يخون أي ينسب إلى الخيانة، قال المبرد: تقول العرب: أكْفَرْتُ الرجل: جعلته كافرًا، ونسبته إلى الكفر.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/441.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أصل الغلول من الغلل، وهو دخول الماء في خلل الشجر، يقال: انغل الماء في أصول الشجر، والغلول: الخيانة، لأنها تجري في الملك على خفاء من غير الوجه الذي يحل كالغلل، ومنة الغل: الحقد، لأنه يجري في النفس كالغلل، ومنه الغليل: حرارة العطش، والغلة كأنها تجري في الملك من جهات مختلفة، والغلالة: لأنها شعار تحت البدن.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير أنها نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من المغنم، فقال بعضهم: لعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذها، وفي رواية الضحاك عنه: إن رجلا غل بمخيط أي: بإبرة من غنائم هوازن، يوم حنين، فنزلت الآية.
ب. وعن مقاتل: إنها نزلت في غنائم أحد، حين ترك الرماة المركز طلبا للغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول رسول الله من أخذ شيئا فهو له، ولا يقسم كما لم يقسم يوم بدر، ووقعوا في الغنائم، فقال رسول الله: أظننتم أنا نغل، ولا نقسم لكم؟ فأنزل الله الآية.
ج. وقيل: إنه قسم المغنم، ولم يقسم للطلائع، فلما قدمت الطلائع قالوا: أقسم الفئ ولم يقسم لنا؟ فعرفه الله الحكم، فنزلت الآية.
د. وقيل: نزلت في أداء الوحي، كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقرأ القرآن، وفيه عيب دينهم، وسب آلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فأنزل الله الآية.
3. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ﴿أَنْ يَغُلَّ﴾ بفتح الياء وضم الغين، وقرأ الباقون بضم الياء، وفتح الغين:
أ. من قرأ ﴿يَغُلَّ﴾ بفتح الياء، فمعناه: يخون، يقال: غل في الغنيمة يغل: إذا خان فيها، وأغل بمعناه، وقال النمر بن تولب:
çجزى الله عنا جمرة بنت نوفل... جزاء مغل بالأمانة كاذب
بما سألت عني الوشاة ليكذبوا... علي، وقد أوليتها في النوائبé
قال أبو علي الفسوي: الحجة لمن قرأ ﴿أَنْ يَغُلَّ﴾ أنما جاء في التنزيل من هذا النحو أسند الفعل فيه إلى الفاعل نحو ﴿مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾، و﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ﴾، و﴿ما كان لنفس أن تموت﴾، و﴿ما كان الله ليضل قوما﴾، و﴿ما كان الله ليطلعكم على الغيب﴾ ولا يكاد يقال: ما كان لزيد أن يضرب، وما كان لزيد ليضرب، فيسند الفعل فيه إلى المفعول به، فكذلك قوله ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ يسند الفعل فيه إلى الفاعل، ويروى عن ابن عباس أنه قرأ ﴿يَغُلَّ﴾ فقيل له: إن عبد الله قرأ ﴿يَغُلَّ﴾ فقال ابن عباس: بلى والله ويقتل، وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: وقد كان النبي يقتل، فكيف لا يخون!؟
ب. ومن قرأ ﴿يَغُلَّ﴾ بضم الياء، فمعناه على وجهين:
• أحدهما: ما كان لنبي أن يخون أي: ينسب إلى الخيانة أي: يقال له غللت، كقولك: أسقيته أي: قلت له سقاك الله، قال ذو الرمة:
çوأسقيه حتى كاد مما أبثه... تكلمني أحجاره، وملاعبهé
وقال الكميت:
çوطائفة قد أكفرتني بحبكم... وطائفة قالت: مسئ ومذنبé
أي نسبتني إلى الكفر.
• والآخر: ما كان لنبي أن يخان بمعنى يسرق منه، ويؤخذ من الغنيمة التي حازها، ويكون تخصيص النبي بذلك تعظيما للذنب.
4. لما قدم تعالى أمر الجهاد، وذكر بعده ما يتعلق به من حديث الغنائم، والنهي عن الخيانة فيها فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ وتقديره: وما كان لنبي الغلول، لأن أن مع الفعل بمعنى المصدر أي: لا تجتمع النبوة والخيانة:
أ. قيل: معناه ما كان له أن يكتم شيئا من الوحي، عن ابن إسحاق، وتقديره: ما كان له أن يغل أمته فيما يؤدي إليهم.
ب. وقيل: اللام منقولة، وتقديره: ما كان النبي ليغل كقوله ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ معناه: ما كان الله ليتخذ ولدا، وعلى القراءة الأخرى: ما كان لنبي أن يخون أي: يخونه أصحابه، أو بمعنى يكتمونه شيئا من المغنم على ما مضى القول فيه.
5. خض الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالذكر، وإن كان لا يجوز أن يغل غيره من إمام، أو أمير للمسلمين، لوجهين:
أ. أحدهما: لعظم خيانته، وأنها أعظم من خيانة غيره، وهذا كقوله ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ وإن كان اجتناب جميع الأرجاس واجبا.
ب. والآخر: إن النبي إنما خص بالذكر، لأنه القائم بأمر الغنائم، فإذا حرمت الخيانة عليه، وهو صاحب الأمر، فحرمتها على غيره أولى وأجدر.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾:
أ. قيل: معناه: إنه يأتي حاملا على ظهره، كما روي في حديث طويل: (ألا لا يغلن أحد بعيرا فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء ألا لا يغلن أحد فرسا فيأتي به على ظهره له حمحمة، فيقول: يا محمد، يا محمد! فأقول: قد بلغت، قد بلغت، لا أملك لك من الله شيئا) عن ابن عباس وأبي حميد وأحمد الساعدي وابن عمر وقتادة، قال الجبائي: وذلك ليفضح به على رؤوس الأشهاد، وقال البلخي: فيجوز أن يكون ما تضمنه الخبر على وجه المثل كأن الله إذا فضحه يوم القيامة جرى ذلك مجرى أن يكون حاملا له، وله صوت، وقد روي في خبر آخر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأمر مناديا فينادي في الناس: (ردوا الخيط والمخيط، فإن الغلول عار وشنار يوم القيامة)، فجاء رجل بكبة شعر، فقال: إني أخذتها لأخيط بردعة بعيري، فقال النبي : أما نصيبي منها فهو لك، فقال الرجل: أما إذا بلغ الأمر هذا المبلغ فلا حاجة لي فيها.
ب. والأولى أن يكون معناه: ومن يغلل يواف بما غل يوم القيامة، فيكون حمل غلوله على عنقه إمارة يعرف بها، وذلك حكم الله تعالى في كل من وافى يوم القيامة بمعصيته، لم يتب منها، أو أراد الله تعالى أن يعامله بالعدل، أظهر عليه من معصيته علامة تليق بمعصيته، ليعلمه أهل القيامة بها، ويعلموا سبب استحقاقه العقوبة، كما قال تعالى ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾ وهكذا حكمه تعالى في كل من وافى القيامة بطاعة، فإنه تعالى يظهر من طاعته علامة يعرف بها.
7. ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ أي: يعطي كل نفس جزاء ما عملت، تاما وافيا ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أي: لا ينقص أحد مقدار ما يستحقه من الثواب، ولا يزاد أحد عن مقدار ما استحقه من العذاب، وفي هذه الآية دلالة على فساد قول المجبرة: إن الله لو عذب أولياءه لم يكن ذلك منه ظلما، لأنه قد بين أنه لو لم يوفها ما كسبت، لكان ظلما.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/872.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ على سبعة أقوال:
أ. أحدها: أن قطيفة من المغنم فقدت يوم بدر، فقال ناس: لعلّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذها، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنّ رجلا غلّ من غنائم هوازن يوم حنين، فنزلت هذه الآية، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.
ج. الثالث: أن قوما من أشراف النّاس طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يخصّهم بشيء من الغنائم، فنزلت هذه الآية، نقل عن ابن عباس أيضا.
د. الرابع: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث طلائعا، فغنم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم غنيمة، ولم يقسم للطّلائع، فقالوا قسم الفيء ولم يقسم لنا، فنزلت هذه الآية، قاله الضّحّاك.
هـ. الخامس: أنّ قوما غلّوا يوم بدر، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
و. السادس: أنها نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أحد طلبا للغنيمة، وقالوا: نخاف أن يقول النبيّ : (من أخذ شيئا، فهو له) فقال لهم النبيّ : (ألم أعهد إليكم ألّا تبرحوا!؟ أظننتم أنّا نغلّ!؟) فنزلت هذه الآية، قاله ابن السّائب، ومقاتل.
ز. السابع: أنها نزلت في غلول الوحي، قاله القرظيّ، وابن إسحاق، وذكر بعض المفسرين أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وآلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فنزلت هذه الآية.
2. اختلف القرّاء في (يغل) فقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: بفتح الياء وضمّ الغين، ومعناها: يخون، وفي هذه الخيانة قولان:
أ. أحدهما: خيانة المال على قول الأكثرين.
ب. الثاني: خيانة الوحي على قول القرظيّ، وابن إسحاق.
3. قرأ الباقون: بضمّ الياء وفتح الغين، ولها وجهان:
أ. أحدهما: أن يكون المعنى يخان، ويجوز أن يكون: يلفى خائنا، يقال: أغللت فلانا، أي: وجدته غالا، كما يقال: أحمقته: وجدته أحمق، وأحمدته: وجدته محمودا، قاله الحسن، وابن قتيبة.
ب. الثاني: يخوّن، قاله الفرّاء، وأجازه الزجّاج، وردّه ابن قتيبة، فقال: لو أراد: يخون، لقال: يغلل، كما يقال: يفسق ويخون، ويفجر.
4. (اللام) في قوله ﴿لِنَبِيٍّ﴾ قيل: منقولة، ومعنى الآية: وما كان النبيّ ليغلّ، ومثله: ﴿مَا كَانَ لله أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ أي: ما كان الله ليتّخذ ولدا.
5. هذه الآية من ألطف التّعريض، إذ قد ثبتت براءة ساحة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من الغلول، فدلّ على أنّ الغلول في غيره، ومثله: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ وقد ذكر عن السّدّيّ نحو هذا.
6. ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ الغلول: أخذ شيء من المغنم خفية، ومنه الغلالة، وهي ثوب يلبس تحت الثياب، والغلل: وهو الماء الذي يجري تحت الشّجر، والغلّ: وهو الحقد الكامن في الصّدر، وأصل الباب الاختفاء، وفي إتيانه بما غلّ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه يأتي بما غلّه، يحمله، ويدلّ عليه ما روى البخاريّ ومسلم في (الصّحيحين) من حديث أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوما فذكر الغلول، فعظّمه، وعظم أمره، ثم قال: لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك)، الرّغاء: صوت البعير، والثّغاء: صوت الشّاة، والنّفس: ما يغلّ من السّبي، والرّقاع: الثّياب، والصّامت: المال.. وهذا القول هو الأصحّ لمكان الأثر الصّحيح.
ب. الثاني: أنّه يأتي حاملا إثم ما غلّ.
ج. الثالث: أنه يردّ عوض ما غلّ من حسناته.
__________
(1) زاد المسير: 1/342.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بالغ الله تعالى في الحث على الجهاد أتبعه بذكر أحكام الجهاد، ومن جملتها المنع من الغلول، فذكر هذه الآية في هذا المعنى.
2. ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ الغلول هو الخيانة، وأصله أخذ الشيء في الخفية، يقال أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم على طريق الخيانة، والغل الحقد الكامن في الصدر، والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الثياب، والغلل الماء الذي يجري في أصول الشجرة لأنه مستتر بالأشجار وتغلل الشيء إذا تخلل وخفي، وقال : (من بعثناه على عمل فغل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه) وقال: (هدايا الولاة غلول) وقال: (ليس على المستعير غير المغل ضمان) وقال: (لا إغلال ولا إسلال)، وأيضا يقال: أغله إذا وجده غالا، كقولك: أبخلته وأفحمته، أي وجدته كذلك.
3. قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو (يغل) بفتح الياء وضم الغين، أي ما كان للنبي أن يخون، وقرأ الباقون من السبعة (يغل) بضم الياء وفتح الغين، أي ما كان للنبي أن يخان، واختلفوا في أسباب النزول، فبعضها يوافق القراءة الأولى، وبعضها يوافق القراءة الثانية:
أ. أما النوع الأول: ففيه روايات:
• الأولى: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم غنم في بعض الغزوات وجمع الغنائم، وتأخرت القسمة لبعض الموانع، فجاء قوم وقالوا: ألا تقسم غنائمنا؟ فقال : (لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست عنكم منه درهما أتحسبون أني أغلكم مغنمكم) فأنزل الله هذه الآية.
• الثاني: أن هذه الآية نزلت في أداء الوحي، كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسب آلهتهم، فسألوه أن يترك ذلك فنزلت هذه الآية.
• الثالث: روى عكرمة وسعيد بن جبير: أن الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الجهال لعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذها فنزلت هذه الآية.
• الرابع: روي عن ابن عباس من طريق آخر أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من الغنائم بشيء زائد فنزلت هذه الآية.
• الخامس: روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث طلائع فغنموا غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت هذه الآية.
• السادس: قال الكلبي ومقاتل: نزلت هذه الآية حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول النبي : من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر، فقال : (ظننتم أنا نغل فلا نقسم لكم) فنزلت هذه الآية.
فعلى الرواية الأولى المراد من الآية النهي عن أن يكتم الرسول شيئا من الغنيمة عن أصحابه لنفسه، وعلى الروايات الثلاثة يكون المقصود نهيه عن الغلول، بأن يعطي للبعض دون البعض.
ب. أما النوع الثاني: أي ما يوافق القراءة الثانية:
• فروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما وقعت غنائم هوازن في يده يوم حنين، غل رجل بمخيط فنزلت هذه الآية، واعلم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عظم أمر الغلول وجعله من الكبائر.
• وعن ثوبان عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر والغلول والدين)
• وعن عبد الله بن عمرو: أن رجلا كان على ثقل النبي ، يقال له: كركرة فمات، فقال النبي : هو في النار، فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء وعباءة قد غلهما.
• وقال : (أدوا الخيط والمخيط فإنه عار ونار وشنار يوم القيامة)
• وروى رويفع بن ثابت الأنصاري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا حتى إذا أخلقه رده)
• وروي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل سلمان على الغنيمة فجاءه رجل وقال يا سلمان كان في ثوبي خرق فأخذت خيطا من هذا المتاع فخطته به، فهل علي جناح؟ فقال سلمان: كل شيء بقدره فسل الرجل الخيط من ثوبه ثم ألقاه في المتاع.
• وروي أن رجلا جاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بشراك أو شراكين من المغنم، فقال أصبت هذا يوم خيبر، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (شراك أو شراكان من نار) ورمي رجل بسهم في خيبر، فقال القوم لما مات: هنيئا له الشهادة فقال : (كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة التي أخذها من الغنائم قبل قسمتها لتلتهب عليه نارا)
4. يستثنى عن هذا النهي حالتان:
أ. الحالة الأولى: أخذ الطعام وأخذ علف الدابة بقدر الحاجة، قال عبد الله بن أبي أوفى: أصبنا طعاما يوم حنين، فكان الرجل يأتي فيأخذ منه قدر الكفاية ثم ينصرف، وعن سلمان أنه أصاب يوم المدائن أرغفة وجبنا وسكينا، فجعل يقطع من الجبن ويقول: كلوا على اسم الله.
ب. الحالة الثانية: إذا احتاج اليه، روي عن البراء بن مالك أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به.
5. القراءة بفتح الياء وضم الغين ﴿يَغُلَّ﴾، بمعنى: ما كان لنبي أن يخون، له تأويلان:
أ. الأول: أن يكون المراد أن النبوة والخيانة لا يجتمعان، وذلك لأن الخيانة سبب للعار في الدنيا والنار في الآخرة، فالنفس الراغبة فيها تكون في نهاية الدناءة، والنبوة أعلى المناصب الانسانية فلا تليق إلا بالنفس التي تكون في غاية الجلالة والشرف، والجمع بين الصفتين في النفس الواحدة ممتنع، فثبت أن النبوة والخيانة لا تجتمعان، فنظير هذه الآية قوله: ﴿مَا كَانَ لله أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ [مريم: 35] يعني: الإلهية واتخاذ الولد لا يجتمعان، وقيل: اللام منقولة، والتقدير: وما كان النبي ليغل، كقوله: ﴿مَا كَانَ لله أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ أي ما كان الله ليتخذ ولدا.
ب. الثاني: في تأويل هذه الآية على هذه القراءة أن يقال: إن القوم قد التمسوا منه أن يخصهم بحصة زائدة من الغنائم، ولا شك أنه لو فعل ذلك لكان ذلك غلو لا، فأنزل الله تعالى هذه الآية مبالغة في النهي له عن ذلك، ونظيره قوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65] وقوله: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ [الحاقة: 44، 45] فقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي ما كان يحل له ذلك، وإذا لم يحل له لم يفعله، ونظيره قوله: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا﴾ [النور: 16] أي ما يحل لنا.
6. حجة القراءة ﴿يَغُلَّ﴾ بفتح الياء وضم الغين وجوه:
أ. أحدها: أن أكثر الروايات في سبب نزول هذه الآية أنهم نسبوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الغلول، فبين الله بهذه الآية أن هذه الخصلة لا تليق به.
ب. ثانيها: أن ما هو من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل كقوله: ﴿مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ﴾ [يوسف: 38] و﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ﴾ [يوسف: 76] ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ [آل عمران: 145] ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ [التوبة: 115] ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ [آل عمران: 179] وقل أن يقال: ما كان زيد ليضرب، وإذا كان كذلك وجب إلحاق هذه الآية بالأعم الأغلب، ويؤكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة، وقال: ليس في الكلام ما كان لك أن تضرب، بضم التاء.
ج. ثالثها: أن هذه القراءة اختيار ابن عباس: فقيل له إن ابن مسعود يقرأ (يغل) فقال ابن عباس: كان النبي يقصدون قتله، فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة؟
7. القراءة الثانية وهي (يُغلّ) بضم الياء وفتح الغين في تأويلها وجهان:
أ. الأول: أن يكون المعنى: ما كان للنبي أن يخان، والخيانة مع كل أحد محرمة، وتخصيص النبي بهذه الحرمة فيه فوائد:
• أحدها: أن المجني عليه كلما كان أشرف وأعظم درجة كانت الخيانة في حقه أفحش، والرسول أفضل البشر فكانت الخيانة في حقه أفحش.
• ثانيها: أن الوحي كان يأتيه حالا فحالا، فمن خانه فربما نزل الوحي فيه فيحصل له مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا.
• ثالثها: أن المسلمين كانوا في غاية الفقر في ذلك الوقت فكانت تلك الخيانة هناك أفحش.
ب. الثاني: أن يكون من الإغلال: أن يخونه أي ينسب إلى الخيانة، قال المبرد تقول العرب: أكفرت الرجل جعلته كافرا ونسبته إلى الكفر، قال العتبي: لو كان هذا هو المراد لقيل: يغلل، كما قيل: يفسق ويفجر ويكفر، والأولى: أن يقال: إنه من أغللته، أي وجدته غالا، كما يقال أبخلته وأفحمته، أي وجدته كذلك، قال الزمخشري: وهذه القراءة بهذا التأويل يقرب معناها من معنى القراءة الأولى، لأن هذا المعنى لهذه القراءة هو أنه لا يصح أن يوجد النبي غالا، لأنه يوجد غالا إلا إذا كان غالا.
8. ذكرنا أن الغلول هو الخيانة، إلا أنه في عرف الاستعمال صار مخصوصا بالخيانة في الغنيمة، وقد جاء هذا أيضا في غير الغنيمة، قال : (ألا أنبئكم بأكبر الغلول الرجلان يكون بينهما الدار والأرض فان اقتطع أحدهما من صاحبه موضع حصاة طوقها من الأرضين السبع)، وعلى هذا التأويل يكون المعنى كونه صلّى الله عليه وآله وسلّم مبرأ عن جميع الخيانات، وكيف لا نقول ذلك والكفار كانوا يبذلون له الأموال العظيمة لترك ادعاء الرسالة فكيف يليق بمن كان كذلك وكان أمينا لله في الوحي النازل اليه من فوق سبع سموات أن يخون الناس!
9. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وجهان:
أ. الأول: وهو قول أكثر المفسرين إجراء هذه الآية على ظاهرها، قالوا: وهي نظير قوله في مانع الزكاة ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا﴾ [التوبة: 35] ويدل عليه قوله: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك)، وعن ابن عباس أنه قال: يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم، ثم يقال له: انزل اليه فخذه فينزل اليه، فإذا انتهى اليه حمله على ظهره فلا يقبل منه، قال المحققون: والفائدة فيه أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته.
ب. الثاني: أن يقال: ليس المقصود منه ظاهره، بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل والتصوير، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ﴾ [لقمان: 16] فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهر: بل المقصود إثبات أن الله تعالى لا يعزب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فكذا هاهنا المقصود تشديد الوعيد، ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجهين:
• الأول: قال أبو مسلم: المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه، لأنه لا يخفى عليه خافية.
• الثاني: قال أبو القاسم الكعبي: المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء، واعلم أن هذا التأويل يحتمل إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة، إلا إذا قام دليل يمنع منه، وهاهنا لا مانع من هذا الظاهر، فوجب إثباته.
10. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل بما قبله؟ والجواب: الفائدة في ذكر هذا العموم أن صاحب الغلول إذا علم أن هاهنا مجازيا يجازي كل أحد على عمله سواء كان خيراً أو شرا، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب.
11. المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ يتمسكون بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ في إثبات كون العبد فاعلا، وفي إثبات وعيد الفساق:
أ. أما الأول: فلأنه تعالى أثبت الجزاء على كسبه، فلو كان كسبه خلقا لله لكان الله تعالى يجازيه على ما خلقه فيه.
ب. وأما الثاني: فلأنه تعالى قال في القائل المتعمد: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ [النساء: 93] وأثبت في هذه الآية أن كل عامل يصل اليه جزاؤه فيحصل من مجموع الآيتين القطع بوعيد الفساق.
12. أجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ أن سؤال الفعل جوابه المعارضة بالعلم، وأما سؤال الوعيد فهذا العموم مخصوص في صورة التوبة، فكذلك يجب أن يكون مخصوصا في صورة العفو للدلائل الدالة على العفو.
13. ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ قال القاضي: هذا يدل على أن الظلم ممكن في أفعال الله وذلك بأن ينقص من الثواب أو يزيد في العقاب، قال ولا يتأتى ذلك إلا على قولنا دون قول من يقول من المجبرة: إن أي شيء فعله تعالى فهو عدل وحكمة لأنه المالك، أجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ أن نفي الظلم عنه لا يدل على صحته عليه، كما أن قوله: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255] لا يدل على صحتهما عليه.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/412.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أخل الرماة يوم أحد بمراكزهم خوفا من أن يستولي المسلمون على الغنيمة فلا يصرف إليهم شي، بين الله سبحانه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يجور في القسمة، فما كان من حقكم أن تتهموه، وقال الضحاك: بل السبب أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع، فأنزل الله عليه عتابا: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ﴾ أي يقسم لبعض ويترك بعضا، وروي نحو هذا القول عن ابن عباس، وقال ابن عباس أيضا وعكرمة وابن جبير وغيرهم: نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت في المغانم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي : لعل أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذها، فنزلت الآية أخرجه أبو داوود والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، قال ابن عطية: قيل كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجا، وقيل: كانت من المنافقين، وقد روي أن المفقود كان سيفا، وهذه الأقوال تخرج على قراءة ﴿يَغُلَّ﴾ بفتح الياء وضم الغين، وروى أبو صخر عن محمد بن كعب ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ قال: تقول وما كان لنبي أن يكتم شيئا من كتاب الله، وقيل: اللام فيه منقولة، أي وما كان نبي ليغل، كقوله: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ﴾ [مريم]، أي ما كان الله ليتخذ ولدا.
2. قرئ ﴿يَغُلَّ﴾ بضم الياء وفتح الغين، وقال ابن السكيت: لم نسمع في المغنم إلا غل غلولا، وقرى و(ما كان لنبي أن يغل) ويغل، قال: فمعنى ﴿يَغُلَّ﴾ يخون، ومعنى ﴿يَغُلَّ﴾ يخون، ويحتمل معنيين: أحدهما يخان أي يؤخذ من غنيمته، والآخر يخون أن ينسب إلى الغلول.
3. الغلول: قيل: إن كل من غل شيئا في خفاء فقد غل يغل غلولا، قال ابن عرفة: سميت غلولا لأن الأيدي مغلولة منها، أي ممنوعة، وقال أبو عبيد: الغلول من المغنم خاصة، ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد، ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة: أغل يغل، ومن الحقد: غل يغل بالكسر، ومن الغلول: غل يغل بالضم، وغل البعير أيضا يغل غلة إذا لم يقض ريه وأغل الرجل خان، قال النمر:
çجزى الله عنا حمزة ابنة نوفل...جزاء مغل بالأمانة كاذبé
وفي الحديث: (لا إغلال ولا إسلال) أي لا خيانة ولا سرقة، ويقال: لا رشوة، وقال شريح: ليس على المستعير غير المغل ضمان، وقال : (ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن) من رواه بالفتح فهو من الضغن، وغل [دخل] يتعدى ولا يتعدى، يقال: غل فلان المفاوز، أي دخلها وتوسطها، وغل من المغنم غلولا، أي خان، وغل الماء بين الأشجار إذا جرى فيها، يغل بالضم في جميع ذلك، وقيل: الغلول في اللغة أن يأخذ من المغنم شيئا يستره عن أصحابه، ومنه تغلغل الماء في الشجر إذا تخللها، والغلل: الماء الجاري في أصول الشجر، لأنه مستتر بالأشجار، كما قال:
çلعب السيول به فأصبح ماؤه...غللا يقطع في أصول الخروعé
ومنه الغلالة للثوب الذي يلبس تحت الثياب، والغال: أرض مطمئنة ذات شجر، ومنابت السلم والطلح يقال لها: غال، والغال أيضا نبت، والجمع غلان بالضم، وقال بعض الناس: إن معنى ﴿يَغُلَّ﴾ يوجد غالا، كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا، فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى ﴿يَغُلَّ﴾ بفتح الياء وضم الغين.
4. معنى ﴿يَغُلَّ﴾ عند جمهور أهل العلم أي ليس لأحد أن يغله، أي يخونه في الغنيمة، فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في الغنائم، والتوعد عليه، وكما لا يجوز أن يخان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يجوز أن يخان غيره، ولكن خصه بالذكر لأن الخيانة معه أشد وقعا وأعظم وزرا، لأن المعاصي تعظم بحضرته لتعين توقيره، والولاة إنما هم على أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلهم حظهم من التوقير، وقيل: معنى ﴿يَغُلَّ﴾ أي ما غل نبي قط، وليس الغرض النهي.
5. ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي يأتي به حاملا له على ظهره ورقبته، معذبا بحمله وثقله، ومرعوبا بصوته، وموبخا بإظهار خيانته على رءوس الأشهاد، على ما يأتي، وهذه الفضيحة التي يوقعها الله تعالى بالغال نظير الفضيحة التي توقع بالغادر، في أن ينصب له لواء عند إسته بقدر غدرته، وجعل الله تعالى هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه، ألا ترى إلى قول الشاعر:
çأسمي ويحك هل سمعت بغدرة...رفع اللواء لنا بها في المجمعé
وكانت العرب ترفع للغادر لواء، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته:
أ. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: (لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك)
ب. وروى أبو داوود عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من الشعر فقال: يا رسول الله هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة، فقال: أسمعت بلالا ينادي ثلاثا)؟ قال: نعم، قال: فما منعك أن تجئ به)؟ فاعتذر إليه، فقال: (كلا أنت تجئ به يوم القيامة فلن أقبله منك)، قال بعض العلماء: أراد يوافي بوزر ذلك يوم القيامة، كما قال في آية أخرى: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [الانعام]، وقيل: (الخبر محمول على شهرة الأمر، أي يأتي يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل بعيرا له رغاء أو فرسا له حمحمة)، وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه، وإذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل كما في كتب الأصول، وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحقيقة، ولا عطر بعد عروس، ويقال: إن من غل شيئا في الدنيا يمثل له يوم القيامة في النار، ثم يقال له: انزل إليه فخذه، فيهبط إليه، فإذا انتهى إليه حمله، حتى إذا انتهى إلى الباب سقط عنه إلى أسفل جهنم، فيرجع إليه فيأخذه، لا يزال هكذا إلى ما شاء الله، ويقال: ﴿يَأْتِ بِمَا غَلَّ﴾ يعني تشهد عليه يوم القيامة تلك الخيانة والغلول.
6. قال العلماء: والغلول كبيرة من الكبائر، بدليل هذه الآية وما ذكرناه من حديث أبي هريرة: أنه يحمله على عنقه، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم في مدعم: (والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذ يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا) قال: فلما سمع الناس ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله ، فقال رسول الله : (شراك أو شراكان من نار)، أخرجه الموطأ، فقوله : (والذي نفسي بيده) وامتناعه من الصلاة على من غل دليل على تعظيم الغلول وتعظيم الذنب فيه وأنه من الكبائر، وهو من حقوق الآدميين ولا بد فيه من القصاص بالحسنات والسيئات، ثم صاحبه في المشيئة، وقوله: (شراك أو شراكان من نار) مثل قوله: (أدوا الخياط والمخيط)، وهذا يدل على أن القليل والكثير لا يحل أخذه في الغزو قبل المقاسم، إلا ما أجمعوا عليه من أكل المطاعم في أرض الغزو ومن الاحتطاب والاصطياد.
7. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالغلول، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.
8. من الغلول هدايا العمال، وحكمه في الفضيحة في الآخرة حكم الغال، روى أبو داوود في سننه ومسلم في صحيحه عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم استعمل رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: (ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا، لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا فله رغاء وإن كانت بقرة فلها خوار أو شاة تيعر ـ ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال: (اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت)، وروى أبو داوود عن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)، وروى أيضا عن أبي مسعود الأنصاري قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ساعيا ثم قال: انطلق أبا مسعود ولا ألفينك يوم القيامة تأتي على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته، قال: إذا لا أنطلق، قال: إذا لا أكرهك، وقد قيد هذه الأحاديث ما رواه أبو داوود أيضا عن المستورد بن شداد قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا، قال فقال أبو بكر: أخبرت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال سارق.
9. من الغلول حبس الكتب عن أصحابها، ويدخل غيرها في معناها، قال الزهري: إياك وغلول الكتب، فقيل له: وما غلول الكتب؟ قال: حبسها عن أصحابها، وقد قيل في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أن يكتم شيئا من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة، وذلك أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وسب آلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فأنزل الله هذه الآية، قاله محمد بن بشار، وما بدأنا به قول الجمهور.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/255.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي ما صح له ذلك لتنافي الغلول والنبوّة، قال أبو عبيد: الغلول: من المغنم خاصة، ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد، ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة: أغلّ يغلّ، ومن الحقد: غلّ يغلّ بالكسر، ومن الغلول: غلّ يغلّ بالضم؛ يقال: غلّ المغنم غلولا، أي: خان بأن يأخذ لنفسه شيئا يستره على أصحابه؛ فمعنى الآية على القراءة بالبناء للفاعل: ما صح لنبيّ أن يخون شيئا من المغنم، فيأخذه لنفسه من غير اطلاع أصحابه، وفيه تنزيه الأنبياء عن الغلول، ومعناها على القراءة بالبناء للمفعول: ما صحّ لنبيّ أن يغله أحد من أصحابه، أي: يخونه في الغنيمة، وهو على هذه القراءة الأخرى: نهي للناس عن الغلول في المغانم؛ وإنما خص خيانة الأنبياء مع كون خيانة غيرهم من الأئمة والسلاطين والأمراء حراما، لأن خيانة الأنبياء أشدّ ذنبا وأعظم وزرا.
2. ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي: يأت به حاملا له على ظهره، كما صح ذلك عن النبي ، فيفضحه بين الخلائق، وهذه الجملة تتضمن تأكيد تحريم الغلول، والتنفير منه، بأنه ذنب يختص فاعله بعقوبة على رؤوس الأشهاد، يطلع عليها أهل المحشر، وهي مجيئه يوم القيامة بما غله حاملا له، قبل أن يحاسب عليه يعاقب عليه.
3. ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ أي: تعطي جزاء ما كسبت وافيا من خير وشرّ، وهذه الآية تعمّ كل من كسب خيرا أو شرا، ويدخل تحتها الغالّ دخولا أوليا، لكون السياق فيه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/453.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لَمَّا حثَّ الله تعالى على الجهاد أتبعه بذكر ما يتعلَّق به، وهو الغلول الذي هو أخذ الشيء من الغنيمة خيانة، فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيءٍ اَن يُّغَلَّ﴾ مبنيٌّ للمفعول مِن (أَغَلَّ) بوزن أفعل، ومن معاني أفعل النَّسب، كأكذبه نسبه إلى الكذب، أي: لا يليق لنبيء أن ينسبه أحد إلى الغلول، فمن نسبه إليه فقد جفاه وعصا الله، وحاصل ذلك نهي عن نسبته إليه، ومن معاني أفعل وجود شيء على وصف كذا، كأحمدته بمعنى وجدته محمودا، وأبخلته بمعنى وجدته بخيلا، أي: لا يليق لنبيء أن يوجد غالًّا، وهو لا يوجد غالًّا إِلَّا إن غلَّ وهو لا يغلُّ، فلا يوصف بوجوده غالًّا، فمن وصفه به فقد جفاه وعصى، فذلك براءة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من قول بعض المنافقين في قطيفة حمراء فقدت من الغنيمة في بدر: لعلَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذها! ومن قول أهل المركز يوم أحد حين تركوا المركز: نخشى أن يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مَن أخذ شيئًا فهو له فلا يكون لنا شيء، فسمَّى الله عدم القسم لأهل المركز غلولا، فنزَّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنه؛ لأنَّهم كالضاربين بالسيوف في غير المركز، وهم في قتال واحد ورامون أيضًا.
2. روي أنَّهم لَمَّا تركوا المركز قال لهم رسول الله : (ظننتم أَن أنفل فلا أقسم!)؛ فنزلت الآية، وقيل: بعث طلائع جيش لينظروا أين العدوُّ وما حاله؟ فغنموا بعد ذهاب الطلائع فقسمها على من معه، ولم يعط الطلائع، فنزلت الآية نهيا له عن مثل ذلك؛ لأنَّ الطلائع في حكم الحاضرين؛ لأنَّهم في شأن الجهاد، وسمَّى الله هذا القسم غلولا تغليظا، وهذه التسميَة تغليظ بني عليه تغليظ آخر هو ما كان لنبيء أن يغلَّ، وقيل: المعنى ما كان لنبيء أن يغلَّه أحد، أي: يسرق من غنيمته، ومثله في ذلك غيره.
3. سمَّى الأخذ من الغنيمة غلولا؛ لأنَّه يؤخذ منها خفية، وأصل الغلول: الأخذ خفية؛ ولأنَّ السرقة من شأنها أن يُربط يَدُ صاحبها بالغُلِّ، وهو الجامعة من الحديد؛ ولأنَّه في الخفاء، كغَلَلَ الماء في خلال الشجرة.
4. ﴿وَمَن يَّغْلُلْ يَاتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بعينه وبإثمه، ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذات يوم، فذكر الغلول فعظَّمه وعظَّم أمره، حتَّى قال: (لا ألقينَّ)، وروي: (لا ألفينَّ) بالفاء، وكذا فيما بعده، (أحدَكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا قد أبلغتك، لا ألقينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة ـ أي: صوت طلب العلف دون الصهيل ـ فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا قد أبلغتك، لا ألقينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ـ أي: صوت شاة ـ فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا قد أبلغتك، لا ألقينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا قد أبلغتك، لا ألقينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع ـ أي: ثياب تخفق ـ فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا قد أبلغتك، لا ألقينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت ـ أي: ذهب أو فضَّة ـ فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا قد أبلغتك)، ويروى بعد البعير أو بعد الفرس مثل ذلك في البقرة لها خوار، وأعمُّ من ذلك رواية: (من بعثناه على عمل فغلَّ شيئًا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه)، فالإتيان بذلك على ظاهره، ويقرب إليه ما روى ابن مردويه والبيهقيُّ عن بريدة: (أنه يربط ما غلَّ بحجر يزن سبع خلفات، ويلقى في النار ويكلَّف الغالُّ أن يأتي به من النار وقد هوى فيها سبعين خريفا)، وقيل: المراد في الآية: الإتيان بإثمه، وقيل: يصوَّر عمله في الغلول بصورة جسم، والظاهر الأوَّل، فقيل: لأبي هريرة كيف يأتي بمائة بعير أو بمائتي بعير؟ فقال: (يَقْدِر؛ لأنَّ ضرسه كأُحد، وفخذه كورقان، وساقه كبيضاء، ومجلسه ما بين الربذة والمدينة)، وعنه : (هدايا الولَاة غلول)
5. ﴿ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ أي: جزاء ما كسبت من خير أو شرٍّ وغلول وغيره، أو سمَّى الجزاء باسم سببه أو باسم ملزومه، فهذا لعمومه، كالبرهان لخصوص الغلول وتأكيد لشأنه، إذ كان الجزاء على أقلِّ شيء فكيف الغلول؟، وقيل: المراد الغلول، وأنَّ ما بين بعثه مع ما غلَّ وإدخاله النار مدَّة طويلة، فـ (ثُمَّ) للتراخي في الزمان، ويجوز أَن تكون للتراخي في الرتبة، بمعنى أنَّه يبعث مفتضحا بما غلَّ تعذيبا له به وبافتضاحه، وعذابه في النار أشدُّ عليه من ذلك، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ بنقص ثواب أو زيادة عقاب.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/45.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ قرئ بالبناء للمعلوم، أي ما صح وما تأتّى لنبيّ من الأنبياء أن يخون في المغنم، بعد مقام النبوة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل، وعن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم؛ وبالبناء للمجهول، أي ما صح أن ينسب إلى الغلول ويخوّن، روى أبو داوود والترمذيّ عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية: ﴿ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ﴾، في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها، فأنزل الله ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ﴾ الآية، قال الترمذيّ: حسن غريب، ورواه ابن مردويه عن ابن عباس أيضا، ولفظه: اتهم المنافقون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بشيء فقد، فأنزل الله تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ﴾ الآية ـ وهذا تنزيه لمقامه صلّى الله عليه وآله وسلّم الرفيع وتنبيه على عصمته.
2. ثم أشار إلى وعيد الغلول بقوله: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي بعينه، حاملا له على ظهره، ليفتضح في المحشر:
أ. كما روى الشيخان عن أبي هريرة قال قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذات يوم، فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول: (يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ـ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ـ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول: يا رسول الله أغثني فأفول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ـ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ـ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغت)
ب. وروى البخاريّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كان على ثقل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رجل يقال له (كركرة) فمات، فقال رسول الله ، هو في النار، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها.
ج. وعن زيد بن خالد الجهنيّ أن رجلا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: صلوا على صاحبكم، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غلّ في سبيل الله، ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين ـ أخرجه أبو داوود والنسائيّ ـ
د. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم فيقول: ما لي فيه إلا مثل ما لأحدكم منه، إياكم والغلول، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، إنه لينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم.
هـ. وروى ابن ماجة بعضه، وروى أحمد عن عبد الله بن عباس قال حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر، أقبل نفر من صحابة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى أتوا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله : كلا إني رأيته في النهار في بردة غلها أو عباءة، ثم قال رسول الله : يا ابن الخطاب! اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وكذا رواه مسلم والترمذيّ.
و. وروى أبو داوود عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجوزوا بغنائمهم فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة، فقال: أسمعت بلالا ينادي ثلاثا؟ قال نعم، قال فما منعك أن تجيء؟ فاعتذر، فقال: كن أنت تجيء به يوم القيامة، فلن أقبله منك.
3. من المفسرين من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجازا عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما غلّ عما لزمه من الإثم مجازا، قال أبو مسلم: المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية، وقال أبو القاسم الكعبي: المراد أنه يشتهر بذلك، مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء، وناقشهما الرازيّ بأن هذا التأويل يحتمل، إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة، إلا إذا قام دليل يمنعه منه، وهاهنا لا مانع من الظاهر، فوجب إثباته.. ومما يؤيده قوله : (له رغاء، له حمحمة..)، الظاهر في الحقيقة زيادة في النكال.
4. ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ تعطى جزاء ما كسبت وافيا، وإنما عمم الحكم ولم يقل: ثم يوفى ما كسب، ليكون كالبرهان على المقصود، والمبالغة فيه، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله، فالغالّ، مع عظم جرمه بذلك أولى ﴿وَهُمْ﴾ أي الناس المدلول عليهم بكل نفس ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾ فلا ينقص ثواب مطيعهم، ولا يزاد في عقاب عاصيهم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/450.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. نزلت هذه الآية في شأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من سياق الحكم والأحكام المتعلقة بغزوة أحد، ولكن اخرج أبو داود والترمذي وابن جرير عن ابن عباس أن قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ قد نزل في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذها، وقد ضعف هذه الرواية بعض المفسرين وإن حسنها الترمذي لأن السياق كله في واقعة أحد ورجحوا عليها ما روي عن الكلبي ومقاتل من أن الرماة قالوا حين تركوا المركز الذي وضعهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه: نخشى أن يقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (من أخذ شيئا فهو له)، وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر، فقال النبي : (أظننتم أننا نغل ولا نقسم لكم؟) ولهذا نزلت الآية، وروى ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير مرسلا عن الضحاك قال: (بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم طلائع فغنم غنيمة فقسم بين الناس ولم يقسم للطلائع، فلما قدمت الطلائع قالوا قسم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يقسم لنا فأنزل الله تعالى الآية)، قال محمد عبده: الصواب أن هذه الآية من متعلقات هذه الواقعة كالآيات التي قبلها وكثير مما يأتي بعدها.
2. أصل الغل الأخذ بخفية كالسرقة وغلب في السرقة من الغنيمة قبل القسمة وتسمى غلولا، قال الرماني وغيره: أصل الغلول من الغلل وهو دخول الماء في خلل الشجرة، وسميت الخيانة غلولا لأنها تجري في الملك على خفاء من غير الوجه الذي يحل، ومن ذلك الغل للحقد والغليل لحرارة العطش والغلالة للشعار، أقول وتغلغل في الشيء دخل فيه واختفى في باطنه، والمعنى: ما كان شأن نبي من الأنبياء ولا من سيرته أن يغل لأن الله عصم أنبياءه من الغل والغلول فهو لا يقع منهم، وهذا التعبير أحسن من قولهم: ما صح ولا استقام لنبي أن يغل أي يخون في المغنم تقدم بيان ما يفيده هذا التعبير من نفي الشأن الذي هو أبلغ من نفي الفعل لأنه عبارة عن دعوى بدليل، كأنه يقول هنا إن النبي لا يمكن أن يقع منه ذلك لأنه ليس من شأن الأنبياء ولا مما يقع منهم أو يجوز عليهم، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب ﴿أَنْ يَغُلَّ﴾ بالبناء للمفعول وهو من أغللته بمعنى وجدته غالا أي ما كان من شأن النبي أن يوجد غالا أو بمعنى نسبته إلى الغلول أي ما كان لنبي أن يكون متهما بالغلول، أو من غُل أي ما كان لنبي ان يكون بحيث يسرق من غنيمته السارقون ويخونه العاملون وهذا أضعف مما قبله.
3. ذهب بعض المفسرين إلى أن الغل أو الغلول المنفي هنا هو إخفاء شيء من الوحي وكتمانه عن الناس لا الخيانة في المغنم، وإن كان ما بعده عاما في كل غلول أو خاصا بالغنيمة فإنه جيء به للمناسبة كما عهد في مناسبات القرآن وانتقاله من حكم إلى حكم أو خبر له حكمة، وذكروا أنه نزل ردا على من رغب إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ان يترك النعي على المشركين، قال محمد عبده: ومن مناسبة كون الغل بمعنى الكتمان وإخفاء بعض التنزيل ما تقدم من أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم في الآيات السابقة بمعاتبة من كان معه في أحد وتوبيخهم على ما قصروا، وذلك مما يصعب تبليغه عادة لأنه يشق على المبلغ والمبلغ، ومن أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم بالعفو والاستغفار لهم ومشاورتهم في الأمر على ما كان منهم، وفي هذا إعلاء لشأنهم ومعاملة لهم بالمساواة في مثل هذه الشؤون، وذلك مما عهد في طباع البشر أن يشق على الرئيس منهم إبلاغه للمرؤوسين ويزداد على ما ذكره محمد عبده لما تقدم هذا السياق في قوله تعالى له: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ عندما لعن أبا سفيان ومن كان معه من رؤوس المشركين، كأنه تعالى يقول إعلاما للناس بما يجب للأنبياء عليهم السلام في أمر التبليغ: ما كان من شأن نبي من الأنبياء أن يكتم شيئا مما أمر بتبليغه وإن كان مما يشق على الناس في حكم العادة ذكره وتبليغه.
4. ثم قال: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي إن كل من يقع منه غل أو غلول فإنه يأتي بما غل به يوم القيامة، وقد ذهب الجمهور إلى أن المراد بالإتيان بما يغل به الغال أنه يجيء يوم القيامة حاملا له ليفتضح به ويكون مزيدا في عذابه هنالك، وقد جاء في ذلك روايات مختلفة، منها أن يكلف الإتيان به من النار لا أنه يجيء به، ومن هذه الروايات ما لا يصح، ولكن أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خطيبا فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: (ألا لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول له: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك؛ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك؛ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك)، قال بعض العلماء: لا مانع من إمضاء هذا الإتيان على ظاهره وإن غل الإنسان بالعدد الكثير من الإبل والغنم والبقر والخيل والبغال والحمير والأشياء الصامتة فإنها تكون يقوم القيامة على رقبته مهما كثرت، وروى ابن أبي حاتم أن رجلا استشكل على أبي هريرة حديثه ذاك فقال: أرأيت من غل مئة بعير أو مئتي بعير كيف يصنع بها؟ فأجاب أبو هريرة فذكر له ما معناه: أن من كان ضرسه مثل جبل أحد فإنه يحمل مثل هذا، وهذا الحديث لا يصح.
5. جعل بعض العلماء حديث حمل ما يغل به الغال على رقبته من باب التمثيل، شبهت حال الغال بما يرهقه من أثقال ذنبه وفضيحته به مع فقد المعين والمغيث بمن يحمل ذلك عينه على عاتقه ويقصد أرجى الناس لإغاثته فيخذله ويتنصل من إغاثته، وما زال الناس يشتهون الأثقال المعنوية بالأثقال الحسية ويعبرون عنها بالحمل، يقولون فلان حامل أثقال أهله أو أثقال البلد، وفي التنزيل: ﴿اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون﴾ [العنكبوت: 12 ـ 13] ومثله قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [فاطر: 18] على أن حديث الشيخين لم يذكر فيه أنه تفسير للآية.
6. قال محمد عبده: فسروا الإتيان بما غل به الغال بأنه يحمله وكأنه جعلوا الباء للمصاحبة وليس بمتعين، وقد عدل عنه بعض المفسرين كأبي مسلم الأصفهاني وقال: إنه على حد قوله تعالى حكاية عن لقمان: ﴿يا بني إنها إن تلك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير﴾ [لقمان: 11] فليس معنى: يأت بها الله إنه يحملها، ولكن معناه أنه يعلم بها أتم العلم لا تخفى عليه مهما كانت مستترة، لأن من يأتي بالشيء لا بد أن يكون عالما به، والمعنى أن الإتيان بالشيء الذي يغله الغال هو عبارة ـ أو قال كناية ـ عن انكشافه وظهوره، أي إن كل غلول وخيانة خفية يعلمه الله تعالى مهما خفي ويظهره يوم القيامة للغال حتى يعرفه كمعرفة من أتى بالشيء الذي لذلك الشيء على حد قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7 ـ 8]
7. ولما كان الجزاء يترتب على علم الله بالأعمال وإعلامه العاملين بها يوم الحساب قال بعدما مر: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أي ثم أنه بعد أن يأتي الغال بما غل، كما يأتي كل عامل بما عمل، فيمتثل لديه، كأنه حاضر بين يديه، ينظر إليه بعينه، ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ [آل عمران: 30] ومثال الذرة من الخير والشر مرئيا مبصرا، بعد هذا تنال جزاء ما كسبت متوفى تاما لا تنقص منه شيئا ﴿ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا﴾ [الكهف: 49]
__________
(1) تفسير المنار: 4/215.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن حث عز اسمه فيما سلف على الجهاد، وبين مصير المجاهد في سبيله ـ أتبعه هنا بذكر أحكام الجهاد، ومن جملتها الكف عن الغلول.
2. ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي ما كان من شأن أيّ نبيّ ولا من سيرته أن يغل، لأن الله عصم أنبياءه منه، فهو لا يليق بمقامهم ولا يقع منهم، لأن النبوة أعلى المناصب الإنسانية، فصاحبها لا يرغب فيما فيه دناءة وخسة.
3. ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي وكل من يقع منه غلول يأتي بما غل به يوم القيامة حاملا له، ليفتضح أمره ويزيد به في عذابه، أخرج البخاري ومسلم عن أبى هريرة قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خطيبا، فذكر الغلول وعظمه، وعظم أمره ثم قال: (ألا لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول له لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة، فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك)، وجعل بعض العلماء هذا الحديث من قبيل التمثيل، فشبهت حال الغالّ بما يرهقه من أثقال ذنبه وفضيحته به مع من فقد الناصر والمغيث ـ بحال من يحمل ذلك على عاتقه، ويقصد أرجى من يمكنه أن يغيثه فيخذله ويتنصل من إغاثته، وما زال الناس يشبهون الأثقال المعنوية بالأثقال الحسية، ويعبرون عن ذلك بالحمل كما قال تعالى ﴿اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾
4. قال أبو مسلم الأصفهاني: إن الإتيان في الآية معناه: أن الله يعلمه أتم العلم وينكشف له أوضح انكشاف، فالمراد أن كل غلول وخيانة خفية يعلمه الله مهما خفى، ويظهره يوم القيامة للغالّ حتى يعرفه كمعرفة من أتى بشيء يوصله إلى غيره، كما جاء في قوله تعالى حكاية عن لقمان: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ فليس معنى الإتيان هنا أنه يحملها، بل يعلم بها مهما كانت مستترة، لأن من يأتي بالشيء لا بد أن يكون عالما به.
5. ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أي ثم بعد أن يأتي الغالّ بما غل فيتمثل له كأنه حاضر بين يديه، ينال جزاء ما كسب مستوفى تاما لا ينقص منه شيء كما قال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾، وجاء حكم التوفية في الجزاء عاما لكل كاسب، وإن كان الكلام في جزاء الغالّ فحسبـ ليكون كالدليل على المقصود من استيفائه الجزاء، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيّا بعمله لا ينقص منه شيء وإن كان جرمه حقيرا، فالغال مع عظم جرمه أولى بذلك.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/119.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم يعود إلى الحديث عن النبوة وخصائصها الخلقية؛ ليمد من هذا المحور خيوطا في التوجيه للأمانة، والنهي عن الغلول، والتذكير بالحساب، وتوفية النفوس دون إجحاف: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
2. لقد كان من بين العوامل التي جعلت الرماة يزايلون مكانهم من الجبل، خوفهم ألا يقسم لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الغنائم! كذلك كان بعض المنافقين قد تكلموا بأن بعض غنائم بدر من قبل قد اختفت؛ ولم يستحوا أن يهمسوا باسمه صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذا المجال، فهنا يأتي السياق بحكم عام ينفي عن الأنبياء عامة إمكان أن يغلوا.. أي أن يحتجزوا شيئا من الأموال والغنائم أو يقسموا لبعض الجند دون بعض، أو يخونوا إجمالا في شيء: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾، ما كان له، فهو ليس من شأنه أصلا ولا من طبعه ولا من خلقه، فالنفي هنا نفي لإمكان وقوع الفعل، وليس نفيا لحله أو جوازه، فطبيعة النبي الأمينة العادلة العفيفة لا يتأتى أن يقع منها الغلول ابتداء.. وفي قراءة:
3. ﴿يَغُلَّ﴾ على بناء الفعل لغير الفاعل، أي لا يجوز أن يخان، ولا أن يخفي عنه أتباعه شيئا.. فيكون نهيا عن خيانة النبي في شيء، وهو يتمشى مع عجز الآية، وهي قراءة الحسن البصري.
4. ثم يهدد الذين يغلون، ويخفون شيئا من المال العام أو من الغنائم، ذلك التهديد المخيف: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، روى الإمام أحمد، حدثنا سفيان عن الزهري، سمع عروة يقول: حدثنا أبو حميد الساعدي قال استعمل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية، على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على المنبر فقال: (ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، وإن بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر).. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت؟) ثلاثا(2).
5. عملت هذه الآية القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة عملها في تربية الجماعة المسلمة؛ حتى أتت بالعجب العجاب؛ وحتى أنشأت مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع والتحرج من الغلول في أية صورة من صوره، كما لم تتمثل قط في مجموعة بشرية، وقد كان الرجل من أفناء الناس من المسلمين يقع في يده الثمين من الغنيمة، لا يراه أحد، فيأتي به إلى أميره، لا تحدثه نفسه بشيء منه، خشية أن ينطبق عليه النص القرآني المرهوب، وخشية أن يلقى نبيه على الصورة المفزعة المخجلة التي حذره أن يلقاه عليها يوم القيامة! فقد كان المسلم يعيش هذه الحقيقة فعلا، وكانت الآخرة في حسه واقعا، وكان يرى صورته تلك أمام نبيه وأمام ربه، فيتوقاها ويفزع أن يكون فيها، وكان هذا هو سر تقواه وخشيته وتحرجه، فالآخرة كانت حقيقة يعيشها، لا وعدا بعيدا! وكان على يقين لا يخالجه الشك من أن كل نفس ستوفى ما كسبت، وهم لا يظلمون.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/505.
(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الذي عليه المفسرون في هذه الآية أنها نزلت في قطيفة حمراء اختفت من الغنائم يوم بدر، فقال بعض المنافقين لعل النبيّ أخذها! وقيل إنها نزلت في أحداث أحد، حيث ترك جماعة الرماة مكانهم الذي أقامهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه، وذلك حين رأوا الهزيمة في المشركين، وقد امتدت أيدى بعض المسلمين إلى ما تركوا من متاع وسلاح، فقال الرماة: لعلّ رسول الله لا يقسم الغنائم بيننا كما فعل في غنائم بدر، ويقول كما قال يومها: (من أخذ شيئا فهو له) فيذهب إخواننا بالغنائم، وليس لنا منها شيء.. فتركوا مكانهم، واندفعوا نحو الغنائم، يأخذون نصيبهم منها، فكان الذي كان! والرأي الأول بعيد.. إذا كان قد مضى عام على معركة بدر، ولو كان لقولة المشركين يومئذ أثر لما تركت هذه الفرية تعيش في الناس عاما دون أن ينزل قرآن في تفنيدها، وتكذيب مفتريها، والخبر الثاني ضعيف، ووجه ضعفه أن المسلمين كانوا يعلمون في أحد حكم الله فيما يقع لأيديهم من مغانم، حيث كانت سورة الأنفال قد نزلت في أعقاب بدر، وفيها قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾
2. الرأي عندنا أن الغلّ هذا من الحقد، واشتمال النفس على البغضاء للناس.. وهذا ما لا يكون من نبيّ أبدا، إذ كانت مهمة الأنبياء نزع ما في الصدور من عداوات وأحقاد، وغسل ما في النفوس مما تنطوي عليه بغضاء وضغينة.. إنهم أساة الإنسانية من هذا الداء ـ داء الحقد الدفين ـ الذي إن شاع في جماعة أكلها كما تأكل النار الحطب، أو فشا في أمة قضى عليها، وحصدها، كما يحصد الوباء النفوس!
3. المناسبة هنا قريبة، والموقف داع إلى إلفات النبيّ الكريم إلى هذا الداء، وتحذيره منه، ففي أحداث أحد، وفي أعقابها، فرغ النّاس من المعركة، وشغلوا بالحديث عنها، والتعليق على مواقف الناس منها..! وفي المسلمين من خالف رسول الله ، وتخلّف عن القتال في معركة أحد، وفي المسلمين من تحوّل عن موقفه الذي أمره الرسول بالوقوف عنده، سواء كان للمسلمين النصر، أو كانت عليهم الهزيمة! وفي المسلمين من قاتل، وأبلى في القتال.. ثم حين استشعر الهزيمة انهزم، وأعطى العدوّ ظهره، وفي جوانب المعركة، وعلى حواشيها.. كلام يدور، تحرّكه أفواه المنافقين، وتلتوى به ألسنتهم، وتتغامز معه عيونهم، هذا، والنبيّ الكريم يسمع، ويرى كلّ هذا، ويسوؤه أن يكون في أصحابه هذا الذي يسمعه ويراه.. فيحزن لذلك ويأسى، وقد صفح الله عن المؤمنين وعفا عنهم، وشملهم جميعا برحمته وغفرانه، وكان على النبيّ أيضا أن يصفح ويغفر.. فجاء أمر الله سبحانه وتعالى، يدعوه إلى الصفح ويغريه به، بعد أن يرى النبيّ الصورة الكريمة التي له عنده الله، والتي ينبغي أن يكون عليها، وأن يحتفظ بها على هذا الوضع العلوىّ الوضيء، ولقد عفا الرسول عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في كل أمر ذي بال يعرض له.
4. لكن النبيّ ـ وهو بشر ـ قد تطلع عليه صور من أحداث أحد، فتحرك أشجانا، وتثير أسى، فجاء قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ـ ليشنّع على الحقد، وليستبعد وقوعه من أي نبيّ من أنبياء الله، وليجعله جرما من أغلظ الجرائم، حتى ليلتزم صاحبه، ويصحبه إلى يوم القيامة، كما التزمه وصحبه في صدره، وبين جنبيه!
ما أروع هذا العطف الإلهي الذي يفاض على النبيّ الكريم، وهو في مقام التأديب، والتحذير من أن يحمل قلبه غلا، وحقدا.. فلا يواجهه المولى سبحانه وتعالى بهذا الخطاب، ولا يلقاه به وحدهـ لطفا وكرما ـ بل يتجه الأمر إلى الأنبياء جميعا.. ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ فما أعظم هذا المقام، وما أكرم تلك المنزلة، التي نزلها محمد من منازل الرضوان والإحسان عند ربّه.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/630.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ الأظهر أنّه عطف على مجموع الكلام عطف الغرض رعلى الغرض وموقعه عقب جملة: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ [آل عمران: 160]، الآية لأنها أفادت أن النصر بيد الله والخذل بيده، وذلك يستلزم التّحريض على طلب مرضاته ليكون لطيفا بمن يرضونه، وإذ قد كانت هذه النّصائح والمواعظ موجهة إليهم ليعملوا بها فيما يستقبل من غزواتهم، نبّهوا إلى شيء يستخفّ به الجيش في الغزوات، وهو الغلول ليعلموا أنّ ذلك لا يرضي الله تعالى فيحذروه ويكونوا ممّا هو أدعى لغضب الله أشدّ حذرا فهذه مناسبة التّحذير من الغلول ويعضّد ذلك أنّ سبب هزيمتهم يوم أحد هو تعجلهم إلى أخذ الغنائم، والغلول: تعجّل بأخذ شيء من غال الغنيمة، ولا تجد غير هذا يصلح لأن يكون مناسبا لتعقيب آية النصر بآية الغلول، فإنّ غزوة أحد الّتي أتت السورة على قصّتها لم يقع فيها غلول ولا كائن للمسلمين فيها غنيمة وما ذكره بعض المفسّرين من قضية غلول وقعت يوم بدر في قطيفة حمراء أو في سيف لا يستقيم هنا لبعد ما بين غزوة بدر وغزوة أحد فضلا على ما ذكره بعضهم من نزول هذه الآية في حرص الأعراب على قسمة الغنائم يوم حنين الواقع بعد غزوة أحد بخمس سنين.
2. يغلّ: مشتقّ من الغلول وهو أخذ شيء من الغنيمة بدون إذن أمير الجيش، والغلول مصدر غير قياسي، ويطلق الغلول على الخيانة في المال مطلقا.
3. صيغة ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ صيغة جحود تفيد مبالغة النّفي، وقد تقدّم القول فيها عند قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ [آل عمران: 79] في هذه السورة فإذا استعملت في الإنشاء كما هنا أفادت المبالغة في النّهي، والمعنى على قراءة الجمهور نهي جيش النّبي عن أن يغلو لأنّ الغلول في غنائم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم غلول للنّبي، إذ قسمة الغنائم إليه، وأمّا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم فمعنى أن النّبي لا يغلّ أنّه لا يقع الغلول في جيشه فإسناد الغلول إلى النّبي مجاز عقلي لملابسة جيش النّبي نبيئهم ولك أن تجعله على تقدير مضاف، والتقدير: ما كان لجيش نبيء أن يغلّ، ولبعض المفسّرين من المتقدّمين ومن بعدهم تأويلات للمعنى على هذه القراءة فيها سماجة.
4. معنى و﴿مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ أنّه يأتي به مشهّرا مفضوحا بالسرقة، ومن اللّطائف ما في البيان والتبيين للجاحظ: أنّ مزيدا ـ رجلا من الأعراب ـ سرق نافجة مسك فقيل له: كيف تسرقها وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؟ فقال: إذن أحملها طيّبة الريح خفيفة المحمل، وهذا تلميح وتلقي المخاطب بغير ما يترقّب، وقريب منه ما حكي عن عبد الله بن مسعود والدرك على من حكاه قالوا: لمّا بعث إليه عثمان ليسلم مصحفه ليحرقه بعد أن اتّفق المسلمون على المصحف الّذي كتب في عهد أبي بكر قال ابن مسعود: إنّ الله قال: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وإنّي غالّ مصحفي فمن استطاع منكم أن يغلّ مصحفه فليفعل، ولا أثق بصحّة هذا الخبر لأنّ ابن مسعود يعلم أنّ هذا ليس من الغلول.
5. ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ تنبيه على العقوبة بعد التفضيح، إذ قد علم أنّ الكلام السابق مسوق مساق النّهي، وجيء بـ (ثمّ) للدّلالة على طول مهلة التفضيح، ومن جملة النّفوس الّتي توفّى ما كسبت نفس من يغلل، فقد دخل في العموم.
6. جملة ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ حال مؤكدة لمضمون الجملة قبلها وهي ﴿تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾
7. الآية دلّت على تحريم الغلول وهو أخذ شيء من المغنم بغير إذن أمير الجيش، وهو من الكبائر لأنّه مثل السرقة، وأصحّ ما في الغلول حديث (الموطأ): أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين رجع من خيبر قاصدا وادي القرى وكان له عبد أسود يدعى مدعما، فبينما هو يحطّ رحل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ جاءه سهم عائر فقتله، فقال النّاس: هنيئا له الجنّة، فقال رسول الله : (كلّا والّذي نفسي بيده إن الشّملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا)، ومن غلّ في المغنم يؤخذ منه ما غلّه ويؤدّب بالاجتهاد، ولا قطع فيه باتّفاق، هذا قول الجمهور، وقال الأوزاعي، وإسحاق، وأحمد بن حنبل، وجماعة: يحرق متاع الغالّ كلّه عدا سلاحه وسرجه، ويردّ ما غلّه إلى بيت المال، واستدلّوا بحديث رواه صالح بن محمد بن زائدة أبو واقد الليثي، عن عمر بن الخطاب: أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إذا وجدتم الرجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه)، وهو حديث ضعيف، قال الترمذي سألت محمدا ـ يعني البخاري ـ عنه فقال: إنّما رواه صالح بن محمد، وهو منكر الحديث، على أنّه لو صحّ لوجب تأويله لأنّ قواعد الشّريعة تدلّ على وجوب تأويله فالأخذ به إغراق في التعلّق بالظواهر وليس من التفقّه في شيء.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/274.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكلام في غزوة أحد وما فيها من عبر وما بينه الله سبحانه وتعالى من أحكام لمناسبة ما كان فيها، وفي هذه الآيات يبين ما يجب من مراعاة الأمانة بالنسبة للغنائم في الحروب، ذلك أن الرماة الذين خالفوا أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد خالفوه لأنهم خشوا أن ينفرد المقاتلون بالغنيمة دونهم؛ إذ ظنوا أن من يستولى على شيء فهو له، وهم بموقفهم موقف الحراسة لظهور المقاتلين سيحرمون إن لم يقاتلوا، فبينت هذه الآيات بالإشارة أنه لا قسمة قبل انتهاء المعركة، وأن الغنيمة لا يختص بها فريق دون فريق، وأن الغنيمة نتيجة النصر، والنصر ثمرة تعاون الجميع، فحق أن تقسم الثمرة على الجميع، ولقد روى أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال للرماة: (أظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم)، وإن الله سبحانه وتعالى يسن الأحكام العامة للمناسبات الخاصة، ليكون السبب موضحا للحكم، وإن كان الحكم عاما، ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾
2. ابتدأ سبحانه بنفي وصف الغلول وهو الخيانة في الغنائم عن النبيّ ، وذلك لبيان أن التسوية في القسمة مطلوبة من الجميع لا فرق في ذلك بين قائد وقائد، ولو كان أحد يسوغ له ألا يسوى في القسمة لما كان رسول رب العالمين، ولكنه أول من ينفى عنه هذا الوصف، ولأن الرماة تعجلوا خشية ألا يأخذوا، فبين الله لهم أن عدم تسويتهم في الغنيمة غلول، وما كان الغلول من شأن النبيّ ، ولبيان أن عدم توزيع الغنيمة بالعدل خيانة، فلا يستكبر قائد عن أن يوصف بها إذا وقع منه عدم التسوية.
3. معنى قول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ ما ساغ وما صح لنبي أن يخون، فالنفي هنا نفى للشأن، أي ليس من شأن النبيّ أن يخون، والتنكير هنا للتعميم، فليس من شأن أي نبيّ يتكلم عن الله تعالى أن يخون، وإذا كان التنكير للتعميم لأنه تنكير في مقام النفي فمؤدى الكلام أن النبوة والغلول نقيضان لا يجتمعان، فما كان لأحد أن يظن أن النبيّ سوف لا يقسم بالسوية، وإذا وقع ذلك الظن فهو من الظن الإثم: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات]
4. أصل الغلول من الغلل، وهو دخول الماء في وسط الشجر كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني، وسميت الخيانة في الغنيمة غلولا؛ لأنها تدخل الملك من غير حله وفي خفاء، كجريان الماء بين الأشجار في خفاء، ويقال تغلغل في الشيء دخل فيه واختفى، ويطلق الغل بكسر الغين على الحقد لأنه يكون دفينا متغلغلا في كيان النفس الإنسانية ويفسدها.
5. المعنى الذي يجرى عليه جمهور المفسرين بأن المراد بالغلول المنفى عن الرسول وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هو الغلول المادي في شؤون المادة، ولم تتعرض الآية الكريمة للغلول المعنوي وهو كتمان ما أنزل الله تعالى وعدم بيانه؛ ولكن قال بعض العلماء: إن الغلول المنفى عن الأنبياء هو كتمان ما أنزل الله تعالى وعدم بيانه؛ لأن الغلول المادي غير متصور الوقوع، ولكن السياق لا يؤيد هذا المعنى؛ لأن السياق كله فيما قبله وما بعده يدل على أنه في الحرب وما يتعلق بها من غنائم أغرت الرماة وأخرجتهم من محارسهم؛ ولما يجيء بعد ذلك من تعميم الحكم لكل من يغل غير الأنبياء من حيث إنه يأتي بما غل يوم القيامة؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾
6. ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ المعنى أن من يخون في الغنائم أو غيرها بأن يكون ذا سلطان على مال، فيخص نفسه منه بما شاء يأتي يوم القيامة مأخوذا بإثم ما غل يوم القيامة، صغيرا كان أو كبيرا، حقيرا كان أو خطيرا، فالمراد على هذا التفسير من قوله سبحانه: ﴿بِمَا غَلَّ﴾ وزره؛ وذلك كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة] فما يراه الإنسان يوم القيامة هو عمله المبرور وعمله الموزور، وأما موضوع العمل فلا وجود له إذ هو يرى الوزر أو يرى البر، وظاهر كلام المفسرين أنه يرى ذات الشيء الذي غله، لظاهر قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الشيخان: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله أغثنى، فأقول له: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثنى، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك)، فإن ظاهر هذا الحديث أن موضوع الغلول يجيء بذاته يوم القيامة، ومثل ذلك ما روى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من الغلول في جمع الصدقات، فقد روى أن رجلا اسمه ابن اللتبية جمع الصدقات، ثم قال هذا لكم وهذا أهدى إلىّ، فوقف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خطيبا، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (ما بال العامل نبعثه، فيجيء، فيقول هذا لكم، وهذا أهدى لي ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى له أم لا، لا يأتي أحد منكم بشيء إلا جاء به يوم القيامة، إن كان بعيرا فله رغاء، أو بقرة فلها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتى إبطيه)، ثم قال: (اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت)
7. الذى نراه أن هذه الأحاديث إنما هي تصوير لما يكون يوم القيامة من أن وزره يكون قائما بين يديه، وصور ما وقع وموضوع أوزاره تكون قائمة في كتابه كأنها حاضرة بأعيانها، هذا هو الذي تدل عليه الألفاظ، ولا نقول إن حضور ذات الأشياء مستحيل على الله، فإن الله على كل شيء قدير، ولكن نقول: إن ذلك هو ما يؤدى إليه الذوق البياني العربي وإن ذلك يومئ إلى دقة الحساب، وقيام الموازين بالقسط.
8. ثم بين سبحانه نتيجة هذا الحساب، فقال سبحانه: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، وبعد الحساب العسير لهؤلاء الذين يأكلون الأموال بالباطل، ويغلون في الغنائم؛ ويغلون في أموال الدولة ـ يوفون جزاء ما كسبوا من غير ظلم، وفي النص الكريم عدة إشارات بيانية:
أ. الأولى: التعبير بـ (ثم) وهى تفيد التراخي بين إحضار الأعمال بأوزارها ثم يتولى جزاءها؛ فإن هذا التراخي يفيد طول الحساب، وطول الحساب عذاب في ذات نفسه، وهو في الوقت ذاته يدل على دقته إذ تقام الموازين بالقسط.
ب. الثانية: التعبير بـ (توفى) فإن فيه إشارة إلى أنه لا ينقص شيء مما عملت إن خيرا وإن شرا، إلا أن يتغمده الله برحمته فيعفو عن بعض السيئات وهو العفو الغفور.
ج. الثالثة: أنه عبر سبحانه وتعالى عن المساواة بين العمل والجزاء بقوله سبحانه ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ فإن هذا التعبير يفيد بظاهره أن الوفاء يكون بالعمل ذاته، ولكن المعنى: جزاء ما كسبت ولكنه سبحانه عبر بهذا التعبير للدلالة على كمال المساواة بين العمل وجزائه، حتى كأن الجزاء هو العمل ذاته.
د. الرابعة: قوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ فيه تأكيد للمساواة وفيه أيضا نفى للظلم نفيا مؤكدا بالتعبير بالجملة الاسمية، إذ المعنى أنهم ليس من شأنهم أن يظلموا؛ لأن الله تعالى خالقهم والله تعالى لا يظلم مطلقا؛ لأنه لا يليق بكماله تعالى، ولأنه كتب العدل على نفسه، كما ورد في الحديث القدسى، وإن التسوية بين الجزاء والعمل هي القانون العادل الذي سنه رب العالمين، فلا تستوى الحسنة ولا السيئة، ولا يستوى الخير والشر ولذا قال سبحانه:
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1483.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾، قرئ يغل مبنيا للفاعل، أي ان النبي لا يخون في الغنيمة ولا في غيرها، كما يظن الجاهلون، وقرئ مبنيا للمفعول، أي لا يجوز لأحد أن يخون النبي في الغنيمة، وفي كثير من التفاسير ان الدافع الذي حمل الرماة ان يتركوا مكانهم، ويخلوا ظهر المسلمين هو خوفهم ان لا يقسم لهم رسول الله، ويقول: من أخذ شيئا فهو له، فقال لهم النبي : أظننتم أنّا نغل، أي نخونكم، فنزلت الآية، واللفظ لا يأبى هذا المعنى، كما ان السياق أيضا لا يرفضه، لأنه ما زال في وقعة أحد، ومهما يكن، فان الذي نستفيده من الآية بوجه عام، وبصرف النظر عن سبب النزول ان الأنبياء معصومون لا يمكن أن تقع منهم الخيانة، لأن الصادق بما هو صادق لا يمكن أن يقع منه الكذب، والا لم يكن صادقا، والحلو بما هو حلو لا يمكن أن يكون مرا.. اللهم إذا سميت الأشياء بأضدادها.. وعندها تبطل المقاييس.
2. ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، أي من خان وسرق شيئا يأتي غدا بإثم الشيء الذي سرقه، وينال ما كسب مستوفيا لا ينقص منه شيء، ويفتضح أمام الخلائق أجمعين.. وقيل: بل يأتي، ومعه المسروق بالذات ـ مثلا ـ من سرق بعيرا يجيء يوم القيامة حاملا البعير على رقبته.. قيل هذا استنادا إلى حديث طويل عن رسول الله ، وان صح الحديث فهو كناية عن حمل آثام المعصية، لا حمل أسبابها بالذات، فهذه الآية نظير قوله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾
3. من تتبع تاريخ المسلمين يرى ان تعاليم الكتاب والسنة قد عملت عملها، وأثرت أثرها في نفوس الكثير من المسلمين، حتى أنشأت مجموعة تتمثل فيها مكارم الأخلاق التي بعث الرسول الأعظم لاتمامها.. فلقد كان الجندي البسيط في جيش المسلمين يقع في يده من أسلاب العدو الثمين الغالي، فيأتي به لأميره يضيفه إلى بيت المال، ولا تحدثه نفسه بشيء منه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/195.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾، الغل هو الخيانة، قد مر في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ﴾، إن هذا السياق معناه تنزيه ساحة النبي عن السوء والفحشاء بطهارته، والمعنى: حاشا أن يغل ويخون النبي ربه أو الناس (وهو أيضا من الخيانة لله) والحال أن الخائن يلقى ربه بخيانته ثم توفى نفسه ما كسبت.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/58.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾:
أ. أما على قراءة ﴿يَغُلَّ﴾ بفتح الياء وضم الغين، فمعناه: ماصح ولا تهيأ أن يغل النبي، والغل: خيانة الغنيمة، وهي من المنكرات، وقد روي أنهم قالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله : (كلا إني رأيته في النار في عباءة غلها) أو كما قال فلا يتهيأ لنبي أن يغل لأنه معصوم، وله من الورع والزهد ما يبعِّده عن الغلول.
ب. وأما على قراءة أن ﴿يَغُلَّ﴾ بضم الياء وفتح الغين، فهو مجاز للدلالة على أنه من القبح بحيث يستبعد وقوعه من مسلم مقاتل تحت راية النبي، فكأنه من الملحق بالمستحيل، فأما (صاحب الكشاف) فقد جعل المعنى في القراءتين واحداً، وجعل معنى يُغل ـ بضم الياء ـ يوجد غالاً أو يحكم عليه أنه غال، مثل: يُكفَر، ويُفسَق ـ بضم (الياء) وفتح (فاء) يكفر و(سين) يفسق، وهذا المعنى عندي بعيد، وأقرب منه: أنه لا ينبغي أن يغله غال أي يخونه خائن؛ لأن الغلول قبيح فكيف بغلول يقع خيانة للنبي ، فأما النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلا يتصور أن يغل أي يخون فضلاً عن أن يعلم منه ذلك أو يحكم به، أعني أن المهم نفي الخيانة لا نفي العلم بها أو نفي الحكم بها.
2. سؤال وإشكال: إن نفي العلم بها كناية عن نفيها؟ والجواب: إن التصريح هنا أبلغ من الكناية.
3. ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يجيء به معه في الحشر يفتضح به ويكون حجة عليه ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ﴾ من أهل الغلول وغيرهم ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ من خير أو شر ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ فلا يزاد في عقاب العاصي ولا ينقص من ثواب المطيع.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/569.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في أسباب النزول، وعلق عليها بقوله: نلاحظ على بعض هذه الروايات أنها توحي بأن هناك نوعا من عدم الثقة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في العدل في قسمة الغنائم بين أصحابه، بحيث يخاف المسلمون من تصرفه معهم بهذه الطريقة التي عبر عنها القرآن بالخيانة، ولا سيما في رواية الطلائع الذين لم يقسم لهم، فنزلت الآية لتقول: ما كان لنبي أن يعطي قوما أو يمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بالسويّة، وسمي حرمان بعض الغزاة غلولا تغليظا وتقبيحا لصورة الأمر أو مبالغة في النهي لرسول الله كما في قضية الرماة، وهذا مما لم نعهده في نظرة الصحابة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بشكل عام، مما يجعلنا نتحفظ في هذه الروايات، فتكون الآية واردة في سبيل تقرير المبدأ لا في الرد على الكلمات الصادرة من الصحابة في هذا المجال، والله العالم.
2. ربما كانت الآية واردة تعليقا على التصور الذي كان يتصوره الرّماة في أحد عندما تركوا مراكزهم، أن النبي لا يحسب حسابهم في الغنائم عند القسمة، فقد روي أنها نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول رسول الله: من أخذ شيئا من الغنائم فهو له، وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر، فقال لهم النبي : ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري!؟ فقالوا: تركنا بقيّة إخواننا وقوفا، فقال : بل ظننتم أننا نغل ولا نقسم لكم، وذكر بعض الرواة وجوها أخرى في المناسبة التي نزلت فيها الآية، وقد تكون هذه الرواية التي ذكرناها مناسبة للجوّ الذي نزلت فيه الآية، لأنها واردة في سياق الحديث عن معركة أحد.
3. قد لا تكون هناك مناسبة محدّدة للآية، ولكنها تتحرك في إثارة كل الخلفيّات الفكرية التي يمكن أن تدور في أذهان المقاتلين كأساس للاهتزاز الذي حدث في مواقفهم في المعركة، وذلك من أجل توضيح الصورة الكاملة للأجواء التي تسود المعركة من حيث طبيعة القيادة التي تقودها، فهي ليست بالقيادة المألوفة لهم في ما ألفوه من قياداتهم السابقة ممن كان يظلم جنودهم أو يستغلّهم أو يخونهم ولا يعطيهم ما يستحقونه من غنائم الحرب؛ بل هي القيادة المعصومة التي لا تتحرك إلّا في النطاق الذي تعتقد أنه يرضي الله، لأنها تعيش في أجواء النبوّة التي جاءت من أجل أن تقيم للناس قواعد العدل على أساس الإخلاص لحياتهم ولآخرتهم، فلا يمكن لها أن تخون قضايا الناس في الحرب والسلم، ولا يمكن أن تنقص من حقوقهم شيئا، فهي تمثل الإخلاص كل الإخلاص، والأمانة كل الأمانة، فمنها تستمد الحياة عدالتها وإخلاصها في كل شأن من شؤونها العامة والخاصة، وهي التي تشهد للناس وعلى الناس يوم القيامة، فكيف يمكن أن تضع نفسها في مواقع الاتهام في الدنيا والآخرة!؟
4. ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ فإن النبوّة لا تجتمع مع الخيانة، لأنها لا تناسب النبوّة التي هي أمانة الله عند النبي في تبليغ رسالته وفي تطبيق منهجة وفي الحكم بين الناس، فهو الذي أراد الله له أن يؤكد خط الأمانة في الحياة ليكون القدوة للناس في ذلك كله في جميع أمورهم، وربما كان من أظهر مصاديق هذا المبدأ، كتمان الوحي انسجاما مع طلب المشركين منه إخفاء الآيات التي تندد بدينهم وتسبّ آلهتهم ـ كما جاء في بعض روايات النزول ـ فهي خيانة لله في رسالته، وللأمة في إخفاء الحقيقة عنها، فلا بد من أن يؤدي الرسالة كاملة غير منقوصة، وربما قرأ بعضهم (يغل) بضم الياء وفتح الغين، فيكون المعنى أنه ليس لأصحابه أن يخونوه أو يكتموه شيئا من الغم، ولكن القراءة المشهورة هي الثابتة والمتّبعة والمقروءة وهي التي تعلن عصمة الأنبياء عن الخيانة في تقرير الخط النبوي في كل ما يتعلق بمسؤوليته في إبلاغ الوحي وتوزيع الحقوق على الناس بعيدا عن أية حالة ذاتية تفرض عليه ذلك.
5. ربما كانت الآية ـ كما أشرنا إليه ـ واردة في مجال تقرير المبدأ، ليشعر المسلمون بالثقة المطلقة من خلال الثقة بعصمة القيادة، فيكون ذلك أقرب لخط الالتزام، وأدعى للانضباط وأقوم للثبات، وأكثر تأكيدا لنقد الموقف الذي وقفوه لأنه لا يتناسب مع هذا المبدأ.. وقد نستشعر من الآية الإيحاء بأن قضية رفض الخيانة من النبي، ليست خصوصيّة للنبي، بل هي قضية المبدأ الذي يتحرك في خطّ النبوّة، مما يجعل منه شيئا غير مناسب له، على أساس منافاته للرسالة التي يدعو إليها، وللإخلاص لله باعتبار أنها تمثّل تمرّدا على الله.
6. في ضوء ذلك، أكملت الآية الفكرة بالإيحاء بالجوّ الشامل الذي يحكم النبي ويحكم الآخرين في مواقف الحساب، كما توحي به هذه الفقرة من الآية: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ فإن الخيانة في الدنيا لا تنتهي مسئوليتها بانتهاء الدنيا، بل يقف الخائن يوم القيامة ليتحمل مسئولية ذلك كله، فيحمل ما خانه بين يديه، وذلك على سبيل الكناية عن الإثم والتبعية والمسؤولية، وهناك الحكم الذي يمنح كل إنسان جزاء ما اكتسبه من خير أو شرّ، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.. وهكذا تريد الآية، أن توحي، بأن المسؤولية لن تستثني أيّ إنسان، مهما كانت درجته ولو كان نبيّا، فكلّ العباد مكلّفون برفض الخيانة، بما فيهم النبي ، لأن الامتيازات ملغاة في هذا المجال، فلا يحق لأحد أن يتمرّد على القانون من خلال درجته الروحية والاجتماعية، كما هو الحال في واقع الناس المعاش، وبذلك تتم للفكرة حركتها العملية في خطّ العدالة في حياة الناس، وتتوضح للقاعدة الشعبيّة طبيعة القيادة في أمانتها وإخلاصها وعصمتها عن كل ألوان الخيانة، على أساس النظرية والتطبيق معا.
7. استطاع الإسلام من خلال الوحي القرآني في نطاق هذا المبدأ الإنساني المرتكز على العدالة في الفكر والسلوك، أن يربي جيلا من الناس، من الصحابة وغيرهم ممن جاء بعدهم، على أساس الأمانة الفكرية والروحية والعملية في خط الاستقامة في جميع جوانب حياتهم، انطلاقا من القدوة النبوية ومن الإيحاءات الروحية التي تنطلق من خلال التذكير بالوقت الذي يواجهه الخائنون يوم القيامة عندما يحملون على ظهورهم كل ما خانوا فيه.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/352.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بالنظر إلى الآية السابقة التي نزلت بعد الآيات المتعلقة بوقعة (أحد) وبالنظر إلى رواية نقلها جمع من مفسري الصدر الأول، تعتبر هذه الآية ردا على بعض التعللات الواهية التي تمسك بها بعض المقاتلين، وتوضيح ذلك هو: إن بعض الرماة عندما أرادوا ترك مواقعهم الحساسة في الجبل لغرض جمع الغنائم، أمرهم قائدهم بالبقاء فيها، لأن الرسول لن يحرمهم من الغنائم، ولكن تلك الجماعة الطامعة في حطام الدنيا اعتذرت لذلك بعذر يخفي حقيقتهم الواقعية، إذ قالوا: نخشى أن يتجاهلنا النبي عند تقسيم الغنائم فلا يقسم لنا، قالوا هذا وأقبلوا على جمع الغنائم تاركين مواقعهم التي كلفهم الرسول بحراستها فوقع ما وقع من عظائم الأمور وجلائل المصائب، فجاء القرآن يرد على زعمهم وتصورهم هذا فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي أنكم تصورهم وظننتم أن النبي يخونكم، والحال أنه ليس لنبي أن يغل ويخون أحدا.
2. إن الله سبحانه ينزه في هذه الآية جميع الأنبياء والرسل من الخيانة، ويقول إن هذا الأمر لا يصلح ـ أساسا ـ للأنبياء، ولا يتناسب أساسا مع مقامهم العظيم، يعني أن الخيانة لا تتناسب مع النبوة، فإذا كان النبي خائنا لم يمكن الوثوق به في أداء الرسالة وتبليغ الأحكام الإلهية.
3. غير خفي أن هذه الآية تنفي عن الأنبياء مطلق الخيانة سواء الخيانة في قسمة الغنائم أو حفظ أمانات الناس وودائعهم، أو أخذ الوحي وتبليغه للعباد، ومن العجيب أن يثق أحد بأمانة النبي في الحفاظ على وحي الله، وتبليغه وأدائه، ثمّ يحتمل ـ والعياذ بالله ـ أن يخون النبي في غنائم الحرب، أو يقضي بما ليس بحق، ويحكم بما ليس بعدل، ويحرم أهلها منها من غير سبب.
4. إن من الوضوح بمكان أن الخيانة محظورة على كلّ أحد، نبيا كان أو غير نبي، ولكن حيث إن الكلام هنا يدور حول اعتذار تلك الجماعة المتمردة وتصوراتهم الخاطئة حول النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم لذلك تتحدث الآية عن الأنبياء أولا، ثمّ تقول: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي أن كلّ من يخون سيأتي يوم القيامة وهو يحمل على كتفه وثيقة خيانته، أو يصحبه معه إلى المحشر، وهكذا يفتضح أمام الجميع، وتنكشف أوراقه وتعرف خيانته.
5. قال بعض المفسّرين أن المراد من حمل الخيانة على الظهر أو استصحاب ما غلّ يوم القيامة ليس هو أنّه يحمل كلّ ذلك حملا أو يستصحبه استصحابا حقيقيا معه يوم القيامة، بل المراد هو أنه يتحمل مسئولية ذلك، ولكن بالنظر إلى مسألة (تجسم الأعمال) في يوم القيامة لا يبقى أي مبرر ولا أي داع لهذا التفسير، بل ـ وكما يدلّ عليه ظاهر الآية ويشهد به ـ يأتي الخائن وهو يحمل عين ما غل كوثيقة حية تشهد على خيانته وغلوله، أو يستصحبها معه.
6. ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ يعني أن الناس يجدون عين أعمالهم هناك، ولهذا فهم لا يظلمون لأنه يصل إلى كلّ أحد نفس ما كسبه خيرا كان أو شرا.
7. أثّرت الآية السابقة، والأحاديث التي صدرت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهي تذم الخيانة والغلول في نفوس المسلمين وخلقهم تأثيرا عجيبا حتّى أنهم ـ نتيجة لهذه التربية ـ لم يصدر عنهم أقل خيانة ولا أدنى غلول في غنائم الحرب أو الأموال العامة، إلى درجة أنهم كانوا يأتون بالغنائم الغالية الثمن الصغيرة الحجم التي كان من السهل إخفاؤها إلى النبي، أو القادة من بعده دون أي تصرف فيها، الأمر الذي يدعو إلى الدهشة والإكبار والعجب، فقد كان هؤلاء نفس أولئك العرب القساة، الجفاة، المغيرون، السلابون قطاع الطرق في الجاهلية، وقد أصبحوا الآن ـ في ظل التربية الإسلامية ـ في قمة الصلاح والأمانة، وفي ذروة الاستقامة والطهر، والتقى وكأنهم يرون مشاهد القيامة بأم أعينهم، كيف يقدم الخائنون في الأموال والأمانات إلى المحشر وهم يحملون على أكتافهم وظهورهم ما غلوه وخانوه.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/759.
87. الرضوان والسخط والدرجات
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈87⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: 162 ـ 163]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ يعني: رضا الله، فلم يغلل في الغنيمة، ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ يعني: كمن استوجب سخطا من الله في الغلول!؟ فليس هو بسواء، ثم بين مستقرهما، فقال للذي يغل: ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾، يعني: مصير أهل الغلول(1).
2. روي أنّه قال: ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾، يعني: بصير بمن غل منكم ومن لم يغل(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٠٦.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨٠٨.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ أهل الجنة بعضهم فوق بعض، فيرى الذي فوق فضله على الذي أسفل منه، ولا يرى الذي أسفل منه أنه فضل عليه أحد(1).
__________
(1) ابن المنذر: ٢/٤٧٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ هي كقوله: لهم درجات عند الله(1).
__________
(1) يعني: قوله تعالى: ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الأنفال: ٤]، والأثر في تفسير مجاهد: ص٢٦١.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ من أخذ الحلال خير له ممن أخذ الحرام، وهذا في الغلول، وفي المظالم كلها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ للناس درجات بأعمالهم في الخير والشر(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٠٦.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨٠٧.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ معناه منازلهم درجات(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 114.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ثم ذكر سبحانه من لا يغل، فقال: ﴿هُمْ﴾ يعني: لهم ﴿دَرَجَاتٍ﴾ يعني: لهم فضائل: ﴿عِنْدَ اللهِ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣١١.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ على ما أحب الناس وسخطوا: ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ لرضا الناس وسخطهم!؟ يقول: أفمن كان على طاعتي وثوابه الجنة ورضوان من ربه: ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ فاستوجب غضبه، وكان مأواه جهنم، وبئس المصير!؟ أسواء المثلان!؟ أي: فاعرفوا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾، أي: لكل درجات مما عملوا في الجنة والنار(2).
3. روي أنّه قال: ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته(3).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٠٩.
(2) ابن جرير: ٦/٢١٠.
(3) ابن جرير: ٦/٢١١.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عزّ وجل: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. قيل: أفمن لم يغل، ولم يأخذ من الغنيمة شيئا ـ كمن غلّ وأخذ منها!؟ ليسا سواء؛ رجع أحدهما برضوان الله، والآخر بسخطه.
ب. ويحتمل: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ أفمن أطاع الله واتبع أمره، كمن عصى الله واتبع هواه!؟ ليسا بسواء.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾:
أ. قيل: الدرجات: ما يقصدها أهلها، والدركات: ما تدركهم من غير أن يقصدوها؛ كالدرك في العقود يدرك من غير قصد.
ب. وقيل: الدرجات: ما يعلو، والدركات: ما يسفل فهذا في التسمية المعروفة أن سمّيت النار دركات والجنة درجات، وحقيقة ذلك واحد، والآية تدل على الأمرين.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/521.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: قال الحسن، والضحاك معناها، أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول كمن باء بسخط من الله في فعل الغلول، وهو اختيار الطبري قال لأنه أشبه بما تقدم.
ب. الثاني: قال ابن إسحاق ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ في العمل بطاعته على ما كره الناس ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ في العمل بمعصيته على ما أحبوا.
ج. الثالث: قال الزجاج، وأبو علي: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ بالجهاد في سبيله ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ بالفرار منه رغبة عنه.
2. سبب نزولها أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أمر بالخروج إلى أحد قعد عنه جماعة من المنافقين، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
3. ﴿رِضْوَانِ اللهِ﴾ ـ بكسر الراء وضمها ـ لغتان، وقرأ بالضم حفص عن عاصم على ما حكيناه عنه، فالضم على وزن الكفران، والكسر على وزن حسبان.
4. باء: معناه رجع تقول: باء بذنبه يبوء بوءاً إذا رجع به، وبوأته منزلا أي هيأته، لأنه يرجع إليه، لأنه مأواه، والبواء قتل الجاني بمن قتله.
5. السخط من الله من هو إرادة العقاب بمستحقه، ولعنه وهو مخالف للغيظ، لأن الغيظ هو هيجان الطبع وانزعاج النفس، ولا يجوز إطلاقه على الله تعالى.
6. المصير: هو المرجع، والفرق بينهما أن المرجع هو انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها، والمصير: انقلاب الشيء إلى خلاف الحال التي هو عليها نحو مصير الطين خزفاً، ولم يرجع خزفاً، لأنه لم يكن قبل ذلك خزفاً، فأما مرجع الفضة خاتماً فصحيح، لأنه قد كان قبل خاتماً وأما مرجع العباد إلى الله، فلأنهم ينقلبون إلى حال لا يملكون فيها لأنفسهم شيئاً، كما كانوا قبل ما ملكوا.
7. معنى قوله: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ أن تقديره المؤمنون ذووا درجة رفيعة عند الله، والكفار ذووا درجة خسيسة، وفي معناه قولان:
أ. أحدهما: اختلاف مراتب كل فريق من أهل الثواب، والعقاب، لأن النار أدراك لقوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ والجنة طبقات بعضها أعلى من بعض، كما روي أن أهل الجنة ليرون أهل عليين، كما يرى النجم في أفق السماء.
ب. الثاني: اختلاف مرتبتي أهل الثواب، والعقاب بما لهؤلاء من النعيم، والكرامة ولأولئك من العذاب والمهانة، وعبر عن ذلك بدرجات مجازاً.
8. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾، وإنما لهم درجات؟ والجواب: لأن اختلاف أعمالهم قد ميزهم بمنزلة المختلفي الذوات كاختلاف مراتب الدرجات لتبعيدهم من استواء الأحوال، فجاء هذا على وجه التجوز، كما قال ابن هرمة ـ أنشده سيبويه ـ:
çأنصب للمنية تعتريهم...رجالي أم هم درج السيولé
9. ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ معناه عليم، وفيه تحذير من أن يتكل على الاسرار في الأعمال ظناً بأن ذلك يخفى على الله، لأن أسرار العباد عند الله علانية، وفيه توثيق بأنه لا يضيع للعامل لربه شيء لأنه لا يخفى عليه جميعه، روي أن أهل الجنة ليرون أهل النار يطلعون عليهم فيرونهم كما يرى النجم في أفق السماء.
10. أصل الدرجة الرتبة، فمنه الدرج، لأنه يطوى رتبة بعد رتبة يقال: أدرجه إدراجاً، والدرجان مشي الصبي لتقارب الرتب، درج يدرج درجاً ودرجاناً، والدرج معروف، والترقي في العلم درجة بعد درجة أي منزلة بعد منزلة كالدرجة المعروفة.
11. سؤال وإشكال: هلا كان القرآن كله حقيقة، ولم يكن فيه شيء من المجاز، فان الحقيقة أحسن من المجاز؟ والجواب: ليس الأمر على ذلك فان المجاز في موضعه أولى، وأحسن من الحقيقة لما فيه من الإيجاز من غير إخلال بمعنى، وهي المبالغة بالاستعارة التي لا تنوب منابها الحقيقة، لأن قولهم إذ هو الشمس ضياء أبلغ في النفوس من قولهم هو كالشمس ضياء، كذلك الجزاء بالجزاء أحسن من الجزاء بالابتداء، لأنه أدل على تقابل المعنى بتقابل اللفظ، فكذلك ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ أولى وأبلغ من هم أهل درجات، للإيجاز من غير إخلال.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/36.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البَوْءُ: الرجوع، باء بذنبه يبوء بَوْءًا إذا رجع به، وبوأته منزلاً هيأته؛ لأنه يرجع إليه من حيث هو مأواه.
ب. السخط: الغضب، وهو من الله إرادة العقاب وإيجابه.
ج. الدرجات جمع درجة، والدرجة: الرتبة، ومنه الدرج؛ لأنه يطوي رتبة بعد رتبة.
2. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر يوم أحد باتِّباعِه فاتبعه المؤمنون، وتخلف عنه جماعة من المنافقين، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبين أن من اتبع فاز برضوان الله، ومن تخلف باء بسخط من الله.
3. لما بين تعالى أنه يوفي كل نفس ما كسبت، أتبعه ببيان من كسب خيرًا، أو شرًا فقال سبحانه ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾:
أ. قيل: تبع رضاه بترك الغلول كمن رجع بسخط من الله بفعل الغلول، وتقديره: أفمن غل كمن لم يغل.
ب. وقيل: معناه أفمن أطاع الله ورضي عنه كمن عصاه فسخط عليه.
ج. وقيل: أفمن اتبع رضا الله بطاعته على ما كره الناس ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ في العمل بمعصيته على ما أحبوا عن ابن إسحاق.
د. وقيل: أفمن اتبع رضوان الله بمتابعة رسوله كمن خالف الرسول فيما يسخطه عن الأصم.
هـ. وقيل: أفمن اتبع رضوان الله بالجهاد في سبيله كمن باء بسخط منه بالفرار منه عن أبي علي والزجاج.
4. ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ يعني مصيره ومرجعه إلى جهنم ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ يعني بئس المكان ما صار إليه؛ لأنه استفهام، والمراد الفرق بين الفريقين، يعني ليس من اتبع رضا الله كمن باء بسخطه.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾:
أ. قيل: الكل لهم اختلاف مراتب؛ لأن الجنة درجات، والنار دركات.
ب. وقيل: أراد اختلاف مرتبتي الثواب والعقاب، فلهَؤُلَاءِ النعم والكرامة، ولأولئك العذاب والإهانة.
6. إنما قال: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ يعني لهم درجات:
أ. قيل: معناه هم ذوو درجات.
ب. وقيل: لأن اختلاف أعمالهم صيرهم بمنزلة مختلفي الذوات كاختلاف مراتب الدرجات.
ج. وقيل: هم أهل الدرجات.
د. وقيل: هم في درجات على اختلاف منازل الفريقين عن أبي علي.
هـ. وقيل ﴿هُمْ﴾ بمعنى ﴿لَهُمْ﴾
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾:
أ. قيل: أي، عالم بما يعملون في الدنيا، ويستحقون إحدى الدرجات.
ب. وقيل: إنه عالم بسرائركم فلا تتكلوا على الإسرار.
8. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن نهاية المطلوب رضوان الله، ونهاية ما يحترز عنه سخطه، وأن ذلك يُنال باتباع رسوله وطاعته وتجنب معاصيه، ففيه حث على الطاعة، وزجر عن المعصية.
ب. تفاوت درجات المطيع والعاصي، وأن المطيع يفوز بالجنة ودرجاتها، والعاصي يدخل الدركات، وذلك يبطل قول الْمُجْبِرَةِ أنه يجوز أن يدخل المؤمنين النار والكافرين الجنة.
ج. أن رضا الله تعالى في الطاعة؛ لأن رضاه موافقة إرادته والاستمرار عليه.
د. أن الاتباع والعمل فِعْلُ العبد، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.
9. قرأ عاصم في إحدى الروايتين عنه ﴿رِضْوَانِ﴾ بضم الراء، والباقون بالكسر، وهما مصدران، فالضم كالكفران، والكسر كالحِسبان.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/445.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. باء أي: رجع، يقال: باء بذنبه يبوء بوءا: إذا رجع به، وبوأته منزلا أي: هيأته له، لأنه يرجع إليه.
ب. السخط من الله هو إرادة العقاب لمستحقه ولعنه، وهو مخالف للغيظ، لأن الغيظ هو هيجان الطبع، وانزعاج النفس، فلا يجوز إطلاقه على الله تعالى.
ج. المصير: المرجع، ويفرق بينهما بأن المرجع هو انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها، والمصير: انقلاب الشيء إلى خلاف الحال التي هو عليها، نحو مصير الطين خزفا، ولا يقال: رجع الطين خزفا، لأنه لم يكن قبل خزفا.
د. الدرجة: الرتبة، والدرجان: مشي الصبي لتقارب الرتب، والترقي في العلم درجة بعد درجة أي منزلة بعد منزلة كالدرجة المعروفة.
2. مما روي في سبب الآية الكريمة: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخروج إلى أحد، قعد عنه جماعة من المنافقين، واتبعه المؤمنون، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
3. لما بين تعالى أن كل نفس توفى جزاء ما كسبت من خير وشر، عقبه ببيان من كسب الخير والشر، فقال: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ وفيه أقوال:
أ. أحدها: إن معناه أفمن اتبع رضوان الله في العمل بطاعته كمن باء بسخط منه في العمل بمعصيته، عن ابن إسحاق.
ب. وثانيها: أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول، كمن باء بسخط من الله في فعل الغلول، عن الحسن والضحاك، واختاره الطبري لأنه أشبه بما تقدم.
ج. وثالثها: أفمن اتبع رضوان الله بالجهاد في سبيله ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ في الفرار منه، رغبة عنه، عن الزجاج والجبائي، وهذا الوجه يطابق ما سبق ذكره من سبب النزول.
4. ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ أي: مصيره ومرجعه جهنم ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أي: المكان الذي صار إليه والمستقر.
5. الآية استفهام، والمراد به التقرير، والفرق بين الفريقين أي: ليس من اتبع رضوان الله أي: رضاءه، كمن باء بسخطه.
6. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ أي: هم ذوو درجات ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ فالمؤمنون ذوو درجة رفيعة، والكافرون ذوو درجة خسيسة، وقيل في معناه قولان:
أ. أحدهما: إن المراد اختلاف مرتبتي أهل الثواب والعقاب بما لهؤلاء من النعيم والكرامة، ولأولئك من العقاب والمهانة، وعبر عن ذلك بدرجات مجازا وتوسعا.
ب. الثاني: إن المراد اختلاف مراتب كل من الفريقين، فإن الجنة طبقات، بعضها أعلى من بعض، كما جاء في الخبر: (إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى النجم في أفق السماء)، والنار دركات، بعضها أسفل من بعض، ومثله في حذف المضاف قول ابن هرمة أنشده سيبويه:
çأنصب للمنية تعتريهم... رجالي، أم هم درج السيولé
أي: هم ذوو درج.
7. ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي: عليم، وفي هذا ترغيب للناس في اتباع مرضاة الله تعالى، وتحذيرهم عما يوجب سخطه، وإعلام بأن أسرار العباد عنده علانية، وفيه توثيق بأنه لا يضيع عمل عامل لديه، إذ لا يخفى شيء من ذلك عليه، فيثيب على الطاعة، ويعاقب على المعصية.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/875.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ على قولين:
أ. أحدهما: أن معناها: أفمن اتّبع رضوان الله، فلم يغلّ، ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ حين غلّ!؟ هذا قول سعيد بن جبير، والضّحّاك، والجمهور.
ب. الثاني: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا أمر المسلمين باتّباعه يوم أحد، اتّبعه المؤمنون، وتخلّف جماعة من المنافقين، فأخبر الله بحال من تبعه، ومن تخلّف عنه، هذا قول الزجّاج.
2. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾، قال الزجّاج: معناه: هم ذوو درجات، وفي معنى درجات قولان:
أ. أحدهما: أنّها درجات الجنة، قاله الحسن.
ب. الثاني: أنها فضائلهم، فبعضهم أفضل من بعض، قاله الفرّاء، وابن قتيبة.
3. فيمن عنى بهذا الكلام قولان:
أ. أحدهما: أنهم الذين اتّبعوا رضوان الله، والذين باؤوا بسخط من الله، فلمن اتّبع رضوانه الثّواب، ولمن باء بسخطه العذاب، هذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنهم الذين اتّبعوا رضوان الله فقط، فإنّهم يتفاوتون في المنازل، هذا قول سعيد بن جبير، وأبي صالح، ومقاتل.
__________
(1) زاد المسير: 1/344.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ [آل عمران: 161] أتبعه بتفصيل هذه الجملة، وبين أن جزاء المطيعين ما هو، وجزاء المسيئين ما هو، فقال: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾، وللمفسرين فيها وجوه:
أ. الأول: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ في ترك الغلول ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ في فعل الغلول، وهو قول الكلبي والضحاك.
ب. الثاني: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ بالإيمان به والعمل بطاعته، ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ بالكفر به والاشتغال بمعصيته.
ج. الثالث: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ وهم المهاجرون، ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ وهم المنافقون.
د. الرابع: قال الزجاج: لما حمل المشركون على المسلمين دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه إلى أن يحملوا على المشركين، ففعله بعضهم وتركه آخرون، فقال: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ وهم الذين امتثلوا أمره ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ وهم الذين لم يقبلوا قوله.
هـ. وذكر محمد بن إسحاق صاحب المغازي في تأويل قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ [آل عمران: 161] وجها آخر فقال: ما كان لنبي أن يغل أي ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم رغبة في الناس أو رهبة عنهم ثم قال: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ يعني رجح رضوان الله على رضوان الخلق، وسخط الله على سخط الخلق، ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ فرجح سخط الخلق على سخط الله، ورضوان الخلق على رضوان الله، ووجه النظم على هذا التقرير أنه تعالى لما قال: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159] بين أن ذلك إنما يكون معتبرا إذا كان على وفق الدين، فأما إذا كان على خلاف الدين فإنه غير جائز، فكيف يمكن التسوية بين من اتبع رضوان الله وطاعته، وبين من اتبع رضوان الخلق، وهذا الذي ذكره محتمل، لأنا بينا أن الغلول عبارة عن الخيانة على سبيل الخفية، وأما أن اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة فهو عرف حادث.
هـ. قال القاضي: كل واحد من هذه الوجوه صحيح، ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه لأن اللفظ عام، فوجب أن يتناول الكل، لأن كل من أقدم على الطاعة فهو داخل تحت قوله: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ وكل من أخلد إلى متابعة النفس والشهوة فهو داخل تحت قوله: ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ أقصى ما في الباب أن الآية نازلة في واقعة معينة، لكنك تعلم أن عموم اللفظ لا يبطل لأجل خصوص السبب.
2. ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ﴾ الهمزة فيه للإنكار، والفاء للعطف على محذوف تقديره: أمن اتقى فاتبع رضوان الله.
3. ﴿بَاءَ بِسَخَطٍ﴾ أي احتمله ورجع به، وقد ذكرناه في سورة البقرة.
4. قرأ عاصم في إحدى الروايتين عنه: رضوان الله بضم الراء، والباقون بالكسر وهما مصدران، فالضم كالكفران، والكسر كالحسبان.
5. ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ من صلة ما قبله والتقدير: كمن باء بسخط من الله وكان مأواه جهنم، فأما قوله: ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فمنقطع عما قبله وهو كلام مبتدأ، كأنه لما ذكر جهنم أتبعه بذكر صفتها.
6. نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ﴾ [الجاثية: 21]، وقوله: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة: 18]، وقوله: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28]
7. احتج المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يدخل المطيعين في النار، وأن يدخل المذنبين الجنة، وقالوا: إنه تعالى ذكر ذلك على سبيل الاستبعاد، ولولا أنه ممتنع في العقول، وإلا لما حسن هذا الاستبعاد، وأكد القفال ذلك فقال: لا يجوز في الحكمة أن يسوى المسيء بالمحسن، فإن فيه إغراء بالمعاصي وإباحة لها وإهمالا للطاعات.
8. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ تقدير الكلام: لهم درجات عند الله، إلا أنه حسن هذا الحذف، لأن اختلاف أعمالهم قد صيرتهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها، فكان هذا المجاز أبلغ من الحقيقة والحكماء يقولون: إن النفوس الانسانية مختلفة بالماهية والحقيقة، فبعضها ذكية وبعضها بليدة، وبعضها مشرقة نورانية، وبعضها كدرة ظلمانية، وبعضها خيرة وبعضها نذلة، واختلاف هذه الصفات ليس لاختلاف الأمزجة البدنية، بل لاختلاف ماهيات النفوس، ولذلك قال : (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) وقال: (الأرواح جنود مجندة)، وإذا كان كذلك ثبت أن الناس في أنفسهم درجات، لا أن لهم درجات.
9. ﴿هُمْ﴾ عائد إلى لفظ (من) في قوله: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ [آل عمران: 162] ولفظ (من) يفيد الجمع في المعنى، فلهذا صح أن يكون قوله: ﴿هُمْ﴾ عائدا اليه، ونظيره قوله: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ فان قوله: ﴿يَسْتَوُونَ﴾ صيغة الجمع وهو عائد إلى (من)
10. ﴿هُمْ﴾ ضمير عائد إلى شيء قد تقدم ذكره، وقد تقدم ذكر من اتبع رضوان الله وذكر من باء بسخط من الله، فهذا الضمير يحتمل أن يكون عائداً إلى الأول، أو إلى الثاني، أو إليهما معاً، والاحتمالات ليست إلا هذه الثلاثة:
أ. الأول: أن يكون عائدا الى ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ﴾ وتقديره: أفمن اتبع رضوان الله سواء، لا بل هم درجات عند الله على حسب أعمالهم، والذي يدل على أن هذا الضمير عائد إلى من اتبع الرضوان وأنه أولى، وجوه:
• الأول: أن الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب، والدركات في أهل العقاب.
• الثاني: أنه تعالى وصف من باء بسخط من الله، وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصير، فوجب أن يكون قوله: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ وصفا لمن اتبع رضوان الله.
• الثالث: أن عادة القرآن في الأكثر جارية بأن ما كان من الثواب والرحمة فان الله يضيفه إلى نفسه، وما كان من العقاب لا يضيفه إلى نفسه، قال تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ وقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة: 178] ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183] فما أضاف هذه الدرجات إلى نفسه حيث قال: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ علمنا أن ذلك صفة أهل الثواب.
• رابعها: أنه متأكد بقوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 21]
ب. الثاني: أن يكون قوله: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ عائدا على ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ والحجة أن الضمير عائد إلى الأقرب وهو قول الحسن، قال والمراد أن أهل النار متفاوتون في مراتب العذاب، وهو كقوله: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأحقاف: 19] وقال : (أن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل يحذى له نعلان من نار يغلي من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل أحد يعذب عذابي)
ج. الثالث: أن يكون قوله: ﴿هُمْ﴾ عائدا إلى الكل، وذلك لأن درجات أهل الثواب متفاوتة، ودرجات أهل العقاب أيضا متفاوتة على حسب تفاوت أعمال الخلق، لأنه تعالى قال: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8] فلما تفاوتت مراتب الخلق في أعمال المعاصي والطاعات وجب أن تتفاوت مراتبهم في درجات العقاب والثواب.
11. ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ أي في حكم الله وعلمه، فهو كما يقال: هذه المسألة عند الشافعي كذا، وعند أبي حنيفة كذا، وبهذا يظهر فساد استدلال المشبهة بقوله: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنبياء: 19] وقوله: ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 55]
12. ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ والمقصود أنه تعالى لما ذكر أنه يوفي لكل أحد بقدر عمله جزاء، وهذا لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع أفعال العباد على التفصيل الخالي عن الظن والريب والحسبان، أتبعه ببيان كونه عالما بالكل تأكيدا لذلك المعنى، وهو قوله: ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/416.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ يريد بترك الغلول والصبر على الجهاد، ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ يريد بكفر أو غلول أو تول عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحرب، ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ أي مثواه النار، أي إن لم يتب أو يعفو الله عنه، ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أي المرجع.
2. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ أي ليس من اتبع رضوان الله كمن باء بسخط منه، قيل: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ متفاوتة، أي هم مختلفوا المنازل عند الله، فلمن ابتغى رضوانه الكرامة والثواب العظيم، ولمن باء بسخط منه المهانة والعذاب الأليم.
3. معنى ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ ـ أي ذوو درجات، أو على درجات، أو في درجات، أو لهم درجات، وأهل النار أيضا ذوو درجات، كما قال: (وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح)، فالمؤمن والكافر لا يستويان في الدرجة، ثم المؤمنون يختلفون أيضا، فبعضهم أرفع درجة من بعض، وكذلك الكفار، والدرجة الرتبة، ومنه الدرج، لأنه يطوى رتبة بعد رتبة، والأشهر في منازل جهنم دركات، كما قال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء] فلمن لم يغل درجات في الجنة، ولمن غل دركات في النار، قال أبو عبيدة: جهنم أدراك، أي منازل، يقال لكل منزل منها: درك ودرك، والدرك إلى أسفل، والدرج إلى أعلى.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/263.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ الاستفهام للإنكار، أي: ليس من اتبع رضوان الله في أوامره ونواهيه فعمل بأمره واجتنب نهيه كمن باء، أي: رجع بسخط عظيم كائن من الله، بسبب مخالفته لما أمر به ونهي عنه، ويدخل تحت ذلك، من اتبع رضوان الله بترك الغلول واجتنابه، ومن باء بسخط من الله بسبب إقدامه على الغلول.
2. ثم أوضح ما بين الطائفتين من التفاوت فقال: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ أي: متفاوتون في الدرجات؛ والمعنى: هم ذوو درجات، أو: لهم درجات، فدرجات من اتبع رضوان الله ليست كدرجات من باء بسخط من الله، فإن الأوّلين في أرفع الدرجات، والآخرين في أسفلها.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/453.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ بطاعته وطاعة رسوله وترك الغلول والفرار والكفر، وثبتت له الجنَّة، أو اتَّبع موجب رضوان الله، أي: فـ (أمَنِ اِتَّبَعَ)؟ أو: أجَعلَ اللهُ له تمييزا بين الضالِّ والمهتدي (فمن اتَّبع)؟، والاستفهام للنفي، و(مَنْ) موصولة أو موصوفة، ﴿كَمَنم بَآءَ بِسَخَطٍ﴾ عقاب على معاصيه وغلوله وفراره وكفره، ﴿مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِيسَ الْمَصِيرُ﴾ هي، والجملتان من الصلة لا مستأنفتان عنها.
2. (الْمَصِيرُ): اسم مكان ميميٌّ، ولا داعي إلى جعله مصدرا ميميًّا، بمعنى: بئس المصير صيرهم إلى جهنَّم، والأصل في صار أن يكون في غير ما كان فيه قبل، وفي رجع أن يكون فيما كان فيه قبل، وقد يتعاكسان، وقد يلاحظ في الرجوع إلى الله معنى ما كانوا عليه قبل، من كونهم لا خيار لهم ولا ملك.
3. ﴿هُمْ﴾ أي: المؤمنون والكافرون عند ابن عبَّاس والكلبي، كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [سورة الزلزلة: 7 ـ 8]، ﴿دَرَجَاتٌ﴾ مراتب، ﴿عِندَ اللهِ﴾ أحوالهم درجات، أو هم ذوو درجات، أو هم كدرجات، كقولك: زيد أسد، أي: كأسد، أو هم نفس الدرجات مبالغةً في التفاوت، ووجه الشبه التفاوت ثوابا وعقابا باتِّباع رضوان الله، وبالبوء بالسخط، وتَفَاوَتَ أيضًا المتَّبِعون فيما بينهم والباؤون فيما بينهم، وكلُّ ذلك في الآية، وجعل ابن عبَّاس التفاوت بين من اتَّبع ومن باء فقط.
4. الدرجات تستعمل في الشرِّ كما تستعمل في الخير، كقوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ﴾ [سورة الأنعام: 132]، أو المراد في الآية المؤمنون، بردِّ الضمير إلى (مَنِ اتَّبَعَ)؛ لأنَّ لفظ الدرجات أنسب به، وبقوله: ﴿عِندَ اللهِ﴾، وإنَّما يضيف إلى نفسه الخير كقوله: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [سورة الأنعام: 54] غالبا، فيقدَّر للكفار هكذا: والعصاة دركات عنده، أو نحو ذلك، أو المراد: من كفر، فيردُّ الضمير إلى من باء، ويناسبه أنَّه أقرب، وبه قال الحسن، إذ فَسَّر ذلك بأنَّ أهل النار متفاوتون في العذاب.
5. معنى ﴿عِندَ اللهِ﴾: في حكمه وعلمه وقضائه، ويتعلق بـ (دَرَجَاتٌ)؛ لأَنَّ معنى درجات: متفاوتون، ومِن تفاوتهم في العذاب قوله : (إنَّ منها ضحضاحا وغمرا، وأنا أرجو أن يكون أبو طالب في ضحضاحها)، وقوله : (الله الله الله! إنَّ أقلَّ أهل النار عذابا له نعلان من نار يغلي من حرِّهما دماغه، ينادي يا ربِّ هل يعذَّب أحد عذابي!؟)
6. ﴿وَاللهُ بَصِيرُم بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ يجازي متَّبع الرضوان بالكرامة والثواب، وغيره بالمهانة والعذاب.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/48.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ بالطاعة ﴿كَمَنْ بَاءَ﴾ رجع ﴿بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ بسبب المعاصي كالغالّ ومن شاكله ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
2. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ أي طبقات متفاوتة، تشبيه بليغ، ووجه ما بينهم من تباين الأحوال في الثواب والعقاب، كالدرجات في تفاوتها علوّا وسفلا، قال القاشانيّ: أي كل من أهل الرضا وأهل السخط ذوو درجات متفاوتات، أو هم مختلفون اختلاف الدرجات.
3. ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي بأعمالهم، فيجازيهم على حسبها.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/453.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم رتب على ذكر الجزاء العام في آخر الآية: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ أي جعل ما يرضيه من فعل وترك إماما له فجد واجتهد في الخيرات والأعمال الصالحات، واتقى الغلول وغيره من الفواحش والمنكرات، حتى زكت نفسه، وارتقت روحه، فوفى جزاءه الحسن، وكان عند ربه في جنات عدن، ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ﴾ أي انتهى إلى مباءته في الآخرة مصاحبا ومقترنا بغضب عظيم من الله عز وجل، لتدسية نفسه بما خفي من الخطايا كالسرقة والغلول، وتدنيسها بما ظهر منها كالسلب والنهب، وإهمال تطهيرها بالعبادات، وعمل الخيرات.
2. ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ ذلك المأوى الذي يأوي إليه وساء ذلك المنتهى الذي ينتهي إليه، كلا إنهما لا يستويان كما لا يستوي الظلمة والنور، ولا الظل ولا الحرور، قد جعل الخير متبعا للرضوان لأن أسباب الرضوان أعلام هداية تتبع، ولم يقل ذلك في الشرير لأنه في ظلمة يبتدع ولا يتبع.
3. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي إن كلا من الذين يتبعون رضوان الله والذين يبوءون بسخطه درجات أو ذوو درجات ومنازل عند الله أي في يوم الجزاء الذي ينسب إليه وحده لا ينسب إلى غيره فيه شيء لا حقيقة ولا مجازا كما قال: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 15]
4. الذي في كتب التفسير المشهورة أن العندية هنا عندية علم وحكم أي هم أصحاب درجات في حكم الله وبحسب علمه بشؤونهم وبما يستحقون، وكلا المعنيين صحيح ولا تنافي بينهما، وقالوا: إن ذكر الدرجات من باب التغليب فتشمل الدركات فالدرجات ما يرتقى عليه وهي للمرتقين من أهل الرضوان، والدركات ما يتدلى فيه وهي للمتدلين من أهل السخط والخذلان، كما قال في الأول: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة: 253] وفي الثاني: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء: 44]
5. قال الراغب: الدرك كالدرج لكن الدرج يُقال اعتبارا بالصعود والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل درجات الجنة ودركات النار، ولتصور الحدور في النار سميت هاوية، (قال) والدرك (بسكون الراء) أقصى قعر البحر، والمعنى أن الناس يتفاوتون في الجزاء عند الله كما يتفاوتون هنا في العرفان والفضائل، في الجهل والرذائل، وما يترتب على ذلك أو يترتب عليه ذلك من الأعمال الحسنة والقبيحة، وهذا التفاوت على مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا من الرفيق الأعلى في الدرجات العلى الذي كان يطلبه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من ربه في مرض موته، إلى الدرك الأسفل الذي ورد في سورة النساء، وذكر آنفا، وهي الدرجات لا تكون في الآخرة عطاء مؤتنفا وكيلا جزافا وإنما تكون أثرا طبيعيا لارتقاء الأرواح وتدليها هنا بالأعمال.
6. ولذلك قال بعد ذكرها: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ فهو لا يغيب عنه شيء من أعمالهم، وما لها من التأثير في تزكية نفوسهم، التي يترتب عليها الفلاح في ارتقاء الدرجات وفي تدسيتها التي تترتب عليهاالخيبة في هبوط الدركات، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9 ـ 10] فتحصيل الدرجات إنما يكون في هذه الدار، والتمتع بها يكون في دار القرار، أما الدرجات في الدنيا فقد ورد فيها قوله تعالى: ﴿أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة بك خير مما يجمعون﴾ [الزخرف: 32] وقوله تعالى: ﴿وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم﴾ [الأنعام 165] وليست هذه الدرجات بوسيلة ولا مقصد مما نحن فيه وإنما هي درجات ابتلاء وامتحان يظهر بها التفاوت بين أفراد الإنسان.
7. أما درجات الآخرة فهي المرادة بقوله تعالى بعد ذكر توسيع الرزق على بعض الناس وتضييقه على بعض ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 21] وأما وسائلها التي قلنا إن هذه آثارها وهي المعارف والأعمال، فمنها قوله عز وجل: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11] وقوله: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 76] وقوله سبحانه: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ [الأنعام: 83] فهذه كلها درجات العلم والحجة، ومنها قوله في ربط درجات العمل بدرجات الجزاء ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ [النساء: 95] ومنها بعد ذكر الجزاء ﴿لكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون﴾ [الأنعام: 142]، وقوله: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾ [طه: 75]
8. حسبنا هذه الآيات مبينة لما قلناه من كون درجات الجزاء في الآخرة على حسب درجات الارتقاء بالعلم والعمل في الدنيا، وأن هذه الدرجات لا يمكن أن يعلمها إلا من أحاط بكل شيء علما، فلا يخفى عليه أثر ما من آثار الأعمال في النفس ولا عاطفة من عواطف الإيمان في القلب ولا حقيقة من حقائق العلم في العقل، ولا يعزب عنه شيء من تفاوت الناس في ذلك؛ فدرجات ارتقاء الأرواح لها في علمه تعالى نظام دقيق أدق من نظام ميزان الحرارة والبرودة ومن ميزان الرطوبة ومن ميزان ثقل السائلات في درجاتها العليا والسفلى، وما أشبه هذه الموازين بالموازين الطبيعية التي تعرف بها سنن الله تعالى في الكون، وإن سنته تعالى في نفوس الناس لا تقل عن سنته في غيرها نظاما واطرادا، وإن بين عليا الدرجات وسفلاها درجة أدنى أهل النار عقوبة، وأدنى أهل الجنة مثوبة، ولهذا كله قال بعد ذكر الدرجات إنه بصير بما يعملون، وليس عندي في الآية شيء عن محمد عبده إلا ما تراه قريبا في تفسير الآية التالية وهي: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
__________
(1) تفسير المنار: 4/219.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أردف الله توفية ما كسبته كل نفس بالتفصيل الآتي ليبين أن جزاء المطيعين ليس كجزاء المسيئين، فقال: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ أي أفمن اتقى وسعى في تحصيل رضا الله بفعل الطاعات، وترك الغلول وغيره من الفواحش والمنكرات حتى زكت نفسه وصفا روحه ـ يكون جزاؤه كجزاء من انتهى أمره إلى سخط الله، وعظيم غضبه، بفعل ما يدسى نفسه من الخطايا من سرقة وغلول وسلب وقتل، وترك ما يطهرها من فعل الخيرات وعمل الصالحات؟.
2. ثم صرح بالفارق بينهما فقال: ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أي ومأواه الذي يأوي إليه، ولا مرجع له غيره، هي جهنم وساءت منقلبا ومرجعا ومآبا.
3. نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ وقوله: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾
4. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ أي إن كلا ممن اتبع رضوان الله ومن باء بغضب من الله طبقات مختلفة، ومنازل عند الله متفاوتة في حكمه، وبحسب علمه بشئونهم وبما يستحقون من الجزاء ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾
5. الخلاصة ـ إن الناس يتفاوتون في الجزاء عند الله كما يتفاوتون في الفضائل والمعرفة في الدنيا، وما يترتب على ذلك من الأعمال الحسنة أو السيئة، وهذا التفاوت على مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا ابتداء من الرفيق الأعلى الذي طلبه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في مرض موته إلى الدرك الأسفل، وهذه الدرجات أثر طبيعي لارتقاء الأرواح أو تدليها بالأعمال الصالحة أو السيئة.
6. ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم التي لها التأثير العظيم في تزكية نفوسهم وفوزها وفلاحها وارتقائها إلى أرفع الدرجات ـ أو في تدسيتها التي يترتب عليها الخيبة والخسران والهبوط إلى أسفل الدركات كما قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾، ولا يعلم هذه الدرجات إلا من أحاط بكل شيء علما، لأنه هو الذي لا يخفى عليه أثر من آثار الأعمال في الأنفس، ولا ما يختلج القلوب من الخواطر والهواجس.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/122.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم يستطرد السياق ـ في معرض الحديث عن الغنائم والغلول ـ يوازن بين القيم.. القيم الحقيقية التي يليق أن يلتفت إليها القلب المؤمن، وأن يشغل بها: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ إنها النقلة التي تصغر في ظلها الغنائم، ويصغر في ظلها التكفير في هذه الأعراض، وهي لمسة من لمسات المنهج القرآني العجيب في تربية القلوب، ورفع اهتماماتها، وتوسيع آفاقها وشغلها بالسباق الحقيقي في الميدان الأصيل.
2. ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ هذه هي القيم، وهذا هو مجال الطمع! ومجال الاختيار، وهذا هو ميدان الكسب والخسارة، وشتان بين من يتبع رضوان الله فيفوز به، ومن يعود وفي وطابه سخط الله! يذهب به إلى جهنم.. وبئس المصير!
3. هذه درجة وهذه درجة.. وشتان شتان: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ وكل ينال درجته باستحقاق، فلا ظلم ولا إجحاف، ولا محاباة ولا جزاف! ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/506.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ هنا مقابلة بين من استجاب لله، وانقاد لما يرضيه، فرجع مزوّدا برحمة الله ورضوانه، وبين من مكر بالله، وكفر بآياته، فانقلب موقرا بسخط الله وغضبه، وبين الطرفين المتقابلين بعد بعيد، واختلاف شديد، فالطرف الأول يمثّله الرسول ومن كان معه من المؤمنين، والطرف الآخر يمثله عبد الله بن أبىّ بن سلول ومن اتبع سبيله من المنافقين، والطرف الأول من رضى الله، في رحمة ومغفرة في الدنيا، وإلى جنات ونعيم في الآخرة، والطرف الآخر، من سخط الله وغضبه في غيظ وكمد في الدنيا، وإلى جهنم وعذاب السعير في الآخرة.
2. في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد تقبل من النبيّ ما كان منه من استجابته لأمر ربّه، وتلبيته ما دعاه إليه، من الصفح الجميل عن أصحاب الهفوات من أصحابه، وإخلاء نفسه من كل عوارض الغيظ أو الكظم مما كان منهم.. وفي هذا اتباع لما يرضى الله، ويزيد في مرضاته، وهو ما عبّر عنه هنا بالرضوان.
3. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ إنه لا يستوى من اتبع رضوان الله ومن باء بسخطه.. فهم درجات ومنازل عند الله، فالذين اتبعوا رضوان الله في رحمة ونعيم.. وهم في تلك الرحمة، وهذا النعيم درجات، بعضها فوق بعض، والذين مكروا بالله وباؤوا بسخطه في بلاء، وهمّ وجحيم، وهم في هذا البلاء وذلك الجحيم، درجات، بعضها دون بعض.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/633.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ تفريع على قوله: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ فهو كالبيان لتوفية كلّ نفس بما كسبت.
2. الاستفهام إنكار للمماثلة المستفادة من كاف التّشبيه فهو بمعنى لا يستوون، والاتّباع هنا بمعنى التطلّب: شبه حال المتوخي بأفعاله رضى الله بحال المتطلّب لطلبة فهو يتبعها حيث حلّ ليقتنصها، وفي هذا التّشبيه حسن التنبيه على أنّ التحصيل على رضوان الله تعالى محتاج إلى فرط اهتمام.
3. في فعل (باء) من قوله: ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ تمثيل لحال صاحب المعاصي بالّذي خرج يطلب ما ينفعه فرجع بما يضرّه، أو رجع بالخيبة كما تقدّم في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ في سورة البقرة [16]، وقد علم من هذه المقابلة حال أهل الطاعة وأهل المعصية، أو أهل الإيمان وأهل الكفر.
4. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ عاد الضّمير لـ ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ﴾ لأنّهم المقصود من الكلام، ولقرينة قوله: ﴿دَرَجَاتٍ﴾ لأن الدرجات منازل رفعة، وقوله: ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ تشريف لمنازلهم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/276.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ هذا هو القانون السامي الذي وضعه سبحانه، وهو التساوي بين العمل وجزائه، وأنهم لا يتساوون في ذات أنفسهم، وفي الجزاء إذا اختلفت أعمالهم، ويفيد النص أن الجزاء يتحد إذا اتحد العمل، ويختلف إذا اختلف العمل، وفي النص الكريم عدة إشارات بيانية:
أ. الأولى: أنه ساق الكلام مساق الاستفهام الإنكاري الذي يفيد النفي أي إنكار الوقوع، وهذا يفيد أن ذلك القانون بدهى لا تختلف فيه العقول، بحيث لو سئل كل واحد من الناس عن ذلك لأجاب بأنه لا يستوى من اتبع رضوان الله، مع من يبوء بغضب الله.
ب. الثانية: أن الله سبحانه وتعالى سمى الأمناء الذين لا يغلون ولا يخونون في أي شيء، وخصوصا في الغنائم: يتبعون رضوان الله تعالى، وذلك لأنهم يخرجون مجاهدين في سبيل الحق ورفع كلمة الله وقد قدموا أنفسهم لمرضاته، وكانوا ممن شروا أنفسهم لله، ومن المؤمنين الذين اشترى الله سبحانه وتعالى أنفسهم، وفي ذلك رضوان الله تعالى، وهو أعظم جزاء في الدنيا والآخرة.
ج. الثالثة: أنه عبر عن الذين يغلون ويخونون بأنهم يبوءون أي يعودون على أنفسهم بسخط الله تعالى، والسخط ليس هو الغضب المجرد، بل هو الغضب الذي يصحبه أو يترتب عليه العقاب، وفرق بين عملين: أحدهما يجلب أبلغ الرضا، وثانيهما يجلب أبلغ الغضب وأشد العقاب، وإن ذكر هذه المقابلة ليعرف الذين يغلون بالغنائم أنهم لا يكسبون لأن ما يخسرونه أضعاف ما يكسبون من عرض لا بقاء له، والعبرة بفاضل ما بين الكسبين، أما الذين قد اختاروا الأمانة سبيلا، فإنهم لا يخسرون شيئا؛ لأن مال الخيانة لا يعد كسبا، بل هو سحت لا كسب فيه، ومع أنهم لا يخسرون شيئا، وكسبهم عظيم لا حد له، وهو رضوان الله تعالى.
د. الرابعة: أنه سبحانه عبر عن اتباع أوامر الله ونواهيه باتباع رضوانه، لأن الطاعة المخلصة تؤدى إلى رضوانه سبحانه وتعالى، فطلب رضا الله في طاعته.
2. عقب سبحانه ذكر سخطه بذكر عقابه؛ لأن السخط والعقاب متلازمان، كما أشرنا؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أي أن عودتهم بغضب الله الشديد يتبعه حتما ذلك المصير يوم القيامة، وهو أن يكون المستقر الذي يستقرون فيه وينتهون إليه، هو جهنم، وهى الهاوية التي يهوون إليها في النار، جزاء هاوية الخيانة التي أصابتهم في الدنيا، وبئس ذلك المصير الذي صاروا إليه، وكان لهم نهاية، وإن لم يريدوه لهم غاية.
3. نتيجة عدم التساوي بين من يتبع رضوان الله تعالى ويطلبه بإقامة الطاعات على وجهها الأكمل، ومن يختارون الشر سبيلا ـ هي أن يكون الناس درجات بحسب مقدار طلب الرضوان، ومقدار اتباع السخط، ولذا قال سبحانه: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ الدرجة هي الرتبة والمنزلة، ومنها الدرج بمعنى السلم؛ لأنه يعلى عليه رتبة بعد رتبة، وأكثر ما تكون كلمة الدرجة في القرآن بمعنى المنزلة الرفيعة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الزخرف] وأما المنزلة غير الرفيعة فيعبر سبحانه بالدركة؛ ولذا يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ [النساء] ولقد قال الراغب الأصفهاني في المفردات (الدرك كالدرج، لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود، والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل درجات الجنة، ودركات النار)
4. الضمير في قوله تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ يعود على الفريقين الذين اتبعوا رضوان الله تعالى، والذين اتبعوا سخطه سبحانه، وإطلاق (درجات) على الفريقين وفيهم الأشرار من قبيل التغليب، وهو تغليب له مغزاه؛ إذ هو تغليب الخير على الشر، وتغليب رضا الله على سخطه، وتغليب الأبرار على الفجار، وإن الآية الكريمة تشير إلى معنى جليل، وهو تفاوت درجات الأبرار، وتفاوت دركات الأشرار، فالذين يسيرون في الخط الذي رسمه الله تعالى لطاعته متفاوتون في مقدار ما يقطعونه من ذلك الطريق النورانى الذي ينته بطاعته سبحانه وهم بذلك درجات عند الله تعالى بمقدار اتباعهم ما فيه رضوانه، وهو الأوامر والنواهي والآخرون متفاوتون في مقدار انهوائهم في الشر بمقدار ما يخالفون أمر الله ونواهيه.
5. إن تلك الدرجات المتفاوتة هي نتيجة العمل، ولذا قال سبحانه: ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى يعلم عمل كل إنسان علم من يراه ويبصره، فلا يغيب عنه سبحانه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، وإنه سبحانه سيجزى كل نفس بما كسبت، على مقتضى علمه الكامل، وإن هذه الدرجات التي يضع الناس فيها هي بمقتضى علمه سبحانه.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1487.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ هذه الآية نظير قوله تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾.. قال الإمام أمير المؤمنين علي: (شتان بين عملين: عمل تذهب لذته، وتبقى تبعته، وعمل تذهب مئونته، ويبقى أجره).. وقال: (ان الحق ثقيل مريء، وان الباطل خفيف وبيء، من الوباء، أي ان الحق مر المذاق، ولكنه حميد العاقبة، والباطل حلو المذاق، ولكنه وخيم العاقبة.. وأي عاقبة ومصير أسوأ من غضب الجبار وعذاب النار)
2. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾، ضمير (هم) يعود على من اتبع رضوان الله ومن باء بسخطه معا، والمعنى ان المطيعين يتفاوتون في الطاعات من المجاهدين في سبيل الله بأنفسهم إلى القاعدين غير أولي الضرر، وكذا العاصون يتفاوتون في المعاصي من الجناية إلى الجنحة.. فوجب، والحال هذه، أن يتفاوت هؤلاء في العقاب، وأولئك في الثواب.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/197.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم ذكر أن رمي النبي بالخيانة قياس جائر مع الفارق فإنه متبع رضوان الله لا يعدو رضا ربه، والخائن باء بسخط عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير، وهذا هو المراد بقوله: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ الآية، ويمكن أن يكون المراد به التعريض للمؤمنين بأن هذه الأحوال من التعرض لسخط الله، والله يدعوكم بهذه المواعظ إلى رضوانه، وما هما سواء.
2. ثم ذكر أن هذه الطوائف من المتبعين لرضوان الله والبائين بسخط من الله درجات مختلفة، والله بصير بالأعمال فلا تزعموا أنه يفوته الحقير من خير أو شر فتسامحوا في اتباع رضوانه أو البوء بسخطه.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/58.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فلابد أن الله الحكيم لا يسوي بينهما، بل يجعل لمن اتبع رضوانه حسن الثواب، ويجعله في الدنيا محرّم العِرْض، فلا يحل تهمته بالغلول ولاغيره من الرذائل.
2. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ فأهل الثواب درجات متفاوتة، وأهل العقاب درجات متفاوتة لتفاوت الأعمال في الخير والشر ومعنى ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ في حكم الله وجزائه ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ كلهم، فسيجعل لكل عمل ما يليق به من الجزاء بقدره، لعلمه سبحانه بالأعمال ومقادير حسنها وقبحها باطنها وظاهرها، فهو ﴿بَصِيرٌ﴾ بها لتنزيل كل عمل منزلتة اللائقة به لعلمه به وقدرته على ذلك على أبلغ الوجوه، والبصير بالشيء: الخبير به الماهر فيه في مثل: ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾ [طه:96] وقد ذكر هذا المعنى الإمام الهادي عليه السلام في (مجموعه) المسمى (المجموعة الفاخرة)، قال في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: دلت على وجوب التفرقة بين من اتبع رضوان الله وبين من سخط الله عليه في الأحكام، إلا ماخصه دليل)
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/570.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تستمر الآيات في توضيح الميزان الذي يرفع الله به درجات عباده أو ينزلها، فليس هناك إلّا اتّباع رضى الله والابتعاد عن سخطه، فلا يمكن أن يتساوى الطائعون والعاصون أمام الله الذي يعلم خفاياهم في صغائر الأمور وكبائرها، بل يجعل لكلّ منهم درجته من المغفرة أو من العقوبة على أساس علمه وعدله.
2. ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ ما أمره الله به أو نهاه عنه في الخط العام للشريعة بأحكامها العامة والخاصة، وما أمره به رسوله في خط الدعوة والجهاد، فكان همّه الحصول على رضى الله والوصول إلى موقع القرب منه، ﴿كَمَنْ بَاءَ﴾ أي رجع من مواقعه الحركية في حركة الإسلام في ساحة التحدي والمواجهة للشرك وأهله، ﴿بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ﴾ بما يمثله ذلك من إبعاده عن ساحة رحمته واستحقاقه لعذابه، لأنه لم يأخذ بأسباب الطاعة لله وللرسول في ما أمراه به أو نهياه عنه في الحياة العامة وفي مواقع الجهاد، ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أي مستقره في النار التي استحقها بكفره ونفاقه وانحرافه عن الخط الإلهي المستقيم!؟ وهكذا تؤكد الآية ـ بأسلوب الاستفهام الإنكاري ـ تقرير الحقيقة الإيمانية العملية التي ترفض مساواة الطائعين للعاصين عند الله في المصير النهائي الذي يصيرون إليه في الآخرة.
3. ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ فلكل واحد منهم منزلته ومرتبته تبعا لحجم عمله في خط الطاعة وخط المعصية، سواء في ذلك المؤمنون والكافرون، فقد يختلف المؤمنون في درجاتهم في مواقع القرب من الله والحصول على رضوانه من خلال اختلافهم في درجات المعرفة به والإيمان به والعمل في سبيله، وقد يختلف الكافرون في منازل سخطه من خلال اختلاف نوعية الكفر شدة وضعفا، أو في اختلاف طبيعة التمرّد العملي في مواقع المعصية، ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ فهو المطّلع على سرّهم وعلانيتهم، وعلى كل ما يفيضون فيه من أقوال وأعمال، وفي هذا إيحاء بأن على المؤمنين أن يتبعوا رضوان الله في جميع أمورهم ويتطلبوا الحصول على الدرجات الرفيعة عنده ما دام الأمر بهذه المثابة في انفتاح الفرصة على الوصول إلى أعلى الدرجات من خلال وعي العقيدة وحركة العمل وامتداد الخط في آفاق الاستقامة.
4. هكذا يمكن أن يستوحي منها العاملون للإسلام خطّا إيمانيا في تخطيطهم لحساب المسؤولية في ما يمكن أن يرفعوا به الآخرين من درجات أو يضعوه منها، فيمن يعملون معهم، فلا بدّ من أن تكون الدرجات خاضعة لمواقعهم في الانضباط أمام أوامر الله ونواهيه، بعيدا عن الجوانب الأخرى التي لا تلتقي بهذا الخطّ، وبهذا نستطيع أن نشجّع السائرين على الخط المستقيم في ما ساروا فيه، ونبعد المنحرفين عن الامتداد بعيدا في خط الانحراف.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/358.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تضمنت الآيات السابقة الحديث عن شتى جوانب معركة (أحد) وملابساتها ونتائجها، وقد جاء الآن دور المنافقين وضعاف الإيمان من المسلمين الذين تقاعسوا عن الحضور في (أحد) تبعا للمنافقين، لأننا نقرأ في الأحاديث أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما أمر بالتحرك إلى (أحد) تخلف جماعة من المنافقين عن التوجه إلى الميدان بحجة أنه لن يقع قتال، وتبعهم في ذلك بعض المسلمين من ضعاف الإيمان، فنزل قوله تعالى ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ ولبى نداء النبي واتبع أمره بالخروج ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
2. ثمّ يقول تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ أي أن لكل واحد منهم درجة بنفسه ومكانة عند الله، وهو إشارة إلى أنه لا يختلف المنافقون عن المجاهدين فقط، بل إن لكلّ فرد من أفراد هذين الطائفتين درجة خاصة تناسب مدى تضحيته وتفانيه في سبيل الله أو مدى نفاقه وعدائه لله تعالى، وتبدأ هذه الدرجات من الصفر وتستمر إلى خارج حدود التصوّر، وقد نقل في رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام أنّه قال: الدرجة ما بين السماء والأرض)، وجاء في حديث آخر (إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى النجم في أفق السماء)
3. (الدرجة) تطلق عادة على تلك الوسيلة التي يرتقي بها الإنسان ويصعد إلى مكان مرتفع، في حين أن الدرجات التي يستخدمها الإنسان للنزول من مكان مرتفع إلى مكان منخفض تسمى (دركا) ولهذا جاء في شأن الأنبياء عليهم السّلام في سورة البقرة: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ وجاء في حقّ المنافقين في سورة النساء: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ ولكن حيث كان البحث في الآية الحاضرة حول كلا الفريقين غلب جانب المؤمنين، فكان التعبير بالدرجة دون غيرها إذ قيل ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾
4. ثمّ يقول سبحانه في ختام هذه الآية ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي أنه سبحانه عالم بأعمالهم جميعا فهم يعلم جيدا من يستحق أية درجة من الدرجات، بحيث تليق بنيته وإيمانه وعلمه.
5. هناك الكثير من الحقائق المتعلقة والمرتبطة بالقضايا الدينية أو الخلقية أو الاجتماعية، يطرحها القرآن الكريم في قالب التساؤل والاستفهام تاركا للسامع ـ وبعد أن يضعه أمام كلا جانبي القضية ـ أن يختار هو بمعونة من فكره، وانطلاقا من تحليله وتقويمه، إن لهذا الأسلوب ـ الذي لا بدّ أن نسميه بالأسلوب التربوي غير المباشر ـ أثرا بالغا في تحقيق الأهداف المرجوة من البرامج التربوية وتأثيرها فيمن يراد توجيههم وتربيتهم، وذلك لأن الإنسان ـ في الأغلبـ يهتم أكثر بما توصل إليه بنفسه من النتائج والأفكار والآراء وما انتهى إليه بفكره من التفاسير والتحاليل في القضايا المختلفة، فإذا طرحت عليه قضية بصورة قطعية وصبغة جازمة، قاومها أحيانا، ولعله ينظر إليها كما ينظر إلى أية فكرة غريبة، لكن عندما يطرح عليه الأمر في صورة التساؤل الذين يطلب منه الجواب عليه حسب قناعته الشخصية ثمّ يسمع ذلك الجواب من أعماق ضميره وفؤاده، فإنه لا يسعه حينئذ أن يقاوم هذا الجواب ويعاديه، بل ينظر إليه نظر العارف به، ولن تعود لديه ـ حينئذ ـ تلك الفكرة الغريبة البعيدة، بل تكون الفكرة القريبة إلى قلبه، المأنوسة إلى فؤاده، إن هذا الأسلوب من التوجيه والإرشاد مؤثر غاية لتأثير خاصة مع المعاندين، وكذا الأطفال والناشئين، وقد استعمل القرآن الكريم من هذا الأسلوب التربوي الرائع المؤثر في مواضع عديدة نذكر منها بعض النماذج:
أ. ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
ب. ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾
ج. ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/763.