...
12. آدم وتعليم الأسماء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈12⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: 31 ـ 33]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ ثم عرض الخلق على الملائكة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أن بني آدم يفسدون في الأرض، ويسفكون الدماء(2).
3. روي أنّه قال: أمرهم الله تعالى أن يأتموا بآدم، فسجدت الملائكة وآدم لله رب العالمين(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، فهذا الذي أبدوا، ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر(4).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٢٠.
(2) ابن جرير: ١/٥٢٣.
(3) تفسير الثعلبي: ١/١٨٠.
(4) ابن جرير: ١/٥٣١.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ علم الله آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس؛ إنسان، ودابة، وأرض، وبحر، وسهل، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها(1).
2. روي أنّه قال: علم الله آدم أسماء الخلق، والقرى، والمدن، والجبال، والسباع، وأسماء الطير، والشجر، وأسماء ما كان وما يكون، وكل نسمة الله تعالى بارئها إلى يوم القيامة، وعرض تلك الأسماء على الملائكة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ عرض عليه أسماء ولده إنسانا إنسانا، والدواب، فقيل: هذا الجمل، هذا الحمار، هذا الفرس(3).
4. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾، يعني: عرض أسماء جميع الأشياء التي علمها آدم من أصناف الخلق(4).
5. روي أنّه قال: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾ تنزيها لله من أن يكون يعلم الغيب أحد غيره: تبنا إليك(5).
6. روي أنّه قال: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا﴾ تبريا منهم من علم الغيب، ﴿إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ كما علمت آدم(5).
7. روي أنّه قال: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ﴾ العليم الذي قد كمل في علمه(6).
8. روي أنّه قال: ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي قد كمل في حكمه(6).
9. روي أنّه قال: ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ أخبرهم بأسمائهم(7).
10. روي أنّه قال: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ ما تظهرون، ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار(8).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥١٤.
(2) تفسير الثعلبي: ١/١٧٨.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٨٠.
(4) ابن جرير: ١/٥٢١ ـ: ٥٢٢.
(5) ابن جرير: ١/٥٢٨.
(6) ابن جرير: ١/٥٢٩.
(7) ابن جرير: ١/٥٣٠.
(8) ابن جرير: ١/٥٣١.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الْحَكِيمُ﴾ حكيم في أمره(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ فكان الذي كتموا قولهم: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨١.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٨٣.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ علمه اسم كل شيء حتى البعير، والبقرة، والشاة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ ما أسر إبليس في نفسه(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥١٥.
(2) ابن جرير: ١/٥٣٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ ما خلق الله كله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ عرض أصحاب الأسماء على الملائكة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ أنبأ آدم الملائكة بأسمائهم؛ أسماء أصحاب الأسماء(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ ما أسر إبليس من الكفر في السجود(4).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص١٩٩.
(2) ابن جرير: ١/٥٢١.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٨٢.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٨٣.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: علمه اسم كل شيء هذه الخيل، وهذه البغال، والإبل، والجن، والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه أمة أمة(1).
2. روي أنّه قال: فجعل آدم ينبئهم بأسمائهم، ويقول: هذا اسم كذا وكذا من خلق الله، وهذا اسم كذا وكذا، فعلم الله آدم من ذلك ما لم يعلموا، حتى علموا أنه أعلم منهم، قال ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٩٢.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٨٢.
ابن الزبير:
روي عن محمد بن جعفر بن الزبير (ت 115 هـ) أنّه قال: ﴿الْحَكِيمُ﴾ الحكيم في عذره وحجته إلى عباده(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨١.
بريدة:
عبد الله بن بريدة (ت 115 هـ) أنّه قال: كان الله قد علم من إبليس فيما يخفي أنه غير فاعل، فذلك قوله: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، أما إبداؤه فإقراره بالسجود، وأما ما يخفي فإباؤه له(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨٣.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة؛ فسمى كل شيء باسمه، وألجأ كل شيء إلى جنسه(1).
1. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ علمه اسم كل شيء، ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥١٦.
(2) عبد الرزاق: ١/٤٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ أي ما كان يكتمه إبليس في نفسه(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 80.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. سئل عن قول الله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ ماذا علمه؟ قال: الأرضين، والجبال، والشعاب، والأودية ـ ثم نظر إلى بساط تحته، فقال ـ: وهذا البساط مما علمه(1).
2. عن داوود بن سرحان العطار، قال كنت عند الإمام الصادق فدعا بالخوان فتغدينا، ثم جاءوا بالطست والدست سنانه، فقلت: جعلت فداك، قوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ الطست والدست سنانه منه؟ فقال: الفجاج والأودية) وأهوى بيده، كذا وكذا(2).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/32/11.
(2) تفسير العيّاشي: 1/33/13.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قال الله تعالى لآدم: يا آدم، ﴿أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾، يقول: أخبر الملائكة بأسماء دواب الأرض والطير كلها، ففعل(1).
2. روي أنّه قال: قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ﴾ ما يكون في ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٩٨.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾، أي: إنما أجبناك فيما علمتنا، فأما ما لم تعلمنا فإنك أعلم به منا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨١.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ :
أ. يحتمل: أن يكون علم لهم.
ب. ويحتمل: أن يكون علّم بإرسال ملك من غير الذين امتحنوا به، وفى ذلك تثبيت أحد وجهين:
• إما أن يكون العلم بالأشياء حقيقة ضرورة، يقع عند النظر في الأسباب التي هي أدلة وقوعه عند التأمل فيها؛ نحو وقوع الدّرك بالبصر عند النّظر وفتح العين.
• وإما أن يكون الله تعالى خلق فعل التعلم الذي يعلم المرء فيما يضاف فيه إلى الله تعالى أنه علم.
2. وكذا قوله: ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: 4]، وكذا قوله: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ [يس: 69]، ولا يحتمل هذه الأسباب لما كانت له كلها، ولم يكن تعلّم حقيقة ليؤذنه، وكذلك قول الملائكة: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة: 32]
3. قوله تعالى: ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ ظاهره أمر، ولكنه يحتمل التوعد والمعاتبة على ما بينا، وذلك في القرآن كثير:
أ. وإن كان في الحقيقة أمرا، ففيه دلالة جواز الأمر فيما لا يعلمه المأمور إذا كان بحيث يحتمل العلم به إلى ذي العلم تبين له إذا طلب واستوجب رتبة التعلم والبحث.
ب. ويحتمل: أن يكونوا نبّهوا حتى لا يسبق إليهم ـ عند إعلام آدم ـ أن ذلك من حيث يدركونه لو تكلفوا.
ج. أو أراد أن يريهم آية عجيبة تدل على نبوته، ذكّرهم عجزهم عن ذلك، وألزمهم الخضوع لآدم عليه السلام في إفادة ذلك العلم له، كما قال عزّ وجل: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ [طه: 17] ذكره أولا حاله وحال عصاه، ليعلم ما أراه ما في يده من آية نبوته على نبينا وعليه السلام.
4. قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ :
أ. في المعاني التي ذكروا؛ إذ كنتم مذ خلقتم موصوفين بالصدق.
ب. أو على تحذير القول بلا علم، وكأنه قال واصدقوا، واحذروا القول بالجهل، وفى ذلك أنهم لم يتكلفوا بالقول في شيء لم يعلمهم الله تعالى.. قال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان: هذا يبطل قول المنجمة والعافة بدعواهم على الغيب بلا تعليم ادّعوه من الله تعالى.
5. قول الملائكة: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ يشبه أن يكون السابق إلى وهمهم منى، أو خطر فعل ما كان بالله خرج من أن يعقلوا حكمته؛ إمّا بما لم يبلغهم العلم بها، أو يخطر ببالهم أنه تعالى كيف يأمرهم، وهو يعلم أنهم لا يعلمون بها، أو خطر ببالهم من غير تحقيق ذلك، ولكن على ما يبلى به الأخيار؛ كقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى﴾ [الحج: 52]، أو كما لا يخلو به الممتحن عن الخواطر التي تبلغ المحنة بهم المجاهدة بها في دفعها، وإن لم يكن لهم بما يخطر ببالهم صنع.
6. قالوا: ﴿سُبْحَانَكَ﴾؛ نزّهوا عمّا خطر ببالهم، وسبق إلى وهمهم.. ووصفوا بأنه ﴿عَلِيمٌ﴾ : لا يخفى عليه شيء.. ﴿حَكِيمٌ﴾ : لا يخطئ في شيء، ولا يخرج فعله عن الحكمة، وبالله التوفيق والعصمة.
7. في الآية منع التكلم في الشيء إلا بعد العلم به، والفزع به إلى الله عن القول به إلا بعلم، وهذا هو الحق الذي يلزم كلّ من عرف الله، وبه أمر الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36]
8. سئل أبو حنيفة عن الإرجاء ما بدؤه؟ فقال: فعل الملائكة إذا سئلوا عن أمر لم يعلموا فوضوا ذلك إلى الله تعالى، ومعنى الإرجاء نوعان:
أ. أحدهما: محمود؛ وهو إرجاء صاحب الكبائر، ليحكم الله تعالى فيهم بما يشاء، ولا ينزلهم نارا ولا جنة؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48].
ب. والإرجاء المذموم هو الجبر، أن ترجأ الأفعال إلى الله تعالى، لا يجعل للعبد فيه فعلا، ولا تدبير شيء من ذلك، وعلى ذلك المروىّ، حيث قال: صنفان من أمتى لا ينالهم شفاعتي القدرية والمرجئة):
• والقدرية: هي التي لم تر لله ـ في فعل الخلق ـ تدبيرا، ولا له عليه قدرة التقدير.
• والمرجئة: هي التي لم تر للعبد فيما ينسب إليه من الطاعة والمعصية فعلا البتة؛ فأبطلت الشفاعة لهما، وجعلت للمذهب الأوسط بينهما، وهو الذي يحقق للعبد فعلا، ولله تقديرا، ومن العبد تحركا بخير أو شر، ومن الله خلقه.. وذلك على المعقول مما عليه طريق العدل والحق بين التفريط والتقصير ﴿أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾، وكذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: خير الأمور أوساطها)، وكذلك قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ الآية [البقرة: 143]، ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/418.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ : أي أسماء ما بين السماء والأرض مثل النجوم والشمس والقمر.
2. معنى قوله عز وجل للملائكة: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، أي عرض عليهم وأراهم حكمته في جميع ما خلق بين السماء والأرض، ثم سألهم عن أسماء تلك الأسباب، ليبين لهم أنهم لا تنال عقولهم الأسماء وهي أسهل الأشياء، فكيف بغير ذلك مما لا يعلمون؟
3. معنى قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ : فهو إذا أنتم صادقون، ولكن إن قامت مقام إذ، وقام كنتم مقام أنتم، يريد: أنتم صادقون لا تكلمون بما تجهلون، توقيفاً لهم على جهلهم بما لا يعلمون.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 273.
الديلمي:
الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ إذ لا فائدة في علم الأسماء بلا معاني فتكون المعاني هي المقصودة والأسماء المراد بها المتسمون، وذلك أن الله صورهم لقلوب الملائكة، ثم عرضهم قبل خلقهم، فقال: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
2. معنى قوله انبئوني أخبروني مأخوذ من الإنباء، وفي الإنباء قولان:
أ. أظهرهما الإخبار، والنبأ الخبر والمنبئ المخبر.
ب. أن الإنباء الإعلام وإنما يستعمل في الإخبار مجازاً.
3. ﴿بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ أي الأسماء التي علمها آدم.
4. قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ :
أ. فيما زعمتم أن خلفائي يفسدون في الأرض.
ب. وفيه وجه آخر وهو إن كنتم صادقين أني إن استخلفت فيها غيركم عصاني، وإن استخلفتكم سبحتموني وقدستموني.
ج. ويحتمل وجهاً ثالثاً في قوله إن كنتم صادقين فيما وقع في نفوسكم أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل منه.
5. يجوز أن يكون بمعنى (إذ) فيكون إذ كنتم صادقين.
﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ ما تبدون هو قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؛ وما كنتم تكتمون أن الله تعالى لا يخلق خلقاً إلا كانوا أكرم عليه منه.
في تسميته بآدم قولان:
أ. أحدهما: أنه سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض وأديمها وجهها الظاهر.
ب. الثاني: أنه مشتق من الأُدْمة وهو اللون، أي علمه جميع الأسماء ومعانيها، والأسماء دلائل عليها.
6. العالم من غير تعليم.
7. في الحكيم وجهان:
أ. أحدهما: المحكم لأفعاله.
ب. الثاني: أنه المانع من الفساد ومنه سُميت حكمة الفَرَس لأنها تمنع من الجري، وقال جرير:
أبني حنيفة أحكموا أسفاهكم... إني أخاف عليكم أن أغضبا
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/41.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ فيه وجهان:
أ. أحدهما: أن التعليم إنما كان مقصورا على الاسم دون المعنى.
ب. والثاني: أنه علمه الأسماء ومعانيها، إذ لا فائدة في علم الأسماء بلا معاني، فتكون المعاني هي المقصودة، والأسماء دلائل عليها.
2. إذا قيل بالوجه الأول، أن التعليم إنما كان مقصورا على ألفاظ الأسماء دون معانيها، ففيه وجهان:
أ. أحدهما: أنه علمه إياها باللغة، التي كان يتكلم بها.
ب. والثاني: أنه علمه بجميع اللغات، وعلمها آدم ولده، فلما تفرقوا تكلم كل قوم منهم بلسان استسهلوه منها وألفوه، ثم نسوا غيره فتطاول الزمن، وزعم قوم أنهم أصبحوا وكل منهم يتكلمون بلغة قد نسوا غيرها في ليلة واحدة، ومثل هذا في العرف ممتنع.
3. في الأسماء التي علّمها الله تعالى آدم، ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أسماء الملائكة.
ب. الثاني: أسماء ذريته.
ج. الثالث: أسماء جميع الأشياء، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، ومجاهد.
4. قوله عزّ وجلّ: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ وفيما عرضه عليهم قولان:
أ. أحدهما: أنه عرض عليهم الأسماء دون المسميات.
ب. والثاني: أنه عرض عليهم المسمّين بها.
5. في زمان عرضهم قولان:
أ. أحدهما: أنه عرضهم بعد أن خلقهم.
ب. والثاني: أنه صورهم لقلوب الملائكة، ثم عرضهم قبل خلقهم.
6. ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ معنى أنبئوني خبروني مأخوذ من الإنباء، وفي الإنباء قولان:
أ. أظهرهما: أنه الإخبار، والنبأ الخبر، والنبي بالهمز مشتق من هذا.
ب. والثاني: أن الإنباء الإعلام، وإنما يستعمل في الإخبار مجازا.
7. قوله: ﴿بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ يعني الأسماء الّتي علمها آدم.
8. في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ستة أقاويل:
أ. أحدها: إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه؛ لأنه هجس في نفوسهم أنهم أعلم من غيرهم.
ب. الثاني: إن كنتم صادقين فيما زعمتم أن خلفائي يفسدون في الأرض.
ج. الثالث: إن كنتم صادقين أني إن استخلفتكم فيها سبّحتموني وقدّستموني، فإن استخلفت غيركم فيها عصاني.
د. الرابع: إن كنتم صادقين فيما وقع في نفوسكم، أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أفضل منه.
هـ. الخامس: معنى قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي عالمين.
و. السادس: أن معناه إن كنتم صادقين.
9. قوله عزّ وجل: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ العليم: هو العالم من غير تعليم.
10. في (الحكيم) ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه المحكم لأفعاله.
ب. الثاني: أنه المانع من الفساد، ومنه سميت حكمة اللجام، لأنها تمنع الفرس من الجري الشديد، وقال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم... إنّي أخاف عليكم أن أغضبا
أي امنعوهم.
ج. الثالث: أنه المصيب للحقّ، ومنه سمي القاضي حاكما، لأنه يصيب الحق في قضائه، وهذا قول أبي العباس المبرد.
11. في تسميته بآدم قولان:
أ. أحدهما: أنه سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وأديمها هو وجهها الظاهر، وهذا قول ابن عباس، وقد روى أبو موسى الأشعري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ الله تعالى خلق آدم من قبضة، قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر، والأسود، والأبيض، والسهل، والخبيث، والطّيّب)
ب. الثاني: أنه مأخوذ من الأدمة، وهي اللون.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/100.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ معناه أنه علمه معاني الأسماء، من قبل أن الأسماء بلا معان لا فائدة فيها، ولا وجه لإيثاره الفضيلة بها، وقد نبه الله الملائكة على ما فيه من لطيف الحكمة، فأقروا عندما سئلوا عن ذكرها والاخبار عنها أنهم لا علم لهم بها.
2. في هذه الآية دليل على شرف العلم من حيث أن الله تعالى لما أراد تشريف آدم اختصه بعلم أبانه به من غيره، وجعل له الفضيلة فيه.
3. في كيفية تعليم الله آدم الأسماء، قال البلخي: ويجوز ان يكون أخبره بذلك فوعاه في وقت قصير بما أعطاه الله من الفهم والحفظ أو بأن دله ومكنه، ورسم به رسماً فابتدع هو لكل شيء اسما يشاكله، ولا بد ان يكون اعلامه له بلغة قد تقدمت المواضعة عليها حتى يفهم بالخطاب المراد به.. وقال: المواضعة لا بد ان تستند الى سمع عند قوم، وعند أبي هاشم وأصحابه لا يصح ذلك.
4. قوله تعالى: ﴿يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ :
أ. ظاهر العموم يقتضي أنه علمه الأسماء، وبه قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة.
ب. أكثر المتأخرين: كالبلخي والجبائي وابن الإخشيد والرماني وقال الطبري بما يحكى عن الربيع وابن زيد: انهما قالا: علمه الله اسماء ذريته واسماء الملائكة وقال هو الاختيار دون قول ابن عباس، وقال: إن قولهم: عرضهم) إنما يكون لمن يعقل في الأظهر من كلام العرب وهذا غلط لما بيناه من التغليب وحسنه، كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ وهذا يبطل ما قاله، ويبقى اللفظ على عموم.
5. ظاهر الآية وعمومها يدل على انه علمه جميع اللغات، وبه قال الجبائي والرماني فأخذ عنه ولده اللغات فلما تفرقوا، تكلم كل قوم منهم بلسان ألفوه واعتادوه وتطاول الزمان على ما خالف ذلك فنسوه ويجوز أن يكونوا عالمين بجميع تلك اللغات الى زمن نوح فلما أهلك جميع الخلائق إلا نوحاً ومن معه، كانوا هم العارفين بتلك اللغات فلما كثروا وتفرقوا اختار كل قوم منهم لغة تكلموا بها، وتركوا ما سواها، وانقرض ونسوه، والخبر الذي يروي أن الناس امسوا ولغتهم واحدة ثم أصبحوا وقد تغيرت ألسنتهم وكان لا يعرف كل فريق منهم إلا كلام من كان على لغتهم ـ خبر ضعيف وأيضاً فلا يجوز أن ينسى العاقل ما كان في امسه من جلائل الأمور مع سلامة عقله، قالوا: واللغات جميعاً إنما سمعت من آدم، وعنه أخذت وقال ابن الإخشيد: إن الله فتق لسان إسماعيل بالعربية ولذلك صار أصلا للعرب من ولده، لأنه تكلم بها على خلاف النشوء والعادة، بل على أنه ابتدأه بها وألهمه إياها.
6. يقال عرض عرضاً، قال صاحب العين: عرض علينا فلان المتاع يعرض عرضاً للشراء أو الهبة، وقال الزجاج: العرض أصله في اللغة: الناحية من نواحي الشيء فمن ذلك العرض خلاف الطول، وعِرض الرجل، قال بعضهم: ما يمدح به أو يذم، وقيل عِرضه: خليقته المحمودة، وقيل عِرضه: حسبه، وقال الرماني: هي ناحيته التي يصونها عن المكروه، وحقيقة العرض: الاظهار للشيء ليتصفح.
7. الانباء والاعلام والاخبار واحد، قال صاحب العين: النبأ ـ مهموز ـ هو الخبر المنبئ والمخبر ولفلان نبأ أي خبر، ويقال: نبأته وأنبأته واستنبأته والجمع الانباء، والنبوة إذا أخذت من الانباء فهي مهموزة لكن روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال لا تنبز باسمي، لرجل قال له: يا نبيء الله.. والنبيء ـ بالهمز ـ: الطريق الواضح، يأخذ بك الى حيث تريد، والنبأة: صوت الكلاب تنبأ به نبأ، وحقيقة الانباء: الاظهار للخبر، قال الشاعر:
أدان وانبأه الأولون... بأن المدان ملي وفي
8. الفرق بين الاخبار والاعلام أن الاعلام قد يكون بخلق العلم الضروري في القلب كما خلق الله من كمال العقل والعلم بالمشاهدات، وقد يكون بنصب الادلة للشيء، والاخبار هو إظهار الخبر، علم به أو لم يعلم، ولا يكون مخبراً بما يحدثه من العلم في القلب، كما يكون معلماً بذلك.
9. قوله: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ إنما لم يقل: ثم عرضها، إذ كانت الأسماء لا تعقل، لأنه أراد أصحاب الأسماء، وفيهم ما لا يعقل، كما تغلب المذكر إذا اجتمع مع المؤنث، لأنهم يقولون: إن أصحابك وإماءك جاءوني، وروي عن ابن عباس أنه قال عرض الخلق، وقال مجاهد: عرض أصحاب الأسماء.
10. في كيفية عرضهم قولان:
أ. أحدهما ـ انه عرضهم بعد أن خلقهم.
ب. الثاني ـ أنه عرضهم بأن صورهم لقلوب الملائكة.
11. اختلف في الذي عرض على الملائكة:
أ. قال قوم: عرضت الأسماء دون المسميات.
ب. وقال آخرون: عرضت المسميات بها، وهو الأقوى لقوله: ثم عرضهم) وفي قراءة ابن مسعود: ثم عرضهن، وفي قراءة أبي: عرضها.
ج. وقال قوم: إنه عرضهم بعد أن خلق المسميات، وأحضرها لقوله: اسماء هؤلاء، وذلك إشارة الى الحاضر.
د. وقال آخرون: إنه صورهم لقلوب الملائكة، ثم عرضهم قبل خلقهم.
هـ. وقيل: إن قوله اشارة الى الأسماء التي علمها آدم.
12. معنى ﴿أَنْبِئْهُمْ﴾ : خطاب لآدم، يعني اخبر الملائكة، لأن الهاء كناية عنهم وموضعهم النصب، ﴿بِأَسْمَائِهِمْ﴾ يعني بأسماء الذين عرضهم على الملائكة، والهاء والميم في اسمائهم كناية عن المرادين بقوله: ﴿بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾
13. سؤال وإشكال: ما معنى قوله: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ما الذي ادعي حتى قيل هذا؟ والجواب: قيل عن ذلك اجوبة كثيرة للعلماء:
أ. أحدها ـ ان الملائكة لما أخبرهم الله عز وجل أنه جاعل في الأرض خليفة هجس في نفوسها أنه لو كان الخليفة منهم بدلا من آدم وذريته، لم يكن فساد ولا سفك دماء، كما يكون من ولد آدم، وان ذلك أصلح لهم وان كان الله عز وجل لا يفعل إلا ما هو أصلح في التدبير، والأصوب في الحكمة، فقال الله تعالى: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فيما ظننتم في هذا المعنى ليدلهم على أنهم إذا لم يعلموا باطن ما شاهدوا، كانوا من أن يعلموا باطن ما غاب عنهم أبعد.
ب. الثاني ـ أنه وقع في نفوسهم أنه لم يخلق الله خلقاً إلا كانوا أفضل منهم في سائر أبواب العلم، فقيل: إن كنتم صادقين في هذا الظن فأخبروا بهذه الأسماء.
ج. الثالث ـ قال ابن عباس: إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة فـ ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ لأن كل واحد من الأمرين من علم الغيب، فكما لا تعلمون ذا لا تعلمون الآخر.
د. الرابع ـ ما ذكره الأخفش والجبائي وابن الأخشيد: إن كنتم صادقين فيما تخبرون به من اسمائهم، كقول القائل للرجل: أخبرني بما في يدي إن كنت صادقاً أي إن كنت تعلم فأخبر به، لأنه لا يمكن أن يصدق في مثل ذلك إلا إذا أخبر عن علم منه، ولا يصح أن يكلف ذلك إلا مع العلم به، ولا بد إذا استدعوا الى الاخبار عما لا يعلمون من أن يشرط بهذا الشرط، ووجه ذلك التنبيه كما يقول العالم للمتعلم: ما تقول في كذا، ويعلم أنه لا يحسن الجواب لينبهه عليه، وبحثه على طلبه، والبحث عنه، فلو قال له: اخبر بذلك إن كنت تعلم، أو قال له: ان كنت صادقاً، لكان حسناً، فإذا نبهه على أنه لا يمكنه الجواب أجابه، حينئذ فيكون جوابه بهذا التدريج أثبت في قلبه، وأوقع في نفسه.
14. قوله: ﴿أَنْبِئُونِي﴾ :
أ. قال قوم: هو امر مشروط، كأنه قيل: إن أمكنكم أن تخبروا بالصدق فيه، فافعلوا.
ب. وقيل: إن لفظه لفظ الامر ومعناه التنبيه على ما بيناه في سؤال العالم للمتعلم ولا يجوز أن يكون ذلك تكليفاً، لأنه لو كان تكليفاً، لم يكن تنبيهاً لهم على أن آدم يعرف من اسماء هذه الأشياء بتعريف الله إياه ذلك ما لا يعرفون، فلما أراد تعريفهم ما خص به آدم، من ذلك علمنا أنه ليس بتكليف.
15. معنى قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ شرط، كأنه قيل: إن كنتم صادقين في الاخبار بذلك وليس (إن) بمعنى (إذ) على ما حكاه الكسائي عن بعض المفسرين، لأنها لو كانت كذلك، لكانت (ان) ـ بفتح الهمزة ـ وتقديره: ان كنتم محققين ايمانكم، فافعلوا كذا وكذا، لأن (إذ) إذا تقدمها فعل مستقبل صارت علة للفعل وسبباً له، كقولك: إذ قمت أي من أجل ان قمت، فلو كانت إن في الآية بمعنى إذ، كان التقدير: انبئوني بأسماء هؤلاء من أجل انكم صادقين وإذا وضعت إن مكان ذلك، وجب أن تفتح الالف وذلك خلاف ما عليه القراء.
16. الانباء، قال قوم: أصله الاعلام، كقولهم: انبأت عمراً زيداً أخاك بمعنى أعلمت ولا يصلح ها هنا أخبرت إلا أنه يتناول انبئوني ها هنا بمعنى اخبروني على وجه المجاز والتوسع لتقارب المعنى في الاخبار والانباء، لأن الله تعالى عالم بالأشياء فيما لم يزل، فلا يجوز أن يقول: علموني لما هو عالم به ومن قال أصله الاخبار، تعلق بظاهر القرآن.
17. سؤال وإشكال: ما الفائدة في انباء آدم عليه السلام الملائكة بذلك دون إعلامه إياهم بذلك؟ والجواب: أراد الله بذلك تكرمة آدم عليه السلام وتشريفه، وإجلال المنة عليه، وتعظيم النعمة لديه وجميع قصة آدم تؤذن بذلك.
18. هذه الآية فيها اخبار من الله تعالى عن ملائكته بالرجوع اليه، والأوبة، والتسليم انهم لا يعلمون إلا ما علمهم الله.
19. قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ نصب على المصدر ومعناه نسبحك وسبحانك مصدر لا ينصرف، ومعنى التسبيح التنزيه ومعناه ها هنا تبرياً منهم أن يعلموا الغيب واقراراً أنه المختص به تعالى دون غيره.
20. معنى قول الملائكة ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ قول ابن عباس قال: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تنزيهاً لله من أن يكون احد يعلم الغيب سواه.
ب. الثاني ـ انهم أرادوا أن يخرجوا مخرج التعظيم لله، فكأنهم قالوا: تنزيهاً لك عن القبائح، فعلى هذا الوجه يحسن ـ وإن لم يعلقه بعلم الغيب كما علق في الأول ـ
21. في الناس من استدلّ بهذه الآية على بطلان الأحكام في النجوم، وهذا يمكن ان يكون دلالة على من يقول: إنها موجبات لا دلالات، فأما من يقول: إنها دلالات على الأحكام نصبها الله، فإنه يقول: نحن ما علمنا إلا ما علمنا الله، إنه الذي جعل النجوم أدلة لنا، كما أن ما علمناه استدلال غير ضرورة مضاف إليه ايضاً من حيث نصب الدلالة عليه.
22. استدلّ جماعة من المفسرين بهذه الآية، والآيتين قبلها على صدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجعلوها من جملة معجزاته إذ كان إخبارا بما لا تعلمه العرب ولا يوصل إليه إلا بقراءة الكتب والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يعرف بشيء من ذلك مع العلم بمنشئه ومبتدإ أمره ومنتهاه، وهذا يمكن أن يذكر على وجه التأكيد والتقوية، لآياته ومعجزاته من غير ان يكون لو انفرد لكفى في باب الدلالة، لأن لقائل أن يقول: إنه قرأ الكتب سراً، وأخذ عمّن قرأها خفياً فلا طريق للقطع على ذلك، وإنما تغلب في الظن.
23. سؤال وإشكال: ما الفائدة في الجواب بقولهم: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾؟ والجواب: لو اقتصروا على قولهم: ﴿لَا عِلْمَ﴾، لكان كافيا، لكن أرادوا أن يضيفوا إلى ذلك التعظيم والاعتراف بأن جميع ما يعلمونه من تعليمه، وان هذا ليس من جملة ذلك، واختصار ذلك أدل على الشكر لنعمه.
24. سؤال وإشكال: ما معنى ﴿غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ والله لا يغيب عنه شيء والجواب: في معناه: إنه يعلم ما غاب عنهم فلم يشاهدوه كما يعلم ما حضرهم فشاهدوه.
25. في اشتقاق آدم قولان:
أ. أحدهما ـ انه مأخوذ من أديم الأرض، قال: فإذا سميت به في هذا الوجه ثم نكرته، صرفته.
ب. الثاني ـ انه مأخوذ من الادمة على معنى اللون والصفة، فإذا سميت به في هذا الوجه، ثم نكرته، لم تصرفه.
26. الأدمة والسمرة، والدكنة والورقة متقاربة المعنى في اللغة، وقال صاحب العين الأدمة في الناس: شربة من سواد، وفي الإبل والظباء: بياض، وادمة الأرض: وجهها، والمؤدم من الجلد خلاف المبشر وأدما أنثى، وآدم ذكر وهي الأدم في الجماعة، وآدم أبو البشر، والأدم: ما يؤتدم به وهو الإدام.. والأدم: جماعه الأديم، وأديم كل شيء: وجهه.
27. قوله: ﴿الْعَلِيمُ﴾ معنى عليم أنه عالم وفيه مبالغة ومن صفات ذاته وإذا كانت كذلك، أفادت انه عالم بجميع المعلومات ويوصف به فيما لم يزل، لأن ذلك واجب في العالم نفسه.
28. قوله: الحكيم) يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ انه عالم، لأن العالم بالشيء يسمى بأنه حكيم فعلى هذا يكون من صفات الذات مثل العالم وقد بيناه.
ب. والثاني ـ ان يكون من صفات الافعال ومعنى ذلك أن أفعاله محكمة متقنة وصواب ليس فيها وجه من وجوه القبح ولا التفاوت ولا يوصف بذلك فيما لم يزل.
29. روي عن ابن عباس انه قال العليم الذي كمل علمه، والحكيم: الذي كمل في حكمته.
30. قد قيل في معنى حكيم: انه المانع من الفساد، ومنه سميت حكمة اللجام لأنها تمنع الفرس من الجري الشديد قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم... إني أخاف عليكم ان اغضبا
أي امنعوهم، والأحكام والاتفاق والاتساق والانتظام متقاربة.
31. الحكمة: نقبض السفه يقال: حكم حكما واحكم إحكاما، ويقال: أحكم فلان عمله إذا بالغ فيه فأصاب حقيقته والحكمة هي التي تقف بك على مرّ الحق الذي لا يخلطه باطل، والصدق الذي لا يشوبه كذب ومنه قوله: ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ﴾ والحكم بين الناس هو الذي يرضى به ليقف الأشياء مواضعها ومنه قوله: ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ والحاكم القاضي بين الناس، وليقفهم على الحق ويقال: رجل حكيم إذا كان ذلك شانه وكانت معه اصول من العلم والمعرفة.
32. إذا حكم بين الرجلين يقال: حكم يحكم وإذا صار حكيماً قيل: حكم يحكم وامر مستحكم إذا لم يكن فيه مطعن، وفي الحديث في رأس كل عبد حكمة إذا همّ بسيئة وشاء الله ان يقدعه بها قدعة يعني منعه والحكم في الإنسان هي العلم الذي يمنع صاحبه من الجهل
33. قيل في معنى (عليم) أمران:
أ. أحدهما ـ انه عليم بغير تعليم بدلالة انهم اثبتوا لله ما نفوه عن أنفسهم بقولهم: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ أي نحن معَّلمون وانت العليم غير المعَّلم.
ب. والثاني ـ انه العليم الحكيم.
34. كلاهما حسن، والأول احسن، لأنه اكثر فائدة، واولى في تقابل البلاغة وقد تضمنت الآية الدلالة عليه انه لا علم له الا ما علمه الله، اما بالضرورة وإما بالدلالة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/139.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الأدمة في الناس شربة بسواد، وفي الظباء والإبل بياض، والأدمة نحو السمرة، وأدمة الأرض وجهها، وآدم أبو البشر، وفي اشتقاق اسم آدم قولان: قيل: مأخوذ من أديم الأرض، فإذا سميت به في هذا الوجه ثم نكَّرته صرفته، وقيل: أخذ من الأَدْمَةِ على معنى اللون والصفة، فإذا سميت به ثم نكرته في هذا الوجه لم تصرفه.
ب. الأسماء: جمع اسم، ومنه: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ .
ج. كل: حقيقته: الإحاطة بالأبعاض يقال: أبعض القوم أتاك أم كلهم، وقد يكون تأكيدًا نحو أجمعين، إلا أنه يبدأ في الذكر ب (كل) كقوله: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾ .
د. العرض: من قولك: عرضت الشيء عليه، وعرضت الجنة، قال الزجاج: العرض أصله في اللغة الناحية من نواحي الشيء، فمن ذلك العرض خلاف الطول سمي به بعض نواحي الثوب، فصلاً بينه وبين الطول، ويقال: عرضت المتاع على البيع عرضًا، أي أظهرته حتى عرفت جهته، وكلما أمررته على بصرك قلت فيه عرضته؛ لأنك ترى نواحيه، ومنه: أعرضت عنه؛ أي: تنحيت، وعِرْض الرجل قيل: هو ما يمدح به أو يذم، وقيل: خليقته المحمودة، وقيل: حسبه، قال علي بن عيسى: والذي عندي أنه ناحية الرجل التي يصونها عن المكروه والشَّيْن، وقيل: أصل العرض الظهور، فالعرض خلاف الطول لأن به يظهر، وعرضته على البيع أي أظهرته، والعرض ما يعرض في الأجسام ويغير صفته.
هـ. الإنباء الإخبار والإعلام، والنبأ بالهمز الخبر، وأنبأه أخبره، وإن لفلان نبأ أي خبرا، وقيل: النبأ لا يستعمل إلا في شيء عظيم شأنه، والصدق نقيض الكذب.
و. الحكمة: نقيض السفه، والإحكام: الإتقان، يقال: أحكم عمله إذا بالغ فيه فأصاب حقيقته، وأمر محكم: لا خلل فيه، ورجل حكيم، وأصله المنع من الفساد، ويوصف اللَّه تعالى بأنه حكيم لوجهين: بمعنى عليم، فيكون صفة لذاته، وبمعنى مُحْكِم لأفعاله فيكون في صفات الفعل.
ز. الإبداء والإظهار والإعلان نظائر، يقال: قد أظهر، ونقيضه الكتمان، وبدا له من الأمر أي ظهر ما لم يكن ظاهرًا، ومنه اشتق البداء، وذلك لا يجوز على اللَّه تعالى؛ لأنه عالم بالأشياء لنفسه.
ح. الكتمان والإسرار نظائر، ونقيض الكتمان الإعلان، وحقيقة الكتمان إخفاء الشيء في النفس.
2. بَيَّنَ اللَّه تعالى فضل آدم بما علمه، وأبان ذلك لملائكته فقال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ يعني معاني الأسماء؛ إذ الأسماء من غير معان لا تفيد، عن قتادة وغيره.
3. اختلف في هذه الأسماء هل هي على العموم أم لا:
أ. قيل: نعم، علمه الصناعات والآلات وعمارة الأرض والأطعمة والأدوية واستخراج المعادن وغرس الأشجار وأسماء الثمار ومنافعها وجميع ما يتعلق بعمارة الدين والدنيا، عن ابن عباس ومجاهد وأكثر المفسرين، وهو أوجه؛ لعموم الأسماء، وليس عليه أكثر أهل العلم.
ب. وقيل: علمه أسماء الملائكة، عن الربيع.
ج. وقيل: أسماء ذريته، عن ابن زيد.
4. اختلف هل تدخل فيه اللغات:
أ. قيل: نعم، عن أبي علي، فإنه تعالى علمه جميع اللغات فأخذ منه ولده، فلما تفرقوا تكلم كل قوم بلسان ألفوه، وتطاول الزمان على مَنْ خالف ذلك فَنَسُوهُ، فاللغات كلها أخذت من آدم، والصناعات ومنافع الأشياء ومضارها.
ب. وقيل: علَّمه سائر اللغات إلا اللغة التي خوطب بها فإنها بمواضَعَةٍ.
5. اختلف كيف علَّمه الأسماء:
أ. قيل: بأن اضطره إلى العلم بها.
ب. وقيل: علمه لغة الملائكة، ثم إن اللَّه علمه بتلك اللغة سائر اللغات.
6. سؤال وإشكال: كيف علَّمه أسماء الأشخاص؟ والجواب: بأن أحضر ذلك الشيء وعلَّمه اسمه بكل لغة، وأنه لأي شيء يصلح، وأي نفع، وأي ضرر، وكذلك فعل آدم حتى علَّم الملائكة.
7. اختلف كيف علمت الملائكة أنه كما قال:
أ. قيل: كانت تعرف بعض ذلك؛ لأن تكليفها كان متقدمًا.
ب. وقيل: كانت تلك اللغات ومعرفة المصالح متفرقة في الملائكة، كل فريق يتكلم بلغة، ويعلم بعض تلك الحرف، فلما أخبرهم بجميعها علموا صدقه.
ج. وقيل: كانت تعلم جميع ذلك بأن أخبرهم اللَّه تعالى قبل خلق آدم.
د. وقيل: بالمعجزة، وعلموا صدقه في ذلك.
8. سؤال وإشكال: هل كان ذلك معجزًا لآدم؟ والجواب: نعم لأنه خارج عن العادة، فإنه تعالى كما خلقه أكمل عقله وبعثه نبيًّا، وجعل معجزته ذلك.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ :
أ. قيل: عرضهم بعد أن خلقهم.
ب. وقيل: صورهم لقلوب الملائكة ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ أي أخبروني بأسماء هذه المسميات، وما يصلح كل شيء له.
10. اختلف ما الذي كَتَمَت حتى قيل لهم هذا:
أ. قيل: أنه تعالى لما أخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة هجس في نفوسهم أنه لو كان الخليفة منهم بدلاً من آدم وذريته لم يكن الفساد وأن ذلك أصلح لهم، وإن كان اللَّه تعالى لا يفعل إلا الأصلح، فقال تعالى: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فيما ظننتم من هذا المعنى؛ ليدلهم على أنهم إذا لم يعلموا بواطن ما شاهدوه كانوا عن باطن ما غاب عنهم أبعد.
ب. وقيل: أنه وقع في نفوسهم لن يخلق اللَّه خلقًا إلا كانوا أفضل منه في سائر أبواب العلم، فقيل: إن كنتم صادقين في هذا الظن فأخبروا بهذه الأسماء، عن الحسن وقتادة.
ج. وقيل: إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة، يُبَيِّنُهَا أن كل واحد من الأمرين من علم الغيب، فكما لا تعلمون ذلك كذلك هذا، عن ابن عباس.
د. وقيل: إن كنتم صادقين فيما تخبرون به من أسمائهم كقولك: أخبرني بما في يدي إن كنت صادقًا، عن أبي علي والأخفش.
11. اختلف في ﴿أَنْبِئُونِي﴾ أمر على الحقيقة أم لا:
أ. قيل: أمر مشروط.
ب. وقيل: معناه التنبيه، كل عالم يقول للمتعلم أخبرني بهذا، وهو يعلم أنه جاهل به لتنبيهه عليه ولشوقه إلى البحث وطلب العلم به، وليس بأمر ولا تكليف، وإنما هو تَحَدٍّ وتعجيز، عن أبي علي.
12. قال بعضهم: ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ معناها إذ كنتم، وهذا لا يصح؛ لأنه لو كان كذلك لكانت ﴿إِنَّ﴾ منصوبة الألف، إنما معناها: إن كنتم محقّين صادقين فأخبروا، قاله الكسائي وجماعة من النحويين.
13. ثم بَيَّنَ تعالى جواب الملائكة فقال: ﴿قَالُوا﴾ أي الملائكة ﴿سُبْحَانَكَ﴾ :
أ. قيل: تنزيهًا لك من أن يعلم الغيب سواك، عن ابن عباس.
ب. وقيل: أرادوا أن يخرجوا الجواب بمخرج التعظيم، فقالوا: تنزيهًا لك عن كل ما يقبح فعله، وإن كنا لا نعلم وجه الحكمة في أفعالك، عن أبي علي.
14. ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ يعني لا علم لنا بما سألنا عنه من هذه الأسماء؛ إذ لم يكن فيها علمهم، فجاء على الاختصار كأنه قال: لا علم لنا إلا ما علمتنا، وليس هذا مما علمتنا، ولو قيل: لا علم لنا بهذا لكان جوابًا صحيحًا غير أن في هذا الذي أجابوا تعظيمًا لله تعالى، واعترافًا بأن علمهم من جهته وشكرًا له، وقيامًا بحقه.
15. اختلف في قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ :
أ. قيل: أنت العليم من غير تعليم؛ لأنهم أثبتوا له ما نفوه عن أنفسهم بقوله: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ أي نحن المعَلَّمون وأنت العليم من غير تعليم ومعلم.
ب. وقيل: أرادوا تعظيمه بأنه عليم ﴿الْحَكِيمُ ﴾ قيل: الذي يحكم أفعاله، فلا يدخلها فساد ولا خلل.
16. أشكل على الملائكة أمر حالها فيما عرض عليهم من الأسماء، وجملة إشكالهم لا يخلو من وجوه:
أ. أولها: إما أن يرجع الإشكال إلى التمكين والتخلية، فتقول: ما وجه الحكمة في خلق من يفسد وتمكينه من الفساد؟ فأجابهم اللَّه تعالى بأن المصالح تتعلق بالتمكين والتخلية، فإذا أمكن المكلف فاختار الفساد رجع الذم إلى سوء اختيارهم لا إلى التمكين.
ب. وثانيها: أن يكون إشكالهم في اختيار الإنس عليهم بإسكان الأرض مع فضلهم في العلم والعمل، فأجاب بأن المصالح تنقسم إلى علوم الدين وعلوم الدنيا، والإنس يجمعون بين العِلْمَيْن، وعلم آدم ذلك ليعلموا أن هاهنا مصالح لا يصلح لها إلا الإنس، وأنهم أصلح لتدبير الأرض، وأن الملائكة لا يصلحون لتدبير الأرض وعمارتها كما يصلحون للعبادة.
ج. وثالثها: أن يكون قولهم على وجه العيب لمن يخلقه تعالى ممن يفسد لكيلا يسكنوا الأرض ويسكنوا بدلهم فأجاب تعالى بأن الاعتبار بالمصالح في فعله تعالى دون ما يختار المفسد؛ لأنه يزجرهم عن القبيح بما ركب في عقولهم، وبما يبعث اللَّه إليهم من الرسل، وينزل من الكتب.
د. ورابعها: أن يكونوا أرادوا بيان فضلهم في معرفتهم بالتوحيد بأن فيهم من يوحد اللَّه تعالى ويسبحه، ويزيدون عليهم في العلم بمصالح الدنيا، ومن يختار الكفر فإنما أُتي من قبل نفسه.
هـ. وخامسها: أن يكون إشكالهم أنه هل يميزهم أم لا؟ فأجاب أنه يميزهم في الدنيا بالأسماء والأحكام، وفي الآخرة بالثواب والعقاب، ثم عرض الأسماء ليعلموا ذلك.
17. سؤال وإشكال: إذا جاز أن يقال: علّم فهل يجوز أن يقال: معلم؟ والجواب: لا، وإن كان المعنى صحيحًا؛ لأنه في العرف اسم لبعض الحرف.
18. تدل الآية الكريمة على:
أ. تفضيل آدم عليه السلام وما خصه اللَّه تعالى به من العلم، وتدل على كونه نبيًّا؛ لأن ذلك يتضمن نقض عادة الملائكة، فإذا ثبت ذلك فلا بد أن يكون مبعوثًا إلى أمة فيجوز أن يكون مبعوثًا إلى ذريته، ويجوز أن يكون مبعوثًا إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة، وإن كانوا رسل اللَّه؛ إذ لا يتنافى كون واحد مرسلاً إليه ورسولاً كما في الأنبياء.
ب. على اعتراف منهم بالعجز لأنفسهم وبالعظمة له تعالى، وتدل على أن العلوم كلها من جهته تعالى، وإنما كان كذلك؛ لأنه إما أن يكون ضروريًّا فهو فعله تعالى، أو استدلاليًّا فهو الذي يقيم الأدلة؛ لأنه لولا الضروريات لما استقام الاستدلال، ولولا كونه حكيمًا لما صح نصبُ الأدلة فلذلك قالوا: أنت العليم الحكيم؛ ولهذا قلنا: إن الْمُجْبِرَة لما أضافت القبائح إلى اللَّه تعالى لا يمكنهم معرفة الأدلة.
ج. أن الملائكة سألت وجه الحكمة ليقتدي بهم في السؤال؛ إذ السكوت عن الشبهة معصية، والسؤال عنها طاعة، وحل الشبهة واجب.
د. عظيم موقع العلم وموقع النعمة به، فإن الملائكة لما رأوا علم آدم تذللوا له وعظموه، وتدل على أن ذلك كان مصلحة للملائكة أيضا لولا ذلك لما بين لهم.
هـ. يدل قوله: ﴿أَنْبَأَهُمْ﴾ أنه تعالى بين لهم على وجه أزال شبههم، فلما رأوا فضله واتضح لهم خضعوا له.
و. أن له معجزة عظيمة، فإنه لما فتق لسانه علمه جميع اللغات ومصالح الدين والدنيا، وقيل: إنه تعالى افتتح الإعجاز بالكلام في آدم، وختم به بإنزال القرآن على محمد.
19. مسائل نحوية:
أ. اختلف في الضمير في قوله: ﴿عَرَضَهُمْ﴾ إلى ماذا يرجع:
• قيل إلى الأشخاص وهم الجن والإنس وغيرهما، فَغَلَّبَهُمْ على غيرهم، وروي أنه خلق الأشخاص وعرضهم عليه، قال ابن عباس: عرض الخلق.
• وقيل: فيه إضمار أراد أصحاب الأسماء، وفيه مَا لاَ يعقل، فجرى على التغليب، عن مجاهد.
• وقيل: عرض الأسماء، وهذا لا يصح؛ لأن عرض نفس الأسماء لا يمكن، ولأنه لا يقال: عرضهم في السماء.
ب. ﴿سُبْحَانَكَ﴾ : نصب على المصدر، أي نسبح سبحانك، عن الخليل، وقيل: على النداء أي يا سبحانك، والكاف في قوله: ﴿إِنَّكَ﴾ محله نصب؛ لأنه اسم ﴿إِنَّ﴾ وخبره: ﴿أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾
ج. الألف في قوله: ﴿أَلَمْ أَقُلْ﴾ ألف تنبيه، كقولك: أما ترى النوم ما أطيبه. لمن يعلم ذلك فهي ألف تنبيه أصلها الاستفهام، وقيل: إنه ألف توبيخ، وليس بوجه؛ لأنه تعالى لا يوبخ ملائكته، ولا أنبياءه، كما لا يذمهم ولا يعاقبهم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/318.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. في اشتقاق آدم قولان:
• أحدهما: إنه مأخوذ من أديم الأرض، فإذا سميت به في هذا الوجه ثم نكرته صرفته.
• الثاني: إنه مأخوذ من الأدمة على معنى اللون والصفة، فإذا سميت به في هذا الوجه، ثم نكرته لم تصرفه.. والأدمة والسمرة والدكنة والورقة متقاربة المعنى.
ب. آدم: أبو البشر عليه السلام قال صاحب العين: الأدمة في الناس: شربة من سواد، وهي السمرة.. وفي الإبل والظباء: بياض.
ج. كل: لفظة عموم على وجه الاستيعاب وحقيقته للإحاطة بالأبعاض، يقال: أبعض القوم جاءك أم كلهم.. ويكون تأكيدا مثل (أجمعون) إلا أنه يبدأ في الذكر بكل، كقوله تعالى ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ لأن كلا قد يلي العوامل، وأجمعون: لا يكون إلا تابعا.
د. العرض: من قولهم عرضت الشيء عليه، وعرضت الجند، قال الزجاج: أصله في اللغة الناحية من نواحي الشيء، فمن ذلك العرض خلاف الطول.. وعرض الرجل: ما يمدح به أو يذم.. ويقال: عرضه خليقته المحمودة.. ويقال: عرضه حسبه.. وقال علي بن عيسى: هو ناحيته التي يصونها عن المكروه والسب، والعرض ما يعرض في الجسم ويغير صفته، ويقال: عرضت المتاع على البيع عرضا أي: أظهرته حتى عرفت جهته.
هـ. الإنباء، والإعلام، والإخبار واحد.. والنبأ: الخبر.. ويقال منه: أنبأته ونبأته و ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ أي: أخبروني بها.. أما المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل نحو: أنبأت زيدا عمرا خير الناس، وكذلك نبأت فهو هذا في الأصل، إلا أنه حمل على المعنى، فعدي إلى ثلاثة مفاعيل، لأن الإنباء بمعنى الإعلام.. ودخول هذا المعنى فيه، وحصول مشابهته للإعلام، لم يخرجه عن الأصل الذي هو له من الإخبار، وعن أن يتعدى إلى مفعولين أحدهما بالباء، أو بعن، نحو ﴿ نبئهم عن ضيف إبراهيم ﴾ والنبوة إذا أخذت من الأنباء فهي مهموزة، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لا تنبئن باسمي لرجل قال له: يا نبئ الله مهموزا.. والنبي بغير همز: الطريق الواضح يأخذ بك إلى حيث تريد.. والفرق بين الإعلام والإخبار: إن الإعلام قد يكون بخلق العلم الضروري في القلب كما خلق الله من كمال العقل والعلم بالمشاهدات، وقد يكون بنصب الأدلة على الشيء.. والإخبار: هو إظهار الخبر، علم به أو لم يعلم، ولا يكون مخبرا بما يحدثه من العلم في القلب كما يكون معلما بذلك.
و. الحكمة: نقيض السفه.. والإحكام: الإتقان.
ز. الحكيم: المانع من الفساد، ومنه حكمة اللجام لأنها تمنع الفرس من الجري الشديد، قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم... إني أخاف عليكم أن أغضبا
أي: امنعوهم.. والحكمة: هي التي تقف بك على مر الحق الذي لا يخلطه باطل، والصدق الذي لا يشوبه كذب، ومنه قوله: حكمة بالغة، ورجل حكيم، إذا كان ذلك شأنه، وكانت معه أصول من العلم والمعرفة، ويقال: حكم يحكم في الحكم بين الناس، وحكم يحكم: إذا صار حكيما.. والحكمة في الانسان: هي العلم الذي يمنع صاحبه من الجهل.
ح. الإبداء، والإظهار، والإعلان، بمعنى واحد.. وضد الإبداء الكتمان، وضد الإظهار الابطان، وضد الإعلان الإسرار.. ويقال بدا يبدو بدوا من الظهور، وبدأ يبدأ بدءا بالهمزة بمعنى استأنف.. وقال علي بن عيسى الرماني: حد الظهور الحصول على حقيقة، يمكن أن تعلم بسهولة.. والله سبحانه ظاهر بأدلته، باطن عن إحساس خلقه.. وكل استدلال فإنما هو ليظهر شيء بظهور غيره.
2. ثم أبان، سبحانه وتعالى: لملائكته فضل آدم عليهم، وعلى جميع خلقه، بما خصه به من العلم، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ أي: علمه معاني الأسماء، إذ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها، ولا وجه لإشارة الفضيلة بها.
3. اختلف في معنى ﴿يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ :
أ. قيل: نبه الله تعالى الملائكة على ما فيها من لطيف الحكمة، فأقروا عندما سئلوا عن ذكرها، والإخبار عنها أنه لا علم لهم بها، فقال الله تعالى: ﴿يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ عن قتادة.
ب. وقيل: إنه سبحانه علمه جميع الأسماء، والصناعات وعمارة الأرضين، والأطعمة والأدوية واستخراج المعادن، وغرس الأشجار ومنافعها، وجميع ما يتعلق بعمارة الدين والدنيا، عن ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير، وعن أكثر المتأخرين.
ج. وقيل: إنه علمه أسماء الأشياء كلها، ما خلق وما لم يخلق، بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده بعده، عن أبي علي الجبائي، وعلي بن عيسى وغيرهما، قالوا: فأخذ عنه ولده اللغات، فلما تفرقوا تكلم كل قوم بلسان ألفوه واعتادوه، وتطاول الزمان على ما خالف ذلك، فنسوه:
• ويجوز أن يكونوا عالمين بجميع تلك اللغات إلى زمن نوح عليه السلام، فلما أهلك الله الناس إلا نوحا ومن تبعه، كانوا هم العارفين بتلك اللغات، فلما كثروا وتفرقوا اختار كل قوم منهم لغة تكلموا بها، وتركوا ما سواه ونسوه.
• وقد روي عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية، ثم نظر إلى بساط تحته، فقال: وهذا البساط مما علمه.
د. وقيل: إنه علمه أسماء الملائكة وأسماء ذريته، عن الربيع.
هـ. وقيل: إنه علمه ألقاب الأشياء ومعانيها وخواصها، وهو أن الفرس يصلح لماذا؟ والحمار يصلح لماذا؟ وهذا أبلغ، لأن معاني الأشياء وخواصها لا تتغير بتغير الأزمنة والأوقات.. وألقاب الأشياء تتغير على طول الأزمنة.
و. وقال بعضهم: إنه تعالى لم يعلمه اللغة العربية، فإن أول من تكلم بالعربية إسماعيل عليه السلام، وقالوا: إن الله جعل الكلام معجزة لثلاثة من الأنبياء: آدم وإسماعيل ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
4. اختلف في كيفية تعليم الله تعالى آدم الأسماء:
أ. قيل: علمه بان أودع قلبه معرفة الأسماء، وفتق لسانه بها، فكان يتكلم بتلك الأسماء كلها، وكان ذلك معجزة له لكونه ناقضا للعادة.
ب. وقيل: علمه إياها بأن اضطره إلى العلم بها.
ج. وقيل: علمه لغة الملائكة، ثم علمه بتلك اللغة سائر اللغات.
د. وقيل: إنما علمه أسماء الأشخاص بأن أحضر تلك الأشياء، وعلمه أسماءها في كل لغة، وأنه لأي شيء يصلح، وأي نفع فيه، وأي ضرر.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ :
أ. روي عن ابن عباس أنه قال: عرض الخلق.
ب. وعن مجاهد قال: عرض أصحاب الأسماء.. وعلى هذا فيكون معناه: ثم عرض المسميات على الملائكة، وفيهم من يعقل، وفيهم من لا يعقل، فقال: عرضهم غلب العقلاء، فأجرى على الجميع كناية من يعقل، كقوله: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ أجرى عليهم كناية من يعقل.. وفي قراءة أبي: (ثم عرضها) وفي قراءة ابن مسعود: (ثم عرضهن) وعلى هاتين القراءتين يصلح أن يكون عبارة عن الأسماء دون المسميات.
6. اختلف في كيفية العرض على الملائكة:
أ. قيل: إنما عرضها على الملائكة بأن خلق معاني الأسماء التي علمها آدم حتى شاهدتها الملائكة.
ب. وقيل: صور في قلوبهم هذه الأشياء فصارت كأنهم شاهدوها.
ج. وقيل: عرض عليهم من كل جنس واحد، وأراد بذلك تعجيزهم، فإن الانسان إذا قيل له: ما اسم شيء صفته كذا وكذا؟ فلم يعلم، كان أبلغ عذرا ممن عرض عليه شيء بعينه، واسأل عن اسمه فلم يعرفه، وبين بذلك أن آدم عليه السلام، أصلح لكدخدائية الأرض، وعمارتها، لاهتدائه إلى ما لا تهتدي الملائكة إليه من الصناعات المختلفة، وحرث الأرض وزراعتها، وانباط الماء، واستخراج الجواهر من المعادن وقعر البحار، بلطائف الحكمة.. وهذا يقوي قول من قال: إنه علمه خواص الأشياء وأراد به أنكم إذا عجزتم عن معرفة هذه الأشياء، مع مشاهدتكم لها، فأنتم عن معرفة الأمور المغيبة عنكم أعجز.
7. سؤال وإشكال: ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ : ما الذي ادعت الملائكة حتى خوطبوا بهذا؟ وكيف أمرهم الله سبحانه أن يخبروا بما لا يعلمون؟ والجواب: للعلماء فيه وجوه من الكلام:
أ. أحدها: إن الله تعالى لما أخبر الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة، هجس في نفوسها أنه إن كان الخليفة منهم بدلا من آدم وذريته، لم يكن في الأرض فساد، ولا سفك دم، كما يكون في ولد آدم، وإن كان الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح في التدبير، والأصوب في الحكمة، فقال الله تعالى ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فيما ظننتم من هذا المعنى، ليدلهم على أنهم إذا لم يعلموا باطن ما شاهدوا، فهم من أن يعلموا باطن ما غاب عنهم أبعد.
ب. ثانيها: إنه خطر ببالهم أنه لن يخلق الله خلقا إلا وهم أعلم منه وأفضل، في سائر أنواع العلم، فقيل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في هذا الظن، فأخبروا بهذه الأسماء.
ج. ثالثها: إن المراد إن كنتم صادقين في أنكم تعلمون، لم أجعل في الأرض خليفة، أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، لأن كل واحد من الأمرين من علم الغيب، فكما لم تعلموا أحدهما لا تعلمون الآخر عن ابن عباس.
د. رابعها: ما قاله الأخفش، والجبائي، وعلي بن عيسى، وهو: إن المراد إن كنتم صادقين فيما تخبرون به من أسمائهم، فأخبروا بها، وهذا كقول القائل لغيره أخبر بما في يدي إن كنت صادقا أي: إن كنت تعلم فأخبر به، لأنه لا يمكنه أن يصدق في مثل ذلك، إلا إذا أخبر عن علم منه، ولا يصح أن يكلف ذلك إلا مع العلم به، ولا بد إذا استدعوا إلى الإخبار عما لا يعلمون من أن يشترط هذا الشرط.. وعلى هذا فيكون لفظه الأمر، ومعناه التنبيه، أو يكون أمرا مشروطا كما يقول العالم للمتعلم: ما تقول في كذا؟ ويعلم أنه لا يحسن الجواب، لينبهه عليه، ويحثه على طلبه، والبحث عنه، ولو قال له: أخبر بذلك إن كنت تعلم، أو إن كنت صادقا، لكان حسنا.. فإذا تنبه على أنه يمكنه الجواب، أجابه حينئذ، فيكون جوابه بهذا التدريج أثبت في قلبه، وأوقع في نفسه، ولا يجوز أن يكون ذلك تكليفا، لأنه لو كان تكليفا لم يكن تبيينا لهم أن آدم يعرف أسماء هذه الأشياء بتعريف الله إياه، وتخصيصه من ذلك بما لا يعرفونه هم، فلما أراد تعريفهم ما خص به آدم من ذلك، علمنا أنه ليس بتكليف.
8. في هذه الآية دلالة على شرف العلم وأهله من حيث إن الله سبحانه لما أراد تشريف آدم عليه السلام اختصه بعلم أبانه به من غيره، وفضله به على من سواه.
9. ثم أخبر سبحانه عن الملائكة بالرجوع إليه، والتسليم لأمره، وقال ﴿قَالُوا﴾ أي: الملائكة ﴿سُبْحَانَكَ﴾ :
أ. قيل: أي: تنزيها لك، وتعظيما عن أن بعلم الغيب أحد سواك، عن ابن عباس.
ب. وقيل: تنزيها لك عن الاعتراض عليك في حكمك.
ج. وقيل: إنهم أرادوا أن يخرجوا الجواب مخرج التعظيم، فقالوا: تنزيها لك عن فعل كل قبيح، وإن كنا لا نعلم وجه الحكمة في أفعالك.
د. وقيل: إنه على وجه التعجب لسؤالهم عما لا يعلمونه.
10. لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ معناه: إنا لا نعلم إلا بتعليمك، وليس هذا فيما علمتنا.. ولو أنهم اقتصروا على قولهم: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا﴾ لكان كافيا في الجواب، لكن أرادوا ان يضيفوا إلى ذلك، التعظيم له، والاعتراف بإنعامه عليهم بالتعليم، وأن جميع ما يعلمونه إنما يعلمونه من جهته، وإن هذا ليس من جملة ذلك، وإنما سألهم سبحانه عما علم أنهم لا يعلمونه، ليقررهم على أنهم لا يملكون إلا ما علمهم الله، وليرفع به درجة آدم عندهم، بأنه علمه ما لم يعلموه.
11. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ﴾ أي: العالم بجميع المعلومات، لأنه من صفات ذاته، وهو مبالغة العالم.. وقيل: إنهم أثبتوا له ما نفوه عن أنفسهم أي: أنت العالم من غير تعليم، ونحن المعلمون.
12. قوله تعالى: ﴿الْحَكِيمُ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: إنه بمعنى العالم، لأن العالم بالشيء يسمى بأنه حكيم، فعلى هذا يكون من صفات الذات، مثل العالم، ويوصف بهما فيما لم يزل، لأن ذلك واجب في العالم لنفسه.
ب. الثاني: إن معناه المحكم لأفعاله، ويكون فعيلا بمعنى مفعل، وعلى هذا يكون من صفات الأفعال، ومعناه إن أفعاله كلها حكمة وصواب، وليس فيها تفاوت، ولا وجه من وجوه القبح.. وعلى هذا فلا يوصف بذلك فيما لم يزل.
13. روي عن ابن عباس أنه قال: (العليم): الذي كمل في علمه، (والحكيم): الذي كمل في حكمته.
14. في هذه الآية دلالة على أن العلوم كلها من جهته تعالى، وإنما كان كذلك لأن العلوم لا تخلو:
أ. إما أن تكون ضرورية، فهو الذي فعلها.
ب. وإما أن تكون استدلالية فهو الذي أقام الأدلة عليها، فلا علم لأحد إلا ما علمه الله تعالى.
15. ثم خاطب الله تعالى آدم فـ ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ﴾ أي: أخبر الملائكة ﴿بِأَسْمَائِهِمْ﴾ يعني بأسماء الذين عرضهم عليهم، وهم كناية عن المرادين بقوله أسماء هؤلاء، وقد مضى بيانه، ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ﴾ يعني أخبرهم آدم ﴿بِأَسْمَائِهِمْ﴾ أي: باسم كل شيء، ومنافعه ومضاره.
16. اختلف في معنى الألف في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ :
أ. قيل: الألف للتنبيه، وإن كان أصلها الاستفهام، كقول القائل: (أما ترى اليوم ما أطيبه) لمن يعلم ذلك، وحكى سيبويه أما ترى أي برق ههنا.
ب. وقيل: إن هذه الألف معناها التوبيخ، ومن لم يجز على الملائكة المعصية منع من ذلك.
17. ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: أعلم ما غاب فيهما عنكم، فلم تشاهدوه كما أعلم ما حضركم فشاهدتموه.
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ على أقوال:
أ. أحدها: إنه أراد أعلم سركم وعلانيتكم، وذكر ذلك تنبيها لهم على ما يحيلهم عليه من الاستدلال، لأن الأصول الأول التي يستدل بها، إنما تذكر على وجه التنبيه، ليستخرج بها غيرها، فيستدل بعلمه الغيب على أنه خلق عباده على ما خلقهم عليه، للاستصلاح في التكليف، وما توجبه الحكمة.
ب. ثانيها: إنه أراد (أعلم ما تبدون) من قولكم ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾، ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ من إضمار إبليس المعصية والمخالفة.. قال علي بن عيسى: وهذا ليس بالوجه لأن الخطاب للملائكة، وليس إبليس منهم، ولأنه عام، فلا يخص إلا بدليل، وجوابه: إن إبليس لما دخل معهم في الأمر بالسجود، جاز أن يذكر في جملتهم.. وقد رويت روايات تؤيد هذا القول، واختاره الطبري.
ج. ثالثها: إن الله تعالى لما خلق آدم، مرت به الملائكة قبل أن ينفخ فيه الروح، ولم تكن رأت مثله، فقالوا: لن يخلق الله خلقا إلا كنا أكرم منه وأفضل عنده، فهذا ما أخفوه وكتموه، وأما ما أبدوه فقولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ روي ذلك عن الحسن، والأول أقوى، لأنه أعم.
19. سؤال وإشكال: ما وجه ذكره تعالى لهم الأسرار من علم الغيب؟ والجواب: إنه على معنى الجواب فيما سألوا عنه من خلق من يفسد، ويسفك الدماء على وجه التعريض، دون التصريح، لأنه لو صرح بذلك لقال: خلقت من يفسد ويسفك الدماء لما أعلم في ذلك من المصلحة لعبادي، فيما كلفتهم إياه، فدل سبحانه الإحالة في الجواب على العلم بباطن الأمور وظاهرها، أنه خلقهم لأجل علمه بالمصلحة في ذلك، ودلهم بذلك على أن عليهم الرضا بأمر الله، والتسليم لقضاء الله، لأنه يعلم من الغيب ما لا يعلمونه، ويعلم من مصالحهم في دينهم ودنياهم ما لا يطلعون عليه.
20. سؤال وإشكال: أي شيء في تعليم الله تعالى آدم الأسماء كلها مما يدل على علمه بالغيب؟ والجواب: قيل إنه تعالى علمه الأسماء كلها بما فيها من المعاني التي تدل عليها على جهة فتق لسانه بذلك، وإلهامه إياها، فهي معجزة أقامها الله تعالى للملائكة تدل على نبوته، وجلالة قدره، وارتفاع شأنه، بما اختصه الله به من العلم الذي لا يوصل إليه إلا بتعليم الله، عز وجل، ودلهم على ذلك بأن قررهم أولا فأقروا بأن لا علم لهم به، ثم أظهر لهم أن آدم يعلمه بتعليم الله إياه، فبان بذلك الإعجاز بالاطلاع على ما لا سبيل إلى علمه إلا من علام الغيوب.. وفيه من المعجزة أنه فتق لسانه على خلاف مجرى العادة، وأنه علمه من لطائف الحكمة ما لا تعلمه الملائكة، مع كثرة علومها، وأنها أعرف الخلق بربها، فعرفوا ما دلهم على علم الغيب بالمعجزة، مؤكدا لما يعلمونه من ذلك بالأدلة العقلية، ولذلك نبههم فقال: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: قد دللتكم على ذلك قبل، وهذه دلالة بعد.. وقد افتتح الله تعالى الدلالة على الإعجاز بالكلام في آدم، ثم ختم به في محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
21. سؤال وإشكال: قال السيد الأجل المرتضى: وفي هذه الآية سؤال لم أجد أحدا من مفسري القرآن تعرض له، وذلك أن يقال: من أين علمت الملائكة صحة قول آدم، ومطابقة الأسماء المسميات، وهي لم تكن عالمة بذلك من قبل، والكلام يقتضي أنهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحتها، ولولا ذلك لم يكن لقوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ معنى ولا كانوا أيضا مستفيدين نبوته، وتميزه واختصاصه بما ليس لهم، لأن كل ذلك إنما يتم مع العلم، والجواب:
أ. أنه غير ممتنع أن يكون الله تعالى جعل لهم العلم الضروري بصحة الأسماء، ومطابقتها للمسميات، إما عن طريق أو ابتداء بلا طريق، فعلموا بذلك تمييزه واختصاصه، وليس في علمهم بصحة ما أخبر به ما يقتضي العلم بنبوته ضرورة، بل بعده درجات ومراتب لا بد من الاستدلال عليها حتى يحصل العلم بنبوته ضرورة.
ب. ووجه آخر وهو أنه لا يمتنع أن يكون للملائكة لغات مختلفة، وكل قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس في لغته دون لغة غيره، إلا أنه يكون إحاطة عالم واحد بأسماء الأجناس في جميع لغاتهم، خارقة للعادة، فلما أراد الله تعالى التنبيه على نبوة آدم، علمه جميع تلك الأسماء، فلما أخبرهم بها علم كل فريق مطابقة ما أخبر به من الأسماء للغته، وعلم مطابقة ذلك لباقي اللغات بخبر كل قبيل، وعلى هذا الجواب، فيكون معنى ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ ليخبرني كل قبيل منكم بجميع الأسماء.
وهذان الجوابان مبنيان على أنه لم يتقدم لهم العلم بنبوة آدم، وأن اخباره بالأسماء كان مفتتح معجزاته، لأنه لو كان نبيا قبل ذلك، وكانوا قد علموا نبوته بمعجزات تقدم ظهورها على يده، لم يحتج إلى هذين الجوابين، لأنهم يعلمون مطابقة الأسماء للمسميات بعد أن لم يعلموا بقوله الذي علموا أنه حق وصدق.
22. مسائل نحوية:
أ. ﴿سُبْحَانَكَ﴾ : نصب على المصدر.. قال سيبويه: سبحت الله تسبيحا وسبحانا، فالمصدر تسبيح وسبحان اسم يقوم مقام المصدر.
ب. اللام من قوله ﴿لَنَا﴾ : يتعلق بمحذوف، فيكون جملة ظرفية في موضع رفع بالخبر، لأن ﴿لَا عِلْمَ﴾ في موضع رفع بالابتداء.
ج. ﴿مَا عَلَّمْتَنَا﴾ موصول وصلة والضمير من ﴿عَلَّمْتَنَا﴾ العائد إليه محذوف تقديره ما علمتنا، وهو في موضع رفع بدل من موضع ﴿لَا عِلْمَ﴾ .
د. ﴿أَنْتَ﴾ : يجوز أن يكون فصلا، فيكون لا موضع له من الإعراب وخبر إن العليم الحكيم.. ويجوز أن يكون مبتدأ، والجملة خبر إن.
هـ. ﴿آدَمَ﴾ : منادى مفرد معرفة، مبني على الضم، ومحله النصب لأن المنادى مدعو، والمدعو مفعول.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/181.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في الأسماء التي علمها الله تعالى لآدم عليه السلام:
أ. أنه علّمه كل الأسماء، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة.
ب. أنه علّمه أسماء معدودة لمسمّيات مخصوصة، ثم فيها أربعة أقوال:
• أحدها: أنه علّمه أسماء الملائكة، قاله أبو العالية.
• الثاني: أنه علّمه أسماء الأجناس دون أنواعها، كقولك: إنسان وملك وجنّيّ وطائر، قاله عكرمة.
• الثالث: أنه علّمه أسماء ما خلق في الأرض من الدواب والهوام والطير، قاله الكلبيّ ومقاتل ابن قتيبة.
• الرابع: أنه علّمه أسماء ذرّيته، قاله ابن زيد.
2. قوله تعالى: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾، قال الزّجّاج: لا اختلاف بين أهل اللغة أن التسبيح هو: التنزيه لله تعالى عن كل سوء، والعليم بمعنى: العالم؛ جاء على بناء (فعيل) للمبالغة.
3. في الحكيم قولان:
أ. أحدهما: أنه بمعنى الحاكم، قاله ابن قتيبة.
ب. الثاني: المحكم للأشياء، قاله الخطّابيّ.
4. في الهاء والميم من (أسمائهم) قولان:
أ. أحدهما: أنها تعود على المخلوقات التي عرضها، قاله الأكثرون.
ب. الثاني: أنها تعود على الملائكة، قاله الرّبيع بن أنس.
5. في الذي أبدوه قولان:
أ. أحدهما: أنه قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾، ذكره السّدّيّ عن أشياخه.
ب. والثاني: أنه ما أظهروه من السمع والطاعة لله حين مروا على جسد آدم، فقال إبليس: إن فضّل عليكم هذا ما تصنعون؟ فقالوا: نطيع ربّنا، فقال إبليس في نفسه: لئن فضّلت عليه لأهلكنّه، ولئن فضّل عليّ لأعصينّه، قاله مقاتل، وفي الذي كتموه قولان: أحدهما: أنه اعتقاد الملائكة أن الله تعالى لا يخلق خلقا أكرم منهم، قاله الحسن وأبو العالية وقتادة، والثاني: أنه ما أسرّه إبليس من الكبر والعصيان، رواه السّدّيّ عن أشياخه، وبه قال مجاهد وابن جبير ومقاتل.
6. في تسميته بآدم قولان:
أ. أحدهما: لأنه خلق من أديم الأرض، قاله ابن عباس وابن جبير والزّجّاج.
ب. الثاني: أنه من الأدمة في اللّون، قاله الضّحّاك والنّضر بن شميل وقطرب.
__________
(1) زاد المسير: 1/54.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما سأل الملائكة عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته وإسكانه تعالى إياهم في الأرض وأخبر الله تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الإجمال بقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أراد تعالى أن يزيدهم بياناً وأن يفصل لهم ذلك المجمل، فبين تعالى لهم من فضل آدم عليه السلام ما لم يكن من ذلك معلوماً لهم، وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كمال فضله وقصورهم عنه في العلم فيتأكد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي.
2. قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، وقوله: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ لا يقتضي وصف الله تعالى بأنه معلم، لأنه حصل في هذه اللفظة تعارف على وجه لا يجوز إطلاقه عليه، وهو من يحترف بالتعليم والتلقين، وكما لا يقال للمدرس معلم مطلقاً حتى لو أوصى للمتعلمين لا يدخل فيه المدرس فكذا لا يقال لله إنه معلم إلا مع التقييد، ولولا هذا التعارف لحسن إطلاقه عليه، بل كان يجب أن لا يستعمل إلا فيه تعالى، لأن المعلم هو الذي يحصل العلم في غيره، ولا قدرة على ذلك لأحد إلا الله تعالى.
3. من الناس من ذكر أن قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ يعني: علمه صفات الأشياء ونعوتها وخواصها والدليل عليه أن الاسم اشتقاقه إما من السمة أو من السمو:
أ. فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ماهياتها، فصح أن يكون المراد من السماء: الصفات.
ب. وإن كان من السمو، فكذلك لأن دليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول، فكان الدليل أسمى في الحقيقة.
فثبت أنه لا امتناع في اللغة أن يكون المراد من الاسم الصفة.. بقي أن أهل النحو خصصوا لفظ الاسم بالألفاظ المخصوصة، ولكن ذلك عرف حادث لا اعتبار به.
4. إذا ثبت أن هذا التفسير ممكن بحسب اللغة وجب أن يكون هو المراد لا غيره، لوجوه:
أ. أحدها: أن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها، وحمل الكلام المذكور لإظهار الفضيلة على ما يوجب مزيد الفضيلة، أولى من حمله على ما ليس كذلك.
ب. ثانيها: أن التحدي إنما يجوز ويحسن بما يتمكن السامع من مثله في الجملة، فإن من كان عالماً باللغة والفصاحة، يحسن أن يقول له غيره على سبيل التحدي: ائت بكلام مثل كلامي في الفصاحة، أما العربي فلا يحسن منه أن يقول للزنجي في معرض التحدي: تكلم بلغتي، وذلك لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات ألبتة: بل ذلك لا يحصل إلا بالتعليم، فإن حصل التعليم، حصل العلم به وإلا فلا، أما العلم بحقائق الأشياء، فالعقل متمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي فيه.
5. من الناس من ذكر أن قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ يعني أسماء كل ما خلق الله من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولد آدم اليوم من العربية والفارسية والرومية وغيرها، وكان ولد آدم عليه السلام يتكلمون بهذه اللغات فلما مات آدم وتفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد منهم بلغة معينة من تلك اللغات، فغلب عليه ذلك اللسان، فلما طالت المدة ومات منهم قرن بعد قرن نسوا سائر اللغات، فهذا هو السبب في تغير الألسنة في ولد آدم عليه السلام.
6. قال أهل المعاني: قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ﴾ لا بد فيه من إضمار، فيحتمل أن يكون المراد وعلم آدم أسماء المسميات، ويحتمل أن يكون المراد وعلم آدم مسميات الأسماء، قالوا لكان الأول أولى لقوله: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾، ولم يقل أنبئوني بهؤلاء وأنبأهم بهم.
7. سؤال وإشكال: لما علمه الله تعالى أنواع جميع المسميات، وكان في المسميات ما لا يكون عاقلًا، فلم قال عرضهم، ولم يقل عرضها؟ والجواب: لأنه لما كان في جملتها الملائكة والإنس والجن وهم العقلاء، فغلب الأكمل، لأنه جرت عادة العرب بتغليب الكامل على الناقص كلما غلبوا.
8. من الناس من تمسك بقوله تعالى: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ على جواز تكليف ما لا يطاق وهو ضعيف، لأنه تعالى إنما استنبأهم مع علمه تعالى بعجزهم على سبيل التبكيت، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
9. ذكر الأشعري والجبائي والكعبي أن اللغات كلها توقيفية، بمعنى أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ وتلك المعاني، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني، واحتجوا عليه بقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾
10. ذكر أبو هاشم أنه لا بد من تقدم لغة اصطلاحية، واحتج على أنه لا بد وأن يكون الوضع مسبوقاً بالاصطلاح بأمور:
أ. أحدها: أنه لو حصل العلم الضروري بأنه تعالى وضع هذه اللفظة لهذا المعنى لكان ذلك العلم إما أن يحصل للعاقل أو لغير العاقل، لا جائز أن يحصل للعاقل لأنه لو حصل العلم الضروري بأنه تعالى وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى لصارت صفة الله تعالى معلومة بالضرورة مع أن ذاته معلومة بالاستدلال، وذلك محال، ولا جائز أن يحصل لغير العاقل لأنه يبعد في العقول أن يحصل العلم بهذه اللغات مع ما فيها من الحكم العجيبة لغير العاقل، فثبت أن القول بالتوقيف فاسد.
ب. ثانيها: أنه تعالى خاطب الملائكة، وذلك يوجب تقدم لغة على ذلك التكلم.
ج. ثالثها: أن قوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ يقتضي إضافة التعليم إلى الأسماء، وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التعليم، وإذا كان كذلك كانت اللغات حاصلة قبل ذلك التعليم.
د. رابعها: أن آدم عليه السلام لما تحدى الملائكة بعلم الأسماء، فلا بد وأن تعلم الملائكة كونه صادقاً في تعيين تلك الأسماء لتلك المسميات، وإلا لم يحصل العلم بصدقه، وذلك يقتضي أن يكون وضع تلك الأسماء لتلك المسميات متقدماً على ذلك التعليم.
11. الجواب على ما ذكر أبو هاشم من أنه لا بد من تقدم لغة اصطلاحية:
أ. عن الأول: لم لا يجوز أن يقال بخلق العلم الضروري بأن واضعاً وضع هذه الأسماء لهذه المسميات من غير تعيين أن ذلك الواضع هو الله تعالى أو الناس؟ وعلى هذا لا يلزم أن تصير الصفة معلومة بالضرورة حال كون الذات معلومة بالدليل، سلمنا أنه تعالى ما خلق هذا العلم في العاقل، فلم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى خلقه في غير العاقل والتعويل على الاستعباد في هذا المقام مستبعد.
ب. عن الثاني: لم لا يجوز أن يقال خاطب الملائكة بطريق آخر بالكتابة وغيرها؟
ج. عن الثالث: لا شك أن إرادة الله تعالى وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني سابقة على التعليم فكفى ذلك في إضافة التعليم إلى الأسماء.
د. عن الرابع: ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
12. ذكروا في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ وجوهاً:
أ. أحدها: معناه أعلموني أسماء هؤلاء إن علمتم أنكم تكونون صادقين في ذلك الأعلام
ب. ثانيها: معناه أخبروني ولا تقولوا إلا حقاً وصدقاً فيكون الغرض منه التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز، لأنه متى تمكن في أنفسهم العلم بأنهم إن أخبروا لم يكونوا صادقين ولا لهم إليه سبيل علموا أن ذلك متعذر عليهم.
ج. ثالثها: إن كنتم صادقين في قولكم أنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون وتقومون به وهو قول ابن عباس وابن مسعود.
د. رابعها: إن كنتم صادقين في قولكم إني لم أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء.
13. الذين اعتقدوا أن الملائكة أتوا بالمعصية في قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ قالوا: إنهم لما عرفوا خطأهم في هذا السؤال رجعوا وتابوا واعتذروا عن خطئهم بقولهم: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾
14. الذين أنكروا معصيتهم ذكروا في ذلك وجهين:
أ. الأول: أنهم إنما قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز والتسليم بأنهم لا يعلمون ما سئلوا عنه، وذلك لأنهم قالوا إنا لا نعلم إلا ما علمتنا فإذا لم تعلمنا ذلك فكيف نعلمه.
ب. الثاني: أن الملائكة إنما قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ لأن الله تعالى أعلمهم ذلك، فكأنهم قالوا إنك أعلمتنا أنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقلنا لك أتجعل فيها من يفسد فيها، وأما هذه الأسماء فإنك ما أعلمتنا كيفيتها فكيف نعلمها.
15. قوله تعالى: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ يدل على أن المعارف مخلوقة لله تعالى، خلافا للمعتزلة الذين قالوا: المراد أنه لا علم لنا إلا من جهته إما بالتعليم وإما بنصب الدلالة، وجواب ما ذكروه هو أن التعليم عبارة عن تحصيل العلم في الغير كالتسويد فإنه عبارة عن تحصيل السواد في الغير لا يقال التعليم عبارة عن إفادة عليه العلم هو وضع الدليل، والله تعالى قد فعل ذلك لأنا نقول المؤثر في وجود العلم ليس هو ذات الدليل بل النظر في الدليل، وذلك النظر فعل العبد فلم يكن حصول ذلك العلم بتعليم الله تعالى وأنه يناقص قوله: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾
16. في هذه الآية دليل على أنه لا سبيل إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله تعالى وأنه لا يمكن التوصل إليها بعلم النجوم والكهانة والعرافة ونظيره قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 59] وقوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: 26، 27] وللمنجم أن يقول للمعتزلي: إذا فسرت التعليم بوضع الدلائل، فعندي حركات النجوم دلائل خلقها الله تعالى على أحوال هذا العالم، فإذا استدللت بها على هذه كان ذلك أيضاً بتعليم الله تعالى.
17. يمكن أن يقال إن الملائكة لما عجزوا عن معرفة الغيب فلأن يعجز عنه أحدنا كان أولى.
18. لما أمر الله تعالى آدم عليه السلام بأن يخبرهم عن أسماء الأشياء وهو عليه السلام أخبرهم بها فلما أخبرهم بها قال سبحانه وتعالى لهم عند ذلك: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
19. المراد من هذا الغيب أنه تعالى كان عالماً بأحوال آدم عليه السلام قبل أن يخلقه، وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها، وذلك يدل على بطلان مذهب هشام بن الحكم في أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وقوعها.
20. قوله تعالى: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، يشير إلى أنه لا اطلاع لأحد على أسرار حكمة الله تعالى، فالملائكة وقع نظرهم على الفساد والقتل فاستحقروا البشر، ووقع نظرهم على طاعة إبليس فاستعظموه، أما علام الغيوب فإنه كان عالماً بأنه وإن أتوا بالفساد والقتل لكنهم سيأتون بعده بقولهم: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23] وأن إبليس وإن أتى بالطاعات لكنه سيأتي بعدها بقوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾، ومن شأن العقل أن لا يعتمد على ما يراه وأن يكون أبداً في الخوف والوجل.
21. قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ﴾ معناه أن الذي أعرف الظاهر والباطن والواقع والمتوقع وأعلم أنه ما ترونه عابداً مطيعاً سيكفر ويبعد عن حضرتي، ومن ترونه فاسقاً بعيداً سيقرب من خدمتي، فالخلق لا يمكنهم أن يخرجوا عن حجاب الجهل ولا يتيسر لهم أن يخرقوا أستار العجز فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه، ثم إنه سبحانه حقق من علم الغيب وعجز الملائكة أن أظهر من البشر كمال العبودية ومن أشد ساكني السموات عبادة كمال الكفر لئلا يغتر أحد بعمله ويفوضوا معرفة الأشياء إلى حكمة الخالق ويزيلوا الاعتراض بالقلب واللسان عن مصنوعاته ومبدعاته.
22. العليم من صفات المبالغة التامة في العلم، والمبالغة التامة لا تتحقق إلا عند الإحاطة بكل المعلومات، وما ذاك إلا هو سبحانه وتعالى، فلا جرم ليس العليم المطلق إلا هو، فلذلك قال: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ على سبيل الحصر.
23. الحكيم يستعمل على وجهين:
أ. أحدهما: بمعنى العليم فيكون ذلك من صفات الذات، وعلى هذا التفسير نقول: إنه تعالى حكيم في الأزل.
ب. الآخر: أنه الذي يكون فاعلًا لما لا اعتراض لأحد عليه، فيكون ذلك من صفات الفعل، فلا نقول إنه حكيم في الأزل.
24. الأقرب هاهنا أن يكون المراد هو المعنى الثاني وإلا لزم التكرار، فكأن الملائكة قالت: أنت العالم بكل المعلومات، فأمكنك تعليم آدم، وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه.
25. عن ابن عباس: أن مراد الملائكة من الحكيم، أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض.
26. اتفق على نبوة آدم عليه السلام، لكن اختلف في نبوته في ذلك الوقت، قالت المعتزلة: إن ما ظهر من آدم عليه السلام من علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته عليه السلام في ذلك الوقت:
أ. والأقرب أنه كان مبعوثاً إلى حواء.
ب. ولا يبعد أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة، لأن جميعهم، وإن كانوا رسلًا فقد يجوز الإرسال إلى الرسول كبعثة إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام.
2. احتج المعتزلة على ذلك بأن حصول ذلك العلم له ناقض للعادة، فوجب أن يكون معجزاً، وإذا ثبت كونه معجزاً ثبت كونه رسولًا في ذلك الوقت.
27. سؤال وإشكال: إن قيل لا نسلم أن ذلك العلم ناقض للعادة لأن حصول العلم باللغة لمن علمه الله تعالى وعدم حصوله لمن لم يعلمه الله ليس بناقض للعادة، وأيضاً فأما أن يقال: الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو ما علموا ذلك فإن علموا ذلك فقد قدروا على أن يذكروا أسماء تلك المسميات فحينئذ تحصل المعارضة ولا تظهر المزية والفضيلة، وإن لم يعلموا ذلك فكيف عرفوا أن آدم عليه السلام أصاب فيما ذكر من كون كل واحد من تلك الألفاظ اسماً لكل واحد من تلك المسميات، والجواب: يمكن دفع هذا السؤال من وجهين:
أ. الأول: ربما كان لكل صنف من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات، وكان كل صنف جاهلًا بلغة الصنف الآخر، ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا، وأن آدم عليه السلام عد عليهم جميع تلك اللغات بأسرها فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة خاصة، فعرفوا بهذا الطريق صدقه إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها فكان ذلك معجزاً.
ب. الثاني: لا يمتنع أن يقال: إنه تعالى عرفهم قبل أن سمعوا من آدم عليه السلام تلك الأسماء ما استدلوا به على صدق آدم، فلما سمعوا منه عليه السلام تلك الأسماء عرفوا صدقه فيها فعرفوا كونه معجزاً.
28. أجاب من قطع بأنه عليه السلام ما كان نبياً في ذلك الوقت بأنه لو سلمنا أنه ظهر عليه فعل خارق للعادة، فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات، أو من باب الإرهاص، وهما عندنا جائزاً، وحينئذ يصير الكلام في هذه المسألة فرعاً على الكلام فيهما.
29. احتج من قطع بأنه عليه السلام ما كان نبياً في ذلك الوقت بوجوه:
أ. أحدها: أنه لو كان نبياً في ذلك الزمان، لكان قد صدرت المعصية عنه بعد النبوة، وذلك غير جائز، فوجب أن لا يكون نبياً في ذلك الزمان، أما الملازمة فلأن صدور الزلة عنه كان بعد هذه الواقعة بالاتفاق وتلك الزلة من باب الكبائر، والإقدام على الكبيرة يوجب استحقاق الطرد والتحقير واللعن وكل ذلك على الأنبياء غير جائز فيجب أن يقال وقعت تلك الواقعة قبل النبوة.
ب. ثانيها: لو كان رسولًا في ذلك الوقت لكان إما أن يكون مبعوثاً إلى أحد أو لا يكون، فإن كان مبعوثاً إلى أحد، فإما أن يكون مبعوثاً إلى الملائكة أو الإنس أو الجن، والأول باطل لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر، ولا يجوز جعل الأدون رسولًا إلى الأشرف لأن الرسول والأمة تبع، وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل وأيضاً فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾ [الأنعام: 9] ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى البشر، لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حواء، وأن حواء إنما عرفت التكليف لا بواسطة آدم لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ [الأعراف: 19] شافههما بهذا التكليف، وما جعل آدم واسطة ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى الجن لأنه ما كان في السماء أحد من الجن ولا جائز أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى أحد لأن المقصود من جعله رسولًا التبليغ فحيث لا مبلغ لم يكن في جعله رسولًا فائدة وهذا الوجه ليس في غاية القوة.
ج. ثالثها: قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾ [طه: 122] فهذه الآية دلت على أنه تعالى إنما اجتباه بعد الزلة فوجب أن يقال إنه قبل الزلة ما كان مجتبى، وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبى وجب أن لا يكون رسولًا لأن الرسالة والاجتباء متلازمان لأن الاجتباء لا معنى له إلا التخصيص بأنواع التشريفات وكل من جعله الله رسولًا فقد خصه بذلك لقوله تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 2/397.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿عِلْمَ﴾ معناه عرف، وتعليمه هنا إلهام علمه ضرورة، ويحتمل أن يكون بواسطة ملك، وهو جبريل عليه السلام.
2. قوله تعالى: ﴿الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ الأسماء هنا بمعنى العبارات، فإن الاسم:
أ. قد يطلق ويراد به المسمى، كقولك: زيد قائم، والأسد شجاع.
ب. وقد يراد به التسمية ذاتها، كقولك: أسد ثلاثة أحرف.
ففي الأول يقال: الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى، وفي الثاني لا يراد به المسمى.
3. قد يجرى اسم في اللغة:
أ. مجرى ذات العبارة وهو الأكثر من استعمالها، ومنه قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31] على أشهر التأويلات، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن لله تسعة وتسعين اسما)
ب. ويجري مجرى الذات، يقال: ذات ونفس وعين واسم بمعنى، وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1] ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: 78] ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا﴾ [النجم: 23]
4. اختلف أهل التأويل في معنى الأسماء التي علمها لآدم عليه السلام، قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد وابن جبير: علمه أسماء جميع الأشياء كلها جليلها وحقيرها، روى عاصم بن كليب عن سعد مولى الحسن بن علي قال: كنت جالسا عند ابن عباس فذكروا اسم الآنية واسم السوط، قال ابن عباس: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، وقد روي هذا المعنى مرفوعا.. وهو الذي يقتضيه لفظ ﴿كُلِّهَا﴾ إذ هو اسم موضوع للإحاطة والعموم، وفي البخاري من حديث أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ويجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شي) الحديث.
5. قال ابن خويز منداد: في هذه الآية دليل على أن اللغة مأخوذة توقيفا، وأن الله تعالى علمها آدم عليه السلام جملة وتفصيلا، وكذلك قال ابن عباس: علمه أسماء كل شي حتى الجفنة والمحلب، وروى شيبان عن قتادة قال علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة، وسمي كل شي باسمه وأنحى: أسماء الملائكة خاصة، القتبي: أسماء ما خلق في الأرض، وقيل: أسماء الأجناس والأنواع.
6. اختلف في أول من تكلم باللسان العربي:
أ. روي عن كعب الأحبار: أن أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها وتكلم بالألسنة كلها آدم عليه السلام، وقاله غير كعب الأحبار.
ب. وروي عن كعب الأحبار من وجه حسن قال أول من تكلم بالعربية جبريل عليه السلام وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه السلام وألقاها نوح على لسان ابنه سام.
ج. وروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن عشر سنين)
د. وروى أيضا: أن أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان، وقد روي غير ذلك.
7. الصحيح أن أول من تكلم باللغات كلها من البشر آدم عليه السلام، والقرآن يشهد له قال الله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31] واللغات كلها أسماء فهي داخلة تحته وبهذا جاءت السنة، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ حتى القصعة والقصيعة)
8. ما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلم بالعربية من ولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل عليه السلام، وكذلك إن صح ما سواه فإنه يكون محمولا على أن المذكور أول من تكلم من قبيلته بالعربية بدليل ما ذكرنا والله أعلم، وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة وألقاها على لسان نوح بعد أن علمها الله آدم أو جبريل، على ما تقدم.
9. قوله تعالى: ﴿هَؤُلَاءِ﴾ لفظ مبني على الكسر، ولغة تميم وبعض قيس وأسد فيه القصر، قال الأعشى:
هؤلا ثم هؤلاء كلا أعطي... ت نعالا محذوّة بمثال
ومن العرب من يقول: هؤلاء، فيحذف الالف والهمزة.
10. قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ شرط، والجواب محذوف تقديره: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني، قاله المبرد.
11. معنى ﴿صَادِقِينَ﴾ عالمين، ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد، وقالوا: ﴿سُبْحَانَكَ﴾! حكاه النقاش، قال: ولو لم يشترط عليهم إلا الصدق في الانباء لجاز لهم الاجتهاد، كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له: ﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾ فلم يشترط عليه الإصابة، فقال ولم يصب ولم يعنف، وهذا بين لا خفاء فيه.
12. قال بعض العلماء: يخرج من هذا الامر بالإنباء تكليف ما لا يطاق لأنه علم أنهم لا يعلمون، وقال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف وإنما هو على جهة التقرير والتوقيف.
13. اختلف المتأولون هل عرض على الملائكة أسماء الاشخاص أو الأسماء دون الأشخاص:
أ. قال ابن مسعود وغيره: عرض الاشخاص لقوله تعالى: ﴿عَرَضَهُمْ﴾، وقوله: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾، وتقول العرب: عرضت الشيء فأعرض، أي أظهرته فظهر، ومنه: عرضت الشيء للبيع، وفي الحديث (إنه عرضهم أمثال الذر)، قال مجاهد: أصحاب الأسماء.
ب. وقال ابن عباس وغيره: عرض الأسماء.
14. قال ابن عطية: والذي يظهر أن الله تعالى ﴿ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ ﴾ وعرضهن عليه مع تلك الأجناس بأشخاصها، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها، ثم إن آدم قال لهم: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا.
15. قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أي تنزيها لك عن أن يعلم الغيب أحد سواك، وهذا جوابهم عن قوله: ﴿أَنْبِئُونِي﴾ فأجابوا أنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم به ولم يتعاطوا ما لا علم لهم به كما يفعله الجهال منا.
16. ﴿مَا﴾ في ﴿مَا عَلَّمْتَنَا﴾ بمعنى الذي، أي إلا الذي علمتنا، ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إلا تعليمك إيانا.
17. الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: الله أعلم ولا أدري، اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون.
18. مما ورد من الاخبار عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية:
أ. عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أي البقاع شر؟ قال: لا أدرى حتى أسأل جبريل) فسأل جبريل، فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق.
ب. قال أبو بكر للجدة: ارجعي حتى أسأل الناس.
ج. كان علي يقول: وأبردها على الكبد، ثلاث مرات، قالوا وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم.
د. سأل ابن عمر رجل عن مسألة فقال: لا علم لي بها، فلما أدبر الرجل، قال ابن عمر: نعم ما قال ابن عمر، سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به!
هـ. عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بهية فقالت: ما ذلك لك! قال ولم؟ قالت لان الله عز وجل يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ [النساء: 20] فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ!
و. عن محمد بن كعب القرظي قال: سأل رجل عليا عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال علي: أصبت وأخطأت، وفوق كل ذي علم عليم.
ز. ذكر أبو محمد قاسم بن أصبغ قال: لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر ابن حماد حديث مسدد، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس، فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد، فقرأت عليه فيه يوما حديث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنه قدم عليه قوم من مضر من مجتابي، فقال بكر بن حماد واخذ بأنفه: رغم أنفي للحق، رغم أنفي للحق، وانصرف.
ح. قال يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأحسن:
إذا ما تحدثت في مجلس... تناهى حديثي إلى ما علمت
ولم أعد علمي إلى غيره... وكان إذا ما تناهى سكت
19. قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ سبحان:
أ. منصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه، يؤدي عن معنى نسبحك تسبيحا.
ب. وقال الكسائي: هو منصوب على أنه نداء مضاف.
20. قوله تعالى: ﴿أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ أمره الله أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة ليعلموا أنه أعلم بما سألهم عنه تنبيها على فضله وعلو شأنه، فكان أفضل منهم بأن قدمه عليهم وأسجدهم له وجعلهم تلامذته وأمرهم بأن يتعلموا منه، فحصلت له رتبة الجلال والعظمة بأن جعله مسجودا له، مختصا بالعلم.
21. قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ دليل على أن أحدا لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله كالأنبياء أو من أعلمه من أعلمه الله تعالى، فالمنجمون والكهان وغيرهم كذبة.
22. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ :
أ. أي من قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ حكاه مكي والماوردي.
ب. وقال الزهراوي: ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم، ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير: المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والمعصية، قال ابن عطية: وجاء ﴿تَكْتُمُونَ﴾ للجماعة، والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم: أنتم فعلتم كذا، أي منكم فاعله، وهذا مع قصد تعنيف، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ ) [الحجرات: 4] وإنما ناداه منهم عيينة، وقيل الأقرع.
ج. وقالت طائفة: الإبداء والمكتوم ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع.
د. وقال مهدي بن ميمون: كنا عند الحسن فسأله الحسن بن دينار ما الذي كتمت الملائكة؟ قال إن الله عز وجل لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجبا، وكأنهم دخلهم من ذلك شي، قال ثم أقبل بعضهم على بعض وأسروا ذلك بينهم، فقالوا: وما يهمكم من هذا المخلوق! إن الله لم يخلق خلقا إلا كنا أكرم عليه منه.
23. ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿مَا تُبْدُونَ﴾ يجوز أن ينتصب بـ ﴿أَعْلَمُ﴾ على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم وتنصب به (ما) فيكون مثل حواج بيت الله.
24. آدم عليه السلام يكنى أبا البشر، وقيل: أبا محمد، كنى بمحمد خاتم الأنبياء صلوات الله عليهم، قاله السهيلي، وقيل: كنيته في الجنة أبو محمد، وفي الأرض أبو البشر.. وأصل آدم بهمزتين، لأنه أفعل إلا أنهم لينوا الثانية، فإذا احتجت إلى تحريكها جعلتها واوا، فقلت: أوادم في الجمع لأنه ليس لها أصل في الياء معروف، فجعلت الغالب عليها الواو، عن الأخفش.
25. اختلف في اشتقاقه:
أ. قيل: هو مشتق من أدمة الأرض وأديمها وهو وجهها، فسمى بما خلق منه، قال ابن عباس.
ب. وقيل: إنه مشتق من الأدمة وهي السمرة، واختلفوا في الأدمة:
• فزعم الضحاك أنها السمرة.
• وزعم النضر أنها البياض، وأن آدم عليه السلام كان أبيض، مأخوذ من قولهم: ناقة أدماء، إذا كانت بيضاء.
26. على هذا الاشتقاق جمعه أدم وأوادم، كحمر وأحامر، ولا ينصرف بوجه، وعلى أنه مشتق من الأدمة جمعه آدمون، ويلزم قائلو هذه المقالة صرفه.
27. الصحيح أنه مشتق من أديم الأرض، قال سعيد بن جبير: إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وإنما سمي إنسانا لأنه نسي، ذكره ابن سعد في الطبقات، وروى السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود في قصة خلق آدم عليه السلام قال فبعث الله جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني، فرجع ولم يأخذ وقال: يا رب إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث مكاييل فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط، ولم يأخذ من مكان واحد، واخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين ـ ولذلك سمي آدم لأنه أخذ من أديم الأرض ـ فصعد به، فقال الله تعالى له: أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك) فقال: رأيت أمرك أوجب من قولها، فقال: أنت تصلح لقبض أرواح ولده)
28. ﴿الْعَلِيمُ﴾ فعيل للمبالغة والتكثير في المعلومات في خلق الله تعالى.
29. اختلف في معنى ﴿الْحَكِيمُ﴾ :
أ. قيل: معناه الحاكم، وبينهما مزيد المبالغة.
ب. قيل: معناه المحكم يجئ، والحكيم على هذا من صفات الفعل، صرف عن مفعل إلى فعيل، كما صرف عن مسمع إلى سميع ومؤلم إلى أليم، قاله ابن الأنباري.
ج. وقال قوم: ﴿الْحَكِيمُ﴾ المانع من الفساد، ومنه سميت حكمة اللجام، لأنها تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصد، قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم... إني أخاف عليكم أن أغضبا
أي امنعوهم من الفساد، والعرب تقول: أحكم اليتيم عن كذا وكذا، يريدون منعه، والسورة المحكمة: الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزاد عليها ما ليس منها، والحكمة من هذا، لأنها تمنع صاحبها من الجهل، ويقال: أحكم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد، فهو محكم وحكيم على التكثير.
30. سؤال وإشكال: لمن كان رسولا ولم يكن في الأرض أحد؟ والجواب: كان رسولا إلى ولده، وكانوا أربعين ولدا في عشرين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى، وتوالدوا حتى كثروا، كما قال الله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1]، وأنزل عليهم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وعاش تسعمائة وثلاثين سنة، هكذا ذكر أهل التوراة، وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة.
31. في هذه الآية دليل على فضل العلم واهلة، وفي الحديث: وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم) أي تخضع وتتواضع وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصة من بين سائر عيال بالطلب له والشغل به، هذا في الطلاب منهم فكيف بالأحبار فيهم والربانيين منهم! جعلنا الله منهم وفيهم، إنه ذو فضل عظيم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/280.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في الأسماء التي علمها الله تعالى لآدم عليه السلام:
أ. قيل: الْأَسْماءَ هي العبارات والمراد: أسماء المسميّات، قال بذلك أكثر العلماء، وهو المعنى الحقيقي للاسم، والتأكيد بقوله ﴿كُلِّهَا﴾ يفيد أنه علّمه جميع الأسماء ولم يخرج عن هذا شيء منها كائنا ما كان.
ب. وقال ابن جرير: إنها أسماء الملائكة وأسماء ذرية آدم، ثم رجع عن هذا وهو غير راجح.
ج. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أسماء الملائكة.
2. اختلف أهل العلم هل عرض على الملائكة المسميات أو الأسماء، والظاهر الأوّل لأن عرض نفس الأسماء غير واضح، وعرض الشيء: إظهاره، ومنه عرض الشيء للبيع.
3. أمره سبحانه للملائكة بقوله: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ هذا منه تعالى لقصد التبكيت لهم مع علمه بأنهم يعجزون عن ذلك، والمراد ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني، كذا قال المبرد.
4. وقال أبو عبيد وابن جرير: إن بعض المفسرين قال معنى ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إذ كنتم، قالا: وهذا خطأ، ومعنى ﴿أَنْبِئُونِي﴾ أخبروني، فلما قال لهم ذلك اعترفوا بالعجز والقصور ف قالُوا ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾
5. سبحان: منصوب على المصدرية عند الخليل وسيبويه وقال الكسائي: هو منصوب على أنه منادى مضاف وهذا ضعيف جدا.
6. العليم: للمبالغة والدلالة على كثرة المعلومات، والحكيم: صيغة مبالغة في إثبات الحكمة له.
7. ثم أمر الله سبحانه آدم أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة فعجزوا واعترفوا بالقصور، ولهذا قال سبحانه: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ الآية، قال فيما تقدم: ﴿أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
8. ثم قال هنا: ﴿أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ تدرّجا من المجمل إلى ما هو مبيّن بعض بيان، ومبسوط بعض بسط، وفي اختصاصه بعلم غيب السموات والأرض ردّ لما يتكلفه كثير من العباد من الاطلاع على شيء من علم الغيب، كالمنجمين والكهّان وأهل الرمل والسحر والشعوذة.
9. المراد بما يبدون وما يكتمون: ما يظهرون ويسرّون كما يفيده معنى ذلك عند العرب؛ ومن فسّره بشيء خاص فلا يقبل منه ذلك إلا بدليل.
10. آدَمَ أصله أأدم بهمزتين إلّا أنهم لينوا الثانية، وإذا حركت قلبت واو، كما قالوا في الجمع أوادم، قاله الأخفش، واختلف في اشتقاقه:
أ. قيل: من أديم الأرض وهو وجهها.
ب. وقيل: من الأدمة وهي السمرة.
11. قال في الكشاف: وما آدم إلا اسم عجميّ، وأقرب أمره أن يكون على فاعل كآزر وعازر وعابر وشالخ وفالغ، وأشباه ذلك.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/77.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الَاسْمَآءَ﴾ ألقاها في قلبه مرَّة لا بتعليم ملَك كما قيل ﴿كُلَّهَا﴾ من جميع اللغات، وهي الحروف والأفعال والأسماء، وواضع اللغة الله، فالمراد بالأسماء الألفاظ الدوالُّ على المعاني، فشملت الحرف والفعل إفرادًا وتركيبًا، حقيقة ومجازًا، ودخلت أسماء الله كلُّها، بل قيل: أراد أيضًا ما يدلُّ بلا لفظ، كالنُّصُب والعُقَد والإشارة بالجارحة وحال الشيء، والمراد: الأنواع، كالإنسان والفرس والجبل والنخلة، لا الأفراد كزيد وشدقم وهيلة، وكلُّ أهل لغة من أولاده وأولاد أولاده حَفِظَ لغةً ونسي غيرها، وكلُّها موجودة في أهل سفينة نوح، أو أوقد عليها في ألواح ودفنت وأخرجت بعد الطوفان، أو أوحى ما اندرس منها إلى نوح أو هود.
2. و(آدم) بوزن أحمر من الأُدْمة بمعنى السمرة، ولا بأس بها في الجنَّة؛ لأنَّه لم يدخلها جزاءً، أو سَمُر بعد الخروج، وفسَّر بعضهم الأدمة بالبياض، أو من الأَدَمة بفتح الهمزة والدال، وهو القدوة، أو من أديم الأرض، أي: من جلدها، أي: ظاهرها، ومن الأدم أو الأدمة بمعنى الألفة، وألفه عن همزة، وقيل: عجميٌّ بوزن شالخ وآزر فألفه أصل، وذلك في الجنَّة، أو خُلِق في الدنيا ورفعته الملائكة إلى الجنَّة وعاش بعد خروجه منها ألف عام أو تسعمائة.
3. ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ أي: الأسماء بمعنى المسمَّيات، ذكر الأسماء مرادًا بها الدوالُّ، وردَّ الضمير إليها مرادًا به المدلول على الاستخدام، وضمير الذكور العقلاء تغليب على الإناث وغير العقلاء.
4. ﴿عَلَى الْمَلآئِكَةِ﴾ القائلين: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾؟، ﴿فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَآءِ﴾ بألفاظ ﴿هَؤُلآءِ﴾ الأنواع المعروضة، أحضَر كلَّ نوع فقال: ما اسم هذا؟ جسمًا أو عرضًا، مثل أن يلهمهم في قلوبهم الفرح ما اسمه؟ والنفل ما اسمه؟ كما يقول: لهم: ما اسم هذا مشيرًا للحجر؟ وقد عرفوا بعض الأسماء والأفعال والحروف بلغة من اللغات كما هو نصُّ الآية، وإنَّما خصَّ آدم بجمعه ما لم يعلموا إلى ما علموا، وذلك تعجيز لهم لا تكليف بما لا يطاق.
5. ﴿اِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ إن كنتم صادقين في دعوى أنَّكم أحقُّ بالخلافة والاقتصار عليكم عمَّا يفسد ويسفك، وأنَّكم أعلم، وقد قالوا: لن يخلق الله تعالى خلقًا أعلم منَّا ولا أكرم، وكأنَّه قيل: فما قالوا؟ فقال: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾ عن أن نكون في قولنا: ﴿أَتَجْعَلُ﴾ الآية، معترضين، ﴿لَا عِلْمَ لَنَآ﴾ بتلك المسمَّيات وغيرها، ﴿إِلَّا مَا﴾ أي: إلَّا عِلْمُ ما ﴿عَلَّمْتَنَآ﴾ إيَّاه، ولا معلوم لنا إلَّا ما علَّمتناه، هذا اعتراف بالعجز، وشكر على إظهار الحكمة في الخليفة لهم.
6. ﴿إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ﴾ بكلِّ شيء ﴿الْحَكِيمُ﴾ في جميع ما فعل، وما قال، وما يقول، وما يفعل، لا يكون منه سفه، أو لا يخرج الأمر عمَّا أراد، يقال: أراد فلان إحكام شيء ـ أي إتقانه ـ فأتقنه، أي: لم يخرج عمَّا أراد، وقدَّم العلم على الحكمة لأنَّ المقام له، ولقوله: ﴿وَعَلَّمَ﴾، وقوله: ﴿لَا عِلْمَ﴾؛ ولأنَّ الحكمة تنشأ عن علم، وأثرٌ له، ولا حكمة بلا علم، ولأنَّ العلم لا يكون إلَّا صفة ذات، والحكمة تكون صفة ذات بمعنى أنَّه أهل لأن لا يكون منه إلَّا الصواب وإلَّا الإتقان؛ وتكون فعلاً بمعنى إتقان الأمر والإتيان به صوابًا.
7. ﴿قَالَ يَآ ءَادَمُ﴾ شرَّفه بالنداء كما قال: ﴿يَآ أَيـُّهَا الرَّسُولُ﴾ [المائدة: 41، 67] ﴿يَا مُوسَى﴾ [الأعراف: 144 وغيرها]، وبأنَّه حقيق أن يعلِّم غيره، وبِمنَّة التعليم والإفادة على الملائكة، وفي ندائه نفي استيلاء الهيبة عليه.
8. ﴿أَنبِئْهُمْ﴾ أي: الملائكة ﴿بِأَسْمَآئِهِمْ﴾ بأسماء المسمَّين، وقد علمت أنَّ المراد العقلاء وغيرهم، وغلَّب العقلاء، أي: اُذكر لهم الألفاظ الدالَّة عليهم، وفي ضمن ذلك ذكر حكمة المسمَّى.
9. وللملائكة بعض لغة يفهمون بها ما يخاطبهم آدم به، أو يفهمون بإشارته، أو بإلهام الله سبحانه لهم إلى الفهم عند خطابه، مثل أن يقول: لعلَّ للترجِّي، والإنسان أنا وولدي، والجبل ذلك الجسم الصلب، والأرض لهذه السطيحة، والقصعة وعاء لوضع الطعام، وقام بمعنى تمدَّد جسده من هذه البسيطة.
10. و(آدم) اسم عجميٌّ لا دلالة له على معنى سوى ذاته، كما هو الأصحُّ، أو أصله من الأدمة، وهو لون إلى سواد، أي: سيكون كذلك إذا خرج إلى الدنيا، أو هو كذلك، حتَّى إذا أُدخِلها جزاءً كان أبيض، أو (أَفْعَل) من أديم الأرض، وهو عربيٌّ على الوجهين، ومرَّ ذلك.
11. ﴿فَلَمَّآ أَنبَأهُم بِأَسْمَآئِهِمْ﴾ العطف على محذوف، أي: فأنبأهم فلمَّا أنبأهم، ﴿قَالَ أَلَمَ اَقُلْ لَّكُمُ إِنِّيَ أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالَارْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ أي: قولوا: قد قلت لكم إنِّي أعلم.
12. لَمَّا عجزوا بادر لهم بالأمر وبالإقرار بالعجز، أو وبَّخهم على عجلتهم إلى الاستفهام، وكان الأولى: لهم أن يترقَّبوا ظهور الحكمة بلا سؤال، ولا سيما أنَّ سؤالهم على صورة الاعتراض لفعل الله، والقدح في بني آدم، بل في آدم أيضًا وذرِّيَّته بصورة العموم، ولو لم يقصدوا الاعتراض والقدح إجمالاً، والآية موجبة لمجانبة لفظ ما يوهم ما لا يجوز، ولو لم يُقصَد ما لا يجوز.
13. وغيب السماوات والأرض: ما غاب فيهما، ولم يضمر للأسماء تعظيمًا لها، والأصل: غيب السماوات والأرض وشهادتهما؛ لأنَّه يلزم من العلم بغيبهما العلم بشهادتهما، وذلك على العموم، وقيل: المراد بغيب السماوات أكل آدم وحوَّاء من الشجرة، وبغيب الأرض قتل قابيل هابيل، وقيل: غيب السماوات ما قضاه، وغيب الأرض ما يفعلونه، وقيل: الأوَّل أسرار الملكوت، والثاني ما أغابه عن أصفيائه.
14. ﴿وَمَا تُبْدُونَ﴾: ما تظهرون من قولكم: ﴿أتَجْعَلُ فِيهَا﴾ ﴿وَمَا كُنتُم تَكْتُمُونَ﴾ من قولكم: لن يخلق الله أكرم منَّا ولا أعلم، والإبداء والكتم باعتبار ما بين الخلق، ولا يخفى على الله شيء، وأدخل (كان) للإعلام بأنَّه عالم بما استمرُّوا على كتمانه في الماضي، ولا تقل: إنَّها زائدة، ولا إنَّها للاستمرار؛ لأنَّ الأصل عدم الزيادة، ولأنَّ (تَكْتُمُونَ) أدلُّ على الاستمرار وحده منها.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/77.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما بين سبحانه وتعالى لهم أولا على وجه الإجمال والإبهام، أن في الخليفة فضائل غائبة عنهم، ليستشرفوا إليها، أبرز لهم طرفا منها، ليعاينوه جهرة، ويظهر لهم بديع صنعه وحكمته، وتنزاح شبهتهم بالكلية، فقال: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
2. قال ابن جرير: وفي هذه الآيات العبرة لمن اعتبر، والذكرى لمن ادّكر، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عما أودع الله عز وجل في هذا القرآن، من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن، وذلك أن الله جل ثناؤه، احتج فيه لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، على من كان بين ظهرانيّه، من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب، التي لم يكن تعالى أطلع من خلقه إلّا خاصّا، ولم يكن مدركا علمه إلا بالأنباء والأخبار، لتتقرر عندهم صحة نبوته، ويعلموا أن ما آتاهم به فمن عنده.
3. قال الحافظ ابن كثير: وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام، وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك، فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون، ولهذا ذكر الله هذا المقام، عقيب هذا، ليبين لهم شرف آدم بما فضل عليهم في العلم ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ أي عرض أهل الأسماء، فالضمير للمسميات المدلول عليها ضمنا ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ أي التي علمتها آدم، وإنما استنبأهم، وقد علم عجزهم عن الإنباء، تبكيتا لهم، وإظهارا لعجزهم عن إقامة ما علقوا به رجاءهم من أمر الخلافة، فإن التصرف والتدبير، وإقامة المعدلة، بغير وقوف على مراتب الاستعدادات، ومقادير الحقوق، مما لا يكاد يمكن ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة ممن استخلفته، كما ينبئ عنه مقالكم، والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه، قد يتطرق إليه باعتبار ما يلزمه من الأخبار، فإن أدنى مراتب الاستحقاق، هو الوقوف على أسماء ما في الأرض، ولما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هفوة زلتهم، أنابوا إلى الله تعالى بالتوبة.
4. ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ إما بخلق علم ضروريّ بها فيه، أو إلقاء في روعه.
5. ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه، إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله تعالى، واعتراف منهم بالعجز والقصور عما كلفوه، وأنه العالم بكل المعلومات التي من جملتها استعداد آدم عليه السلام، لما نحن بمعزل من الاستعداد له، من العلوم الخفية المتعلقة بما في الأرض من أنواع المخلوقات التي عليها يدور فلك خلافة الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة، ومن جملته تعليم آدم عليه السلام ما هو قابل له من العلوم الكلية، والمعارف الجزئية، المتعلقة بالأحكام الواردة على ما في الأرض، وبناء أمر الخلافة عليها.
6. ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ﴾ أي أعلمهم ﴿بِأَسْمَائِهِمْ﴾ التي عجزوا عن علمها ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ﴾ عز وجل تقريرا لما مر من الجواب الإجماليّ واستحضارا له.
7. ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إيراد ما لا تعلمون بعنوان الغيب مضافا إلى السموات والأرض للمبالغة في بيان كمال شمول علمه المحيط، وغاية سعته مع الإيذان بأن ما ظهر من عجزهم، وعلم آدم عليه السلام، من الأمور المتعلقة بأهل السموات والأرض، وهذا دليل واضح على أن المراد بما لا تعلمون، فيما سبق، ما أشير إليه هناك، كأنه قيل: ألم أقل لكم إني أعلم فيه من دواعي الخلافة ما لا تعلمونه فيه، هو هذا الذي عاينتموه.
8. في الآية تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى، وهو أن يتوقفوا مترصدين لأن يبين لهم ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ عطف على جملة ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ لا على ﴿أَعْلَمُ﴾، إذ هو غير داخل تحت القول، أي ما تظهرونه بألسنتكم، وما كنتم تخفون في أنفسكم.
9. آدم اسم عبرانيّ مشتق من أدمه، وهي لفظة عبرانية معناها التراب، لأنه جبل من تراب الأرض، كما أن حوّاء كلمة عبرانية معناها (حيّ)، وسميت بذلك لأنها تكون أم الأحياء.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/288.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الذي يتبادر إلى الفهم من صيغة التعليم هو التدريج، قال تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾، وما كان ذلك إلا تدريجا وهذا ظاهر في جميع الآيات التي فيها لفظ التعليم كقوله: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾، وقوله: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ إلى غير ذلك.
2. لكن المتبادر من تعليم آدم الاسماء: أنه كان دفعة واحدة إذا أريد بآدم شخصه بالفعل أو بالقوة، ولذلك قال شيخنا: علم الله آدم كل شيء ولا فرق في ذلك بين أن يكون له هذا العلم في آن واحد أو في آنات متعددة، والله قادر على كل شيء، ثم إن هذه القوة العلمية عامة للنوع الآدمي كله، ولا يلزم من ذلك أن يعرف أبناؤه الأسماء من أول يوم، فيكفى في ثبوت هذه القوة لهم معرفة الأشياء بالبحث والاستدلال، علم الله آدم الاسماء على نحو ما بينا.
3. تقدم في بيان معنى الخليفة أن علم الملائكة وعملهم محدودان، وأن علم الانسان وعمله غير محدودين، وبهذه الخاصة التي فطر الله الناس عليها كان الانسان أجدر بالخلافة من الملائكة، وهذه هي حجة الله البالغة على الملائكة التي بينها لهم بعد ما نبههم إلى علمه المحيط بما لا يعلمون فقال: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ أي أودع في نفسه علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين، فالمراد بالأسماء المسميات عبر عن المدلول بالدليل، لشدة الصلة بين المعنى واللفظ الموضوع له، وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر، والعلم الحقيقي انما هو ادراك المعلومات أنفسها، والالفاظ الدالة عليها تختلف باختلاف اللغات التي تجرى بالمواضعة والاصطلاح فهي تتغير وتختلف والمعنى لا تغيير فيه ولا اختلاف.
4. ثم إن الاسم قد يطلق اطلاقا صحيحا على ما يصل إلى الذهن من المعلوم أي صورة المعلوم في الذهن، وبعبارة أخرى: ما به يعلم الشى، عند العالم، فاسم الله مثلا هو ما به عرفناه في أذهاننا، بحيث يقال: إننا نؤمن بوجوده، ونسند اليه صفاته.
5. فالأسماء هي ما به نعلم الأشياء، وهى العلوم المطابقة للحقائق، والاسم بهذا الاطلاق هو الذي جرى الخلاف في أنه عين المسمى أو غيره، وقد كان اليونانيون يطلقون على ما في الذهن من المعلوم لفظ الاسم.
6. الخلاف في أن ما في الذهن من الحقائق هو عينها أو صورتها مشهور كالخلاف في أن العلم عين المعلوم أو غير المعلوم، وأما الخلاف في أن الاسم الذي هو اللفظ عين المسمى أو غيره فهو ما أخطأ فيه الناظرون لعدم الدقة في التمييز بين الاطلاقات لبداهة أن اللفظ غير معناه بالضرورة، والاسم بذلك الاطلاق الذي ذكرناه هو الذي يتقدس ويتبارك ويتعالى: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ﴾، فاسمه جل شأنه ما يمكننا أن نعلم منه ما نعلم من صفاته؛ وما يشرق في أنفسنا من بهائه وجلاله، ولا مانع من أن نريد من الأسماء هذا المعنى، وهو لا يختلف في التأويل عما قالوه من إرادة المسميات ولكنه على ما نقول أظهر وأبين.
7. تقدم لنا في أول سورة الفاتحة أن اسم الله تعالى يسبح ويعظم ومنه إسناد التسبيح إليه قولا وكتابة، وتسبيحه وتعظيمه بدون ذكر اسمه خاص بالقلب، ومن تعمد إهانة اسم الله تعالى يكفر كمن يتعمد إهانة كتابه.
8. ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ أي أطلعهم اطلاعا اجماليا بالإلهام الذي يليق بحالهم على مجموع تلك الأشياء، ولو عرضت على نفوسهم عرضا تفصيليا لعلموها، ولم يكن علمهم محدودا، والحال أنه عرضها عليهم وسألهم عنها سؤال تعجيز ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ المسميات، والغرض من الانباء بأسمائها الابانة عن معرفتها.
9. ومعنى ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي إن كان هناك موقع للدهشة والاستغراب من جعل الخليفة في الأرض من البشر، وكان ما طرق نفوسكم وطرأ على أذهانكم أولا حالا محله، ومصيبا غرضه، ولما تعرفوا حقيقة ما يمتاز به الخليفة، فأنبئوني بأسماء ما عرضته عليكم.
10. ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾ أي تنزيها لك، فلفظ سبحان مصدر قلما يستعمل إلا مضافا كمعاذ الله، وهو منصوب بفعل مقدر، والمعنى نقدسك وننزهك أن يكون علمك قاصرا فتخلق الخليفة عبثا، أو تسألنا شيئا نفيده وأنت تعلم أننا لا نحيط بعلمه، ولا نقدر على الانباء به، وكلمة (سبحانك) تهدى إلى هذا فكأنها جملة وحدها، وهذه هي البلاغة مضروب سرادقها، مثمرة حدائقها، متجلية حقائقها.
11. القصة وردت مورد التمثيل، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
12. بعد تنزيه الباري تبرؤا من علمهم إلى علمه تعالى وحكمته فقالوا: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ وهو محدود لا يتناول جميع الأسماء ولا يحيط بكل المسميات ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ﴾ يخلقك ﴿الْحَكِيمُ﴾ في صنعك.
13. هذه التأكيدات تشعر بأن سؤال الاستغراب الأول كان يتنسم منه شيء وكذلك الجواب عن ﴿أَنْبِئُونِي﴾ بقولهم ﴿لَا عِلْمَ لَنَا﴾، ولذلك ختموا الجواب بالتبرؤ من كل شيء والثناء على الله تعالى بالعلم الثابت الواجب لذاته العلية، والحكمة البالغة اللازمة له، فصيغة (فعيل) تدل غالبا على الصفات الراسخة اللازمة، فكان جواب الملائكة بهذا مؤذنا بأنهم رجعوا إلى ما كان يجب أن لا يغفل مثلهم عنه، وهو التسليم لسعة علم الله وحكمته حتى يبلغ الكتاب أجله.
14. ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ فكان الانباء كما أراد الله تعالى وذكره لأجل ترتيب الحكم عليه بقوله ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ﴾ الله تعالى للملائكة ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ومن كان هذا شأنه فلا يخلق شيئا سدى ولا يجعل الخليفة في الأرض عبثا ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ والذى يبدونه هو ما يظهر أثره في نفوسهم، وأما ما يكتمون فهو ما يوجد في غرائزهم وتنطوي عليه طبائعهم
15. قد علم مما تقدم أن كل هذه الأقوال والمراجعات والمناظرات يفوض السلف الأمر إلى الله تعالى في معرفة حقيقتها، ويكتفون بمعرفة فائدتها وحكمتها، وقد تقدم بيان ذلك.
16. أما الخلف فيلجؤون إلى التأويل، وأمثل طرقه في هذا المقام التمثيل، وقد مضت سنة الله في كتابه بأن يبرز لنا الأشياء المعنوية، في قوالب العبارة اللفظية، ويجلى لنا المعارف المعقولة، بالصور المحسوسة، تقريبا للافهام، وتسهيلا للأعلام، ومن ذلك أنه عرفنا بهذه القصة قيمة أنفسنا، وما اودعته فطرتنا، مما نمتاز به على غيرنا من المخلوقات، فعلينا أن نجتهد في تكميل أنفسنا بالعلوم التي خلقنا مستعدين لها من دون الملائكة وسائر الخلق لتظهر حكمة الله فينا، ولعلنا نشرف على معنى إعلام الله الملائكة بفضلنا، ومعنى سجودهم لأصلنا: ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾
__________
(1) تفسير المنار: 1/264.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لا فارق بين أن يكون هذا العلم في آن واحد أو آنات متعددة، فالله قادر على كل شيء، وإن كان لفظ (علّم) يشعر بالتدريج كما يشهد له نظائره من نحو: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ ـ ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ إلى نحو ذلك من الآيات التي فيها لفظ التعليم، لكن المتبادر هنا أنه كان دفعة واحدة.
2. (وعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) اسم الله هو ما به عرفناه في أذهاننا بحيث يقال إنا نؤمن بوجوده، وهو بهذا الإطلاق هو الذي يتقدس ويتبارك ويتعالى كما جاء في قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ ـ ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾
3. أو يقال المراد من الأسماء المسميات، وعبر بها عنها للصلة الوثيقة بين الدالّ والمدلول وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر، وأيّا كان فإن العلم الحقيقي إنما هو إدراك المعلومات، أما الألفاظ الدالة عليها فهي تختلف باختلاف اللغات التي تجرى بالمواضعة والاصطلاح.
4. والله تعالى علم آدم الأجناس التي خلقها، وألهمه معرفة ذواتها وخواصها وصفاتها وأسمائها.
5. ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ أي ثم أطلعهم على مجموعة تلك الأشياء اطلاعا إجماليا بالإلهام أو غيره مما يليق بحالهم، وربما كان بعرض نماذج من كل نوع يتعرف منها أحوال البقية وأحكامها.
6. الحكمة في التعليم والعرض تشريف آدم واصطفاؤه، كيلا يكون للملائكة مفخرة عليه بعلومهم ومعارفهم، وإظهار الأسرار والعلوم المكنونة في غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده.
7. ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ أمر الملائكة بهذا الإنباء إظهارا لعجزهم عن معرفتها، وإشارة إلى أن الخلافة في الكون والتصرف فيه وتدبير شئونه وإقامة العدل فيه تكون بعد الوقوف على مراتب الاستعداد ومعرفة من يكون أهلا للخلافة.
8. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي إن كان هناك مجال للدهشة في كون الخليفة من البشر، وفي أن ما اختلج في خواطركم من الشبهة أصاب الصواب، وحلّ محله من القبول، فأنبئوني بأسماء ما عرضته عليكم.
9. نسترشد بهذه الآية إلى أن المدّعى لشيء يطالب بالحجة والبرهان تأييدا لما ادّعى، فالملائكة قد بحثوا عن سرّ الغيب فقرعوا بالعيان، فكأنه قيل لهم: أنتم لا تعلمون أسرار ما تعاينون، فكيف تتكلمون في أسرار ما لا تعاينون؟.
10. في قوله (هؤلاء) إشارة إلى أنه سمى الأشياء التي وقع عليها حسه كالطيور والبهائم وأنواع الحيوان التي أمامه.
11. ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾ أي نقدسك عما لا يليق بك من قصور العلم فتخلق الخليفة عبثا خاليا من الحكمة والفائدة، أو تسألنا عن شيء نفيده، وأنت تعلم أن علمنا لا يحيط به ولا نقدر على الإنباء به.
12. كلمة (سبحانك) تقدّم في معرض التوبة كما قال موسى عليه السلام: ﴿سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ﴾، وقال يونس: ﴿سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ .
13. ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ وهو علم محدود لا يتناول جميع الأشياء، ولا يحيط بكل المسميات، وهذا منهم اعتراف بالعجز عما كلّفوه، وإشعار بأن سؤالهم كان سؤال مستفسر لا سؤال معترض، وفيه ثناء على الله بما أفاض عليهم من العلم مع تواضع وأدب، فكأنهم قالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا بحسب استعدادنا، ولو كنا مستعدين لأكثر من ذلك لأفضت علينا.
14. أكدوا ما تقدم بقولهم: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ وفي هذا الجواب منهم إيذان بأنهم رجعوا إلى ما كان يجب عليهم ألا يغفلوا عن مثله، من التفويض لواسع علم الله وعظيم حكمته، بعد أن تبين لهم ما تبين، وإيماء إلى أن الإنسان ينبغي له ألا يغفل عن نقصانه، وعن فضل الله عليه وإحسانه، ولا يأنف أن يقول لا أعلم إذا لم يكن يعلم، ولا يكتم الشيء الذي يعلم.
15. ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ أي أعلمهم بأسمائهم التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها.
16. قال ﴿أَنْبِئْهُمْ﴾ دون أنبئني، للإشارة إلى أن علمه عليه السلام بها ظاهر لا يحتاج إلى ما يجرى مجرى الامتحان، وإلى أنه جدير أن يعلّم غيره، فتكون له منّة المعلم المفيد، ولهم مقام المتعلم المستفيد، ولئلا تستولى عليه الهيبة، فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره.
17. ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ أي فلما أنبأهم بأسمائهم وبين لهم أحوال كل منهم وخواصه وأحكامه، قال تعالى للملائكة: قد قلت لكم إني أعلم ما غاب في السموات والأرض فلا أخلق شيئا سدى، ولا أجعل الخليفة في الأرض عبثا وأعلم ما تظهرون من نحو قولكم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ وما كنتم تكتمون من نحو قولكم: لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا، فنحن أحقاء بالخلافة في الأرض.
18. في هذه الآيات دلالة على شرف الإنسان على غيره من المخلوقات، وعلى فضل العلم على العبادة، فإن الملائكة أكثر عبادة من آدم ولم يكونوا أهلا لاستحقاق الخلافة، وعلى أن شرط الخلافة العلم بل هو العمدة فيها، وعلى أن آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم، والأفضل هو الأعلم بدليل قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ .
19. في استخلاف آدم في الأرض معنى سام من الحكمة الإلهية خفى على الملائكة، فإنه لو استخلفهم فيها لما عرفوا أسرار هذا الكون وما أودع فيه من الخواص، فإنهم ليسوا بحاجة إلى شيء مما في الأرض، إذ هم على حال يخالف حال الإنسان، فما كانت الأرض لتزرع بمختلف الزروع، ولا تستخرج المعادن من باطنها، ولا تعرف خواصها الكيمائية والطبيعية، ولا تعرف الأجرام الفلكية ولا المستحدثات الطبية، ولا شيء من العلوم التي تفنى السنون ولا يدرك الإنسان لها غاية.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/83.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ها نحن أولاء ـ بعين البصيرة في ومضات الاستشراف ـ نشهد ما شهده الملائكة في الملأ الأعلى.. ها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري، وهو يسلمه مقاليد الخلافة، سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات، سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها ـ وهي ألفاظ منطوقة ـ رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة.
2. وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض، ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى، لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات، والمشقة في التفاهم والتعامل، حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه.. الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة! الشأن شأن جبل، فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل! الشأن شأن فرد من الناس فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس.. إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة! وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات.
3. الملائكة عليهم السلام لا حاجة لهم بهذه الخاصية، لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم، ومن ثم لم توهب لهم، فلما علم الله آدم هذا السر، وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء، لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للأشياء والشخوص.. وجهروا أمام هذا العجز بتسبيح ربهم، والاعتراف بعجزهم، والإقرار بحدود علمهم، وهو ما علمهم.. وعرف آدم.. ثم كان هذا التعقيب الذي يردهم إلى إدراك حكمة العليم الحكيم: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/58.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في هذه الأسماء التي علمها الله سبحانه آدم ـ أعنى الإنسان ـ والرأي في هذا، أن الله سبحانه أودع في الإنسان القدرة على البحث والنظر في الكشف عن خصائص الأشياء، وعللها، وأسبابها، والوقوف على أسرارها المودعة فيها، وحلّها وتركيبها.. وبهذه القدرة عرف حقائق كثير من الأشياء، وهو جادّ أبدا في الكشف عن المزيد منها، يوما بعد يوم، وجيلا بعد جيل، وعصرا إثر عصر! وكلما عرف حقيقة وضع لها اسما تعرف به.. فالمراد بالأسماء هنا هو مسميات تلك الأسماء، والمراد بالمسميات، خصائص هذه المسميات، وحقائقها.
2. الأسماء كلها، لا يراد بها أسماء جميع الموجودات في هذا الوجود، إذ أن آدم لا يمكن أن يحيط علمه بكل موجود، ظاهر أو خفى، قريب أو بعيد.. وإنما المراد ـ والله أعلم ـ المسميات التي تكشفت حقائقها لآدم وذريته، واهتدوا إلى التعرف عليها، وتحديد موقفهم منها، إيجابا أو سلبا.. ففي دائرة هذه المعرفة كان امتحان الملائكة، وكان عجزهم، وكان إعلام آدم إياهم بما عجزوا عن معرفته! فكان ذلك أبلغ ردّ على اعتراض الملائكة، وجلاء الموقف الذي وقفوه من آدم.
3. المراد بآدم هنا هو الإنسانية كلها، وكان امتحان الملائكة فيما عرف أبناء آدم من أسرار هذا الوجود.
4. ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، أي عرض الله مسميات هذه الأسماء، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾، فالمعروض لنظر الملائكة ذوات مشخصة، يراد من الملائكة أن يضعوا لها أسماء، تدلّ عليها، وتكشف عن حقيقة كل واحد منها.
5. الأشياء المعروضة هنا عاقلة، أو في حكم العاقلة، لأنها من صنعة العقلاء حيث خوطبت خطاب العقلاء، وحيث أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله: ﴿عَرَضَهُمْ﴾ .. ﴿هَؤُلَاءِ﴾، ذلك هو الوجه الأقرب لملفوظ الآية، وليكن في تقديرنا أن الزمن الذي احتوى هذا الحدث ليس ابن لحظة أو ساعة، فقد يمتد إلى مئات السنين وآلافها.. فإذا آذن الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة، فقد تمضى مئات السنين وآلافها قبل أن يظهر هذا الخليفة.. ثم إذا ظهر فقد تمضى مئات السنين وآلافها قبل أن يتحدث الملائكة إلى الله بهذا الحديث عن آدم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ وذلك بعد أن عاش الإنسان على هذه الأرض، وأحدث ما أحدث فيها من خير وشر! فآدم الذي واجه الملائكة، قد لا يكون أول السلالة الإنسانية، بل لعله في حلقة متأخرة شيئا ما عن الحلقة الأولى لهذه السلالة
6. إن لآدم ـ في نظرنا ـ مفهوما غير هذا المفهوم الذي تحدث عنه روايات المفسرين التي تعتمد في هذا على الإسرائيليات، وعلى ما بقي من أساطير الأقدمين من قصة (الخلق) ومكان آدم فيها.
7. حين أصبحت الأرض صالحة لاستقبال الكائن البشرى، أعلن الله تعالى في الملأ الأعلى هذا الخبر، وآذن الملائكة بأن كائنا بشريا سوف يظهر في الكوكب الأرضي، وسيتولى قيادة هذا الكوكب، ويكون خليفة الله فيه! والآية صريحة في أن هذا الكائن البشرى أرضىّ المولد، والنشأة، والموطن، وأنه من طينة الأرض نشأ، وفى الأرض يتقلب، وفى شئونها يتصرف.. ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ .. هكذا من أول الأمر.
8. لم يكن آدم ابن السماء فلما عصى ربه طرد منها ليكون خليفة الله على الأرض ولو كان ذلك كذلك لما كان للملائكة أن ينفسوا على آدم هذه الخلافة، التي تبدو في هذا التصور عقوبة وتجريما، أكثر منها حباء وتكريما.
9. ولكن آدم ـ وهو ابن الماء والطين ـ لا يتوقع منه إلا أن ينضح بما في الماء والطين، وبما يتخلّق من الماء والطين، من طبائع بهيمية، تغرى بالعدوان والفساد.. وهذا ما جعل الملائكة يقولون هذا القول بين يدى الله، في آدم وما يتوقع منه، فما هو إلا إنسان في مسلاخ حيوان ذي مخالب وأنياب! وذلك قبل أن يكشف الله لهم عن ملكات أخرى لهذا الكائن الترابي، لا يملكها الملائكة، في عالمهم العلوي، عالم النور والصفاء! وتلك آيات بينات، تشهد لقدرة الخالق العظيم.
10. استمع إلى ما يحدث به القرآن عن خلق الإنسان:
أ. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾
ب. ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ .
ج. ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾
د. ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾
هـ. ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ﴾
و. ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ﴾
ز. ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾
ح. ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾
ط. ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾
11. الطين كما تصرح به الآيات هنا، هو الأصل الذي خلق منه الإنسان، وأن هذا الطين قد تقلب في أطوار عديدة، حتى ظهر منه هذا الإنسان.. فهناك: التراب، وهناك الطين، والطين اللازب، ثم الصلصال، ثم الحمأ المسنون.. فالتراب هو المادة الأولى في خلق الإنسان، ثم يلبس التراب طورا آخر، هو الطين، وينتقل الطين إلى طور جديد هو الصلصال، ثم الصلصال إلى حمأ مسنون.. وهكذا يتنقل التراب في أطوار حتى يكون إنسانا.. والحمأ المسنون، هو الطين بعد أن يتخمر ويتعفّن، وبين طور الطين والحمأ المسنون طور آخر هو الصلصال، الذي يتحول فيه الطين إلى مادة من الزبد تشبه الفخّار.
12. بلغة العلم: يكون التراب فالطين، فالصلصال، فالحمأ المسنون، أربعة أطوار تتنقل فيها بذرة الحياة، وإن هذا التخمر والتعفّن الذي أصاب الطين فجعله (الحمأ المسنون) لهو بشائر الحياة، إذ هو (البكتريا) التي تولدت منها خمائر الحياة، وظهرت منها جرثومتها الأولى.
13. قوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ يتوافق مع مقررات العلم الحديث التي تقول: إن الحياة ظهرت على هذه الأرض أول ما ظهرت، على شواطئ البحار، حين يتكون الطين، فالزبد، فالحمأ المسنون، فالطحالب، فالنبات، فالحيوان، فالإنسان.. هكذا يقرر العلم الحديث في نشوء الحياة وتطورها، وهو ـ أي العلم ـ يرى أن هذه الأطوار قد سارت عبر ملايين السنين حتى أثمرت شجرتها الأولى أكمل وأكرم ثمرة.. هي الإنسان.
14. القرآن الكريم، وإن لم يتعرض لهذه الشجرة التي كانت منها أصول الحياة وفروعها، والتي كان الإنسان ـ فيما نرى ـ فروعا من فروعها وثمرة من ثمارها ـ لم يجئ بما ينفى هذه الصلة، وتلك القرابة، التي بين الإنسان وبين عوالم الأحياء.. بل إنه ـ على عكس هذا ـ قد أشار في أكثر من موضع إلى ما يمكن أن يستقيم منه فهم واضح لتلك الصلة الوثيقة، بين الإنسان وعالم الحياة كله، ففي قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ دلالة قوية على أن الأحياء كلها ـ ومنها الإنسان ـ مخلّقة من مادة واحدة.. هي الماء.. والماء هو المادة التي يتكون منها الطين، إذ لا وجود للطين إلا مع الماء، وبالماء.
15. قد نجد عند بعض المفسرين لمحات ذكية، تشير إلى شيء من هذا الذي أصبح من مقررات العلم الحديث، فالبيضاوي يقول في تفسيره لقوله تعالى: ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ : أي من طين تغير واسودّ من طول مجاورة الماء.
16. القول بانتماء الإنسان في أصل نشأته إلى شجرة الحياة العامة النابتة في الأرض، من الأرض، لا يعارض نصا من نصوص القرآن، بل إنه ليلتقي معها في يسر ووضوح.. فإذا كان الإنسان ـ آدم ـ خلق من طين، فالأحياء كلها ـ نباتا وحيوانا ـ مخلوقة من طين! فالإنسان إذن هو ابن هذه الأرض: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾
17. وأكثر من هذا، يحدّث القرآن في صراحة، أن الإنسان ـ أي أصله ـ نبتة من نبات الأرض: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾، ولو كان الإنسان من طينة غير طينة هذه الأرض، لما كان له سبيل إلى الحياة على هذه الأرض والقرار فيها، والانتفاع بموجوداتها، من جماد، ونبات، وحيوان!
18. ليس ذلك بالذي يزرى بالإنسان، أو يحط من قدره، فمن هذا الطين تتخلق أكرم الجواهر، وأنفس المعادن.. من لؤلؤ ومرجان، وذهب، وفضة، وغيرها.. والإنسان هو الذي يضع نفسه حيث يشاء.. إن شاء كان جوهرا كريما، وإن أراد كان طينا لازبا أو حمأ مسنونا أو حجرا صلدا، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ يقول: الناس معادن، خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام).. ففي هذه الكلمة النبوية الجامعة، ما يشير إلى مدلول الآيات القرآنية، التي تتحدث عن خلق آدم، والمادة التي خلق منها، على الوجه الذي فهمناها عليه!
19. يقول الفيلسوف المسلم محمد إقبال في معرض حديثه عن قصة آدم، كما جاءت في القرآن الكريم، وفى التوراة.. يقول: وهكذا نرى أن قصة هبوط آدم كما جاءت في القرآن لا صلة بها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب، وإنما أريد بها ـ بالأخرى ـ بيان ارتقاء الإنسان، من بدائية الشهوة الغريزية، إلى الشعور بأن له نفسا حرة قادرة على الشك والعصيان.. وليس يعنى الهبوط، أيّ فساد أخلاقي، بل هو انتقال الإنسان من الشعور البسيط إلى ظهور أول بارقة من بوارق الشعور بالنفس، هو نوع من اليقظة في حلم الطبيعة، أحدثتها خفقة من الشعور بأن للإنسان صلة علّيّة شخصية بوجوده)
20. هذا الفهم الذي فهمه (إقبال) لآيات القرآن الكريم في خلق آدم، هو ـ كما ترى ـ أقرب فهم إلى منطوق كلمات القرآن، ودلالتها اللغوية، كما أن هذا الفهم الذي يقف بآيات القرآن عند هذه الحدود:
أ. يحمى ينابيع القرآن الصافية، من هذا الغثاء الذي يلقى به في ساحتها، من تلقيات الأوهام والخرافات التي تتناقلها أجيال الناس، وتلونها بألوان وأصباغ، تكاد تغطى سماء آيات الكتاب الكريم، وتحجب أضواءها.
ب. ثم إنه بمثل هذا الفهم الملتزم لحدود المعنى اللغوي لآيات الكتاب الكريم؛ يظل الطريق مفتوحا بين آيات الكتاب وأنظار الناظرين فيها، كلما جدّ للناس فهم في الحياة، وكلما انكشف لهم سر من أسرارها.. حيث يمكن عرض كل جديد، على القرآن، في حدود منطوق كلماته ومفهومها، فيقبل من هذا الجديد ما يقبل، ويرفض ما يرفض، دون أن يكون عليه من ذلك شيء.. بل يظل في عليائه، مشرفا مشرقا، تأخذ العيون من ضوئه، على قدر استعدادها وقوتها.
21. نظرية (دارون) في أصل الأنواع، وفى النشوء والارتقاء كانت ولا تزال عند كثير ممن أخذوا فهم الآيات القرآنية في خلق آدم، عن هذه النقول الخرافية، وهذه المقولات الأسطورية التي جمعها المفسرون والقصّاص، من كل ساقطة ولاقطة ـ كانت ولا تزال عند كثير من هؤلاء، من الكفريات، والإلحاديات، التي إن جرت على لسان، كان مجرد جريانها عليه كفرا وإلحادا، ولهم عذرهم في هذا، فالذين قرؤوا في كتب التفاسير والقصص، أن آدم خلق في الملأ الأعلى، وأن طينته غرست في جنة عدن، أو جنة الخلد، أو غيرهما من الجنان ـ على اختلاف روايات المفسرين في هذا ـ هؤلاء الذين قرؤوا هذه المقولات في نشأة آدم، يرون أن كل قول يخالف هذا، هو خروج على الدّين، بل خروج من الدين! في حين أن هذا الأمر كلّه ليس فيه شيء من الدين، ولهذا أباح المفسرون أن يترخصوا في الحديث عنه، وألا يلتزموا فيه حدّا، فكان لكل منهم مقولاته، التي قرأها أو سمعها، أو توهمها، لأن هذا الأمر ليس من باب التشريع والأحكام، فتتحرّى له الصحة والضبط.
22. على أن مقولات (دارون) التي أنكرها علماء الدين، وهاجوا وماجوا من أجلها، إنما تقوم على علم وتجربة، وقد يكون فيها قليل أو كثير من الخطأ في الاستنتاج، ولكن الذي ينبغي أن يكون عليه موقف العقل إزاءها، هو الاحترام لها، والتقدير للجهد الذي بذل فيها، وما دامت ترجع إلى التجربة، وتحتكم إلى العقل، فإن كل عقل مدعوّ إلى الوقوف عندها، والنظر فيها، وأخذ ما يطمئن إليه منها.. أما صدّ العقل عنها، وفراره من بين يديها، فذلك إزراء بالعقل، وامتهان له، وتعطيل للوظيفة التي خلق لها، وخروج على دعوة القرآن التي دعاه إليها.
23. ثم إن (داروين) الذي أثار هذا الإعصار العاصف، في عقول رجال الدين ـ من كل دين ـ لم يكن منكرا لله، ولا كافرا به، بل إنه ـ فيما يروى عنه ـ كان من أشد الناس إيمانا بالله، وشهودا له في آياته، التي رآها رأى العين، فيما أبدع الخالق وصوّر، من مخلوقات متطورة، تتحرك في مسار الحياة، من الطين، إلى أن تكون إنسانا عاقلا، حكيما عالما، نبيّا.. يطاول السماء فيتناول بيديه كتاب الله، ويسمع بأذنيه كلمات الله! يقول (داروين) في حديثه عن أصل مذهبه: إن المشابهة، وأسبابا أخرى، تدعونا ضرورة إلى الاعتقاد بأن الأحياء أصلها واحد، وألّا فاصل جوهريا بين العالمين: عالم النبات، وعالم الحيوان)، ثم يقول: إني أرى، فيما يظهر لي أن الأحياء عاشت على هذه الأرض من صورة واحدة أولية، نفخ الخالق فيها نسمة الحياة)
24. إذا كان لأحد أن يقف من (دارون) موقف الهلع والخوف، على معتقده الديني، فليس هو المسلم، الذي يعترف دينه بالعقل، وبحقه في البحث والنظر، وفى احترام مؤدّى هذا البحث والنظر، الذي لا يقوم على هوى، ولا يستند إلى سلطان غير سلطان الحجة والبرهان!
25. ثم إنه إذا كان لأى دين أن يجافى مقولات (داروين) أو أن يضيق بها فليس هو الدين الإسلامي، الذي تكاد تنطق آياته بما أعيا (داروين) والعلم الحديث، الوقوف عليه، من أسرار الخلق وعظمته! ومع ما نعرف من أن القرآن الكريم ليس كتاب علم، وأن الرسالة الإسلامية لم تجيء لتقرير حقائق علمية ـ فإن في عرضه لمشاهد الكون وفى كشفه عن مظاهر الوجود، لمحات مضيئة، وإشارات مشرقة، يجد فيها العلم الحديث مستندا لمقولاته، ومجازا لمقرراته، سنرى في قصة آدم، التي نحن بصددها، أنها تسبق ما يقرره (داروين) في نظرياته، عن التطور وأصل الأنواع.
26. ربما رأى بعض علمائنا أن في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾، وفيما جاء من الآيات التي تحدّث عن دعوة الله سبحانه وتعالى الملائكة أن يسجدوا لآدم، عندما ينفخ فيه الحق جل وعلا من روحه أن في هذا ما يدل على أن آدم قد انفرد بخلق خاص، دون سائر المخلوقات الأرضية، وأنه لهذا استحق التكريم والاحتفاء! ونقول: إن ما ورد في الآية السابقة وأمثالها، إن دلّ على خصّيصة لآدم، فإنه لا ينفى أن يكون ذلك قد كان حين وصل تطور الحياة بالأحياء إلى هذه المرحلة، التي بلغ فيها التطور غايته، بظهور هذه السلالة الناضجة من ثمرات الحياة، وبزوغ أول مواليد النوع الإنساني، ويكون معنى قوله تعالى: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ أنه إذا بلغ الكتاب أجله بهذا الطين، الذي سرت فيه الحياة، وتوالدت منه الأحياء، إلى أن آذنت في تطورها بظهور النوع البشرى الذي تهيأ لقبول النفخة الإلهية فيه ـ ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ إذا هو تلقى النفخة من روح الحق جلّ وعلا، وتكون تلك النفخة هي منحة السماء للأرض، في يوم ميلادها لمولودها الذي يدبّر أمرها، ويكون خليفة الله عليها.
27. لعل في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ ما يشعر بهذا المعنى، وهو أن آدم لم يجيء من الطين مباشرة، وإنما كان ذلك بعد سلسلة طويلة من التطورات، وبعد عمليات معقدة من التصفية والانتخاب، استمرت ملايين السنين، حتى انتهت بظهور الإنسان على تلك الصورة التي علا بها جميع أبناء سلالاته، وكان أهلا لتلقى النفخة الإلهية يوم مولده، وكأنها التاج الذي توّج به ملكا على العالم الأرضي كله، وهذا ما تشير إليه أيضا الآية الكريمة: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾
28. إن النظر العابر في عالم الأحياء يعطى دلالة قاطعة على أن الإنسان هو من طينة الأسرة الحيوانية.. فهذا التشابه الكبير في تركيب الأعضاء، والحواس، وعملية الهضم، والتنفس، ومجرى الدم في العروق، ثم في عملية التناسل في مراحلها المختلفة.. كل هذا التشابه يقطع بأن الإنسان حيوان قبل أن يكون إنسانا! وإنك لتجد الإنسان كله في أدنى المخلوقات، وفى أرقاها.. من الدودة والحشرة، إلى القرد والغوريلا.
29. على هذا، فإننا لا نستطيع أن نقبل أقوال المفسرين في خلق آدم، على تلك الصورة التي يرسمونها للأسلوب الذي ولد به.. فمثلا، (القرطبي) يقول في تفسيره عن خلق آدم: فخلقه الله بيده، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة)، وهذا القول وأمثاله إن هو إلا من موارد قصص الأولين وأساطيرهم، وليس في آيات القرآن الكريم دلالة عليه، من قريب أو بعيد.
30. ننتهى من هذا إلى قول واحد في هذه القضية، وهو الاحتفاظ بها في الإطار القرآني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. فآدم مخلوق من (تراب) أو من (طين) أو (حمأ مسنون) أو من (طين لازب) أو من (سلالة من طين) أو من (صلصال كالفخار) أو نبت من الأرض نباتا.. فهذا هو الذي يقوله القرآن في خلق آدم! ثم ليقل العلم ما يشاء من مقولات، فإن مصير العلم وما يقع له من حقائق ثابتة في هذا الشأن؛ لا بد أن ينتهى إلى تلك الصورة التي رسمتها الآيات القرآنية الكريمة، لهذه القضية!
31. هذا الامتحان الذي يعقد في الملأ الأعلى، يكشف عن الاستعداد الفطري لتفوق آدم على الملائكة في العلم الذاتي، الذي يكتسبه بالنظر والملاحظة والتجربة، وبالمعاناة والمجاهدة، الأمر الذي ليس من طبيعة الملائكة أن تعالجه وتعانيه.
32. في آدم ـ بما أودع الله فيه من قوى ـ قدرة على الترقي والاستزادة من المعارف، بتوجيه ملكاته إلى النظر في هذا الوجود، وملاحظة الأسباب والمسببات، وربط العلل بالمعلولات، وبهذا يتنقل الإنسان من طور الطفولة إلى الصّبا والشباب والاكتهال والشيخوخة، وفى كل طور يحمل معارف جديدة إلى الطور الذي يليه، تعينه على اكتساب معارف أخرى، ينتقل بها إلى طور آخر، وهكذا.. ثم هذا التطور الخلّاق الذي يقع في حياة الإنسان الواحد، يقع في الجنس البشرى كله، حيث يتلقى كل جيل من الجيل الذي قبله جميع معارفه، وتجاربه، ويضيف إليها معارف جديدة وتجارب جديدة، يتركها ميراثا للجيل الذي بعده.. وهكذا.
33. أما الملائكة.. فهم على حال واحدة، لا يطرأ عليها تحول ولا تبدل.. فليس لهم طفولة وصبا وشباب وشيخوخة، كما أنه ليس لهم مع الزمن زيادة في علم أو معرفة عن طريق الكسب الذاتي، وإنما يجيء علمهم ومعرفتهم بما يتلقونه من الله تلقيا مباشرا: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ .. وبهذا اختلف الناس، فكان كلّ إنسان عالما وحده، له وجوده الذاتي، وله تفكيره، وإرادته، ومنزعه.. فكان فيهم المؤمن والكافر، والمهتدى والضال، والعالم والجاهل.
34. أما الملائكة فهم نمط واحد، من الصفاء، والبهاء، والطاعة المطلقة، المستسلمة، التي لا تنزع عن إرادة، ولا ترجع إلى نظر وتقدير، ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾!.. وعلى هذا، فالملائكة ـ وإن شرفوا قدرا، وعلوا منزلة ـ ليسوا أهلا للخلافة على هذا الكوكب الأرضي.. لأن منصب الخليفة يقتضى استقلالا في تصريف الشئون فيما هو خليفة فيه، ومتسلط عليه، كما يقتضى تفكيرا وتقديرا للأمور، ثم إرادة تمضى ما انعقد عليه الرأي شأنه في هذا شأن الوكيل، الذي يتولّى عن الأصيل التصرف فيما وكّل فيه، دون الرجوع إلى موكّله، والإنسان، بما له من عقل، وإرادة، هو المستأهل لهذه الخلافة على الأرض، يتولاها عن الله، ويتولّى ضبط أمورها وسياسة شئونها.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/53.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ معطوف على قوله: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30] عطف حكاية الدليل التفصيلي على حكاية الاستدلال الإجمالي الذي اقتضاه قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ فإن تعليم آدم الأسماء وإظهار فضيلته بقبوله لهذا التعليم دون الملائكة جعله الله حجة على قوله لهم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي ما لا تعلمون من جدارة هذا المخلوق بالخلافة في الأرض.
2. عطف ذكر آدم بعد ذكر مقالة الله للملائكة وذكر محاورتهم يدل على أن هذا الخليفة هو آدم وأن آدم اسم لذلك الخليفة وهذا الأسلوب من بديع الإجمالي والتفصيل والإيجاز كما قال النابغة:
فقلت لهم لا أعرفن عقائلا... رعابيب من جنبي أريك وعاقل
الأبيات، ثم قال بعدها:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي... على وعل في ذي المطارة عاقل
مخافة عمرو أن تكون جياده... يقدن إلينا بين حاف وناعل
فدل على أن ما ذكره سالفا من العقائل التي بين أريك وعاقل ومن الأنعام المغتنمة هو ما يتوقع من عزو عمرو بن الحرث الغساني ديار بني عوف من قومه.
3. تعليم الله تعالى آدم الأسماء:
أ. إما بطريقة التلقين بعرض المسمى عليه، فإذا أراه لقن اسمه بصوت مخلوق يسمعه، فيعلم أن ذلك اللفظ دال على تلك الذات بعلم ضروري.
ب. أو يكون التعليم بإلقاء علم ضروري في نفس آدم، بحيث يخطر في ذهنه اسم شيء عندما يعرض عليه، فيضع له اسما بأن ألهمه وضع الأسماء للأشياء، ليمكنه أن يفيدها غيره، وذلك بأن خلق قوة النطق فيه، وجعله قادرا على وضع اللغة، كما قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: 2، 3]
4. جميع ذلك تعليم، إذ التعليم مصدر علّمه إذا جعله ذا علم، مثل أدّبه، فلا ينحصر في التلقين، وإن تبادر فيه عرفا.
5. أيّا ما كانت كيفية التعليم، فقد كان سببا لتفضيل الإنسان على بقية أنواع جنسه بقوة النطق، وإحداث الموضوعات اللغوية للتعبير عما في الضمير، وكان ذلك أيضا سببا لتفاضل أفراد الإنسان بعضهم على بعض بما ينشأ عن النطق من استفادة المجهول من المعلوم وهو مبدأ العلوم.. فالإنسان لما خلق ناطقا معبرا عما في ضميره فقد خلق مدركا أي عالما وقد خلق معلما، وهذا أصل نشأة العلوم والقوانين وتفاريعها.
6. ليس في هذه الآية دليل على أن اللغات توقيفية ـ أي لقّنها الله تعالى البشر على لسان آدم ـ ولا على عدمه لأن طريقة التعليم في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ﴾ مجملة محتملة لكيفيات، والناس متفقون على أن القدرة عليها إلهام من الله، وذلك تعليم منه سواء لقن آدم لغة واحدة أو جميع لغات البشر وأسماء كل شيء أو ألهمه ذلك أو خلق له القوة الناطقة، والمسألة مفروضة في علم الله وفي أصول الفقه وفيها أقوال ولا أثر لهذا الاختلاف لا في الفقه ولا في غيره، قال المازري: إلا في جواز قلب اللغة والحق أن قلب الألفاظ الشرعية حرام وغيره جائز)، ولقد أصاب المازري، وأخطأ كل من رام أن يجعل لهذا الخلاف ثمرة غير ما ذكر، وفي استقراء ذلك ورده طول، وأمره لا يخفى عن سالمي العقول.
7. إذا نظرت إلى المعارف كلها وجدتها وضع أسماء لمسميات، وتعريف معاني تلك الأسماء وتحديدها لتسهيل إيصال ما يحصل في الذهن إلى ذهن الغير، وكلا الأمرين قد حرمه بقية أنواع الحيوان، فلذلك لم تتفاضل أفراده إلا تفاضلا ضعيفا بحسن الصورة أو قوة المنفعة أو قلة العجمة بله بقية الأجناس كالنبات والمعدن.
8. بهذا تعلم أن العبرة في تعليم الله تعالى آدم الأسماء حاصلة:
أ. سواء كان الذي علّمه إياه أسماء الموجودات يومئذ أو أسماء كل ما سيوجد.
ب. وسواء كان ذلك بلغة واحدة هي التي ابتدأ بها نطق البشر منذ ذلك التعليم، أم كان بجميع اللغات التي ستنطق بها ذرياته من الأمم.
ج. وسواء كانت الأسماء أسماء الذوات فقط، أو أسماء المعاني والصفات.
د. وسواء كان المراد من الأسماء الألفاظ الدالة على المعاني، أو كل دال على شيء لفظا كان أو غيره من خصائص الأشياء وصفاتها وأفعالها.
9. محاولة تحقيق ذلك لا طائل تحته في تفسير القرآن، ولعل كثيرا من المفسرين قد هان عندهم أن يكون تفضيل آدم بتعليم الله متعلقا بمعرفة عدد من الألفاظ الدالة على المعاني الموجودة فراموا تعظيم هذا التعليم بتوسيعه وغفلوا عن موقع العبرة وملاك الفضيلة، وهو إيجاد هاته القوة العظيمة التي كان أولها تعليم تلك الأسماء، ولذلك كان إظهار عجز الملائكة عن لحاق هذا الشأو بعدم تعليمهم لشيء من الأسماء، ولو كانت المزية والتفاضل في تعليم آدم جميع ما سيكون من الأسماء في اللغات لكفى في إظهار عجز الملائكة عدم تعليمهم لجمهرة الأسماء، وإنما علم آدم أسماء الموجودات يومئذ كلها ليكون إنباؤه الملائكة بها أبهر لهم في فضيلته.
10. الأسماء جمع اسم، وهو في اللغة لفظ يدل على معنى يفهمه ذهن السامع، فيختص بالألفاظ سواء كان مدلولها ذاتا وهو الأصل الأول، أو صفة أو فعلا فيما طرأ على البشر الاحتياج إليه في استعانة بعضهم ببعض، فحصل من ذلك ألفاظ مفردة أو مركبة، وذلك هو معنى الاسم عرفا إذ لم يقع نقل.
11. ما قيل: إن الاسم يطلق على ما يدل على الشيء، سواء كان لفظه أو صفته أو فعله توهم في اللغة، ولعلهم تطوحوا به إلى:
أ. أن اشتقاقه من السمة وهي العلامة، وذلك على تسليمه لا يقتضي أن يبقى مساويا لأصل اشتقاقه.
ب. وقد قيل: هو مشتق من السمو، لأنه لما دل على الذات فقد أبرزها.
ج. وقيل: مشتق من الوسم لأنه سمة على المدلول.
والأظهر أنه مشتق من السّمو وأن وزنه سمو ـ بكسر السين وسكون الميم ـ لأنهم جمعوه على أسماء، ولولا أن أصله سمو لما كان وجه لزيادة الهمزة في آخره فإنها مبدلة عن الواو في الطرف إثر ألف زائدة ولكانوا جمعوه على أوسام.
12. الظاهر أن الأسماء التي علمها آدم عليه السلام هي ألفاظ تدل على ذوات الأشياء التي يحتاج نوع الإنسان إلى التعبير عنها لحاجته إلى ندائها، أو استحضارها، أو إفادة حصول بعضها مع بعض، وهي أي الإفادة ما نسميه اليوم بالأخبار أو التوصيف.
13. يظهر أن المراد بالأسماء:
أ. ابتداء أسماء الذوات من الموجودات مثل الأعلام الشخصية وأسماء الأجناس من الحيوان والنبات والحجر والكواكب مما يقع عليه نظر الإنسان ابتداء مثل اسم جنة، وملك، وآدم، وحواء، وإبليس، وشجرة وثمرة، ونجد ذلك بحسب اللغة البشرية الأولى ولذلك نرجح أن لا يكون فيما علمه آدم ابتداء شيء من أسماء المعاني والأحداث.
ب. ثم طرأ بعد ذلك أسماء المعاني والأحداث، فكان إذا أراد أن يخبر عن حصول حدث أو أمر معنوي لذات، قرن بين اسم الذات واسم الحدث نحو ماء برد أي ماء بارد.
ج. ثم طرأ وضع الأفعال والأوصاف بعد ذلك، فقال: الماء بارد أو برد الماء، وهذا يرجح أن أصل الاشتقاق هو المصادر لا الأفعال لأن المصادر صنف دقيق من نوع الأسماء وقد دلنا على هذا قوله تعالى: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾
14. التعريف في (الأسماء) تعريف الجنس أريد منه الاستغراق للدلالة على أنه علّمه جميع أسماء الأشياء المعروفة يومئذ في ذلك العالم، فهو استغراق عرفي، مثل جمع الأمير الصاغة أي صاغة أرضه، وهو الظاهر لأنه المقدار الذي تظهر به الفضيلة فما زاد عليه لا يليق تعليمه بالحكمة وقدرة الله صالحة لذلك.
15. تعريف الأسماء يفيد أن الله علم آدم كل اسم ما هو مسماه ومدلوله، والإتيان بالجمع هنا متعين إذ لا يستقيم أن يقول: وعلم آدم الاسم، وما شاع من أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع في المعرف باللام كلام غير محرر.
16. ﴿كُلِّهَا﴾ تأكيد لمعنى الاستغراق لئلا يتوهم منه العهد، فلم تزد كلمة كل العموم شمولا، ولكنها دفعت عنه الاحتمال، (وكل) اسم دال على الشمول والإحاطة فيما أضيف هو إليه، وأكثر ما يجيء مضافا إلى ضمير ما قبله، فيعرب توكيدا تابعا لما قبله، ويكون أيضا مستقلا بالإعراب إذا لم يقصد التوكيد، بل قصدت الإحاطة، وهو ملازم للإضافة لفظا أو تقديرا، فإذا لم يذكر المضاف إليه عوض عنه التنوين ولكونه ملازما للإضافة يعتبر معرفة بالإضافة فلا تدخل عليه لام التعريف.
17. اختلف في ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ :
أ. قيل عطفه بثم لأن بين ابتداء التعليم وبين العرض مهلة، وهي مدة تلقين الأسماء لآدم، أو مدة إلهامه وضع الأسماء للمسميات.
ب. والأظهر أن (ثم) هنا للتراخي الرتبي كشأنها في عطفها الجمل، لأن رتبة هذا العرض وظهور عدم علم الملائكة وظهور علم آدم وظهور أثر علم الله وحكمته كل ذلك أرفع رتبة في إظهار مزية آدم واستحقاقه الخلافة، من رتبة مجرد تعلمه الأسماء لو بقي غير متصل به ما حدث من الحادثة كلها.
18. لما كان مفهوم لفظ (اسم) من المفهومات الإضافية التي يتوقف تعقلها على تعقل غيرها إذ الاسم لا يكون إلا لمسمى كان ذكر الأسماء مشعرا لا محالة بالمسميات فجاز للبليغ أن يعتمد على ذلك ويحذف لفظ المسميات إيجازا.
19. ضمير ﴿عَرَضَهُمْ﴾ للمسميات لأنها التي تعرض بقرينة قوله: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ وبقرينة قوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، فإن الاسم يقتضي مسمى وهذا من إيجاز الحذف وأما الأسماء فلا تعرض لأن العرض إظهار الذات بعد خفائها ومنه عرض الشيء للبيع ويوم العرض والألفاظ لا تظهر فتعين أن المعروض مدلولات الأسماء:
أ. إما بأن تعرض صور من الذوات فقط، ويسأل عن معرفة أسمائها أي معرفة الألفاظ الدالة عليها، أو عن بيان مواهبها وخصائصها.
ب. وإما بأن تعرض الذوات والمعاني بخلق أشكال دالة على المعاني كعرض الشجاعة في صورة فعل صاحبها، والعلم في صورة إفاضة العالم في درسه أو تحريره، كما نرى في الصور المنحوتة أو المدهونة للمعاني المعقولة عند اليونان والرومان والفرس والصور الذهنية عند الإفرنج، بحيث يجد الملائكة عند مشاهدة تلك الهيئة أن المعروض معنى شجاعة أو معنى علم، ويقرب ذلك ما يحصل في المرائي الحلمية، والحاصل أن الحال المذكورة في الآية حالة عالم أوسع من عالم المحسوسات والمادة.
20. إعادة ضمير المذكر العاقل على المسميات في قوله: ﴿عَرَضَهُمْ﴾ للتغليب لأن أشرف المعروضات ذوات العقلاء وصفاتهم على أن ورود مثله بالألفاظ التي أصلها للعقلاء طريقة عربية نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، والداعي إلى هذا أن يعلم ابتداء أن المعروض غير الأسماء حتى لا يضل فهم السامع قبل سماع قرينة ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ .
21. قوله تعالى: ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي﴾ تفريع على العرض وقرن بالفاء لذلك، والأمر في قوله: ﴿أَنْبِئُونِي﴾ أمر تعجيز بقرينة كون المأمور يعلم أن الآمر عالم بذلك فليس هذا من التكليف بالمحال كما ظنه بعض المفسرين، واستعمال صيغة الأمر في التعجيز مجاز، ثم إن ذلك المعنى المجازي يستلزم علم الآمر بعجز المأمور وذلك يستلزم علم الآمر بالمأمور به.
22. الإنباء الإخبار بالنبإ وهو الخبر ذو الفائدة العظيمة والأهمية بحيث يحرص السامعون على اكتسابه، ولذلك تضمن الإنباء معنى الإعلام لأن المخبر به يعد مما يعلم ويعتقد بوجه أخص من اعتقاد مطلق الخبر فهو أخص من الخبر.
23. قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ :
أ. إما أراد به إن كنتم صادقين في أنكم أفضل من هذا المخلوق إن كان قولهم: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ﴾ تعريضا بأنهم أحقاء بذلك.
ب. أو أراد إن كنتم صادقين في عدم جدارة آدم بالخلافة كما دل عليه قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: 30] كان قولهم: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ [البقرة: 30] لمجرد التفويض أو الإعلان للسامعين من أهل الملأ الأعلى بالبراءة من شائبة الاعتراض على ما اخترناه.
24. وجه الملازمة بين الإنباء بالأسماء وبين صدقهم فيما ادعوه التي اقتضاها ربط الجزاء بالشرط أن العلم بالأسماء:
أ. عبارة عن القوة الناطقة الصالحة لاستفادة المعارف وإفادتها.
ب. أو عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وخصائصها.
ج. أو عبارة عن معرفة أسماء الذوات والمعاني.
وكل ذلك يستلزم ثبوت العالمية بالفعل أو بالقوة.
25. صاحب العالمية بالفعل أو بالقوة هو الجدير بالاستخلاف في العالم لأن وظيفة هذا الاستخلاف تدبير وإرشاد وهدى ووضع الأشياء مواضعها دون احتياج إلى التوقيف في غالب التصرفات، وكل ذلك محتاج إلى القوة الناطقة أو فروعها، والقوى الملكية على شرفها إنما تصلح لأعمال معينة قد سخرت لها لا تعدوها ولا تتصرف فيها بالتحليل والتركيب، وما يذكر من تنوع تصرفها وصواب أعمالها إنما هو من توجيه الله تعالى إياها وتلقينه المعبر عنه بالتسخير، وبذلك ظهر وجه ارتباط الأمر بالإنباء بهذا الشرط وقد تحير فيه كثير.
26. إذا انتفى الإنباء انتفى كونهم صادقين في إنكارهم خلافة آدم، فإن كان محل الصدق هو دعواهم أنهم أجدر فقد ثبت عدمها، وإن كان محل التصديق هو دعواهم أن البشر غير صالح للاستخلاف فانتفاء الإنباء لا يدل على انتفاء دعواهم، ولكنه تمهيد له لأن بعده إنباء آدم بالأسماء لأن المقام مؤذن بأنهم لما أمروا أمر تعجيز وجعل المأمور به دلالة على الصدق كان وراء ذلك إنباء آخر مترقبا من الذي طعنوا في جدارته ويدل لذلك أيضا قوله تعالى لهم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30]
27. جرد ﴿قَالُوا﴾ من الفاء لأنه محاورة، وهو مثل قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: 30].. وافتتاح كلامهم بالتسبيح وقوف في مقام الأدب والتعظيم لذي العظمة المطلقة.
28. سبحان اسم التسبيح:
أ. وهو اسم مصدر سبّح المضاعف، وليس مصدرا لأنه لم يجيء على أبنية مصادر الرباعي.
ب. وقيل هو مصدر سبح مخففا بمعنى نزه فيكون كالغفران والشكران، والكفران من غفر وشكر وكفر.
29. كثر استعماله منصوبا على المفعولية المطلقة بإضمار فعله ك ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ [يوسف: 23] وقد يخرج عن ذلك نادرا قال: سبحانك اللهم ذا السبحان) وكأنهم لما خصصوه في الاستعمال بجعله كالعلم على التنزيه عدلوا عن قياس اشتقاقه فصار سبحان كالعلم الجنسي مثل برة وفجار ـ بكسر الراء ـ في قول النابغة: فحملت برّة واحتملت فجار.. ومنعوه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون قال سيبويه: وأما ترك تنوين (سبحان) فلأنه صار عندهم معرفة وقول الملائكة: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ خبر مراد منه الاعتراف بالعجز لا الإخبار عن حالهم لأنهم يوقنون أن الله يعلم ما تضمنه كلامهم، ولا أنهم قصدوا لازم الفائدة وهي أن المخبر عالم بالخبر فتعين أن الخبر مستعمل في الاعتراف.
30. كلام الملائكة عليهم السلام هذا يدل على أن علومهم محدودة غير قابلة للزيادة فهي مقصورة على ما ألهمهم الله تعالى وما يأمرهم، فللملائكة علم قبول المعاني لا علم استنباطها.
31. في تصدير كلامهم بسبحانك إيماء إلى الاعتذار عن مراجعتهم بقولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: 30] فهو افتتاح من قبيل براعة الاستهلال عن الاعتذار، والاعتذار وإن كان يحصل بقولهم: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ لكن حصول ذلك منه بطريق الكناية دون التصريح ويحصل آخرا لا ابتداء فكان افتتاح كلامهم بالتنزيه تعجيلا بما يدل على ملازمة جانب الأدب العظيم.
32. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ ساقوه مساق التعليل لقولهم ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ لأن المحيط علمه بكل شيء المحكم لكل خلق إذا لم يجعل لبعض مخلوقاته سبيلا إلى علم شيء لم يكن لهم قبل بعلمه إذ الحصول بقدر القبول والاستعداد أي فلا مطمع لنا في تجاوز العلم إلى ما لم تهيئ لنا علمه بحسب فطرتنا، والذي دل على أن هذا القول مسوق للتعليل وليس مجرد ثناء هو تصديره بأنّ في غير مقام رد إنكار ولا تردد.
33. ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ لما دخل هذا القول في جملة المحاورة جردت الجملة من الفاء أيضا لأنه وإن كان إقبالا بالخطاب على غير المخاطبين بالأقوال التي قبله فهو بمثابة خطاب لهم لأن المقصود من خطاب آدم بذلك أن يظهر عقبه فضله عليهم في العلم من هاته الناحية فكان الخطاب بمنزلة أن يكون مسوقا إليهم لقوله عقب ذلك: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ .
34. ابتداء خطاب آدم بندائه مع أنه غير بعيد عن سماع الأمر الإلهي للتنويه بشأن آدم وإظهار اسمه في الملأ الأعلى حتى ينال بذلك حسن السمعة مع ما فيه من التكريم عند الآمر لأن شأن الآمر والمخاطب ـ بالكسر ـ إذا تلطف مع المخاطب ـ بالفتح ـ أن يذكر اسمه ولا يقتصر على ضمير الخطاب حتى لا يساوي بخطابه كل خطاب، ومنه ما جاء في حديث الشفاعة بعد ذكر سجود النبي وحمده الله بمحامد يلهمه إياها، فيقول: يا محمد ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفّع)، وهذه نكتة ذكر الاسم حتى في أثناء المخاطبة كما قال امرؤ القيس: أفاطم مهلا بعض هذا التدلل.. وربما جعلوا النداء طريقا إلى إحضار اسمه الظاهر لأنه لا طريق لإحضاره عند المخاطبة إلا بواسطة النداء فالنداء على كل تقدير مستعمل في معناه المجازي.
35. ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ الإنباء إخبارهم بالأسماء، وفيه إيماء بأن المخبر به شيء مهم، والضمير المجرور بالإضافة ضمير المسميات مثل ضمير ﴿عَرَضَهُمْ﴾، وفي إجرائه على صيغة ضمائر العقلاء ما قرر في قوله: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ [البقرة: 31].
36. قوله: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ الضمير في (أنبأ) لآدم وفي (قال) ضمير اسم الجلالة وإنما لم يؤت بفاعله اسما ظاهرا مع أنه جرى على غير من هو له أي عقب ضمائر آدم في قوله: ﴿أَنْبِئْهُمْ﴾ و ﴿أَنْبَأَهُمْ﴾ لأن السياق قرينة على أن هذا القول لا يصدر من مثل آدم.
37. جواب (لما) والقائل هو الله تعالى وهو المذكور في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ [البقرة: 30] وعادت إليه ضمائر ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ﴾ [البقرة: 30] و ﴿عِلْمَ﴾ [البقرة: 31] و ﴿عَرَضَهُمْ﴾ وما قبله من الضمائر وهو تذكير لهم بقوله لهم في أول المحاورة: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وذلك القول وإن لم يكن فيه: ﴿أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ صراحة إلا أنه يتضمنه لأن عموم ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يشمل جميع ذلك فيكون قوله هنا: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بيانا لما أجمل في القول الأول لأنه يساويه ما صدقا لأن ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ هو غيب السموات والأرض وقد زاد البيان هنا على المبين بقوله: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ .
38. إنما جيء بالإجمال قبل ظهور البرهان وجيء بالتفصيل بعد ظهوره على طريقة الحجاج وهو إجمال الدعوى وتفصيل النتيجة لأن الدعوى قبل البرهان قد يتطرقها شك السامع بأن يحملها على المبالغة ونحوها وبعد البرهان يصح للمدعى أن يوقف المحجوج على غلطه ونحوه وأن يتبجح عليه بسلطان برهانه فإن للحق صولة، ونظيره قول صاحب موسى: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا أَمَّا السَّفِينَةُ﴾ [الكهف: 78، 79] إلى قوله: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: 82] ثم قال ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 82]، فجاء باسم إشارة البعيد تعظيما للتأويل بعد ظهوره، وهذه طريقة مسلوكة للكتاب والخطباء وهي ترجع إلى قاعدة أخذ النتائج من المقدمات في صناعة الإنشاء، وأكثر الخطباء يفضي إلى الغرض من خطبته بعد المقدمات والتمهيدات.
39. جاءت الآية على طريقة الخطباء والبلغاء تعليما للخلق وجريا على مقتضى الحال المتعارف من غير مراعاة لجانب الألوهية، فإن الملائكة لا يمترون في أن قوله تعالى الحق ووعده الصدق فليسوا بحاجة إلى نصب البراهين.
40. ﴿كُنْتُمْ﴾ في قوله: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ الأظهر أنها زائدة لتأكيد تحقق الكتمان، فإن الذي يعلم ما اشتد كتمانه يعلم ما لم يحرص على كتمانه ويعلم ظواهر الأحوال بالأولى.
41. صيغة المضارع في ﴿تُبْدُونَ﴾ و ﴿تَكْتُمُونَ﴾ للدلالة على تجدد ذلك منهم فيقتضي تجدد علم الله بذلك كلما تجدد منهم.
42. لبعضهم هنا تكلفات في جعل ﴿كُنْتُمْ﴾ للدلالة على الزمان الماضي وجعل ﴿تُبْدُونَ﴾ للاستقبال وتقدير اكتفاء في الجانبين أعني وما كنتم تبدون وما تكتمون واكتفاء في غيب السماوات والأرض يعني وشهادتهما وكل ذلك لا داعي إليه.
43. الاستفهام في قوله: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ تقريري، لأن ذلك القول واقع لا محالة والملائكة لا يعلمون وقوعه ولا ينكرونه، وإنما أوقع الاستفهام على نفي القول لأن غالب الاستفهام التقريري يقحم فيه ما يفيد النفي لقصد التوسيع على المقرّر حتى يخيّل إليه أنه يسأل عن نفي وقوع الشيء، فإن أراد أن يزعم نفيه فقد وسّع المقرّر عليه ذلك، ولكنه يتحقق أنه لا يستطيع إنكاره، فلذلك يقرره على نفيه، فإذا أقر كان إقراره لازما له لا مناص له منه، فهذا قانون الاستفهام التقريري الغالب عليه وهو الذي تكرر في القرآن وبنى عليه صاحب (الكشاف) معاني آياته التي منها قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 106] وتوقف فيه ابن هشام في (مغني اللبيب) ورده عليه شارحه، وقد يقع التقرير بالإثبات على الأصل نحو: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: 116] وهو تقرير مراد به إبطال دعوى النصارى، وقوله: ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء: 62].
44. آدم اسم الإنسان الأول أبي البشر في لغة العرب، وقيل: منقول من العبرانية، لأن أداما بالعبرانية بمعنى الأرض، وهو قريب لأن التوراة تكلمت على خلق آدم، وأطالت في أحواله، فلا يبعد أن يكون اسم أبي البشر قد اشتهر عند العرب من اليهود وسماع حكاياتهم.
45. يجوز أن يكون هذا الاسم عرف عند العرب والعبرانيين معا من أصل اللغات السامية، فاتفقت عليه فروعها، وقد سمي في سفر التكوين من التوراة بهذا الاسم آدم، ووقع في (دائرة المعارف العربية) أن آدم سمى نفسه إيش (أي ذا مقتني) وترجمته إنسان أو قرء، ولعله تحريف (إيث) كما ستعلمه عند قوله تعالى: ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ [البقرة: 35]
46. للإنسان الأول أسماء أخر في لغات الأمم:
أ. وقد سماه الفرس القدماء (كيومرت) بفتح الكاف في أوله وبتاء مثناة فوقية في آخره، ويسمى أيضا (كيامرتن) بألف عوق الواو وبكسر الراء وبنون بعد المثناة الفوقية، قالوا إنه مكث في الجنة ثلاثة آلاف سنة، ثم هبط إلى الأرض، فعاش في الأرض ثلاثة آلاف سنة أخرى.
ب. واسمه في العبرانية (آدم) كما سمي في التوراة وانتقل هذا الاسم إلى اللغات الإفرنجية من كتب الديانة المسيحية فسموه (آدام) بإشباع الدال.
47. هو اسم على وزن فاعل صيغ كذلك اعتباطا، وقد جمع على أوادم بوزن فواعل كما جمع خاتم وهذا الذي يشير إليه صاحب (الكشاف) وجعل محاولة اشتقاقه كمحاولة اشتقاق يعقوب من العقب، وإبليس من الإبلاس، ونحو ذلك، أي هي محاولة ضئيلة وهو الحق.. وقال الجوهري أصله أأدم بهمزتين على وزن أفعل من الأدمة وهي لون السمرة فقلبت ثانية الهمزتين مدة ويبعده الجمع وإن أمكن تأويله بأن أصله أأدم فقلبت الهمزة الثانية في الجمع واوا لأنها ليس لها أصل كما أجاب به الجوهري، ولعل اشتقاق اسم لون الأدمة من اسم آدم أقرب من العكس.
48. العليم: الكثير العلم، وهو من أمثلة المبالغة على الصحيح، ويجوز كونه صفة مشبهة على تقدير تحويل علم ـ المكسور اللام ـ إلى علم بضم اللام ليصير من أفعال السجايا نحو ما في الرحيم، ونحن في غنية عن هذا التكلف إذ لا ينبغي أن يبقى اختلاف في أن وزن فعيل يجيء لمعنى المبالغة، وإنما أنشأ هذه التمحلات من زعموا أن فعيلا لا يجيء للمبالغة.
49. الحكيم: فعيل من أحكم إذا أتقن الصنع بأن حاطه من الخلل، وأصل مادة حكم في كلام العرب للمنع من الفساد والخلل، ومنه حكمة الدابة (بالتحريك) للحديدة التي توضع في فم الفرس لتمنعه من اختلال السير، وأحكم فلان فلانا منعه قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم... إني أخاف عليكم أن أغضبا
والحكمة بكسر الحاء ضبط العلم وكماله، فالحكيم إما بمعنى المتقن للأمور كلها أو بمعنى ذي الحكمة وأيّا ما كان فقد جرى بوزن فعيل على غير فعل ثلاثي وذلك مسموع قال عمرو بن معديكرب:
أمن ريحانة الدّاعي السّميع... يؤرقني وأصحابي هجوع
ومن شواهد النحو ما أنشده أبو علي ولم يعزه:
فمن يك لم ينجب أبوه وأمه... فإن لنا الأمّ النجيبة والأب
أراد الأم المنجبة بدليل قوله لم ينجب أبوه وفي القرآن: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: 117] ووصف الحكيم، والعرب تجري أوزان بعض المشتقات على بعض فلا حاجة إلى التكلف بتأول ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ببديع سماواته وأرضه أي على أن (أل) عوض عن المضاف إليه فتكون الموصوف بحكيم هو السماوات والأرض وهي محكمة الخلق فإن مساق الآية تمجيد الخالق لا عجائب مخلوقاته حتى يكون بمعنى مفعول، ولا إلى تأويل الحكيم بمعنى ذي الحكمة لأن ذلك لا يجدي في دفع بحث مجيئه من غير ثلاثي.
50. تعقيب العليم بالحكيم من اتباع الوصف بأخص منه، فإن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم، لأن الحكمة كمال في العلم فهو كقولهم خطيب مصقع وشاعر مفلق.
51. في (معارج النور) للشيخ لطف الله الأرضرومي: وفي الحكيم ذو الحكمة وهي العلم بالشيء وإتقان عمله وهو الإيجاد بالنسبة إليه والتدبير بأكمل ما تستعد له ذات المدبر (بفتح الباء) والاطلاع على حقائق الأمور ا ه.
52. وقال أبو حامد الغزالي في (المقصد الأسنى): الحكيم ذو الحكمة والحكمة عبارة عن المعرفة بأفضل الأشياء، فأفضل العلوم العلم بالله وأجل الأشياء هو الله، وقد سبق أنه لا يعرفه كنه معرفته غيره، وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم، فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم، إذ أجل العلوم هو العلم الأزلي القديم الذي لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها خفاء، ولا شبهة ولا يتصور ذلك إلا في علم الله.
53. ﴿أَنْتَ﴾ في ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ ضمير فصل، وتوسيطه من صيغ القصر، فالمعنى: قصر العلم والحكمة على الله قصر قلب لردهم اعتقادهم أنفسهم أنهم على جانب من علم وحكمة حين راجعوا بقولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: 30] أو تنزيلهم منزلة من يعتقد ذلك على الاحتمالين المتقدمين، أو هو قصر حقيقي ادعائي مراد منه قصر كمال العلم والحكمة عليه تعالى.
54. في هذه الآية منزع بديع لتعظيم شأن العلم وجدارة العلماء بالتعظيم والتبجيل لأن الله لما علم آدم علما لم يؤهل له الملائكة كان قد جعل آدم أنموذجا للمبدعات والمخترعات والعلوم التي ظهرت في البشر من بعد والتي ستظهر إلى فناء هذا العالم.
55. جعل الله تعالى علم آدم بالأسماء وعجز الملائكة عن ذلك علامة على أهلية النوع البشري لخلافته في الأرض دون الملائكة، لأن الخلافة في الأرض هي خلافة الله تعالى في القيام بما أراده من العمران بجميع أحواله وشعبه بمعنى أن الله تعالى ناط بالنوع البشري إتمام مراده من العالم، فكان تصرف هذا النوع في الأرض قائما مقام مباشرة قدرة الله تعالى بجميع الأعمال التي يقوم بها البشر.
56. لا شك أن هذه الخلافة لا تتقوم إلا بالعلم أعني اكتساب المجهول من المعلوم وتحقيق المناسبة بين الأشياء ومواقعها ومقارناتها وهو العلم الاكتسابي الذي يدرك به الإنسان الخير والشر ويستطيع به فعل الخير وفعل الشر كل في موضعه ولا يصلح لهذا العلم إلا القوة الناطقة، وهي قوة التفكير التي أجلى مظاهرها معرفة أسماء الأشياء وأسماء خصائصها، والتي تستطيع أن تصدر الأضداد من الأفعال لأن تلك القوة هي التي لا تنحصر متعلقاتها ولا تقف معلوماتها كما شوهد من أحوال النوع الإنساني منذ النشأة إلى الآن وإلى ما شاء الله تعالى.
57. الملائكة لما لم يخلقوا متهيئين لذلك حتى أعجزهم وضع الأسماء للمسميات، وكانوا مجبولين على سجية واحدة وهي سجية الخير التي لا تختلف ولا تتخلف، لم يكونوا مؤهلين لاستفادة المجهولات من المعلومات حتى لا تقف معارفهم، ولم يكونوا مصادر للشرور التي يتعين صدورها لإصلاح العالم فخيرتهم وإن كانت صالحة لاستقامة عالمهم الطاهر لم تكن صالحة لنظام عالم مخلوط، وحكمة خلطه ظهور منتهى العلم الإلهي كما قال أبو الطيب:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى... مضرّ كوضع السيف في موضع الندى
58. الآية تقتضي مزية عظمى لهذا النوع في هذا الباب وفي فضل العلم، ولكنها لا تدل على أفضلية النوع البشري على الملائكة، إذ المزية لا تقتضي الأفضلية كما بينه الشهاب القراقي في الفرق الحادي والتسعين فهذه فضيلة من ناحية واحدة، وإنما يعتمد التفضيل المطلق مجموع الفضائل كما دل عليه حديث موسى والخضر.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/394.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الأسماء هي الأشياء من قبيل ذكر الاسم وإرادة المسمى، إن جهل الملائكة بأسماء الأشياء وعلم آدم بها هو الأمر الذي ميز آدم على الملائكة، خلقوا للطاعة، ولا يعلمون طبائع الأشياء والوجود الأرضي إلا ما أعلمهم الله تعالى إياه.
2. أما آدم فإن الله تعالى أودعه القدرة على العلم بالأشياء، وكان في طبيعة نفسه التي أوجدها الله تعالى العلم بالأجناس أو مثلها، فالإنسان يولد وفى استعداده العلم بالمثل في هذه الأرض كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ [النحل].
3. بهذه الخاصة التي وهبها الله تعالى للإنسان، وهى الاستعداد للمعرفة والعلم بكل ما في الأرض، فكان بذلك ممتازا على الملائكة ويتبعهم الجن.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/197.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تدل هذه الآية على ان للعلم ومعطياته مكانة عظمى عند الله وملائكته، لأنه سبحانه قد برر خلق الإنسان بقابليته للعلم والمعرفة.. وحين أطلع الملائكة على ذلك اعتذروا قائلين: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾، وإذا كانت الغاية من خلق الإنسان العلم والعمل فمن ترك وأهمل فقد نقض الحكمة من وجوده، وخالف الفطرة التي فطره الله عليها.
2. المراد من الأسماء في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ معاني الأسماء، وهي أشياء الكون وخواصها وصفاتها، قال صاحب مجمع البيان: ان الأسماء بلا معان لا فائدة فيها، ولا وجه للإشارة الى فضلها).. واسأل الإمام الصادق عليه السلام عنها، فقال: الجبال والأودية.. ثم أشار إلى بساط تحته، وقال: هذا منها، أي كل شيء، حتى هذا البساط.
3. أمر الله سبحانه ملائكته بالسجود لآدم إظهارا لمزيته عليهم، وعلى جميع مخلوقاته، ولا تفسير ظاهر لهذه الميزة الا فضيلة العلم، والتعظيم من شأن حامله، لأن العلم، كما ثبت بالوجدان، هو المقياس لكل خطوة تخطوها البشرية الى الرقي والرخاء والكمال، كما ان الجهل أساس الحاجة والتخلف، وما تفوق من تفوق على غيره الا بالعلم.. فالعالم دائما متبوع، والجاهل دائما تابع.. ومن أجل هذا فرض الإسلام العلم على كل مسلم ومسلمة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/82.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾، مشعر بأن هذه الأسماء أو أن مسمياتها كانوا موجودات أحياء عقلاء، محجوبين تحت حجاب الغيب، وأن العلم بأسمائهم كان غير نحو العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء، وإلا كانت الملائكة بإنباء آدم إياهم بها عالمين وصائرين مثل آدم مساوين معه، ولم يكن في ذلك إكرام لآدم ولا كرامة حيث علمه الله سبحانه أسماء ولم يعلمهم، ولو علمهم إياها كانوا مثل آدم أو أشرف منه، ولم يكن في ذلك ما يقنعهم أو يبطل حجتهم، وأي حجة تتم في أن يعلم الله تعالى رجلا علم اللغة، ثم يباهي به، ويتم الحجة على ملائكة مكرمين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون بأن هذا خليفتي وقابل لكرامتي دونكم؟ ويقول تعالى أنبئوني باللغات التي سوف يضعها الآدميون بينهم للإفهام والتفهيم إن كنتم صادقين في دعواكم أو مسألتكم خلافتي، على أن كمال اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب والملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلم، وإنما تتلقى المقاصد من غير واسطة، فلهم كمال فوق كمال التكلم.
2. بالجملة ما حصل للملائكة من العلم بواسطة إنباء آدم لهم بالأسماء هو غير ما حصل لآدم من حقيقة العلم بالأسماء بتعليم الله تعالى، فأحد الأمرين كان ممكنا في حق الملائكة، وفي مقدرتهم دون الآخر، وآدم إنما استحق الخلافة الإلهية بالعلم بالأسماء دون إنبائها، إذ الملائكة إنما قالوا في مقام الجواب: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾، فنفوا العلم.
3. ظهر مما مر أن العلم بأسماء هؤلاء المسميات يجب أن يكون بحيث يكشف عن حقائقهم، وأعيان وجوداتهم، دون مجرد ما يتكفله الوضع اللغوي من إعطاء المفهوم، فهؤلاء المسميات المعلومة حقائق خارجية، ووجودات عينيه وهي مع ذلك مستورة تحت ستر الغيب غيب السماوات والأرض، والعلم بها على ما هي عليها كان أولا ميسورا ممكنا لموجود أرضي لا ملك سماوي، وثانيا دخيلا في الخلافة الإلهية.
4. ﴿الْأَسْمَاءُ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، جمع محلى باللام وهو يفيد العموم على ما صرحوا به، مضافا إلى أنه مؤكد بقوله: ﴿كُلِّهَا﴾، فالمراد بها كل اسم يقع لمسمى ولا تقييد ولا عهد، ثم قوله: ﴿عَرَضَهُمْ﴾، دال على كون كل اسم أي مسماه ذا حياة وعلم، وهو مع ذلك تحت حجاب الغيب، ﴿غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وإضافة الغيب إلى السماوات والأرض وإن أمكن أن يكون في بعض الموارد إضافة من، فيفيد التبعيض لكن المورد وهو مقام إظهار تمام قدرته تعالى وإحاطته وعجز الملائكة ونقصهم يوجب كون إضافة الغيب إلى السماوات والأرض إضافة اللام، فيفيد أن الأسماء أمور غائبة عن العالم السماوي والأرضي، خارج محيط الكون.
5. إذا تأملت هذه الجهات ـ أعني عموم الأسماء، وكون مسمياتها أولي حياة وعلم، وكونها غيب السماوات والأرض ـ قضيت بانطباقها بالضرورة على ما أشير إليه في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾، حيث أخبر سبحانه بأنه كل ما يقع عليه اسم شيء، فله عنده تعالى خزائن مخزونة باقية عنده غير نافدة، ولا مقدرة بقدر، ولا محدودة بحد، وأن القدر والحد في مرتبة الإنزال والخلق، وأن الكثرة التي في هذه الخزائن ليست من جنس الكثرة العددية الملازمة للتقدير والتحديد بل تعدد المراتب والدرجات.. فتحصل أن هؤلاء الذين عرضهم الله تعالى على الملائكة موجودات عالية محفوظة عند الله تعالى، محجوبة بحجب الغيب.
6. أنزل الله سبحانه كل اسم في العالم بخيرها وبركتها، واشتق كل ما في السماوات والأرض من نورها وبهائها، وأنهم على كثرتهم وتعددهم لا يتعددون تعدد الأفراد، ولا يتفاوتون تفاوت الأشخاص، وإنما يدور الأمر هناك مدار المراتب والدرجات ونزول الاسم من عند هؤلاء إنما هو بهذا القسم من النزول.
7. في تفسير العياشي، عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام، قال سألته عن قول الله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، ماذا علمه؟ قال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية، ثم نظر إلى بساط تحته، فقال: وهذا البساط مما علمه.. وفي التفسير، أيضا عن الفضيل بن العباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن قول الله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ ما هي؟ قال أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض.. وفي التفسير، أيضا عن داوود بن سرحان العطار، قال كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدعا بالخوان فتغذينا ـ ثم دعا بالطست والدست سنانه ـ فقلت: جعلت فداك، قوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، الطست والدست سنانه منه، فقال: عليه السلام الفجاج والأودية وأهوى بيده كذا وكذا.
8. وفي المعاني، عن الصادق عليه السلام: إن الله عز وجل علم آدم أسماء حججه كلها ـ ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة ـ فقال: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ـ بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم ـ فقالوا: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ ـ قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ ـ فلما أنبئهم بأسمائهم ـ وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عز ذكره، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته، ثم غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم، وقال لهم: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾
9. بالرجوع إلى ما مر من البيان تعرف معنى هذه الروايات وأن لا منافاة بين هذه وما تقدمها، إذ قد تقدم أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾ تعطي أنه ما من شيء إلا وله في خزائن الغيب وجود، وإن هذه الأشياء التي قبلنا إنما وجدت بالنزول من هناك، وكل اسم وضع بحيال مسمى من هذه المسميات فهي اسم لما في خزائن الغيب، فسواء قيل: إن الله علم آدم ما في خزائن غيبه من الأشياء وهي غيب السماوات والأرض، أو قيل: إنه علم آدم أسماء كل شيء وهي غيب السماوات والأرض كان المؤدى والنتيجة واحدا وهو ظاهر.
10. يناسب المقام عدة من أخبار الطينة، كما رواه في البحار، عن جابر بن عبد الله، قال: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أول شيء خلق الله ما هو؟ فقال: نور نبيك يا جابر خلقه الله، ثم خلق منه كل خير، ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله، ثم جعله أقساما، فخلق العرش من قسم، والكرسي من قسم، وحملة العرش وسكنة الكرسي من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله، ثم جعله أقساما، فخلق القلم من قسم، واللوح من قسم، والجنة من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله، ثم جعله أجزاء فخلق الملائكة من جزء، والشمس من جزء والقمر من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله، ثم جعله أجزاء، فخلق العقل من جزء والعلم والحلم من جزء، والعصمة والتوفيق من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله، ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور ـ وقطرت منه مائة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة، فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول، ثم تنفست أرواح الأنبياء ـ فخلق الله من أنفاسها أرواح الأولياء والشهداء والصالحين.
11. والأخبار في هذه المعاني كثيرة، متظافرة، وأنت إذا أجلت نظرة التأمل والإمعان فيها وجدتها شواهد على ما قدمناه، وسيجيء شطر من الكلام في بعضها، وإياك أن ترمي أمثال هذه الأحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم ومنابع الحكمة بأنها من اختلاقات المتصوفة وأوهامهم فللخلقة أسرار، وهو ذا العلماء من طبقات أقوام الإنسان لا يألون جهدا في البحث عن أسرار الطبيعة، منذ أخذ البشر في الانتشار، وكلما لاح لهم معلوم واحد بأن لهم مجاهيل كثيرة، وهي عالم الطبيعة أضيق العوالم وأخسها فما ظنك بما وراءها، وهي عوالم النور والسعة.
12. الظاهر من سياق الآيات: أنّ هؤلاء الملائكة كانوا يعرفون بعض هؤلاء المسمّيات بأسمائها؛ حيث يقول سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ بلفظة الجمع المحلّى باللام و(كلّ)، ويحكي عن الملائكة أنّهم قالوا: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ فجاؤوا بالاستثناء، فلولا علمهم ببعضها كان الاستثناء مستغنى عنه زائدا في الكلام، وحينئذ فلولا إرادة الاستغراق من الأسماء، كان اللائق بالمقام أن يقولوا: لا علم لنا منها إلّا بما علّمتنا) أو ما يؤدّي هذا المعنى.. ومن هنا تستشعر أنّ معلومات الملائكة كانت كلّها أسماء، أي مسمّيات أسماء، كما في علومنا ومعلوماتنا، ومن هنا تعرف أنّ (اللام) في (الأسماء) ليست للعهد.
13. قوله تعالى: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ وكان هذان القسمان من الغيب النسبي الذي هو بعض السماوات والأرض، ولذلك قوبل به قوله: ﴿أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، ليشمل قسمي الغيب أعني الخارج عن العالم الأرضي والسماوي وغير الخارج عنه.
14. قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، تقييد الكتمان بقوله: ﴿كُنْتُمْ﴾، مشعر بأن هناك أمرا مكتوما في خصوص آدم وجعل خلافته، ويمكن أن يستظهر ذلك من قوله تعالى في الآية التالية: ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾، فيظهر أن إبليس كان كافرا قبل ذلك الحين، وأن إباءه عن السجدة كان مرتبطا بذلك فقد كان أضمره هذا.
15. يظهر بذلك أن سجدة الملائكة وإباء إبليس عنها كانت واقعة بين قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وبين قوله: ﴿ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾، ويظهر السر أيضا في تبديل قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، ثانيا بقوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/117.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ عمومه يدل: أن قد علمه اسم كل جنس من أجناس المخلوقات، كالماء، والنار، والحديد، والذهب، والفضة.. إلى غير ذلك.
2. لعله سبحانه علّمه ذلك إعداداً للخلافة في الأرض، فعرفه ما فيها من المعادن والشجر والدواب وغيرها ليدري كيف ينتفع هو وذريته بما خلق لهم فيها، من حيث أن تعليم الأسماء من حيث هي أسماء يستلزم تعريف المسميات.
3. ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ المعنى: عَرَضَ المسميات على الملائكة بتغليب العقلاء، وهو سبحانه وتعالى قادر على عرض الأجناس التي خلقها كلها، فلا نحتاج إلى أن نقول المراد عرض صورها كما في التلفزيون والسينما، فإن كان المراد عرض ما قد خلق وما سيخلق، فعرض ما سيخلق عرض صورته.
4. قوله سبحانه للملائكة: ﴿أَنْبِئُونِي﴾ أي قولوا لي بأسماء هذه الأشياء المعروضة عليكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعواكم أنكم أهل للخلافة في الأرض، حيث قلتم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ فإذا لم تعلموا أسماءها، كما علم آدم عليه السلام فهو وذريته أحق منكم بالخلافة في الأرض؛ لأنهم بتصرفهم في الأرض بالحرث وغيره، وبتصرفهم فيما خلق لهم فيها يظهرون آيات كثيرة تدل على الله، وينتفعون فيها بنعم كثيرة تدل على كرم الله، كالطائرة، والسيارة، والكهرباء، وما فيه من المنافع، ولولا الإنسان ما ظهرت هذه الأشياء، ولكن ظهرت على يديه؛ لأن الله علمه ما لم يعلم، وفضّله على كثير ممن خلق تفضيلاً.
5. ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ سبحانك أنت أحكم الحاكمين، وأنت علام الغيوب، وعلمنا قاصر عن علم أسماء هذه الأشياء ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ العليم بكل شيء الحكيم في كل قضاء.
6. ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ﴾ أي أخبر الملائكة ﴿بِأَسْمَائِهِمْ﴾ بأسماء ما عرض على الملائكة ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ وتبيّن لهم امتياز الإنسان بعلم ما جهلوا.
7. قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ﴾ لا يلزم منه أنهم قد صاروا بإنبائه لهم عالمين بها كما يعلمها آدم؛ لأن الغرض من إنبائه لهم أن يعلموا امتيازه بعلم الأسماء لا أن يصيروا عالمين بها كما يعلمها؛ لأنه يمكن أن لا يحفظوا كل ما سمعوه لعدم إعدادهم لحفظه.
8. الأقرب: أن المعروض على الملائكة الجمل من المسميات ليسهل إخبار آدم لهم بها؛ لأن إنبائهم بالأسماء كلها على التفصيل يطول ويستغرق زماناً طويلاً.. وعلى ذلك: لا يكون أنبأهم بالأسماء كلها على التفصيل، فمثلاً عرض عليهم الحيوان والشجر والمعادن وأسماؤها الجملية ثلاثة أسماء، وهكذا سائر الجمل، وهي تشتمل على أصناف كثيرة جداً وأسماؤها كثيرة جداً تستدعي قاموساً، فلا يلزم أن يكون الملائكة عليهم السلام قد علموا الأسماء كلها كما علمها آدم عليه السلام.
9. كذلك لا يلزم أن تكون مسميات الأسماء كلها هي من غيب السماوات والأرض، وإنما يلزم أن يكون بعضها غيباً أو أن يكون بعض أسمائها غيباً؛ لأنهم قالوا: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ ولم ينفوا علمها كله، وعلى هذا فالأسماء هي شاملة لأسماء غيبها وشهادتها وحين أنبأهم آدم بأسماء ما عرض عليهم ظهر لهم بعض ما كان غيباً في حقهم، فصح أن يرتبط بذلك قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.
10. ﴿قَالَ﴾ الله ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ فكان هذا يغنيكم عن السؤال بقولكم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ لأنه حلٌّ لكل إشكال يعرض في أي شيء من أقواله سبحانه أو أفعاله أن يعلم العبد أن الله سبحانه يعلم وجوه الحكمة كلها، وليس جهلنا بالحكمة في بعض الأشياء دليلاً على عدم الحكمة؛ لأنا قد نجهل الحكمة ثم نعلمها بعد الجهل بها.
11. قوله تعالى: ﴿ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ يفيدهم: أن لها غيباً، والغيب: ضد الشهادة، فهم يشاهدون الأرض ولا يعلمون ما أخفي فيها من منافعها ومصالحها وفوائد ما فيها، وكذلك السماوات، فغيب السماوات والأرض يعلمه الله سبحانه، وقد أفهمهم أن لها غيباً يعلمه سبحانه ولا يعلمونه.
12. الظاهر في الإضافة أنها على معنى في، كقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: 75].. وإذا كانت الإضافة على معنى (اللام) شمل العموم فوائد الأجزاء، وما يترتب عليها مما تقتضيه الحكمة، وما يتعلق بهما من المغيبات التابعة لوجودهما، ولا يجب أن يكون غيب السماوات والأرض خارجاً عنهما وإن كانت الإضافة على معنى (اللام) كما لو قيل: يعلم ما لهما من الفوائد المحجوبة فيهما.
13. قوله تعالى: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ فالإبداء والكتمان من بعضهم لبعض ولبعضهم من بعض، وذلك كالجواب على قولهم: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ فكأنه قال أنا أعلم بما تسرون وما تعلنون، ولم يقرهم على دعواهم الصلاحية؛ لأن في جملتهم إبليس، فقوله: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ يفيد: أنه يعلم ما فيهما من المناسبة والصلاحية لإسكان أهلهما فيهما وما في أهلهما من الصلاحية لهما.
14. قوله: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ يفيد: أنهم لا يعلمون ما يكتمون، فدعواهم إنما هي مبنية على الظاهر، والله أعلم بالحقيقة، وهذه كالتقدمة لابتلائهم بالأمر بالسجود لآدم الذي عنده انكشفت حقيقة إبليس، وأنه لم يكن في عبادته على يقين، وبهذا يظهر: أن قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ كان جواباً عليهم في كلامهم في الإنسان، وفي كلامهم في أنفسهم، حيث قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ﴾
15. في هذه الآيات الكريمة:
أ. بيان أن الله بكل شيء عليم، عالم الغيب والشهادة، عالم ما كان وما سيكون.. وأن نعتقد الحكمة والصواب في كل أفعاله ـ سبحانه ـ وأقواله سواء عرفنا وجه الحكمة أم جهلنا؛ لأنه يعلم ما لا نعلم، فجهلنا بها لا يدل على عدمها.
ب. أن لا نزكي على الله أحداً إلاَّ من زكاه الله؛ لأنا لا نعلم إلاَّ الظاهر في غير من زكاه الله تعالى، ومن زكيناه، فالمعنى: أنا نعتقد ذلك بناءً على الظاهر، ونبني على هذا الاعتقاد الموالاة والمعاملة وإن لم نقطع بالمغيب عنا من سرّه الذي قد يكون هو غافلاً عنه، وليس المراد بالتزكية له القطع على مغيبه، ولعل هذا هو ما نهى الله عنه في قوله تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32]
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/87.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ فقد أعطاه الله عليم الأشياء التي تتصل بمسؤولياته من مفردات الموجودات الأرضية، وطريقة إدارتها، واستعمالها فيما يمكن أن يجدّد عناصر الحياة فيها، ويعمّرها، ويصنع منها الصناعات التي تسهّل أمور العيش للإنسان، وتدفع به إلى تطوير طاقاته إلى المستوى الأفضل، وغير ذلك، مما يجعل وعيه الإنساني شاملا لكل الأشياء والأوضاع والأعمال والنتائج المتصلة بقضايا وجوده، ليكون أهلا للقيام بهمّة الخلافة الأرضية التي يتحرك فيها بحرية العقل والإرادة والحركة المتنوعة في شؤون الجماد والنبات والحيوان، بالإضافة إلى شؤونه الإنسانية الخاصة، مما أوكل الله إليه أمره، ليكون أداؤه لوظيفته الفكرية والعملية أداء متقنا منفتحا على الخير كله في مسئولياته العامة والخاصة.
2. استفاضت النصوص الدينية في الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام وعن غيرهم في أن المراد منها هي أسماء الموجودات الكونية سواء منها الموجودات العاقلة أو غيرها، ولعل هذا ما توحي به طبيعة الجو الذي يحكم الموقف في هذه الآيات، وينسجم مع مهمة الخلافة عن الله في الأرض التي أعد لها الإنسان، وهي تفرض المعرفة الكاملة بكل متطلباتها ومجالاتها.
3. جاء في تفسير العياشي: عن أبي العباس، عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السّلام قال سألته عن قوله الله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ ماذا علمه؟ قال الأرضين والجبال والشعاب والأودية، وجاء في تفسير الطبري عن ابن عباس، قال: علم الله آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
4. هناك اتجاه في تفسير ذلك بأسماء الملائكة وأسماء ذريته دون سائر أجناس الخلق، وهو الذي اختاره الطبري في تفسيره، (وذلك أن الله جل ثناؤه قال ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ يعني بذلك أعيان المسمين بالأسماء التي علمها آدم ولا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة، وأما إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوى من وصفنا فإنها تكنّي عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون)، لكن هذا الاتجاه لا يتناسب مع طبيعة الخلافة، لا سيما إذا فهمنا من الآية أن آدم لم يكن هو الخليفة بشخصه بل بسبب تجسيده للنوع الإنساني، فإن معرفة أسماء الذرية والملائكة لا تقدم شيئا ولا تؤخر في الموضوع.
5. أما التعبير عن الأسماء بالضمير المستعمل لما يعقل، فقد اعترف صاحب التفسير المذكور بأن العرب قد تستعمل ضمير العاقل، في العاقل وغيره تغليبا، وبذلك جاء القرآن الكريم: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ [النور: 45]، ولكنه قال إن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وصفنا، ولكننا لا نعتبر الغلبة في مثل هذا ـ لو ثبتت ـ لغة مرجوحة أو غير فصيحة، لأن القرآن نزل بذلك في الآية المتقدمة، مما يوحي بأنها لغة مألوفة معتبرة، ولعل ذهاب ابن عباس ـ فيما روي عنه ـ يقرّب ما ذكرناه، لأنه أعرف بكلام العرب من المتأخرين الذين عرفوه بالنقل، بينما كانت معرفته له بالسماع والممارسة.
6. ذكر بعض المفسّرين(2). أن هذه الأسماء، أو أن مسمياتها، كانت موجودات أحياء عقلاء محجوبين تحت حجاب الغيب، وأن العلم بأسمائهم كان غير نحو العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء، وإلّا كانت الملائكة بإنباء آدم إياهم بها عالمين وصائرين مثل آدم مساوين معه، ولم يكن في ذلك إكرام لآدم ولا كرامة، حيث علمه الله سبحانه أسماء ولم يعلمهم، ولو علّمهم إياها لكانوا مثل آدم أو أشرف منه، ولم يكن في ذلك ما يقنعهم أو يبطل حجتهم، وأيّ حجة تتم في أن يعلّم الله تعالى رجلا علم اللغة ثم يباهي به ويتم الحجة على ملائكة مكرمين ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: 27] بأن هذا خليفتي وقابل لكرامتي دونكم؟ ويقول تعالى: أنبئوني باللغات التي سوف يضعها الآدميون بينهم للإفهام والتفهيم إن كنتم صادقين في دعواكم أو مسألتكم خلافتي، على أن كمال اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب، والملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلم، وإنما تتلقى المقاصد من غير واسطة.
7. ويتابع الحديث فيقول: فقد ظهر مما مرّ أن العلم بأسماء هؤلاء المسمّيات يجب أن يكون بحيث يكشف عن حقائقهم، وأعيان وجوداتهم، دون مجرد ما يتكلفه الوضع اللغوي من إعطاء المفهوم، فهؤلاء المسميات المعلومة حقائق خارجية ووجودات عينية، وهي مع ذلك مستورة تحت ستر الغيب؛ غيب السموات والأرض، والعلم بها على ما هي عليه كان أولا ميسورا ممكنا لموجود أرضي لا ملك سماوي، وثانيا دخيلا في الخلافة الإلهية.
8. ونلاحظ على هذا الرأي أنّ من المعلوم أن المسألة بين آدم والملائكة ليست مسألة لغوية، بل هي مسألة المسميات في خصائصها وحقائقها، كما أن قضية تعليم الله إياه وعدم تعليمهم لا يجعل لآدم ميزة عليهم، فيما لو كانت المسألة تعليم الأسماء، هذا ليس واردا في هذه المسألة، لأن المطلوب هو أن الله أعطى هذا المخلوق علما يملك به إدارة مسئولياته، ولم يعط الملائكة ذلك، تبعا لحكمة الله في توزيع مواهبه على عباده بحسب حاجاتهم العامة والخاصة، فالقضية ليست قضية شرف ذاتي فيما يملكه الإنسان من عناصره الذاتية بذاته، بل هي قضية امتياز فيما أعطاه الله.
9. ليس من الضروري أن تكون المسميات موجودات أحياء عقلاء محجوبين تحت حجاب الغيب، لأن القصة واردة في الإحاطة بالأمور التي تدخل في نطاق مسئوليات هذا الخليفة في إدارة شؤون الأرض وفق خصوصياتها وأوضاعها وموجوداتها وما يتصل بها لجهة تحريكها وتوجيهها الوجهة التي أرادها الله.
10. لعل ما يؤكد ذلك ما جاءت به أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السّلام في الجواب عن السؤال عمّا علمه الله لآدم، قال الإمام الصادق ـ كما في تفسير العياشي ـ: الأرضين والجبال والشعاب والأودية، ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط ممّا علّمه).. وهي إشارة إلى المدى الذي تبلغه إمكانات العلم لدى آدم ـ الإنسان، بحيث تدخل في تفاصيل الأشياء المستقبلة من خلال الطاقات المودعة فيه والوسائل الموضوعة لديه، والله العالم بحقائق آياته.
11. أفاض صاحب الميزان في عرض الأخبار المتنوعة في هذا المجال ومنها أخبار الطينة، ثم علّق على بعض الملاحظات التي يوردها بعض الناس حول هذه الأخبار في علامات الاستفهام التي توحي بالاستبعاد فقال: وإياك أن ترمي أمثال هذه الأحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم، ومنابع الحكمة، بأنها من اختلاقات المتصوّفة وأوهامهم، فللخلقة أسرار، وهو ذا العلماء من طبقات أقوام الإنسان لا يألون جهدا في البحث عن أسرار الطبيعة، منذ أخذ البشر في الانتشار، وكلما لاح لهم معلوم واحد بان لهم مجاهيل كثيرة، وهي عالم الطبيعة أضيق العوالم وأخسها، فما ظنك بما وراءها، وهي عوالم النور والسعة.
12. نحن نتفق مع العلامة الطباطبائي في القاعدة العلمية التي أسسها، وهي عدم المبادرة إلى رفض ما لا تقبله الأفكار من خلال ابتعاده عن المألوف ممّا يعرفه الناس، أو يقع في نطاق تجاربهم الذهنية وانفعالاتهم الشعورية، لأن عالم الغيب يختلف في موازينه عن عالم الحسّ لعدم خضوعه للتجربة الحسية، الأمر الذي يجعل المقياس في معقوليته وعدم معقوليته، هو انطلاق القضية في أبعادها من دائرة الإمكان المنطلقة من دراسة الفكرة وقدرة الله المطلقة، فلا يجوز لنا أن نرفض الغيب في طبيعته ومفرداته لمجرد ابتعاده عن دائرة المألوف لدينا، لأن المألوف ليس هو الصيغة النهائية للحقيقة حتى في ساحة الحسّ، فكم من الأمور التي كانت فوق مستوى المألوف مما يعقله الناس، في قضايا الحياة وأسرار الكون، أصبحت عادية ومألوفة لديهم بعد اكتشافها من قبل العلماء ووضوحها لديهم، وكم من الأمور المألوفة لديهم بفعل السير التاريخي للأفكار والعقائد، تحوّلت إلى أشياء مستنكرة بعد ثبوت زيفها وخرافيتها، وكم من الأشياء التي كانت غيبا في وعي الناس عادت حسّا من خلال الاكتشافات العلمية، لذلك، فإن طريقة البحث في الأمور الغيبية تختلف عن الطريقة في الأمور الحسية؛ ففي الغيب متّسع للفكر التأملي والعقل النظري، وفي الحسّ منطلق للتجربة الواقعية والعقل العملي بالإضافة إلى دائرة التأمل فيه.
13. لكنّ المسألة التي تفرض نفسها في شؤون الغيب هي توثيق النص المرويّ عن المصادر المعصومة التي لا تخطئ في نقل الأشياء وفي تصوّرها، وتركيز الفهم الدقيق للنصوص من خلال القواعد والأصول المتّبعة في ذلك، وهذا ما ينبغي البحث فيه قبل الالتزام بالنص كوثيقة علمية، ولا سيّما إذا عرفنا دخول الكثير من الأحاديث الموضوعة في تراثنا من خلال اليهود في إسرائيلياتهم التي أريد لها أن تشوّه المفاهيم الإسلامية في الخطوط العامة والتفصيلية، أو من خلال الكذابين الذين كانوا يضعون الأحاديث ويدسّونها في كتب الثقات من أصحاب الأئمة عليه السّلام، كما ورد ذلك في حديث الإمام الصادق عليه السّلام عن أبي الخطاب وجماعته، مما يتضمن الكفر والزندقة والخرافة، فلا بد لنا من التدقيق في السند والمتن ـ كما يعبّر القدماء ـ قبل القبول بها وتحويلها إلى ثقافة عامة للناس، ولا سيّما في الأمور المتصلة بالعقيدة، بحيث يبادر الناس إلى إنكار الحقائق الثابتة أو تأويل النصوص المعتمدة لمصلحتهم.
14. ولا بد، إلى جانب ذلك، من المقارنة بين النصوص في دلالاتها الفكرية، وخصوصا مسألة العرض على القرآن الذي هو كتاب الله الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: 42]، للتعرّف على ملاءمة المفهوم الحديثي في مضمونه الفكري مع المفهوم القرآني في دلالاته، من خلال الأصول الدقيقة للبحث العلمي، وعدم الاقتصار على الأساليب الأصولية التقليدية في طريقة البحث والمقارنة.
15. إن المسألة ليست مسألة استبعاد الغيب في مفرداته مهما كانت غريبة عن المألوف، ولكنها مسألة التأكيد على صدور هذا الغيب ممن يملك أمر الحديث عن الغيب في قضايا العقيدة والحياة.
16. بعد أن كشف الله تعالى للملائكة أن ثمة حدودا لعلمهم، وبأن ما لديهم من علم، وبشهادتهم اللاحقة أيضا، هو مما علمهم الله تعالى، سأل آدم عليه السّلام إعلامهم بما لم يحيطوا به علما، لتوكيد عجزهم، وإظهار تفوق آدم عليهم فيما أثاروه من إشكال، لجهة حصوله، لما يلزم وجوده في الحياة الدنيا، ويرفع به نواقصه، ثم عطف كلامه مذكرا إياهم بما سبق أن أعلمهم به لجهة إحاطة علمه تعالى بكل شيء، فلا يفوته منه شيء، ظاهرا كان أو باطنا، غائبا كان أو حاضرا، مضمرا كان أو معلنا.. إلخ، وبالتالي فهو يعلم ما يخفونه ويعلنونه.
17. ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ بالطريقة التي يتعرفون فيها أشكالها، وأوضاعها، وأنواعها، ومواقعها، وغير ذلك مما لا سبيل لنا إلى معرفة خصوصياته، لأن لله حكمته وقدرته في أسلوب هذا العرض، الذي يفتح للملائكة أبواب المعرفة، بالمستوى الذي يريد لهم أن يصلوا إليه بالمشاهدة أو بالإلهام.
18. ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في المدى الواسع الذي تملكونه من العلم فيما يؤهلكم للخلافة في الأرض، وللاطلاع على بواطن هذه الأشياء وحقائقها وخصوصياتها.
19. هذا أسلوب دقيق يوحي بالعجز الملائكي عن هذا المستوى المعرفي، لأن الله أعطى لكل مخلوق من مخلوقاته دورا معينا محدودا يتحرك في دائرته ولا يتجاوزه، لتكون الحياة في تنوعاتها وأوضاعها ومواقعها، عملية تكامل بين المخلوقات في الأدوار الموضوعة لها والخطط المرسومة لحركتها، فلا يملك مخلوق أن يقوم بدور مخلوق آخر، فللملائكة دورهم في الوظائف التي وظّفوا لها في إدارة النظام الكوني، وللإنسان دوره في المسؤوليات التي حمّله إياها في شؤون نفسه، وفي شؤون الأرض التي يتحرك فيها، وللظواهر الكونية المتناثرة في الكون الواسع أدوارها الخاصة هنا وهناك، فالنظام الكوني نتاج ذلك كله.
20. الظاهر أن الأسلوب القرآني في خطاب الله للملائكة جار على أساس تأكيد جهلهم بهذه الأسماء في مسمياتها، تماما كما تقول: أخبر بما في يدي إن كنت صادقا، أي: إن كنت تعلم فأخبر به، لأنه لا يمكنه أن يصدق في مثل ذلك، كما جاء في مجمع البيان.
21. ليس مجرى الأسلوب على تكليفهم بذلك، لأن الجوّ يتحرك في مقام إظهار عجزهم، لا في إظهار كذبهم، لأنهم لم يكونوا في مجال دعوى العلم بذلك، ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾، فنحن لم ندّع العلم فيما يتجاوز قدرتنا على المعرفة، لأنك أنت الذي وهبتنا علم ما نعلم بالوسائل التي أودعتها فينا، ومكنتنا منها، فلا مصدر للعلم إلّا منك، ولم يكن ما كان منّا اعتراضا على حكمتك أو تدبيرك، أو ادعاء لما لا نملك علمه من شؤون خلقك، بل كان وسيلة من وسائل اكتشاف حقائق الأمور فيما تخلقه وتبدعه وتدبره.
22. ﴿عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ﴾ الذي تملك العلم كله، فلا حدود لعلمك لأنك أنت الخالق لما تعلمه فكيف لا تحيط به، ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي يتحرك في تدبيره بالحكمة العميقة الشاملة التي تنطلق من الإحاطة بحقائق الأشياء فيما يصلح أمرها أو يفسده، وعلينا وعلى العباد كلهم أن يسلموا لك كل أمورهم في ثقة مطلقة بأنك وحدك العالم بكل شيء، الحكيم في كل تدبير.
23. ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ في حدود هذا العلم الذي ألهمته وعلّمته، والذي يجعلك جديرا بإدارة الأرض كلها، ليعرف الملائكة، من خلال هذا العلم، أنهم لا يملكون القدرة على أن يكونوا البديل عنك.
24. لأن التسبيح والتقديس لله ليسا كل شيء في عملية الخلافة، بالإضافة إلى أن مظاهر التسبيح قد تتمثل بالحركة المنفتحة على تحريك خلق الله في خط إرادته بالدرجة التي تظهر فيها عجائب خلقه، وإبداعات قدرته، فقد تكون المعرفة الواعية، وقد يكون العمل المنتج، وجها من وجوه التسبيح في الإنسان وحركة من حركات التقديس، ففي مظاهر العقل معنى التسبيح، وفي مواقع القوة والإبداع معنى التقديس.
25. ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾، وأخبرهم بها في كل ما أراد الله له أن يخبر به ويبينه لهم، مما يوحي بالدرجة التي يملكها من المعرفة، وبالقضايا التي يحيط بها من شؤون الحياة، ليعرفوا الفارق بينهم في خصوصيات ملائكيتهم، وبينه في إنسانيته.
26. ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، فلا تقدرون على الإحاطة به، كما أن هناك الكثير من الغيب الذي لم تملكوا إلى معرفته سبيلا، فليس كل شيء مكشوفا لكم ومقدّرا لكم في وسائله، في الوقت الذي يستوي لديّ الغيب كما يستوي لديّ السرّ والعلانية فيما تظهرونه وتكتمونه، مما لا يمكن أن يحاط فيه.
27. ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ من خصائص الألوهية في ذات الإله الذي يحيط بكل خلقه في ظواهرها وبواطنها، مما لا يملكون الإحاطة به، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].
28. حاول الكثيرون من المفسرين التوقف عند كلمة ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ وحاولوا أن يفسروا كلمة ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ فتساءلوا عما كانوا يكتمونه، وذكروا في ذلك وجوها:
أ. منها أنه ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والاغترار تنزيلا للواحد منزلة الجمع باعتباره ملحقا بهم.
ب. ومنها أنه قولهم: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم.
29. لا نجد لهذا أو ذاك حجة على التفسير، بل الغالب على الظن ـ والله العالم ـ أن الآية لا تختلف عن مثيلاتها من الآيات التي تختم بالحديث عن صفات الله من خلال مناسبة الموضوع في الآية من أجل تأكيد عظمة الله في أيّ موقف من مواقف القرآن.
30. على ضوء هذا، ربما يكون الحديث عن علم الله للغيب منسجما مع الحديث عن الطبيعة الممتدة الفاعلة للخليفة في هذا المخلوق الجديد مما لم يحط الملائكة بعلمه، ولا بد في هذا المجال من الإيحاء بسعة علم الله بالمستوى الذي يحيط بكل ما يظهره الإنسان أو يضمره ليوقظ في نفسه الإحساس الدائم بالرقابة المستمرة الشاملة عليه، مما يحقق له مزيدا من الانضباط والشعور العميق بعظمة الله، وفي هذه الحال، لا نجد ضرورة تقدير أي شيء للكلمة، لأن القضية لا تنطلق من طبيعة الواقعة الشخصية بل من الطبيعة الأساسية لصفات الله.
31. قد يشعر الإنسان مع هذه الآيات البينات بالحاجة إلى أن يعيش الإحساس بمنزلته ومستواه من خلال هذا الحوار الذي يجسد التكريم الإلهي له من خلال المسؤولية الملقاة على عاتقة، ولا بد ـ في هذا الإحساس ـ من التركيز على أن الخصائص الإنسانية الممنوحة له من الله ليست شرفا يزهو به، بل هي مسئولية يحملها من أجل تفجيرها وتنميتها وتركيزها على الأسس التي يمكن له من خلالها أن يحقق الأهداف التي من أجلها كان وجوده.
32. لعنا نستوحي من ذلك اعتبار هذه الطاقات التي أودعها الله فيه أمانة لديه، فليس له أن يعطلها ويجمدها، أو يوجهها إلى التفاهات التي لا تحقق للحياة شيئا جديدا، ولا تقدمها خطوة إلى الأمام، بل يجب عليه أن يحركها ليحرك الحياة من حوله، وبذلك يخرج الإنسان عن الإطار الذي يحبس فيه نفسه عبر مشاعر الفردية والأنانية التي تجعله لا يفكر إلا بنفسه، لأنه لا يشعر بوجود الآخرين، أو بمسؤوليته الإنسانية عن رعاية هذا الوجود وحمايته من الانحراف والانهيار، بل كل ما عنده هو ذاته، فهي معبوده في أفكاره وأعماله، بعيدا عن كل شيء آخر.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/218.
(2) يقصد الطباطبائي.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن ذكر الله الجواب الإجمالي للملائكة وهو قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ عطف عليه هذا الجواب التفصيلي، ولم يكن جوابا قوليا، فحسب، بل يتضمن القول والفعل معا لأن من شأن المخلوق أن يكون ما يشاهده ويحسه أعمق أثرا في نفسه مما يسمعه، بل المشاهدات تنزل منزلة الأدلة والحجج للمسموعات.
2. هذا العطف من باب عطف المحكي التفصيلي على الحكاية الإجمالية، وفي هذه الإجابة التفصيلية شاهد على أن حياة النوع الإنساني المستخلف في الأرض تدور على العلم، فعليه تتوقف حركتها ونموها وتجددها:
أ. ذلك لأن الله سبحانه وتعالى طبع هذه الحياة الإنسانية بطابع التطور، والتطور قائم على كسب الإنسان نفسه وتصرفه، وقد جعل الله سبحانه في طبيعة تكوين الإنسان وطبيعة الموجودات التي يتعامل معها في الأرض ما يدفعه إلى هذا التطور، فلذلك كان بحاجة إلى معارف استنباطية يستفيدها تجاربه، ويستلهمها من مشاهداته، وذلك بخلاف الحياة الملكية فإنها في غنى عن ذلك كله
ب. من ناحية أخرى فإن الإنسان واقع بين تجاذب وتدافع مستمرين من قبل قوى وطبائع شتى في نفسه، فهو متكون من روح وجسم، ومنطو على عقل وقلب وغرائز وضمير، ولهذه كلها مطالب شتى، والتنسيق بين متطلباتها يدعو إلى العلم والمعرفة حتى لا يؤدي الأمر إلى ضرر نفسي أو اجتماعي.
ج. من ناحية ثالثة فإن الانتفاع بهذه الموجودات التي يتعامل معها الجنس البشري مشترك بين أفراد هذا الجنس، فلذلك كانوا بحاجة ماسة إلى معرفة أجناسها وأسمائها التي تتميز بها كما أنهم بحاجة إلى معرفة خواصها حتى يكون التعامل معها سليما.
3. الأسماء جمع اسم، وهو ما دل على ذات أو معنى، وللناس أقوال فيما علمه آدم من الأسماء:
أ. فبعضهم يرى أن علم اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة، وهو مروي عن ابن عباس.
ب. وذهب بعضهم إلى علم أسماء أجناس الأشياء دون مفرداتها.
ج. وقيل: أن علم أسماء ما تحتاج إليه ذريته مما يستنفعون به في حياتهم.
د. غالى أبو علي الفارسي، فزعم أنه علم كل شيء حتى نحو سيبويه، والمغالاة في ذلك ظاهرة.
هـ. وقيل: إنه علم أسماء الملائكة.
و. وقيل: أسماء الملائكة والبشر، واختاره ابن جرير، وأيده بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ حيث جاء بضمير جمع الذكور، وهو لا يستعمل غالبا إلا في العقلاء، ورُد عليه بأنه استعُمل في القرآن لغير العقلاء مع العقلاء وذلك في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾
ز. وذهبت طائفة إلى أن المراد بالأسماء اللغات، وذلك أنه تعالى علمه جميع اللغات التي تدور على ألسنة ذريته، وقد تلقى كل واحد من أولاده لغة منها، ثم تفرقوا فورثها كل أحد منهم ذريته، وبطلان هذا القول ظاهر، فإن اللغات أكثر بكثير من عدد أولاد صلب آدم، على أن كثيرا منها قد تولد من لغات سابقة ولا تزال تتولد إلى عصرنا هذا.
4. حكى الفخر الرازي عن بعض الناس أن المراد من الأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها، واستدل له الفخر بأن الاسم إما أن يكون مشتقا من السمة أو من السمو:
أ. فإن كان من السمة فهو بمعنى العلامة، وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ماهياتها، فصح أن يطلق الاسم عليها.
ب. وإن كان من السمو فكذلك لأن الدليل يرتفع بمدلوله وهو أسمى منه لتقدمه عليه.
5. بحث الفخر الرازي في تخصيص النحويين الاسم بما هو معروف عندهم، وأجاب أن ذلك عرف حادث لا اعتبار به، ولصحة هذا التفسير لغة يرى الفخر وجوب التعويل عليه هنا لوجهين:
أ. أولهما أن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر منها في معرفة أسمائها، والقصة المحكية هنا إنما تحكى فضيلة آدم على الملائكة.
ب. ثانيهما: أن التحدي يتوقف جوازه على ما كان ممكنا للمتحدي في الجملة، فللعربي أن يتحدى من كان مثله بأن يأتي بمثل كلامه في البلاغة العربية دون أن يقول لزنجي مثلا أت بمثل هذا الكلام، وذلك لأن العقل ليس هو طريق تعلم اللغات، وإنما طريق ذلك الممارسة، أما العلم بحقائق الأشياء فالعقل يتمكن منه مع التجارب التي تتولد منها المعلومات.
6. التحقيق أن الأسماء هي الألفاظ الدالة على الحقائق سواء كانت هذه الحقائق ذوات أو معاني، فإن القرآن نزل باللسان العربي، ومن المعلوم أن العرب يطلقون الاسم على اللفظ الموضوع إزاء المعنى المدلول عليه به، ولا ينبغي أن يفسر القرآن بما تواضع عليه فلاسفة اليونان فان ذلك خارج عن الوضع العربي الذي نزل به، ولا يمنع هذا أن يكون آدم عليه السلام علم خواص الأشياء كما علم أسماءها.. ولا ريب أن معرفة هذه الخواص تتوقف على معرفة الألفاظ التي تعبر عنها، وحياة الناس من الضرورة فيها بمكان معرفة أسماء ما تتوقف عليها من المنافع فإنها حياة اجتماعية لا يستقل فيها أحد بنفسه، ولذلك احتاج الناس إلى وضع أسماء لكل ما يحدث أو يكتشف من الأشياء التي لم تكن معهودة من قبل، وهذا شيء معهود في جميع اللغات خصوصا فيما تتوقف عليه مصالحهم، ومن الذي يستغنى في عصرنا هذا عن معرفة اسم الكهرباء، والمذياع، والسيارة، والطائرة مثلا، وقد كان سلفنا في غنى عن معرفة جميع ذلك لعدم تعاملهم مع هذه الأشياء وعدم تصورهم إياها.
7. بهذا التحرير يتبين لك أن الصحيح هو ما عليه الجمهور من أن المراد بالأسماء الألفاظ الدالة على المعاني، وقد أجاد الشهابان الخفاجي والألوسي حيث قالا: إن فيما حكاه الفخر الرازي نظرا.
8. أصح الأقوال هو أن المراد بالأسماء أسماء الأجناس، وهو قول وسط بين إفراط الغالين وتفريط المقصرين:
أ. إذ دعوى أن الله علمه جميع اللغات التي تتحدث بها ذريته إلى يوم القيامة أو علمه كل ما يكون في المحيط الإنساني إلى أن يرث الله الأرض إفراط لا يستند إلا إلى الوهم.
ب. وقول من قال إن المراد بالأسماء أسماء الملائكة فحسب أو أسماء النجوم، أو أسماؤه تعالى الحسنى ليس بشيء، فان حاجة البشر إلى معرفة الأشياء الأرضية التي تشيد ضرورتهم إليها ابلغ من حاجتهم إلى معرفة أسماء الملائكة والنجوم.
ج. ومن ناحية أخرى فإن قوله تعالى من بعد: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ يدل على أنه سبحانه جاء بمسميات هذه الأسماء فعرضها على الملائكة وطالبهم بأن يخبروه بأسمائها، وإذا كانت هذه الأسماء للملائكة فكيف يكون هذا العرض على الملائكة أنفسهم.
د. والقول بأنه عرض على كل طائفة منهم طوائف أخرى، وطالب الطائفة المعروض عليها أن تخبر بأسماء الطائفة المعروضة هو في منتهى التكلف وليس له حظ من الدليل.
هـ. وأبعد من ذلك عن الصواب القول بأنها أسماء الله الحسنى فإن عرض مسماها مستحيل عقلا ونقلا.
9. من الظاهر بداهة أن المراد بقوله: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ عرض مسميات هذه الأسماء، لا الأسماء نفسها، فإنها أعراض تتعذر مشاهدتها، وعود الضمير على المسميات، وإن لم يسبق لها ذكر لأجل قرينة ذكر أسمائها، والرباط بين الاسم ومسماه رباط قوي، فالأسماء إنما وُضعت لأجل استحضار ماهيات مسمياتها بحيث تكون مجلوة للأذهان، وهذه الصلة بين الاسم ومسماه هي التي أدت بالكثيرين إلى القول بأنهما شيء واحد.
10. جعل ابن المنير الاسكندري من هذه الآية دليلا على أن الاسم هو المسمى، وانتقد فيه الزمخشري بشده حيث أشار إلى التفرقة بينهما، وزعم أن ذلك من الزمخشري فرار عن معتقد أهل السنة وإخلاد إلى ما عليه المعتزلة، وفيما قاله نظر لما سبق لك في تفسير البسملة من أن كثيرا من المحققين من أصحاب المذاهب الأربعة قالوا بالتفرقة بين الاسم والمسمى، فليس القول بذلك من معتقد المعتزلة وحدهم.
11. هذا العرض على الملائكة من الأمور الغيبية المسلمة، ومن العسير تحديد طريقته لعدم قيام دليل على ذلك:
أ. من المحتمل أن يكون الله سبحانه عرض صور هذه المسميات للملائكة كأنما يشاهدون حقائقها عن كثب، وهو أمر هين بالنسبة إلى قدرته عز وجل، وفيما نشاهده الآن من عرض لأجسام غير حاضرة بكل حركاتها وأحوالها مع مصاحبة ذلك بنقل حديثها شاهد على ما ذكرته، فإن الله سبحانه الذي منح خلقه القدرة على ذلك هو أجل وأقدر على كل ما يشاء، فمن الهين عنده تعالى عرض صورة ما لم يخُلق بعد من مصنوعاته.
ب. ويمكن أن يكون ذلك بإحضار هذه المسميات في أذهان الملائكة، وفيما يراه النائم من المشاهد غير الحاضرة شاهد على جواز ذلك، وليس ببعيد أن يكون تعالى قد خلق حالتئذ أفرادا من أجناس هذه المسميات حتى يشاهدها آدم والملائكة ويتصوروها.
12. جمهور المفسرين يقولون بحصول مهلة بين تعليم الله آدم الأسماء وعرضها على الملائكة معولين على ما تدل عليه (ثم) من الترتيب والمهلة، ولا مهلة عندهم بين العرض عليهم ومطالبتهم بأن يخبروا بأسمائها بدليل العطف بالفاء التعقيبية في قوله: فقال) ومرد ذلك ـ حسبما قالوا ـ إلى قصد تبكيت الملائكة، وخالفهم في ذلك ابن عاشور معولا على أن (ثم) هنا للمهلة الرتبية لا للمهلة الزمنية، كما هو شأنها في العطف الجمل.. والذي يقتضيها هنا أن هذا العرض وما ترتب عليه من ظهور عدم علم الملائكة، وظهور علم آدم، وظهور ما خفي من علم الله تعالى وحكمته كل ذلك أرفع رتبة في إظهار مزية آدم واستحقاقه الخلافة من رتبة مجرد تعليمه الأسماء لو لم يتصل بما ذكر.
13. لما كانت مطالبته تعالى للملائكة أن ينبئوه بالأسماء متفرعة عن الغرض المذكور عطفت قصتها عليه بالفاء التفريعية.
14. الإنباء هو الإخبار بالنبأ وهو ما تميز من الأخبار بالفائدة العظيمة والأهمية البالغة بحيث يكون حريا أن يحرص على استفادته كل سامع، وبهذا يكون أخص من الإخبار.
15. أولاء من أسماء الإشارة، و(ها) للتنبيه وهي مألوفة الدخول على أسماء الإشارة، والإشارة بأولاء تستعمل:
أ. فيما إذا كان المشار إليه من جنس العقلاء.
ب. وقد تستعمل في غير العاقل كما أشير بها إلى السمع والبصر والفؤاد في قوله تعالى: ﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً ﴾، فليس في الإشارة به في هذه الآية دليل على أن الأجناس المعروضة لم تكن إلا من العقلاء.
16. هذا الأمر منه سبحانه لم يُقصد به التكليف وإنما أريد به التبكيت وإظهار عجز الملائكة عما لم يجعل الله لهم إليه سبيلا، فلا دليل في الآية لمن قال بتكليف ما لا يُطاق.
17. اختلف في المراد بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ :
أ. قيل: إن كنتم صادقين في أحقيتكم بالخلافة من آدم، وهو ما يفهم من قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾، وإن لم يأتوا به صريحا.
ب. وقيل: المراد به إن كنتم واثقين أن قولكم في هذه الأسماء لن يخرج عن إطار الصدق، وفي هذا منع لهم عن الاجتهاد، فلذلك توقفوا عن الإجابة بخلاف الذي ابتلاه الله بأن أماته مائة عام ثم بعثه فسأله: ﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾ فإنه لم يقيد في الإجابة المطلوبة منه بمثل ما قيدوا به، فلذلك ساغ له الاجتهاد وإن جاز عليه الخطأ.
ج. وقال بعضهم: إن المراد بالصدق هنا العلم، وهو غريب إذ لم تؤلف تسمية العلم بالصدق.
د. وفسره بعضهم بالإصابة نظرا إلى أن الصدق كما يكون في القول يكون في العمل.
هـ. وحكى ابن جرير وأبو عبيد عن بعضهم أنهم حملوا إن هنا على معنى (إذ)، ورده كل منهما، وأطال ابن جرير في هذا الرد وبين أن الذي يكون بمعنى (إذ) هو أن المفتوحة لا المكسورة، لأن المكسورة خاصة بالاستقبال، و(إذ) دالة على المضي فلا يصح حلول إحداهما محل الأخرى.
18. مما يرمي إليه هذا الخطاب الموجه إلى الملائكة تنبيههم على خطئهم ليراجعوا أنفسهم، وينيبوا إلى ربهم، وإن كانوا هم في جميع أحوالهم منيبين، وقد أدركوا هذه الغاية المطلوبة منهم فسارعوا قبل كل شيء إلى تنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله وعظم شأنه وذلك بقولهم: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ وسبحان هو اسم مصدر بمعنى التسبيح، والتسبيح هو تنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق به.
19. في تصدير جوابهم بالتنزيه اعتذار منهم إليه تعالى، ثم صرحوا بالعجز في قولهم: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
20. فيما صدروا به جوابهم من تسبيحه تعالى إقرار بأن أفعاله عز وجل تجل عن العبث، فهي جميعها منطوية على حكم شتى ظهرت للخلق أو لم تظهر، وإنما على المخلوق أن يقف عند حده وأن لا يتجاوز في شيء طوره، فإذا عزب عنه علم شيء من أسرار الله في خلقه أو حكمه في أحكامه فما عليه إلا أن يقدسه تعالى ويبرئ أفعاله من أي عبث ويعترف بالعجز عن الإحاطة بحكمه تعالى في أحكامه أو أسراره في خليفته، وبهذا كانت الملائكة قدوة لسائر الخلق في مثل هذه المواقف.
21. يتضمن جوابهم هذا الاعتذار عن الإنباء بالإنباء بالأسماء، فكأنهم قالوا ربنا إنك لم تعلمنا هذه الأسماء فلا سبيل لنا إلى معرفتها حتى نقدر على الجواب، ثم ردوا علم كل شيء إليه تعالى حيث قالوا: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ وهذه الجملة هي تذليل وتعليل لما تقدم، فإن من شأن الجمل المصدرة بأنّ إذا عقبت حكما أن تكون تعليلا له كما يتضح ذلك لمن استقرأ ما جاء من مثله في القرآن وفي الكلام العربي منثوره ومنظومه.
22. عليم بوزن فعيل وهو من أوزان المبالغة، ولذلك يطلق في المخلوقات على ما يكون كالطبائع والسجايا من صفاتها، فإذا وُصف أحد بأنه عليم أدركت أن العلم صفة ملازمة له، وهكذا يقال في صفتي السميع والبصير ونحوهما، ومن هنا لا يطلقون هذه الصيغة على ما يحدث عرضا، فلا يُقال فيمن علم مرة إنه عليم وإنما يخصون ذلك بمن كان العلم ملكة راسخة في نفسه.
23. في تعريف المسند والمسند إليه مع توسيط ضمير الفصل بينهما ما لا يخفى من تأكيد وصفه تعالى بالعلم بحيث لا يعد غيره جديرا بوصف العلم لأنه تعالى وحده المحيط بكل شيء علما، وعلم كل من عداه لا يوازي شيئا بجانب علمه الأزلي الذي لا يخرج شيء عن حيطته، دقيقا كان أو جليلا، ولهذا كان هذا القصر حقيقيا ولم يكن ادعائيا، فإن كل من عدا الله وإن علم شيئا فإن علمه مسبوق بالجهل، وعلمه بذلك الشيء نسبي فإن ما يجهله من أحواله أكثر بكثير مما يعلمه بخلاف علمه تعالى الذي لا تخفى عنه خافية.
24. الحكيم بمعنى المحكم على الصحيح، واختلف العلماء في إتيان فعيل بمعنى مفعل، ومن أنكر ذلك يضطر في مثل هذه المواطن إلى التأويل فيحمل الحكيم هنا على معنى المفعول، ويتأول ذلك بأنه تعالى محكمة أفعاله، والتكلف بادٍ على هذا التأويل، وإحكام الشيء هو اتقانه ووضع كل جزء منه موضعه، فالمراد من وصفه تعالى بأنه حكيم أنه متقن صنع كل شيء من خلقه، والأصل في الحكمة أن تكون من نتائج العلم، إذ لا يُعقل أن يكون الحكيم غير عالم، فلذلك أتوا بصفة الحكيم بعد صفة العليم.
25. بعد أن عرض الله أجناس المسميات على الملائكة وأمرهم أن ينبئوه بأسمائها فاستعصى ذلك عليهم فلجأوا إلى تسبيحه تعالى معلنين أنهم لا علم لهم إلا ما علمهم إياه، وجه تعالى هذا الخطاب إلى آدم حتى يتبين لهم ما اختصه الله تعالى به من العلم ومنحه إياه من الفهم إذا ما جاء بما ند عن أفهامهم، واستعصى على مداركهم ووجه إليه هذا الخطاب مصدرا بندائه باسمه لما في ذلك من الإيناس والتكريم، كيف والمقام مقام دهشة واضطراب، فإن المخاطب هو الله الذي له ملك السماوات والأرض وهو بكل شيء محيط؟ وهذه سنته تعالى في خطابه لأنبيائه نحو: يا نوح.. يا هود.. يا صالح.. يا شعيب.. يا موسى.. يا عيسى بن مريم.. وانما اختص عزوجل عبده ورسوله محمدا عليه افضل الصلاة والسلام فلم يناده باسمه العلم، بل كان غالب ندائه له بلقب النبوة أو الرسالة، وذلك لأجل الإعلان عن قدره والإشعار بمكانته، وفي ذلك تعليم ضمني بكيفية مخاطبة الناس له صلّى الله عليه وآله وسلّم.
26. أمر الله تعالى آدم عليه السلام أن ينبئ الملائكة بالأسماء التي لم يفهمومها ولم يأمره أن ينبئه هو كما سبق في أمره إياهم للفارق بين الأمرين، فإن أمره سبحانه للملائكة كان امتحانا لهم بخلاف أمره لآدم، فإنه أمر تشريف وتكريم أراد تعالى به إظهار مزيته وبيان ما تنطوي عليه فطرته من الخصائص التكوينية لدرك المعارف التي لم تكن فيهم، ومثل ذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ أن يمتحن أستاذ تلامذته في درس من الدروس التي أملاها عليهم ويطالبهم بتحليل معانيه واستنتاج فوائده، وهو واثق أن أفهامهم لم تستوعب ذلك، ومداركهم لم تستجله، وإنما يريد منهم معرفة قصورهم، فإذا تبين لهم فشلهم قال لتلميذ آخر أيقن منه توقد الفطنة وسعة الإدراك، قم يا فلان وأخبرهم بما لم يفهموه، وفصل لهم ما عزب عن مداركهم وأفهامهم.
27. قام آدم عليه السلام بهذه المهمة التي نيطت به خير قيام فأوضح ما انبهم من أسماء هذه الأجناس التي عُرضت على الملائكة كما يدل عليه قوله سبحانه: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾، وعندئذ نودي عليهم من قبله تعالى بأن أسراره في خلقه، وحكمه في أفعاله لا يحيط بها غيره سبحانه، فليس لأحد بأن يعترضه في أمره، إذ له سبحانه الخلق والأمر، وهذا مطوي تحت إجابته لهم بقوله: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، ولم يذكر سبحانه في سالف القصة نص هذا القول، وإنما ذكر ما يتضمن معناه وهو قوله لهم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وفي هذا دليل على أن المراد بما لا يعلمون هناك هو ما فصله هنا بأنه غيب السماوات والأرض، فما حكي هنا تقرير وتفصيل لما حكي هنالك.
28. الأولى إجراء غيب السماوات والأرض على العموم فيدخل في ذلك كل ما انطوى عليه هذا الوجود من حقائق لم تكتنهها أفهام الخلق، وكل ما حدث أو سيحدث في الكون من أمور لم تحط بها المخلوقات علما، ومن كان محيطا بهذه الخفايا كلها لم تخرج شيء من أمره محلا للنقد أو الاعتراض، وذهب بعض المفسرين إلى:
أ. أن المراد بغيب السماوات أكل آدم وحواء من الشجرة، والمراد بغيب الأرض قتل قابيل لأخيه هابيل، وهو تفسير ضعيف جدا فإن غيب السماوات والأرض أوسع من ذلك بكثير، ومن ناحية أخرى فإن كلا من الأكل أو القتل لم يكن حاصلا عندما وجه الله إلى الملائكة هذا الخطاب.
ب. وذهب بعضهم إلى أن غيب السماوات هو ما قضاه من أمور خلقه، وغيب الأرض هو ما فعلوه فيها بعد القضاء.
ج. وذهب آخرون إلى أن المراد بهذا الغيب أحوال آدم التي علمها الله سبحانه قبل خلقه، وهذا من باب قصر عموم اللفظ على خصوص السبب، والمعول على ما صححه الأصوليون من أنه لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ وإنما دخول السبب الخاص في المراد من اللفظ العام أولوي لأنه مقطوع به، وإبقاء اللفظ هنا على عمومه أليق بكمال الله الذي أحاط بكل شيء علما.
29. الاستفهام في قوله: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ تقريري، فإن ذلك القول لا ريب في وقوعه، والملائكة يعلمون وقوعه ولا ينكرونه، ومن شأن الاستفهام التقريري إذا أريد به إثبات شيء أن يدخل عليه منفيا نحو قوله: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، وقوله: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾، وما في هذه الآية، وهذا لأن في الاستفهام معنى النفي، ونفي النفي اثبات ولذلك إذا أدخل على ما يراد نفيه لم يقترن بحرف النفي نحو قوله عز وجل: ﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾، وقوله: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾
30. لا داعي إلى ما قاله ابن عاشور من أن أداة النفي مقحمة وأن ذلك غالبي في الاستفهام التقريري لقصد التوسيع على المقرر حتى يخُيل إليه أنه يُسأل عن وقوع الشيء فإن أراد أن يزعم نفيه فقد وسع المقرر عليه ذلك ولكنه يتُحقق أنه لا يستطيع إنكاره، فلذلك يقرره على نفيه، فإذا أقر كان إقراره لازما له لا مناص له منه، وأخرج ابن عاشور من هذا الغالب نحو: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ﴾، وقوله: ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾، وفي كلامه ما لا يخفى من الخلط بين ما يراد به الإثبات وما يراد به النفي، وقد علمت الفرق بينهما.
31. اختلف في المراد بما يبدون وما كانوا يكتمون:
أ. قيل ما يبدونه هو قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، وما كانوا يكتمونه هو ما كان إبليس ينطوي عليه من العجب والكبر، أخرج هذا القول ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة، وهو مروي عن سعيد بن جبير ومجاهد والسدى والضحاك والثوري، واختاره ابن جرير وحمل اسناد ما كان ينطوي عليه إبليس إليهم على مثل ما تقول العرب قتل الجيش وهُزموا، وإن كان المقتول أو المهزوم واحدا منهم، ومثله في القرآن: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ﴾ مع أن المنادي لم يكن إلا واحدا من بني تميم.
ب. وروى ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس أن المراد به أن الله يعلم السر كما يعلم العلانية، وقد علم من إبليس ما لم يعلموا إذ قالوا: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾
ج. وروى عن أبي العالية والربيع ابن أنس وقتادة: أن المراد بما يكتمونه هو قولهم فيما بينهم لم يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه، وذلك عندما رأوا خلقه آدم حسبما روى ابن جرير وغيره، وإنما عد ذلك مما يكتمونه مع إفضاء بعضهم به إلى بعض لأن هذا الإفضاء لم يكن إلى عموم الملائكة، بل كان إفضاءاً محدودا حسبما قيل.
د. وفي المنار عن محمد عبده أن الذي يبدونه هو ما يظهر أثره في نفوسهم، وأما ما يكتمون فهو ما يوجد في غرائزهم وتنطوي عليه طبائعهم.
32. جيء بكان الدالة على المضي مع ذكر الكتمان دون الإبداء:
أ. قيل: لأن كتمانهم كان فيما سبق أما بعد أن كشف الله أمرهم فلم يكن كتمان.
ب. الأظهر أنها أريد بها تعميق مفهوم خبرها وهو ضرب من التأكيد كثيرا ما يجيء في القرآن نحو قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، ففائدتها في الكلام تأكيد أنهم كتموا ما كتموه حرصا منهم على أن لا يبدو شيء منه لغيرهم.
33. مما يُستفاد من هذا الدرس وجوب مراقبة النفس في كل ما يلم بها من الخواطر وينتابها من الأفكار فإن الله سبحانه عليم بطوايا الصدور وخفايا الأمور فلا يخفى عليه شيء مما يتلجلج في صدر أحد، وبحصول هذه المراقبة من الإنسان لنفسه يكون يقظا في أمره، بصيرا بما يأتي وما يذر.
34. آدم اسم لأبي البشر، واختلف في أصله:
أ. ذهب طائفة إلى أنه من الأدمة وهي السمرة.
ب. وقيل: البياض، كما يقال ناقة أدماء أي بيضاء.
ج. وقيل: سمي بذلك لخلقه من أديم الأرض، وهو محكي عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، وعول عن ذلك جل الذي يفسرون القرآن بالمأثور.
35. على ما تقدم فهو:
أ. عربي ووزنه أفعل، وإنما لينت الهمزة الساكنة التي هي فاؤه فصارت ألفا.
ب. وخالف في ذلك الزمخشري وتبعه النظار من المفسرين، فقالوا: إنه اسم أعجمي على وزن فاعل بفتح العين كآزر وشالخ، واستدلوا لذلك:
أ. بجمعه على أوادم دون أآدم.
ب. وتصغيره على أويدم لا على أأيدم.
ج. والتكسير والتصغير يردان الألفاظ إلى أصولها.
د. ولم يكن هذا الاسم محصورا عند العرب وحدهم بل نُص عليه في التوراة، ولا يبعد أن يكون انتقاله إلى ألسنة العرب بسبب احتكاكهم بأهل الكتاب ودخول طائفة منهم في دينهم.
36. في هذا الجواب من الملائكة تعليم لغيرهم أن يقفوا عما أشكل عليهم، ولا يدعو علم ما لا يعلمون، وأن يردوا علم كل شيء إليه سبحانه وتعالى، فإن العلم له وحده ولا يصل إلى الناس شيء من علمه إلا ما أفاضه عليهم بمشيئته ولطفه.
37. إذا كان الملائكة ـ وهم في الملأ الأعلى يطلعون على ما لا يطلع عليه البشر من أسرار خلق الله تعالى ـ قد تبرأوا من العلم إلا ما علمهم الله ولم يقتحموا على الإجابة فيقولوا من تلقاء أنفسهم ما لم يأذن به الله، فما بالكم بالإنسان الجاهل الذي خرج من بطن أمه لا يعلم شيئا؟ أنى يسوغ له أن يتسور على أحكام الله فيفتي فيها بجهله آتيا فيها بما لم يأذن به الله؟
38. أليس الأولى له أن يقتدي بملائكة الله فيجيب بلا أدرى فيما لا يدري فيحرز أجر الاعتراف بالحق؟ ويقف في الحد الذي أمره الله أن يقف عنده حيث قال: ﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً ﴾، وناهيكم تحذيرا بالغا من التقول على الله بغير علم أن الله قرنه بالشرك في قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وروى الإمام الربيع عن جابر إرسالا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: من أفتى مسألة أو فسر رؤيا بغير علم كان كمن خر من السماء إلى الأرض فصادف بئر لا قعر لها ولو أنه وافق الحق)
39. في هذه القصة تنويه بشأن العلم والعلماء، وبيان لقيمته في موازين الإسلام، فإن الله إنما شرف الإنسان فبوأه منصب الخلافة في الأرض بما آتاه من العلم، وقد رفع قدره به على أقدار ملائكته المعصومين من الزلل الدائبين على الطاعة، الذين وصفهم بقوله: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾، وبقوله: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾، وذلك حيث أمره بتعليمهم الأسماء، ثم أمرهم بالسجود له اعترافا بفضل العلم وتكريما لأهله.
40. الإسلام بهذا يختلف عن اليهودية والنصرانية اللتين تجعلان من العلم عدوا مبينا للإنسان؛ فاليهودية ترى أن العلم هو سبب إبعاد الإنسان من رحمة الله وطرده من جنته واستحقاقه اللعنة والغضب، والنصرانية ترى أن الهداية لا تكون إلا مع الجهل وذلك بأن يغلف الإنسان عقله، ويغمض عينيه، ويسد أذنيه لئلا تتصور له الحقيقة فتضله عن الدين، وذلك بأن يتلقى كل ما يُلقى إليه من تعاليم الدين تلقي الأعمى والأصم الذي لا يبصر شيئا ولا يسمع شيئا، غير ذلك الذي يُلقى إليه.
41. في القرآن الكريم الكثير من الآيات الدالة على أن هذا الدين لا يقوم إلا على أساس العلم والفهم، منها قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾، وقوله: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
__________
(1) تفسير الخليلي: 3/32.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تعليم الله لآدم تعليم تكويني، أي إن الله أودع هذا العلم في وجود آدم بالقوة، ودفعه خلال مدّة قصيرة إلى المرحلة الفعلية.
2. إطلاق كلمة (تعليم) في القرآن على (التعليم التكويني) ورد في موضع آخر من القرآن، كقوله تعالى: ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ وواضح أن الله سبحانه علّم الإنسان البيان في مدرسة الخلقة، أي منحه الكفاءة والخصائص الفطرية اللازمة للبيان والكلام.
3. كان آدم يملك ـ بفضل الله ـ قابلية خارقة لفهم الحقائق، وشاء الله أن ينقل هذه القابلية من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعل، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ .
4. اختلف المفسرون في تفسير (تعليم الأسماء)، ومن المؤكد أن المقصود من ذلك ليس هو تعليم الأسماء دون المعاني، فذلك لا يكسب آدم فخرا بل المقصود هو معاني الأسماء والمفاهيم والمسميات.. هذا العلم بالكون وبأسرار الموجودات وخواصها، كان مفخرة كبيرة لآدم طبعا.
5. عن أبي العباس قال سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن قول الله: وعلّم آدم الأسماء كلها، ماذا علّمه؟ قال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط ممّا علّمه).
6. علم الأسماء إذن لم يكن يشبه (علم المفردات)، بل كان يرتبط بفلسفة الأسماء وأسرارها وكيفياتها وخواصها، والله سبحانه منح آدم هذا العلم ليستطيع أن يستثمر المواهب المادية والمعنوية في الكون على طريق تكامله.
7. كما منح الله آدم قابلية التسمية، ليستطيع أن يضع للأشياء أسماء، وبذلك يتحدث عن هذه الأشياء بذكر اسمها لا بإحضار عينها، وهذه نعمة كبرى، نفهمها لو عرفنا أن علوم البشرية تنقل عن طريق الكتب والمدوّنات، وما كان هذا التدوين مقدورا لولا وضع الأسماء للأشياء وخواصها.
8. استعمال الضمير (هم) واسم الإشارة (هؤلاء) لا يختص بالعاقل، بل قد يستعملان في جمع مكوّن من عاقل وغير عاقل، وقد يستعملان في جمع غير عاقل، كقوله تعالى: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ والضمير (هم) في الآية يعود على الكواكب والشمس والقمر التي رآها يوسف.
9. عبارة ﴿مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ إشارة إلى أن الملائكة كانوا يخفون شيئا لم يظهروه في أقوالهم، قال بعض المفسرين: إنها إشارة إلى حالة استكبار إبليس الذي كان يومئذ بين الملائكة، وكان يكتم إصراره على عدم الخضوع لآدم.
10. ومن المحتمل أيضا أن تكون العبارة إشارة إلى ما كان يبطنه الملائكة من اعتقاد بأنهم أليق من غيرهم للخلافة الإلهية على الأرض، فهم أشاروا إلى مثل هذا الاعتقاد ولم يصرّحوا به.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/161.
13. آدم والسجود
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈13⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ كانت السجدة لآدم، والطاعة لله(1).
2. روي أنّه قال: إنما سمي إبليس لأن الله أبلسه من الخير كله؛ آيسه منه(2).
3. روي أنه قال إن الله خلق خلقا، فقال: اسجدوا لآدم، فقالوا: لا نفعل، فبعث عليهم نارا تحرقهم، ثم خلق خلقا آخر، فقال: إني خالق بشرا من طين، اسجدوا لآدم، فأبوا، فبعث عليهم نارا تحرقهم، ثم خلق هؤلاء، فقال: اسجدوا لآدم، فقالوا: نعم، وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم(3).
4. روي أنه قال لما خلق الله الملائكة قال إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فقالوا: لا نفعل، فأرسل عليهم نارا، فأحرقتهم، وخلق ملائكة أخرى، فقال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فأبوا؛ فأرسل عليهم نارا، فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة أخرى، فقال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فأبوا؛ فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة أخرى، فقال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فقالوا: سمعنا، وأطعنا، إلا إبليس كان من الكافرين الأولين(4).
5. روي أنه قال كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة، اسمه: عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان أشد الملائكة اجتهادا، وأكثرهم علما، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون: جنا(5).
6. روي أنه قال كان إبليس من أشرف الملائكة، من أكثرهم قبيلة، وكان خازن الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وسلطان الأرض، فرأى أن ذلك له عظمة وسلطانا على أهل السماوات، فأضمر في قلبه من ذلك كبرا لم يعلمه إلا الله، فلما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم خرج كبره الذي كان يسر(6).
7. روي أنه قال كان إبليس أمينا على ملائكة سماء الدنيا، قال فهم بالمعصية، وبغى، واستكبر(1).
8. روي أنه قال لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن؛ وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازنا، فوقع في صدره كبر، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزيد لي على الملائكة، فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، قالوا: ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال يكون له ذرية، يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضا، قالوا: ربنا، أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك!؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون، يعني: من شأن إبليس، فبعث جبريل عليه السلام إلى الأرض؛ ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني، أو تشينني، فرجع، ولم يأخذ، وقال: رب، إنها عاذت بك؛ فأعذتها، فبعث الله ميكائيل، فعاذت منه، فأعاذها، فرجع، فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت، فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخلط، فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء؛ فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فصعد به، فبل التراب حتى عاد طينا لازبا ـ واللازب: هو الذي يلتزق بعضه ببعض ـ، ثم ترك حتى أنتن وتغير، وذلك حين يقول: ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦]، قال منتن، ثم قال للملائكة: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: ٧٢]، فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عليه؛ ليقول له: تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه؟ فخلقه بشرا، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة، ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم منه فزعا إبليس، فكان يمر فيضربه، فيصوت الجسد كما يصوت الفخار، وتكون له صلصلة، فذلك حين يقول: ﴿مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ [الرحمن: ١٤]، ويقول: لأمر ما خلقت، ودخل من فيه، فخرج من دبره، فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صمد، وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي يريد الله ـ جل ثناؤه ـ أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح، فدخل الروح في رأسه عطس، فقالت له الملائكة: قل: الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربك، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء: ٣٧]، ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٣٠ ـ ٣١]، أي: استكبر، وكان من الكافرين، قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال أنا خير منه، لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين، قال الله له: اخرج منها ﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ﴾ يعني: ما ينبغي لك ﴿أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٣]، والصغار هو الذل، قال ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، ثم عرض الخلق على الملائكة، فقال: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أن بني آدم يفسدون في الأرض، ويسفكون الدماء، فقالوا له: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾، قال الله: ﴿يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، قال قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾، فهذا الذي أبدوا، وأعلم ما كنتم تكتمون، يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر(7).
وقد انتقد ابن جرير هذا الأثر، فقال: هذا إذا تدبره ذو الفهم علم أن أوله يفسد آخره، وأن آخره يبطل معنى أوله؛ وذلك أن الله ـ جل ثناؤه ـ إن كان أخبر الملائكة أن ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض تفسد فيها، فقالت الملائكة لربها: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾؛ فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الأرض، فيجوز أن يقال لها فيما طوي عنها من العلوم: أخبرونا بالذي قد طوى الله عنكم علمه، كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه، بل ذلك خلف من التأويل، ودعوى على الله ما لا يجوز أن يكون له صفة، وأخشى أن يكون بعض نقلة هذا الخبر هو الذي غلط على من رواه عنه من الصحابة(8).
وقال ابن كثير: هذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة، فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة(9).
9. روي أنّه قال كان إبليس من حي من أحياء الملائكة، يقال لهم: الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، قال وكان اسمه: الحارث، قال وكان خازنا من خزان الجنة، قال وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي، قال وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ـ وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت، قال وخلق الإنسان من طين، فأول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا، قال فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة ـ وهم هذا الحي الذين يقال لهم: الجن ـ، فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه، وقال: قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد، قال فاطلع الله على ذلك من قلبه، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه؛ فقال الله للملائكة الذين معه: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، فقالت الملائكة مجيبين له: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، كما أفسدت الجن، وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم لذلك، فقال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره، قال ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازبـ واللازب: اللزج الطيبـ من حمأ مسنون منتن، قال وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب، قال فخلق منه آدم عليه السلام بيده، قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى، فكان إبليس يأتيه، فيضربه برجله، فيصلصل ـ أي: فيصوت ـ، قال فهو قول الله تعالى: ﴿مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ [الرحمن: ١٤]، يقول: كالشيء المنفوخ الذي ليس بمصمت، قال ثم يدخل في فيه، ويخرج من دبره، ويدخل من دبره، ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئا للصلصلة، ولشيء ما خلقت! لئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك، قال فلما نفخ الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما، فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: ١١]، قال ضجرا، لا صبر له على سراء ولا ضراء، قال فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال: الحمد لله رب العالمين، بإلهام الله له، فقال الله له: يرحمك الله، يا آدم، قال ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السماوات: اسجدوا لآدم، فسجدوا كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى واستكبر، لما كان حدث به نفسه من كبره واغتراره، فقال: لا أسجد له، وأنا خير منه، وأكبر سنا، وأقوى خلقا، خلقتني من نار وخلقته من طين، يقول: إن النار أقوى من الطين، قال فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله، أي: آيسه من الخير كله، وجعله شيطانا رجيما؛ عقوبة لمعصيته، ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها، ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة ـ يعني: الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم ـ، وقال لهم: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء، ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة، قال فلما علمت الملائكة مؤاخذة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره، الذي ليس لهم به علم، قالوا: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك، ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ تبريا منهم من علم الغيب ﴿إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ كما علمت آدم، فقال: ﴿يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ يقول: أخبرهم بأسمائهم، ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ يقول: أخبرهم بأسمائهم، ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ أيها الملائكة خاصة: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، ولا يعلمه غيري، ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ يقول: ما تظهرون، ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار(10).
وانتقد ابن كثير هذا الأثر بقوله: هذا سياق غريب، وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها(11).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨٤.
(2) ابن جرير: ١/٥٤٣.
(3) ابن جرير: ١/٥٤١.
(4) ابن جرير: ١٤/٦٥ ـ: ٦٦.
(5) ابن جرير: ١/٥٣٦.
(6) الدرّ المنثور: ابن المنذر.
(7) ابن جرير: ١/٤٨٧ ـ: ٤٨٨.
(8) ابنُ جرير: ١/٤٨٩.
(9) تفسير ابن كثير: ١/٢٣٠.
(10) ابن جرير: ١/٤٨٢ ـ: ٤٨٥.
(11) تفسير ابن كثير: ١/٣٥٥.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: لما ركب نوح السفينة إذا هو بإبليس على كوثلها، فقال له: ويحك، قد غرق الناس من أجلك، قال فما تأمرني؟ قال تب، قال سل ربك، هل لي من توبة؟ قال فقيل له: إن توبته أن يسجد لقبر آدم، قال تركته حيا وأسجد له ميتا!؟(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/١٨١.
السجاد:
سئل الإمام السجاد (ت 94 هـ): أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل؟ فقال: ما من عمل بعد معرفة الله عز وجل ومعرفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أفضل من بغض الدنيا، وإن لذلك شعبا كثيره، وللمعاصي شعبا: فأول ما عصي الله به الكبر، وهو معصية إبليس حين أبى واستكبر، وكان من الكافرين.. والحرص، وهو معصية آدم وحواء حين قال الله عز وجل لهما: ﴿فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فأخذا ما كان لا حاجة بهما إليه، فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة، وذلك أن أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه.. ثم الحسد، وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك: حب النساء، وحب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الراحة، وحب الكلام، وحب العلو، والثروة، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء ـ بعد معرفة ذلك ـ: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والدنيا دنياءان: دنيا بلاغ، ودنيا ملعونة(1).
__________
(1) الكافي: 2/239/8.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ أمرهم أن يسجدوا، فسجدوا له؛ كرامة من الله أكرم بها آدم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨٣.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن أول كفر كفر بالله ـ حيث خلق الله آدم ـ كفر إبليس، حيث رد على الله أمره، وأول الحسد حسد ابن آدم أخاه، وأول الحرص حرص آدم، نهي عن الشجرة فأكل منها فأخرجه حرصه من الجنة(1).
2. روي عنه حديث يذكر بعض التفاصيل التاريخية سقناه هنا بناء على كونه يذكر بداية تحريف العقائد، ويتوافق في ذلك ما ورد في القرآن الكريم، ونص الحديث هو ما روي عن الإمام الباقر أنّه قال: إن إبليس اللّعين هو أوّل من صوّر صورةً على مثال آدم عليه السلام ليفتن به النّاس ويضلّهم عن عبادة الله تعالى، وكان ودّ في ولد قابيل، وكان خليفة قابيل على ولده وعلى من بحضرتهم في سفح الجبل يعظّمونه ويسوّدونه، فلمّا أن مات ودّ جزع عليه إخوته وخلّف عليهم ابناً يقال له: سواع فلم يغن غنا أبيه منهم، فأتاهم إبليس في صورة شيخ فقال: قد بلغني ما أصبتم به من موت ودّ وعظيمكم فهل لكم فيّ أن أصوّر لكم على مثال ودّ صورةً تستريحون إليها وتأنسون بها؟ قالوا: افعل، فعمد الخبيث إلى الآنك فإذا به حتّى صار مثل الماء، ثمّ صوّر لهم صورةً مثال ودّ في بيته، فتدافعوا على الصّورة يلثمونها ويضعون خدودهم عليها ويسجدون لها، وأحبّ سواع أن يكون التعظيم والسّجود له، فوثب على صورة ودّ، فحكّها حتّى لم يدع منها شيئاً وهمّوا بقتل سواع، فوعظهم وقال: أنا أقوم لكم بما كان يقوم به ودّ، وأنا ابنه، فان قتلتموني لم يكن لكم رئيس، فمالوا إلى سواع بالطّاعة والتّعظيم، فلم يلبث سواع أن مات وخلّف ابناً يقال له: يغوث فجزعوا على سواع فأتاهم إبليس وقال: أنا الّذي صوّرت لكم صورة ودّ، فهل لكم أن أجعل لكم مثال سواع على وجه لا يستطيع أحد أن يغيّره قال فافعل، فعمد إلى عود فنجّره ونصبه لهم في منزل سواع، وإنّما سمّي ذلك العود خلافاً، لأنّ إبليس عمل صورة سواع على خلاف صورة ودّ، فسجدوا له وعظّموه، وقالوا ليغوث: ما نأمنك على هذا الصّنم أن تكيده كما كاد أبوك مثال ودّ، فوضعوا على البيت حرّاساً وحجّاباً، ثم كانوا يأتون الصّنم في يوم واحد ويعظّمونه أشدّ ما كانوا يعظّمون سواعاً، فلمّا رأى ذلك يغوث قتل الحرسة والحجاب ليلاً وجعل الصنم رميماً، فلما بلغهم ذلك أقبلوا ليقتلوه فتوارى منهم إلى أن طلبوه ورأّسوه وعظّموه، ثمّ مات وخلّف ابناً يقال له: يعوق فأتاهم إبليس، فقال: قد بلغني موت يغوث وأنا جاعل لكم مثاله في شيء لا يقدر أحد أن يغيّره قالوا: فافعل، فعمد الخبيث إلى حجر جرع أبيض، فنقره بالحديد حتّى صوّر لهم مثال يغوث، فعظّموه أشدّ ما مضى، وبنوا عليه بيتاً من حجر، وتبايعوا أن لا يفتحوا باب ذلك البيت إلاّ في رأس كلّ سنة، وسُميّت البيعة يومئذ، لانّهم تبايعوا وتعاقدوا عليه، فاشتدّ ذلك على يعوق، فعمد إلى ريطة وخلق فألقاها في الحاير ثمّ رماها بالنّار ليلاً، فأصبح القوم وقد احترق البيت والصّنم والحرس وأرفض الصنم ملقى، فجزعوا وهمّوا بقتل يعوق، فقال لهم: إن قتلتم رئيسكم فسدت أموركم فكفّوا.. فلم يلبث أن مات يعوق، خلّف ابناً يقال له: نسراً، فأتاهم إبليس فقال: بلغني موت عظيمكم، فأنا جاعل لكم مثال يعوق في شيء لا يبلى، فقالوا: افعل فعمد إلى الذّهب وأوقد عليه النّار حتّى صار كالماء، وعمل مثالاً من الطّين على صورة يعوق، ثم أفرغ الذّهب فيه، ثمّ نصبه لهم في ديرهم، واشتدّ ذلك على نسر ولم يقدر على دخول تلك الدّير، فانحاز عنهم في فرقة قليلة من إخوته يعبدون نسراً، والآخرون يعبدون الصّنم، حتّى مات نسر وظهرت نبّوة إدريس، فبلغه حال القوم وأنّهم يعبدون جسماً على مثال يعوق وأنّ نسراً كان يعبد من دون الله، فصار اليهم بمن معه حتى نزل مدينة تشر وهم فيها، فهزمهم وقتل من قتل وهرب من هرب، فتفرّقوا في البلاد، أمروا بالصّنم فحمل وألقي في البحر، فاتخذت كلّ فرقة منهم صنماً وسمّوها بأسمائهم، فلم يزالوا بعد ذلك قرناً بعد قرن لا يعرفون إلاّ تلك الأسماء، ثمّ ظهرت نبوّة نوح عليه السلام، فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك ما كانوا يعبدون من الأصنام، فقال بعضهم: ﴿لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23](2).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1 لا: 34/17.
(2) قصص الأنبياء للراوندي، ص66.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ كانت السجدة لآدم، والطاعة لله، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ حسد عدو الله إبليس آدم على ما أعطاه من الكرامة، فقال: أنا ناري، وهذا طيني، فكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدو الله أن يسجد لآدم(2).
3. روي أنّه قال: كان الحسن يقول: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: ٥٠]: ألجأه إلى نسبه، فقال الله: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي﴾ [الكهف: ٥٠] الآية، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٤٦.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٨٤.
(3) ابن جرير: ١/٥٤٠.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ أي اجعلوه قبلة والسّجود لله تعالى.. ويقال: سجدة تحية.. ويقال: سجدة عبادة.. والسّجود: الخضوع(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ أي تعظّم، وسمي بذلك لأنه أيس من الرّحمة لعتوه وكفره(2).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 80.
(2) تفسير الإمام زيد، ص 81.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن أمر الله تعالى ذكره لا يحمل على المقاييس، ومن حمل أمر الله على المقاييس هلك وأهلك، إن أول معصية ظهرت الإبانة من إبليس اللعين حين أمر الله تعالى ذكره ملائكته بالسجود لآدم، فسجدوا وأبى إبليس اللعين أن يسجد، فقال عز وجل: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12]، فكان أول كفره قوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: 12]، ثم قياسه بقوله: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12]، فطرده الله عز وجل عن جواره ولعنه وسماه رجيما، وأقسم بعزته لا يقيس أحد في دينه إلا قرنه مع عدوه إبليس في أسفل درك من النار(1).
2. روي أنّه سئل: أيصلح السجود لغير الله؟.. قال لا، قيل: فكيف أمر الله الملائكة بالسجود؟.. فقال: إن من سجد بأمر الله فقد سجد لله فكان سجوده لله إذ كان عن أمر الله.. ثم قال: فأما إبليس فعبدٌ خلقه ليعبده ويوحده، وقد علم حين خلقه ما هو وإلى ما يصير، فلم يزل يعبده مع ملائكته حتى امتحنه بسجود آدم، فامتنع من ذلك حسدا وشقاوة غلبت عليه فلعنه عند ذلك، وأخرجه عن صفوف الملائكة، وأنزله إلى الأرض مدحورا، فصار عدو آدم وولده بذلك السبب، وما له من السلطنة على ولده إلا الوسوسة والدعاء إلى غير السبيل، وقد أقر مع معصيته لربه بربوبيته(2).
3. روي أنّه سئل: أكان إبليس من الملائكة أم من الجنّ؟.. قال: كانت الملائكة ترى أنّه منها، وكان الله يعلم أنّه ليس منها، فلمّا أمر بالسّجود كان منه الّذي كان(3).
4. روي أنّه قال: أمر ابليس بالسّجود لآدم، فقال: يا ربّ وعزّتك إن أعفيتني من السّجود لآدم لأعبدك عبادة ما عبدك أحد قطّ مثلها قال الله جلّ جلاله: إني احبّ أن اطاع من حيث أُريد(3).
5. روي أنه سئل: جعلت فداك، بماذا استوجب إبليس من الله أن أعطاه ما أعطاه؟ فقال: (بشي ء كان منه شكره الله عليه)، قيل: وما كان منه، جعلت فداك؟ قال: (ركعتان ركعهما في السماء في أربعة آلاف سنة(4).
6. عن جميل، قال: كان الطيار يقول لي: إبليس ليس من الملائكة، وإنما أمرت الملائكة بالسجود لآدم، فقال إبليس: لا أسجد، فما لإبليس يعصي حين لم يسجد، وليس هو من الملائكة!؟ قال فدخلت أنا وهو على الإمام الصادق، قال فأحسن والله في المسألة فقال: جعلت فداك أرأيت ما ندب الله عز وجل إليه المؤمنين من قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أدخل في ذلك المنافقون معهم؟ قال نعم، والضلال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة، وكان إبليس ممن أقر بالدعوة الظاهرة معهم(5).
7. روي أنّه قال: إياك والغضب، فإنه مفتاح كل شر.. إن إبليس كان مع الملائكة، وكانت الملائكة تحسب أنه منهم، وكان في علم الله أنه ليس منهم، فلما أمر بالسجود لآدم حمي وغضب، فأخرج الله ما كان في نفسه بالحمية والغضب(6).
8. روي أنه سئل عن الكفر والشرك أيهما أقدم؟ فقال: الكفر أقدم، وذلك أن إبليس أول من كفر، وكان كفره غير شرك، لأنه لم يدع إلى عبادة غير الله، وإنما دعا إلى ذلك بعد فأشرك(7).
9. روي أنه سئل عما ندب الله الخلق إليه، أدخل فيه الضلال؟ قال: نعم، والكافرون دخلوا فيه، لأن الله تبارك وتعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، فدخل في أمره الملائكة وإبليس فإن إبليس كان مع الملائكة في السماء يعبد الله، وكانت الملائكة تظن أنه منهم، ولم يكن منهم، فلما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد، فعلمت الملائكة عند ذلك أن إبليس لم يكن منهم)، فقيل له: كيف وقع الأمر على إبليس، وإنما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم!؟ فقال: كان إبليس منهم بالولاء، ولم يكن من جنس الملائكة، وذلك أن الله خلق خلقا قبل آدم، وكان إبليس حاكما في الأرض، فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله الملائكة فقتلوهم، وأسروا إبليس ورفعوه إلى السماء، فكان مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق الله تبارك وتعالى آدم(8).
10. روي أنّه قال: لما أعطى الله تبارك وتعالى إبليس ما أعطاه من القوة، قال آدم: يا رب، سلطت إبليس على ولدي، وأجريته فيهم مجرى الدم في العروق، وأعطيته ما أعطيته، فما لي ولولدي؟ فقال: لك ولولدك السيئة بواحدة، والحسنة بعشر أمثالها، قال رب، زدني، قال التوبة مبسوطة إلى حين تبلغ النفس الحلقوم، قال يا رب، زدني، قال أغفر ولا أبالي قال حسبي(4).
__________
(1) بحار الأنوار: 13/289.
(2) بحار الأنوار: 11/139.
(3) قصص الأنبياء للراوندي، ص40.
(4) تفسير القمّي: 1/42.
(5) الكافي: 2/303/1.
(6) كتاب الزهد: ص26/61.
(7) الكافي: 2/284/8.
(8) تفسير القمّي: 1/35.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ وحده، فاستثنى؛ لم يسجد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾، يعني: وتكبر عن السجود لآدم، وإنما أمره الله تعالى بالسجود لآدم لما علم الله منه، فأحب أن يظهر ذلك للملائكة ما كان أسر في نفسه، قال ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢](2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٩٨.
(2) تفسير مقاتل: ١/٩٩.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال خلق الله آدم في سماء الدنيا، وإنما أسجد له ملائكة سماء الدنيا، ولم يسجد له ملائكة السماوات(1).
2. روي أنه قال وقال آخرون: هم سبط من الملائكة قبيلة، فكان اسم قبيلته: الجن(2).
__________
(1) أبو الشيخ: ١٠٤٣.
(2) ابن جرير: ١/٥٤٠.
عيينة:
سئل سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) عن قوله: (ليدخلن الجنة إلا من أبى)، قال إلا من عصى الله؛ لقوله تعالى: ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨٤.
المزني:
روي عن أبي إبراهيم المزني (ت 264 هـ) أنه سئل عن سجود الملائكة لآدم، فقال: إن الله تعالى جعل آدم كالكعبة(1).
__________
(1) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٧/٣٩٨.
الهادي إلى الحق:
سئل الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) عن قول الله سبحانه: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34]، فقال: إبليس لعنه الله أُمر بالسجود، كما أمرت الملائكة فأطاعت وسجدت، وكفر واستكبر على آدم صلى الله عليه، والسجود فإنما كان لله عز وجل لا لآدم، وإنما قال ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ أي من أجل آدم، وما أظهرت فيه من عجائب الصنع والتدبير، وعظيم الفعل والتقدير(1)..
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/149.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. السجود ليس بنفسه عبادة؛ إذ قد يجوز السجود لأحد من الخلق كما أمر به لآدم عليه السلام: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [البقرة: 34] ولم يجز الأمر بالعبادة لآدم، ولله اسم المعبود، ولو جاز لأحد ذلك لكان غير الله إله، دليل ذلك تسمية العرب كلّ شيء يعبدونه إلها، ولا قوة إلا بالله.
2. السجود يحتمل وجهين:
أ. الوجه الأول: الخضوع: كما قال الله تعالى: ﴿يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية [الحج: 18]، وقوله: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: 6]، فإن كان المراد منه الخضوع له والتعظيم، فكذلك يحتمل وجهين:
• أحدهما: أن الله تعالى إذ فضله عليهم بما أطلعه على علوم خصه بها أمره بالخضوع والتعظيم]، فذلك الحق على كل محتاج إلى آخر ما به رجاء النجاة، أو درك العلو والكرامة أن يعظمه ويبجّله، ويخضع له.
• الثاني: امتحنهم بوجه يظهر قدر الطاعة؛ لأن الخضوع لمن يعلو أمره ويجلّ قدره أمر سهل، عليه طبع الخلق، فإذا كان في تقدير المأمور بالخضوع أنه دونه في الرتبة، أو شكله، أو لم يكن بينهم كثير تفاوت اشتدّت المحنة في مثله بالطاعة له والخضوع، فامتحنهم الله به حتى ظهر الخاضع لله، والمستسلم لحقه، والمتكبر في نفسه، وهو إبليس.. وعلى ذلك الغالب من أتباع الأنبياء عليهم السلام والذين يأبون ذلك، أن الذي يحملهم على الإباء عظمهم في أنفسهم، وظنّهم أنهم أحقّ بأن يكونوا متبوعين.
ب. الوجه الثاني: أن يكون المراد من ذكر السجود حقيقة السجود، فهو يخرّج على وجهين:
• أحدهما: أن يجعل السجود تحية؛ ألزم الملائكة تحية آدم به، وهو ابتداء ما أكرم به أصل الإنس، وإليه مرجع جملة المؤمنين في الجنة أن يأتيهم الملائكة بالتحيات والتحف، وإن اختلفت أنفس التحيات، وفى ذلك دليل بيّن: أنّ السجود ليس بعبادة في نفسه؛ إذ قد يؤمر به للبشر، ولا يجوز الأمر بعبادة غير الله؛ فيكون السجود لغيره من حيث الفعل، والعبادة به لله كغيره من المعروف، يصنع إلى الخلق.. ومثله أمر سجود يعقوب وأولاده ليوسف عليه السلام.
• الثاني: أن يكون السجود له بمعنى التوجه إليه، وهى الحقيقة لله تعالى، نحو السجود إلى الكعبة لله تعالى تعظيما له، وتبجيلا لكعبته، وتخصيصا من بين البقاع.. كذلك أمر السجود لآدم عليه السلام، تعظيما له وتبجيلا من بين سائر البشر، كلاهما سيّان.
3. ثبت نسخ السجود للخلق بما روى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: لو كان يحل لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)
4. لما جعل السجود في العبادة عبادة للمسجود له، واعترافا بعرف الأشرار بعبادة عظمائهم، ومن يعبدونه من دون الله؛ فيصير ذلك المعنى هو السابق في القلوب، وذلك مما لا يحتمل لأحد دون الله؛ فنهى عنه لذلك ـ وإن لم يكن بنفسه عبادة للمسجود له في الحقيقة ـ كما نهى عن أشياء بما يتصل بها من الوحشة، وإن لم يكن ذلك في الحقيقة محتملا له، فكذلك الأمر الأول، كما نهى عن سبّ من يعبد من دون الله خوفا لسبّ الله، ويؤمر بأمور ليست ـ بنفسها ـ بقربة ليتوصل بها إلى القربة، كالسعي إلى الحج والجمعة، ونحو ذلك.
5. فيه أن السّنّة تنسخ الكتاب(2).؛ لأن السجود لآدم عليه السلام في الكتاب، ومثله السجود ليوسف، ثم نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك فحرم؛ فدل أن السنة تنسخ الكتاب.
6. عن ابن جريج قال سجود الملائكة لآدم إيماء، ولم يكن يحل وضع الوجه بالأرض لأحد.. وعن ابن عباس قال كان سجود الملائكة سجود تحية، ولم يكن سجود عبادة.. وعن قتادة قال كانت الطاعة لله، والسجدة لآدم عليه السلام إكراما له.
7. اختلف في إبليس: إنه لم كفر بالله؟
أ. قيل: إنّه كفر لما لم ير الأمر بسجود من فوقه لمن هو دونه حكمة.
ب. وقيل: كفر لما رأى أن الله تعالى وضع الأمر في غير موضع الأمر، ورآه جورا؛ فكفر به.
ج. وقيل: كفر لما أبى الائتمار بالسجود واستكبر فكفر.
د. وقيل: كفر لما أضمر إضلال الخلق.
هـ. وقيل: أبى الطاعة فيما أمر به، واستكبر على آدم؛ لما رأى لنفسه فضلا عليه بقوله: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12].
8. اختلف في معنى قوله: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ :
أ. قيل: أي صار كقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [النساء: 22]، وكقوله: ﴿فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الأعراف: 175] أي صار.
ب. وقيل: كان في علم الله تعالى أنّه سيكفر.
9. اختلف في إبليس:
أ. قال بعضهم: هو من الملائكة.
ب. وقال آخرون: لم يكن من الملائكة، وهو قول الحسن؛ والأصم.
10. استدلّ الذين ذكروا أنه لم يكن من الملائكة بوجوه:
أ. أحدها: ما ذكر عزّ وجل عن طاعة الملائكة له بقوله: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ الآية [التحريم: 6].. وقال: ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ﴾ الآية [الأنبياء: 27].. وقال: ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ الآية [الأنبياء: 19]، ووصف الله تعالى طاعتهم له، وائتمارهم إياه؛ فلو كان اللعين الرجيم منهم لأطاعه كما أطاعوه.
ب. الثاني: قوله: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12] والملائكة إنما خلقوا من النور.
ج. الثالث: قوله تعالى: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: 50] ولم يقل من الملائكة فدلّ هذه الآيات أنه لم يكن من الملائكة.
د. أما قوله تعالى: ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ فمبني على جواز الاستثناء من غير نوع المستثنى منه؛ نحو ما يقال: دخل أهل الكوفة هذه الدار إلا رجلا من أهل المدينة، وذلك جائز في اللغة.. ويستدل بالاستثناء أن الأمر كان عليهم جميعا في الأصل، وكان الأمر بالسجود له وللملائكة جميعا؛ كقوله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة: 199] دل أن كان هنالك أمر للناس بالإفاضة، فكذلك الأول، والله أعلم.
11. استدلّ من قال إنه من الملائكة بما يلي:
أ. أنه لما لم يذكر في قصة من القصص ـ مع كثرة التكرار لها في القرآن، وغيره من الكتب السالفة ـ أنه ليس منهم.
ب. ليس فيما ذكر من الآيات ما يدل على أنه لم يكن منهم؛ لأن قوله: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6] لو لم يتوهم منهم العصيان والخلاف لله تعالى لم يكن للمدح بالطاعة والخضوع له معنى، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ الآية [الأنبياء: 29] مع ما ذكرنا: أنهم يمتحنون بأنواع المحن، وكل ممتحن في شيء يجوز كون المعصية منه والخلاف لديه.
ج. أما قوله: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: 50] أي صار من الجن.. وقيل: الجنّ أراد به الملائكة؛ سمّوا جنّا لاستتارهم عن الأبصار؛ كقوله: ﴿وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [النجم: 32].
د. أما قوله خلق الملائكة من النّور، وإبليس من النار ـ فهو واحد؛ لأنه أخبر ـ عز وجل ـ أنه خلقه من مارج من نار.. وقيل: المارج هو لهبها مع ما ليس في القرآن، ولا في الخبر أنهم إنما خلقوا من النور، ولم يخلقوا من غيره.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/420.
(2) لا نرى صحة هذا.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في أمر الله سبحانه وتعالى ملائكته بالسجود له:
أ. تكرمة له وإجلالاً له.
ب. والثاني جعله قبلة لهم فأمرهم بالسجود إلى قبلتهم، وفيه ضرب من التعظيم له.
2. أصل السجود الخضوع والتطامن، قال الشاعر:
تجمع يظل الرق في حجراته... ترى الاكم فيها سجداً للحوافر
وسمي سجود الصلاة سجوداً لما فيه من الخضوع، فسجد الملائكة لآدم طاعة لله سبحانه وامتثالاً لأمره إلا إبليس أبى واستكبر.
2. لم يكن إبليس من الملائكة، وإنما هذا الاستثناء منقطع، ومثله كقوله تبارك وتعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ [النساء: 157]، واتباع الظن ليس من العلم بشيء.
3. اشتقاق إبليس من الإبلاس، ومنه اليأس من الخير، ومنه قوله: ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام]، أي آيسون من الخير، قال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً... قال نعم أعرفه وأبلسا
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/43.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف أهل التأويل في أمره الملائكة بالسجود لآدم، على قولين:
أ. أحدهما: أنه أمرهم بالسجود له تكرمة وتعظيما لشأنه.
ب. الثاني: أنّه جعله قبلة لهم، فأمرهم بالسجود إلى قبلتهم، وفيه ضرب من التعظيم.
2. أصل السجود الخضوع والتطامن، قال الشاعر:
بجمع تضلّ البلق في حجراته... ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر
3. سمى سجود الصلاة سجودا، لما فيه من الخضوع والتطامن، فسجد الملائكة لآدم طاعة لأمر الله تعالى إلا إبليس أبى أن يسجد له حسدا واستكبارا.
4. في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه قد كان قبله قوم كفار، كان إبليس منهم.
ب. الثاني: أن معناه: وصار من الكافرين:
ج. الثالث: وهو قول الحسن: أنه كان من الكافرين، وليس قبله كافر، كما كان من الجنّ، وليس قبله جنّ، وكما تقول: كان آدم من الإنس، وليس قبله إنسيّ.
5. اختلفوا في إبليس، هل كان من الملائكة أم لا؟ على قولين:
أ. أحدهما: أنه كان من الملائكة، وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود، وابن المسيب، وابن جريج، لأنه استثناء منهم، فدلّ على دخوله منهم.
ب. الثاني: أنه ليس من الملائكة، وإنما هو أبو الجن، كما أن آدم أبو الإنس، وهذا قول الحسن وقتادة وابن زيد، ولا يمتنع جواز الاستثناء من غير جنسه، كما قال تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾، [النساء: 157] وهذا استثناء منقطع.
6. اختلف في تسميته بإبليس على قولين:
أ. أحدهما: أنه اسم أعجمي وليس بمشتقّ.
ب. الثاني: أنه اسم اشتقاق، اشتقّ من الإبلاس وهو اليأس من الخير، ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 44] أي آيسون من الخير، وقال العجّاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا... قال نعم أعرفه، وأبلسا
7. من ذهب إلى أن إبليس كان من الملائكة، اختلفوا في قوله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ لم سماه الله تعالى بهذا الاسم، على أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنهم حي من الملائكة يسمّون جنّا كانوا من أشدّ الملائكة اجتهادا، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنه جعل من الجنّ، لأنه من خزّان الجنّة، فاشتق اسمه منها، وهذا قول ابن مسعود.
ج. الثالث: أنه سمي بذلك لأنه جنّ عن طاعة ربّه، وهذا قول ابن زيد.
د. الرابع: أن الجنّ لكلّ ما اجتنّ فلم يظهر، حتى إنهم سمّوا الملائكة جنا لاستتارهم، وهذا قول أبي إسحاق، وأنشد قول أعشى بني ثعلبة:
لو كان حيّ خالد أو معمّرا... لكان سليمان البري من الدّهر
براه إلهي واصطفاه عباده... وملّكه ما بين نوبا إلى مصر
وسخّر من جنّ الملائك تسعة... قياما لديه يعملون بلا أجر
فسمّى الملائكة جنّا لاستتارهم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/102.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. السجود والخضوع والتذلل بمعنى واحد في اللغة، ونقيض التذلل التكبر يقال سجد يسجد سجودا، واسجد اسجادا: إذا خفض رأسه من غير وضع لجبهته، قال الشاعر:
وكلتاهما خرت واسجد رأسها... كما سجدت نصرانة لم تحنف
والسجود في الشرع: عبارة عن عمل مخصوص في الصلاة ـ والركوع والقنوت كذلك ـ وهو وضع الجبهة على الأرض، ويقال سجدنا لله سجوداً، وقوم سجد ونساء سجد، والسجد من النساء: الفاترات الأعين، قال الشاعر:
أغرك مني ان ذلك عندنا... واسجاد عينيك الصيودين رابح
2. اختلفوا في امر الملائكة والسجود لآدم على وجهين:
أ. قال قوم: انه أمرهم بالسجود له تكرمة وتعظيما لشأنه، ـ وهو المروي في تفسيرنا واخبارنا ـ وهو قول قتادة وجماعة من اهل العلم، واختاره ابن الإخشيد والرماني، وجرى ذلك مجرى قوله: ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ في أولاد يعقوب، ولأجل ذلك جعل أصحابنا هذه الآية دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة من حيث أمرهم بالسجود له والتعظيم على وجه لم يثبت ذلك لهم بدلالة امتناع إبليس من السجود له وأنفته من ذلك، وقوله: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ولو كان ذلك على وجه كونه قبلة لما كان لذلك وجه، ولا فيه أنفة ولا يحسن أن يؤمر الفاضل بتعظيم المفضول على نفسه، لأن ذلك سفه به.
ب. وقال الجبائي والبلخي وجماعة أنه جعله قبلة لهم فأمرهم بالسجود الى قبلتهم، وفيه ضرب من التعظيم له وهذا ضعيف، لأنه لو كان على وجه القبلة لما امتنع إبليس من السجود، ولما استعظمته الملائكة، ولكن لما أراد ذلك تعظيما له على وجه ليس بثابت لهم، امتنع إبليس وتكبر.
3. اختلف في قوله: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾
أ. قال قوم: يدل على أنه كان قبله قوم كفار من الجن.
ب. وقال آخرون: لا يدل، ويجري ذلك مجرى قول القائل: كان آدم من الانس، ولم يكن قبله انسي، وكان إبليس من الجن ولم يكن قبله جني، ومعناه: صار من الكافرين.
4. من قال ان إبليس كان من جملة الملائكة، قال كان من جملة المأمورين بالسجود لآدم بدلالة قوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾، ولأنه استثناه من جملتهم ولم يكن منهم، علمنا انه كان من جملة المأمورين كقول القائل: أمر أهل البصرة بدخول الجامع فدخلوا إلا رجلا من أهل الكوفة، فإنه يعلم بهذا ان غير اهل البصرة كان مأموراً بدخول الجامع غير ان أهل البصرة كانوا اكثر فلذلك خصوا بالذكر، وكذلك القول في الآية.
5. من استدلّ بهذه الآية على أن أفعال الجوارح من من الايمان من حيث لو لم يكن كذلك، لوجب ان يكون إبليس مؤمناً بما معه من المعرفة بالله وان فسق بابائه، فقد أبعد، لأن المخالف يقول: إذا علمت كفره بالإجماع علمت انه لم يكن معه إيمان أصلا، كما إذا رأيت انه يصلي للشمس علمت ان معه كفراً، وان كانت، صلاته للشمس ليست كفراً.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/149.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. السجود هو ـ الخضوع والانحناء، وقيل: هو التذلل يقال: سجد يسجد سجودًا، ثم صار في الشرع اسمًا لوضع الجبهة على الأرض على وجه العبادة، وينقسم إلى سجدة الصلاة، وسجدة السهو، وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر، وحقيقته: خفض الرأس على جهة الخضوع.
ب. الإباء: ترك الطاعة، أبى يَأبى إباءً: ترك الطاعة ومال إلى المعصية، وأبى وامتنع نظائر، وأصل الإباء الامتناع.
ج. الاستكبار والتكبر والتعظم والتجبر نظائر، ونقيضه التواضع، والكبرياء اسم للتكبر والعظمة قال الشاعر:
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأْفَةٍ لَيْسَ فِيهِ... جَبَرُوتٌ يُرَى وَلاَ كِبْرِيَاءُ
وأصل الباب: الكِبَرُ وهو العظم، ثم يستعمل على وجهين: كبر الجثة، وهو الأصل، وكبر الشأن واللَّه تعالى كبير بمعنى عظيم الشأن واسع المقدور والمعلوم.
د. اختلف في إبليس:
• قيل: اسم أعجمي معرب؛ ولذلك ترك صرفه، عن الزجاج وجماعة من النحاة.
• وقيل: هو من الإبلاس، وأنشد العجاج:
يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا... قَاَل نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
قالوا: إنما لم يجز استثقالاً؛ إذ كان اسمًا لا نظير له في العربية، فشبه بأسماء العجم ولا يجزي.
• الصحيح أنه اسم أعجمي عُرِّبَ وتُرِكَ صرفه، وقوله: لا نظير له ليس كذلك؛ لأنهم قالوا: إزميل اسم للشفرة، والإغريض الطلع، ونظائره تكثر.
2. ﴿أَبَى﴾ امتنع عن السجود لآدم، وقيل: كره، وليس بالصحيح؛ لأنه ليس في اللغة.
3. ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ أي تعظم وتجبر، وأَنِفَ من السجود لآدم.
4. ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ :
أ. قال الحسن: هو أول كافر، ومعنى قولهم: كان من الكافرين كقولهم كان آدم من الإنس، وقال تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ ولم يكن جِنَّيٌّ قبله، وهو قول أبي علي، قال معناه: صار من الكافرين، نحو قوله: ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾
ب. وقيل: كان قبله قوم كفروا من الجن.
ج. وقيل: كان في علم الله تعالى من الكافرين.
د. وقيل: لما مر إبليس بآدم قبل ذلك أضمر إن أُمِرَ باتباعه ألا يتبعه فصار كافرًا.
5. ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ :
أ. قيل: كان من الملائكة.
ب. وقيل: كان من الجن ولم يكن من الملائكة، وهو الوجه لقوله تعالى: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ وهذا نص، وعن الحسن أنه أب للجن، كما أن آدم أب للإنس، وعن ابن مسعود: كانت الملائكة تقاتل الجن فَسَبَوْا إبليس وهو صغير، فكان مع الملائكة يعبد الله تعالى وتخلَّق بأخلاقهم، فلما أُمِرُوا بالسجود أُمِرَ هو معهم أيضًا فأبى، فلذلك قال تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾
6. اختلفوا في هذا الاستثناء، قيل: استثناء منقطع، كقوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ وقال النابغة:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلانًا أُسَائلُهَا... أَعْيَتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْع منْ أَحَدِ
إِلا الأَوَارِيَّ لَأْيا مَا أُبينها... والنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ
ومعناه لكن إبليس، وقيل: على القول الأول إنه استثناء حقيقي من الجنس.
7. دليل أنه ليس من الملائكة وجوه:
أ. أولها: قوله تعالى عنه أنه: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ .
ب. ثانيها: أنه قال في صفة الملائكة من غير تخصيص: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾
ج. ثالثها: أن إبليس له نسل وذرية كالإنس بخلاف الملائكة، قال الله تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ﴾ .
د. رابعها: أنه خُلِق من النار، وخلقوا من الريح، عن أبي علي، وقيل من النور، عن الحسن.
هـ. خامسها: أن الله تعالى قال ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ فعمهم بهذا الوصف، وَرسلُ الله معصومون لا يعصون.
8. سؤال وإشكال: إذا لم يكن إبليس من الملائكة، فما الدليل على أنه أُمِرَ معهم بالسجود؟ والجواب: قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ ولأنه عاقبه على ترك السجود.
9. سؤال وإشكال: هل سجود الملائكة لآدم تدل له على أنه أفضل منهم؟ والجواب: لا، كما أَنَّا نعظم العلماء، وإن كان فينا من هو أفضل منهم، وهذا تفضيل خصال، لا تفضيل ثواب.
10. سؤال وإشكال: لِمَ حكم بكفر إبليس مع أنّ من لم يسجد الآن لا يكفر؟ والجواب: لأنه جمع إلى ترك السجود خصالاً من الكفر، وترك السجود ردًّا، ومن تركه الآن كذلك يكفر، ولم ير أمره بالسجود حكمة، واعتقد أنه تعالى أمره بالقبيح وامتنع من السجود تكبرًا، ورد على اللَّه أمره، واستخف بالنبي.
11. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أنَّ الملائكة سجدوا لآدم كما أمروا به.
ب. أن إبليس أمر بالسجود ولم يسجد، وأنه كفر بذلك.
ج. بطلان مذهب الجبر من وجوه:
• أحدها: قوله: ﴿أَبَى ﴾ فتدل على قدرته على السجود الذي تركه، وإلا لم يصح وصفه بالإباء.. وتدل على أن السجود فعله، فيبطل قولهم في المخلوق والاستطاعة.
• ثانيها: أن عندهم إنما لم يسجد لأنه لم يخلق فيه السجود ولا القدرة الموجبة له فسائر العلل المذكورة من باب العبث عندهم.
د. أن الأمر على الوجوب من حيث ذمه بترك الأمر على ما يقوله الفقهاء وأكثر المتكلمين، خلاف من يقول: إنه على الندب، وهو قول أبي علي وأبي هاشم.
هـ. تسلية للنبي إذ تكبر عليه مشركو العرب كما تكبر إبليس على آدم، عن الأصم.
12. موضع ﴿إِذِ﴾ في قوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ﴾ :
أ. نصب لا عطف على (إذ) الأولى، كأنه قيل: واذكر إذ قال ربك.
ب. وقال أبو عبيدة: لا موضع لها لأنها زائدة.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/329.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. السجود: الخضوع، والتذلل، في اللغة.. وهو في الشرع: عبارة عن عمل مخصوص في الصلاة كالركوع، والقنوت، وغيرهما، وهو وضع الجبهة على الأرض.. ويقال: سجد وأسجد إذا خضع، قال الأعشى:
من يلق هوذة يسجد غير متئب... إذا تعمم فوق الرأس، أو خضعا
وقال آخر:
فكلتاهما خرت، وأسجد رأسها... كما سجدت نصرانة لم تحنف
ونساء سجد: إذا كن فاترات الأعين قال: (ولهوي إلى حور المدامع سجد)، والإسجاد: الإطراق، وإدامة النظر في فتور وسكون، قال:
أغرك مني أن دلك عندنا... وإسجاد عينيك الصيودين رابح
ب. أبى: معناه ترك الطاعة وامتنع.. والإباء، والترك، والامتناع، بمعنى.. ونقيض أبى: أجاب.. ورجل أبي: من قوم أباة، وليس الإباء بمعنى الكراهة، لأن العرب تتمدح أنها تأبى الضيم، ولا مدح في كراهية الضيم، وإنما المدح في الامتناع منه كقوله تعالى: ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ أي: يمنع الكافرين من إطفاء نوره.
ج. الاستكبار، والتكبر، والتعظم، والتجبر، نظائر.. وضده التواضع.. وحقيقة الاستكبار: الأنفة مما لا ينبغي أن يؤنف منه.. وقيل: حده الرفع للنفس إلى منزلة لا تستحقها.. فأصل الباب: الكبر، وهو العظم.. ويقال على وجهين: كبر الجثة، وكبر الشأن، والله سبحانه الكبير من كبر الشأن، وذلك يرجع إلى سعة مقدوراته ومعلوماته، فهو القادر على ما لا يتناهى من جميع أجناس المقدورات، والعالم بجميع المعلومات.
د. إبليس: اسم أعجمي ينصرف في المعرفة للتعريف والعجمة.. قال الزجاج وغيره من النحويين: هو اسم أعجمي معرب، واستدلوا على ذلك بامتناع صرفه، وذهب قوم إلى أنه عربي مشتق من الإبلاس، ووزنه أفعيل، وأنشدوا للعجاج:
يا صاح! هل تعرف رسما مكرسا؟... قال: نعم أعرفه، وأبلسا
وزعموا أنه لم يصرف استثقالا له من حيث إنه اسم لا نظير له في أسماء العرب، فشبهته العرب بأسماء العجم التي لا تنصرف.. وزعموا أن إسحاق: من أسحقه الله تعالى إسحاقا، وأيوب: من آب يؤب.. وإدريس: من الدرس في أشباه ذلك، وغلطوا في جميع ذلك، لأن هذه الألفاظ معربة، وافقت الألفاظ العربية.. وكان أبو بكر السراج يمثل ذلك على جهة التبعيد بمن زعم أن الطير ولدت الحوت.. وغلطوا أيضا في أنه لا نظير له في أسماء العرب، لأنهم يقولون إزميل للشفرة، وإغريض للطلع، وإحريض لصبغ أحمر، ويقال هو العصفر، وسيف إصليت: ماض كثير الماء.. وثوب إضريج: مشبع الصبغ.. وقالوا هو من الصفرة خاصة، ومثل هذا كثير.. وسبيل إبليس سبيل إنجيل، في أنه معرب غير مشتق.
2. ثم بين سبحانه ما آتاه آدم عليه السلام من الإعظام والإجلال والإكرام، فقال: واذكر يا محمد ﴿ إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾:
أ. الظاهر يقتضي أن الأمر بالسجود له كان لجميع الملائكة حتى جبرائيل وميكائيل، لقوله ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ وفي هذا تأكيد للعموم.
ب. وقال قوم: إن الأمر كان خاصا لطائفة من الملائكة، كانوا مع إبليس، طهر الله بهم الأرض من الجن.
3. اختلف في سجود الملائكة لآدم على أي وجه كان:
أ. المروي عن أئمتنا عليهم السلام، أنه على وجه التكرمة لآدم، والتعظيم لشأنه، وتقديمه عليهم، وهو قول قتادة، وجماعة من أهل العلم، واختاره علي بن عيسى الرماني، ولهذا جعل أصحابنا، رضي الله عنهم، هذه الآية دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة، من حيث إنه أمرهم بالسجود لآدم، وذلك يقتضي تعظيمه وتفضيله عليهم.. وإذا كان المفضول لا يجوز تقديمه على الفاضل علمنا أنه أفضل من الملائكة.
ب. وقال الجبائي، وأبو القاسم البلخي، وجماعة: إنه جعله قبلة لهم، فأمرهم بالسجود إلى قبلتهم، وفيه ضرب من التعظيم.. وهذا غير صحيح:
• لأنه لو كان على هذا الوجه، لما امتنع إبليس من ذلك، ولما استعظمته الملائكة، وقد نطق القرآن بأن امتناع إبليس عن السجود إنما هو لاعتقاده تفضيله به، وتكرمته، مثل قوله ﴿أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ﴾، وقوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ .
• ولو لم يكن الأمر على هذا الوجه، لوجب أن يعلمه الله تعالى بأنه لم يأمره بالسجود على جهة تعظيمه وتفضيله عليه، وإنما أمره على الوجه الآخر الذي لا تفضيل فيه، ولم يجز إغفال ذلك، فإنه سبب معصية إبليس وضلالته.. فلما لم يقع ذلك، علمنا أن الأمر بالسجود له لم يكن إلا على وجه التعظيم والتفضيل، والإكرام والتبجيل.
4. اختلف في إبليس هل كان من الملائكة أم لا:
أ. ذهب قوم أنه كان منهم، وهو المروي عن ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة، واختاره الشيخ السعيد أبو جعفر الطوسي، قال: وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، والظاهر في تفاسيرنا، ثم اختلف من قال إنه من الملائكة:
• فمنهم من قال: إنه كان خازنا على الجنان.
• ومنهم من قال: كان له سلطان سماء الدنيا، وسلطان الأرض.
• ومنهم من قال: إنه كان يسوس ما بين السماء والأرض.
ب. وقال الشيخ المفيد، أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان: إنه كان من الجن، ولم يكن من الملائكة، لمال: وقد جاءت الأخبار بذلك متواترة عن أئمة الهدى عليهم السلام، وهو مذهب الإمامية، وهو المروي عن الحسن البصري، وهو قول علي بن عيسى والبلخي وغيره، واحتجوا على صحة هذا القول بأشياء:
• أحدها: قوله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾، ومن أطلق لفظ الجن لم يجز أن يعني به إلا الجنس المعروف، وكل ما في القرآن من ذكر الجن مع الإنس يدل عليه.
• ثانيها: قوله تعالى: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ فنفى المعصية عنهم نفيا عاما وثالثها: إن إبليس له نسل وذرية، قال الله تعالى ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ .
• وقال الحسن: إبليس أب الجن، كما أن آدم أب الإنس، وإبليس مخلوق من النار، والملائكة روحانيون خلقوا من الريح في قول بعضهم، ومن النور في قول الحسن، لا يتناسلون ولا يطعمون ولا يشربون.
• ورابعها: قوله تعالى: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ ولا يجوز على رسل الله الكفر، ولا الفسق، ولو جاز عليهم الفسق، لجاز عليه الكذب.
• استثناء الله تعالى إياه منهم، لا يدل على كونه من جملتهم، وإنما استثناه منهم، لأنه كان مأمورا بالسجود معهم، فلما دخل معهم في الأمر، جاز اخراجه بالاستثناء منهم.. وقيل أيضا: إن الاستثناء هنا منقطع كقوله تعالى ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾، وأنشد سيبويه: والحرب لا يبقى لجا... حمها التخيل، والمراح إلا الفتى الصبار في... النجدات، والفرس الوقاح وكقول النابغة: (وما بالربع من أحد إلا الأواري).
• يؤيد هذا القول ما رواه الشيخ أبو جعفر ابن بابويه، رحمه الله، في (كتاب النبوة) بإسناده عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن إبليس أكان من الملائكة أو كان يلي شيئا من أمر السماء؟ فقال: لم يكن من الملائكة، ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء، وكان من الجن، وكان مع الملائكة، وكانت الملائكة ترى أنه منها، وكان الله سبحانه يعلم أنه ليس منها، فلما أمر بالسجود لآدم، كان منه الذي كان وكذا رواه العياشي في تفسيره.
• من قال إنه كان من الملائكة، فإنه احتج بأنه لو كان من غير الملائكة، لما كان ملوما بترك السجود، فإن الأمر إنما يتناول الملائكة دون غيرهم، والجواب عن هذا، ويزيده بيانا قوله تعالى: ﴿ ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك ﴾ فعلمنا أنه من جملة المأمورين بالسجود، وإن لم يكن من جملتهم، وهذا كما إذا قيل أمر أهل البصرة بدخول الجامع، فدخلوا إلا رجلا من أهل الكوفة، فإنه يعلم من هذا أن غير أهل البصرة كان مأمورا بدخول الجامع، غير أن أهل البصرة خصوا بالذكر، لكونهم الأكثر، فكذلك القول في الآية.
5. أجاب القائلون بأنه من الملائكة عن هذه الاستدلالات بـ:
أ. عن الاحتجاج الأول وهو قوله تعالى ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ : بأن الجن جنس من الملائكة سموا بذلك لاجتنانهم عن العيون، قال الأعشى قيس بن ثعلبة:
ولو كان شيء خالدا، أو معمرا... لكان سليمان البري من الدهر
براه إلهي، واصطفاه عباده... وملكه ما بين تونا إلى مصر
وسخر من جن الملائك تسعة... قياما لديه يعملون بلا أجر
وقد قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ لأنهم قالوا الملائكة بنات الله.
ب. عن الثاني، وهو قوله تعالى: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ الآية، بأنه صفة لخزنة النيران، لا لجميع الملائكة، فلا يوجب عصمة لغيرهم من الملائكة.
ج. عن الثالث: بأنه يجوز أن يكون الله تعالى ركب في إبليس شهوة النكاح تغليظا عليه في التكليف، وإن لم يكن ذلك في باقي الملائكة، ويجوز أن يكون الله تعالى لما أهبطه إلى الأرض، تغيرت حاله عن حال الملائكة، قالوا: وأما قولكم إن الملائكة خلقوا من الريح، وهو مخلوق من النار، فإن الحسن قال خلقوا من النور، والنار والنور سواء، وقولكم: إن الجن يطعمون ويشربون، فقد جاء عن العرب ما يدل على أنهم لا يطعمون ولا يشربون، وأنشد ابن دريد قال: أنشد أبو حاتم:
ونار قد حضأت، بعيد وهن... بدار ما أريد بها مقاما
سوى ترحيل راحلة، وعين... أكالئها مخافة أن تناما
أتوا ناري، فقلت: منون أنتم... فقالوا: الجن قلت: عموا ظلاما
فقلت: إلى الطعام، فقال منهم... زعيم: نحسد الإنس الطعاما
لقد فضلتم بالأكل فينا... ولكن ذاك يعقبكم سقاما
فهذا يدل على أنهم لا يأكلون ولا يشربون، لأنهم روحانيون، وقد جاء في الأخبار النهي عن التمسح بالعظم والروث، لأن ذلك طعام الجن، وطعام دوابهم.. وقد قيل إنهم يتشممون ذلك، ولا يأكلونه.
د. عن الرابع وهو قوله: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ بأن هذه الآية معارضة بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ لأن ﴿مِنَ﴾ للتبعيض، وكلا القولين مروي عن ابن عباس.. وروي عنه أنه قال: إن الملائكة كانت تقاتل الجن، فسبي إبليس، وكان صغيرا، فكان مع الملائكة، فتعبد معها بالأمر بالسجود لآدم، فسجدوا وأبى إبليس، فلذلك قال الله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾، وروى مجاهد، وطاووس عنه أيضا أنه قال: كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية ملكا من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان سكان الأرض من الملائكة يسمون الجن، ولم يكن من الملائكة أشد اجتهادا، ولا أكثر علما منه، فلما تكبر على الله، وأبى السجود لآدم وعصاه، لعنه وجعله شيطانا وسماه إبليس.
6. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ :
أ. قيل معناه: كان كافرا في الأصل.. وهذا القول يوافق مذهبنا في الموافاة.
ب. وقيل: أراد كان في علم الله تعالى من الكافرين.
ج. وقيل معناه: صار من الكافرين، كقوله تعالى: ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾
7. استدلّ بعضهم بهذه الآية على أن أفعال الجوارح من الإيمان، فقال: لو لم يكن كذلك، لوجب أن يكون إبليس مؤمنا بما معه من المعرفة بالله تعالى، وإن فسق بإبائه.. وهذا ضعيف لأنا إذا علمنا كفره بالإجماع، علمنا أنه لم يكن معه إيمان أصلا، كما أنا إذا رأينا من يسجد للصنم، علمنا أنه كافر، وإن كان نفس السجود ليس بكفر.
8. اختلفوا في صفة أمر الله سبحانه الملائكة بالسجود:
أ. قيل: كان بخطاب من الله تعالى للملائكة ولإبليس.
ب. وقيل: بوحي من الله إلى من بعثه إليهم من رسله، لأن كلام الرسول كلام المرسل.
ج. وقيل: إن الله تعالى أظهر فعلا دلهم به على أنه أمرهم بالسجود.
9. سؤال وإشكال: لم حكم الله بكفره، مع أن من ترك السجود الآن لا يكفر؟ والجواب: لأسباب، منها:
أ. أنه جمع إلى ترك السجود خصالا من الكفر منها أنه اعتقد أن الله تعالى أمره بالقبيح، ولم ير أمره بالسجود حكمة.
ب. أنه امتنع من السجود تكبرا وردا على الله تعالى أمره، ومن تركه الآن كذلك يكفر أيضا.
ج. أنه استخف بنبي الله وازدراه، وهذا لا يصدر إلا من معتقد الكفر.
10. في هذه الآية دلالة على بطلان مذهب الجبر من وجوه:
أ. منها: قوله ﴿أَبَى﴾ فدل على قدرته على السجود الذي أباه وتركه، وإلا لم يصح وصفه بالإباء.
ب. ومنها قوله ﴿فَسَجَدُوا﴾ فدل على أن السجود فعلهم.
ج. ومنها أنه مدح الملائكة بالسجود، وذم إبليس بترك السجود، وعندهم إنما لم يسجد لأنه لم يخلق فيه السجود، ولا القدرة الموجبة له.
11. مسائل نحوية:
12. ﴿وَإِذْ﴾ : في موضع نصب لأنها معطوفة على ﴿إِذِ﴾ الأولى.
13. ﴿لِآدَمَ﴾ : آدم في موضع جر باللام لا ينصرف، لأنه على وزن افعل.. فإذا قلت: مررت بآدم، وآدم آخر، فإن سيبويه والخليل يقولان: إنه لا ينصرف في النكرة، لأنك إذا نكرته فقد أعدته إلى حال كان فيها لا ينصرف.. قال الأخفش: إذا سميت به فقد أخرجته من باب الصفة، فيجب إذا نكرته أن تصرفه، فتقول وآدم آخر.
14. ﴿اسْجُدُوا﴾ : الأصل في همزة الوصل أن تكسر لالتقاء الساكنين، ولكنها ضمت لاستثقال الضمة بعد الكسرة، وكذلك كل ما كان ثالثه مضموما في الفعل المستقبل نحو قوله ﴿انْظُرُونَا﴾ و ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾، وليس في كلام العرب فعل لكراهتهم الضمة بعد الكسرة.
15. ﴿إِبْلِيسُ﴾ : نصب على الاستثناء المتصل من الكلام الموجب، وهو في مذهب من جعله من الملائكة، وعلى الاستثناء المنقطع على مذهب من جعله من غير الملائكة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/192.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا﴾، في هؤلاء الملائكة قولان:
أ. أحدهما: أنهم جميع الملائكة، قاله السّدّيّ عن أشياخه.. وهو الأصح.
ب. الثاني: أنهم طائفة من الملائكة، روي عن ابن عباس.
2. السجود في اللغة: التواضع والخضوع، وأنشدوا:
ساجد المنخر ما يرفعه... خاشع الطّرف أصمّ المستمع
3. في صفة سجودهم لآدم قولان:
أ. أحدهما: أنه على صفة سجود الصلاة، وهو الأظهر.
ب. الثاني: أنه الانحناء والميل المساوي للركوع.
4. في ﴿وَكَانَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها بمعنى: صار، قاله قتادة.
ب. الثاني: أنها بمعنى الماضي، فمعناه: كان في علم الله كافرا، قاله مقاتل وابن الأنباري.
5. في الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه استثناء من الجنس، فهو على هذا القول من الملائكة، قاله ابن مسعود في رواية، وابن عباس، وقد روي عن ابن عباس أنه كان من الملائكة، ثم مسخه الله تعالى شيطانا.. وقال: كان إبليس من خزّان الجنّة، وكان يدير أمر السماء الدنيا.
ب. الثاني: أنه من غير الجنس، فهو من الجنّ، قاله الحسن والزّهريّ.. واستثني وليس من الجنس لأنه أمر بالسجود معهم، فاستثني منهم لأنه لم يسجد، وهذا كما تقول: أمرت عبدي وإخوتي فأطاعوني إلا عبدي، هذا قول الزّجّاج.
6. في إبليس قولان:
أ. أحدهما: اسم أعجميّ ليس بمشتقّ، ولذلك لا يصرف، هذا قول أبي عبيدة، والزّجّاج وابن الأنباريّ.. والأول أصحّ، لأنه لو كان من الإبلاس لصرف، ألا ترى أنك لو سميت رجلا: بإخريط وإجفيل؛ لصرف في المعرفة.
ب. الثاني: أنه مشتقّ من الإبلاس، وهو: اليأس، روي عن أبي صالح، وذكره ابن قتيبة وقال: إنه لم يصرف، لأنه لا سميّ له، فاستثقل.
__________
(1) زاد المسير: 1/55.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ إشارة إلى النعمة الرابعة من النعم العامة على جميع البشر، وهو أنه سبحانه وتعالى جعل أبانا مسجود الملائكة، وذلك:
أ. لأنه تعالى ذكر تخصيص آدم بالخلافة أولًا.
ب. ثم تخصيصه بالعلم الكثير ثانياً.
ج. ثم بلوغه في العلم إلى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم.
د. ثم ذكر كونه مسجوداً للملائكة.
2. الأمر بالسجود حصل قبل أن يسوي الله تعالى خلقة آدم عليه السلام بدليل قوله: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: 71، 72]
3. ظاهر هذه الآية يدل على أنه عليه السلام لما صار حياً صار مسجود الملائكة لأن الفاء في قوله: ﴿فَقَعُوا﴾ للتعقيب وعلى هذا التقدير يكون تعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد أن صار مسجود الملائكة.
4. قال الأكثرون إن جميع الملائكة مأمورون بالسجود لآدم واحتجوا عليه بوجهين:
أ. الأول: أن لفظ الملائكة صيغة الجمع وهي تفيد العموم، لا سيما وقد وردت هذه اللفظة مقرونة بأكمل وجوه التأكيد في قوله: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: 30]
ب. الثاني: هو أنه تعالى استثنى إبليس منهم، واستثناء الشخص الواحد منهم يدل على أن من عدا ذلك الشخص كان داخلًا في ذلك الحكم.
5. من الناس من أنكر ذلك، وقال المأمورون بهذا السجود هم ملائكة الأرض، واستعظموا أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك.
6. الحكماء يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية، وقالوا: يستحيل أن تكون الأرواح السماوية منقادة للنفوس الناطقة إنما المراد من الملائكة المأمورين بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة والكلام في هذه المسألة مذكور في العقليات.
7. أجمع المسلمون على أن ذلك السجود ليس سجود عبادة لأن سجود العبادة لغير الله كفر، والأمر لا يرد بالكفر، ثم اختلفوا بعد ذلك على ثلاثة أقوال:
أ. الأول أن ذلك السجود كان لله تعالى، وآدم عليه السلام كان كالقبلة.. وهذا القول ضعيف، لأن المقصود من هذه القصة شرح تعظيم آدم عليه السلام، وجعله مجرد القبلة لا يفيد تعظيم حاله.
ب. الثاني هو أن السجدة كانت لآدم عليه السلام تعظيماً له وتحية له كالسلام منهم عليه.
ج. الثالث: أن السجود في أصل اللغة هو الانقياد والخضوع قال الشاعر: ترى الأكم فيها سجداً للحوافر.. أي تلك الجبال الصغار كانت مذللة لحوافر الخيل ومنه قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: 6].. وهذا القول ضعيف، لأن السجود لا شك أنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك، لأن الأصل عدم التغيير.
8. طعن في القول بأن ذلك السجود كان لله تعالى، وآدم عليه السلام كان كالقبلة من وجهين:
أ. الأول: أنه لا يقال صليت للقبلة، بل يقال صليت إلى القبلة، فلو كان آدم عليه السلام قبلة لذلك السجود لوجب أن يقال اسجدوا إلى آدم فلما لم يرد الأمر هكذا، بل قيل اسجدوا لآدم علمنا أن آدم عليه السلام لم يكن قبلة.
ب. الثاني: أن إبليس قال: ﴿أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾ أي أن كونه مسجوداً يدل على أنه أعظم حالًا من الساجد ولو كان قبلة لما حصلت هذه الدرجة بدليل أن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلي إلى الكعبة، ولم يلزم أن تكون الكعبة أفضل من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
9. أجاب القائلون بأن ذلك السجود كان لله تعالى، وآدم عليه السلام كان كالقبلة عن الطعون بما يلي:
أ. أنه كما لا يجوز أن يقال صليت إلى القبلة جاز أن يقال صليت للقبلة، والدليل عليه القرآن والشعر:
• أما القرآن فقوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء: 78] والصلاة لله لا للدلوك، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال صليت للقبلة مع أن الصلاة تكون لله تعالى لا للقبلة.
• وأما الشعر فقول حسان:
ما كنت أعرف أن الأمر منصرف... عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم... وأعرف الناس بالقرآن والسنن
فقوله: صلى لقبلتكم نص على المقصود.
ب. أن إبليس شكا تكريمه، وذلك التكريم لا نسلم أنه حصل بمجرد تلك المسجودية، بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر.
10. استدلّ أصحاب لقول الثاني، وهو أن السجدة كانت لآدم عليه السلام تعظيماً له وتحية له كالسلام منهم عليه بما يلي:
أ. كانت الأمم السالفة تفعل ذلك كما يحيي المسلمون بعضهم بعضاً بالسلام، وقال قتادة في قوله: ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: 100] كانت تحية الناس يومئذ سجود بعضهم لبعض.
ب. وعن صهيب أن معاذاً لما قدم من اليمن سجد للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا معاذ ما هذا قال إن اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها ورأيت النصارى تسجد لقسسها وبطارقتها قلت: ما هذا قالوا: تحية الأنبياء فقال عليه السلام كذبوا على أنبيائهم.
ج. وعن الثوري عن سماك بن هاني قال دخل الجاثليق على علي بن أبي طالب، فأراد أن يسجد له فقال له علي: اسجد لله ولا تسجد لي.
د. وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: لو أمرت أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها.
11. سؤال وإشكال: السجود عبادة، والعبادة لغير الله لا تجوز؟ والجواب: لا نسلم أنه عبادة، بيانه أن الفعل قد يصير بالمواضعة مفيداً كالقول يبين ذلك أن قيام أحدنا للغير يفيد من الأعظام ما يفيده القول وما ذاك إلا للعبادة، وإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الإنسان على الأرض وإلصاقه الجبين بها مفيداً ضرباً من التعظيم، وإن لم يكن ذلك عبادة، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبد الله الملائكة بذلك إظهاراً لرفعته وكرامته.
12. لما استثنى الله تعالى إبليس من الساجدين فكان يجوز أن يظن أنه كان معذوراً في ترك السجود فبين تعالى أنه لم يسجد مع القدرة وزوال العذر بقوله: ﴿أَبَى﴾ لأن الإباء هو الامتناع مع الاختيار، أما من لم يكن قادراً على الفعل لا يقال له إنه أبى.
13. ثم قد كان يجوز أن يكون كذلك، ولا ينضم إليه الكبر، فبين تعالى أن ذلك الإباء كان على وجه الاستكبار بقوله: ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾
14. ثم كان يجوز أن يوجد الإباء والاستكبار مع عدم الكفر، فبين تعالى أنه كفر بقوله: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾
15. للعقلاء في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقاً كافراً.
ب. الثاني: أن إبليس كان مؤمناً ثم كفر بعد ذلك.
16. في تقرير القول بأن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقاً كافراً وجهان:
أ. أحدهما: أجرى قوله تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ على ظاهره وقال إنه كان كافراً منافقاً منذ كان، حكى محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول كتابه المسمى (بالملل والنحل) عن ماري شارح الأناجيل الأربعة وهي مذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود، قال إبليس للملائكة: إني أسلم أن لي إلهاً هو خالقي، وموجدي، وهو خالق الخلق، لكن لي على حكمة الله تعالى أسئلة سبعة:
• الأولى: ما الحكمة في الخلق لا سيما إن كان عالماً بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه الآلام؟
• الثاني: ثم ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود منه ضر ولا نفع، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟
• الثالث: هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته، فلما ذا كلفني السجود لآدم؟
• الرابع: ثم لما عصيته في ترك السجود لآدم، فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه، ولي فيه أعظم الضرر؟
• الخامس: ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة، ووسوست لآدم عليه السلام؟
• السادس: ثم لما فعلت ذلك، فلم سلطني على أولاده، ومكنني من إغوائهم وإضلالهم؟
• السابع: ثم لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك، فلم أمهلني، ومعلوم أن العالم لو كان خالياً عن الشر لكان ذلك خيراً؟
• قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادقات الجلال والكبرياء: يا إبليس إنك ما عرفتني، ولو عرفتني لعلمت أنه لاعتراض عليَّ في شيء من أفعالي، فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل.
• وذكر هؤلاء أنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق، وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات مخلصاً، وكان الكل لازماً، أما إذا أجبنا بذلك الجواب الذي ذكره الله تعالى زالت الشبهات واندفعت الاعتراضات، وكيف لا وكما أنه سبحانه واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في صفاته، فهو مستغن في فاعليته عن المؤثرات والمرجحات، إذ لو افتقر لكان فقيراً لا غنياً فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنتهى الرغبات، ومن عنده نيل الطلبات، وإذا كان كذلك لم تتطرق اللمية إلى أفعاله، ولم يتوجه الاعتراض على خالقيته، وما أحسن ما قال بعضهم: جل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال.
ب. الثاني: في تقرير أنه كان كافراً أبداً قول أصحاب الموافاة، وذلك لأن الإيمان يوجب استحقاق العقاب الدائم، والجمع بين الثواب الدائم والعقاب الدائم محال، فإذا صدر الإيمان من المكلف في وقت ثم صدر عنه والعياذ بالله بعد ذلك كفر:
• فإما أن يبقى الاستحقاقان معاً وهو محال، على ما بيناه.
• أو يكون الطارئ مزيلًا للسابق، وهو أيضاً محال لأن القول بالإحباط باطل.
• فلم يبق إلا أن يقال: إن هذا الفرض محال، وشرط حصول الإيمان أن لا يصدر الكفر عنه في وقت قط، فإذا كانت الخاتمة على الكفر، علمنا أن الذي صدر عنه أولًا ما كان إيماناً.
إذا ثبت هذا تبين أنه لما كان ختم إبليس على الكفر علمنا أنه ما كان مؤمناً قط.
17. اختلف القائلون بأن إبليس كان مؤمناً ثم كفر بعد ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ :
أ. فمنهم من قال معناه: وكان من الكافرين في علم الله تعالى، أي كان عالماً في الأزل بأنه سيكفر، فصيغة كان متعلقة بالعلم لا بالمعلوم.
ب. ومنهم من قال: أنه لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمناً قبل ذلك فبعد مضي كفره صدق عليه في ذلك الوقت أنه كان في ذلك الوقت من الكافرين، ومتى صدق عليه ذلك وجب أن يصدق عليه أنه كان من الكافرين جزء من مفهوم قولنا كان من الكافرين في ذلك الوقت، ومتى صدق المركب صدق المفرد لا محالة
ج. ومنهم من قال: المراد من كان صار، أي وصار من الكافرين.
18. اختلفوا في أن قوله تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ هل يدل على أنه وجد قبله جمع من الكافرين حتى يصدق القول بأنه من الكافرين:
أ. قال قوم: إنه يدل عليه لأن كلمة من للتبعيض، فالحكم عليه بأنه بعض الكافرين يقتضي وجود قوم آخرين من الكافرين حتى يكون هو بعضاً لهم، والذي يؤكد ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال: إن الله تعالى خلق خلقاً من الملائكة، ثم قال لهم إني خالق بشراً من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فقالوا: لا نفعل ذلك، فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم، وكان إبليس من أولئك الذين أبوا)
ب. قال آخرون هذه الآية لا تدل على ذلك، ثم لهم في تفسير الآية وجهان:
• أحدهما: معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك، وهو قول الأصم وذكر في مثاله قوله تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 67] فأضاف بعضهم إلى بعض بسبب الموافقة في الدين، فكذا هاهنا لما كان الكفر ظاهراً من أهل العالم عند نزول هذه الآية صح قوله: وكان من الكافرين.
• ثانيها: أن هذا إضافة لفرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية، وصحة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك الماهية، كما أن الحيوان الذي خلقه الله تعالى أولًا يصح أن يقال إنه فرد من أفراد الحيوان لا بمعنى أنه واحد من الحيوانات الموجودة خارج الذهن، بل بمعنى أنه فرد من أفراد هذه الماهية، وواحد من آحاد هذه الحقيقة
19. يتفرع على هذا البحث أن إبليس هل كان أول من كفر بالله، والذي عليه الأكثرون أنه أول من كفر بالله.
20. المعصية عند المعتزلة وعند أهل السنة، لا توجب الكفر:
أ. أما عند أهل السنة فلأن صاحب الكبيرة مؤمن.
ب. أما عند المعتزلة فلأنه وإن خرج عن الإيمان فلم يدخل في الكفر.
21. عند الخوارج فكل معصية كفر، وهم تمسكوا بهذه الآية، قالوا إن الله تعالى كفر إبليس بتلك المعصية، فدل على أن المعصية كفر، والرد عليهم:
أ. إن قلنا إنه كافر من أول الأمر فهذا السؤال زائل.
ب. وإن قلنا إنه كان مؤمناً، فنقول إنه إنما كفر لاستكباره واعتقاده كونه محقاً في ذلك التمرد واستدلاله على ذلك بقوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾
22. اختلفوا في أن إبليس وهل كان من الملائكة:
أ. قال بعض المتكلمين: ولا سيما المعتزلة إنه لم يكن منهم.
ب. وقال كثير من الفقهاء إنه كان منهم.
23. احتج من قال إنه لم يكن منهم بوجوه:
أ. أحدها: أنه كان من الجن فوجب أن لا يكون من الملائكة، وإنما قلنا إنه كان من الجن:
• لقوله تعالى في سورة الكهف: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: 50] وهذا دليل ظني، لأن الجن مأخوذ من الاجتنان، وهو الستر، ولهذا سمي الجنين جنيناً لاجتنانه، ومنه الجنة لكونها ساترة، والجنة لكونها مستترة بالأغصان، ومنه الجنون لاستتار العقل فيه، ولما ثبت هذا والملائكة مستورون عن العيون وجب إطلاق لفظ الجن عليهم بحسب اللغة، فثبت أن هذا القدر لا يفيد المقصود.
• لقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾ [سبأ: 40، 41] وهذه الآية صريحة في الفرق بين الجن والملك.
ب. ثانيها: أن إبليس له ذرية والملائكة لا ذرية لهم، إنما قلنا إن إبليس له ذرية لقوله تعالى في صفته: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي﴾ [الكهف: 50] وهذا صريح في إثبات الذرية له، وإنما قلنا إن الملائكة لا ذرية لهم لأن الذرية إنما تحصل من الذكر والأنثى والملائكة لا أنثى فيهم لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ﴾ [الزخرف: 19] أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة فإذا انتفت الأنوثة انتفى التوالد لا محالة فانتفت الذرية.
ج. ثالثها: أن الملائكة معصومون، وإبليس لم يكن كذلك فوجب أن لا يكون من الملائكة.
د. رابعها: أن إبليس مخلوق من النار، والملائكة ليسوا كذلك:
• إنما قلنا إن إبليس مخلوق من النار لقوله تعالى حكاية عن إبليس: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ﴾ وأيضاً فلأنه كان من الجن لقوله تعالى: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ والجن مخلوقون من النار لقوله تعالى: ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر: 27] وقال: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ [الرحمن: 14، 15]
• أما أن الملائكة ليسوا مخلوقين من النار بل من النور، فلما روى الزهري عن عروة عن عائشة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار.. ولأن من المشهور الذي لا يدفع أن الملائكة روحانيون، وقيل إنما سموا بذلك، لأنهم خلقوا من الريح أو الروح.
هـ. خامسها: أن الملائكة رسل لقوله تعالى: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ [فاطر: 1] ورسل الله معصومون، لقوله تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124] فلما لم يكن إبليس كذلك وجب أن لا يكون من الملائكة.
24. احتج القائلون بكون إبليس من الملائكة بأمرين:
أ. الأول: أن الله تعالى استثناه من الملائكة، والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل أو لصح دخوله، وذلك يوجب كونه من الملائكة.
ب. الثاني: لو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان قوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ متناولًا له، ولو لم يكن متناولًا له لاستحال أن يكون تركه للسجود إباء واستكباراً ومعصية، ولما استحق الذم والعقاب، وحيث حصلت هذه الأمور علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله ولا يتناوله ذلك الخطاب إلا إذا كان من الملائكة.
25. أجاب القائلون بكون إبليس ليس من الملائكة على ما ذكره المخالفون:
أ. أن الاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: 26، 27]، وقال: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا﴾ [الواقعة: 25، 26]، وقال: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾ [النساء: 29]، وقال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء: 92]
ب. أنه لأنه كان جنياً واحداً بين الألوف من الملائكة، فغلبوا عليه في قوله: ﴿فَسَجَدُوا﴾ ثم استثنى هو منهم استثناء واحد منهم.
ج. إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه نشأ معهم وطالت مخالطته بهم والتصق بهم، فلا جرم يتناوله ذلك الخطاب.
د. إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر، ولكن الله تعالى أمره بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾
26. رد القائلون بكون إبليس من الملائكة على هذا بأن كل واحد من هذين الوجهين على خلاف الأصل:
أ. فالاستثناء المنقطع إنما يصار إليه عند الضرورة، والدلائل التي ذكرتموها في نفي كونه من الملائكة، ليس فيها إلا الاعتماد على العمومات:
• فلو جعلناه من الملائكة لزم تخصيص ما عولتم عليه من العمومات، ولو قلنا إنه ليس من الملائكة، لزمنا حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع، ومعلوم أن تخصيص العمومات أكثر في كتاب الله تعالى من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع، فكان قولنا أولى.
• وأيضاً فالاستثناء مشتق من الثني والصرف ومعنى الصرف إنما يتحقق حيث لولا الصرف لدخل والشيء لا يدخل في غير جنسه، فيمتنع تحقق معنى الاستثناء فيه.
ب. أما قولهم إنه جني واحد بين الملائكة، فنقول إنما يجوز إجراء حكم الكثير على القليل إذا كان ذلك القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه وأما إذا كان معظم الحديث لا يكون إلا عن ذلك الواحد لم يجز إجراء حكم غيره عليه.
ج. أن المخالطة لا توجب ما ذكرتموه، ولهذا قلنا في أصول الفقه إن خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين.
د. شدة المخالطة بين الملائكة وبين إبليس لما لم تمنع اقتصار اللعن على إبليس فكيف تمنع اقتصار ذلك التكليف على الملائكة.
هـ. أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلما ذكر قوله أبى واستكبر عقيب قوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مخالفة هذا الأمر، لا بسبب مخالفة أمر آخر فهذا ما عندي في الجانبين والله أعلم بحقائق الأمور.
27. سؤال وإشكال: لا نسلم أنه كان من الجن، أما قوله تعالى: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ فلم لا يجوز أن يكون المراد كان من الجنة على ما روى عن ابن مسعود أنه قال كان من الجن أي كان خازن الجنة سلمنا ذلك لكن لا يجوز أن يكون قوله: ﴿مِنَ الْجِنِّ﴾ أي صار من الجن، كما أن قوله: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ أي صار من الكافرين، سلمنا أن ما ذكرت يدل على أنه من الجن فلم قلت: إن كونه من الجن ينافي كونه من الملائكة وما ذكرتم من الآية معارض بآية أخرى وهي قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ [الصافات: 158] وذلك لأن قريشاً قالت: الملائكة بنات الله فهذه الآية تدل على أن الملك يمسي جناً؟ والجواب:
أ. لا يجوز أن يكون المراد من قوله: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ أنه كان خازن الجنة لأن قوله ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ يشعر بتعليل تركه للسجود لكونه جنياً ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازناً للجنة فيبطل ذلك قوله ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ أي صار من الجن، هذا خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا عند الضرورة.
ب. أما قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ فيحتمل أن بعض الكفار أثبت ذلك النسب في الجن كما أثبته في الملائكة وأيضاً فقد بينا أن الملك يسمى جناً بحسب أصل اللغة لكن لفظ الجن بحسب العرف اختص بغيرهم كما أن لفظ الدابة وإن كان بحسب اللغة الأصلية يتناول كل ما يدب لكنه بحسب العرف اختص ببعض ما يدب فتحمل هذه الآية على اللغة الأصلية، والآية التي ذكرناها على العرف الحادث.
28. احتج القدرية بهذه الآية تدل على بطلان قول أهل الجبر من وجوه:
أ. أحدها: أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد لم يقدر على السجود لأن عندهم القدرة على الفعل منتفية ومن لا يقدر على الشيء يقال إنه أباه.
ب. ثانيها: أن من لا يقدر على الفعل لا يقال استكبر بأن لم يفعل لأنه إذا لم يقدر على الفعل لا يقال استكبر عن الفعل وإنما يوصف بالاستكبار إذا لم يفعل مع كونه لو أراد الفعل لأمكنه.
ج. ثالثها: قال تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ ولا يجوز أن يكون كافراً بأن لا يفعل ما لا يقدر عليه.
د. رابعها: أن استكباره وامتناعه خلق من الله فيه فهو بأن يكون معذوراً أولى من أن يكون مذموماً، ومن اعتقد مذهباً يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصفقة.
29. أجاب الجبرية على هذه الوجوه بما يلي:
أ. صدور ذلك الفعل عن إبليس عن قصد وداع أو لا عن قصد وداع؟ فإن كان عن قصد وداع فمن أين ذلك القصد؟ أوقع لا عن فاعل أو عن فاعل هو العبد أو عن فاعل هو الله؟ فإن وقع لا عن فاعل كيف يثبت الصانع، وإن وقع عن العبد فوقوع ذلك القصد عنه إن كان عن قصد آخر، فيلزم التسلسل وإن كان لا عن قصد فقد وقع الفعل لا عن قصد، وسنبطله وإن وقع عن فاعل هو الله فحينئذ يلزمك كل ما أوردته علينا.
ب. أما إن قلت وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد وادع فقد ترجح الممكن من غير مرجح، وهو يسد باب إثبات الصانع.
ج. وأيضاً فإن كان كذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقياً، والاتفاقي لا يكون في وسعه واختياره، فكيف يؤمر به وينهى عنه.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 2/428.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا﴾ أي واذكر، وأما قول أبى عبيدة: إن (إذ) زائدة فليس بجائز، لان إذ ظرف.
2. قال: ﴿قُلْنَا﴾ ولم يقل: قلت) لان الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيما وإشادة بذكره.
3. السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع، قال الشاعر:
يجمع تضل البلق في حجراته... ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
الأكم: الجبال الصغار، جعلها سجدا للحوافر لقهر الحوافر إياها وأنها لا تمتنع عليها، وعين ساجدة، أي فاترة عن النظر، وغايته وضع الوجه بالأرض، قال ابن فارس: سجد إذا تطامن، وكل ما سجد فقد ذل، والاسجاد: إدامة النظر، قال أبو عمرو: وأسجد إذا طأطأ رأسه، قال:
فضول أزمّتها أسجدت... سجود النصارى لاحبارها
قال أبو عبيدة: وأنشدني أعرابي من بني أسد: وقلن له أسجد لليلى فأسجدا.. يعني البعير إذا طأطأ رأسه، ودراهم الاسجاد: دراهم كانت عليها صور كانوا يسجدون لها، قال وافى بها كدراهم الاسجاد
4. اختلفوا في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة:
أ. قال الجمهور: كان هذا أمرا للملائكة بوضع الجباه على الأرض، كالسجود المعتاد في الصلاة، لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع، وعلى هذا قيل: كان ذلك السجود تكريما لآدم وإظهارا لفضله، وطاعة لله تعالى، وكان آدم كالقبلة لنا، ومعنى ﴿لِآدَمَ﴾ : إلى آدم، كما يقال صلى للقبلة، أي إلى القبلة.
ب. وقال قوم: لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض، ولكنه مبقي على أصل اللغة، فهو من التذلل والانقياد، أي اخضعوا لآدم وأقروا له بالفضل، ﴿فَسَجَدُوا﴾ أي امتثلوا ما أمروا به.
5. اختلفوا: هل كان ذلك السجود خاصا بآدم عليه السلام، فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى.. أم كان جائزا بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام، لقوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ ) [يوسف: 100] فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين، والذي عليه الأكثر أنه كان مباحا إلى عصر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
أ. وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد، فقال لهم: لا ينبغي أن يسجد لاحد إلا لله رب العالمين)
ب. روى ابن ماجة في سننه والبستي في صحيحه عن أبي واقد قال لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما هذا) فقال: يا رسول الله، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، فأردت أن أفعل ذلك بك، قال: فلا تفعل فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على قتب(2). لم تمنعه)، وفي بعض طرق معاذ: ونهى عن السجود للبشر وأمر بالمصافحة.
6. هذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوفة عادة في سماعهم وعند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للإقدام الملائكة من نور.
7. يقال: أبى يأبى إباء، وهو حرف نادر جاء على فعل يفعل ليس فيه حرف من حروف الحلق، وقد قيل: إن الالف مضارعة لحروف الحلق، قال الزجاج: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: القول عندي أن الالف مضارعة لحروف الحلق، قال النحاس: ولا أعلم أن أبا إسحاق روى عن إسماعيل نحوا غير هذا الحرف.
8. الاستكبار: الاستعظام، فكأنه كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته.
9. عن هذا الكبر عبر صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)، في رواية فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس)، أخرجه مسلم، ومعنى بطر الحق: تسفيهه وإبطاله، وغمط الناس: الاحتقار لهم والازدراء بهم.
10. صرح اللعين بهذا المعنى فقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [ص: 76]، ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ [الاسراء: 61]، ﴿لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: 33] فكفره الله بذلك.
11. كل من سفه شيئا من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان حكمه حكمه، وهذا ما لا خلاف فيه، وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر، حسد إبليس آدم، وشح آدم في أكله من الشجرة، وقال قتادة: حسد إبليس آدم، على ما أعطاه الله من الكرامة فقال: أنا ناري وهذا طيني، وكان بدء الذنوب الكبر، ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة، ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه.
12. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾
أ. قيل: كان هنا بمعنى صار، ومنه قوله تعالى ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾، وقال الشاعر:
بتيهاء قفر والمطي كأنها... قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
أي صارت، وقال ابن فورك: (كان) هنا بمعنى صار خطأ ترده الأصول.
ب. قال جمهور المتأولين: المعنى أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر، لان الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة.
ج. قيل: إن إبليس عبد الله تعالى ثمانين ألف سنة، وأعطي الرياسة والخزانة في الجنة على الاستدراج، كما أعطى المنافقون شهادة أن لا إله إلا الله على أطراف ألسنتهم، وكما أعطي بلعام الاسم الأعظم على طرف لسانه، فكان في رئاسته والكبر في نفسه متمكن، قال ابن عباس: كان يرى لنفسه أن له فضيلة على الملائكة بما عنده، فلذلك قال أنا خير منه، ولذلك قال الله عز وجل: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ [ص: 75] أي استكبرت ولا كبر لك، ولم أتكبر أنا حين خلقته بيدي والكبر لي! فلذلك قال ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [ص: 74]، وكان أصل خلقته من نار العزة، ولذلك حلف بالعزة فقال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: 82] فالعزة أورثته الكبر حتى رأى الفضل له على آدم عليه السلام، وعن أبي صالح قال خلقت الملائكة من نور العزة وخلق إبليس من نار العزة.
13. القول بأنه كان في علم الله تعالى أنه سيكفر صحيح، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في صحيح البخاري: وإنما الأعمال بالخواتيم)
14. اختلف في أصل إبليس:
أ. قال ابن زيد والحسن وقتادة أيضا: إبليس أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر، ولم يكن ملكا، وروى نحوه عن ابن عباس، وقال: اسمه الحارث.
ب. وقال شهر ابن حوشب وبعض الأصوليين: كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا، وتعبد مع الملائكة وخوطب، وحكاه الطبري عن ابن مسعود.
ج. روي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجن في الأرض مع جند من الملائكة، حكاه المهدوي وغيره.
د. وحكى الثعلبي عن ابن عباس: أن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم، وخلقت الملائكة من نور، وكان اسمه بالسريانية عزازيل، وبالعربية الحارث، وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة، فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى الله فمسخه شيطانا رجيما، فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه، وكانت خطيئة آدم عليه السلام معصية، وخطيئة إبليس كبرا، والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها، وفي التنزيل: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ ) [الصافات: 158] وقال الشاعر في ذكر سليمان عليه السلام:
وسخر من جن الملائك تسعة... قياما لديه يعملون بلا أجر
وأيضا لما كان من خزان الجنة نسب إليها، فاشتق اسمه من اسمها.
15. احتج من ذكر أنه من الجن بأن الله عز وجل وصف الملائكة فقال: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]، وقوله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: 50] والجن غير الملائكة.. والاستثناء على هذا منقطع، مثل قوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ [النساء: 157] وقوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ [المائدة: 3] في أحد القولين، وقال الشاعر:
ليس عليك عطش ولا جوع... إلا الرقاد والرقاد ممنوع
16. احتج من ذكر أنه من الملائكة بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم الله بشقائه عدلا منه، لا يسأل عما يفعل، وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة، وقول من قال إنه كان من جن الأرض فسبي.
17. إبليس وزنه إفعيل:
أ. مشتق من الإبلاس، وهو اليأس من رحمة الله تعالى، ولم ينصرف، لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء فشبه بالأعجمية، قاله أبو عبيدة وغيره.
ب. وقيل: هو أعجمي، لا اشتقاق له فلم ينصرف للعجمة والتعريف، قاله الزجاج وغيره.
18. اختلف العلماء، أيما أفضل الملائكة أو بنو آدم على قولين:
أ. ذهب قوم إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة.
ب. ذهب آخرون إلى أن الملا الأعلى أفضل.
19. احتج من فضل الملائكة بما يلي:
أ. قوله تعالى: ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: 27 ـ 26]، وقوله: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]، وقوله: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ ) [النساء: 172]، وقوله: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ ) [الانعام: 50]
ب. وفي الحديث قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يقول الله عز وجل: من ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منهم)، وهذا نص.
20. احتج من فضل بني آدم:
أ. بقوله تعالى: ﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريئة ﴾ [البينة: 7] بالهمز، من برأ الله الخلق.
ب. وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضي لطالب العلم) الحديث، أخرجه أبو داوود.
ج. بما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، ولا يباهي إلا بالأفضل.
21. قال بعض العلماء: ولا طريق إلى القطع بأن الأنبياء أفضل من الملائكة، ولا القطع بأن الملائكة خير منهم، لان طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الامة، وليس ها هنا شي من ذلك.
22. يجاب من قال بأن الأنبياء أفضل لان الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم بأن:
أ. المسجود له لا يكون أفضل من الساجد، ألا ترى أن الكعبة مسجود لها، والأنبياء والخلق يسجدون نحوها، ثم إن الأنبياء خير من الكعبة باتفاق الامة.
ب. لا خلاف أن السجود لا يكون إلا لله تعالى، لان السجود عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله، فإذا كان كذلك، فكون السجود إلى جهة لا يدل على أن الجهة خير من الساجد العابد وهذا واضح.
23. استدلّ من فضل آدم وبنيه بقوله تعالى للملائكة: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾، قالوا: وذلك يدل على أنه كان أفضل منهم، والجواب أن معنى ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ اسجدوا لي مستقبلين وجه آدم، وهو كقوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الاسراء: 78] أي عند دلوك الشمس وكقوله: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: 72] أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين، وقد بينا أن المسجود له لا يكون أفضل من الساجد بدليل القبلة، فإن قيل: فإذا لم يكن أفضل منهم فما الحكمة في الامر بالسجود له؟ قيل له: إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم، وقال بعضهم: عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمروا بالسجود له تكريما، ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ لما قال لهم: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30] وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا، فقال لهم: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾ [ص: 71] وجاعله خليفة، فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، والمعنى: ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن، فإن قيل: فقد استدلّ ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ) [الحجر: 72]، وأمنه من العذاب بقوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ ) [الفتح: 2]، وقال للملائكة: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ ) [الأنبياء: 29]، قيل له: إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه، فلم يقل: لعمري، وأقسم بالسماء والأرض، ولم يدل على أنهما أرفع قدرا من العرش والجنان السبع، وأقسم بالتين والزيتون، وأما قول سبحانه: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ﴾ [الأنبياء: 29] فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65] فليس فيه إذا دلالة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/292.
(2) ومعنى القتب أن العرب يعز عندهم وجود كرسي للولادة فيحملون نساءهم على القتب عند الولادة.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هذه الآية فضيلة لآدم عليه السلام عظيمة حيث أسجد الله له ملائكته، وقيل: إن السجود كان لله ولم يكن لآدم، وإنما كانوا مستقبلين له عند السجود، ولا ملجئ لهذا فإن السجود للبشر قد يكون جائزا في بعض الشرائع بحسب ما تقتضيه المصالح.
2. دلّت هذه الآية على أن السجود لآدم وكذلك الآية الأخرى أعني قوله: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ فلا يستلزم تحريمه لغير الله في شريعة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يكون كذلك في سائر الشرائع.
3. معنى السجود هنا:
أ. هو وضع الجبهة على الأرض، وإليه ذهب الجمهور.
ب. وقال قوم: هو مجرد التذلل والانقياد.
4. وقع الخلاف هل كان السجود من الملائكة لآدم قبل تعليمه الأسماء أم بعده، وقد أطال البحث في ذلك البقاعيّ في تفسيره، وظاهر السياق أنه وقع التعليم وتعقبه الأمر بالسجود، وتعقبه إسكانه الجنة ثم إخراجه منها وإسكانه الأرض.
5. اختلف في قوله: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ :
أ. قيل: استثناء متصل لأنه كان من الملائكة على ما قاله الجمهور.
ب. قال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ الذين كانوا في الأرض، فيكون الاستثناء على هذا منقطعا.
6. استدلوا على هذا بقوله تعالى: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ وبقوله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ والجن غير الملائكة.
7. أجاب المخالفون بأنه:
أ. لا يمتنع أن يخرج إبليس عن جملة الملائكة، لما سبق في علم الله من شقائه عدلا منه ﴿ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﴾ وليس في خلقه من نار ولا تركيب الشهوة فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة.
ب. وأيضا على تسليم ذلك لا يمتنع أن يكون الاستثناء متصلا تغليبا للملائكة الذين هم ألوف مؤلفة على إبليس الذي هو فرد واحد بين أظهرهم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/79.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ لما أنبأهم بأسماء، وعلمهم ما لا يعلموا، أمرهم بالسجود له، على وجه التحية والتكرمة تعظيما له، واعترافا بفضله، واعتذارا عما قالوا فيه، وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم عليه السلام.
2. اختلفوا في الملائكة الذين أمروا بالسجود:
أ. قيل: هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض، قال تقي الدين بن تيمية: هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود النصارى.
ب. وقيل: هم جميع الملائكة، حتى جبريل وميكائيل، وهذا قول العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة، قال ابن تيمية: ومن قال خلافه فقد ردّ القرآن بالكذب والبهتان، لأنه سبحانه قال ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: 30]، وهذا تأكيد للعموم.
3. للناس في هذا السجود أقوال:
أ. أحدها أنه تكريم لآدم، وطاعة لله، ولم يكن عبادة لآدم.
ب. وقيل: السجود لله، وآدم قبلة.
ج. أو السجود لآدم تحية.
د. أو السجود لآدم عبادة بأمر الله، وفرضه عليهم.
4. ذكر ابن الأنباريّ عن الفرّاء وجماعة من الأئمة، أن سجود الملائكة لآدم، كان تحية، ولم يكن عبادة، وكان سجود تعظيم وتسليم وتحية، لا سجود صلاة وعبادة.
5. السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه، وعلى هذا إجماع كل من يسمع قوله، فإن الله تعالى قال ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ ولم يقل: إلى آدم، وكل حرف له معنى، وفرق بين (سجدت له) وبين (سجدت إليه) قال تعالى: ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾ [فصلت: 37] ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الرعد: 15]
6. أجمع المسلمون على أن السجود للأحجار والأشجار والدواب محرّم، وأما الكعبة، فيقال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي إلى بيت المقدس، ثم صلى إلى الكعبة، ولا يقال صلى لبيت المقدس، ولا للكعبة.
7. الصواب أن الخضوع بالقلوب، والاعتراف بالعبودية، لا يصلى على الإطلاق إلّا لله سبحانه، وأما السجود فشريعة من الشرائع يتبع الأمر، فلو أمرنا سبحانه أن نسجد لأحد من خلقه، لسجدنا طاعة واتباعا لأمره.
8. سجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتعظيم وتكريم، وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام، ولم يأت أن آدم سجد للملائكة، بل لم يؤمر بالسجود إلا لله رب العالمين.
9. أهل السنة قالوا: إنه سجود تعظيم وتكريم وتحية له، وقالت المعتزلة: كان آدم كالقبلة يسجد إليه، ولم يسجدوا له، قالوا ذلك هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم، فإن أهل السنة قالوا: إبليس من الملائكة، وصالح البشر أفضل من الملائكة، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم، وخالفت المعتزلة في ذلك وقالت: الملائكة أفضل من البشر، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة، ويبطله ما حكى الله سبحانه عن إبليس ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 62].
10. في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ قولان:
أ. أحدهما أنه وقت العبادة كان منافقا.
ب. الثاني أنه كان مؤمنا ثم كفر، وهذا قول الأكثرين.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ :
أ. قيل: في علم الله، أي كان عالما في الأزل أنه سيكفر.. والذي عليه الأكثرون: أن إبليس أول كافر بالله.
ب. أو يقال: معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك.
12. اختلف الناس بأي سبب كفر إبليس، لعنه لله:
أ. قالت الخوارج: إنما كفر بمعصية الله، وكل معصية كفر، وهذا قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
ب. قال آخرون: كفر بترك السجود لآدم ومخالفته أمر الله.
ج. قال آخرون: كفر لأنه خالف الأمر الشفاهي من الله، فإن الله خاطب الملائكة وأمرهم بالسجود، ومخالفة الأمر الشفاهي أشد قبحا.
د. قال جمهور الناس: كفر إبليس لأنه أبى السجود واستكبر وعاند وطعن واعتقد أنه محق في تمرده، واستدل ب ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: 12]، فكأنه ترك السجود لآدم، تسفيها لأمر الله وحكمته، وهذا الكبر عبر عنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)
13. للعلماء في إبليس، هل كان من الملائكة أم لا؟ قولان:
أ. أحدهما: أنه كان من الملائكة، قاله ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن المسيّب، واختاره الشيخ موفق الدين والشيخ أبو الحسن الأشعريّ وأئمة المالكية وابن جرير الطبريّ، قال البغويّ: هذا قول أكثر المفسرين، لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ فلولا أنه من الملائكة، لما توجه الأمر إليه بالسجود، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم يكن عاصيا، ولما استحق الخزي والنكال.
ب. الثاني أنه كان من الجن، ولم يكن من الملائكة، قاله ابن عباس، في رواية، والحسن وقتادة، واختاره الزمخشريّ وأبو البقاء العكبري والكواشيّ في تفسيره، لقوله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: 50]، فهو أصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس، ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور، ولأن له ذرية، ولا ذرية للملائكة.. قال في الكشاف: إنما تناوله الأمر، وهو للملائكة خاصة، لأن إبليس كان في صحبتهم، وكان يعبد الله عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له، كان الجنيّ الذي معهم أجدر بأن يتواضع.
14. القول بأنه كان من الملائكة هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء وصححه البغوي، وأجابوا عن قوله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة.
15. ذكر ابن القيم أن الصواب التفصيل في هذه المسألة، وأن القولين في الحقيقة قول وحد، فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله، كان أصله من نار، وأصل الملائكة من نور، فالنافي كونه من الملائكة، والمثبت، لم يتواردا على محل واحد، وكذلك قال تقي الدين بن تيمية في الفتاوي المصرية: وقيل إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار، سموا (جنّا)، لاستتارهم عن الأعين، فإبليس كان منهم، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ [الصافات: 158]، وهو قولهم: الملائكة بنات الله، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية.
16. سئل الشعبيّ: هل لإبليس زوجة؟ قال ذلك عرس لم أشهده! قال ثم قرأت هذه الآية، فعلمت أنه لا يكون له ذرية إلا من زوجة، فقلت: نعم، وقال قوم: ليس له ذرية ولا أولاد، وذريته أعوانه من الشياطين.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/290.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإذْ قُلْنَا﴾ اذكر وقت قولنا لنفس القول لا لنفس الوقت، وهكذا في القرآن كلِّه اللفظ ذكر الوقت والمراد ذكر ما فيه، أو اذكر الحادث (إذ قلنا كذا..) أو اذكر وقت قلنا، أو أطاعوا إذ قلنا ﴿لِلْمَلَآئِكَةِ﴾ كلِّهم كما قال: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَآئِكَةُ كُلُّهُمُ أجْمَعُونَ﴾ [الحجر: 30].
2. وتخصيص الآية بالمأمورين بالنزول إلى قتال الجنِّ في الأرض خروج عن الظاهر بلا دليل، وكذا في الأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه و(ص)، وذلك سبع سور ذكر فيها: ﴿وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلَآئِكَةِ﴾ تسلية للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم آخر الأنبياء عن إيذاء قومه له، كما أنَّ أوَّلهم آدم في محنة عظيمة للخلق، أي: لا تطمع يا محمَّد أن يتَّفق الناس على الإيمان بك إذ لم يتَّفق من آمن وَعَبَدَ اللهَ آلاف السنين، وشَاهَدَ ما لم يشاهد الناس إذ خرج عنهم إبليس وكفر، فكيف قومك وسائر الناس!.
3. ﴿اسْجُدُوا﴾ لي ﴿ءَلاِدَمَ﴾ قبل رفعه من الأرض للسماء، أي: إلى جهة آدم إعظامًا له كالكعبة، وسببًا لوجود السجود، وذلك سجود على السماء والأرض وما شاء الله كسجود الصلاة، وهو لله تعالى ، أو المراد بالسجود مطلق الخضوع، أو مع انحناء دون سجود الصلاة، وهو لآدم ونُسِخَ، وإبليس يحسده على الانقياد له وعلى جعله قبلة، وعلى كلِّ خيرٍ حتَّى الجعل له سببًا، ونافق من جعل السجود كسجود الصلاة، وأنَّه لآدم تحقيقًا، ولو كان عبادة لله؛ لأنَّ السجود كذلك عبادة يختصُّ به الله في كلِّ زمان، وفي جعلِهِ قبلةً تعظيمُ حقِّ المعلِّم على من يتعلَّم.
4. ﴿فَسَجَدُوا﴾ كلُّهم أجمعون: أهل السماء وأهل الأرض منهم، كلٌّ سجد حيث هو، شرعَ في السجود أوَّلاً جبريل، فميكائيل، فإسرافيل، فعزرائيل، فالملائكة المقرَّبون، يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر، ويقال: بقوا في السجود مائة سنة، ويقال: خمسمائة، وهذه الأقوال في قول تفسير السجود بسجود كسجود الصلاة؛ وفي قول تفسيره بالانحناء.
5. ﴿إِلَّآ إِبْلِيسَ﴾ بمنع الصرف للعلَميَّة والعجمة، وعلى أنَّ (إبليس) عربيٌّ من معنى الإيَّاس من الخير أو الإبعاد عنه فللعلميَّة، وكونه لا نظير له في الأسماء، ويردُّه وجود إحليل وإكليل ونحوهما ولو غير أعلام، وهو ردٌّ صحيح لا نظر فيه؛ لأنَّ وجود وزن العَلَم في اسم الجنس كاف في انتفاء المنع لوزنه، أبا الجنِّ على الصحيح أو مولود منهم، الاستثناء منقطع، وفيه مناسبة للاتِّصال إذ عبدَ اللهَ مع الملائكة وكان فيهم كواحد منهم، حتَّى إنَّه قيل: كان خازنَ الجنَّة أربعين ألف سنة يعبد الله، ومع الملائكة ثمانين ألف سنة، ووعظ الملائكة عشرين ألف سنة، وساد الكروبيِّين ثلاثين ألف سنة، والروحانيِّين ألف سنة، وطاف حول العرش أربعة عشر ألف سنة، وجاهد في الأرض أربعين ألف سنة، ولم يترك موضعًا في الجنَّة إلَّا سجد فيه، وأحبط الله عمله كلَّه بتركه السجود لآدم.
6. وكُفرُه شركٌ؛ لأنَّه أُمِر مُعيَّنًا فخالف مواجهةً، فلا يختصُّ كفره بمذهب الخوارج، وعصيانه دليل على أنَّه ليس ملَكًا، وكذا كونه من نار، وقوله: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنَ اَمْرِ رَبـِّهِ﴾ [الكهف: 50]، ودعوى أنَّ من الملائكة من ليس معصومًا تكلُّف لا دليل له، وكون نوع من الملائكة غير معصوم لا يوجب أنَّه من ذلك الجنّ، فلعلَّه من جنِّ الشياطين المشهورين بهذا، وقد جعل الله كونه من الجنِّ سببًا لفسقه، وكونه ملَكا انسلخ عن الملكيَّة فعصى دعوًى، وهو مغمور في الملائكة بإيهام أنَّه منهم لا باحتقار، فلا ينافي رئاسته.
7. ﴿أَبَى﴾ امتنع من السجود ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ الاستفعال هنا للمبالغة، أي: تقرَّر فيه كِبْر عظيم، وهو أصل الإباء، أو مع الأنَفة، إلَّا أنَّه قدَّم الإباء لأنَّه مِمَّا يَظهر، والاستكبار قلبيٌّ إنَّما يَظهَرُ بأثره، وذُكرا جميعًا لبيان أنَّ إباءه لا يزول لأنَّه لِكبْرٍ راسخٍ فيه.
8. ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ في علم الله تعالى وقضائه الأزليِّ، أو من الكافرين الذين في الأرض من الجنِّ قبل خلق آدم وفي اللوح المحفوظ، أو كان كافرًا لترك السجود طبق شقوته الأزليَّة.
9. والآية دليل على أنَّ الأمر للوجوب، إذ قطع عذره بمخالفة قوله: ﴿اسْجُدُوا﴾ دون أن يقول: أوجبتُ عليكم أو نحو ذلك.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/78.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد ما عرف الله الملائكة بمكانة آدم ووجه جعله خليفة في الأرض أمرهم بالخضوع له وعبر عن ذلك بالسجود، فقال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ وهو سجود لا نعرف صفته، ولكن أصول الدين تعلمنا أنه ليس سجود عبادة إذ لا يعبد إلا الله تعالى.
2. السجود في اللغة التطامن والخضوع والانقياد، وأعظم مظاهره الخرور نحو الأرض للأذقان ووضع الجبهة على التراب، وكان عند بعض القدماء من تحية الناس للملوك والعظماء، ومنه سجود يعقوب وأولاده ليوسف عليهم السّلام.
3. السجود لله تعالى قسمان، سجود العقلاء المكلفين له نعبدا على الوجه المشروع ـ وسجود المخلوقات كلها لمقتضى إرادته فيها، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ الآية وقال ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ وفى معناهما آيات.
4. وصف الله تعالى إبليس بأنه ﴿أَبَى﴾ السجود والانقياد ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾، فلم يمتثل أمر الحق ترفعا عنه، وزعما بأنه خير من الخليفة عنصرا، وأزكى جوهرا، كما حكى الله تعالى عنه في غير هذه السورة: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾
5. الاستكبار بمعنى التكبر وهو الظهور بصفة الكبرياء التي من آثارها الترفع عن الحق، كأن السين والتاء للإشعار بأن الكبر ليس من طبيعة إبليس، ولكنه مستعد له، ثم قال تعالى بعد وصفه بالإباء والاستكبار ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾
6. قال بعض المفسرين كان من حق الترتيب أن يقال: كان من الكافرين واستكبر وأبى لأن الكفر عنده سبب الاستكبار، والاستكبار سبب الإباء، ومثل هذا المفسر يعلل مخالفة الترتيب الطبيعي في النظم برعاية الفاصلة.. لكن نظم الآية جاء على مقتضى الطبيعة في الذكر، فإنه يفيد أن الله تعالى أراد أن يبين الفعل أولا لانه المقصود بالذات وهو الاباء ثم يذكر سببه وعلته وهو الاستكبار ثم يأتي بالأصل في العلة والمعلول والسبب والمسبب وهو الكفر.
7. قال بعض المفسرين: إن (كان) هنا بمعنى صار وخطأه ابن فورك وقال إن الاصول ترده، ووجهه عند قائله: وصار بهذا الاباء والاستكبار من جملة الكافرين، لما علم من أنه لم يكن قبل هذا العصيان المتضمن للاعتراض على الرب سبحانه من الكافرين.
8. جعل بعضهم مناط كفره هذا الاعتراض على ربه عز وجل لان المعصية وحدها لا تقتضى الكفر كما تدل عليه النصوص، وفيه أن ذلك في معصية المسلم، وهو المذعن لأمر الله ونهيه إذا غلبه غضب أو شهوة فعصى، وهو لا يلبث أن يندم ويتوب، وعصيان إبليس رفض للاذعان والاستسلام ابتداء وهو كفر بغير نزاع، ككفر الذين صدقوا الرسل بقلوبهم ولم يتبعوهم عنادا واستكبارا ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ والجمهور: أن المعنى: وكان في علم الله من الكافرين.
9. ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ أي سجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس وهو فرد من أفراد الملائكة، كما يفهم من الآية وأمثالها في القصة إلا آية الكهف فإنها ناطقة بأنه كان من الجن: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾
10. ليس عندنا دليل على أن بين الملائكة والجن فصلا جوهريا يميز أحدهما عن الآخر، وإنما هو اختلاف أصناف، عندما تختلف أوصاف، كما ترشد إليه الآيات، فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة، وقد أطلق في القرآن لفظ الجنة على الملائكة على رأى جمهور المفسرين في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ وعلى الشياطين في آخر سورة الناس.
11. على كل حال فجميع هؤلاء المسميات بهذه الأسماء من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها ولا نقول بنسبة شيء إليها ما لم يرد لنا فيه نص قطعي عن المعصوم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
12. الملائكة خلق غيبي لا نعرف حقيقته، وإنما نؤمن به باخبار الله تعالى الذي نقف عنده ولا نزيد عليه، وتقدم أن القرآن ناطق بأن الملائكة أصناف لكل صنف وظيفة وعمل، ونقول الآن إن إلهام الخير والوسوسة بالشر مما جاء في لسان صاحب الوحى صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد أسندا الى هذه العوالم الغيبية، وخواطر الخير التي تسمى إلهاما وخواطر الشر التي تسمى وسوسة كل منهما محله الروح فالملائكة والشياطين إذن أرواح تتصل بأرواح الناس فلا يصح أن تمثل الملائكة بالتماثيل الجثمانية المعروفة لنا [لان هذه لو اتصلت بأرواحنا، فإنما تتصل بها من طرق أجسامنا، ونحن لا نحس بشيء يتصل بأبداننا لا عند الوسوسة ولا عند الشعور بداعي الخير من النفس، فأذن هي من عالم غير عالم الابدان قطعا] والواجب على المسلم في مثل الآية: الايمان بمضمونها مع التفويض أو الحمل على أنها حكاية تمثيل؛ ثم الاعتبار بها بالنظر في الحكم التي سيقت لها القصة.
__________
(1) تفسير المنار: 1/266.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن أعلم الله تعالى الملائكة مكانة آدم وأنه جعله خليفة في الأرض، أمرهم بالسجود له سجود خضوع لا سجود عبادة اعترافا بفضله، واعتذارا عما قالوه في شأنه، من قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها).
2. السجود لغة الخضوع والانقياد، ومن أعظم مظاهره وضع الجبهة على التراب، وكان تحية للملوك عند بعض القدماء كما ورد من سجود يعقوب وأولاده ليوسف.
3. السجود لله قسمان: سجود العقلاء تعبدا على الوجه المعروف شرعا، وسجود المخلوقات كلها بانقيادها وخضوعها لمقتضى إرادته كما قال ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ وقال: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ .
4. ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ أي امتنع عما أمر به من السجود، وأظهر كبره وترفع عن الحق زعما منه أنه خير من الخليفة عنصرا، وأزكى جوهرا كما قص ذلك عنه ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ فهو الأحق بالرئاسة.
5. ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ أي وصار من الكافرين برفض الإذعان لأمر الله لزعمه أنه أفضل منه، والأفضل لا يحسن أن يخضع لمن دونه.
6. للعلماء في حقيقة إبليس رأيان:
أ. أحدهما أنه كان جنيّا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم متصفا بصفاتهم، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ ولأن الملائكة لا يستكبرون، وهو قد استكبر، وهو قد خلق مما خلق منه الجن، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ .
ب. ثانيهما: أنه كان من الملائكة، لأن خطاب السجود كان مع الملائكة، ولأن الظاهر من هذه الآية وأمثالها أنه منهم، قال البغوي وهو الأصح.
7. قال في التيسير: إن وصف الملائكة بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم دليل على تصور العصيان منهم، ولولا ذلك ما مدحوا به، لكن طاعتهم طبع وعصيانهم تكلف، وطاعة البشر تكلف ومتابعة الهوى منهم طبع، ولا يستنكر من الملائكة تصوّر العصيان، فقد ذكر عن هاروت وماروت ما ذكر.
8. ليس هناك دليل على أن بين الملائكة والجن فروقا جوهرية بها يمتاز أحدهما من الآخر، بل هي فروق في الأوصاف فقط، والجميع من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نضيف إليها شيئا إلا إذا ورد به نص عن المعصوم.
9. الملائكة من عالم الغيب لا نعرف حقيقتهم، والكتاب الكريم يرشد إلى أنهم أصناف، لكل صنف عمل، وقد جاء في لسان الشرع إسناد إلهام الحق والخير إلى الملائكة كما يستفاد من خطابهم لمريم عليها السلام، وإسناد الوسوسة إلى الشياطين وهو مشهور في الكتاب والسنة، فقد روى الترمذي (إن للشيطان لمّة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الآخر فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾، واللمة: الإلمام والإصابة.
10. الملائكة والشياطين أرواح لها اتصال بأرواح الناس لا نعرف حقيقته، بل نؤمن بما ورد فيه ولا نزيد عليه شيئا آخر.. ويرى بعض المفسرين أن ما ورد من أن الملائكة موكلون بالأعمال من إنماء نبات وخلق حيوان وحفظ إنسان، فمعناه أن هذا النموّ في النبات إنما هو بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان.. فكل شيء قائم بنظام خاص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده، فإنما قوامه بروح إلهى سمى في لسان الشرع ملكا، ومن لا يعترف بالغيب يسميه قوة طبيعية أو ناموسا طبيعيا؛ فالمؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودا لا يدرك كنهه، والذي لا يؤمن به يقول أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، وإذا فلا خلاف بين الناس في وجود شيء غير ما يرى ويحسّ، لا يفهم حق الفهم ولا يصل العقل إلى إدراك كنهه.
11. كلنا نشعر إذا هممنا بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفوسنا تنازعا وكأنّ الأمر قد عرض على مجلس للشّورى، فواحد يقول افعل وآخر يقول لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين على الآخر، فهذا الذي أودع في نفوسنا ونسميه قوة وفكرا هو في الحقيقة معنى لا ندرك كنهه، ولا يبعد أن نسميه أو نسمى سببه ملكا، انتهى كلامه ملخصا.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/86.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ .. إنه التكريم في أعلى صوره، لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكنه وهب من الأسرار ما يرفعه على الملائكة، لقد وهب سر المعرفة، كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق.. إن ازدواج طبيعته، وقدرته على تحكيم إرادته في شق طريقه، واضطلاعه بأمانة الهداية إلى الله بمحاولته الخاصة.. إن هذا كله بعض أسرار تكريمه.. لقد سجد الملائكة امتثالا للأمر العلوي الجليل.
2. ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ .. وهنا تتبدى خليقة الشر مجسمة: عصيان الجليل سبحانه! والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله، والعزة بالإثم، والاستغلاق عن الفهم.
3. يوحي السياق أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة، إنما كان معهم، فلو كان منهم ما عصى، وصفتهم الأولى أنهم ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾
4. الاستثناء هنا لا يدل على أنه من جنسهم، فكونه معهم يجيز هذا الاستثناء، كما تقول: جاء بنو فلان إلا أحمد، وليس منهم إنما هو عشير هم وإبليس من الجن بنص القرآن، والله خلق الجان من مارج من نار، وهذا يقطع بأنه ليس من الملائكة.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/58.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. أما وقد نجح آدم في هذا الامتحان، وأظهر من العلم ما قصر علم الملائكة عنه، فقد استحق أن يكرم، وأن يكون هذا التكريم من الملائكة أنفسهم، لأنهم هم الذين أنكروا عليه تلك (الخلافة) التي جعلها الله له، ليكون ذلك بمثابة ردّ اعتبار لآدم عند من نقصوه، وثمنا يقتضيه منهم لقاء انتقاصهم له!
2. تلقى الملائكة أمر الله بالقبول والرضا، فسجدوا لآدم سجود تعظيم وتكريم، لا سجود عبادة وتأليه، فلا عبادة إلا لله، ولا مألوه غير الله!.. سجد الملائكة كلهم أجمعون.. إلا إبليس.
3. ورد في القرآن الكريم وفى أكثر من موضع ذكر إبليس، والشيطان، والجن، على أنها قوى خفية، تتحرك في المجال الإنساني وتراه دون أن يراها.. وإبليس والشيطان، يذكران دائما في معرض التحذير منهما، والتخويف من إغرائهما وإغوائهما، إذ كان من شأنهما العداوة للإنسان، والنقمة عليه.
4. يذكر (إبليس) وحده في مقام دعوة الملائكة للسجود لآدم وامتناعه هو عن السجود، استكبارا لذاته، وعلوا على آدم الذي خلق من طين، على حين أنه خلق من نار، وفى هذا يقول الله تعالى:
أ. في الآية السابقة: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾
ب. ويقول في سورة الأعراف: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾
ج. ويقول في سورة الإسراء: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾
د. ويقول في سورة الكهف: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾
هـ. ويقول في سورة طه: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾
و. وفى سورة ص: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾
5. يلاحظ أنه لم يذكر في هذا الموقف (الشيطان) أو (الجن).. وهذا ما يشعر بأن (إبليس) على صفة خاصة، غير صفة الشيطان، والجن، وإلا لما التزم القرآن ذكر إبليس في هذه الصور المتعددة لموقف واحد، الأمر الذي لا يلتزمه القرآن إلا حيث لم يكن من التزامه بد.
6. من جهة أخرى فنجد القرآن الكريم يتحدث عن (إبليس) بأنه كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه.. كما جاء ذلك في الآية الواردة في سورة الكهف.. فإبليس ـ على هذا ـ من عالم الجن، وأنه وحده الذي خرج عن أمر ربه، وأعلن هذا العصيان الوقاح!.
7. يتحدث القرآن في ثمانية وستين موضعا عن الشيطان، بلفظ المفرد (الشيطان) وفى أحد عشر موضعا بلفظ الجمع: الشياطين).. وفى جميع هذه المواضع يجيء الحديث عن الشيطان أو الشياطين في مقام التحذير من الضلال والغواية للإنسان من كيد الشيطان.. ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ .. ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾
8. هذه العداوة التي بين الشيطان وآدم، وذرية آدم، هي امتداد لتلك العداوة التي حملها إبليس لآدم، حين امتنع عن السجود له مع الملائكة، كما أمره الله، وكان ذلك سببا في أن لعنه الله وطرده من الجنة، وفى هذا يقول الله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾، ويقول سبحانه عن الشيطان وهو يوسوس لآدم ويغريه بالخروج عن أمر ربه: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ ويقول سبحانه: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾، وهنا يبدو الشيطان وإبليس وكأنهما اسمان لذات واحدة، فما عرف إبليس إلا بهذا الوجه المنكر الملعون، وما عرض الشيطان إلا في هذه الصورة الكريهة المخيفة.
9. من جهة أخرى فقد كان إبليس من عالم الجن، ففسق عن أمر ربه.. ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾
10. ومن جهة ثالثة تحدّث آيات القرآن عن إبليس وكأنه من عالم الملائكة، حيث توجّه الأمر للملائكة بالسجود، فامتثلوا جميعا أمر ربّهم إلا إبليس، فهو استثناء متصل: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾، ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾
11. على هذا نستطيع أن نقول:
أ. أولا: إن إبليس كان من الملائكة.
ب. ثانيا: أنه كان في درجة دنيا، في هذا العالم الروحي، هي درجة الجنّ الذين وإن أشبهوا عالم الملائكة في أنهم خلقوا من شعلة مقدسة، إلا أن الملائكة كانوا من نور هذه الشعلة، على حين كان الجن من نارها، كما يقول تعالى: ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾، ولهذا كان الملائكة صفاء خالصا، بينما كان الجن صفاء مشوبا بكدر.. نارا مختلطة بدخان!، ولهذا أيضا كان الجن فيهم الخير والشر، وكان منهم الأخيار والأشرار، كما يقول الله تعالى على لسانهم: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ﴾ ﴾ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾
ج. ثالثا: لم يظل (إبليس) في جماعة الجنّ، بل أخرجه الله من بينهم، حين أبى أن يسجد لآدم مع الساجدين، فلعنه الله، وطرده، وجعل له اسم (إبليس) سمة يعرف بها، في هذا الموقف الذي حلّت عليه فيه اللعنة والإبلاس.
د. رابعا: بدأ إبليس منذ اللعنة التي حلّت به يتحول خلقا آخر، فإذا هو (شيطان) مريد، وشيطان رجيم، وإذا هو قوة شر منطلقة، يتطاير منها شرر، يصيب من يتعامل معه، ويتبع خطاه، وتلك الشرارات المنطلقة منه هي ذريته التي يتحدث عنها القرآن في قوله تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ .. وهى شياطين أخرى، تنطلق منها شرارات شيطانية.
12. وهكذا.. فإبليس كان من عالم الجنّ، ثم نزل إلى (إبليس) ثم تحول من إبليس إلى شيطان.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/55.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. حقيقة السجود طأطأة الجسد أو إيقاعه على الأرض:
أ. بقصد التعظيم لمشاهد بالعيان كالسجود للملك والسيد، والسجود للكواكب، قال تعالى: ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: 100]، وقال ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ﴾ [فصلت: 37] وقال الأعشى:
فلما أتانا بعيد الكرى... سجدنا له وخلعنا العمارا
وقال أيضا:
يراوح من صلوات الملي... ك طورا سجودا وطورا جؤارا
ب. أو لمشاهد بالتخيل والاستحضار وهو السجود لله، قال تعالى: ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ [النجم: 62].
2. السجود ركن من أركان الصلاة في الإسلام، وأما سجود الملائكة فهو تمثيل لحالة فيهم تدل على تعظيم، وقد جمع معانيه قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل: 49]، فكان السجود أول تحية تلقاها البشر عند خلق العالم.
3. عرف السجود منذ أقدم عصور التاريخ فقد وجد عي الآثار الكلدانية منذ القرن التاسع عشر قبل المسيح صورة حمورابي ملك كلدية راكعا أمام الشمس، ووجدت على الآثار المصرية صور أسرى الحرب سجدا لفرعون، وهيآت السجود تختلف باختلاف العوائد، وهيئة سجود الصلاة مختلفة باختلاف الأديان، والسجود في صلاة الإسلام الخرور على الأرض بالجبهة واليدين والرجلين.
4. تعدية ﴿اسْجُدُوا﴾ لاسم آدم باللام دال على أنهم كلفوا بالسجود لذاته، وهو أصل دلالة لام التعليل إذا علق بمادة السجود، مثل قوله تعالى: ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ [النجم: 62] وقوله: ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ﴾ [فصلت: 37]، ولا يعكر عليه أن السجود في الإسلام لغير الله محرم لأن هذا شرع جديد نسخ، ما كان في الشرائع الأخرى، ولأن سجود الملائكة من عمل العالم الأعلى، وليس ذلك بداخل تحت تكاليف أهل الأرض.
5. لا طائل تحت إطالة البحث في أن آدم مسجود له أو هو قبلة للساجدين كالكعبة للمسلمين، ولا حاجة إلى التكلف بجعل اللام بمعنى إلى مثلها في قول حسان: أليس أول من صلى لقبلتكم.. فإن للضرورة أحكاما، لا يناسب أن يقال بها أحسن الكلام نظاما.
6. عطف ﴿فَسَجَدُوا﴾ بفاء التعقيب يشير إلى مبادرة الملائكة بالامتثال، ولم يصدّهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق مظهر فساد وسفك دماء لأنهم منزّهون عن المعاصي.
7. جمل ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ استئناف بياني مشير إلى أن مخالفة حاله لحال الملائكة في السجود لآدم، شأنه أن يثير سؤالا في نفس السامع، كيف لم يفعل إبليس ما أمر به، وكيف خالف حال جماعته، وما سبب ذلك، لأن مخالفته لحالة معشره مخالفة عجيبة، إذ الشأن الموافقة بين الجماعات، كما قال دريد بن الصمة:
وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت... غويت وإن ترشد غزية أرشد
فبين السبب بأنه أبى واستكبر وكفر بالله.
8. الإباء: الامتناع من فعل أو تلقيه، والاستكبار شدة الكبر والسين والتاء فيه للعد أي عد نفسه كبيرا مثل استعظم واستعذب الشراب أو يكون السين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستقر فمعنى استكبر اتصف بالكبر، والمعنى أنه استكبر على الله بإنكار أن يكون آدم مستحقا لأن يسجد هو له إنكارا عن تصميم لا عن مراجعة أو استشارة، كما دلت عليه آيات أخرى مثل قوله: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12] وبهذا الاعتبار خالف فعل إبليس قول الملائكة حين قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: 30]، لأن ذلك كان على وجه التوقف في الحكمة ولذلك قالوا: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: 30]
9. إبليس بإبائه انتقضت الجبلة التي جبل عليها أول مرة، فاستحالت إلى جبلة أخرى على نحو ما يعرض من تطور للعاقل حين يختل عقله وللقادر حين تشل بعض أعضائه، ومن العلل علل جسمانية ومنها علل روحانية كما قال فكنت كذي رجلين رجل صحيحة... ورجل رمى فيها الزمان فشلت
10. الاستكبار التزايد في الكبر لأن السين والتاء فيه للمبالغة لا للطلب كما علمت، ومن لطائف اللغة العربية أن مادة الاتصاف بالكبر لم تجيء منها إلا بصيغة الاستفعال أو التفعل إشارة إلى أن صاحب صفة الكبر لا يكون إلا متطلبا الكبر أو متكلفا له، وما هو بكبير حقا، ويحسن هنا أن نذكر قول أبي العلاء:
علوتم فتواضعتم على ثقة... لما تواضع أقوام على غرر
11. حقيقة الكبر قال فيها الغزالي في كتاب (الإحياء): الكبر خلق في النفس وهو الاسترواح والركون إلى اعتقاد المرء نفسه فوق التكبر عليه، فإن الكبر يستدعي متكبرا عليه ومتكبرا به وبذلك ينفصل الكبر عن العجب فإن العجب لا يستدعي غير المعجب ولا يكفي أن يستعظم المرء نفسه ليكون متكبرا فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مماثلا لها فلا يتكبر عليه، ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر بل أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره، فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل خلق الكبر وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في نفسه اعتداد وعزة وفرح وركون إلى ما اعتقد، وعز في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى تلك العقيدة هو خلق الكبر.
12. كانت هذه الآية ونظائرها مثار اختلاف بين علماء أصول الفقه فيما تقتضيه دلالة الاستثناء من حكم يثبت للمستثنى:
أ. فقال الجمهور: الاستثناء يقتضي اتصاف المستثنى بنقيض ما حكم به للمستثنى منه، فلذلك كثر الاكتفاء بالاستثناء دون أن يتبع بذكر حكم معين للمستثنى سواء كان الكلام مثبتا أو منفيا، ويظهر ذلك جليا في كلمة الشهادة لا إله إلا الله فإنه لولا إفادة الاستثناء أن المستثنى يثبت له نقيض ما حكم به للمستثنى منه لكانت كلمة الشهادة غير مفيدة سوى نفي الإلهية عما عدا الله فتكون إفادتها الوحدانية لله بالالتزام.
ب. وقال أبو حنيفة الاستثناء من كلام منفي يثبت للمستثنى نقيض ما حكم به للمستثنى منه، والاستثناء من كلام مثبت لا يفيد إلا أن المستثنى يثبت له نقيض الحكم لا نقيض المحكوم به، فالمستثنى بمنزلة المسكوت عن وصفه، فعند الجمهور المستثنى مخرج من الوصف المحكوم به للمستثنى منه وعند أبي حنيفة المستثنى مخرج من الحكم عليه فهو كالمسكوت عنه.
ج. سوى المتأخرون من الحنفية بين الاستثناء من كلام منفي والاستثناء من كلام مثبت في أن كليهما لا يفيد المستثنى الاتصاف بنقيض المحكوم به للمستثنى منه وهذا رأي ضعيف لا تساعده اللغة ولا موارد استعماله في الشريعة، فعلى رأي الجمهور تكون جملة ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ استئنافا بيانيا، وعلى رأي الحنفية تكون بيانا للإجمال الذي اقتضاه الاستثناء ولا تنهض منها حجة تقطع الجدال بين الفريقين.
13. جملة ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ معطوف على الجمل المستأنفة.
14. (كان) لا تفيد إلا أنه اتصف بالكفر في زمن مضى قبل زمن نزول الآية، وليس المعنى أنه اتصف به قبل امتناعه من السجود لآدم.
15. تحير أكثر المفسرين في بيان معنى الآية من جهة حملهم فعل (كان) على الدلالة على الاتصاف بالكفر فيما مضى عن وقت الامتناع من السجود، ومن البديهي أنه لم يكن يومئذ فريق يوصف بالكافرين فاحتاجوا أن يتمحلوا:
أ. بأن إبليس كان من الكافرين أي في علم الله.
ب. وتمحل بعضهم بأن إبليس كان مظهرا الطاعة مبطنا الكفر نفاقا، والله مطلع على باطنه ولكنه لم يخبر به الملائكة وجعلوا هذا الاطلاع عليه مما أشار إليه قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30].. وكل ذلك تمحل لا داعي إليه لما علمت من أن فعل المضي يفيد مضى الفعل قبل وقت التكلم.
ج. وأمثلهم طريقة الذين جعلوا كان بمعنى صار، فإنه استعمال من استعمال فعل كان قال تعالى: ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود: 43] وقال: ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ [الواقعة: 5، 6] وقول ابن أحمر:
بتيهاء قفر والمطي كأنها... قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
أي صار كافرا بعدم السجود لأن امتناعه نشأ عن استكباره على الله واعتقاد أن ما أمر به غير جار على حق الحكمة، وقد علمت أن الانقلاب الذي عرض لإبليس في جبلته كان انقلاب استخفاف بحكمة الله تعالى فلذلك صار به كافرا صراحا.
16. أحسن الوجوه في معنى ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ أن مقتضى الظاهر أن يقول: وكفر كما قال: ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ لدلالة (كان) في مثل هذا الاستعمال على رسوخ معنى الخبر في اسمها، والمعنى أبى واستكبر وكفر كفرا عميقا في نفسه، وهذا:
أ. كقوله تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ [الأعراف: 83]
ب. وكقوله تعالى: ﴿نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ﴾ [النمل: 41] دون أن يقول أم لا تهتدي لأنها إذا رأت آية تنكير عرشها ولم تهتد كانت راسخة في الاتصاف بعدم الاهتداء.
17. الإتيان بخبر ﴿ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ ﴾ دون أن يقول وكان كافرا فلأن إثبات الوصف لموصوف بعنوان كون الموصوف واحدا من جماعة تثبت لهم ذلك الوصف أدل على شدة تمكن الوصف منه مما لو أثبت له الوصف وحده، بناء على أن الواحد يزداد تمسكا بفعله إذا كان قد شاركه فيه جماعة، لأنه بمقدار ما يرى من كثرة المتلبسين بمثل فعله تبعد نفسه عن التردد في سداد عملها وعليه:
أ. جاء قوله تعالى: ﴿أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [النمل: 27]
ب. وقوله: ﴿أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ﴾
وهو دليل كنائي واستعمال بلاغي جرى عليه نظم الآية، وإن لم يكن يومئذ جمع من الكافرين، بل كان إبليس وحيدا في الكفر.
18. هذا منزع انتزعه من تتبع موارد مثل هذا التركيب في هاتين الخصوصيتين خصوصية زيادة (كان) وخصوصية إثبات الوصف لموصوف بعنوان أنه واحد من جماعة موصوفين به.
19. في هذا العدول عن مقتضى الظاهر مراعاة لما تقتضيه حروف الفاصلة أيضا.
20. قد رتبت الأخبار الثلاثة في الذكر على حسب ترتيب مفهوماتها في الوجود، وذلك هو الأصل في الإنشاء أن يكون ترتيب الكلام مطابقا لترتيب مدلولات جمله كقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ [هود: 77]
21. استثناء إبليس من ضمير الملائكة في ﴿فَسَجَدُوا﴾ استثناء منقطع لأن إبليس لم يكن من جنس الملائكة، قال تعالى في سورة الكهف: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾، ولكن الله جعل أحواله كأحوال النفوس الملكية بتوفيق غلب على جبلته لتتأتى معاشرته بهم وسيره على سيرتهم، فساغ استثناء حاله من أحوالهم في مظنة أن يكون مماثلا لمن هو فيهم.
22. دلت الآية على أن إبليس كان مقصودا في الخبر الذي أخبر به الملائكة، إذ قال للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، وفي الأمر الذي أمر به الملائكة إذ قال لهم ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾، ذلك أن جنس المجردات كان في ذلك العالم مغمورا بنوع الملك، إذ خلق الله من نوعهم أفرادا كثيرة، كما دل عليه صيغة الجمع في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ [البقرة: 30]، ولم يخلق الله من نوع الجن إلا أصلهم، وهو إبليس، وخلق من نوع الإنسان أصلهم وهو آدم، وقد أقام الله إبليس بين الملائكة إقامة ارتياض وتخلق وسخره لاتباع سنتهم فجرى على ذلك السّنن أمدا طويلا لا يعلمه إلا الله، ثم ظهر ما في نوعه من الخبث، كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ في سورة الكهف [50] فعصى ربه حين أمره بالسجود لآدم.
23. إبليس اسم الشيطان الأول الذي هو مولد الشياطين، فكان إبليس لنوع الشياطين والجن بمنزلة آدم لنوع الإنسان، وإبليس:
أ. اسم معرب من لغة غير عربية لم يعينها أهل اللغة، ولكن يدل لكونه معربا أن العرب منعوه من الصرف ولا سبب فيه سوى العلمية والعجمة، ولهذا جعل الزجاج همزته أصلية، وقال وزنه على فعليل.
ب. وقال أبو عبيدة: هو اسم عربي مشتق من الإبلاس وهو البعد من الخير واليأس من الرحمة، وهذا اشتقاق حسن لولا أنه يناكد منعه من الصرف، وجعلوا وزنه إفعيل لأن همزته مزيدة وقد اعتذر عن منعه من الصرف بأنه لما لم يكن له نظير في الأسماء العربية عد بمنزلة الأعجمي وهو اعتذار ركيك، وأكثر الذين أحصوا الكلمات المعربة في القرآن لم يعدوا منها اسم إبليس لأنهم لم يتبينوا ذلك وصلاحية الاسم لمادة عربية ومناسبته لها.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/408.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. السجود الذي أمر الله تعالى به هو الخضوع، وهو يستعمل في كلام العرب بمعنى التذلل والخضوع، وليس السجود الذي يعد من أركان الصلاة، ومن المعنى اللغوي قوله في سورة يوسف: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ أي دخلوا في حكمه، وقد قال تعالى في الخلق في سورة أخرى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾
2. سؤال وإشكال: هل يدل هذا على أنه كسجود الصلاة؟ والجواب: أنه يدل على كمال الخضوع له سبحانه وتعالى، بما يدل على الخضوع الكامل بالانحناء له، وإذا كان يوهم أنه كسجود الصلاة، فليس عبادة لآدم ولكنه إطاعة الله تعالى: وإن كان آدم كالقبلة، فالعبادة تكون للآمر وهو الله تعالى لا لمن اتخذه كالقبلة وكان كأنما السجود له.
3. مهما تكن حال السجود، والعلم الجازم بها عند الله تعالى، فإن الأمر به دليل على تكريم الله تعالى لآدم أبى البشر، وأن له اختصاصا بالتكريم على الملائكة الأطهار الأبرار، كما أمر الله تبارك وتعالى الذي خلق الفريقين، وميز بين العالمين.
4. إبليس الذي كان من الجن خرج عن طاعة الله ففسق عن أمر الله مستكبرا بغير مسوغ للكبر؛ لأنه زعم أن أصل خلقه خير من أصل خلق آدم، فهو خلق من نار، وآدم خلق من طين، والله تعالى خالق المادتين، فهو يفاخر ويعاند بأمر خلقه الله تعالى الذي أمره بالسجود، فكان في أشد أحوال الغفلة، وصح أن يقال فيه إنه أشد من خلق الله تغفيلا، وكذلك كان أتباعه من بعده، فهم في غفلة عن الحق دائما.
5. لقد وصفه الله تعالى بأنه كفر، وهو قد طغى في كفره، وتعدى إلى معاندة الله تعالى في أمره ونهيه، حتى لقد حكى الله تعالى أنه اعتزم الشر، وأراد فتنة بنى آدم، بل آدم نفسه، فقال عنه الله تعالى: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾، وقال: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾
6. ذكر الله تعالى هذا العلو عليهم، فأمرهم بالسجود له، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾
7. كان إبليس عند أمر الله تعالى له مع الملائكة، ولنا أن نقول إنه ليس مما خلقهم تعالى من مادتهم، فإنه خلق من نار كما حكى الله تعالى عنه إذ قال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾، وإذا لم يكن منهم، فإن الاستثناء يكون منقطعا، ولكن الخطاب موجه إليه لصحبته لهم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/198.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قد كان الأمر بالسجود للملائكة كافة دون استثناء، حتى لجبريل وميكائيل بدليل قوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾
2. قال أكثر المفسرين: كان السجود لمجرد التحية، تماما كالانحناء ورفع اليد، لأن السجود لغير الله محرم.. وهذا غير صحيح على حد تعبير صاحب مجمع البيان، لأنه لو كان كذلك لمّا امتنع إبليس عن السجود.. وبديهة ان السجود بأمر الله تعالى طاعة لله، لا لآدم.
3. اختلفوا في حقيقة إبليس: هل هو من الملائكة، أو من الجن؟ والصحيح انه من الجن، وعليه يكون الاستثناء منقطعا، والدليل قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾
4. لا طريق إلى معرفة إبليس والشياطين والجن إلا الوحي، تماما كما هو الشأن في الطريق الى معرفة الملائكة.
5. تعرض المفسرون هنا لبحوث لا طائل تحتها.. لذا أعرضنا عنها مقتصرين على ما دل عليه ظاهر اللفظ.. وقد أشرنا الى بعض ما يعزى الى إبليس من الأساطير، لأنها صورة واضحة لأكثر أهل هذا العصر في مغالطاتهم وتلاعبهم بالألفاظ التي لا تمت بشيء إلى علم أو فن أو أي شيء سوى السفسطة والشعوذة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/83.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قد عرفت أن قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، فيه دلالة على وقوع أمر مكتوم ظاهر بعد أن كان مكتوما، ولا يخلو ذلك عن مناسبة مع قوله: ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ حيث لم يعبر أبى واستكبر وكفر، وعرفت أيضا أن قصة السجدة كالواقعة أو هي واقعة بين قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقوله: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، فقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾، كالجملة المستخرجة من بين الجمل ليتخلص بها إلى قصة الجنة.
2. هذه الآيات إنما سيقت لبيان كيفية خلافة الإنسان وموقعه، وكيفية نزوله إلى الدنيا، وما يؤول إليه أمره من سعادة وشقاء، فلا يهم من قصة السجدة هاهنا إلا إجمالها المؤدي إلى قصة الجنة وهبوط آدم هذا، فهذا هو الوجه في الإضراب عن الإطناب إلى الإيجاز، ولعل هذا هو السر أيضا في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا﴾، بعد قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ﴾
3. على ما مر:
أ. فنسبة الكتمان إلى الملائكة، وهو فعل إبليس بناء على الجري على الدأب الكلامي من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم ولم يتميز منهم.
ب. ويمكن أن يكون له وجه آخر، وهو أن يكون ظاهر قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، إطلاق الخلافة حتى على الملائكة كما يؤيده أيضا أمرهم ثانيا بالسجود، ويوجب ذلك خطورا في قلوب الملائكة، حيث إنها ما كانت تظن أن موجودا أرضيا يمكن أن يسود على كل شيء حتى عليهم، ويدل على هذا المعنى بعض الروايات.
4. في تفسير العياشي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنا نظن أن الله خلق خلقا أكرم عليه منا، فنحن جيرانه ونحن أقرب الخلق إليه، فقال الله: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ﴾ .. ﴿مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، فيما أبدوا من أمر بني الجان وكتموا ما في أنفسهم، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش.
5. وفي التفسير، أيضا عن علي بن الحسين عليه السلام: ما في معناه وفيه: فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش، وأنها كانت عصابة من الملائكة ـ وهم الذين كانوا حول العرش، لم يكن جميع الملائكة إلى أن قال فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة.
6. يمكن أن يستفاد مضمون الروايتين من قوله حكاية عن الملائكة: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ إلى قوله: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾، وسيجيء أن العرش هو العلم، وبذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت عليه السلام.
7. على هذا كان المراد من قوله تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾، قوم إبليس من الجان المخلوقين قبل الإنسان، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾
8. على هذه الرواية فنسبة الكتمان إلى جميع الملائكة لا تحتاج إلى عناية زائدة، بل هي على حقيقته، فإن المعنى المكتوم خطر على قلوب جميع الملائكة، ولا منافاة بين هذه الرواية وما تفيد أن المكتوم هو ما كان يكتمه إبليس من الإباء عن الخضوع لآدم، والاستكبار لو دعي إلى السجود، لجواز استفادة الجميع كما هو كذلك.
9. قوله تعالى: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾، يستفاد منه جواز السجود لغير الله في الجملة إذا كان تحية وتكرمة للغير، وفيه خضوع لله تعالى بموافقة أمره، ونظيره قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ﴾
10. ملخص القول في ذلك أن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبودية، وإتيان ما يثبت ويستثبت به ذلك، فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوية المولى أو عبدية العبد كالسجود والركوع والقيام أمامه حينما يقعد، والمشي خلفه حينما يمشي وغير ذلك، وكلما زادت الصلاحية المزبورة ازدادت العبادة تعينا للعبودية، وأوضح الأفعال في الدلالة على عز المولوية وذل العبودية السجدة، لما فيها من الخرور على الأرض، ووضع الجبهة عليها.
11. ما ظنه بعضهم من أن السجدة عبادة ذاتية، فليس بشيء، فإن الذاتي لا يختلف، ولا يتخلف وهذا الفعل يمكن أن يصدر بعينه من فاعله بداع غير داع التعظيم والعبادة كالسخرية والاستهزاء فلا يكون عبادة مع اشتماله على جميع ما يشتمل عليه وهو عبادة نعم معنى العبادة أوضح في السجدة من غيرها، وإذا لم يكن عبادة ذاتية لم يكن لذاته مختصا بالله سبحانه، بناء على أن المعبود منحصر فيه تعالى، فلو كان هناك مانع لكان من جهة النهي الشرعي أو العقلي والممنوع شرعا أو عقلا ليس إلا إعطاء الربوبية لغيره تعالى، وأما تحية الغير أو تكرمته من غير إعطاء الربوبية، بل لمجرد التعارف والتحية فحسب، فلا دليل على المنع من ذلك.
12. لكن الذوق الديني المتخذ من الاستئناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى، والمنع عن استعماله في غير مورده تعالى، وإن لم يقصد به إلا التحية والتكرمة فقط، وأما المنع عن كل ما فيه إظهار الإخلاص لله، بإبراز المحبة لصالحي عباده أو لقبور أوليائه أو آثارهم فمما لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي أصلا.
13. في الروايات ـ وهي كثيرة ـ تأييد ما ذكرناه في السجدة، ومنها:
أ. في قصص الأنبياء، عن أبي بصير، قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: سجدت الملائكة ووضعوا أجباههم على الأرض؟ قال نعم تكرمة من الله تعالى.. وفي تحف العقول، قال: إن السجود من الملائكة لآدم ـ إنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لآدم.
ب. وفي الاحتجاج، عن موسى بن جعفر عن آبائه: أن يهوديا سأل أمير المؤمنين عليه السلام ـ عن معجزات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في مقابلة معجزات الأنبياء، فقال: هذا آدم أسجد الله له ملائكته، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟ فقال علي: لقد كان ذلك، ولكن أسجد الله لآدم ملائكته، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة ـ أنهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل، ولكن اعترافا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله جل وعلا صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها، وتعبد المؤمنون بالصلاة عليه فهذه زيادة له يا يهودي.
ج. وفي تفسير القمي: خلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصورا، وكان يمر به إبليس اللعين فيقول: لأمر ما خلقت؟ فقال: العالم، فقال إبليس: لئن أمرني الله بالسجود لهذا لعصيته) إلى أن قال ثم قال: الله تعالى للملائكة: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ ـ فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد.
د. وفي البحار، عن قصص الأنبياء، عن الصادق عليه السلام قال أمر إبليس بالسجود لآدم ـ فقال: يا رب وعزتك إن أعفيتني من السجود لآدم ـ لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها، قال الله جل جلاله: إني أحب أن أطاع من حيث أريد ـ وقال: إن إبليس رن أربع رنات: أولهن يوم لعن، ويوم أهبط إلى الأرض، ويوم بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على فترة من الرسل، وحين أنزلت أم الكتاب، ونخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة، وحين أهبط من الجنة، وقال في قوله تعالى: ﴿فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾، وكانت سوآتهما لا ترى فصارت ترى بارزة، وقال الشجرة التي نهي عنها آدم هي السنبلة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/123.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ و﴾ اذكر ﴿ إِذْ قُلْنَا ﴾ القائل: هو الله، وهذه نون العظمة، فيها مناسبة لأمره تعالى للملائكة كلهم وابتلائه لهم؛ لأنه مالكهم يحكم فيهم ما يريد ﴿لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ السجود هنا: تعظيم بغير عبادة لآدم، وهو ـ وإن كان سجوداً لآدم ـ فهو عبادة لله؛ لأنه طاعة له، وتسليم لأمره، وخضوع له؛ لأنه ربهم المالك لهم الذي له الحكم فيهم.
2. لم يسأل الملائكة عليهم السلام: لماذا صح السجود لآدم؟ لأنه قد تقرر عندهم أن الله هو العليم الحكيم، وأنه يعلم ما لا يعلمون، فالسجود لآدم عبادة لله من حيث هو طاعة، ومن حيث هو تسليم، فسجودهم لآدم سجود لله بهذا المعنى، وليس هذا السجود لآدم، وكذلك السجود ليوسف ليس عبادة؛ لتجرده عن معنى العبادة الذي هو الاعتراف بالعبودية، كما يفيده قوله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ أي عن الإقرار بالعبودية، والاعتراف بأنه عبد لله.. وقوله تعالى في المشركين: ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ﴾ [الأنعام: 94]
3. في هذه الآية وأمثالها دلالة على أن صيغة الأمر من الله سبحانه تفيد الوجوب؛ لأنه وجب عليهم السجود بقوله تعالى: ﴿اسْجُدُوا﴾ وقوله تعالى: ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ وسمّى قوله ذلك أمراً في قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: 12] فدل على أن تلك الصيغة أمر.
4. ﴿فَسَجَدُوا﴾ امتثالاً لأمر الله ربهم ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾ أن يسجد، أي امتنع من امتثال هذا الأمر ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ عن السجود لآدم، اعتقد في نفسه أنه أكبر من أن يسجد لآدم.
5. ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ كان من جملة الكافرين، وكفره إما بجحده للحكمة والصواب في الأمر بالسجود لآدم كما يفيده قوله: ﴿أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾ [الإسراء: 62] وقوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: 12] وأما إنه كان كافراً من قبل.
6. معنى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ :
أ. أي من قبل، وذلك باعتقاد باطل كان يكتمه عن الملائكة، هذا إذا كان معنى الكفر الجحود.
ب. فإن كان معناه الرفض والمباينة، كقولهم: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ﴾ [الممتحنة: 4] فظاهر.
ج. وكذا إن كان معناه ضد الشكر، كما في قوله: ﴿لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ [النمل: 40].
7. الظاهر: أنه قد كفر بالمعاني الثلاثة كلها، فيحمل عليها كلها، على قول من يصحح استعمال المشترك في معانيه جميعاً إذا لم يوجد قرينة تعين المقصود من معانيه، ولكن كفره بجحد الحكمة والصواب أقرب؛ لاقترانه بما ذكر في الآية فيحمل عليه، وإن كانت المعاني قد اجتمعت فيه.
8. سؤال وإشكال: هل استثناء إبليس متصل كما هو الظاهر لدخوله في أمر الملائكة بالسجود فيشكل جعله من الملائكة مع قوله تعالى: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: 50]؟ والجواب: أن العرب لا تعرف الملائكة جنساً خاصاً كجنس البشر، وإنما تعرف أنهم خلق آخر في السماء مكرمون عند الله مقربون، وليس في مفهوم اسم الملائكة عندهم أنهم خلقوا من أصل واحد.. وعلى هذا: يجوز أن تختلف أصولهم مع كونهم كلهم ملائكة، ويمكن أن نجعل الآيتين دليلاً على ذلك:
أ. فقد دلت آية على أنه كان من الملائكة حين أمروا بالسجود وشمله الأمر كما شمل كل واحد منهم.
ب. ودلت الآية على أنه كان من الجن، ولا مانع من ذلك في العقل ولا في المعلوم من السمع، ولعل سبب مصيره ملكاً طول عبادته مع الملائكة في السماء، فقد روي أنه عَبَدَ الله ستة آلاف سنة.
9. سؤال وإشكال: يشكل هذا على ما سبق من احتمال أنه كان كافراً من قبل؟ والجواب: أنه يحتمل أنه كان عابداً مخلصاً، وفي آخر أمره فتن مثلاً عند قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ والله أعلم، وعلى هذا فلا تعارض بين كونه صار ملكاً لطول عبادته مع الملائكة، وكان كافراً بعد ذلك قبل الأمر بالسجود لآدم، وفي هذا الموضع اقتصر من قصة إبليس على ما ذكر كأن المقصود ما أشار إليه بقوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، فبالنسبة إلى قول الملائكة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ ذكر (قصة الأسماء) وبالنسبة إلى قولهم: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ ذكر قصة إبليس، فبين بالقصتين أنه يعلم ما لا يعلمون في شأن الإنسان وفي شانهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/91.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا هو الموقف الثاني الذي أراد الله فيه أن يكرّم هذا المخلوق الجديد، ليظهر قيمته وفضله، فأمر الملائكة بالسجود له إعظاما وتحية وتكرمة، وكان إبليس يعيش في أجواء الملائكة حتى كاد أن يحسب منهم، كما يوحي به الاستثناء الذي هو من قسم الاستثناء المنقطع الذي يعتبر فيه المستثنى من لواحق المستثنى منه وإن كان خارجا عنه.
2. انسجم الملائكة مع هذا الأمر الإلهي لأنهم عباده المكرمون الذين ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ أمّا إبليس، فإن الأمر يختلف لديه، لأنه لا يعيش هذا الجو الروحي إزاء أوامر الله ونواهيه، بل القضية عنده هي ما إذا كانت الطاعة لله منسجمة مع ذاتيته ونظرته إلى نفسه، أو غير منسجمة.
3. كان السجود لآدم لا يرضي غروره الذاتي وشعوره بالاستعلاء أمام هذا المخلوق الجديد، على أساس عنصري، كما توحي به الآيات القرآنية الأخرى التي تحدثت عن القصة بإسهاب، فما كان منه إلا أن تمرد وأبى واستكبر وامتنع عن الطاعة.
4. ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ هذا المخلوق الجديد الذي هو قبضة من الطين وإبداع من القدرة، ونفخة من روح الله، في ميزاته الإنسانية؛ في عقله الذي يتسع لكل حقائق العقيدة والحياة، وإرادته التي تمثل العزيمة القوية في حركة القوّة الروحية في وجوده، وحرية حركته في جميع مجالات الكون الموضوعة تحت قدرته، وفي حيوية إحساسه بالمسؤولية الشاملة لكل مواقع الخلافة عن الله في الأرض في إدارة شؤونها، وترتيب أوضاعها، وتنظيم حركتها، وتوجيهها في الخط الذي يرضاه الله للحياة في داخل النظام الكوني.
5. في ضوء ذلك، كانت عظمة خلقه لونا من ألوان الدلالة على عظمة الله في إبداع مثله، مما يفرض التحية له والتكريم لوجوده، والخضوع لله على عظمة قدرته في خلقه.
6. الأمر الذي يجعل السجود له شأنا من شؤون العبادة لله والتقدير لإبداعه في الخلق، والتحية للمخلوق الحي الفاعل الذي يشارك الملائكة المهمات الموكولة للعباد في إدارة النظام الكوني، ﴿فَسَجَدُوا﴾ خضوعا، وإذعانا للأمر الإلهي، وتحية لهذا الخلق الذي أكرمه الله بخلافته وكرّمه بنعمه.
7. ﴿اسْجُدُوا﴾ : السجود: الخضوع والتذلل، وفي الشرع وضع الجبهة على الأرض، والسجود لله يكون على نحو العبادة، ولغيره على وجه التكريم والتحية، ومنه سجود الملائكة لآدم وسجود يعقوب وأهله ليوسف، فقد كان ذلك هو التعبير عن التحية للملوك، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: 100]
8. السجود عام في الإنسان والحيوان والجمادات ـ كما جاء في القرآن الكريم، وذلك نوعان:
أ. سجود باختيار، وهو من خصوصيات الإنسان الذي يستحق به الثواب ويقترب به من مواقع القرب لله.
ب. سجود التسخير، وهو للإنسان والحيوان والنبات والجماد، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ [الرعد: 15].
9. هناك نقطة أساسية في هذا المجال، وهي أن اعتبار أيّ عمل من أعمال الإنسان عبادة لأي شخص، يخضع للنية الدافعة له نحو العمل، فإذا كان السجود خضوعا للإنسان أو للصنم، كان ذلك عبادة لهما، أمّا إذا كان خضوعا لله كما إذا كان بأمره له ـ تعالى ـ فهو عبادة لله وإن كان موجها للإنسان أو لشيء آخر، وبهذا لا يعتبر تقبيل الحجر الأسود عبادة له، لأن ذلك لا يتصل بالعظمة الذاتية للحجر، بل بالأمر الإلهي الذي اعتبره رمزا من رموز القداسة وشعيرة من شعائر العبادة.. إنه أسلوب من أساليب عبادة الله التي شرع لنا فيها شعائر العبادة التي لا نملك أمر تغييرها، ولكنها مهما اختلفت، فهي موجّهة إليه وحده.
10. أكد هذا المعنى بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه السّلام، ومنها:
أ. ورد في تحف العقول عن الصادق عليه السّلام قال: إن السجود من الملائكة لآدم إنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لآدم)
ب. وفي قصص الأنبياء عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله جعفر الصادق عليه السّلام: سجدت الملائكة ووضعوا جباههم على الأرض قال: نعم، تكرمة من الله تعالى).
ج. وفي حديث الاحتجاج عن الإمام علي عليه السّلام (في ضمن حوار أهل اليهود): أن سجودهم لم يكن سجود طاعة أنهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل، ولكن اعترافا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له.
11. ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾ أن يسجد، ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ انطلاقا من العقدة المستعلية في داخل ذاته في إحساسه المرضيّ بالتفوّق العنصري لانتمائه إلى النار أمام انتماء آدم إلى التراب، حيث تستطيع النار أن تحرق التراب.
12. هذه مشكلة المستكبرين الذين يستغرقون في جانب من جوانب الذات، ويغفلون عن الجوانب الأخرى المتصلة بالعناصر الحية الفاعلة في الشخصية المنفتحة على الآفاق الواسعة في الحياة في أفكارها وحركيتها وفاعليتها، من دون اعتبار للمادة في ماديتها الذاتية التي لا تمثل إلّا أداة من أدوات الحركة الوجودية في الشكل، لتكون الروح هي العنصر الذي يمنح الذات امتدادا في البعد العملي وعمقا في المضمون الفكري والروحي للدور الإنساني في الحياة، فلم يدخل الشيطان في المقارنة بينه وبين الإنسان في الجوانب الأخرى، بل استغرق في المسألة المادية، فابتعد عن وعي الخصائص الأخرى التي قد يتفوّق فيها هذا المخلوق عليه ليتواضع أمامه من خلالها، وهكذا سقط من الأعالي ليهوي في الحضيض الأسفل في وحول الاستكبار الذي يتغذى من قذارات العناصر الشريرة في الذات.
13. ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ الذين لم يكفروا بالله مباشرة، ولكنهم يعيشون روحية الكفر وممارسته في التمرد على الله، مما يجعل حياتهم تجسيدا للكفر بكل مظاهره ونتائجه.
14. نجد في القرآن الكثير من الآيات التي تتحدث عن الكفر العملي بالقوة نفسها التي تتحدث فيها عن الكفر العقيدي، باعتبار أنهما يلتقيان في النتيجة الطبيعية، وهي التمرد على الله والبعد عن الخط المستقيم الذي أراد الله للحياة أن تسير فيه.
15. نفهم من الآيات التي تربط العمل الصالح بالإيمان أن خطورة الكفر لا تقتصر على ما تمثله من إنكار لله ولرسله واليوم الآخر، بل تكمن في الانطلاق بعيدا عن عبادة الله وإرادته في بناء الحياة على أساس شريعته، وهذا ما نستقربه في اعتبار إبليس كافرا.
16. سار بعض المفسرين في اتجاهات أخرى لا تثبت أمام النقد العلمي.
17. هذه الآية، وغيرها من الآيات، لا تدل إلا على نقطة واحدة في سبب العصيان، وهي طبيعة الاستكبار التي كان يشعر بها إبليس تجاه آدم من ناحية العنصر، كما ورد في قوله تعالى: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12] وفي قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 62] مما يعطينا الفكرة التي تظل في هذا النطاق المحدود الذي يمثل المعصية التي لم تتجمد في إطار ذاته، بل امتدت لتتحول إلى عملية إغواء لذرية آدم في كل مجالات العقيدة من ناحية الفكر ومن ناحية العمل.
18. لا نجد أيّة ضرورة لهذا التكلف الذي يريد أن يربط هذا التمرد بالمعنى المصطلح للكفر، وإلا أمكن أن نرجع الكثير من أعمال العباد وخطاياهم إلى الكفر.
19. قد نجد في القرآن الكريم أنه قد يعيش في بعض حالاته النفسية حالة الخوف من الله سبحانه كما في قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر: 16]، ولكن ذلك لم يمنع الحديث عنه بعنوان الكفر في الآية التالية: ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ [الحشر: 17]، وربما كان ذلك من خلال العناصر الذاتية الخفية الكامنة في نفسه التي تأبى على الله أن يأمر بما أمر به بما يلتقي بالكفر العقيدي في لوازمه الفكرية.
20. قد لا يكون لهذا النوع من الحديث أيّ أثر عملي في مجال العقيدة والعمل، فإن هذا المخلوق هو سرّ الكفر والفسق في الحياة فيما يزينه لبني آدم من أساليب الضلال والانحراف عن الله وشريعته، ولكننا نريد أن نخلص منه إلى فكرة تفسيرية وهي ملاحظة مصطلح الكفر في القرآن من خلال المعنى الحقيقي الذي يتحرك في إطار العقيدة، ومن خلال المعنى المجازي الذي يتحرك في نطاق العمل، وربما كانت هذه الآية ـ فيما نظن ـ من مصاديق المعنى الثاني.
21. حاول بعض المتفلسفين تصوير إبليس في قضية إيمانه بصورة المأساة، فصوروه بصورة الموحد الخالص في توحيده، المؤمن العميق في إيمانه، لأنه رفض السجود لآدم انطلاقا من رغبته في توحيده العبادة لله، فلا يريد أن يشرك أحدا في السجود له، وإن كان ذلك بأمر من الله، فهو مستعد لتقبل عذاب الله في سبيل الإخلاص لمحبته له وإيمانه به، ولكن القضية التي حاولوا تبيانها، لا ترتكز على أيّ أساس منطقي أو ديني.
22. فكرة إبليس كموجود حي ليست من الأفكار التي تخضع للحس لتدخل في نطاق التجربة لنملك أمر التصرف في تفاصيلها من خلال تجاربنا الذاتية، بل هي من الغيب الذي عرّفنا الله إياه، فيما عرّفه لأنبيائه من أمور الغيب، وفي هذا الإطار، لا بد لنا من أن نأخذ ملامحها وتفاصيلها من النصوص الدينية فيما أوحاه الله من الكتب السماوية، وقد رأينا في هذه الآية أن امتناع إبليس عن السجود لآدم كان بفعل الكبرياء، لا بفعل التوحيد والمحبة لله، وسنجد في شخصيته فيما يأتي من حديث إبليس في القرآن ـ صفة الحاقد الذي يدفعه حقده إلى أن يمارس كل ما يستطيع من الأعمال الشريرة في سبيل تحطيم هذا الكائن في ذاته وفي ذريته كسبيل من سبل التنفيس عن حقده المكبوت في أعماقه، ولذا فإنه يطلب الخلود من أجل تحقيق هذه الغاية الشريرة في نفسه.
23. إذا كانت الصورة القرآنية هي هذه، فمن أين تأتي لنا صورة الموحّد لله الفاني في ذاته الذي يريد أن يحرق نفسه من أجل الاحتفاظ بصفاء حبه وإيمانه!؟ إننا لا نستطيع أن نضع ذلك إلا في أجواء الخيالات الشعرية التي تعيش في آفاق الشعراء الحالمين الذين يحاولون أن يمنحوا جو المأساة للمجرمين انطلاقا من الاستغراق الذاتي في مشاعر المجرم أمام مصيره، بعيدا عن دوافع الجريمة ونتائجها الشريرة في تأثيرها على البلاد والعباد، تماما كالكثيرين الذين يشجبون قانون القصاص للقاتل على أساس المشاعر العاطفية الساذجة بعيدا عن التخطيط الواعي للتشريع في حياة الإنسان.
24. قد نجد في بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه السّلام بعضا من الملامح التفصيلية للصورة، ولكن في اتجاه آخر، فقد ورد في البحار عن قصص الأنبياء، عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال أمر إبليس بالسجود لآدم فقال: يا رب وعزتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها، قال الله جلّ جلاله: إني أحب أن أطاع من حيث أريد.. نلمح في هذا الحديث بعضا من ملامح الفكرة التي نقلناها، ولكنها لا تسير في الاتجاه الذي يحاوله هذا البعض، بل تسير في جو المساومة الساذج الذي يريد إبليس من خلالها أن يرضي كبرياءه بالامتناع عن السجود لآدم، وذلك بالطلب إلى الله أن يقبل تعويضا عنه بعبادة لم يعبده مثلها أحد، لكن الجواب يضع القضية في إطارها الصحيح، لأن موضوع عبادة الله ليس عملية شكلية تتمثل في أوضاع معينة من أعمال الإنسان، بل هي الخضوع له في كل ما يريده بالطريقة التي يريدها بعيدا عن كل نوازع النفس ودوافعها الذاتية، ولعل من أوضح مظاهر ذلك أن يكبت الإنسان رغباته الشخصية أمام إرادة الله.
25. قضية السجود لا تمثل شكلا من أشكال عبادة آدم ليتعارض مع الإيمان بالله وتوحيد عبادته، وكيف يأمر الله عباده بالإشراك به، وهو الذي ﴿لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾، ولكنها تحية وتكرمة لآدم من جهة، كما حدث من يعقوب وأهله عند مقابلته لولده يوسف فيما حدثنا الله عنه في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: 100]، وهي من جهة أخرى طاعة لله في امتثال أوامره، وفي تعظيم خلقه، كمظهر من مظاهر عظمته.
26. ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ الذين ابتعدوا عن الله، واعترضوا على حكمته، وتمردوا على أوامره، فكانوا سواء مع الذين أنكروا وجوده في النتائج العملية الحاسمة في الموقف والموقع.
27. ﴿إِبْلِيسُ﴾ : اسم أعجمي معرّب، واستدلوا على ذلك بامتناع صرفه، وذهب آخرون إلى أنه عربي مشتق من الإبلاس الذي هو الحزن المعترض من شدة اليأس، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الروم: 12].
28. والمقصود بـ (إبليس) المخلوق الغيبي الذي يمثل رمز الشرّ، وهو من الجن، التحق بالملائكة حتى أصبح معدودا منهم لشدة عبادته ـ كما يقال ـ وقد جاء الحديث عنه بذلك في قوله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: 50]، وتحدث القرآن، تحت عنوان الشيطان، عن سلطته في إضلال البشر بالوسوسة والتزيين والإيحاء ونحو ذلك، من دون أن يكون له القدرة المطلقة على التدخل في قدرتهم الذاتية وشلّ إرادتهم المتحركة في اتجاه الخير.
29. ﴿أَبَى﴾ : الإباء شدة الامتناع، فكل إباء امتناع، وليس كل امتناع إباء، ومنه: رجل أبيّ: ممتنع عن تحمّل الضيم.
30. ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ : الاستكبار: إظهار الإنسان من نفسه ما ليس له من خلال تكبره وإعجابه بنفسه، والكبر، حالة الإعجاب ورؤية نفسه أكبر من غيره في صورة انتفاخ الشخصية، والتكبر على الله إنما هو بالامتناع من قبول الحق ومن الإذعان له بعبادته.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/239.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الملائكة الموجه إليهم هذا هم جميع ملائكة الله كما يفيده التعريف والتأكيد بكلهم وأجمعون في قوله سبحانه: فسجد الملائكة كلهم أجمعون)، وهو يدل على رجحانية أن الملائكة الذين قال لهم الله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ هم جميع ملائكته تعالى خلافا لمن قال إنهم ملائكة الأرض وحدهم كقطب الأئمة في الهيميان.
2. وجه هذه الدلالة أن الأصل في الاسم إذا أعيد معرفة أن يكون مدلوله نفس المدلول السابق، ومما يستغرب أن قطب الأئمة اختار في هيميانه وتيسيره أن لفظ الملائكة هنا صادق على جميع أفرادهم مع ما سبق نقله عنه من أن الملائكة الذين خوطبوا أولا هم ملائكة الأرض وحدهم.
3. نقل الألوسي عن الصوفية أن المأمورين بالسجود من عدا العالين من الملائكة، وأن العالين غير داخلين في الخطاب، ولا مأمورين بالسجود لاستغراقهم وعدم شعورهم بسوى الذات، وحملوا على ذلك قوله تعالى: أستكبرت أم كنت من العالين)، ولا يجوز التعويل على هذا الرأي إذ هو من شطحاتهم المألوفة.
4. من الخرافات المرتبطة بهذا ما روى ابن جرير عن عباس: أن الله خلق خلقا، فقال اسجدوا لآدم، فقالوا: لانفعل، فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق خلقا آخر، فقال: إني خالق بشرا من طين ـ اسجدوا لآدم، فقالوا: لانفعل فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق هؤلاء فقال: اسجدوا لآدم)، قالوا: نعم وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم، وهذه رواية باطلة:
أ. إذ في اسنادها مبهم.
ب. وهي مصادمة لنصوص القرآن الدالة على عصمة الملائكة عن مخالفة أوامر الله.
ج. ومن ناحية آخرى فإنها تقتضي أن خلق آدم سابق على خلق الملائكة، والآيات دالة على أنهم أذنبوا بخلقه قبل أن يخلق، وهو يقتضي أن يكون وجودهم سابق على وجوده.
د. ومن التناقض البين في هذه الرواية زعم راويها أن إبليس كان مندرجا في تلك المجموعة التي رفضت السجود فأحرقت بالنار، ويلزم في هذا أن يكون إبليس ممن أتت عليه النار.
وبالجملة فلولا خشية أن تكون هذه الرواية سببا للبس الحق بالباطل لكان الأولى عدم ذكرها رأسا.
5. أسند القول فيما تقدم إلى الرب مضافا إلى الضمير المخاطب المقصود به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لما في ذلك من التنبيه بأن مراد الله بهذا الاستخلاف تربية هذا الجنس المستخلف في هذه الأرض بما يمنحه من مواهب وينمي فيه من قدرات ويودع في تكوينه من طاقات حسية ومعنوية، وذلك مفهوم من لفظة الرب فإنها بمعنى المربي والمصلح.
6. وإضافته إلى ضمير الخطاب العائد إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما في ذلك من إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم بلغ أرفع رتبة يصل إليها أفراد هذا الجنس، فإنه نال من التربية الإلهية الظاهرة والباطنة ما لم ينله أحد من الخلق، وأحاطت به عنايته تعالى في كل شيء فخرج لهذا الوجود، وقد اجتمعت فيه جميع صفات الكمال التي وهبها الله هذا الجنس الإنساني من بين مخلوقاته.
7. عدل عن هذا الأسلوب هنا إلى أسلوب آخر حيث أسند القول إلى ضمير المتكلم الآتي بصيغة الجمع لإظهار عظمته، وهذا العدول مما يسمى في عرف علماء البلاغة بالالتفات، وهو يأتي لنكتة عامة وهي تطرية الكلام وتجديد نشاط سامعه، وقد تكون مع هذه النكتة نكت خاصة بحسب ملاءمات مقام الخطاب، والنكتة الخاصة هنا أن الأمر بسجود الملائكة لآدم معاكس لما كانوا يتصورونه من فضلهم عليه وأحقيتهم بالخلافة دونه، فكأنما أراد به تعالى تأديبهم بعد أن أظهر لهم مزيته، فلذلك حكى هذا الجانب من القصة بهذا الأسلوب، وفي هذا السجود ما يشبه الاعتذار منهم إليه مما قالوه في شأنه.
8. العطف هنا من باب عطف القصة على القصة، وما قيل في (إذ) هناك قيل هنا، وإعادتها بعد العاطف المغنى عن إعادة الظرف للتنبيه على أن القصة مقصودة بذاتها، فكانت حرية بالاستقلال والاهتمام، ومن هنا لم تُعطف بالفاء الدالة على الترتيب والتفريع مع أن هذه القصة متفرعة عن سابقتها غير أن مراعاة استقلالها والعناية بها كانت أولى من مراعاة التفرع المذكور.
9. يدل على أن هذه القصة متفرعة عن سابقتها أن الأمر بالسجود كان على أثر ظهور مزية آدم بعلمه الأسماء، وتعليمه إياها للملائكة.
10. ذهب الفخر الرازي إلى أن الأمر بالسجود سابق على تلك المقاولة المتعلقة بالأسماء لقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾، وقوله: ﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويتهُ ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ﴾، فإن الظاهر من ذلك أنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود عندما آذنهم بخلق آدم، والمجيء بفاء الترتيب في جواب الشرط مؤذن بأن السجود كان مطلوبا عند حصول نفخ الروح، وهو بلا ريب سابق على تعليمه الأسماء وما ترتب عليه.
11. لا بد هنا من وقفة تأمل فيما تدل عليه آيات (الحجر) و(ص)، وما تدل عليه سائر الآيات، فإن من المعلوم أن الأصل في ترتب الحكايات أن يكون بحسب ترتب المحكيات، وقد سردت هنا قصة آدم مبتدأة بإيذان الله الملائكة أنه مستخلفه في الأرض مع ذكر المراحل التي مر بها إلى أن أهبط من الجنة إلى الأرض، والظاهر أن كل ما ذكر في القصة كان مرتبا بحسب ترتبها الزمني، وهذا يعني أن أمر الملائكة بالسجود كان إثر ما تقدم ذكره من ظهور تفوق آدم على الملائكة في معرفة الأسماء، ومقدرته على تعليمها لهم، ويرجح ذلك المناسبة التي ذكرتها وهو أن يكون في هذا السجود اعتذار منهم إليه عما قالوه في شأنه، أما ما في سورة (الحجر) و(ص) فهو يشعر بأن الله تعالى عندما أخبر الملائكة بخلقه آدم تضمن إخباره أمرا تعليقيا بأن يسجدوا له عندما يكتمل خلقه ويتجلى فيه السر الإلهي وهو ما عبر عنه بالنفخ فيه من روحه ويجمع بين ما ذكر في تينك السورتين وما ذكر في هذه السورة وسائر السور المشتملة على قصته من الأمر التنجيزي بالسجود بأن ذلك الأمر ظل معلقا إلى أن تم وجود ما تعلق عليه فأكد لهم بالصيغة التنجيزية، هذا ما ظهر لي من الجمع بين ما ورد في هذه القصة وأنا أستغفر الله مما خالفت فيه الحق.
12. الملائكة الموجه إليهم هذا هم جميع ملائكة الله كما يفيده التعريف والتأكيد بكلهم وأجمعون في قوله سبحانه: فسجد الملائكة كلهم أجمعون)، وهو يدل على رجحانية أن الملائكة الذين قال لهم الله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ هم جميع ملائكته تعالى خلافا لمن قال إنهم ملائكة الأرض وحدهم كقطب الأئمة في الهيميان.
13. وجه هذه الدلالة أن الأصل في الاسم إذا أعيد معرفة أن يكون مدلوله نفس المدلول السابق، ومما يستغرب أن قطب الأئمة اختار في هيميانه وتيسيره أن لفظ الملائكة هنا صادق على جميع أفرادهم مع ما سبق نقله عنه من أن الملائكة الذين خوطبوا أولا هم ملائكة الأرض وحدهم.
14. نقل الألوسي عن الصوفية أن المأمورين بالسجود من عدا العالين من الملائكة، وأن العالين غير داخلين في الخطاب، ولا مأمورين بالسجود لاستغراقهم وعدم شعورهم بسوى الذات، وحملوا على ذلك قوله تعالى: أستكبرت أم كنت من العالين)، ولا يجوز التعويل على هذا الرأي إذ هو من شطحاتهم المألوفة.
15. من الخرافات المرتبطة بهذا ما روى ابن جرير عن عباس: أن الله خلق خلقا، فقال اسجدوا لآدم، فقالوا: لانفعل، فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق خلقا آخر، فقال: إني خالق بشرا من طين ـ اسجدوا لآدم، فقالوا: لانفعل فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق هؤلاء فقال: اسجدوا لآدم)، قالوا: نعم وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم، وهذه رواية باطلة:
أ. إذ في اسنادها مبهم.
ب. وهي مصادمة لنصوص القرآن الدالة على عصمة الملائكة عن مخالفة أوامر الله.
ج. ومن ناحية آخرى فإنها تقتضي أن خلق آدم سابق على خلق الملائكة، والآيات دالة على أنهم أذنبوا بخلقه قبل أن يخلق، وهو يقتضي أن يكون وجودهم سابق على وجوده.
د. ومن التناقض البين في هذه الرواية زعم راويها أن إبليس كان مندرجا في تلك المجموعة التي رفضت السجود فأحرقت بالنار، ويلزم في هذا أن يكون إبليس ممن أتت عليه النار.
وبالجملة فلولا خشية أن تكون هذه الرواية سببا للبس الحق بالباطل لكان الأولى عدم ذكرها رأسا.
16. لا يبعد أن يكون الأمر بالسجود ما كان إلا مرة، وإنما حُكي تارة معلقا وأخرى منجزا بحسب اختلاف المقامات، فإذا أورد حالة ذكر الإعلام بخلقه ذكر معلقا نظرا إلى عدم وقوع ما علق عليه عندئذ، وإذا ذكر مع ذكر هذا المعلق عليه ذكر منجزا، ويرجح هذا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾، اللهم إلا أن تحمل (ثم) على المهلة الرتبية كما هو شأنها إذا عطفت الجمل.
17. مما يستشكل أن يكون السجود لآدم بعد تلك المقاولة في الأسماء مع قوله تعالى سبحانه: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾، فإن الظاهر من الآية أن السجود مطلوب عقب نفخ الروح وذلك لمكان الفاء التي يقترن عطفها بالتعقيب غالبا وتوسط الكلام في الأسماء بين نفخ الروح والسجود مناف لهذا التعقيب.. والجواب أن الفاء هنا رابطة وليست عاطفة حتى تكون دالة على التعقيب وإنما دلالتها على السببية وحدها.
18. سجودهم لآدم لم يكن عبادة له، فإن العبادة لا تكون إلا لله رب العالمين، ولم تشرع عبادة غير الله عند أية طائفة من الخلق ولافي أية رسالة جاءت من عند الله ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾، وإنما هو سجود إجلال وتكريم أذن به الله تعالى لإعلاء شأن الجنس البشري في الملأ الأعلى، وامتثال الملائكة لأمر الله به معدود من عبادة الله سبحانه التي لا يفتؤون عنها.
19. اختلف في نوعه:
أ. فقيل: كان سجودا شرعيا، وهو عبارة عن وضع الجبهة على الأرض.
ب. وقيل: لم يكن الا سجودا لغويا، وهو عبارة عن تواضعهم وتطامنهم بين يديه.
ج. من العلماء من يرى الوقوف عن تحديد كيفية هذا السجود، وهو أولى لعدم قيام حجة على تعين أحد القولين.
20. لا يشكل مجيء ألفاظ في القرآن والسنة مستخدمة في معانيها اللغوية الأصلية مع أن الشرع حولها إلى معان أخرى، وذلك كالصوم في قوله تعالى: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾، فإنه بمعنى الإمساك مع أن الصوم منقول في الشرع إلى إمساك خاص ليس هو المراد هنا، والكفر المدلول عليه بقوله عزوجل: ﴿ يعجب الكفار نباته ﴾، فإنه مستعمل في معناه اللغوي ـ وهو التغطية ـ مع أن الشرع نقله الى مفهوم آخر.
21. اختلف في هل كان مقصودا بهذا السجود آدم نفسه أو أنه كان سجودا لله، وكان آدم قبلة للساجدين كما هو شأن الكعبة المشرفة، ويرجح الرأي الأول تعدية فعل السجود باللام الدالة على أن مدخولها هو المقصود به، ولا يستشكل سجود مخلوق لمثله مع الأمر بذلك ممن له الخلق والأمر على أن سجود بعض الناس لبعض كان مباحا في بعض عهود النبوات السابقة، كيف وقد حكى الله عن أبوي يوسف عليه السلام وإخوته أنهم خروا له سجدا.
22. مهما يكن فليس في ذلك ما يلمح منه قصد عبادة مخلوق لمخلوق مثله، وإنما حرم السجود لغير الله في رسالة خاتم النبيين صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى لا يكون في هذه الأمة تعظيم لغير الله عز وجل، فلا تخر جبهة على الأرض ولا يتطأطأ رأس ولا ينحني ظهر لغير جلاله تعالى، ولذلك أنكر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على من هم بالسجود له.
23. تأول القائلون بأن آدم عليه السلام كان قبلة للساجدين كما هو شأن الكعبة المشرفة (اللام) بمعنى (إلى).. ومنهم من حمل اللام على معنى (عند) مستدلا بقوله سبحانه: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾، والأكثرون ضعفوا ذلك.
24. جمل ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ مستأنفة استئنافا بيانيا لتبيان سبب خروجه عن الملائكة بعصيانه أمر الله واعتراضه عليه، وذلك أن من شأن مثل هذا الخبر أن يثير تساؤلا في نفوس سامعيه، كيف لم يمتثل إبليس أمر ربه مع الحاقه إياه بالملأ الأعلى، وتأثره بالصفات الملكية وإن لم يكن منهم؟ وتوجيه الخطاب إليه ضمن خطاب الملائكة في قوله: ﴿اسْجُدُوا﴾ على أن من طبيعة المخلوق التأثر بالمقارن، وكراهة شذوذ الفرد عن الجماعة، وفي هذه الجمل الإجابة عن هذه التساؤلات كلها.
25. الإباء: الامتناع عن الشيء لكراهته، ويستعمل فيما إذا كان الامتناع والكراهة لترفع الأبي عن المأبى عنه، والاستكبار والتكبر بمعنى غير أن الاستكبار يُشعر لفظه بالمبالغة في طلب الكبر، وهو جبلة ذميمة تدع النفس تركن إلى اعتقادها أنها أرفع من المتكبر عليه، وهذا يعني أن الكبر لا يكون إلا مع وجود المتكبر والتكبر والمتكبر عليه مع داعية الكبر وإن كانت وهمية، ومن هنا يختلف عن العجب فإنه يتوقف على المعجب وداعية العجب فقط.
26. ذهب بعض المفسرين إلى أن المعطوفات هنا لم تأت على نسق ترتبها الواقعي، فإن الكفر سابق على الاستكبار.
27. اختلف في استثناء إبليس هل هو متصل أو منقطع:
أ. على الأول إبليس من جنس الملائكة غير أنه شذ عنهم بغروره وكفره لما سبق في علم الله من شقائه؛ وهو مروي عن ابن مسعود وابن عباس كما في تفسير ابن جرير وغيره ونسب إلى الجمهور
ب. على الثاني هو خارج من جنسهم وإنما شمله الأمر بالسجود معهم لدخوله ضمنهم بعبادته وطاعته من قبل، وروي عن ابن عباس أيضا ورواه ابن جرير بإسناد صحيح عن الحسن ونص ما رواه عنه (ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس)، ومثله روي عن عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم وشهر ابن حوشب وعليه أصحابنا(2). حتى بالغ بعضهم فقال بإشراك من زعم أنه من الملائكة لمنافاة ذلك قوله تعالى: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾، ورده القطب، لأن قائله تأوله من الاستثناء، والاتصال هو الأصل فيه، وحجة هؤلاء:
• هذا النص الصريح في سورة الكهف الدال على أنه من جنس الجن، وليس من جنس الملائكة.
• وما ثبت بالنصوص القرآنية من عصمة الملائكة المنافية لما صدر من إبليس.
• وقوله تعالى: أفتتخذونه وذريته أولياء)، حيث أثبت له ذرية والملائكة لا يتوالدون إذ لا يتصفون بذكورية ولا بأنوثية وبأنه مخلوق من نار كما خُلقت الجن منها حسب ما صرحت نصوص الكتاب العزيز، والملائكة خُلقوا من نور كما يدل عليه حديث عائشة عند مسلم.
28. تكلف أصحاب القول بأن إبليس من جنس الملائكة غير أنه شذ عنهم بغروره وكفره رد هذه الأدلة بضروب من التأويل:
أ. كقولهم إن الجن المعنيين هنا طائفة من الملائكة لأن لفظة مأخوذ من الاجتنان وهو الاستتار، واستأنسوا لذلك بقوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ مع أن العرب كانت تزعم أن الملائكة بنات الله فاستظهروا من ذلك أنهم المقصودون بالجنة.
ب. وجوز بعضهم أن تكون كان بمعنى صار، وهو يعني انتقاله بعد الطرد والمسخ من الصفات الملكية إلى صفات الجن الشيطانية، فلذلك جاز عليه ما لم يجز على الملائكة.
ج. أما خلقته من نار فلا تنافي ـ عندهم ـ أن يكون كالملائكة مخلوقا من النور لأن النار من طبيعتها الإنارة.
29. ما أوهى هذه الردود وأخفى حجتها، فإن الأدلة ظاهرة في كون الجن جنسا موازيا للإنس، وليس من الملائكة، ولا يبعد أن يكون مشركو العرب قالوا فيهم ما قالوه في الملائكة من وجود النسب بينهم وبين الله تعالى عما يقولون، فلا يدل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ على قصد الملائكة بذلك:
أ. وقد قال غير واحد من المفسرين: إن المراد بالجنة هنا الجان لا الملائكة.
ب. والنار وإن كان من شأنها الإنارة فإن خاصيتها المعروفة هي الإحراق، فالجن خلقوا منها متلبسين بهذه الخاصية المزعجة، أما الملائكة فهم مخلوقون من النور والنور لا يلزم تلبسه بالإحراق كما هو معروف.
ج. على أن قوله تعالى في سورة الكهف: كان من الجن ففسق عن أمر ربه) واضح في أن فسقه ناشئ عن كونه من الجن.
30. القول الفصل في هذه المسألة هو ما قاله ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهو أن إبليس كان مع الملائكة بصورته مع اختلاف عنصره عنهم، فهو من نار وهم من نور، وأن النافي لكونه من الملائكة، والمثبت لم يتواردا على محل واحد، وبهذا يرجع القولان إلى قول واحد.
__________
(1) تفسير الخليلي: 3/55.
(2) يقصد الإباضية.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ينتقل القرآن إلى فصل آخر من موضوع عظمة الإنسان، ويقول: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾، ويبدو للوهلة الأولى أن مسألة السجود لآدم جاءت بعد تجربة الملائكة المذكورة في الآيات السابقة وبعد تعليم الأسماء، ولكن لو أمعنّا النظر في آيات القرآن الكريم لألفينا أن موضوع السجود جاء بعد اكتمال خلقة الإنسان مباشرة، وقبل امتحان الملائكة، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾، السجود إذن جاء مباشرة بعد نفخ الروح في الإنسان، وهذا المعنى جاء في الآية 72 من سورة ص.
2. ثمة دليل آخر على هذه المسألة هو أن استجابة الملائكة لأمر الله بالسجود، لو كانت بعد اتضاح مكانة آدم، لما اعتبرت مفخرة للملائكة.
3. على أي حال، الآية المذكورة تقرير قرآني واضح صريح لشرف الإنسان وعظمة مكانته، فكل الملائكة يؤمرون بالسجود له بعد اكتمال خلقته.
4. حقا، إن هذا الموجود، اللائق لخلافة الله على الأرض، والمؤهل لهذا الشوط الكبير من التكامل وتربية أبناء عظام كالأنبياء وخاصة النّبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم، يستحق كل احترام.
5. نحن نشعر بالتعظيم والتكريم لمن حوى بعض العلوم وعلم شيئا من القوانين والمعادلات العلمية، فكيف حال الإنسان الأول مع كل تلك العلوم والمعارف الزاخرة عن عالم الوجود!؟
6. لا شك أن السجود يعني (العبادة) لله، إذ لا معبود غير الله، وتوحيد العبادة يعني أن لا نعبد إلّا الله.. ومن هنا فإن الملائكة لم يؤدوا لآدم يعني (سجدة عبادة) قطعا، بل كان السجود لله من أجل خلق هذا الموجود العجيب، أو كان سجود الملائكة لآدم سجود (خضوع) لا عبادة.
7. جاء في (عيون الأخبار) عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام: كان سجودهم لله تعالى عبوديّة، ولآدم إكراما وطاعة، لكوننا في صلبه)
8. باعث الشيطان على الامتناع عن السجود كبر وغرور وتعصب خاص استولى عليه حيث اعتقد أنه أفضل من آدم، ولا ينبغي أن يصدر له أمر بالسجود لآدم، بل ينبغي أن يؤمر آدم بالسجود له، وسيأتي شرح ذلك في تفسير الآية 12 من سورة الأعراف.
9. كفر إبليس كان يعود إلى أنه اعتقد بعدم صواب الأمر الإلهي، وبذلك لم يعص فحسب، بل انحرف عقائديا، وهكذا ذهبت أدراج الرياح كل عباداته وطاعاته نتيجة كبره وغروره، وهكذا تكون دوما نتيجة الكبر والغرور.
10. عبارة ﴿ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ ﴾ تشير إلى أن إبليس كان قبل صدور الأمر الإلهي إليه بالسجود، قد انفصل عن مسير الملائكة وطاعة الله، وأسرّ في نفسه الاستكبار والجحود، لعله عزم في قرارة نفسه أن لا يخضع لو صدرت إليه أوامر بالخضوع والسجود، ومن المحتمل أن تكون عبارة ﴿مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ إشارة إلى ذلك.
11. ورد هذا المعنى في حديث عن الإمام الحسن العسكري عليه السّلام، قال إبليس (لئن أمرني الله بالسّجود لهذا لعصيته إلى أن قال ثمّ قال الله تعالى للملائكة: اسجدوا لآدم فسجدوا فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد)
12. (الشّيطان) اسم جنس شامل للشيطان الأول ولجميع الشّياطين، أمّا (إبليس) فاسم علم للشيطان الذي وسوس لآدم، وإبليس ـ كما صرح القرآن ـ ما كان من جنس الملائكة وإن كان في صفوفهم، بل كان من طائفة الجن، وهي مخلوقات مادية، قال تعالى: ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ .
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/163.
14. آدم والجنة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈14⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 35]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا﴾ قال الرغد: الهنيء(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٥٠.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الرغد: سعة العيشة(1).
2. روي أنّه قال قالوا: لما قال الله لآدم: ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة، فمنعه الخزنة، فأتى الحية ـ وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البعير، وهي كأحسن الدوابـ فكلمها أن تدخله في فقمها ـ قال أبو جعفر: والفقم: جانب الشدق ـ حتى تدخل به إلى آدم، فأدخلته في فقمها، فمرت الحية على الخزنة، فدخلت ولا يعلمون؛ لما أراد الله من الأمر، فكلمه من فقمها، فلم يبال بكلامه، فخرج إليه، فقال: ﴿يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ [طه: ١٢٠]، يقول: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت ملكا مثل الله تعالى، أو تكونا من الخالدين فلا تموتان أبدا، وحلف لهما بالله: ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: ٢١]، وإنما أراد بذلك ليبدي لهما ما توارى عنهما من سوآتهما؛ بهتك لباسهما، وكان قد علم أن لهما سوءة لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يكن آدم يعلم ذلك، وكان لباسهما الظفر، فأبى آدم أن يأكل منها، فقعدت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم، كل، فإني قد أكلت فلم يضر بي، فلما أكل ﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾(2).
3. روي أنه قال ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ هي الكرمة، وتزعم اليهود أنها الحنطة(3).
4. روي أنه قال الشجرة التي نهى الله عنها آدم: السنبلة، وفي لفظ: البر(4).
5. روي أنه قال الشجرة التي نهي عنها آدم الكرم(3).
6. روي أنه قال هي اللوز(5).
7. روي أنه كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم، والشجرة التي تاب عندها، فكتب إليه أبو الجلد جيلان بن فروة: سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم، وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم، وهي الزيتونة(6).
8. روي أنه قال لقد أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يدخلها؛ قال الله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن؛ بنو الجان، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فلما أفسدوا في الأرض بعث عليهم جنودا من الملائكة، فضربوهم، حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال الله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، كما فعل أولئك الجان، فقال الله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(7).
9. روي أنه قال ما سكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس(8).
10. روي أنه قال خلق الله آدم من أديم الأرض، يوم الجمعة، بعد العصر؛ فسماه: آدم، ثم عهد إليه فنسي؛ فسماه: الإنسان، قال ابن عباس أنّه قال فتالله، ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى أهبط من الجنة(9).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٥١.
(2) ابن جرير: ١/٥٦٣.
(3) ابن جرير: ١/٥٥٤.
(4) ابن جرير: ١/٥٥٢ ـ: ٥٥٣.
(5) الدرّ المنثور: أبي الشيخ.
(6) ابن جرير: ١/٥٥٣.
(7) الحاكم: ٢/٢٦١.
(8) الحاكم: ٢/٥٤٢.
(9) عبد الرزاق: ١/٤٣.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال هي السنبلة التي جعل الله رزقا لولده في الدنيا(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٥٤.
منبه:
روي عن وهب بن منبه (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال الشجرة التي نهى الله عنها آدم البر، ولكن الحبة منها في الجنة ككلى البقر، ألين من الزبد، وأحلى من العسل، وأهل التوراة يقولون: هي البر(1).
2. روي أنه قال لما أسكن الله آدم وزوجه الجنة نهاه عن الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها في بعض، وكان لها ثمر يأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٥٣.
(2) عبد الرزاق: ٢/٢٢٦.
قتادة:
روي عن قتادة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ ابتلى الله آدم كما ابتلى الملائكة قبله، وكل شيء خلق مبتلى، ولم يدع الله شيئا من خلقه إلا ابتلاه بالطاعة، فما زال البلاء بآدم حتى وقع فيما نهي عنه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ ثم أتى البلاء الذي كتب على الخلق على آدم، كما ابتلي الخلق قبله، إن الله تعالى أحل له ما في الجنة أن يأكل منها رغدا حيث شاء، غير شجرة واحدة نهي عنها، وقدم إليه فيها، فما زال به البلاء حتى وقع بالذي نهي عنه(2).
3. روي أنه قال شجرة العلم، وفيها من كل شيء(3).
__________
(1) الدرّ المنثور: ابن أبي حاتم.
(2) ابن جرير: ١/٥٥١.
(3) تفسير الثعلبي: ١/١٨٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا﴾ فالرّغد: الكثير الواسع.. ويقال: الرّغد: الذي لا حساب عليهم فيه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ : هي شجرة الكرم.. وقال: في موضع آخر هي السّنبل(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 81.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال جنة آدم من جنان الدنيا، تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الخلد ما خرج منها أبدا(1).
2. روي أنه سئل عن جنة آدم، أمن جنان الدنيا كانت، أم من جنان الآخرة؟ فقال: كانت من جنان الدنيا، تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما أخرج منها أبدا، فلما أسكنه الله الجنة وأتى جهالة إلى الشجرة أخرجه، لأن الله خلق خلقة لا تبقى إلا بالأمر والنهي والغذاء واللبس والإسكان والنكاح، ولا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا بالتوقيف، فجاءه إبليس، فقال له: إنكما إذا أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها، صرتما ملكين، وبقيتما في الجنة أبدا، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة، وحلف لهما أنه لهما ناصح، كما قال الله عز وجل حكاية عنه: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾، فقبل آدم قوله، فأكلا من الشجرة فكان كما حكى الله: ﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾ وسقط عنهما ما ألبسهما الله من لباس الجنة، وأقبلا يستتران بورق الجنة ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، فقالا كما حكى الله عنهما: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، فقال الله لهما: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ إلى يوم القيامة، فهبط آدم على الصفا، وإنما سميت الصفا لأن صفوة الله نزل عليها، ونزلت حواء على المروة، وإنما سميت المروة لأن المرأة نزلت عليها، فبقي آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة، فنزل عليه جبرئيل، فقال: يا آدم، ألم يخلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته؟ قال بلى، قال وأمرك الله أن لا تأكل من الشجرة، فلم عصيته!؟ قال يا جبرئيل، إن إبليس حلف لي بالله أنه لي ناصح، وما ظننت أن خلقا يخلقه الله، يحلف به كاذبا!(2).
__________
(1) الكافي: 3/247/2.
(2) تفسير القمّي: 1/43.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ﴾ يعني: ما ﴿شِئْتُمَا﴾، وإذا شئتما من حيث شئتما(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٩٩.
العسكري:
روي عن الإمام العسكري (ت 260 هـ) أنه قال إن الله عز وجل لما لعن إبليس بإبائه، وأكرم الملائكة بسجودها لآدم، وطاعتهم لله عز وجل، أمر بآدم وحواء إلى الجنة، وقال: ﴿ ويا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وكُلا مِنْها ﴾ من الجنة ﴿رَغَدًا﴾ واسعا ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ بلا تعب ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ شجرة العلم، شجرة علم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وآل محمد الذين آثرهم الله عز وجل بها دون خلقه، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ شجرة العلم، فإنها لمحمد وآله خاصة دون غيرهم، ولا يتناول منها بأمر الله إلا هم، ومنها ما كان يتناوله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلي وفاطمة والحسن والحسين بعد إطعامهم اليتيم والمسكين والأسير، حتى لم يحسوا بعد بجوع ولا عطش ولا تعب ولا نصب، وهي شجرة تميزت بين أشجار الجنة إن سائر أشجار الجنة كان كل نوع منها يحمل نوعا من الثمار والمأكول، وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البر والعنب والتين والعناب وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة، فلذلك اختلف الحاكون لذكر الشجرة، فقال بعضهم: هي برة، وقال آخرون: هي عنبة، وقال آخرون: هي تينة، وقال آخرون: هي عنابة، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ تلتمسان بذلك درجة محمد وآل محمد وفضلهم، فإن الله تعالى خصهم بهذه الدرجة دون غيرهم، وهي الشجرة التي من تناول منها بإذن الله ألهم علم الأولين والآخرين من غير تعلم، ومن تناول منها بغير إذن خاب من مراده وعصى ربه، ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ بمعصيتكما والتماسكما درجة قد أوثر بها غيركما ـ كما أردتما ـ بغير حكم الله تعالى(1).
__________
(1) التفسير المنسوب للإمام العسكري: ص 243.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الجنة التي كانا فيها هي جنة من جنان الدنيا، والعرب تسمي ما كان ذا ثمار وأنهار: جنة كقوله تعالى ﴿وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ﴾ [الأنعام: 99 الرعد: 4] وقوله ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ [الكهف: 35].
2. قوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ [البقرة: 38] جائز في لغة العرب، ألا ترى أنك تقول هبطنا نجران، وهبطنا من اليمن، ونريد أن نهبط إلى الحجاز، فلما إن كان ذلك معروفا في اللغة، جاز أن يقال: ﴿اهْبِطُوا مِنْهَا﴾
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/140.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. أن الجنة هي اسم البقعة التي حفت بالأشجار والغروس وأنواع النبات، دليله: قوله: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ .. وذلك أيضا ظاهر معروف عند الناس؛ ألا تسمى كل بقعة من الأرض بستانا، ولا جنة حتى يجتمع فيها ما ذكرنا.
2. لا يدرى ما تلك الجنة التي أمر آدم وحوّاء بالكون، والمقام فيها: أهى التي وعد المتقون، أو جنة من جنات الدنيا؟ إذ ليس في الآية بيان ذلك.
3. قوله: ﴿رَغَدًا﴾ أي سعة؛ يقال: أرغد فلان إذا وسّع عليه، وكثر ماله.
4. مضى الأمر من الله تعالى لآدم وزوجته بالسّكنى في الجنة، والمقام فيها، وأمرهما بالتناول من جميع ما فيها إلا شجرة نهيا عن التناول منها، وأمرا بالاجتناب عنها بقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ وذي صورة الممتحن أن يؤمر بشيء وينهى عن شيء.
5. قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ أي لا تأكلا، دليله قوله: ﴿وَكُلَا مِنْهَا﴾؛ ولأنه بالقربان ما يوصل إلى التناول، واللغة لا تأبى تسمية الشيء باسم سببه.
6. اختلف في تلك الشجرة:
أ. قيل: هي شجرة العنب، ولذلك جعل للشيطان فيها حظا لما عصيا ربهما بها.
ب. وقيل: إنها كانت شجرة الحنطة؛ ولذلك جعل غذاء آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ وغذاء أولادهما منها إلى يوم القيامة ليقاسوا جزاء العصيان والخلاف له.
ج. وقيل: إنها شجرة العلم؛ لما علما من ظهور عورتهما، ولم يكونا يعلمان قبل ذلك، وهو قوله: ﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾ [الأعراف: 22] والله أعلم.
7. القول في ماهيتها لا يجوز إلا من طريق الوحى، ولا وحى في تلاوتها، ولا يجوز القطع على شيء من ذلك.
8. احتمل معنى النهى عن التناول منها وجوها:
أ. أحدها: إيثار الآخر عليه.. وقد يكون هذا أن ينهى الرجل عن التناول من شيء إيثارا لآخر عليه.
ب. ويحتمل: النهى عن التناول من الشيء لداء يكون فيه لما يخاف الضرر به، لا على جهة الإيثار، ولكن إشفاقا عليه ورحمة.
ج. ويحتمل أيضا النهى عن التناول من الشيء على جهة الحرمة، فإذا كان ممكنا هذا محتملا حمل آدم وحواء على التناول منها لما اشتبه عليهما، ولم يعرفا معنى النهى بأنه نهى حرمة، أو نهى إيثار غيره عليهما، أو نهى داء؛ لأنهما لو كانا يعلمان أن ذلك النهى نهى حرمة لكانا لا يأتيان ولا يتناولان.
9. اختلف في ماهية الشجرة، قيل: الأصل أن هذا نوع ما يعلم بالخبر من عند عالم الغيب، وليس بنا إلى تعرف حقيقته حاجة، وإنما علينا معرفة قدر المعصية؛ فنعتصم بالله عنها، والطاعة؛ فنرغب فيها، وبالله العصمة.. والأصل فيه أن الله تعالى فرق بين دار المحنة ودار الجزاء؛ إذ الجمع بينهما يزيل البلوى، ويكشف الغطاء؛ فجعل اللذيذ الذي لا راحة فيه، والمؤلم الذي لا تنغيص فيه ـ جزاء، والتردد بينهما محنة، ولا قوة إلا بالله.
10. قوله: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، أي الضّارّين؛ لأن كل ظالم ضارّ نفسه في الدارين جميعا.
11. قوله تعالى: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، أي تصيران منهم، وكذلك القول في إبليس: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ أي صار منهم.
12. يحتمل: ممن يكونون كذلك؛ إذ في علم الله أنهم يصيرون ممن في علم الله كذلك، مع جواز القول بلا تحقيق آخر؛ كقوله: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14]، لا أنّ ثمّ خالقا غيره.
13. اختلف في الوجه الذي بلي به آدم عليه السلام:
أ. منهم من يقول: لما كان من صلبه من الكفرة وهم ليسوا بأهل الجنة.
ب. وقيل: رحمة للخلق لئلا ييأسوا، ولا يزيل الولاية بكل ذنب.
ج. وقيل: بليا لتنبئة الخلق ـ بهما ـ ألا يقوم أحد بتعاهد نفسه عما يذم إليه إذا وكل نفسه إليه، فيكون ذلك سببا لزجر الخلق عن النظر إلى أنفسهم في شيء من الخير، والفزع إليه، بالعصمة عن كل شيء.
د. وقيل: بلى بحق المحنة؛ إذ هي ترد صاحبها بين اللذات والآلام، وبين أحوال مختلفة لا يحتمل أن يصير بحيث يأمن الزلل، وإنما ذلك بحفظ الله ومنّه، لا بتدبير أحد وجهده، وإن كان الله تعالى يوفق على قدر الجهد، ويعصم على قدر الرغبة إليه والاعتصام به، ولا قوة إلا بالله.
14. ليس بنا حاجة إلى ذكر حكمة الزّلة، إذا كانت نفسه مجبولة على حبه، باعثة إلى مثله لولا نعمة الرب، كما قال يوسف عليه السلام: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ الآية [يوسف: 53]، وقال: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا﴾ [الأنعام: 164]
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/426.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الرغد العيش الهنيء ومنه قول امرئ القيس:
بينما المرء تراه ناعماً... ومن الأحداث في عيش رغد
وقيل إنه الواسع، وقيل إنه الحلال.
2. خلق الله تعالى حواء من بقية طينة آدم.
3. في تسميتها حواء قولان:
أ. أحدهما: سميت بذلك لأنها خلقت من حي.
ب. الثاني: أنها إنما سميت لأنها أم كل حي.
4. قيل: إن آدم لما دخل الجنة استوحش فخلق الله حواء ليسكن إليها.
5. الجنة كانت في الأرض أعدها الله سبحانه لهما.
6. قيل إن الشجرة التي نهيا عنها كانت البر، وقد ورد في الخبر أنها كانت التين، وقيل إنها كانت الكرم.
7. ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي من المعتدين في أكل ما لم يبح لكما، ويحتمل أن يكون قوله من الظالمين لأنفسكما في أكل المحظور.
8. لم يخرج الله آدم من الجنة وأهبط إلى الأرض عقوبة؛ لأمرين:
أ. أحدهما: أن ذنبه كان صغيراً.
ب. وإنما أهبطه تأديباً وتعظيماً للمحنة.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/43.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم الأيسر بعد أن ألقى عليه النوم، ولذلك قيل للمرأة: ضلع أعوج.
2. سمّيت امرأة لأنها خلقت من المرء، فأما تسميتها حواء، ففيه قولان:
أ. أحدهما: أنها سميت بذلك لأنها خلقت من حيّ، وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود.
ب. الثاني: أنها سميت بذلك، لأنها أم كل حيّ.
3. اختلف في الوقت الذي خلقت فيه حواء على قولين:
أ. أحدهما: أن آدم أدخل الجنّة وحده، فلمّا استوحش خلقت حواء من ضلعه بعد دخوله في الجنة، وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود.
ب. الثاني: أنها خلقت من ضلعه قبل دخوله الجنة، ثم أدخلا معا إلى الجنة، لقوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾، وهذا قول أبي إسحاق.
4. اختلف في الجنّة التي أسكناها على قولين:
أ. أحدهما: أنها جنة الخلد.
ب. الثاني: أنها جنة أعدها الله لهما .
5. في الرغد ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أنه العيش الهني، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود، ومنه قول امرئ القيس:
بينما المرء تراه ناعما... يأمن الأحداث في عيش رغد
ب. الثاني: أنه العيش الواسع، وهذا قول أبي عبيدة.
ج. الثالث: أنه أراد الحلال الذي لا حساب فيه، وهو قول مجاهد.
6. اختلف أهل التفسير في الشجرة التي نهيا عنها، على أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنها البرّ، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنها الكرم، وهذا قول السّدّيّ، وجعدة بن هبيرة.
ج. الثالث: أنها التّين، وهذا قول ابن جريج، ويحكيه عن بعض الصحابة.
د. الرابع: أنها شجرة الخلد التي تأكل منها الملائكة.
7. في قوله تعالى: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ قولان:
8. أحدهما: من المعتدين في أكل ما لم يبح لكما.
9. الثاني: من الظالمين لأنفسكما في أكلكما.
10. قال الحسن: لم يخلق الله تعالى آدم إلا للأرض، فلو لم يعص لخرج على غير تلك الحال، وقال غيره: يجوز أن يكون خلقه للأرض إن عصى، ولغيرها إن لم يعص.. ولم يخرج الله تعالى آدم من الجنة ويهبطه إلى الأرض عقوبة، لأمرين:
أ. أحدهما: أن ذنبه كان صغيرا.
ب. الثاني: أنه أهبط بعد قبول توبته.
11. إنما أهبط لأحد أمرين: إمّا تأديبا، وإمّا تغليظا للمحنة.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/104.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. السكون والثبوت والهدوء نظائر، ومثله الاستقرار والاطمئنان والثبات.. والمسكن والمأوى والمثوى بمعنى واحد، تقول: سكن يسكن سكونا إذ لبث في المكان وسكن إذا سكت، سكن الريح، وسكن المطر، وسكن الغضب، والسكن هم العيال وهم أهل البيت، قال سلامة بن جندل:
ليس بأسفى ولا أفنى ولا سغل... يسقي دواء قفي السكن مربوب
والمسكن المنزل، والسكن السكان، والسكن ان يسكن إنسان منزلا بلا كراء والسكينة: الموادعة والوقار، والسكن: الرحمة والبركة، كقوله: ﴿إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ والمسكين: الذي لا شيء لهـ عند أبي عبيدة ـ، والفقير: الذي له شيء وان كان قليلا قال الشاعر:
أما الفقير الذي كانت حلوبته... وفق العيال فلم يترك له سيد
وقوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ﴾ قال ابو حاتم: أحسنه أنهم كانوا شركاء في سفينة لا يملكون سواها، فهذا يخالف أبا عبيدة وسكان السفينة معروف عربي اشتقاقه من انها تسكن به عن الحركة والاضطراب.
2. معنى ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ : اجعله مأوى تأوي فيه وتسكن اليه، وقد أعظم الله النعمة على آدم بما اختصه من علمه، وأسجد له ملائكته، واسكنه جنته، وتلك نعمة على ولده، فألزمهم الشكر عليها، والقيام بحقها.
3. الزوج: بطرح الهاء قال الأصمعي: هو أكثر كلام العرب، وقال الكسائي: اكثر كلام العرب بالهاء، وطرح الهاء لغة لأزد شنوءة، ولفظ القرآن لم يجئ إلا بطرح الهاء، وقال المبرد: الوجه طرح الهاء من الزوجة وأنشد:
وأراكم لدى المحاماة عندي... مثل صوت الرجال للأزواج
جمع زوج، ولا يجوز ان يكون جمع زوجة، وقال الرماني: قول الاصمعي أجود، لأن لفظ القرآن عليه، والعلة في ذلك انه لما كانت الاضافة تلزم الاسم في اكثر الكلام كانت مشبهة له، وكانت بطرح الهاء افصح وأخف مع الاستغناء بدلالة الاضافة عن دلالة هاء التأنيث.
4. روي ان الله تعالى ألقى على آدم النوم، وأخذ منه ضلعاً فخلق منه حواء، وليس يمتنع أن يخلق الله حواء من جملة جسد آدم بعد أن لا يكون جزء، أو مما لا يتم كون الحي حياً إلا معه، لأن ما هذه صفته لا يجوز أن ينقل الى غيره، أو يخلق منه حي آخر من حيث يؤدي الى أن لا يصل الثواب الى مستحقه، لأن المستحق لتلك الجملة بأجمعها وهذا قول الرماني وغيره من المفسرين، ولذلك قيل للمرأة: ضلع اعوج.
5. وقيل: سميت امرأة لأنها خلقت من المرء فأما تسميتها حواء: لما أدخل آدم الجنة واخرج منها إبليس ولعن وطرد فاستوحش، فخلقت ليسكن اليها، فقالت له الملائكة تجربة لعلمه: ما اسمها؟ قال: حواء، قالوا: لم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي.
6. قال ابن إسحاق: خلقت من ضلعه قبل دخوله الجنة، ثم دخلا جميعاً الجنة لقوله تعالى: ﴿يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ التي كان فيها آدم في السماء، لأنه أهبطهما منها، وقال ابو مسلم محمد بن يحيى: هي في الأرض، لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهاهما عنها دون غيرها من الثمار.
7. اختلف في الجنة التي اسكن فيها آدم عليه السلام:
أ. قال قوم: هي بستان من بساتين الدنيا:
• لأن جنة الخلد لا يصل اليها إبليس ووسوسته.
• واستدل البلخي على انها لم تكن جنة الخلد بقوله تعالى حكاية عن إبليس لما اغوى آدم، قال له: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾، فلو كانت جنة الخلد لكان عالماً بها، فلم يحتج الى دلالة.
ب. وقال الحسن البصري وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء واكثر المعتزلة كأبي علي والرماني وأبي بكر بن الإخشيد وعليه اكثر المفسرين: انها كانت جنة الخلد، لأن الألف واللام للتعريف، وصار كالعلم عليها قالوا:
• يجوز ان يكون وسوسة إبليس من خارج الجنة، فيسمعان خطابه ويفهمان كلامه.
• وقول من يقول: ان جنة الخلد من يدخلها لا يخرج منها لا يصح، لأن معنى ذلك إذا استقر اهل الجنة في الجنة للثواب، وأهل النار فيها للعقاب لا يخرجون منها، واما قبل ذلك فإنها تغنى لقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ .
8. الأكل والمضغ واللقم متقاربة، وضد الأكل الازم، وسأل عمر بن الخطاب الحارث بن كلدة طبيب العرب، فقال له: يا حار ما الدواء؟ فقال: الازم، أي ترك الأكل، والأكلة مرة، والأكلة اسم كاللقمة والاكولة الشاة، والغنم التي ترعى للأكل لا للنسل، والأكال: أن يتأكل عود أو شيء وأكيل الرجل: مآكله وأكيل الذئب: الشاة وغيرها إذا أردت المأكولة وإذا أردت به اسماً قلت: اكيلة ذئب، والمأكلة: ما جعل للإنسان لا يحاسب عليه، ورجل وامرأة أكول: كثير الاكل، والمأكل كالمطعم والمشرب، والمأكل: المطعم، وأصل الباب الأكل وهو المضغ لذي الطعم، ويقال الذي يشترك فيه الحيوان كله فيه سوى الملائكة، المأكل والمنكح والمشرب.
9. (الرغد) النفع الواسع الكثير الذي ليس فيه عناء، وقال صاحب العين: عيش رغد ورغيد: رفيه وقوم رغد ونساء رغد قال امرؤ القيس بن حجر:
بينما المرء تراه ناعماً... يأمن الأحداث في عيش رغد
والرغيدة: الزبدة في بعض اللغات، وأرغد الرجل ماشيته: إذا تركها وسومها.
10. ﴿وَلَا تَقْرَبَا﴾ القرب والدنو والمجاورة متقاربة المعنى وضد البعد يقال: قرب يقرب قرباً واقترب اقتراباً، قال صاحب العين: القرب طلب الماء يقال: قرب الماء يقرب وقد قربة قرباً إذا طلبه ليلا ولا يقال لطالب الماء نهاراً قارب والقراب للسيف والسكين والفعل منه: قربت قراباً وقيل قربت اقرابا، والقربان: ما تقربت به الى الله تعالى وقربان الملك وقرابينه: وزراؤه، والقربى: حق ذي القرابة، وقرب فلان اهله: إذا غشيها قربانا، وما قربت هذا الأمر ولا فلانا قربانا وقربى.
11. الشجرة: كل ما قام على ساق من النبات، وهو اسم يعم النخلة والكرمة وغيرهما، وما لم يقم على ساق لا يسمى شجراً كالبقل والحشيش، واما اليقطين كالقرع والبطيخ فقد سميّ شجراً، قال الله تعالى: ﴿وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ قال صاحب العين: الشجرة واحدة تجمع على الشجر والشجرات والأشجار.
12. اختلفوا في الشجرة التي نهى الله آدم عنها:
أ. قال ابن عباس: هي السنبلة.
ب. وقال ابن مسعود والسدي وجعفر بن زهير: هي الكرمة.
ج. وقال ابن جريج: هي التينة
د. وروي عن علي عليه السلام انه قال شجرة الكافور.
هـ. وقال الكلبي: شجرة العلم على الخير والشر.
و. وقال ابن جذعان: هي شجرة الخلد التي كان يأكل منها الملائكة.
والأقاويل الثلاثة الأولى اقرب.
13. ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الظلم والجور والعدوان متقاربة، وضد الظلم الانصاف وضد الجور العدل، واصل الظلم:
أ. قيل: انتقاص الحق لقوله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ أي لم تنقص.
ب. وقيل: أصله وضع الشيء في غير موضعه من قولهم: من يشبه أباه فما ظلم أي فما وضع الشبه في غير موضعه.
كلاهما مطرد وعلى الوجهين فالظلم اسم ذم، ولا يجوز أن يطلق إلا على مستحق اللعن لقوله: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ ولا يجوز إطلاقه على أنبياء الله تعالى ولا الائمة المعصومين.
14. ظالم ومسيء وجائر: اسماء ذم وهو فاعل لما يستحق به الذم من الضرر وضدها عادل ومنصف ومحسن وهي من صفات المدح، ويقول المعتزلة لصاحب الصغيرة: ظالم لنفسه، ومن نفى الصغيرة عن الأنبياء من الامامية قال: يجوز أن يقال: ظالم لنفسه إذا بخسها الثواب، كقوله ﴿ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ وقوله: ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ حكاية عن يونس من حيث بخس نفسه الثواب بترك المندوب اليه.
15. الظلم هو الضرر المحض الذي لا نفع فيه أو عليه آجلا، ولا فيه دفع ضرر أعظم منه ولا هو واقع على وجه المدافعة، ولا هو مستحق، فما هذه صفته يستحق به الذم إذا وقع من مختار عالم أو متمكن من العلم به.
16. أجاز البصريون من اهل العدل أن يبتدئ الله الخلق في الجنة فينعمهم فيها تفضلا منه لا على وجه الثواب، لأن ذلك نعمة منه تعالى كما أن خلقهم وتكليفهم وتعريضهم للثواب نعمة منه، وله أن يفعل ما يشاء من ذلك.
17. قال ابو القاسم البلخي: لا يجوز خلقهم في الجنة ابتداء، لأنه لو جاز ذلك، لما خلقهم في دار المحنة، ولما ابتلى من يعلم أنه يكفر ويصير الى عذابه وإنما لم يجز أن يخلقهم ابتداء في الجنة، لأنه لو خلقهم فيها، لم يخل: إما أن يكونوا متعبدين بالمعرفة لله والشكر، أو لا يكونوا كذلك فلو كانوا غير متعبدين، كانوا مهملين ولذلك لا يجوز ولو كانوا متعبدين لم يكن بد من ترغيب وترهيب ووعد، ووعيد ولو كانوا كذلك كانوا على ما هم عليه في دار الدنيا وكان لا بد من دار أخرى يجازون فيها ويخلدون.
18. أجاب عن ذلك الأولون بان قالوا: لو ابتدأ خلقهم في الجنة لاضطرهم الى معرفته، والجأهم الى فعل الحسن وترك القبيح ومتى راموا القبيح، منعوا منه فلا يؤدي ذلك الى ما قاله: كالحور العين والأطفال والبهائم إذا حشرهم يوم القيامة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/156.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. السكون ضد الحركة، ونظيره الاطمئنان والثبات، والسكن بسكون الكاف المنزل، وهو أيضًا العيال وأهل البيت، والسَّكَن بفتح الكاف الرحمة، ومنه: ﴿إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ وأسكن: استقر، وأصل الباب السكون سمي الأهل سكنًا لأنه يسكن إليهم، والسكون والحركة من جنس الأكوان عند مشايخنا، وقيل: إنه غيرها، وليس بصحيح.
ب. الرغد أصله لين العيش، يقال: عيش رغد، قال ابن دريد: الرغد السعة في العيش.
ج. المشيئة: الإرادة، شاء مشيئة.
د. القرب: الدنو، ونقيضه البعد، ومنه القربان؛ لأنه يتقرب به إلى اللَّه تعالى، وأصل القرب والبعد في الأجسام، ثم يستعمل في غيرها مجازًا، يقال: هذا المعنى يقرب من ذلك، وهما من جنس الأكوان أيضًا، وكل قرب كون، وليس كل كون قربًا.
هـ. الشجرة: كل ما قام على ساق من النبات، وجمعها أشجار وشجر وشجرات، وهو اسم يعم النخل والتين والكرم وغير ذلك، والمشجر أرض تنبت الشجر، وتشاجر القوم اختلفوا، أُخِذَ من الشجر لاختلاف أعضائه.
و. الظلم والجور من النظائر، ونقيضه العدل، وأصله:
• قيل: انتقاص الحق.
• وقيل: أصله وضع الشيء في غير موضعه، وقد صار في الشرع اسم ذم، يقال: فلان ظالم، قال اللَّه تعالى: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ وسبيله سبيل فاسق وكافر أنه منقول من اللغة إلى الشرع.
2. اختلف في حد الظلم:
أ. قيل: إيصال الضرر إلى الغير من غير استحقاق أو نفع أو دفع ضرر أعظم منه، وفاعل الظلم ظالم، كما أن فاعل العدل عادل.
ب. وقيل: الظلم ضرب يستحق به الذم، ولا يطلق اسم ظالم على صاحب الصغيرة، ولكن يقال: ظالم لنفسه، واختلفوا، والأوجه الأول:
• قال أبو هاشم: لأنه فوت نفسه من الثواب بعدد ما قابل عقاب الصغيرة.
• وقال أبو بكر الإخشيد: لأنه أضر بنفسه بما فعل من القبيح من غير استحقاق ولا عوض.
• قال أبو على: لأنه يجب عليه أن يتوب كلما تذكره.
3. ذكر تعالى ما أمر به آدم بعد سجود الملائكة، وإباء إبليس، فقال عز وجل: ﴿وَقُلْنَا﴾ هذا نون الكبرياء والعظمة لا نون الجمع، ﴿يَا آدَمُ اسْكُنْ﴾ قيل: استقر واجعلها مأوى لك، واختلفوا في هذا الأمر:
أ. فقيل: إنه أمر تعبد.
ب. وقيل: هو إباحة لأنه ليس فيه مشقة، ولا يتعلق به التكليف.
4. اختلف في وقت خلق حواء:
أ. قيل: لما أخرج إبليس من الجنة ولُعِنَ بقي آدم في الجنة وحشًا ليس معه من يسكن إليه، فنام واستيقظ، فإذا عند رأسه امرأة خلقها الله من ضلعه، فسألها من أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليَّ، فقالت الملائكة: ما اسمها يا آدم؟ قال حواء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال لأنها خلقت من شيء حي، فعندها قال الله تعالى: ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾
ب. وقيل: إنها خلقت قبل أن يسكن آدم الجنة، عن ابن إسحاق.
5. اختلف في الجنة التي أدخل إليها آدم عليه السلام:
أ. قيل: كان في السماء الجنة:
• قيل: هي جنة الخلد، عن جماعة من المفسرين، وهو قول الحسن وواصل وعمرو وأبي علي.
• وقيل: جنة من جنان السماء غير جنة الخلد؛ لأن جنة الخلد أكلها دائم ولا تكليف فيها، عن أبي هاشم.
ب. وقيل: جنة من جنان الدنيا في الأرض، وقوله: ﴿اهْبِطُوا﴾ لا يقتضي أن يكون في السماء كقوله: ﴿ اهبطوا مصر ﴾ عن أبي مسلم.. وليس بالوجه لظهور الأمر أنه كان في السماء، ولقوله: ﴿اهْبِطُوا﴾، وما ذكر مجاز فلا يقاس عليه غيره.
6. اختلفوا: هل يجوز ابتداء الخلق في الجنة؟
أ. قيل: يجوز لأنه نعمة، والتكليف نعمة، فله أن يفعل أيهما شاء، عن أبي علي.
ب. وقيل: لا يجوز، عن أبي القاسم البلخي.
7. ﴿وَكُلا﴾ خطاب لآدم وحواء ﴿مِنْهَا﴾ من الجنة ﴿رَغَدًا﴾ ـ عيشًا واسعًا ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ يعني لا تقرباها بالأكل؛ لأن المخالفة حصلت بالأكل قال تعالى: ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾ هذه الشجرة قيل: السنبلة، عن ابن عباس، وقيل: الكرمة، عن ابن مسعود، ولعله أقرب لوقوع اسم الشجرة عليه عند الإطلاق، وقيل: التينة برواية ابن جريج عن بعض الصحابة.
8. ﴿فَتَكُونَا﴾ بأكلها ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسكما، وقد بينا معنى ظالم لنفسه، وقيل: بالخروج من الجنة، عن أبي مسلم.
9. سؤال وإشكال: هل كان إخراجهما عقوبة؟ والجواب: لا؛ لأن ذنبه وقع صغيرًا مكفرًا، ولأنه تعالى لا يعاقب أنبياءه كما لا يعاديهم ولا يلعنهم، ولأن الإخراج من الجنة والإهباط إلى الأرض كان بعد التوبة.
10. سؤال وإشكال: أليس خلق الأرض، ولو لم يعص كيف كان يكون؟ والجواب: كان ينزله على إكرام وتعظيم، وهذا الإهباط:
أ. كان امتحانًا وتكليفًا ولم يكن عقوبة.
ب. وقيل: كان لطفًا له كي يتحرز عن مخالفة أمر الله.
11. ما روي من بكائه وتوبته حالاً بعد حال مع أن ذنبه وقع مغفورا:
أ. إنما كان على وجه الانقطاع إلى الله تعالى.
ب. أو كان ذلك استدراكا لما فاته من الثواب.
12. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن آدم تعبد ونهي عن أكل ثمرة شجرة، والأولى أنه نهي تحريم لاقتران الوعيد به.
ب. استدلّ بعضهم بالآية على أن الجنة مخلوقة، ويمكن حمله على جنة غيرها، وقد بينا الخلاف فيها.
13. مسائل نحوية:
14. موضع ﴿فَتَكُونَا﴾ من الإعراب فيه قولان:
أ. أحدهما: أن تكون الفاء جواب النهي، فيكون موضعه نصبًا.
ب. الثاني: أنْ تكون الفاء عطفًا على النهي، فيكون موضعه جزمًا، وكلاهما محتمل، والأول أظهر.
15. انتصب الجواب بالفاء: بإضمار (أَنْ) كأنه قال: لا يكن منكما قرب بأن تكونا، وتقديره: لا يكن قرب فتكونَ من الظالمين.
16. قال: ﴿وَزَوْجُكَ﴾ على لفظ التذكير، والمعنى مؤنث، لأنه لما كانت الإضافة تلزم الاسم في أكثر الكلام كانت مبينة له، وكانت بطرح الهاء أفصح؛ إذ كانت أخف مع الاستغناء بدلالة الإضافة عن دلالة هاء التأنيث، وحكى الأصمعي أنه اختار ترك الهاء، وذكر أن أكثر كلام العرب عليه، وقال الكسائي: أكثر كلام العرب بالهاء، واختار المبرد قول الأصمعي، وهو الاختيار؛ لأن القرآن كله عليه.
17. بُنِيَ ﴿حَيْثُ﴾ على الضم، لأنه يشبه الغاية، فبني على الضم، نحو: مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/331.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. السكون والاطمئنان والهدوء نظائر.. والسكن بسكون الكاف: العيال وأهل البيت.. والسكن بالفتح: المنزل.. والسكن الرحمة والبركة في قوله ﴿إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾
ب. الزوج بطرح الهاء، قال الأصمعي: هو أكثر كلام العرب.
ج. الأكل والمضغ، واللقم، متقارب وضد الأكل الأزم، واسأل الحارث بن كلدة طبيب العرب، فقيل: يا حار! ما الدواء؟ فقال: الأزم أي: ترك الأكل.
د. الرغد: النفع الواسع الكثير، الذي ليس فيه عناء.. قال ابن دريد: الرغد السعة في العيش.
هـ. المشيئة: من قبيل الإرادة، وكذلك المحبة، والاختيار، والإيثار، وإن كان لها شروط، ذكرت في أصول الكلام.
و. القرب: الدنو، قرب الشيء يقرب قربا، وقرب فلان أهله يقرب قربانا: إذا غشيها، وما قربت هذا الأمر قربانا، وقربا.
ز. الشجرة: ما قام على ساق، وجمعها أشجار وشجرات وشجر، وتشاجر القوم: اختلفوا، أخذ من الشجر لاشتباك أغصانه.
ح. الظلم والجور والعدوان متقارب، وضد الظلم الانصاف، وضد الجور العدل، وأصل الظلم: انتقاص الحق، قال الله تعالى ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ أي: لم تنقص.. وقيل: أصله وضع الشيء في غير موضعه، من قولهم: من أشبه أباه فما ظلم أي: فما وضع الشبه في غير موضعه، وكلاهما مطرد.. وعلى الوجهين فالظلم: اسم ذم لا يجوز إطلاقه على الأنبياء والمعصومين.
2. ثم ذكر سبحانه ما أمر به آدم عليه السلام بعد أن أنعم عليه بما أختصه من العلوم لما أوجب له به من الإعظام، وأسجد له الملائكة الكرام، فقال عز اسمه: ﴿وَقُلْنَا﴾ وهذه نون الكبرياء والعظمة، لا نون الجمع ﴿يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ أي: اتخذ أنت وامرأتك الجنة مسكنا ومأوى لتأوي إليه، وتسكن فيه أنت وامرأتك.
3. اختلف في هذا الأمر:
أ. قيل: إنه أمر تعبد.
ب. وقيل: هو إباحة، لأنه ليس فيه مشقة، فلا يتعلق به تكليف.
4. قوله ﴿وَكُلًّا﴾ إباحة، وقوله ﴿وَلَا تَقْرَبَا﴾ تعبد بالاتفاق.
5. وروي عن ابن عباس، وابن مسعود: إنه لما أخرج إبليس من الجنة، ولعن، وبقي آدم وحده، استوحش، إذ ليس معه من يسكن إليه، فخلقت حواء ليسكن إليها، وروي أن الله تعالى ألقى على آدم النوم، وأخذ منه ضلعا، فخلق منه حواء، فاستيقظ آدم فإذا عند رأسه امرأة، فسألها: من أنت؟ قالت: امرأة.. قال: لم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي، فقالت الملائكة: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي، فعندها قال الله تعالى: ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾
6. 7. قيل: إن حواء خلقت قبل أن يسكن آدم الجنة، ثم أدخلا معا الجنة، وفي كتاب النبوة أن الله تعالى خلق آدم من الطين، وخلق حواء من آدم، فهمة الرجال الماء والطين، وهمة النساء الرجال.. قال أهل التحقيق: ليس يمتنع أن يخلق الله حواء من جملة جسد آدم، بعد أن لا يكون مما لا يتم الحي حيا إلا معه، لأن ما هذه صفته لا يجوز أن ينقل إلى غيره، أو يخلق منه حي آخر، من حيث يؤدي إلى أن لا يمكن إيصال الثواب إلى مستحقه، لأن المستحق لذلك هو الجملة بأجمعها، وإنما سميت حواء لأنها خلقت من حي على ما ذكرناه قبل وقيل: لأنها أم كل حي.
8. اختلف في الجنة التي أسكن فيها آدم:
أ. قال أبو هاشم: هي جنة من جنان السماء غير جنة الخلد، لأن جنة الخلد أكلها دائم، ولا تكليف فيها.
ب. وقال أبو مسلم: هي جنة من جنان الدنيا في الأرض، وقوله: ﴿اهْبِطُوا مِنْهَا﴾ لا يقتضي كونها في السماء، لأنه مثل قوله ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ .. واستدل بعضهم على أنها لم تكن جنة الخلد بقوله تعالى حكاية عن إبليس ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾ فلو كانت جنة الخلد، لكان آدم عالما بذلك، ولم يحتج إلى دلالة.
ج. وقال أكثر المفسرين، والحسن البصري، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وكثير من المعتزلة كالجبائي والرماني وابن الإخشيد: إنها كانت جنة الخلد، لأن الألف واللام للتعريف، وصارا كالعلم عليها، ويجوز أن تكون وسوسة إبليس من خارج الجنة من حيث يسمعان كلامه، وقول من يزعم أن جنة الخلد من يدخلها لا يخرج منها غير صحيح، لأن ذلك إنما يكون إذا استقر أهل الجنة فيها للثواب، فأما قبل ذلك، فإنها تفنى لقوله تعالى ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾
9. ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا﴾ :
أ. أي: كلا من الجنة كثيرا واسعا لا عناء فيه ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ من بقاع الجنة.
ب. وقيل: منها أي: من ثمارها إلا ما استثناه.
10. ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ أي: لا تأكلا منها، وهو المروي عن الباقر عليه السلام، فمعناه: لا تقرباها بالأكل، ويدل عليه أن المخالفة وقعت بالأكل بلا خلاف لا بالدنو منها، ولذلك قال: ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾
11. اختلف في هذا النهي:
أ. قيل: إنه نهي التحريم.
ب. وقيل: إنه نهي التنزيه دون التحريم كمن يقول لغيره لا تجلس على الطرق، وهو قريب من مذهبنا، فإن عندنا أن آدم كان مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة، وكان بالتناول منها تاركا نفلا وفضلا ولم يكن فاعلا لقبيح، فإن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم القبائح، لا صغيرها ولا كبيرها.
ج. وقالت المعتزلة: كان ذلك صغيرة من آدم عليه السلام على اختلاف بينهم في أنه وقع منه على سبيل العمد أو السهو، أو التأويل.
12. إنما قلنا: إنه لا يجوز مواقعة الكبائر على الأنبياء عليهم السلام، من حيث إن القبيح يستحق فاعله به الذم والعقاب، لأن المعاصي عندنا كلها كبائر، وإنما تسمى صغيرة بإضافتها إلى ما هو أكبر عقابا منها، لأن الإحباط قد دل الدليل عندنا على بطلانه، وإذا بطل ذلك فلا معصية إلا ويستحق فاعلها الذم والعقاب، وإذا كان الذم والعقاب منفيين عن الأنبياء عليهم السلام، وجب أن ينتفي عنهم سائر الذنوب، ولأنه لو جاز عليهم شيء من ذلك لنفر عن قبول قولهم.. والمراد بالتنفير أن النفس إلى قبول قول من لا تجوز عليه شيئا من المعاصي أسكن منها إلى قول من يجوز عليه ذلك، ولا يجوز عليهم كل ما يكون منفرا عنه من الخلق المشوهة، والهيئات المستنكرة، وإذا صح هذا علمنا أن مخالفة آدم عليه السلام لظاهر النهي كان على هذا الوجه.
13. اختلف في الشجرة التي نهي عنها آدم:
أ. قيل: هي السنبلة، عن ابن عباس وقيل: هي الكرمة، عن ابن مسعود والسدي.
ب. وقيل: هي التينة، عن ابن جريج.
ج. وقيل: هي شجرة الكافور يروى عن علي عليه السلام.
د. وقيل: هي شجرة العلم، علم الخير والشر، عن الكلبي.
هـ. وقيل: هي شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة، عن ابن جذعان.
14. ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي: تكونا بأكلها من الظالمين لأنفسكما، ويجوز أن يقال لمن بخس نفسه الثواب إنه ظالم لنفسه، كقوله تعالى حكاية عن أيوب ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ حيث بخس نفسه الثواب بترك المندوب إليه.
15. اختلفوا هل كان يجوز ابتداء الخلق في الجنة:
أ. جوز البصريون من أهل العدل ذلك، قالوا: يجوز أن ينعمهم الله في الجنة مؤبدا، تفضلا منه، لا على وجه الثواب، لأن ذلك نعمة منه تعالى، كما أن خلقهم وتعريضهم للثواب نعمة.
ب. وقال أبو القاسم البلخي: لا يجوز ذلك لأنه لو فعل ذلك لا يخلو إما أن يكونوا متعبدين بالمعرفة أو لا يكونوا كذلك، فلو كانوا متعبدين لم يكن بد من ترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، وكان يكون لا بد من دار أخرى يجازون فيها ويخلدون، وإن كانوا غير متعبدين كانوا مهملين، وذلك غير جائز.. وجوابه: إنه سبحانه لو ابتدأ خلقهم في الجنة، لكان يضطرهم إلى المعرفة، ويلجئهم إلى فعل الحسن وترك القبيح، ومتى راموا القبيح، منعوا منه، فلا يؤدي إلى ما قاله، وهذا كما يدخل الله الجنة الأطفال، وغير المكلفين، لا على وجه الثواب.
16. مسائل نحوية:
أ. ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ استقبح عطف الظاهر على الضمير المستكن والمتصل، فقال: ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ فأنت تأكيد للضمير المستكن في اسكن الذي هو فاعله.
ب. زوجك: معطوف على موضع ﴿أَنْتَ﴾، فلو عطفه على الضمير المستكن لكان أشبه في الظاهر عطف الاسم على الفعل، فأتى بالضمير المنفصل، فعطفه عليه.
ج. ﴿رَغَدًا﴾ : منصوب لأنه صفة لمصدر محذوف، كأنه قال: أكلا رغدا أي: واسعا كثيرا.. ويجوز أن يكون مصدرا وضع موضع الحال من قوله كلا، قال الخليل: يقال قوم رغد، ونساء رغد، وعيش رغد ورغيد، قال امرؤ القيس:
بينما المرء تراه ناعما... يأمن الأحداث في عيش رغد
فعلى هذا يكون تقديره: وكلا منها متوسعين في العيش.
د. ﴿حَيْثُ﴾ : مبني على الضم كما تبنى الغاية نحو من قبل، ومن بعد، لأنه منع من الإضافة إلى مفرد، كما منعت الغاية من الإضافة.. وإنما يأتي بعده جملة اسمية أو فعلية في تقدير المضاف إليه.
هـ. ﴿وَلَا تَقْرَبَا﴾ : مجزوم بالنهي.
و. الألف: ضمير الفاعلين.
ز. ﴿فَتَكُونَا﴾ : يحتمل أمرين:
• أحدهما: أن يكون جوابا للنهي فيكون منصوبا بإضمار أن، وأن مع الفعل في تأويل اسم مفرد، وإذا قدر إضمار أن بعد الفاء كان ذلك عطفا على مصدر الفعل المتقدم، فيكون تقديره لا يكون منكما قرب لهذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فيكون الكلام جملة واحدة لأن المعطوف يكون من جملة المعطوف عليه، وإنما سميناه جوابا لمشابهته الجزاء في أن الثاني سببه الأول، لأن معنى الكلام ان تقربا هذه الشجرة تكونا من الظالمين.
• الثاني: أن يكون معطوفا على النهي، فيكون مجزوما، وتكون الفاء عاطفة جملة على جملة، فكأنه قال: فلا تكونا من الظالمين.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/194.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. زوجه: حواء، قال الفرّاء: أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل: زوج، ويجمعونها: الأزواج، وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون: زوجة، ويجمعونها: زوجات، قال الشاعر:
فإنّ الذي يسعى يحرّش زوجتي... كماش إلى أسد الشّرى يستبيلها
وأنشدني أبو الجرّاح:
يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم... أن ليس وصل إذا انحلّت عرى الذّنب
2. في الجنّة التي أسكنها آدم قولان:
أ. أحدهما: جنّة عدن.
ب. الثاني: جنة الخلد.
3. الرّغد: الرزق الواسع الكثير، يقال: أرغد فلان: إذا صار في خصب وسعة.
4. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ أي: بالأكل لا بالدّنو منها، وفي الشجرة ستة أقوال:
أ. أحدها: أنها السّنبلة، وهو قول ابن عباس، وعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وقتادة، وعطيّة العوفيّ، ومحارب بن دثار، ومقاتل.
ب. الثاني: أنها الكرم، روي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة.
ج. الثالث: أنها التّين، روي عن الحسن، وعطاء بن أبي رباح، وابن جريج.
د. الرابع: أنها شجرة يقال لها: شجرة العلم، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
هـ. الخامس: أنها شجرة الكافور، نقل عن عليّ بن أبي طالب.
و. السادس: أنها النّخلة، روي عن أبي مالك.
5. ذكروا وجها سابعا عن وهب بن منبه أنّه قال هي شجرة يقال لها شجرة الخلد، وهذا لا يعدّ وجها لأن الله تعالى سمّاها شجرة الخلد، وإنما الكلام في جنسها.
6. وجه الحكمة في تخصيص تلك الشجرة بالنهي:
أ. أنه ابتلاء من الله تعالى بما أراد.
ب. قال أبو العالية: كان لها ثفل من بين أشجار الجنّة، فلما أكل منها، قيل: أخرج إلى الدار التي تصلح لما يكون منك.
7. قوله تعالى: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، قال ابن الأنباريّ: الظّلم: وضع الشيء في غير موضعه، ويقال: ظلم الرجل سقاءه إذا سقاه قبل أن يخرج زبده، قال الشاعر:
وصاحب صدق لم تربني شكاته... ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر
أراد بالصاحب: وطب اللبن، وظلمه إياه: أن يسقيه قبل أن يخرج زبده.
والعرب تقول: هو أظلم من حيّة، لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفره فتسكنه، ويقال: قد ظلم الماء الوادي: إذا وصل منه إلى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى.
__________
(1) زاد المسير: 1/56.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلفوا في أن قوله ﴿اسْكُنْ﴾ أمر تكليف أو إباحة:
أ. المروي عن قتادة أنه قال: إن الله تعالى ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابتلى الملائكة بالسجود، وذلك لأنه كلفه بأن يكون في الجنة يأكل منها حيث شاء، ونهاه عن شجرة واحدة أن يأكل منها، فما زالت به البلايا حتى وقع فيم نهى عنه، فبدت سوأته عند ذلك، وأهبط من الجنة وأسكن موضعاً يحصل فيه ما يكون مشتهى له مع أن منعه من تناوله من أشد التكاليف.
ب. وقال آخرون: إن ذلك إباحة، لأن الاستقرار في المواضع الطيبة النزهة التي يتمتع فيها يدخل تحت التعبد كما أن أكل الطيبات لا يدخل تحت التعبد، ولا يكون قوله: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: 16] أمراً وتكليفاً بل إباحة
2. الأصح أن ذلك الإسكان مشتمل على ما هو إباحة، وعلى ما هو تكليف:
أ. أما الإباحة فهو أنه عليه السلام كان مأذوناً في الانتفاع بجميع نعم الجنة.
ب. أما التكليف فهو أن المنهي عنه كان حاضراً وهو كان ممنوعاً عن تناوله.
3. قال بعضهم: لو قال رجل لغيره أسكنتك داري لا تصير الدار ملكاً له، فههنا لم يقل الله تعالى: وهبت منك الجنة، بل قال أسكنتك الجنة، وإنما لم يقل ذلك لأنه خلقه لخلافة الأرض، فكان إسكان الجنة كالتقدمة على ذلك.
4. اختلفوا في الوقت الذي خلقت زوجته فيه:
أ. خلقت في الجنة، ذكر السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فبقي فيها وحده، وما كان معه من يستأنس به، فألقى الله تعالى عليه النوم، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر، ووضع مكانه لحماً، وخلق حواء منه، فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة فسألها من أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ، فقالت الملائكة: ما اسمها؟ قالوا: حواء، ولم سميت حواء، قال لأنها خلقت من شيء حي.
ب. خلقت قبل إدخال آدم الجنة، فعن عمر وابن عباس قال: بعث الله جنداً من الملائكة، فحملوا آدم وحواء عليهما السلام على سرير من ذهب كما تحمل الملوك ولباسهما النور على كل واحد منهما إكليل من ذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ وعلى آدم منطقة مكللة بالدر والياقوت حتى أدخلا الجنة، فهذا الخبر يدل على أن حواء خلقت قبل إدخال آدم الجنة.. والخبر الأول يدل على أنها خلقت في الجنة والله أعلم بالحقيقة.
5. أجمعوا على أن المراد بالزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة وفي سائر القرآن ما يدل على ذلك، وأنها مخلوقة منه، كما قال الله تعالى في سورة النساء: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: 1] وفي الأعراف: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: 189]، وروى الحسن عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: إن المرأة خلقت من ضلع الرجل فإن أردت أن تقيمها كسرتها وإن تركتها انتفعت بها واستقامت)
6. اختلفوا في الجنة التي أدخل إليها آدم عليه السلام، هل كانت في الأرض أو في السماء؟ وبتقدير أنها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب أو جنة الخلد أو جنة أخرى؟
أ. القول الأول: قال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني: هذه الجنة كانت في الأرض، وحملا الإهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: 61]
ب. القول الثاني: وهو قول الجبائي: أن تلك الجنة كانت في السماء السابعة والدليل عليه قوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِنْهَا﴾ [البقرة: 38]، ثم إن الإهباط الأول كان من السماء السابعة إلى السماء الأولى، والإهباط الثاني كان من السماء إلى الأرض.
ج. القول الثالث: وهو قول جمهور أصحابنا: أن هذه الجنة هي دار الثواب والدليل عليه أن الألف واللام في لفظ الجنة لا يفيدان العموم لأن سكنى جميع الجنان محال، فلا بد من صرفها إلى المعهود السابق، والجنة التي هي المعهودة المعلومة بين المسلمين هي دار الثواب، فوجب صرف اللفظ إليها.
د. القول الرابع: أن الكل ممكن والأدلة النقلية ضعيفة ومتعارضة فوجب التوقف وترك القطع والله أعلم.
7. استدلّ من ذكر أن الجنة كانت في الأرض بوجوه:
أ. أحدها: أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ [طه: 120]، ولما صح قوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ [الأعراف: 20]
ب. ثانيها: أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر: 48]
ج. ثالثها: أن إبليس لما امتنع عن السجود لعن فما كان يقدر مع غضب الله على أن يصل إلى جنة الخلد.
د. رابعها: أن الجنة التي هي دار الثواب لا يفني نعيمها لقوله تعالى: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ [الرعد: 35] ولقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ إلى أن قال ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: 108] أي غير مقطوع، فهذه الجنة لو كانت هي التي دخلها آدم عليه السلام لما فنيت، لكنها تفنى لقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: 88] ولما خرج منها آدم عليه السلام لكنه خرج منها وانقطعت تلك الراحات.
هـ. خامسها: أنه لا يجوز في حكمته تعالى أن يبتدئ الخلق في جنة يخلدهم فيها ولا تكليف لأنه تعالى لا يعطي جزاء العاملين من ليس بعامل ولأنه لا يهمل عباده بل لا بد من ترغيب وترهيب ووعد ووعيد.
و. سادسها: لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء لكان ذلك أولى بالذكر لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم، فدل ذلك على أنه لم يحصل، وذلك يوجب أن المراد من الجنة التي قال الله تعالى له: ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ جنة أخرى غير جنة الخلد.
8. قال صاحب الكشاف: السكني من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار و(أنت) تأكيد للمستكن في (اسكن) ليصح العطف عليه و(رغداً) وصف للمصدر أي أكلا رغداً واسعاً رافهاً و(حيث) للمكان المبهم أي أي مكان من الجنة شئتما، فالمراد من الآية إطلاق الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة حيث لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة من بين أشجارها الكثيرة.
9. سؤال وإشكال: إنه تعالى قال هاهنا: وكلا منها رغداً، وقال في الأعراف: ﴿فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ [الأعراف: 19] فعطف ﴿كَلَّا﴾ على قوله: ﴿اسْكُنْ﴾ في سورة البقرة بالواو، وفي سورة الأعراف بالفاء فما الحكمة؟ والجواب:
أ. كل فعل عطف عليه شيء، وكان الفعل بمنزلة الشرط، وذلك الشيء بمنزلة الجزء عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾ [البقرة: 58]، فعطف كلوا على ادخلوا بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقاً بدخولها فكأنه قال إن أدخلتموها أكلتم منها، فالدخول موصل إلى الأكل، والأكل متعلق وجوده بوجوده، يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه الآية من سورة الأعراف: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ [الأعراف: 161]، فعطف كلوا على قوله اسكنوا بالواو دون الفاء لأن اسكنوا من السكنى وهي المقام مع طول اللبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده لأن من دخل بستاناً قد يأكل منه وإن كان مجتازاً فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء، إذا ثبت هذا فنقول: إن ﴿اسْكُنْ﴾ يقال لمن دخل مكاناً فيراد منه الزم المكان الذي دخلته ولا تنتقل عنه، ويقال أيضاً لمن لم يدخل اسكن هذا المكان يعني ادخله واسكن فيه، ففي سورة البقرة هذا الأمر إنما ورد بعد أن كان آدم في الجنة فكان المراد منه اللبث والاستقرار، وقد بينا أن الأكل لا يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الواو.
ب. وفي سورة الأعراف هذا الأمر إنما ورد قيل: أن دخل الجنة فكان المراد منه دخول الجنة وقد بينا أن الأكل يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الفاء.
10. قال قائلون قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ يفيد بفحواه النهي عن الأكل، وهذا ضعيف:
أ. لأن النهي عن القرب لا يفيد النهي عن الأكل، إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع أنه لو حمل إليه لجاز له أكله.
ب. بل هذا الظاهر يتناول النهي عن القرب، وأما النهي عن الأكل فإنما عرف بدلائل أخرى، وهي قوله تعالى في غير هذا الموضع: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾ [الأعراف: 22] ولأنه صدر الكلام في باب الإباحة بالأكل فقال: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ فصار ذلك كالدلالة على أنه تعالى نهاهما عن أكل ثمرة تلك الشجرة.
ج. لكن النهي عن ذلك بهذا القول يعم الأكل وسائر الانتفاعات ولو نص على الأكل ما كان يعم كل ذلك ففيه مزيد فائدة:
11. اختلفوا في الشجرة ما هي:
أ. روى مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس أنها البر والسنبلة، وروي أن أبا بكر سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الشجرة فقال: هي الشجرة المباركة السنبلة.
ب. وروى السدي عن ابن عباس وابن مسعود أنها الكرم.
ج. وعن مجاهد وقتادة أنها التين.
د. وقال الربيع بن أنس: كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث.
هـ. قال بعضهم: الأقرب في لفظ الشجرة أن يتناول ما له ساق وأغصان، وقيل لا حاجة إلى ذلك لقوله تعالى: ﴿وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ [الصافات: 146] مع أنها كالزرع والبطيخ فلم يخرجه ذهابه على وجه الأرض من أن يكون شجراً.
و. قال المبرد: أحسب أن كل ما تفرعت له أغصان وعيدان فالعرب تسميه شجراً في وقت تشعبه وأصل هذا أنه كل ما شجر أي أخذ يمنة ويسرة يقال: رأيت فلاناً في شجرته الرماح، وقال تعالى: ﴿حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65] وتشاجر الرجلان في أمر كذا.
12. ليس في الظاهر ما يدل على التعيين فلا حاجة أيضاً إلى بيانه:
أ. لأنه ليس المقصود من هذا الكلام أن يعرفنا عين تلك الشجرة وما لا يكون مقصوداً في الكلام، لا يجب على الحكيم أن يبينه.
ب. بل ربما كان بيانه عبثاً لأن أحدنا لو أراد أن يقيم العذر لغيره في التأخر فقال: شغلت بضرب غلماني لإساءتهم الأدب لكان هذا القدر أحسن من أن يذكر عين هذا الغلام، ويذكر اسمه وصفته.
ج. فليس لأحد أن يظن أنه وقع هاهنا تقصير في البيان.
13. اتفقوا على أن المراد بقوله تعالى: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ هو أنكما إن أكلتما فقد ظلمتما أنفسكما لأن الأكل من الشجرة ظلم الغير، وقد يكون ظالماً بأن يظلم نفسه وبأن يظلم غيره، فظلم النفس أعم وأعظم.
14. اختلف الناس هاهنا على ثلاثة أقوال:
أ. الأول: قول الحشوية الذين قالوا: إنه أقدم على الكبيرة فلا جرم كان فعله ظلماً.
ب. الثاني: قوله المعتزلة الذين قالوا: إنه أقدم على الصغيرة ثم لهؤلاء قولان:
• أحدهما: قول أبي علي الجبائي وهو أنه ظلم نفسه بأن ألزمها ما يشق عليه من التوبة والتلافي.
• ثانيهما: قول أبي هاشم وهو أنه ظلم نفسه من حيث أحبط بعض ثوابه الحاصل فصار ذلك نقصاً فيما قد استحقه
ج. الثالث: قول من ينكر صدور المعصية منهم مطلقاً، وحمل هذا الظلم على أنه فعل ما الأولى له أن لا يفعله، ومثاله إنسان طلب الوزارة ثم إنه تركها واشتغل بالحياكة، فإنه يقال له: يا ظالم نفسه لم فعلت ذلك؟
15. سؤال وإشكال: هل يجوز وصف الأنبياء عليهم السلام بأنهم كانوا ظالمين أو بأنهم كانوا ظالمي أنفسهم؟ والجواب: أن الأولى أنه لا يطلق ذلك لما فيه من إيهام الذم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/452.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم: اسكن، أي لازم الإقامة واتخذها مسكنا.
2. السكن، هو محل السكون، وسكن إليه يسكن سكونا، والسكن: النار، قال الشاعر: قد قومت بسكن وأدهان.. والسكن: كل ما سكن إليه، والسكين معروف سمي به لأنه يسكن حركة المذبوح، ومنه المسكين لقلة تصرفه وحركته، وسكان السفينة عربي، لأنه يسكنها عن الاضطراب.
3. في قوله تعالى: ﴿اسْكُنْ﴾ تنبيه على الخروج، لان السكنى لا تكون ملكا، ولهذا قال بعض العارفين: السكنى تكون إلى مدة ثم تنقطع، فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول إقامة، وفيه دلالة على ما يقوله الجمهور من العلماء: إن من أسكن رجلا مسكنا له أنه لا يملكه بالسكنى، وأن له أن يخرجه إذا انقضت مدة الإسكان، وكان الشعبي يقول: إذا قال الرجل داري لك سكنى حتى تموت فهي له حياته وموته، وإذا قال داري هذه أسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مات، ونحو من السكنى العمرى، إلا أن الخلاف في العمرى أقوى منه في السكنى.
4. لغة القرآن (زوج) بغير هاء، وقد جاء في صحيح مسلم: زوجة)، عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مع إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه فجاء فقال: يا فلان هذه زوجتي فلانة)، فقال يا رسول الله، من كنت أظن به فلم أكن أظن بك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)
5. زوج آدم عليه السلام هي حواء عليها السلام، وهو أول من سماها بذلك حين خلقت من ضلعه من غير أن يحس آدم عليه السلام بذلك:
أ. ولو ألم بذلك لم يعطف رجل على امرأته، فلما انتبه قيل له: من هذه؟ قال امرأة قيل: وما اسمها؟ قال حواء، قيل: ولم سميت امرأة؟ قال: لأنها من المرء أخذت، قيل: ولم سميت حواء؟ قال لأنها خلقت من حي، روي أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه، وأنهم قالوا له: أتحبها يا آدم؟ قال: نعم، قالوا لحواء: أتحبينه يا حواء؟ قالت: لا، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه، قالوا: فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها لصدقت حواء.
ب. وقال ابن مسعود وابن عباس: لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها، فلما انتبه رآها فقال: من أنت؟ قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي، وهو معنى قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: 189]
6. قال العلماء: ولهذا كانت المرأة عوجاء، لأنها خلقت من أعوج وهو الضلع، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن المرأة خلقت من ضلع ـ في رواية: وإن أعوج شي في الضلع أعلاه ـ لن تستقيم لك على طريقة واحدة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها)، وقال الشاعر:
هي الضلع العوجاء ليست تقيمها... ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى... أليس عجيبا ضعفها واقتدارها
7. لا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخلد، وإنما كان في جنة بأرض عدن، واستدلوا على بدعتهم:
أ. بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس، فإن الله يقول: ﴿لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ [الطور: 23]، وقال ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا﴾ ) [النبأ: 35]، وقال: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا﴾ [الواقعة: 26 ـ 25]
ب. وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله: ﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر: 48]
ج. وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها، وقد لغا فيها إبليس وكذب، وأخرج منها آدم وحواء بمعصيتهما.
د. وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى.
8. الجواب على ما ذكروه:
أ. أن الله تعالى عرف الجنة بالألف واللام، ومن قال أسأل الله الجنة، لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد.
ب. لا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم، وقد لقي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى: أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة، فأدخل الالف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة، فلم ينكر ذلك آدم، ولو كانت غيرها لرد على موسى، فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها.
ج. ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها، وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء، وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، وقد كان مفاتيحها بيد إبليس، ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة الاسراء، ثم خرج منها، وأخبر بما فيها وأنها هي جنة الخلد حقا.
د. أما قولهم: إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله تعالى من الخطايا فجهل منهم، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي الشام، وأجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدسها وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي، وكذلك دار القدس.
9. قال أبو الحسن بن بطال: حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام، فلا معنى لقول من خالفهم، وقولهم: كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد، فيعكس عليهم ويقال: كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء! هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل، فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلا.
10. الرغد: العيش الدار الهني الذي لا عناء فيه، قال:
بينما المرء تراه ناعما... يأمن الأحداث في عيش رغد
ويقال: رغد عيشهم ورغد (بضم الغين وكسرها)، وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في رغد من العيش، وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف، وحيث وحيث وحيث، وحوث وحوث وحاث، كلها لغات، ذكرها النحاس وغيره.
11. قوله تعالى: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا﴾ حذفت النون من ﴿كَلَّا﴾ لأنه أمر وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال وحذفها شاذ، قال سيبويه: من العرب من يقول أوكل، فيتم، يقال منه: أكلت الطعام أكلا ومأكلا، والاكلة (بالفتح): المرة الواحدة حتى تشبع، والاكلة (بالضم): اللقمة تقول: أكلت أكلة واحدة، أي لقمة وهي القرصة أيضا، وهذا الشيء أكلة لك أي طعمة لك، والأكل أيضا ما أكل، ويقال: فلان ذو أكل إذا كان ذا حظ من الدنيا ورزق واسع.
12. ﴿رَغَدًا﴾ نعت لمصدر محذوف أي أكلا رغدا، قال ابن كيسان: ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال، وقال مجاهد: ﴿رَغَدًا﴾ أي لا حساب عليهم، والرغد في اللغة: الكثير الذي لا يعنيك ويقال: أرغد القوم إذا وقعوا في خصب وسعة
13. و ﴿حَيْثُ﴾ مبنية على الضم لأنها خالفت أخواتها الظروف في أنها لا تضاف فأشبهت قبل وبعد إذا أفردتا فضمت، قال الكسائي: لغة قيس وكنانة الضم ولغة تميم الفتح، قال الكسائي: وبنو أسد يخفضونها في موضع الخفض وينصبونها في موضع النصب قال الله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وتضم وتفتح، ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ الهاء من (هذه) بدل من ياء الأصل لان الأصل هذى، قال النحاس: ولا أعلم في العربية هاء تأنيث مكسورا ما قبلها
عاد الأذلة في دار وكان بها... هرت الشقاشق ظلامون للجزر
إلا هاء (هذه)، ومن العرب من يقول: هاتا هند ومنهم من يقول: هاتي هند، وحكى سيبويه: هذه هند بإسكان الهاء، وحكى الكسائي عن العرب: ولا تقربا هذى الشجرة، وعن شبل بن عباد قال كان ابن كثير وابن محيصن لا يثبتان الهاء في (هذه) في جميع القرآن، وقراءة الجماعة ﴿رَغَدًا﴾ بفتح الغين، وروى عن ابن وثاب والنخعي أنهما سكنا الغين، وحكى سلمة عن الفراء قال يقال: هذه فعلت وهذى فعلت فإثبات ياء بعد الذال، وهذا فعلت بكسر الذال من غير إلحاق ياء ولا هاء، وهاتا فعلت، قال هشام ويقال: تافعلت، وأنشد:
خليلي لولا ساكن الدار لم أقم... بتا الدار إلا عابر ابن سبيل
قال ابن الأنباري: وتا بإسقاط ها بمنزله ذي بإسقاط ها من هذى وبمنزلة ذه بإسقاط ها من هذه، وقد قال الفراء: من قال هذه قامت لا يسقط ها لان الاسم لا يكون على ذال واحدة.
14. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ أي لا تقرباها بأكل، لان الإباحة فيه وقعت، قال ابن العربي: سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل يقول: إذا قيل لا تقرب (بفتح الراء) كان معناه لا تلبس بالفعل، وإذا كان (بضم الراء) فإن معناه لا تدن منه، وفي الصحاح: قرب الشيء يقرب قربا أي دنا، وقربته (بالكسر) أقربه قربانا أي دنوت منه، وقربت أقرب قرابة ـ مثل كتبت أكتب كتابة ـ إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة، والاسم القرب، قال الأصمعي: قلت لأعرابي: ما القرب؟ فقال: سير الليل لورد الغد.
15. قال ابن عطية: قال بعض الحذاق: إن الله تعالى لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه العرب وهو القرب، قال ابن عطية: وهذا مثال بين في سد الذرائع.
16. قال بعض أرباب المعاني قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبَا﴾ إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة، وأن سكناه فيها لا يدوم، لان المخلد لا يحظر عليه شي ولا يؤمر ولا ينهى، والدليل على هذا قوله تعالى ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30] فدل على خروجه منها.
17. قوله تعالى: ﴿هَذِهِ الشَّجَرَةِ﴾ الاسم المبهم ينعت بما فيه الالف واللام لا غير، كقولك: مررت بهذا الرجل وبهذه المرأة وهذه الشجرة.. والشجرة: ما كان على ساق من نبات الأرض، وأرض شجيرة وشجراء أي كثيرة الأشجار، وواد شجير، ولا يقال: واد أشجر، وواحد الشجراء شجرة، ولم يأت من الجمع على هذا المثال إلا أحرف يسيرة: شجرة وشجراء، وقصبة وقصباء، وطرفة وطرفاء، وحلفة وحلفاء، وكان الأصمعي يقول في واحد الحلفاء: حلفة، بكسر اللام مخالفة لأخواتها، وقال سيبويه: الشجراء واحد وجمع، وكذلك القصباء والطرفاء والحلفاء، والمشجرة: موضع الأشجار، وأرض مشجرة، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجرا، قال الجوهري.
18. اختلف أهل التأويل في تعيين هذه الشجرة التي نهي عنها فأكل منها:
أ. قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة: هي الكرم، ولذلك حرمت علينا الخمر.
ب. قال ابن عباس أيضا وأبو مالك وقتادة: هي السنبلة، والحبة منها ككلى والحبة منها ككلى البقر، أحلى من العسل وألين من الزبد، قاله وهب بن منبه، ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه.
ج. قال ابن جريج عن بعض الصحابة: هي شجرة التين، وكذا روى سعيد عن قتادة، ولذلك تعبر في الرؤيا بالندامة لآكلها من أجل ندم آدم عليه السلام على أكلها، ذكره السهيلي.
د. قال القشيري أبو نصر: وكان الإمام والدي رحمه الله يقول: يعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة.
19. قال ابن عطية: وليس في شي من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها.
20. قوله تعالى: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه، والأرض المظلومة: التي لم تحفر قط ثم حفرت، قال النابغة:
وقفت فيها أصيلا لا أسائلها... عيت جوابا وما بالربع من أحد
إلا الأواري لأيا ما أبينها... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
على العيش مردود عليها ظليمها
وإذا نحر البعير من غير داء به فقد ظلم، ومنه: ظلامون للجزر.. ورجل ظليم: شديد الظلم، والظلم: الشرك، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]
21. لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته وإنما أهبطه إما تأديبا وإما تغليظا للمحنة، والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك، وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي.. إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الاكلة سبب إهباطه من الجنة، ولله أن يفعل ما يشاء، وقد قال ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة إليها مع أنه خلق من الأرض، وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقوله ثانية: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/299.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿اسْكُنْ﴾ أي اتخذ الجنة مسكنا وهو محل السكون، وأما ما قاله بعض المفسرين من أن في قوله: ﴿اسْكُنْ﴾ تنبيها على الخروج لأن السكنى لا تكون ملكا، وأخذ ذلك من قول جماعة من العلماء أن من أسكن رجلا منزلا له فإنه لا يملكه بذلك، وإن له أن يخرجه منه، فهو معنى عرفي، والواجب الأخذ بالمعنى العرفي إذا لم تثبت في اللفظ حقيقة شرعية.
2. ﴿أَنْتَ﴾ تأكيد للضمير المستكن في الفعل ليصح العطف عليه كما تقرّر في علم النحو أنه لا يجوز العطف على الضمير المرفوع المستكنّ إلا بعد تأكيده بمنفصل، وقد يجيء العطف نادر بغير تأكيد كقول الشاعر:
قلت إذا أقبلت وزهر تهادى... كنعاج الملا تعسّفن رملا
3. قوله: ﴿وَزَوْجُكَ﴾ أي حوّاء وهذه هي اللغة الفصيحة زوج بغير هاء، وقد جاء بهاء قليلا، كما في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مع إحدى نسائه، فمرّ به رجل فدعاه وقال: يا فلان هذه زوجتي فلانة) الحديث، ومنه قول الشاعر:
وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي... كساع إلى أسد الشّرى يستميلها
4. الرغد: العيش الهنيء الذي لا عناء فيه، وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف، و ﴿حَيْثُ﴾ مبنية على الضم، وفيها لغات كثيرة مذكورة في كتب العربية.
5. القرب: الدنوّ، قال في الصحاح: قرب الشيء بالضم يقرب قربا: أي دنا، وقربته بالكسر أقربه قربانا: أي دنوت منه، وقربت أقرب قرابة مثل أكتب كتابة: إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة، والاسم القرب، قال الأصمعي: قلت لأعرابي ما القرب؟ قال: سير الليل لورود الغد.
6. النهي عن القرب فيه سدّ للذريعة وقطع للوسيلة، ولهذا جاء به عوضا عن الأكل، ولا يخفى أن النهي عن القرب لا يستلزم النهي عن الأكل، لأنه قد يأكل من ثمر الشجرة من هو بعيد عنها إذا يحمل إليه، ف الأولى أن يقال: المنع من الأكل مستفاد من المقام.
7. اختلف أهل العلم في تفسير هذه الشجرة، فقيل: هي الكرم، وقيل: السنبلة؛ وقيل: التين، وقيل: الحنطة.
8. ﴿فَتَكُونَا﴾ معطوف على ﴿تَقْرَبَا﴾ في الكشاف، أو نصب في جواب النهي وهو الأظهر.
9. الظلم أصله: وضع الشيء في غير موضعه، والأرض المظلومة: التي لم تحفر قط ثم حفرت، ورجل ظليم: شديد الظلم.
10. المراد هنا ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسهم بالمعصية، وكلام أهل العلم في عصمة الأنبياء واختلاف مذاهبهم في ذلك مدوّن في مواطنه، وقد أطال البحث في ذلك الرازي في تفسيره في هذا الموضع فليرجع إليه فإنه مفيد.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/80.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وأمر الله رسولَه صلّى الله عليه وآله وسلّم بذكر وقت قوله لآدم: ﴿اسْكُن﴾ إذ قال: ﴿وَقُلْنَا يَآ ءَادَمُ اسْكُنَ اَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ لم يقل: اسكنا لأنَّه المقصود بالذات وهي تبع له في جميع الأحكام والأمور، والأمر لهما أمر وجوب كما هو الظاهر وكما هو الأصل لا أمر إباحة، وهي جنَّة بين فارس وكرمان، أو في عدن، أو فلسطين، والصحيح أنَّها دار السعداء، وقيل: جنَّة في السماء غيرها، ولا دليل عليها، ولا نعرف في السماء جنَّة، ولا يلزم من كونها دار السعداء أن يذكر الله تعالى الرفع إليها وأنَّ ذكره أول.
2. وأيضًا قال: ﴿اِهْبِطُوا﴾ والأصل في الهبوط النزول من عال، ولو يطلق على الخروج من موضع ودخوله، حملته الملائكة من الدنيا أو من باب الجنَّة على القول بأنَّه خلق عند بابها من تراب الأرض وأدخلوه الجنَّة؛ وقال له الله جلَّ وعلا: اسكنها أنت وزوجك حوَّاء.
3. ولا يمنع مانع من دخول إبليس مسارقة أو في فم الحيَّة كما كان يدخل السماوات، وليس تكليف آدم بالترك للأكل من الشجرة مناقضًا لما ثبت من أنَّه لا تكليف في الجنَّة؛ لأنَّه لا تكليف فيها على من يدخلها ثوابًا لعمله، ولَغْوُ إبليسَ وكذبه عصيانٌ فيها كعصيانه أوَّلاً، وكأكل آدم من الشجرة، فلا يُنافي ذلك قوله تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَاثِيمًا﴾ [الواقعة: 25]؛ وأيضًا هذه الآية لأهلها الداخلين فيها للجزاء الذي لا يشوبه شيء.
4. وقد قيل: وسوس إليهما من باب الجنَّة، وبعد أن استقرَّ فيها خلق الله زوجه حوَّاء من ضلعه القصرى اليسرى وهو نائم ولم يحسَّ ألمًا، فيقال: (لو أحسَّ الألم كان الرجل لا يعطف على المرأة)، وخلق الله في موضع الضلع لحمًا، وذلك النوم ألقاه الله عليه إذ لا تعب فيها، أو من تعبِ فكرٍ أو بدنٍ في أمر قضاه الله تعالى ؛ لأنَّه دخلها غير جزاء له، ومن دخلها غير جزاء له جاز له عليه فيها ما يجوز عليه في غيرها مِمَّا شاء الله من نوم وتعب وحزن وخروج، وإذا دخلها بعد ذلك جزاءً لم يَجُزْ عليه ذلك، وبسطتُ عدد الأضلاع فيها واختلاف القول فيها في (وفاء الضمانة بأداء الأمانة)، ومنها ما قيل: أضلاع اليسرى سبعة عشر واليمنى ثمانية عشر.
5. ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا﴾ أكْلَ رغدٍ، أو أكلاً راغِدًا، أو ذا رغدٍ، أو نفس الرغدِ مبالغةً وهو الوسع، ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ من حيث شئتما من أشجارها، وفي أيِّ موضع من مواضعها مع سعتها، فلا داعي لكما إلى تناول شجرة واحدة غير متعدِّدة أنهاكم عنها.
6. ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ الواحدة شجرة الحنطة أو العنب أو النخلة أو الحمص أو الأترجَّة، أو التين، أو الحنظل حلوةً فيها، أو الكافور، وتطلق الشجرة ولو على ما ليس له ساق، كقوله تعالى: ﴿وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّنْ يَّقْطِينٍ﴾ [الصافات: 146] أو غير ذلك، والأصل: ولا تأكلا من هذه الشجرة، إلَّا أنَّه نُهيَ عن القرب مبالغة، وأيضًا الأكل منها مسبَّب، أو أراد حقيقة القرب؛ لأنَّ القرب إليها يؤمِّلهما فيها لاطِّلاعهما على شأنها، مع وسوسة الشيطان.
7. ﴿فَتَكُونَا﴾ يقول: لا تقربا فلا تكونا، فهو مجزوم على العطف، أو لا يكن منكما قربُ هذه الشجرة فَكَوْنَكُمَا، فهو منصوب في جواب النفي، ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ المضرِّين لأنفسهم، أو الواضعين الشيء في غير موضعه، أو الناقصين لحظِّهم ولحظِّ الحقِّ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/81.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذهب كثيرون إلى أن الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلام، كانت في الأرض، قال بعضهم: هي على رأس جبل بالمشرق تحت خط الاستواء، وحملوا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في قوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: 61]، واحتجوا عليه بوجوه:
أ. أحدها: أن هذه الجنة: لو كانت هي دار الثواب، لكانت جنة الخلد، ولو كان آدم في جنة الخلد، لما لحقه الغرور من الشيطان بقوله: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ [طه: 120]، ولما صح قوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ [الأعراف: 20].
ب. ثانيها: أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر: 48].
ج. ثالثها: لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء، لكان ذلك أولى بالذكر، لأن نقله من الأرض إلى السماء، من أعظم النعم، فدل ذلك على أنه لم يحصل، وذلك يوجب أن المراد من الجنة غير جنة الخلد.
د. رابعها: روى مسلّم في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (سيحان وجيحان والفرات والنيل، كل من أنهار الجنة)
2. قال ابن مفلح: أكثر الناس على أن المراد بالجنة التي أسكنها آدم جنة الخلد، دار الثواب، ثم قال قال تقي الدين بن تيمية: وهذا قول أهل السنة والجماعة، ومن قال إنها جنة في الأرض بالهند أو جدّة، أو غير ذلك، فهو من الملحدة المبتدعين، والكتاب والسنة يرد هذا القول، وقد استوفى الكلام فيها في (مفتاح دار السعادة) وكتاب (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)
3. لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام وخلق له زوجة وأقرهما في الجنة، أباحهما الأكل منها بقوله ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا﴾ أي أكلا واسعا.
4. و(حيث) للمكان المبهم، أي أيّ مكان من الجنة شئتما، أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلة، حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول مما منعا منه بقوله ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ أي هذه الحاضرة من الشجر، أي لا تأكلا منها.
5. إنما علق النهي بالقربان منها، مبالغة في تحريم الأكل، ووجوب الاجتناب عنه، لأن القرب من الشيء مقتضى الألفة، والألفة داعية للمحبة، ومحبة الشيء تعمي وتصمّ، فلا يرى قبيحا، ولا يسمع نهيا، فيقع، والسبب الداعي إلى الشرّ منهيّ عنه، كما أن السبب الموصل إلى الخير مأمور به، وعلى ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (العينان تزنيان)، لما كان النظر داعيا إلى الألفة، والألفة إلى المحبة، وذلك مفض لارتكابه، فصار النظر مبدأ الزنا، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿ ولا تَقْرَبُوا الزِّنى ﴾ [الإسراء: 32]، ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: 152]
6. قال ابن العربيّ: سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول: إذا قيل: لا تقرب، بفتح الراء، كان معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء، معناه لا تدن، نقله ابن مفلح في كتاب الاستعاذة، ونقل الفرق المذكور بينهما أيضا السيد مرتضى في شرح القاموس عن شيخه العلامة الفاسي، قال إن أرباب الأفعال نصوا عليه، وظاهر القاموس أنهما مترادفان، فإنه قال قرب منه، ككرم، وقربه كسمع قربا وقربانا وقربانا دنا، فهو قريب، للواحد والجمع.
7. لم يرد في القرآن المجيد، ولا في السنة الصحيحة تعيين هذه الشجرة، إذ لا حاجة إليه، لأنه ليس المقصود تعرف عين تلك الشجرة، وما لا يكون مقصودا، لا يجب بيانه.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/297.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم، ليس في القرآن نص فيها ولا يلزمنا حمل قوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ على ذلك لأجل مطابقة سفر التكوين، فإن القصة لم ترد في القرآن كما وردت في التوراة التي في أيدى أهل الكتاب حكاية تاريخية، وإنما جاء القرآن بموضع العبرة في خلق آدم واستعداد الكون لأن يتكمل به، وكونه قد أعطى استعدادا في العلم والعمل لا نهاية لهما ليظهر حكم الله ويقيم سننه في الأرض فيكون خليفة له، وكونه لا يسلم من داعية الشر والتأثر بالوسوسة التي تحمل على المعصية، ولكون التاريخ غير مقصود له لأن مسائله من حيث هي تاريخ ليست من مهمات الدين من حيث هو دين، وإنما ينظر الدين من التاريخ إلى وجه العبرة دون غيره، لم يبين الزمان والمكان كما بينا في سفر التكوين، وكان بيانهما سببا لرفض الباحثين في الكون وتاريخ الخليقة لدين النصرانية، لأن العلم المبنى على الاختبار والمشاهدة أظهر خطأ ما جاء من التاريخ في التوراة، ووجدت للإنسان آثار في الأرض تدل على أنه أقدم مما حددته التوراة في تاريخ تكوينه، فقام فريق من أهل الكتاب يركب التعاسيف في التأويل، وفريق يكفر بالكتاب والتنزيل
2. الحديث الوارد في ذلك، وهو ما ورد في حديث أبى هريرة في الصحيحين في تعليل التوصية بالنساء (فإن المرأة خلقت من ضلع) فإنه إنه على حد قوله تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ كما قالوا في شرحه.
3. أما قوله تعالى في سورة النساء: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) وفى سورة الأعراف: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) فقد قال غير واحد من المفسرين: إن المعنى من جنسها كما قال في سورة الروم: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، فان المعنى هناك على أنه خلق أزواجا من جنسنا، ولا يصح أن يراد أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها كما هو ظاهر.
4. اختلف علماء المسلمين من أهل السنة وغيرهم في (الجنة) هل هي البستان أو المكان الذي تظلله الأشجار بحيث يستتر الداخل فيه كما يفهمه أهل اللغة؟ أم هي الدار الموعود بها في الآخرة؟ والمحققون من أهل السنة على الأول، قال الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره المسمى بالتأويلات: نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين أو غيضة من الغياض كان آدم وزوجه منعمين فيها، وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها، وهذا هو مذهب السلف، ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل السنة وغيرهم.
5. بهذا التفسير تنحل إشكالات كثيرة، وهى إن الله خلق آدم في الأرض ليكون هو ونسله خليفة فيها، فالخلافة مقصودة منهم بالذات فلا يصح أن تكون عقوبة عارضة انه لم يذكر أنه بعد خلقه في الأرض عرج به إلى السماء ولو حصل لذكر لأنه أمر عظيم إن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المؤمنون المتقون، فكيف دخلها الشيطان الكافر الملعون؟ انها ليست محلا للتكليف إنه لا يمنع من فيها من التمتع بما يريد منها إنه لا يقع فيها العصيان.
6. الأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها لا تنطبق على ما كان في جنة آدم، ومنه كون عطائها غير مجذوذ ولا مقطوع وغير ذلك.
7. القول بأن آدم أسكن جنة الآخرة يقتضى أن تكون الآخرة هي الدار الأولى والدنيا فتكون التسمية للدارين غير صحيحة، وينافى أيضا كون الجنة دار ثواب يدخلها المتقون جزاء بما كانوا يعملون، كما ورد في الآيات الكثيرة، وقد قال تعالى ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ ولم يقل (ادخل) ولو انتقل من الأرض التي خلق فيها إلى الجنة لقال هذا أو ما بمعناه مما يشير إلى الانتقال فقوله: ﴿اسْكُنْ﴾ يشير إلى أن الخلقة كانت في تلك الجنة أو بالقرب منها.
8. قوله تعالى: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ إباحة للتمتع بتلك الجنة والتنعم بما فيها أي كلا منها أكلا رغدا واسعا هنيئا من أي مكان منها إلا شيئا واحدا نهاهما عنه بقوله ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسكما بالوقوع فيما يترتب على الأكل منها.
9. لم يعين الله تعالى لنا هذه الشجرة فلا نقول في تعيينها شيئا، وإنما نعلم أن ذلك لحكمة اقتضته، ولعل في خاصية تلك الشجرة ما هو سبب خروجهما من حال إلى حال، وربما كان في الأكل منها ضرر، أو كان النهى ابتلاء وامتحانا منه تعالى ليظهر به ما في استعداد الإنسان من الميل إلى الإشراف على كل شيء واختباره، وإن كان في ذلك معصية يترتب عليها ضرر.
10. الجري على طريقة السلف يذهب بنا إلى أن العصيان والتوبة من المتشابه، كسائر ما ورد في القصة مما لا يركن العقل إلى ظاهره، ويمكن أن نقول:
أ. إن تلك مخالفة صدرت منه قبل أن يدركه عزم النبوة كما قال جل شأنه: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ والاتفاق إنما هو على العصمة عن مخالفة الأوامر بعد النبوة.
ب. وقد يكون الذي وقع من آدم نسيانا، فسمى تفخيما لأمره عصيانا، والنسيان والسهو مما لا ينافى العصمة.
ج. فان جعلنا الكلام كله تمثيلا فحديث الاخلال بالعصمة مما لا يمر بذهن العاقل.
11. تفسير الآيات على طريقة الخلف في التمثيل فيقال فيه: إن القرآن كثيرا ما يصور المعاني بالتعبير عنها بصيغة السؤال والجواب، أو بأسلوب الحكاية لما في ذلك من البيان والتأثير، فهو يدعو بها الأذهان، إلى ما وراءها من المعاني، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾، فليس المراد أن الله تعالى يستفهم منها وهى تجاوبه، وإنما هو تمثيل لسعتها وكونها لا تضيق بالمجرمين مهما كثروا، ونحوه قوله عز وجل بعد ذكر الاستواء إلى خلق السماء: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ والمعنى في التمثيل الظاهر.. وهذا الأمر يسمى أمر التكوين، ويقابله أمر التشريع، وإنما سمى أمر التكوين للتعبير عنه في التنزيل بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فهو تصوير لتعلق إرادة الربوبية بالإيجاد.
12. لا أذكر عن أحد من المفسرين المتبعين للأثر تصريحا بأن الأوامر في قصة آدم من أمر التكوين إلا للحافظ ابن كثير فإنه ذهب في تفسير ﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾ من سورة الأعراف إلى أن الأمر فيه أمر قدري كونى، ومثله ما في معناه من قصة آدم ومن الآيات الأخرى من مخاطبة إبليس للرب وجوابها في شأن اغوائه للبشر وانظاره إلى يوم القيامة.
13. تقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا:
أ. إن أخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض.
ب. وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض لأنه يعمل باختياره ويعطى استعدادا في العلم والعمل لاحد لهما هو تصوير لما في استعداد الانسان لذلك وتمهيد لبيان أنه لا ينافى خلافته في الأرض.
ج. وتعليم آدم الاسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض وانتفاعه به في استعمارها.
د. وعرض الاسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته.
هـ. وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواج والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك.
و. وإباء ابليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الانسان عن إخضاع روح الشر وابطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم، والتعدي والافساد في الأرض ـ ولولا ذلك لجاء على الانسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشرى.
14. هذا ملخص ما تقدم في سابق آيات القصة، أما التمثيل فيما نحن فيه منها فيصح عليه:
أ. أن يراد بالجنة الراحة والنعيم، فإن من شأن الإنسان أن يجد في الجنة التي هي الحديقة ذات الشجر الملتف ما يلذ له من مرأى ومأكول ومشروب ومشموم ومسموع، في ظل ظليل، وهواء عليل، وماء سلسببل، كما قال تعالى في القصة من سورة طه: ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى ﴾
ب. ويصح أن يعبر عن السعادة بالكون في الجنة وهو مستعمل.
ج. ويصح أن يراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق اسم أبى القبيلة الأكبر على القبيلة، فيقال كلب فعلت كذا ويراد قبيلة كلب، وكان من قريش كذا يعنى القبيلة التي أبوها قريش، وفى كلام العرب كثير من هذا
د. ويصح أن يراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة كما عبر الله تعالى في مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفسرت بكلمة التوحيد، وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، وفسرت بكلمة الكفر، وفى الحديث تشبيه المؤمن بشجرة النخل.
15. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يصح أن يكون المراد بالأمر بسكنى الجنة وبالهبوط منها أمر التكوين فالأمر الإلهي قسمان: أمر تكوين وأمر تكليف، والمعنى على هذا: أن الله تعالى كون النوع البشرى على ما نشاهد في الأطوار التدريجية التي قال فيها سبحانه: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً):
أ. فأولها طور الطفولية وهى لا هم فيها ولا كدر، وإنما هي لعب ولهو، كأن الطفل دائما في جنة ملتفة الأشجار، يانعة الثمار، جارية الأنهار، متناغية الأطيار، وهذا معنى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وذكر الزوجة مع أن المراد بآدم النوع الآدمي للتنبيه على الشمول وعلى أن استعداد المرأة كاستعداد الرجل في جميع الشئون البشرية، فأمر آدم وحواء بالسكنى أمر تكوين، أي إنه تعالى خلق البشر ذكورا وإناثا هكذا.
ب. وأمرهما بالأكل حيث شاءا عبارة عن إباحة الطيبات وإلهام معرفة الخير.
ج. والنهى عن الشجرة عبارة عن إلهام معرفة الشر، وأن الفطرة تهدى إلى قبحه ووجوب احتنابه، وهذان الإلهامان اللذان يكونان للإنسان في الطور الثاني وهو طور التمييز هما المراد بقوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)
د. ووسوسة الشيطان وإزلاله لهما عبارة عن وظيفة تلك الروح الخبيثة التي تلابس النفوس البشرية فتقوى فيها داعية الشر، أي إن إلهام التقوى والخير أقوى في فطرة الإنسان أو هو الأصل، ولذلك لا يفعل الشر إلا بملابسة الشيطان له ووسوسته إليه.
هـ. والخروج من الجنة مثال لما يلاقيه الإنسان من البلاء والعناء بالخروج عن الاعتدال الفطري.
و. أما تلقى آدم الكلمات وتوبته فهو بيان لما عرف في الفطرة السليمة من الاعتبار بالعقوبات التي تعقب الأفعال السيئة، ورجوعه إلى الله تعالى عند الضيق والتجائه إليه في الشدة، وتوبة الله تعالى عليه عبارة عن هدايته إياه إلى المخرج من الضيق، والتفلت من شرك البلاء، بعد ذلك الاعتبار والالتجاء.
ز. وذكر توبة الله على الإنسان ترد ما عليه النصارى من اعتقاد أن الله تعالى قد سجل معصية آدم عليه وعلى بنيه إلى أن يأتي عيسى ويخلصهم منها وهو اعتقاد تنبذه الفطرة، ويرده الوحى المحكم المتواتر.
16. حاصل القول: أن الأطوار الفطرية للبشر ثلاثة:
أ. طور الطفولية وهو طور نعيم وراحة.
ب. وطور التمييز الناقص، وفيه يكون الإنسان عرضة لاتباع الهوى بوسوسة الشيطان.
ج. وطور الرشد والاستواء وهو الذي يعتبر فيه بنتائج الحوادث، ويلتجئ فيه عند الشدة إلى القوة الغيبية العليا التي منها كل شيء وإليها يرجع الأمر كله.
17. هكذا كان الانسان في أفراده مثال للإنسان في مجموعه، كأن تدرج الإنسان في حياته الاجتماعية ابتدأ ساذجا سليم الفطرة، قويم الوجهة، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل، متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالذهبى، ثم لم يكفه هذا النعيم المرفه فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم، طاعة للشهوة، وميلا مع خيال اللذة، وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم فثار النزاع، وعظم الخلاف، واستنزل الشقاء، وهذا هو الطور الثاني وهو معروف في تاريخ الأمم ثم جاء الطور الثالث وهو طور العقل والتدبر، ووزن الخير والشر بميزان النظر والفكر، وتحديد حدود للأعمال تنتهى إليها نزعات الشهوات، ويقف عندها سير الرغبات، وهو طور التوبة والهداية إن شاء الله(2)..
18. بقى طور آخر أعلى من هذه الأطوار، وهو منتهى الكمال وأعنى به طور الدين الإلهي والوحى السماوي الذي به كمال الهداية الانسانية، وبيانه في قوله تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، أمرهم الله تعالى بالهبوط مرتين، ف الأولى بيان لحالهم في أنفسهم بعد الهبوط من تلك الجنة أو الخروج من ذلك الطور وهو أن حالهم تقتضى العداوة والاستقرار في الأرض والتمتع بها، وعدم الخلود فيها، والثانية بيان لحالهم من حيث الطاعة والمعصية وآثارهما، وهى أن حالة الإنسان في هذا الطور لا تكون عصيانا مستمرا شاملا، ولا تكون هدى واجتباء عاما ـ كما كان يفهم لو اقتصر على ذكر توبة الله على آدم وهدايته واجتبائهـ وإنما الأمر موكول إلى اجتهاد الإنسان وسعيه، ومن رحمة الله تعالى به أن يجعل في بعض أفراده الوحى ويعلمهم طرق الهداية، فمن سلكها فاز وسعد، ومن تنكبها خسر وشقى، هذا هو السر في إعادة ذكر الهبوط لا أنه أعيد للتأكيد كما زعموا.
__________
(1) تفسير المنار: 1/280.
(2) عقب محمد رشيد رضا على أستاذه في هذا بقوله: إن توبة آدم عليه السّلام بناء على تفسير القصة بحمل الكلام على الحقيقة قد كانت بالرجوع إلى الله واعترافه مع حواء بظلمهما لأنفسهما وطلبهما المغفرة والرحمة منه تعالى، لا بمجرد تدبر العقل ووزن الخير والشر بميزان الفكر الخ ما قاله شيخنا هنا تبعا لبعض علماء الاجتماع من المؤرخين، وقد بين هو في بحث الحاجة إلى الرسالة من رسالة التوحيد أن عقل البشر لا يستقل بوضع حدود للأعمال تنتهى إليها نزغات الشهوات؛ ويقف عندها سير الأهواء والرغبات، بل لا بد له من تشريع إلهى لذلك، ولكنه أوجز هنا فترك المسألة مبهمة مظلمة، وإننا نرى أن طور العقل والفكر قد بلغ في هذا العصر مرتقى لم يعرف في التاريخ ما يقربه، ووضع علماؤه وحكماؤه شرائع وقوانين لإيقاف التنازع والتخاصم عند حد لا يتفاقم شره، ثم نرى أعلم هذه الأمم ودولها مبعث الشرور والشقاوة، والخبث والرياء والحروب والفتن، فلا هداية إلا هداية الدين الإلهي الذي تذعن له الأنفس بمحض العبودية لله تعالى، تفسير المنار: 1/285.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).
1. ما أوردوه في هبوط آدم وحواء من الجنة ووصف ذلك، وقد نقلوا أكثره من الإسرائيليات التي لا يصح شيء منها عند النقدة من أهل العلم ورجال الدين.. ومثلها خلق حوّاء من ضلع آدم أخذا بظاهر قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾، ومن حديث أبى هريرة في الصحيحين من قوله، صلّى الله عليه وآله وسلّم: واستوصوا بالنساء خيرا فإنهنّ خلقن من ضلع أعوج)، ومما ورد في سفر التكوين في التوراة مبينا خلق آدم وحوّاء.
2. كثير من المفسرين قالوا إن المراد في الآيتين بقوله (منها) أي من جنسها ليوافق قوله في سورة الروم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ إذ المراد دون شك أنه خلق أزواجا من جنسكم، لا أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها.. أما الحديث فقد جاء على طريق تمثيل حال المرأة واعوجاج أخلاقها، باعوجاج الضلوع، ويؤيد هذا قوله آخر الحديث: وإن أعوج شيء في الضّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا)، فهو على حدّ قوله تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾
3. اختلفوا في الجنة التي أدخل إليها آدم عليه السلام:
أ. فمن قائل إنها دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، لسبق ذكرها في هذه السورة، وفي ظواهر السنة ما يدلّ عليه، فهي إذا في السماء حيث شاء الله منها.
ب. ومن قائل إنها جنة أخرى خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام، وكانت بستانا في الأرض بين فارس وكرمان، وقيل بفلسطين وليست هي الجنة المعروفة.
4. على القول بأنها جنة أخرى خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام جرى أبو حنيفة:
أ. وتبعه أبو منصور الماتريدي في تفسيره المسمى بالتأويلات، فقال: نحن نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين، أو غيضة من الغياض كان آدم وزوجه منعمين فيها، وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها، وهذا هو مذهب السلف ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل السنة وغيرهم.
ب. قال الآلوسي في تفسيره روح المعاني: ومما يؤيد هذا الرأي:
• أن الله خلق آدم في الأرض ليكون خليفة فيها هو وذريته، فالخلافة منهم مقصودة بالذات، فلا يصح أن يكون وجودهم فيها عقوبة عارضة.
• أنه تعالى لم يذكر أنه بعد خلق آدم في الأرض عرج به إلى السماء، ولو حصل لذكر لأنه أمر عظيم أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المتقون المؤمنون، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة.
• أنها دار للنعيم والراحة، لا دار للتكليف، وقد كلف آدم وزوجه ألا يأكلا من الشجرة.
• أنه لا يمنع من فيها من التمتع بما يريد منها.
• أنه لا يقع فيها العصيان والمخالفة لأنها دار طهر، لا دار رجس.
• وعلى الجملة فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها، ومنها أن عطاءها غير مجذوذ ولا مقطوع لا تنطبق على جنة آدم.
5. ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ أي كلا منها أكلا هنيئا من أي مكان شئتما.. أباح لهما الأكل كذلك إزاحة للعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها التي لا حصر لها.
6. لم يبين لنا ربنا هذه الشجرة، فلا نستطيع أن نعيّنها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع، ولأن المقصود يحصل بدون التعيين، ولكنا نقول إن النهى كان لحكمة كأن يكون في أكلها ضرر أو يكون ذلك ابتلاء من الله لآدم واختبارا له، ليظهر به ما في استعداد الإنسان من الميل إلى معرفة الأشياء واختبارها، ولو كان في ذلك معصية يترتب عليها ضرر.
7. وقوله: ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، أي لأنفسكما بالوقوع فيما يترتب على الأكل منها من المعصية، أو بنقصان حظوظكما بفعل ما يمنع الكرامة والنعيم، أو بتعدي حدود الله.
8. علق النهى بالقرب منها وهو مقدمة الأكل، تنبيها إلى أن القرب من الشيء يورث ميلا إليه يلهى القلب عما يوجبه العقل والشرع.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/94.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. أبيحت لهما كل ثمار الجنة.. إلا شجرة.. شجرة واحدة، ربما كانت ترمز للمحظور الذي لا بد منه في حياة الأرض، فبغير محظور لا تنبت الإرادة، ولا يتميز الإنسان المريد من الحيوان المسوق، ولا يمتحن صبر الإنسان على الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط، فالإرادة هي مفرق الطريق، والذين يستمتعون بلا إرادة هم من عالم البهيمة، ولو بدوا في شكل الآدميين!
2. لا بد من عودة إلى مطالع القصة، قصة البشرية الأولى.. لقد قال الله تعالى للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ .. وإذن فآدم مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى، ففيم إذن كانت تلك الشجرة المحرمة؟ وفيم إذن كان بلاء آدم؟ وفيم إذن كان الهبوط إلى الأرض، وهو مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى؟.. لعلني ألمح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعدادا، كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه، كانت تدريبا له على تلقي الغواية، وتذوق العاقبة، وتجرع الندامة، ومعرفة العدو، والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين.
3. إن قصة الشجرة المحرمة، ووسوسة الشيطان باللذة، ونسيان العهد بالمعصية، والصحوة من بعد السكرة، والندم وطلب المغفرة.. إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكرورة! لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته، مزودا بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلا، استعدادا للمعركة الدائبة وموعظة وتحذيرا.
4. وبعد.. مرة أخرى.. فأين كان هذا الذي كان؟ وما الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه حينا من الزمان؟.. ومن هم الملائكة؟ ومن هو إبليس؟.. كيف قال الله تعالى لهم؟ وكيف أجابوه؟.. هذا وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه؛ وعلم بحكمته أن لا جدوى للبشر في معرفة كنهه وطبيعته، فلم يهب لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به، بالأداة التي وهبهم إياها لخلافة الأرض، وليس من مستلزمان الخلافة أن نطلع على هذا الغيب، وبقدر ما سخر الله للإنسان من النواميس الكونية وعرّفه بأسرارها، بقدر ما حجب عنه أسرار الغيب، فيما لا جدوى له في معرفته، وما يزال الإنسان مثلا على الرغم من كل ما فتح له من الأسرار الكونية يجهل ما وراء اللحظة الحاضرة جهلا مطلقا، ولا يملك بأي أداة من أدوات المعرفة المتاحة له أن يعرف ماذا سيحدث له بعد لحظة، وهل النفس الذي خرج من فمه عائد أم هو آخر أنفاسه؟ وهذا مثل من الغيب المحجوب عن البشر، لأنه لا يدخل في مقتضيات الخلافة، بل ربما كان معوّقا لها لو كشف للإنسان عنه! وهنالك ألوان من مثل هذه الأسرار المحجوبة عن الإنسان، في طي الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.. ومن ثم لم يعد للعقل البشري أن يخوض فيه، لأنه لا يملك الوسيلة للوصول إلى شيء من أمره، وكل جهد يبذل في هذه المحاولة هو جهد ضائع، ذاهب سدى، بلا ثمرة ولا جدوى.
5. إذا كان العقل البشري لم يوهب الوسيلة للاطلاع على هذا الغيب المحجوب؛ فليس سبيله إذن أن يتبجح فينكر.. فالإنكار حكم يحتاج إلى المعرفة، والمعرفة هنا ليست من طبيعة العقل، وليست في طوق وسائله، ولا هي ضرورية له في وظيفته! إن الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر بالغ الخطورة، ولكن أضر منه وأخطر، التنكر للمجهول كله وإنكاره، واستبعاد الغيب لمجرد عدم القدرة على الإحاطة به.. إنها تكون نكسة إلى عالم الحيوان الذي يعيش في المحسوس وحده، ولا ينفذ من أسواره إلى الوجود الطليق.
6. لندع هذا الغيب إذن لصاحبه، وحسبنا ما يقص لنا عنه، بالقدر الذي يصلح لنا في حياتنا، ويصلح سرائرنا ومعاشنا، ولنأخذ من القصة ما تشير إليه من حقائق كونية وإنسانية، ومن تصور للوجود وارتباطاته، ومن إيحاء بطبيعة الإنسان وقيمه وموازينه.. فذلك وحده أنفع للبشرية وأهدى.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/59.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. يكاد يجمع المفسرون على أن الجنة التي كان فيها آدم، قبل المعصية، هي جنة واقعة وراء الحس، أي أنها من تلك الجنات السماوية، التي وعد المتقون بها في الآخرة، وقد أعان على هذا الفهم للجنة، أمور.. منها:
أ. ما وقع في التفكير الإسلامي من اختصاص آدم بهذا الخلق الذي انفرد به عن سائر المخلوقات.. مادة، وصفة!
ب. ما ورد في القرآن الكريم من وصف تلك الجنة، وما كان يلقاه فيها من راحة ونعيم: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾
ج. كثرة ذكر الجنة في القرآن الكريم، مرادا بها الجنة السماوية.
2. هذه الأمور لا تعطى حكما قاطعا بأن جنة آدم كانت جنة سماوية، ولا تدفع القول بأنها كانت جنة أرضية، من تلك الحدائق والغابات المبثوثة في بقاع شتى من الأرض، التي تخرج بطبيعتها من غير صنعة إنسان.
3. تلك العناصر التي مهدت للقول بأنها جنة سماوية، فيمكن فهمها فهما آخر:
أ. ما يقال من اختصاص آدم بخلق تفرّد به من بين المخلوقات ـ هذا القول لم تشهد له آيات القرآن الكريم، فآدم مخلوق أرضى، نبت في الأرض، كما نبتت سائر المخلوقات التي دبّت عليها.
ب. الوصف الذي وصفت به جنة آدم بأن ساكنها لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ ولا يضحى يمكن أن يتحقق في كثير من جنات الأرض، حيث يجد من يعيش فيها ما يكفى مطالب الحياة وضروراتها، خاصة وأن آدم ـ في هذا الطور من حياته ـ لم يكن قد عرف نفسه، ولم يكن قد تعرف على ما فيه من إرادة، وأنه لم يكتمل فيه الإنسان الذي ظهر بعد أن أكل من الشجرة ـ فمطالبه، والحال كذلك، لا تعدو مطالب الرجل البدائي من سكان الأدغال.. وكل هذا حاضر عتيد بين يديه، لا يتكلف له جهدا.
ج. إذا كانت الجنة السماوية قد ذكرت كثيرا في القرآن الكريم، في معرض الجزاء الأخروي للمتقين، فإن الجنة الأرضية قد ذكرت أيضا بهذا الاسم.. (جنّة) فقال تعالى: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾، وقال: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا﴾ .. إلى آيات كثيرة، ورد فيها ذكر الجنة على هذا المعنى.
4. سبق بعض قدماء المفسرين إلى القول بهذا الرأي الذي ربما أنكره، وفزع منه كثير من علماء القرن العشرين:
أ. فهذا أبو مسلم الأصفهاني، صاحب التفسير، الذي كان عمدة كثير من علماء المسلمين وفقهائهم ـ يقول عن جنة آدم: هي جنة من جنات الدنيا في الأرض..) ثم هو يجيب على الإشكال الذي يعترض به المعترضون في قوله تعالى لآدم وإبليس: ﴿اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ من أن هذا الهبوط يعنى نزولا من السماء إلى الأرض ـ يجيب على هذا الإشكال بقوله: إن قوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِنْهَا﴾ لا يقتضى كونها السماء، لأنه مثل قوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ .
ب. ويقول محمد إقبال عن تلك الجنة أيضا: ليس هناك من سبب لافتراض أن كلمة جنة أي (حديقة) استعملت في هذا السياق ـ سياق قصة آدم ـ للدلالة على جنة وراء الحسّ، يفترض أن الإنسان هبط منها إلى هذه الأرض)، ثم يقول: وطبقا للقرآن ـ وليس الإنسان غريبا عن هذه الأرض، إذ يقول الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾ ـ فالجنة التي ورد ذكرها في القصة لا يمكن أن يقصد بها الجنة التي جعلها الله مقاما خالدا للمتقين)، ثم يقول: وعلى هذا، فأنا أميل إلى اعتبار الجنة التي جاء ذكرها في القرآن تصويرا لحالة بدائية، يكاد يكون الإنسان فيها مقطوع الصلة بالبيئة التي يعيش فيها، ومن ثمّ فإنه لا يحسّ بلذعة المطالب البشرية، التي تحدد نشأتها ـ دون سواها من العوامل ـ بداية الثقافة الإنسانية)
5. نهى الله سبحانه وتعالى آدم عن أن يقرب شجرة من أشجار تلك الجنة التي أسكنه فيها، وأباح له الأكل رغدا من ثمارها.
6. هذه الشجرة لم يعرض القرآن لبيان نوعها، ولهذا فهي ـ في محيط القرآن ـ غير معروفة النوع ولا الصفة، وإن كانت معروفة لآدم، حيث أشار إليها الحق سبحانه وتعالى، إشارة كاشفة، حين نهاه وزوجه عنها، بقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾
7. وصف إبليس هذه الشجرة لآدم وحواء، وصفا كاشفا لها، وللمعطيات التي ضمّت عليها، وفى هذا يقول الله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾، ويقول سبحانه: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ وهذه الأوصاف التي خلعها إبليس على تلك الشجرة لا تلتقى مع الواقع، ولا تحدّث عن الحق، وإنما هي من تلفيقات إبليس وأكاذيبه، ليخدع بها ويغرى، ومع ذلك فإن المفسّرين والقصاص، قد ذهبوا في الحديث عن الشجرة ونوعها كل مذهب، مستندين في هذا إلى بعض الروايات المعزوّة إلى بعض الصحابة والتابعين، لتكتسب شيئا من الاحترام والقبول، وهى في حقيقتها إسرائيليات، وأساطير، وخرافات:
أ. فالشجرة، هي (السنبلة) فيما يروى عن ابن عباس.
ب. وهى (الكرمة) فيما يروى عن ابن مسعود، والسّدّىّ.
ج. وهى (التينة) عن ابن جريج.
د. وهى شجرة (الكافور).. عن علىّ بن أبى طالب.
هـ. وهى شجرة (العلم) علم الخير والشر، عن الكلبي.
و. وهى شجرة (الخلد) التي كانت تأكل منها الملائكة.. عن ابن جدعان.
وبعيد أن يكون لهذه المقولات مستند صحيح من كتاب أو سنة، وإلا لما كان بينها هذا الاختلاف البعيد، في حقيقة واحدة!
8. القرآن الكريم، إذ وقف بالشجرة دون أن يحدّد نوعها، فإنما ذلك لأنها معروفة معهودة لآدم ولزوجه، ثم إن عدم تحديد نوعها في الحديث عنها إلينا، لا يمنع أن يكون للشجرة مفهوم خاص عندنا، وإن لم يدخل فيه نوعها.. أيّا كان! فلنحاول فهم الشجرة على أنها مجرد شجرة، ليس لها صفة خاصة تمتاز بها، عن الأشجار التي معها، إلا في تحديد ذاتها بالإشارة إليها! فلتكن هذه الشجرة ما تكون.. شجرة كرم، أو تين، أو كافور، بين العديد من مثيلاتها، إلّا أن النهى والتحريم وقع عليها، دون غيرها.
9. هذا التحريم لشجرة بعينها، إنما هو امتحان لآدم وابتلاء لعزيمته، أمام الإغراء، وحبّ الاستطلاع، الذي هو غريزة قوية عاملة فيه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ وننظر، فنجد غريزة حب الاستطلاع أقوى غريزة متمكنة في طفولة الإنسانية بنوع خاص، كما هي متحكمة في طفولة الأطفال! وطفولة الإنسانية كلها مندسة في كيان (آدم).. أول تباشير النوع البشرى في هذا الوجود!
10. هذا النهى الذي تلقاه آدم من ربّه، عن الاقتراب من تلك الشجرة خاصة دون مثيلاتها وقع من نفس آدم موقعين:
أ. موقع الخوف من الجهة التي ألقت إليه بهذا النهى، والحذر من أن يخالف ما نهى عنه.
ب. الرغبة الصارخة في مداناة هذه الشجرة، والتعرف عليها، وعلى ما يكمن فيها، استجابة لغريزة حبّ الاستطلاع التي ألهبها هذا النهى، وأيقظها في كيانه.
11. إلى جانب هذه الرغبة الصارخة إلى مقاربة الشجرة، كانت وسوسة إبليس لآدم، وإغراؤه له، الأمر الذي عجّل بخطوات آدم إلى الشجرة، وسيره حثيثا إليها.
12. لو لم يقم إبليس من وراء آدم، يغريه بالشجرة، ويدفعه إليها، لسار إليها وحده، ولبلغها، ولأكل منها! ولكن لا يكون هذا إلا بعد زمن متراخ عن هذا الوقت الذي اقترب فيه بالفعل من الشجرة، وأكل منها! هكذا الإنسان، وهكذا الناس، يتحدّون كل سلطان يقيد نوازعهم، ويتسلط على إرادتهم، ولو كان ذلك لخيرهم وإسعادهم.
13. يشير إلى هذا قوله تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ وقوله: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ فهما تكملان الصورة التي خلق عليها آدم، وأن إغراء إبليس له قد عجل بظهور الإنسان في آدم، وفى إنضاج ثمرته قبل أوانها!
14. منذ انتهى آدم إلى الشجرة، وذاق من ثمرها، بعد هذا الصراع العنيف بينه وبين نفسه ـ أدرك أنه جنى جناية غليظة، كما أدرك أنه سيلقى جزاء ما اقترف.. وهنا يتنبه إلى وجوده، فيرى أنه مخلوق ذو إرادة، يستطيع بها أن يزن أموره، وأن يتقدم أو يتأخر، بوحي من ذاته، وأنه لم يعد شيئا من أشياء الوجود التي لا تشارك في نسج حياتها، وفى صنع قدرها.
15. هنا يتنبه إلى أنه عار مكشوف العورة كالحيوانات السائمة، الأمر الذي لم يكن يراه من قبل، أو ينكره، ثم لم يكن في مقدور عقله وحيلته ـ بعد أن عرف أنه عريان ـ أن يسعفاه بأكثر من ورق الشجر، ليستر به سوأته.. تماما كما يفعل الآدميون من سكان الأدغال، حين ينتقلون من طور العرى الخالص إلى طور التستر بأوراق الشجر.. إنهم هم (آدم) وإن تأخر بهم الزمن آلاف السنين أو ملايينها!
16. يقول الفيلسوف المسلم (محمد إقبال): فالمعصية الأولى للإنسان، كانت أول فعل له، تتمثل فيه حرية الاختيار، ولهذا تاب الله على آدم، كما جاء في القرآن، وغفر له.. وعمل الخير لا يمكن أن يكون قسرا، بل هو خضوع عن طواعية للمثل الأخلاقي الأعلى، خضوعا ينشأ عن تعاون النظرات الحرة المختارة، عن رغبة ورضى!.. والكائن الذي قدّرت عليه حركاته كلها، كما قدّرت حركات الآلة، لا يقدر على فعل الخير!.. وعلى هذا، فإن الحرية شرط في عمل الخير، ولكن السّماح بظهور ذات متناهية لها القدرة على أن تختار ما تفعل، بعد تقدير القيم النسبية للأفعال الممكنة لها ـ هو في الحق مغامرة كبرى، لأن حرية اختيار الخير، تتضمن كذلك اختيار عكسه!)
17. ينهى إقبال هذا الموقف بقوله: ربما كانت مغامرة كهذه هي وحدها التي تيسر الابتلاء والتنمية للقوى الممكنة لوجود خلق: على أحسن تقويم) ثم رددناه: ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ وكما يقول القرآن: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ .. وهذا كلام واضح مشرق، لا يحتاج إلى تعليق، أو توضيح.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/75.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ عطف على ﴿قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا﴾ [البقرة: 34] أي بعد أن انقضى ذلك قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وهذه تكرمة أكرم الله بها آدم بعد أن أكرمه بكرامة الإجلال من تلقاء الملائكة.
2. نداء آدم قبل تخويله سكنى الجنة نداء تنويه بذكر اسمه بين الملإ الأعلى، لأن نداءه يسترعي إسماع أهل الملإ الأعلى فيتطلعون لما سيخاطب به، وينتزع من هذه الآية أن العالم جدير بالإكرام بالعيش الهنيء، كما أخذ من التي قبلها أنه جدير بالتعظيم.
3. الأمر بقوله: ﴿اسْكُنْ﴾ مستعمل في الامتنان بالتمكين والتخويل وليس أمرا له بأن يسعى بنفسه لسكنى الجنة إذ لا قدرة له على ذلك السعي فلا يكلف به.
4. ضمير (أنت) واقع لأجل عطف ﴿وَزَوْجُكَ﴾ على الضمير المستتر في ﴿اسْكُنْ﴾ وهو استعمال العربية عند عطف اسم، على ضمير متصل مرفوع المحل لا يكادون يتركونه، يقصدون بذلك زيادة إيضاح المعطوف فتحصل فائدة تقرير مدلول المعطوف لئلا يكون تابعه المعطوف عليه أبرز منه في الكلام، فليس الفصل بمثل هذا الضمير مقيدا تأكيدا للنسبة لأن الإتيان بالضمير لازم لا خيرة للمتكلم فيه فلا يكون مقتضى حال ولا يعرف السامع أن المتكلم مريد به تأكيدا ولكنه لا يخلو من حصول تقرير معنى المضمر وهو ما أشار إليه في (الكشاف) بمجموع قوله: وأنت تأكيد للضمير المستكن ليصح العطف عليه.
5. الأمر في ﴿اسْكُنْ﴾ أمر إعطاء أي جعل الله آدم هو وزوجه في الجنة، والسكنى اتخاذ المكان مقرا لغالب أحوال الإنسان.
6. الزوج كل شيء ثان مع شيء آخر بينهما تقارن في حال ما، ويظهر أنه اسم جامد لأن جميع تصاريفه في الكلام ملاحظ فيها معنى كونه ثاني اثنين أو مماثل غيره، فكل واحد من اثنين مقترنين في حال ما يسمى زوجا للآخر قال تعالى: ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾ [الشورى: 50] أي يجعل لأحد الطفلين زوجا له أي سواه من غير صنفه، وقريب من هذا الاستعمال استعمال لفظ شفع.
7. سميت الأنثى القرينة للرجل بنكاح زوجا لأنها اقترنت به وصيرته ثانيا، ويسمى الرجل زوجا لها لذلك بلا فرق، فمن ثم لا يقال للمرأة زوجة بهاء تأنيث لأنه اسم وليس بوصفه، وقد لحنوا الفرزدق في قوله:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي... كساع إلى أسد الثرى يستبيلها
8. تسامح الفقهاء في إلحاق علامة التأنيث للزوج إذا أرادوا به امرأة الرجل لقصد نفي الالتباس في تقرير الأحكام في كتبهم في مثل قولهم: القول قول الزوج، أو القول قول الزوجة وهو صنيع حسن، وعن أنس بن مالك (أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يحدث إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه يا فلان فجاء فقال له: هذه زوجتي فلانة) الحديث، فقوله: زوجتي بالتاء فتعين كونه من عبارة راوي الحديث في السند إلى أنس وليست بعبارة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
9. طوى في هذه الآية خلق زوج آدم، وقد ذكر في آيات أخرى كقوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: 1]
10. لم يرد اسم زوج آدم في القرآن واسمها عند العرب حواء، وورد ذكر اسمها في حديث رواه ابن سعد في (طبقاته) عن خالد بن خداش عن ابن وهب يبلغ به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: الناس لآدم وحواء كطف لصاع لن يملئوه) الحديث (طف المكيال ـ بفتح الطاء وكسرها ـ ما قرب من ملئه) أي هم لا يبغون الكمال فإن كل كمال من البشر قابل للزيادة، وخالد بن خداش بصري وثقه ابن معين وأبو حاتم وسليمان بن حرب وضعفه ابن المديني.
11. اسم زوج آدم عند العرب حواء، واسمها في العبرانية مضطرب فيه، ففي سفر التكوين في الإصحاح الثاني أن اسمها امرأة سماها كذلك آدم، قال لأنها من امرئ أخذت، وفي الإصحاح الثالث أن آدم دعا اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي، وقال ابن سعد نام آدم فخلقت حواء من ضلعه فاستيقظ ووجدها عنده فقال: أثا أي امرأة بالنبطية، أي اسمها بالنبطية المرأة كما سماها آدم، وقد تقدم عند قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ﴾ [البقرة: 31] أن آدم دعا نفسه، إيش، فلعل أثا محرقة عن إشّا، واسمها بالعبرية (خمواه) بالخاء المعجمة وبهاء بعد الألف ويقال أيضا حيوا بحاء مهملة وألف في آخره فصارت بالعربية حواء وصارت في الطليانية إيپا وفي الفرنسية أيپ، وفي التوراة أن حواء خلقت في الجنة بعد أن أسكن آدم في الجنة وأن الله خلقها لتؤنسه قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: 189] أي يأنس.
12. الجنة قطعة من الأرض فيها الأشجار المثمرة والمياه وهي أحسن مقر للإنسان إذا لفحه حر الشمس ويأكل من ثمره إذا جاع ويشرب من المياه التي يشرب منها الشجر ويروقه منظر ذلك كله، فالجنة تجمع ما تطمح إليه طبيعة الإنسان من اللذات.
13. تعريف (الجنة) تعريف العهد وهي جنة معهودة لآدم يشاهدها إذا كان التعريف في (الجنة) حكاية لما يرادفه فيما خوطب به آدم، أو أريد بها المعهود لنا إذا كانت حكاية قول الله لنا بالمعنى وذلك جائز في حكاية القول.
14. اختلف علماء الإسلام في تعيين هذه الجنة:
أ. فالذي ذهب إليه جمهور السلف أنها جنة الخلد التي وعد الله المؤمنين والمصدقين رسله وجزموا بأنها موجودة في العالم العلوي عالم الغيب أي في السماء وأنها أعدها الله لأهل الخير بعد القيامة وهذا الذي تقلده أهل السنة من علماء الكلام وأبو علي الجبائي، وهو الذي تشهد به ظواهر الآيات والأخبار المروية عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا تعدو أنها ظواهر كثيرة لكنها تفيد غلبة الظن وليس لهذه القضية تأثير في العقيدة.
ب. وذهب أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بحر وأبو القاسم البلخي والمعتزلة عدا الجبائي إلى أنها جنة في الأرض خلقها الله لإسكان آدم وزوجه.
15. الذين ذكروا أنها جنة في الأرض خلقها الله لإسكان آدم وزوجه، ذكروا أنها بستان في فلسطين أو هو بين فارس وكرمان، وهذا ناشئ عن تطلبهم تعيين المكان الذي ذكر ما يسمى في التوراة باسم عدن، ففي التوراة في الإصحاح الثاني من سفر التكوين: وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها ـ ثم قالت ـ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها)، وهذا يقتضي أن جنة عدن ليست في الأرض لكن الذي عليه شراح التوراة أن جنة عدن في الأرض وهو ظاهر وصف نهر هذه الجنة الذي يسقيها بأنه نهر يخرج من عدن فيسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس اسم الواحد (قيشون) وهو المحيط بجميع أرض الحويلة وهم من بني كوش كما في الإصحاح من التكوين واسم النهر الثاني (جيحون) وهو المحيط بجميع أرض كوش، واسم النهر الثالث (حدّا قل) وهو الجاري شرق أشور (دجلة)، والنهر الرابع الفرات.
16. جاء في كتاب عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهوديا وأسلم وألف كتابا في الرد على اليهود سماه (الحسام المحدود في الرد على اليهود) كتبه بغيدن وضبطه بالعلامات بكسر الغين المعجمة وكسر الدال المهملة ولعل النقطة على حرف العين سهو من الناسخ فذلك هو منشأ قول القائلين أنها بعدن أو بفلسطين أو بين فارس وكرمان، والذي ألجأهم إلى ذلك أن جنة الثواب دار كمال لا يناسب أن يحصل فيها العصيان وأنها دار خلد لا يخرج ساكنها، وهو التجاء بلا ملجئ لأن ذلك من أحوال سكان الجنة لا لتأثير المكان وكلّه جعل الله تعالى عندما أراده.
17. احتج الذين ذكروا أنها جنة الخلد التي وعد الله المؤمنين بأن أل في (الجنة) للعهد الخارجي ولا معهود غيرها، وإنما تعين كونها للعهد الخارجي لعدم صحة الحمل على الجنس بأنواعه الثلاثة، إذ لا معنى للحمل على أنها لام الحقيقة لأنها قد نيط بها فعل السكنى، ولا معنى لتعلقه بالحقيقة بخلاف نحو الرجل خير من المرأة، ولا معنى للحمل على العهد الذهني إذ الفرد من الحقيقة هنا مقصود معين لأن الأمر بالإسكان جزاء وإكرام فلا بد أن يكون متعلقا بجنة معروفة، ولا معنى للحمل على الاستغراق لظهور ذلك، ولما كان المقصود هو الجزاء تعين أن يكون متعلقا بأمر معين معهود ولا معهود إلا الجنة المعروفة لا سيما وهو اصطلاح الشرع.
18. قد يقال: يختار أن اللام للعهد ولعل المعهود لآدم هو جنة في الأرض معينة أشير إليها بتعريف العهد ولذلك نختار أن قوله تعالى: ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ لما كان المقصود منه القصص لنا حكي بالألفاظ المتعارفة لدينا ترجمة لألفاظ اللغة التي خوطب بها آدم أو عن الإلهام الذي ألقي إلى آدم فيكون تعريف (الجنة) منظورا فيه إلى متعارفنا، فيكون آدم قد عرف المراد من مسكنه بطريق آخر غير التعريف، ويكون قد حكي لنا ذلك بطريقة التعريف لأن لفظ الجنة المقترن في كلامنا بلام التعريف يدل على عين ما دل عليه الطريق الآخر الذي عرف به آدم مراد الله تعالى، أي قلنا له اسكن البقعة التي تسمونها أنتم اليوم بالجنة.
19. الحاصل أن الأظهر أن الجنة التي أسكنها آدم هي الجنة المعدودة دارا لجزاء المحسنين.
20. معنى الأكل من الجنة من ثمرها لأن الجنة تستلزم ثمارا وهي مما يقصد بالأكل، ولذلك تجعل (من) تبعيضية بتنزيل بعض ما يحويه المكان منزلة بعض لذلك المكان.
21. يجوز أن تكون (من) ابتدائية إشارة إلى أن الأكل المأذون فيه أكل ما تثمره تلك الجنة كقولك هذا الثّمر من خيبر.
22. الرغد وصف لموصوف دل عليه السياق أي أكلا رغدا، والرغد الهنيء الذي لا عناء فيه ولا تقتير.
23. قوله: ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ ظرف مكان أي من أي مواضع أردتما الأكل منها، ولما كانت مشيئتهما لا تنحصر بمواضع استفيد العموم في الإذن بطريق اللزوم.
24. في جعل الأكل من الثمر من أحوال آدم وزوجه بين إنشائها تنبيه على أن الله جعل الاقتيات جبلة للإنسان لا تدوم حياته إلا به.
25. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ يعني به ولا تأكلا من الشجرة، لأن قربانها إنما هو لقصد الأكل منها، فالنهي عن القربان أبلغ من النهي عن الأكل لأن القرب من الشيء ينشئ داعية وميلا إليه، ففيه الحديث (من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه)
26. قال ابن العربي: سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول: إذا قيل لا تقرب (بفتح الراء) كان معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا قيل بضم الراء كان معناه لا تدن منه)، وهو غريب فإن قرب وقرب نحو كرم وسمع بمعنى دنا، فسواء ضممت الراء أو فتحتها في المضارع، فالمراد النهي عن الدنو إلا أن الدنو بعضه مجازي، وهو التلبس، وبعضه حقيقي، ولا يكون للمجازي وزن خاص في الأفعال وإلا لصار من المشترك لا من الحقيقة والمجاز، اللهم إلا أن يكون الاستعمال خص المجازي ببعض التصاريف فتكون تلك الزنة قرينة لفظية للمجاز، وذلك حسن، وهو من محاسن فروق استعمال الألفاظ المترادفة في اللغة العربية مثل تخصيص بعد مكسور العين بالانقطاع التام، وبعد مضموم العين بالتنحّي عن المكان، ولذلك خص الدعاء بالمكسور في قولهم للمسافر لا تبعد، قالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية:
إخوتي لا تبعدوا أبدا... وبلى والله قد بعدوا
27. في تعليق النهي بقربان الشجرة إشارة إلى منزع سد الذرائع وهو أصل من أصول مذهب مالك، وفيه تفصيل مقرر في أصول الفقه.
28. الإشارة بهذه إلى شجرة مرئية لآدم وزوجه، والمراد شجرة من نوعها أو كانت شجرة وحيدة في الجنة.
29. اختلف أهل القصص في تعيين نوع هذه الشجرة:
أ. عن علي وابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي أنها الكرمة.
ب. عن ابن عباس والحسن وجمهور المفسرين أنها الحنطة.
ج. عن قتادة وابن جريج ونسبه ابن جريج إلى جمع من الصحابة أنها شجرة التين.
د. وقع في سفر التكوين من التوراة إبهامها وعبر عنها بشجرة معرفة الخير والشر.
30. قوله: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي من المعتدين وأشهر معاني الظلم في استعمال العرب هو الاعتداء، والاعتداء:
أ. إما اعتداء على نهي الناهي إن كان المقصود من النهي الجزم بالترك.
ب. وإما اعتداء على النفس والفضيلة إن كان المقصود من النهي عن الأكل من الشجرة بقاء فضيلة التنعم لآدم في الجنة.
31. على الأول الظلم لأنفسهما بارتكاب غضب الله وعقابه، وعلى الثاني الظلم لأنفسهما بحرمانها من دوام الكرامة.
32. التعبير بتاب عليه هنا مشعر بأن أكل آدم من الشجرة خطيئة إثم غير أن الخطيئة يومئذ لم يكن مرتبا عليها جزاء عقاب أخروي، ولا نقص في الدين، ولكنها أوجبت تأديبا عاجلا لأن الإنسان يومئذ في طور كطور الصبا، فلذلك لم يكن ارتكابها بقادح في نبوءة آدم، على أنها لا يظهر أن تعد من الكبائر، بل قصارها أن تكون من الصغائر، إذ ليس فيها معنى يؤذن بقلة اكتراث بالأمر، ولا يترتب عليه فساد.
33. 34. في عصمة الأنبياء من الصغائر خلاف بين أصحاب الأشعري وبين الماتريدي وهي في كتب الكلام، على أن نبوءة آدم فيما يظهر كانت بعد النزول إلى الأرض فلم تكن له عصمة قبل ذلك إذ العصمة عند النبوءة.. وعندي ـ وبعضه مأخوذ من كلامهم ـ أن ذلك العالم لم يكن عالم تكليف بالمعنى المتعارف عند أهل الشرائع بل عالم تربية فقط فتكون خطيئة آدم ومعصيته مخالفة تأديبية ولذلك كان الجزاء عليها جاريا على طريقة العقوبات التأديبية بالحرمان مما جره إلى المعصية، فإطلاق المعصية والتوبة وظلم النفس على جميع ذلك هو بغير المعنى الشرعي المعروف بل هي معصية كبيرة وتوبة بمعنى الندم والرجوع إلى التزام حسن السلوك، وتوبة الله عليه بمعنى الرضى لا بمعنى غفران الذنوب، وظلم النفس بمعنى التسبب في حرمانها من لذات كثيرة بسبب لذة قليلة فهو قد خالف ما كان ينبغي أن لا يخالفه ويدل لذلك قوله بعد ذلك: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ إلى قوله ﴿خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 38، 39] فإنه هو الذي بين به لهم أن المعصية بعد ذلك اليوم جزاؤها جهنم فأورد عليّ بعض الحذاق من طلبة الدرس أنه إذا لم يكن العالم عالم تكليف فكيف كفر إبليس باعتراضه وامتناعه من السجود؟ فأجبته بأن دلالة ألوهية الله تعالى في ذلك العالم حاصلة بالمشاهدة حصولا أقوى من كل دلالة زيادة على دلالة العقل لأن إبليس شاهد بالحس الدلائل على تفرده تعالى بالألوهية والخلق والتصرف المطلق وبعلمه وحكمته واتصافه بصفات الكمال كما حصل العلم بمثله للملائكة فكان اعتراضه على فعله والتغليط إنكارا لمقتضى تلك الصفات فكان مخالفة لدلائل الإيمان فكفر به، وأما الأمر والنهي والطاعة والمعصية وجزاء ذلك فلا يتلقى إلا بالإخبارات الشرعية وهي لم تحصل يومئذ وإنما حصلت بقوله تعالى لهم: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ الآية فظهر الفرق.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/414.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لم يذكر سبحانه وتعالى اسم زوجه، ولكنا علمنا من مصادر أخرى أنها حواء، وأنه خلقها من نفس آدم، أو من جنس خلقه، فقد قال تعالى في سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء]، فحواء زوجة آدم من نفس خلقه أو خلقها الله تعالى من جنس نفسه.
2. بعد أن خلق الله تعالى آدم، قال الله سبحانه آمرا آدم، وكان قد خلق معه زوجه: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾
3. لم يذكر الله سبحانه مكان هذه الجنة، ولا حقيقتها، أهى في السماء أم في الأرض، أهى الجنة التي تكون جنة الخلد، أم هي حديقة في الأرض، ومهما يكن فإنها جنة فيها رغد العيش وسعته.
4. أمر الله آدم أن يكون هو وزوجه في الجنة ساكنين، وأن يأكلا منها موسعين على أنفسهما غير مضيقين، يأكلان رغدا أي من غير انقطاع.
5. لم يذكر الله تعالى هذه الشجرة، ولكنه وإن لم يبينها لنا كانت معلومة عند آدم وزوجه؛ ولذلك كان إغراء آدم من شجرة معينة.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/199.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. من الشائع ان حواء خلقت من ضلع آدم.. ولا مصدر صحيح لهذه الاشاعة.. والخبر الذي جاء به غير معتمد، وعلى تقدير صحته فان المراد منه الاشارة الى المساواة وعدم الفرق بين الرجل والمرأة، وانها منه، وهو منها.. بل عن كتاب (ما لا يحضره الفقيه) ان الإمام الصادق عليه السلام حين سئل عن صحة هذه الاشاعة استنكرها، وقال: تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. هل عجز الله أن يخلق لآدم زوجة من غير ضلعه.. حتى ينكح بعضه بعضا.
2. قد تعرض كثير من المفسرين الى الجنة التي خرج منها: ما هي حقيقتها؟ وأين كانت؟ وإلى الشجرة: هل هي التين أو القمح؟ وعن الحية التي دخل إبليس في جوفها، وعن المكان الذي هبط عليه آدم: هل هو الهند أو الحجاز؟ إلى غير ذلك مما جاء في الاسرائيليات، ولم يشر اليه القرآن الكريم، ولا ثبت في السنة النبوية بالطريق الصحيح، ولا يملك العقل معرفة شيء منها، ولا تتصل بالحياة من قريب أو بعيد.
3. اقتضت حكمة الله سبحانه أن يمكث آدم وزوجه في الجنة بعض الوقت، ثم يخرجا منها لسبب، هما اللذان أوجداه، وأخذا به بملء ارادتهما واختيارهما، ولولا ذلك لبقيا في الجنة الى الأبد ينعمان فيها من غير كد وعناء.
4. أيضا اقتضت حكمته تعالى أن يستقر آدم وحواء في هذا الأرض الى حين يتناسلان ويكدحان وكذلك النسل والذرية، وفي الوقت نفسه يسأل الجميع عما يأتون من أقوال وأفعال.. كما اقتضت حكمته تعالى أن يعود آدم وزوجه الى الجنة بعد الموت، ويخلدا فيها إلى ما لا نهاية.
5. سؤال وإشكال: ما هي الحكمة من دخول آدم الجنة، ثم الخروج منها الى الأرض، ثم خروجه وعودته ثانية الى الجنة بعد الموت؟ والجواب: ربما كانت الحكمة أن يمر آدم بتجربة ينتفع بها، ويستفيد منها هو وأبناؤه من بعده، وان يعود الى هذه الأرض مزودا بهذه التجربة المفيدة النافعة، وأعني بها ان الإنسان لا يستطيع أبدا أن يعيش في فوضى، وكما يريد من غير مقاييس ومعايير، وان من راعاها مالكا لإرادته غير مندفع مع ميوله عاش في هناء وسعادة لا تحديد لها ولا نهاية، وان من استخف بالقيم وضعف أمام شهوته أصاب ما أصاب آدم من العناء والندم، وابتلي بالمشقة والمصاعب.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/86.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في تفسير القمّي عن أبيه رفعه، قال سئل الصادق عليه السلام عن جنّة آدم، أمن جنان الدنيا كانت، أم من جنان الآخرة؟ فقال عليه السلام: كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا، وأباحها له إلّا الشجرة، لأنّه خلق خلقة لا تبقى إلّا بالأمر والنهي والغذاء واللباس والاكتنان والنكاح، ولا يدرك ما ينفعه ممّا يضرّه إلّا بالتوفيق، فجاءه إبليس فقال له: إنّكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها، صرتما ملكين وبقيتما في الجنّة أبدا، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنّة، وحلف لهما أنّه لهما ناصح، كما قال الله ـ عزّ وجلّ ـ حكاية عنه: ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾، فقبل آدم قوله، فأكلا من الشجرة، فكان كما حكى الله: ﴿فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾ وسقط عنهما ما ألبسهما الله من لباس الجنّة، وأقبلا يستتران من ورق الجنّة ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ فقالا كما حكى الله عنهما: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ فقال الله لهما: ﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ قال أي يوم القيامة، قوله: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ قال فهبط آدم على الصفا، وإنّما سمّيت الصفا لأنّ صفيّ كاذبا)، وفي كون جنّة آدم من جنان الدنيا روايات أخر، وإن اتّحد بعضها مع هذه الرواية في إبراهيم بن هاشم.
2. المراد من كونها من جنان الدنيا: كونها برزخيّة في مقابل جنان الخلد، كما يشير إليه بعض فقرات الرواية، كقوله فيها: إنّ نبيّ الله انزل على الصفا وإنّ حوّاء انزلت على المروة)، وكقوله: إنّ المراد بحين يوم القيامة)، فيكون المكث في البرزخ وجنّة مكثا في الأرض، ويدلّ عليه ـ أيضا ـ ما ورد من الروايات: إنّ آدم إنّما هبط من السماء)، وجلّ آيات البعث في القرآن تعدّ الحياة البرزخيّة لبثا في الأرض.
3. قوله تعالى: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا﴾ الرغد الهناء وطيب العيش وأرغد القوم مواشيهم تركوها ترعى كيف شاءت، وقوم رغد، ونساء رغد، أي ذوو عيش رغيد.
4. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ وكأن النهي إنما كان عن أكل الثمرة وإنما تعلق بالقرب من الشجرة إيذانا بشدة النهي ومبالغة في التأكيد ويشهد بذلك قوله تعالى ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾، وقوله تعالى: ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾، فكانت المخالفة بالأكل فهو المنهي عنه بقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبَا﴾
5. قوله تعالى: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، من الظلم لا من الظلمة على ما احتمله بعضهم وقد اعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا﴾ إلا أنه تعالى بدل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ من قوله ﴿فَتَشْقَى﴾ والشقاء هو التعب ثم فسر التعب وفصله، فقال: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾
6. من هنا يظهر أن وبال هذا الظلم إنما كان هو الوقوع في تعب حياة هذه الدنيا من جوع وعطش وعراء وعناء، وعلى هذا فالظلم منهما إنما هو ظلمهما لأنفسهما، لا بمعنى المعصية المصطلحة والظلم على الله سبحانه.
7. من هنا يظهر أيضا أن هذا النهي أعني قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبَا﴾، إنما كان نهيا تنزيهيا إرشاديا يرشد به إلى ما فيه خير المكلف وصلاحه في مقام النصح لا نهيا مولويا.. فهما إنما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على أن جزاء المخالفة للنهي المولوي التكليفي يتبدل بالتوبة إذا قبلت ولم يتبدل في موردهما، فإنهما تابا وقبلت توبتهما ولم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنة ولولا أن التكليف إرشادي ليس له إلا التبعة التكوينية دون التشريعية لاستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب وسيأتي لهذا الكلام بقية فيما سيأتي إن شاء الله.
__________
(1) تفسير البيان: 1/123.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ بالمعصية؛ لأن معصية العبد لمالكه المنعم عليه حيف وجور ضد العدل، فهو ظلم بهذا المعنى، وإن لم يكن ضراً على الله سبحانه وتعالى بل ضره على العبد فيقال: ظلم نفسه من حيث أن ضره عليه، لا لأنه مفهوم الظلم هنا.
2. مثله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13] معناه: شديد الحيف والجور والتعدي؛ لأن الله هو الخالق المنعم بالنعم التي لا نحصيها، فهو المستحق للعبادة، فصرفها لغيره حيف وجور شديد.
3. ليس المراد أن الإنسان لا يظلم نفسه بالمعاصي، وإنما المراد أن ذلك معنى الظلم في هذا السياق، وأمثاله مما يراد به تحقيق الوقوع في المعصية كما أن ظلم الإنسان نفسه المراد في نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف: 76] أو هو من معناها.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/94.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الظاهر أن المراد بها جنّة الخلد لأن الألف واللام للتعريف وقد صارا كالعلم عليها، وهناك من قال بأنها جنّة من جنات السماء غير جنة الخلد، لأن جنة الخلد أكلها دائم ولا تكليف فيها، وقال أبو مسلم: هي جنة من جنان الدنيا في الأرض، وقال: إن قوله: ﴿اهْبِطُوا مِنْهَا﴾، لا يقتضي كونها في السماء، لأنه مثل قوله: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾
2. هذان القولان لا يرتكزان على قاعدة ثابتة، لأن الأساس فيهما هو امتناع أن تكون هي الجنة الموعودة، باعتبار أنها التي لا يخرج منها الداخل فيها، ولكن لا دليل على ذلك، لأن هذا شأن الذي يدخل الجنة بعد انقضاء مدة العمل في الدنيا وبعثه بعد الموت في الآخرة، وليس مثل مسألة آدم الذي أدخله الله الجنة ليعيش التجربة الصعبة فيها، وليتعرف قيمتها في خط العمل، ليعمل لها في المستقبل، ولتكون هدف أولاده من بعده في السعي الحثيث إليها من خلال الإيمان والعمل، وربما نستوحي ذلك من قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: 27]، فقد يكون المراد هو التحذير من فتنة الشيطان لبني آدم حتى لا يبعدهم عن الجنة كما أبعد أبويهم عنها.
3. جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه سئل عن جنة آدم فقال: كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا)، فإذا صحّ هذا الحديث كان هو الحجّة على المدّعى.
4. ﴿الْجنَّةِ﴾ هل هي الجنة التي وعد الله بها المتقين، أم هي جنة أخرى من جنان الأرض مشابهة للجنة الموعودة؟ لا نريد أن نخوض في الجدل الذي وقع فيه المفسرون، لأن ذلك لا يتصل بالفكرة الأساسية للتفسير.
5. الأقرب لجو الآيات التي تحدث فيها القرآن عن الجنة أن تكون هي نفسها الجنة الموعودة، وقد يسبق إلى الذهن أنها غيرها، لأن جنة الله تمثل الطهر كله، في التفكير، وفي الممارسة، وفي الجو العام، فلا مجال فيها للانحراف، ولا مجال فيها للخطيئة، ولكننا نحسب أن ذلك لا يمنع أن تكون جنة آدم هي الجنة، لأن قضية آدم تمثّل تجربة تدريبية في ضمن الجو الذي أريد له أن يعيش فيه مع أولاده من خلال العمل الصالح، فلا يتنافى ذلك مع الأجواء العامة الطبيعية التي أرادها الله للجنة كدار للثواب وللنعيم الخالد.
6. ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ في عيش هنيّ طيب واسع لا نفاد له ولا عناء فيه، فليست هناك شجرة محرّمة في كل أشجار الجنة، وليس هناك موقع ممنوع عنكم فيها.
7. ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ أي: لا تأكلا منها ـ على سبيل الكناية ـ باعتبار أن المطلوب بالقرب منها، هو الأكل من ثمرها، تماما كما يأكلان من بقية أشجار الجنة، فكأنه قال كلا منها رغدا إلا من هذه الشجرة، وفي التعبير عن الأكل بالقرب منها مبالغة في التحذير.
8. اختلف المفسرون في نوع هذه الشجرة، بين المعنى المادي للكلمة وهو السنبلة والكرمة والكافور ونحو ذلك، وبين المدلول المعنوي لها وهو: أن المراد بها شجرة العلم؛ علم الخير والشر على سبيل الاستعارة، ولكن لا دليل على شيء من ذلك بشكل موثق.
9. ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسكما بذلك، لأنكما أبعدتماها عن موقع السعادة وساحة الخلود.. والظلم: أصله انتقاص الحق، قال الله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: 33] أي: لم تنقص، وقيل: أصله وضع الشيء في غير موضعه من قولهم: من أشبه أباه فما ظلم، أي: فما وضع الشيء في غير موضعه، وهو ضد الإنصاف والعدل.
10. سؤال وإشكال: نعرف في قصة خلق آدم، في حوار الله مع الملائكة، أن الله قد خلقه للأرض ولم يخلقه ابتداء ليعيش في الجنة، فكيف نفسر هذا الأمر الذي يوحي بأن الجنة كانت المكان الطبيعي له لولا العصيان؟ والجواب: هو أن هذا الأمر الإلهي كان جزءا من عملية التدريب الإلهي المرتكزة على فكرة الربط بين الجنة والطاعة في وعي الإنسان، مع علم الله بأنه لن ينجح في الامتحان، فكان تقديره في خلقه للأرض لاشتراط بقاء آدم عليه السّلام في الجنة بشرط غير متحقق، فلا منافاة بين الأمرين.
11. قد نستوضح الصورة في إطار الفكرة الأصولية التي يبحثها علماء الأصول في موضوع صيغة الأمر، وهي أن دوافع الأمر قد تختلف:
أ. فقد يكون الدافع له هو إرادة حصول الفعل من المأمور.
ب. وقد يكون الدافع هو امتحان إخلاص المأمور وطاعته، أو إظهار قوة إيمانه وإخلاصه، من دون أن يكون هناك أي غرض يتعلق بالفعل، كما نلاحظه في أمر الله لإبراهيم بذبح ولده، لا لأن الله يريد ذلك، ولذلك رفعه قبل حصوله، بل ليظهر عظمة التسليم المطلق لله في سلوك الأب والابن، ليكونا مثلا وقدوة للناس.
ج. وقد يكون الداعي أمرا آخر، وهو تدريب الإنسان على مواجهة حالات السقوط بتعريضه لتلك التجربة لينتبه إلى أمثالها في المستقبل كما في حالة آدم عليه السّلام.. ولا نجد أيّ مانع عقلي في ذلك، بل هو واقع كثيرا في أفعال العقلاء وأساليبهم في الأوامر والنواهي.
12. لا مجال للاعتراض هنا بأن الله كلف آدم بما يعلم أنه لا يمتثله من خلال الظروف الموضوعية المحيطة به:
أ. أوّلا، لأن العلم بعدم الامتثال لا يمنع من التكليف أساسا باعتبار أن العلم معلول للمعلوم وليس الأمر بالعكس.
ب. ثانيا، لأن التكليف لم يستهدف حصول الفعل بل استهدف وعي التجربة المستقبلة من خلال التجربة الحاضرة.
13. على ضوء هذا، نجد أن الأمر هنا يشبه الأمر في قصة إبراهيم عليه السّلام، ولكن بطريقة متعاكسة في الموضعين.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/264.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. نادى الله آدم باسمه العلم إيناسا وتكريما له وإشعارا بمنزلته في ذلك العلم العلوي.
2. اختلف في علاقة هذا بما قبله:
أ. قيل: الكلام معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة.
ب. وقيل هو من باب عطف الجملة على الجملة، والمعطوف عليه جملة ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ﴾، والتزم أصحاب هذا القول أن قبل الجملة المعطوفة ﴿إِذِ﴾ محذوفة لدلالة السياق عليها، وهو ضعيف جدا لأن حذف ما ينبغي أن يثبت من القرآن لا يتفق مع ما يتميز به من علو البلاغة وسمو الفصاحة
ج. وذهب بعضهم إلى أن المعطوف عليه ﴿قُلْنَا﴾ السابقة، واعترض بعدم اتحاد زمن القولين مع استلزام هذا الرأي أن يكون القول الثاني مظروفا ل ﴿إِذِ﴾ كالذي قبله؛ وأجيب بأن ﴿إِذِ﴾ ليس مدلولها زمنا قصيرا بحسب ما يسع القول الأول فحسب، بل هو زمن ممتد فيدخل في مظروفها القولان جميعا.. بناء على هذا الرأي ففي الكلام تذكير للبشر بإحدى النعم الكبرى التي من الله بها عليهم بإضفائها على سلفهم وهو آدم عليه السلام الذي بوأه دار كرامته وأباح له صنوف النعم وتصدير الكلام بالنداء دال على أهمية ما سيليه مع دلالته على ما سبق ذكره.
3. قوله: ﴿اسْكُنْ﴾ من السكنى بمعنى الاستقرار في المسكن، لا من السكون الذي هو ضد الحركة لمنافاة ذلك قوله تعالى لهما: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾، فإن الأكل من حيث شاءا من الجنة يقتضي حركتهما في أرجائها.
4. ذهب القرطبي إلى أن الأمر بالسكنى يوحي بخروجهما منها، إذ ليس في السكنى تمليك الساكن للمسكن، فلو قال قائل لأحد اسكن هذه الدار لم يدل قوله هذا على تمليكه إياها، واستظهر القرطبي من ذلك تأييد الجمهور في قولهم بعدم انتقال المسكن من ملك صاحبة إلى ملك الساكن بالسكنى ورجوعه إلى صاحبه بانتهاء مدتها؛ وفي هذا الاستدلال نظر، ومسائل السكنى وما شابهها، كالعُمرى، والرقبي، والإفقار، مبسوطة في كتب الفقه.
5. ﴿أَنْتَ﴾ ضمير فصل جيء به لتهيئة عطف الاسم البارز على الضمير المستتر في ﴿اسْكُنْ﴾ لعدم جواز العطف عليه دونه، وفيه نوع من التأكيد له.
6. الزوج مفرد الأزواج، ويطلق على الذكر والأنثى، ولا يتميز إذا أريد به الأنثى بالتاء على لغة القرآن، كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾، وقوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، وقوله: ﴿إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ﴾، وعليه الفصيح من كلام العرب، وإنما ورد خلافه شاذا، وعد بعضهم ذلك لحنا.
7. فرق الفقهاء بين الذكر والأنثى بإدخال التاء على ما يُراد به الأنثى كما هو شائع في كتب الفقه خصوصا حال التعرض لأحكام النكاح والمواريث، وقد نحوا هذا المنحى لما في هذا التفريق اللفظي من القرينة على التفريق المعنوي، وهو مسلك حسن ـ كما قيل ـ لدفع اللبس.
8. الأمر بسكنى آدم وزوجه الجنة وُجه إليه ولم يُوجه إليهما معا لأن المرأة تابعة للرجل.
9. سكت القرآن عن وقت خلق حواء فما لنا إلا أن نسكت عنه، وإن كان في ذلك مجال رحب للذين يسوغون لأنفسهم أن يقولوا ما لا يعلمون، وقد اختلفوا:
أ. فقال بعضهم: خُلقت في الجنة بعد أن كان آدم وحيشا لعدم المؤانس، فألقى الله عليه نومة فخلقها من ضلعه الأيمن ولما استفاق وجدها بجانبه فسألها عن نفسها فأجابته بأنها امرأة خُلقت له ليسكن إليها.
ب. وقال آخرون خُلقت قبل إسكانهما في الجنة ثم حملتهما الملائكة إليها على سرير من ذهب، وكانت ثيابهما من نور.
10. كلا القولين منسوبان إلى بعض الصحابة، والأسانيد التي تلقيا منها واهية جدا، والقضايا الغيبية لا يستند فيها إلا إلى ما نزل من عند الله أو حدث به المعصوم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وصحت نسبته إليه، وما أكثر ما حشي به التفسير من أقاويل أهل الكتاب ـ مع عزوها إلى الصحابة في هذه القضايا.
11. يمكن أن يُقال بأن قوله تعالى: اسكن أنت وزوجك الجنة) أدل على القول بأنها خلقت قبل سكناه فيها.
12. شاع استدلال المفسرين وغيرهم للقول بأن حواء خُلقت من ضلع آدم بقوله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ وبحديث أبي هريرة عند الشيخين (إن المرأة خُلقت من ضلع) وليس في ذلك نص على ما قالوه فإنه يحتمله، ويحتمل ما قاله الإمام محمد عبده من أن المراد بقوله تعالى: ﴿مِنْهَا﴾ من جنسها، كما في قوله عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ فإنها لا يماري أحد في أن الله لم يخلق امرأة كل رجل من بدنه، وإنما المراد بقوله: ﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ من جنسكم، وما قاله السيد رشيد رضا في الحديث أنه محمول على ما يُحمل عليه قوله تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾
13. الجنة مأخوذة من الجن بمعنى الستر، وتطلق على الأرض ذات الشجر الملتف لاجتنانها ـ أي استتارها به، ومنهم من يرى أنها دالة على الشجر الملتف نفسه لأنه يجن ما كان داخله، واستعملت الجنة في عرف الوحي الشريف المنزل على النبيين في دار السعادة التي أعدت للمتقين.
14. اختلف في جنة آدم هذه، هل هي دار السعادة نفسها أو أنها بقعة يصدق عليها هذا الوصف لكثرة ما فيها من الأشجار:
أ. جمهور الإباضية يرونها دار السعادة، وعليه المتقدمون من الأشعرية، وحكى القرطبي عن أبي الحسن بن بطال قوله: وقد حكى بعض المشائخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام، فلا معنى لقول من خالفهم)؛ ونحوه كلام ابن تيمية حيث قال: وهذا قول أهل السنة والجماعة، ومن قال أنها جنة في الأرض بالهند أو جدة أو غير ذلك، فهو من الملحدة المبتدعين، والكتاب والسنة يرد هذا القول)
ب. ذهب بعض الإباضية كأبي المؤثر وأبي سهل الفارسي، وابن أبي نبهان إلى أن هذه الجنة لم تكن إلا حديقة في الأرض مليئة بالأشجار تجري من تحتها الأنهار أنشأها الله لآدم قبل أن يحمله عبء تكاليف الخلافة، وهذا هو قول المعتزلة، وعليه أبو مسلم الأصفهاني وأبو منصور الماتريدي في تفسيره المسمى (بالتأويلات)، وعزى إلى أبي حنيفة، واختاره محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا، وعزاه إلى المحققين من أهل السنة.
15. ذكر السيد محمد رشيد رضا أن القول بأن هذه الجنة لم تكن إلا حديقة في الأرض مليئة بالأشجار تنحل به إشكالات كثيرة، منها:
أ. أن الله خلق آدم في الأرض ليكون هو ونسله خليفة فيها، فالخلافة مقصودة منهم بالذات، فلا يصح أن تكون عقوبة عارضة.
ب. أنه لم يذكر أنه بعد خلقه في الأرض عرج به إلى السماء، ولو حصل لذكر لأنه أمر عظيم.
ج. أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المؤمنون المتقون فكيف دخلها الشيطان الكافر الملعون؟
د. أنها ليست محلا للتكليف.
هـ. أنه لا يمنع من فيها التمتع بما يريد.
و. أنه لا يقع فيها العصيان.
ز. إن الأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها لا تنطبق على ما كان في جنة آدم، ومنه كون عطائها غير مجذوذ، ولا مقطوع، وغير ذلك.
16. ذهب أبو علي الجبائي ـ وهو من أئمة المعتزلة ـ مذهبا ثالثا وهو أن جنة آدم ليست جنة الخلد، ولكنها كانت في السماء ولم تكن في الأرض، وهو قول غريب لا سلف له فيه، ولم يتابعه عليه أحد فيما أعلم إلا ما سمعته من أحد علماء العصر وهو أن جنة آدم كانت في أحد الكواكب العلوية، وقد أنزل منها إلى الأرض.
17. القائلون بأن الجنة كانت في الأرض اختلفوا في تعيينها، منهم من قال كانت بستانا بين فارس وكرمان، وقيل: بفلسطين، وقيل: بأرض عدن، وقيل: غير معينة وبه قال أبو منصور الماتريدي وعزاه إلى السلف كما ذكره عنه الإمام محمد عبده.
18. استدلّ أصحاب القول بأنها جنة الخلد:
أ. أن الله سماها الجنة ـ بالتعريف ـ وذلك ما لا يكون إلا لجنته التي أعدها للمتقين.
ب. أن الله أمر آدم وحواء بالهبوط منها وهو عبارة عن الانتقال من العلو إلى السفل.
ج. ما رُوى أن موسى عاتب آدم عليهما السلام بقوله: أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة)
19. أجاب القائلون بأن الجنة كانت في الأرض عن هذا:
أ. أن تعريف الجنة ليس دليلا قاطعا على أنها جنة الخلد، فقد قال الله تعالى: إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة)، وهي جنة من جنان الأرض.
ب. أن الهبوط لا يلزم أن يكون انتقالا من العلو إلى السفل، فقد قال الله: اهبطوا مصر)
ج. ما رُوي من قصة موسى مع آدم عليهما السلام حديث آحادي لا تنهض به حجة في أمور الاعتقاد فضلا عن كون هذا الكلام ينافيه أن الله سبحانه خلق آدم من أول الأمر ليكون خليفة في الأرض، لا ليكون في الجنة وتنشأ ذريته فيها.
20. استدلّ القائلون بأن الجنة كانت في الأرض بـ:
أ. أن جنة الخلد وُصفت في القرآن بقوله تعالى: ﴿لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾، وقوله: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا﴾، وقوله: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا﴾، وأي لغو أشد من الدعوة إلى معصية الله، وقد كان ذلك من إبليس في جنة آدم.
ب. أن داخلها لا يخرج منها كما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾، فكيف يُخرج منها آدم وحواء؟
ج. أنها دار قدس فلا تقع فيها خطيئة، فكيف يمكن لإبليس أن يوقع آدم وحواء في معصية الله فيها؟
21. أجاب أصحاب القول بأنها جنة الخلد على هذا بـ:
أ. أن ما وُصفت به الجنة من كونها لا لغو فيها ولا تأثيم إلى غيره من صفاتها إنما هو بعد دخول المؤمنين فيها جزاء.
ب. أن أمر الله لآدم وزوجه بأن يسكناها دليل على أنهما قد رُفعا من الأرض إليها.
ج. أن كونها دار القدس لا ينافي أن تكون معصية وقعت فيها، فإن الله أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي أرض الشام التي قدست في جميع الشرائع، وقد شوهد فيها وقوع جميع المعاصي على اختلافها ولم يكن تقديسها مانعا منها.
د. وسوسة الشيطان لهما رُويت فيها أقوال عن السلف.
22. لأجل تعارض أدلة القولين قال من قال بالتوقف عن تصحيح أحدهما أو ترجيحه، وعليه أبو السعود والألوسي في تفسيريهما وبه أقول، وإن قال نور الدين السالمي: والقول بأن الجنة التي كانا أي آدم وحواء ـ فيها غير الجنة الموعود بها في الآخرة تحكم من قائله إذ لا دليل عليه)، وإنما اخترت هذا القول:
أ. لما فيه من السلامة من مغبة الخوض فيما لا علم لنا به.
ب. الأدلة التي استند إليها كلا الفريقين يعروها الاحتمال، والدليل إذا عراه الاحتمال سقط الاستدلال به.
23. لعل قوله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾ يجوز أن يُستأنس به للقول بأنها جنة النعيم لأن هذه الأوصاف أنسب بها غير أن الاستئناس لا يكفي وحده أن يكون دليلا خصوصا في الاعتقادات التي يجب الاستناد فيها إلى القطعيات.
24. أباح الله لآدم وزوجه التنعم بأكل ثمار هذه الجنة أكلا هنيئا لا يكدر شيء من التقتير بدلالة قوله ﴿رَغَدًا﴾، فان الرغد هو الواسع عند العرب، ولا ينافيه النهي عن الاقتراب من شجرة ما سواء كانت شجرة معينة، أو جنسا معينا من الأشجار، فإن النهي عنها مع إباحة سواها لا يدخل عليهما شيئا من الكدر.
25. نجد النهي عن تلك الشجرة لم يقتصر على الأكل منها، بل شمل القرب منها لأجل سد ذرائع المعصية، فإن الدنو منها مفض إلى ارتكابها، ونحوه قوله عز وجل: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا)، ومن ثم حُجر على الإنسان ممارسة أي سبب يفُضي إلى معصية الله كما يدل عليه حديث النعمان بن بشير عند الشيخين قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعرفهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، وفي ذلك داعية إلى نفرة المسلم العاقل من كل المعاصي بعدم الحوم حول حماها، والقرب من الأمر يهون خطبه ويدعو إلى ألفته، والنفس ميالة بطبعها إلى ما فيه مضرتها إن لم يتعهدها صاحبها بالرعاية ويستمد من الله التوفيق والعون.
26. من باب النهي عن الدنو من المحرمات ما فصله الفقهاء من تحريم بيع الذرائع المسمى ببيع العينة، ونحوه من العقود التي يحتال بها المحتالون ليسوغوا لأنفسهم ارتكاب ما حرم الله من الربا.
27. قرب يقرب كقرب يقرب في دلالتهما على الدنو، وقد نص على عدم التفرقة بينهما كل من الجوهري في صحاحه، والفيروز أبادي في قاموسه، وابن منظور في لسانه، وحُكي عن ابن العربي أنه نقل عن الشاشي التفرقة بجعل قرب بالكسر بمعنى (الملابسة)، وقرب بالضم بمعنى (الدنو)، وذكر مثله الزبيدي في شرح القاموس ونسبه إلى أرباب الأفعال كما نسبه إلى شيخه ـ ويعني به الفاسي ـ والقول الأول هو المشهور، ولا معنى لهذه التفرقة فإن حمل القرب على التلبس بالشيء مجاز ولا يستقل المجاز عن الحقيقة بصيغة معينة.
28. عُطف قوله: ﴿كَلَّا﴾ في هذه السورة بالواو بخلاف ما في سورة الأعراف وهو قوله سبحانه: ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما) فإن عطفه فيه بالفاء، ولا إشكال في ذلك فإن الواو لمطلق الجمع فلا ينافي مدلولها مدلول الفاء، وذهب الفخر الرازي إلى التفرقة بين ما في السورتين، وخلاصة قوله:
أ. أن المعطوف على الفعل إن كان ذلك الفعل كالشرط له وهو كالجزاء يُعطف بالفاء دون الواو، كقوله تعالى: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا)، فإن الأكل منها متعلق بدخولها فلذلك عطف بالفاء كأنه قال إن دخلتموها أكلتم منها.
ب. وعطف بالواو في قوله: اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم) لأن الأكل لا يتوقف على السكنى فقد يأكل من البستان من كان مجتازا به.
ج. وعليه فإن الأمر بالسكنى في سورة البقرة يُراد به الاستمرار في البقاء، وقد ورد بعد أن كان آدم في الجنة، وليس ذلك شرطا للأكل، فلذلك عُطف بالواو، والأمر بها في سورة الأعراف ورد قبل دخوله الجنة، فهو محمول على دخولها.. والأكل متعلق به فلذلك ورد بالفاء.
وما ذكره يستلزم أن يكون آدم خوطب بذلك مرتين، ولعدم الدليل عليه عدلت عن رأيه إلى ما ذكرته قبل.
29. للناس أقوال في الشجرة التي نهيا عنها:
أ. أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهى الله عنها آدم السنبلة.
ب. أخرج ابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حميد عنه أنها الكرم وأخرجه ابن جرير عن ابن مسعود.
ج. وأخرج أبو الشيخ عنه أنها اللوز.
د. وأخرج ابن جرير عن بعض الصحابة قال هي التينة.
هـ. ورُوي عن أبي مالك أنها النخلة.
وقبل غير ذلك، ولا فائدة وراء هذا الاختلاف، وهو ينبئ عن ضعف هذه الأقوال، ولا دليل يمكن به ترجيح أحدها.
30. مما يُستغرب كثيرا تعليل بعضهم تحريم الخمر بكونها من العنب الذي نهى عنه، وما أسخف هذا القول، فإن الخمر إنما حُرمت لإسكارها لا لكونها من العنب، ولو كان الأمر كما قال هذا القائل لكان العنب نفسه قبل استحالته خمرا أجدر بالتحريم، ولكان عصيره حراما ولو لم يسكر، ومن المعلوم أن الخمر ما خامر العقل، فيحرم كل مطعوم أو مشروب هذا شأنه مهما كان أصله.
31. هذا الاختلاف ليس منشؤه إلا تصديق أهل الكتاب في دعاواهم الكاذبة والثقة بأقوالهم في تفسير كتاب الله، وما عزى إلى الصحابة من ذلك لا يصح عنهم.
32. أغرب قطب الأئمة في قوله إن ما روي عن الصحابة في مثل هذا له حكم المرفوع إذا صح، وأنى تثبت الصحة مع هذا الاختلاف، وقد علمت أن أقوال أهل الكتاب كان لها أثر على آراء بعض الصحابة في تفسير ما لا يتعلق بالعقيدة والأحكام من آي الكتاب، وإن كان أثر ذلك في تفسير التابعين أكثر بكثير، فكيف يصح مع ذلك أن نعطي ما يروى عنهم حكم الرفع وإن ثبتت نسبته إليهم.
33. أبعد بعض المفسرين النجعة فزعم أنها شجرة العلم والصبغة اليهودية بادية على هذا القول، فإن اليهود هم الذين يقولون بأن منشأ طرد الإنسان من رحمة الله، وإقصائه عن دار كرامته أكله من شجرة المعرفة التي ميز بها بين الخير والشر، وإن عجبت فإنني أعجب ممن يتقبل ذلك عنهم ويؤثره في تفسير كتاب الله والقرآن نفسه ينادي بأن فضل الإنسان إنما كان بالعلم الذي فضل به على الملائكة حتى أمروا بالسجود له.
34. شذ محمد عبده في تفسيره لهاتين الآيتين فقد صبغه بلون من تلك الأفكار التي تولدت في ذهنه نتيجة العراك بين نزعتي التجديد والتقليد.. وما قاله هنا وهو لا يختلف عما قاله سابقا في الملائكة وإبليس، والدافع إلى كل ذلك واحد، وقد سبق بيانه، وإذا تأملت هذا الشرح الذي جاء به وعرضته على نصوص الكتاب في القصة وجدته بعيدا عن مدلولها؛ على أنه قد ناقض نفسه في بعض ما جاء به، كقوله: إن الإنسان ـ لولا داعية الشر المعبر عنها بإبليس وامتناعه عن السجود ـ لأتى عليه زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، فإنه لا يتفق مع تفسيره للملائكة بما تقدم من كونهم قوى طبعية منبثة في كل شيء من هذا الكون، وإلا فما معنى تحول الإنسان إليها مع أنه نفسه منطو عليها؟ وهل يُعد ذلك انتقالا إلى الأعلى أو إلى الأدنى؟ وبالجملة فإن كلامه ـ لعدم انبنائه على أسس ثابتة من مفاهيم الدين ـ كفيل بهدم بعضه بعضا، وهكذا كل ما كان ناشئا عن فكر الإنسان غير المستقر، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾، وإني لأعجب كيف يمكن القول بأن المراد بآدم الجنس البشري مع تحذير الله لهذا الجنس من فتنة الشيطان ـ كما صنع مع آدم وزوجه ـ في قوله تعالى: ﴿ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما ﴾، ولعمري لئن ساغ مثل هذا التأويل لم تبق للألفاظ العربية مدلولات خاصة تستقر عليها الأفهام، وهذا يعني فتح باب الشك والاحتمال الواسع في كل ما جاء به القرآن من وعد ووعيد وأمر ونهي، وقصص وأخبار، هذا من ناحية اللفظ.
35. أما من ناحية المعنى فإنه يتعذر أن يكون المراد بآدم النوع الإنساني، وأن يكون أمره بسكنى الجنة عبارة عن مرحلة الطفولة البريئة التي يمر بها كل إنسان وهو خالي البال مطمئن النفس بعيد عما يعانيه الكبار من مشاق وأتعاب، ذلك لأن الناس مختلفون غير متفقي الحال في أي طور من أطوار الحياة، فتجد أحدهم وهو في صغره يتفيأ ظلال الراحة، ويتقلب على بساط النعيم حتى إذا ما بلغ طور الرشد لفحته الدنيا ببؤسها وكشرت له الأيام عن عضل أنيابها، وفرته الحوادث بأظفارها، بينما تجد غيره لا يذوق في طفولته الراحة وإن اشترك مع غيره من الأطفال في براءتهم الفطرية، فلا يكاد يفتح عينه على الدنيا إلا ويرى أيامها عابسة أمام ناظريه فيقضي مرحلة طفولته كلها في بؤس وفقر وعرى ومسغبة وذل وخوف، وكرب وبلاء حتى إذا ما ناهز الاحتلام وبلوغ سن الرشد تنفس الفرج فانزاحت الشدائد فتذوق لذة العيش، ولامس برد النعيم، وماذا عسى أن تكون حالة الأطفال الذين ينشؤون في أ زمنة الحروب الطاحنة التي تهلك الحرث والنسل، وتستلب الطارف والتليد، فلا يسمعون إلا أصوات الانفجار وقصف المدافع وهدير الطائرات، ولا يشاهدون إلا جثث القتلى المنتزعة أشلاؤها، وحطام المساكن المقفرة من أهلها، ولا يعرفون ما هو الأمن والاستقرار في الحياة، ولا يقتاتون إلا بعد جهد ونصب، أفيقال إن طفولة هؤلاء جنة ونعيم؟ أولا يمكن أن يكون من بين هؤلاء من تبتسم له الدنيا وتغدق عليه عطاءها، وتوسع له فضاءها بعد اجتيازه مرحلة صباه؟
36. وقل مثل ذلك في الغي والرشد، فقد يرشد بعض الناس من أول أمرهم حتى إذا بلغوا سن النضج العقلي.. والاتساع الفكري، والانتفاع بالعظات والعبر أضلهم الهوى فاقتادهم إلى أشراك الردى والعياذ بالله، بينما تجد آخرين لا تتسع قلوبهم لموعظة ولا تنشرح صدورهم لذكرى فيتخبطون في ضلالهم، وينهمكون في فسادهم، حتى إذا ما كاد المنون يختطف أرواحهم شملتهم عناية الله فأنقذتهم الهداية من الورطة التي وقعوا فيها فيما سبق، وهكذا تجد الناس متفاوتين في كل شيء، فلا يمكن أن يكونوا معنيين بهذه القصة بحسب أطوارهم.
__________
(1) تفسير الخليلي: 3/86.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. يبدو أن الجنّة التي مكث فيها آدم قبل هبوطه إلى الأرض، لم تكن الجنّة التي وعد بها المتقون، بل كانت من جنان الدنيا، وصقعا منعّما خلّابا من أصقاع الأرض، ودليلنا على ذلك:
أ. الجنّة الموعودة في القيامة نعمة خالدة، والقرآن ذكر مرارا خلودها، فلا يمكن إذن الخروج منها.
ب. إبليس الملعون ليس له طريق للجنّة، وليس لوسوسته مكان هناك.
ج. وردت عن أهل البيت عليهم السّلام روايات تصرّح بذلك، منها ما روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام أنه سئل عن جنّة آدم، فقال: جنّة من جنّات الدّنيا، يطلع فيها، الشّمس والقمر، ولو كان من جنان الاخرة ما خرج منها أبدا)
2. من هذا يتضح أن هبوط آدم ونزوله إلى الأرض لم يكن مكانيا بل مقاميا.. أي أنه هبط من مكانته السامية ومن تلك الجنّة المزدانة.
3. من المحتمل أيضا أن تكون هذه الجنّة غير الخالدة في إحدى الكواكب السماوية، وفي بعض الرّوايات الإسلامية إشارة إلى أن هذه الجنّة في السماء.
4. من الممكن أن يكون المقصود بالسماء في هذه الرّوايات (المقام الرفيع) لا (المكان المرتفع).
5. على كل حال، توجد شواهد كثيرة على أن هذه الجنّة هي غير جنّة الخلد الموعودة، لأن جنّة آدم بداية مسير الإنسان وجنّة الخلد نهايتها، وهذه مقدمة لأعمال الإنسان ومراحل حياته، وتلك نتيجة أعمال الإنسان ومسيرته.
6. بعد هذا المشهد ومشهد اختبار الملائكة، أمر آدم وزوجه أن يسكنا الجنّة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾
7. يستفاد من آيات القرآن أن آدم خلق للعيش على هذه الأرض، لكنّ الله شاء أن يسكنه قبل ذلك الجنّة، وهي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم، وخالية من كل ما يزعج آدم.
8. لعل مرحلة مكوث آدم في الجنّة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم للحياة على الأرض وصعوبة تحمّل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة، ومن أجل تأهيل آدم لتحمل مسئوليات المستقبل، ولتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات والتكاليف الإلهية في تحقيق سعادته، ولإعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع إهمال هذه التكاليف، ولتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض.
9. وكان من الضروري أيضا أن يعلم آدم بإمكان العودة إلى الله بعد المعصية، فمعصية الله ـ لا تسدّ إلى الأبد ـ أبواب السعادة أمامه، بل يستطيع أن يرجع ويعاهد الله أن لا يعود لمثلها، وعند ذاك يعود إلى النعم الإلهية.
10. ينبغي أن ينضج آدم عليه السّلام في هذا الجوّ إلى حد معيّن، وأن يعرف أصدقاءه وأعداءه، ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض، نعم، كانت هذه مجموعة من التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياة على ظهر الأرض.
11. كانت هذه مقدمات تأهيلية يحتاجها آدم وأبناء آدم في حياتهم الجديدة.. ولعل الفترة التي قضاها آدم في الجنّة أن ينهض بمسؤولية الخلافة على الأرض كانت تدريبية أو تمرينية.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/168.
15. وسوسة الشيطان لآدم ونتائجها
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈15⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [البقرة: 36]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ إلى يوم القيامة(1).
__________
(1) الدرّ المنثور: أبي الشيخ.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَأَزَلَّهُمَا﴾ فأغواهما(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ مستقر فوق الأرض، ومستقر تحت الأرض(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ حتى يصير إلى الجنة، أو إلى النار(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ الحياة(3).
5. روي أنه قال إن عدو الله إبليس عرض نفسه على دواب الأرض أنها تحمله حتى يدخل الجنة معها، ويكلم آدم، فكل الدواب أبى ذلك عليه، حتى كلم الحية فقال لها: أمنعك من ابن آدم، فأنت في ذمتي إن أدخلتني الجنة، فحملته بين نابين من أنيابها، ثم دخلت به، فكلمه من فيها، وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم، فأعراها الله، وجعلها تمشي على بطنها، يقول ابن عباس أنّه قال فاقتلوها حيث وجدتموها، اخفروا ذمة عدو الله فيها(4).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٦٠.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٨٩.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٩٠.
(4) ابن جرير 1/ 566 .
أبو العالية:
روي عن أبو العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن من الإبل ما كان أولها من الجن، قال فأبيحت له الجنة كلها إلا الشجرة، وقيل لهما: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 35]، قال فأتى الشيطان حواء، فبدأ بها، فقال: أنهيتما عن شيء قالت: نعم، عن هذه الشجرة، فقال: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ [الأعراف: ٢٠]، قال فبدأت حواء، فأكلت منها، ثم أمرت آدم، فأكل منها، قال وكانت شجرة من أكل منها أحدث، قال ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث، قال ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾، قال فأخرج آدم من الجنة(1).
2. روي أنّه قال: كانت الشجرة من أكل منها أحدث، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث(2).
3. روي أنّه قال: خلق الله آدم يوم الجمعة، وأدخله الجنة يوم الجمعة، فجعله في جنات الفردوس(3).
4. روي أنّه قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء، وكان الفساد في الأرض، فمن ثم قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾(4).
5. روي أنّه قال: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ يعني: إبليس، وآدم(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ هو قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ [البقرة: ٢٢](6).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٦٤.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٨٧.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٨٥.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٧٧.
(5) ابن جرير: ١/٥٧٣.
(6) ابن جرير: ١/٥٧٥.
المسيب:
روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن سعيد بن المسيب: أنه سمعه يحلف بالله، ما يستثني: ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر، حتى إذا سكر قادته إليها، فأكل(1).
2. روي أنّه قال: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٦٦.
(2) ابن جرير: ١/٥٣٨.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ إلى يوم القيامة؛ إلى انقطاع الدنيا(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٧٨.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: إنما سمي: الشيطان؛ لأنه تشيطن(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿فَأَزَلَّهُمَا﴾ من قبل الزلل(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨٧.
منبه:
روي عن وهب بن منبه (ت 114 هـ) أنه قال فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية، وكانت للحية أربعة قوائم، كأنها بختية، من أحسن دابة خلقها الله، فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء، فقال: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها، فأخذت حواء فأكلت منها، ثم ذهبت بها إلى آدم، فقالت: انظر إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها، فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه: يا آدم، أين أنت؟ قال أنا هنا، يا رب، قال ألا تخرج؟ قال أستحيي منك، يا رب، قال ملعونة الأرض التي خلقت منها لعنة يتحول ثمرها شوكا، قال ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة كان أفضل من الطلح والسدر، ثم قال يا حواء، أنت التي غررت عبدي؛ فإنك لا تحملين حملا إلا حملته كرها، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا، وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي؛ ملعونة أنت لعنة تتحول قوائمك في بطنك، ولا [يكون] لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدا منهم أخذت بعقبه، وحيث لقيك شدخ رأسك، قال عمر: قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال يفعل الله ما يشاء(1).
__________
(1) عبد الرزاق: ٢/٢٢٦.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿اهْبِطُوا﴾، يعني: آدم، وحواء، وإبليس(1).
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ أي إلى وقت، والمتاع: الزّاد(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 81.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ يقول: بلاغ إلى الموت(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٧٧.
بهدلة:
روي عن عاصم بن بهدلة (ت 128 هـ) أنّه قال: ﴿فَأَزَلَّهُمَا﴾ فنحاهما(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٧٨.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ هو قوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ إلى أجل(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٧٨.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾، يقول سبحانه: فاستزلهما الشيطان عنها، يعني: عن الطاعة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا﴾ منها، يعني: آدم، وحواء، وإبليس بوحي منه ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ فإبليس لهما عدو، وهما لإبليس عدو(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾، يعني: بلاغا إلى منتهى آجالكم؛ الموت(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٩٩.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الله أعلم، أكما قال ابن عباس وأهل التوراة، أم أنه خلص إلى آدم وزوجته بسلطانه الذي جعل الله له؛ ليبتلي به آدم وذريته؟ وأنه يأتي ابن آدم في نومته، وفي يقظته، وفي كل حال من أحواله، حتى يخلص إلى ما أراد منه، حتى يدعوه إلى المعصية، ويوقع في نفسه الشهوة وهو لا يراه، وقد قال الله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾، ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾، وقال: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ٢٧]، وقد قال الله لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ﴾ [الناس: ١ ـ ٢] إلى آخر السورة، ثم ذكر الأخبار التي رويت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، ثم قال وإنما أمر ابن آدم فيما بينه وبين عدو الله كأمره فيما بينه وبين آدم، فقال الله: ﴿فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٣]، ثم خلص إلى آدم وزوجته حتى كلمهما، كما قص الله علينا من خبرهما، قال ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ [طه: ١٢٠]، فخلص إليهما بما خلص إلى ذريته من حيث لا يريانه، فالله أعلم أي ذلك كان، فتابا إلى ربهما(1).
2. روي أنه قال أما العرب فيقولون: ما الجن إلا كل من اجتن فلم ير، وأما قوله: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: ٥٠] أي: كان من الملائكة، وذلك أن الملائكة اجتنوا فلم يروا، وقد قال الله ـ جل ثناؤه ـ: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصافات: ١٥٨]، وذلك لقول قريش: إن الملائكة بنات الله، فيقول الله: إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها، وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذريته نسبا، قال وقد قال الأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري، وهو يذكر سليمان بن داوود وما أعطاه الله:
ولو كان شيء خالدا أو معمرا... لكان سليمان البري من الدهر
براه إلهي واصطفاه عباده... وملكه ما بين ثريا إلى مصر
وسخر من جن الملائك تسعة... قياما لديه يعملون بلا أجر
قال فأبت العرب في لغتها إلا أن الجن: كل ما اجتن، يقول: ما سمى الله الجن إلا أنهم اجتنوا؛ فلم يروا، وما سمى بني آدم: الإنس، إلا أنهم ظهروا فلم يجتنوا، فما ظهر فهو إنس، وما اجتن فلم ير فهو جن(2).
3. روي أنه قال ابن إسحاق] محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) قال لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به، لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه ـ وكان أول بلاء ابتليت به الملائكة مما لها فيه ما تحب وما تكره؛ للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا، وأحاط به علم الله منهم ـ؛ جمع الملائكة من سكان السماوات والأرض، ثم قال ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، يقول: ساكنا وعامرا ليسكنها ويعمرها، خلقا ليس منكم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم، فقال: يفسدون في الأرض، ويسفكون الدماء، ويعملون بالمعاصي، فقالوا جميعا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾، لا نعصي، ولا نأتي شيئا كرهته؟ ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي: فيكم ومنكم ـ ولم يبدها لهم ـ من المعصية، والفساد، وسفك الدماء، وإتيان ما أكره منهم، مما يكون في الأرض مما ذكرت في بني آدم، قال الله لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ إلى قوله: ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: ٦٩ ـ ٧٢]، فذكر لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي كان من ذكره آدم صلّى الله عليه وآله وسلّم حين أراد خلقه، ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه، فلما عزم الله تعالى على خلق آدم قال للملائكة: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٨] بيديه تكرمة له، وتعظيما لأمره، وتشريفا له؛ حفظت الملائكة عهده، ووعوا قوله، وأجمعوا لطاعته، إلا ما كان من عدو الله إبليس، فإنه صمت على ما كان في نفسه من الحسد، والبغي، والتكبر، والمعصية، وخلق الله آدم من أدمة الأرض، من طين لازب من حمإ مسنون، بيديه تكرمة له، وتعظيما لأمره، وتشريفا له على سائر خلقه، في قال ـ والله أعلم ـ: خلق الله آدم، ثم وضعه ينظر إليه أربعين عاما قبل أن ينفخ فيه الروح، حتى عاد صلصالا كالفخار، ولم تمسه نار، في قال ـ والله أعلم ـ: إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عطس، فقال: الحمد لله، فقال له ربه: يرحمك ربك، ووقع الملائكة حين استوى سجودا له؛ حفظا لعهد الله الذي عهد إليهم، وطاعة لأمره الذي أمرهم به، وقام عدو الله إبليس من بينهم، فلم يسجد مكابرا متعظما، بغيا وحسدا، فقال له: ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ إلى ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٧٥ ـ ٨٥]، قال فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبى إلا المعصية؛ أوقع عليه اللعنة، وأخرجه من الجنة، ثم أقبل على آدم، وقد علمه الأسماء كلها، فقال: ﴿يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ أي: إنما أجبناك فيما علمتنا، فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به، فكان ما سمى آدم من شيء كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٦٩.
(2) ابن جرير: ١/٥٣٨.
(3) ابن جرير: ١/٤٩٦.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ لهما ولذريتهما(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ مقامهم فيها(2).
3. روي أنّه قال وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة، حتى أتى بها إليها، ثم حسنها في عين آدم، قال فدعاها آدم لحاجته، قالت: لا، إلا أن تأتي ههنا، فلما أتى قالت: لا، إلا أن تأكل من هذه الشجرة، قال فأكلا منها، فبدت لهما سوآتهما، قال وذهب آدم هاربا في الجنة، فناداه ربه: يا آدم، أمني تفر؟ قال لا، يا رب، ولكن حياء منك، قال يا آدم، أنى أتيت؟ قال من قبل حواء، أي رب، فقال الله: فإن لها علي أن أدميها في كل شهر مرة كما أدميت هذه الشجرة، وأن أجعلها سفيهة، فقد كنت خلقتها حليمة، وأن أجعلها تحمل كرها وتضع كرها، فقد كنت جعلتها تحمل يسرا وتضع يسرا، قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حواء لكان نساء الدنيا لا يحضن، ولكن حليمات، وكن يحملن يسرا، ويضعن يسرا(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٧٣.
(2) ابن جرير: ١/٥٧٦.
(3) ابن جرير: ١/٥٦٥.
الهادي إلى الحق:
سئل الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ): هل أمرت الجن كلها بالسجود، أم خص الله إبليس بذلك دونهم؟ قال: لم يأمر الله سبحانه أحد منهم إلا إبليس، فقد أمره الله بالسجود دونهم.. قيل له: أفمخصوصا كان بذلك دونهم؟ قال نعم كان مخصوصا بالأمر(1).
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/140.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ أي دعاهما، وزين لهما إلى سبب الزلة والإخراج عنها، لا أن تولى إخراجهما وإزلالهما.
2. ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ أي دعاهما وزيّن لهما، أي سبب الزّلة والإخراج منها، لا أن تولى هو إخراجهما وإزلالهما.. ذلك أنه قد تسمّى الأشياء باسم أسبابها، والأسباب باسم الأشياء، وذلك ظاهر معروف في اللغة، غير ممتنع تسمية الشيء باسم سببه.
3. ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ من الخصب، والسّعة، والنعم التي أنزلهما الله ـ تعالى ـ فيها، وأباح لهما التناول مما فيه.
4. اختلف في وسوسة الشيطان لآدم وحواء ـ عليهما السلام ـ فيم كان؟ ومن أين كان؟ ولما ذا كان؟
أ. قيل: إنه كان في السماء، فوسوس إليهما من رأس الحيّة؛ حسدا منه لما رآهما يتقلّبان في نعم الله، ويتنعمان فيه، فاشتد ذلك عليه.
ب. وقيل: إنه كان في الدنيا فوسوس لهما من بعد.
5. اختلف في الوجه الذي أوصل إبليس إليه الوسوسة:
أ. قال الحسن: كان آدم عليه السلام في السماء وإبليس في الأرض، ولكنه أوصل إليه بالسبب الذي جعل الله لذلك.
ب. قال قوم: كان خاطبه في رأس الحية.
ج. قيل: تصور بغير الصورة التي كان عليها عند قوله: ﴿إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ﴾ فاغتر به، ولو عرفه لما اغتر به بعد أن حذره الله عنه، والله أعلم كيف كان ذلك.
6. الأشياء تسمى باسم أسبابها، أو الأسباب باسم الأشياء، وذلك ظاهر معروف في اللغة، غير ممتنع تسمية الشيء باسم سببه.
7. تكلموا فيما أصاب آدم من الشجرة، وفى جهة النهى عنها، فقال قوم: أكل منها وهو ناس لعهد الله نسيان ترك الذكر، وأبى ذلك قوم.
8. احتج الحسن بأن نسيانه نسيان تضييع واتباع الهوى، لا نسيان الذكر بأوجه:
أ. أحدها: ما جرى في حكم الله ـ تعالى ـ من العفو عن النسيان الذي هو ترك الذكر، وألا يلحق صاحبه اسم العصيان، وقد عوقب هو به، ونسب إلى العصيان بقوله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 121] مع ما تقدم القول فيه أن يكونا من الظالمين.
ب. الثاني: أنّ عدوّه قد ذكّره لو كان ناسيا؛ حيث قال: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ﴾ [الأعراف: 20]، وقوله: ﴿وَقَاسَمَهُمَا﴾ [الأعراف: 21]، وقوله: ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾ [الأعراف: 22].. ولو كان نسيان الذكر لم يكونا ليغترا بالقسم والإغواء عن ذلك، ولا وصفا بأن استزلهما الشيطان ونحو ذلك.. فثبت أنه كان نسيان تضييع، وذلك كقوله: ﴿وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه: 126]، وقوله: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ [الأعراف: 51]، وغير ذلك مما ذكر فيه النسيان ومعناه التضييع، سمى به لما كان كل منسىّ متروكا، وترك اللازم تضييع، أو بما ينسى به ويغفل عما يحل به من نعمة الله، فسمى به كما وصف ذنب المؤمن بجهالة الجهلة بما يحل به لا بجهله بحقيقة فعله، أو سمى به من حيث لا يقصد بذلك عصيان الرب أو طاعة الشيطان.. وإلى ذلك يصرف بعض وجوه النسيان، لا حقيقته.
9. من يقول: بأنه كان على النسيان فهو يخرّج النسيان على وجوه:
أ. أَحدها: أنه لكثرة ما كان بينه، وبين عدوه من التراجع اشتغل قلبه بوجوه الدفاع له، والفكر في الأَسباب التي بها نجاته، ويتخلص من مكائِده، حتى أَنساه ذلك ذكر العهد.. والسبب الذي يدفع الأَشياءَ عن الأَوهام في الشاهد كثرة الاشتغال، وإنَّمَا كان النسيان عدوا في الأُمور وسببًا للعفو؛ لأَنه لا يَخْرج الآخذ به عن الحكمة، وذلك معلوم في الشاهد، أن من أَقبل على أَمر، وأَخذ في تحفظه وتذكره عمل عليه ذلك، وإذا أحب ذلك مع الاشتغال بغيره من الأُمور صعب عليه، بل الغالب في مثله الخفاء. لكثرة ما كان بينه، وبين عدوه من التراجع اشتغل قلبه بوجوه الدفاع له، والفكر في الأسباب التي بها نجاته، ويتخلص من مكايده، حتى أنساه ذلك ذكر العهد.
ب. الثاني: أن يكون حفظ النهى عنه لكنه خطر بباله النهى عن وجه لا يلحقه فيه وصف العصيان، أو نسى قوله: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، وقد ذكرنا النهى في وقت الفعل، ولكن يسمى الوصف بالفعل من الظلم والنهى؛ لعله سبق إلى وهمه غير جهة التحريم.
10. من يقول: بأنه كان على النسيان احتج بأن النهى على أوجه:
أ. أحدها: للحرمة.
ب. الثاني: نهى لما فيه من الداء وعليه في أكله ضرر، وهذا معروف في الشاهد بما عليه الطباع، نهى قوم عن أشياء محللة هي لهم ما يؤذى ويضر، فيحتمل:
• أن يسبق إلى وهمه ذلك، لما وعد له في ذلك من عظيم النفع.
• يحتمل ما خوف به ليصل إلى ما وعد على ما سبق وجّه النهى إلى ما وجه من حيث الضرر والمشقة، ونسى قوله: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أو ذكرا وعرفا أن الظلم قد يقع على الضّرر؛ كقوله: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: 33] أي لم ينقص منه، والنقصان في النفس ضرر، وعلى ذلك فسر عامة أهل التفسير الظلم في القرآن أنه الضرر، واسم الضرر يأخذ ضرر الداء، وضرر المأثم وإن كانت حقيقته وضع الشيء في غير موضعه، ولا قوة إلا بالله.
• وقد يحتمل النهى أن يخرج مخرج المنع؛ ليكون غيره هو الذي يبدأ به، ويخص ذلك لغيره، لا على التحريم، نحو الأمر بالمعروف، فيما يمنع الرجل ولده عن التناول مما يريد به غيره، لا على التحريم.. وإذا احتمل ذا، ثم بيّن له عظيم ما في ذلك من البركة من غير أن عاين عدوه ليعلم أن ذلك صنيعه.
• وجائز أن يسبق إليه أن ذلك إشارة ملك أو إلهام في النفس ـ على ما يكون لكثير من الأخيار ـ إلا أنه من وحى عدوه، فدعته نفسه إلى الأكل، فيكون كالناسي والجاهل بحقيقة وجه النهى، وإن كان تعمد أكله، ولا قوة إلا بالله.
11. الأصل في هذا أن فعله عليه السلام إن كان على نسيان العهد، أو على الذكر له، فإن الذي أصابه عقوبة.. وإن كان بالذي يكون به المحنة، فلولا أنّ الله إن يعاقبه على ما فعله لم يكن ليغيّر عليه نعمة أنعم عليه بعذاب، وقد قال إنه لا يغيّر نعمه التي أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. وما لا يحتمل العقوبة بالتغيير لم يكن ليفعل بعد وعده ذلك، مع ما قد اعترفا بالظلم؛ إذ قالا: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا﴾ الآية [الأعراف: 23]، وقد قال الله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 121]، وقد كان قال لهما: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 19]، فكان فيما بلى به وجهان:
أ. أحدهما: أن ذلك لم يزل عنهما اسم الإيمان، ولا دعيا إليه بعد لفعلهما ذلك.. ثبت أنه لا كلّ ذنب يزيل اسم الإيمان، وأن الذنوب لا يحقّق فيها الكذب فيما اعتقد ألا يعصى الله في شيء، وفى ذلك فساد أهل الخوارج والمعتزلة، وبيان أن قوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا﴾ [النساء: 14] ليس على كل عصيان، ولا الوعيد بالظلم المطلق بوجه كل ظالم وكل عصيان وغواية، بل يلزم به تقسيم هذه الحروف على ما يليق به، ومن يريد بها الجمع في كل الأنام خارج عن المعروف من أحكام الله في أهل المآثم.
ب. الثاني: قد عوقب بوجه لا يجب جزء منها بما يسميه المعتزلة كبيرة، بل يزيل به اسم الإيمان؛ من نحو شرب قطرة من الخمر، أو قذف محصنة، أو أخذ عشرة دراهم من مال آخر.. وكذلك فعل أولاد يعقوب، ثم لم يجترئ أحد على دعوى خروج من ذكرت من دين الله؛ لزم بطلان قولهم، مع ما كان من قولهم: إن الصغيرة لا يجوز في الحكمة التعذيب عليها، ولا الكبيرة العفو عنها.. وقد كان عذب آدم عليه السلام ـ بأنواع العذاب، لما لو لم يكن سوى ما أظهر فعلهما على رؤوس الخلائق لكان عظيما.
12. جائز معاتبة آدم مع ذلك وتسميته عصيانا بأوجه:
أ. أنه لم يكن امتحن بأنواع مختلفة يتعذر عليه وجه الحفظ في ذلك.. وإنما امتحن بالانتهاء عن شجرة واحدة بالإشارة إليها؛ فجائز ألا يعذر في مثله، وكذلك النسيان فيما يعذر في الشاهد، إنما يعذر في النوع الذي يبلى به، وتكثر به النوازل.. ألا ترى أنه يعذر بالسلام في الصلاة، وترك التسمية في الذبيحة ونحو ذلك، ولا يعذر في الأكل في الصلاة، وفى الجماع في الحج، ونحو ذلك، فمثله الأمر الذي نحن فيه.
ب. أنه جائز أخذ الأخيار ومعاتبة الرسول بالأمر الخفيف اليسير الذي لا يؤخذ بمثل ذلك غيره؛ لكثرة نعم الله عليهم، وعظم منّته عندهم، كما أوعدوا التضاعف في العذاب على ما كان من غيره:
• على ما ذكر في أمر يونس عليه السلام من العقوبة بماء لعل ذلك من عظيم خيرات غيره؛ إذ فارق قومه عما عاين من المناكير فيهم، وفعل مثله من حد ما يوصف به غيره.
• وكذلك ما عوتب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما خطر بباله تقريب أجلة الكفرة؛ إشفاقا عليهم، وحرصا على إسلامهم ومن يتبعهم على ذلك مما لعل من دونه لا يعدل شيء من خيراته بالذي عوتب به.
ج. أنه لما عوتب بالذي يجوز ابتداء المحنة به، ولمثله خلقه حيث قال لملائكته: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ لكنه بكرمه، وبالذي عوّد خلقه من تقديم إحسانه وإنعامه في الابتلاء على الشدائد والشرور، وإن كان له التقديم بالثاني، وذلك في جملة قوله: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ﴾ [الأعراف: 168]، وقوله: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35]
د. ما في ذلك من مبالغة غيره، والزجر عن المعاصي وتعظيم خطره في القلوب؛ إذ جوزي أبو البشر وأول الرسل منهم ـ على ما فضله بما امتحن ملائكته بالتعلم منه، والسجود ـ بذلك القدر من الزلة؛ ليعلم الخلق أنه ليس في أمره هوادة، ولا في حكمه محاباة؛ فيكونون أبدا على حذر من عقوبته، والفزع إليه بالعصمة عما يوجب مقته، وألّا يكلهم إلى أنفسهم؛ إذ علموا بابتلاء من الذي ذكرت محله في قلوبهم بذلك القدر من الزلة، ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/428.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ وقد روي (فأزالهما) وكلا القولين جيد أي نحاهما مما كانا فيه من الرغد.
2. معنى أزلهما استزلهما من الزلل وهو الخطأ، وأما الشيطان الذي ذكره الله سبحانه فلم يخلص إليهما ولم يباشرهما بالكلام وإنما أوقع الشهوة والوسوسة في قلوبهما من غير معاينة ولا مشاهدة لقوله: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ [الأعراف: 20]
3. معصية آدم لم تكن عندنا من الكبائر وإنما كانت منه سهواً ونسياناً لقوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ [طه: 115]، وذلك لأن الأنبياء يلزمهم من التيقظ والتحرز ما لا يلزم غيرهم لعلو منازلهم وجلالة أخطارهم وإذا تشاغلوا من تذكر النهي تضييعاً وإغفالاً صاروا بذلك عاصين.
4. قيل: إنما أكلها على وجه التأويل وإهمال الدليل فصار بذلك عاصياً، لـ ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾ [الأعراف: 22]، أي الذي صرفهما إليه من إضاعة الدليل، ووجه تأويله:
أ. أنه حمل النهي على غير جهة التحريم.
ب. أنه تأول على عين الشجرة دون جنسها وأنه إذا أكل من غيرها من الجنس لم يعص.
ج. ما قال سبحانه وتعالى في قول إبليس: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾
5. الهبوط بضم الهاء النزول، وبفتحها موضع النزول، وقيل: الهبوط الخروج من البلد، وقيل: الدخول فيه، وهو من الأضداد.
6. الخطاب توجه إلى آدم وحواء وكان بلفظ الجمع، وذلك في كلامهم لأن العرب تعبر عن الواحد والاثنين بعبارة الجمع وذلك في كلامهم موجود.
7. لفظ العدو يستعمل في الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث والعداوة أصلها المجاوزة يقال: عداني هذا الأمر أي جاوزني، وقوله: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ أي معاداة الشهوة والوسوسة.(1).
8. ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ أي مواضع قيامكم لقوله سبحانه: ﴿جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾ [النمل: 61]
9. ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ والمتاع كلما استمتع به من المتاع ومنه سميت متعة الحج ومنه ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ [البقرة: 236]: أي ادفعوا إليهن ما ينتفعن به، قال الشاعر:
10. وكل غضارة لك من حبيب... لهى بك أو لهوت به متاع
11. الحين الوقت البعيد وحينئذ تبعيد والمراد به إلى حين، ويحتمل أن يكون أجلاً ضربه الله سبحانه لهم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/44.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف المفسرون، هل خلص إليهما حتى باشرهما بالكلام وشافههما بالخطاب أم لا:
أ. قال عبد الله بن عباس، ووهب بن منبه، وأكثر المفسرين أنه خلص إليهما، واستدلّوا بقوله تعالى: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: 21]
ب. قال محمد بن إسحاق: لم يخلص إليهما، وإنما أوقع الشهوة في أنفسهما، ووسوس لهما من غير مشاهدة، لقوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ [الأعراف: 20]، والأول أظهر وأشهر.
2. قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ يعني إبليس، سبب خروجهما، لأنه دعاهما إلى ما أوجب خروجهما.
3. اختلفوا في معصية آدم بأكله من الشجرة، على أي وجه وقعت منه، على أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنه أكل منها وهو ناس للنهي لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ [طه: 115]، وزعم صاحب هذا القول، أن الأنبياء يلزمهم التحفظ والتيقّظ لكثرة معارفهم وعلوّ منازلهم ما لا يلزم غيرهم، فيكون تشاغله عن تذكّر النهي تضييعا صار به عاصيا.
ب. الثاني: أنه أكل منها وهو سكران فصار مؤاخذا بما فعله في السّكر، وإن كان غير قاصد له، كما يؤاخذ به لو كان صاحيا، وهو قول سعيد بن المسيب.
ج. الثالث: أنه أكل منها عامدا عالما بالنهي، وتأول قوله: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ [طه: 115] أي فزلّ، ليكون العمد في معصية يستحق عليها الذمّ.
د. الرابع: أنه أكل منها على جهة التأويل، فصار عاصيا بإغفال الدليل، لأن الأنبياء لا يجوز أن تقع منهم الكبائر، ولقوله تعالى في إبليس: ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾ [الأعراف: 22] وهو ما صرفهما إليه من التأويل.
4. اختلف من قال بأنه أكل منها على جهة التأويل في تأويله الذي استجاز به الأكل، على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه تأويل على جهةِ التنزيه دون التحريم.
ب. الثاني: أنه تأويل النهي عن عين الشجرة دون جنسها وأنه إذا أكل من غيرها من الجنسِ لم يعصِ.
ج. الثالث: أن التأويل ما حكاه الله تعالى عن إبليس في قوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ [الأعراف: 23]
5. الهبوط بضم الهاء النزول، وبفتحها موضع النزول، وقال المفضل: الهبوط الخروج من البلدة، وهو أيضا دخولها، فهو من الأضداد، وإذا كان الهبوط في الأصل هو النزول، كان الدخول إلى البلدة لسكناها نزولا بها، فصار هبوطا.
6. اختلفوا في المأمور بالهبوط، على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه آدم، وحواء، وإبليس، والحيّة، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنه آدم وذريته، وإبليس وذريته، وهذا قول مجاهد.
ج. الثالث: أنه آدم، وحواء، والموسوس.
7. العدو اسم يستعمل في الواحد، والاثنين، والجمع، والمذكر والمؤنث، والعداوة مأخوذة من المجاوزة من قولك: لا يعدونّك هذا الأمر، أي لا يجاوزنّك، وعداه كذا، أي جاوزه، فسمّي عدوّا لمجاوزة الحدّ في مكروه صاحبه، ومنه العدو بالقدم لمجاوزة المشي، وهذا إخبار لهم بالعداوة وتحذير لهم، وليس بأمر، لأن الله تعالى لا يأمر بالعداوة.
8. اختلف في الّذين قيل لهم: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾، على قولين:
أ. أحدهما: أنهم الذين قيل لهم اهبطوا، على ما ذكرنا من اختلاف المفسرين فيه.
ب. الثاني: أنهم بنو آدم، وبنو إبليس، وهذا قول الحسن البصري.
9. قوله عزّ وجل: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما: أن المستقر من الأرض موضع مقامهم عليها، لقوله تعالى: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾ [غافر: 64]، وهذا قول أبي العالية.
ب. الثاني: أنه موضع قبورهم منها، وهذا قول السّدّيّ.
10. قوله عزّ وجلّ: ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ : المتاع كل ما استمتع به من المنافع، ومنه سمّيت متعة النكاح، ومنه قوله تعالى: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ [الأحزاب: 49]، أي ادفعوا إليهنّ ما ينتفعن به، قال الشاعر:
وكلّ غضارة لك من حبيب... لها بك، أو لهوت به، متاع
11. الحين: الوقت البعيد، ف (حينئذ) تبعيد قولك: الآن)، وفي المراد بالحين في هذا الموضع ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: إلى الموت، وهو قول ابن عباس والسّدّيّ.
ب. الثاني: إلى قيام الساعة، وهو قول مجاهد.
ج. الثالث: إلى أجل، وهو قول الربيع.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/108.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الزلة والمعصية والخطيئة والسيئة بمعنى واحد وضد الخطيئة الاصابة، ويقال: زل زلة، وأزله إزلالا، واستزله استزلالا وقال صاحب العين: زل السهم عن النزع زليلا وزل فلان عن الصخر زليلا فإذا زلت قدمه، قلت: زل زلا فإذا زل في مقالة أو خطبة، قلت: زل زلة، قال الشاعر: هلا على غيري جعلت الزلة.. وأزله الشيطان عن الحق: إذ أزاله، والمزلة: المكان الدحض الذكر على الأنبياء.
2. إنما أخرجهم من الجنة، لأنه تغيرت المصلحة لما تناول من الشجرة، واقتضى التدبير والحكمة تكليفه في الأرض وسلبه ما ألبسه الله تعالى من لباس الجنة، وقال قوم: إن إلباس الله له ثياب الجنة كان تفضلا، وللمتفضل أن يمنع ذلك تشديداً للمحنة، كما يفقر بعد الغنى، ويميت بعد الأحياء، ويسقم بعد الصحة.
3. سؤال وإشكال: كيف وصل إبليس إلى آدم حتى أغواه ووسوس اليه، وآدم كان في الجنة، وإبليس قد أخرج منها حين تأبى من السجود؟ والجواب: عن ذلك أجوبة:
أ. أحدها ـ ان آدم كان يخرج الى باب الجنة، وإبليس لم يكن ممنوعاً من الدنو منه، وكان يكلمه ويغويه.
ب. الثاني: انه كلمهما من الأرض بكلام فهماه النهي الحقيقي، فحمله على الندب وأخطأ.
4. قوله: ﴿مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ يحتمل أن يكون:
أ. أراد: من لباسهما حتى بدت لهما سوآتهما.
ب. ويحتمل أن يكون من الجنة، حتى أهبطا.
ج. ويحتمل أن يكون أراد: من الطاعة إلى المعصية.
5. قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ صيغته صيغة النهي، والمراد به الندب عندنا لأنه دل الدليل على أن النهي لا يكون نهياً إلا بكراهته للمنهي عنه، والله تعالى لا يكره إلا القبيح، والأنبياء لا يجوز عليهم القبائح: صغيرها ولا كبيرها.
6. سؤال وإشكال: كيف يكون ذلك ترك الندب مع قوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾؟ والجواب: التوبة: ـ قيل ـ الرجوع ويجوز ان يرجع تارك الندب عن ذلك.. أو كان ناسياً، وعلى ما قلناه ـ إن ذلك كان ندباً ـ لا يحتاج الى ذلك، بل دليل العقل أمننا من وقوع قبيح من آدم، والأنبياء، فلو كان صريحاً، لتركنا ظاهره لقيام الدليل على خلافه، على أنه لا يمنع أن يقاسمهما: إنه لمن الناصحين في ترك الندب، وإنما ظاهر النهي تركه يوجب أن يصيرا من الخالدين.
7. قال المعتزلة: إن تلك كانت صغيرة من آدم ـ على اختلافهم في انه كان منه عمداً أو سهواً أو تأويلا ـ وإنما قلنا لا يجوز عليهم القبائح، لأنها لو جازت عليهم لوجب أن يستحقوا بها ذماً، وعقابا وبراءة ولعنة، لأن المعاصي كلها كبائر عندنا والإحباط باطل ولو جاز ذلك لنفر عن قبول قولهم، وذلك لا يجوز عليهم كما لا يجوز كل منفر عنهم من الكبائر والخلق المشوهة والأخلاق المنفرة.
8. قال المعتزلة: لا خلاف أن النهي يتناول الأكل دون القرب كأنه قال لا تقربا بالأكل لأنه لا خلاف أن المخالفة وقعت بالأكل لا بالدنو منها ولذلك قال ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾ وقوله: ﴿فَتَكُونَا﴾ :
أ. يحتمل أن يكون جواباً للنهي فيكون موضعه نصباً، وهو الأقوى.
ب. ويحتمل أن يكون عطفاً على النهي فيكون موضعه جزماً.
وكلاهما جيد محتمل ومتى كان جواباً كان تقديره: إن قربتما كنتما من الظالمين، لأنه بتضمن معنى الجواب وإذا كان عطفاً على النهي فكأنه قال لا تكونا من الظالمين.
9. الهبوط والنزول والوقوع نظائر، ونقيض الهبوط والنزول الصعود، يقال: هبط يهبط: إذا انحدر في هبوط من صعود، والهبوط اسم كالحدور، وهو الموضع الذي يهبط من على الى أسفل، والهبوط: المصدر.. قال ابن دريد: هبطته واهبطته.
10. العداوة، والبراءة، والمباعدة، نظائر، وضد العدو، الوليّ، والعدو: الحضر ـ خفيف ـ والعدو: ـ ثقيل ـ يقال في التعدي، وقرئ: ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا﴾ ـ وعدوا ـ ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ والعدوان: الظلم، والعدوى: طلبك الى وال ليعديك على من ظلمك ـ أي ينتقم لك ـ والعدو اسم جامع للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، فإذا جعلته نعتاً، قلت: الرجلان عدوّاك، والرجال اعداؤك، والمرأتان عدوتاك، والنسوة عدوَّاتك، وأصل الباب: المجاوزة، يقال: لا يعدوَّنك هذا الأمر ـ أي لا يتجاوزنَّك.
11. قوله: ﴿اهْبِطُوا﴾ انما قال بالجمع، لأنه يحتمل أشياء:
أ. أنه خاطب آدم وحواء وإبليس، فيصلح ذلك، وان كان إبليس أهبط من قبلهما، يقال: أخرج جمع من الجيش ـ وان خرجوا متفرقين ـ، اختار هذا الزجاج.
ب. أنه أراد آدم وحواء والحية.
ج. آدم وحواء وذريتهما.
د. قال الحسن: إنه أراد آدم وحواء والوسوسة، وظاهر القول وان كان أمراً فالمراد به التهديد، كما قال ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾
12. معنى قوله: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾، قال الحسن: يعني بني آدم، وبني إبليس وليس ذلك بأمرٍ على الحقيقة، بل هو تحذير، لأن الله لا يأمر بالعداوة.
13. في الآية دلالةٌ على أن الله تعالى لا يريد المعصية، ولا يصدُّ أحداً عن طاعته، ولا يخرجه عنها، ولا تنسب المعصية إليه، لأنه نسب ذلك إلى الشيطان، وهو يتعالى عما عاب به الأبالسة والشياطين
14. اختلف في معنى قوله: ﴿مُسْتَقِرٌّ﴾ :
أ. قيل: قرار، لقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾، وهو أقوى وأحسن.
ب. وقيل: مستقر في القبور.
15. القرار: الثبات، والبقاء مثله، وضد القرار الانزعاج، وضد الثبات الزوال وضد البقاء الفناء، ويقال: قرَّ قراراً، والاستقرار: الكون من وقت واحد على حال، (والمستقرّ) يحتمل أن يكون بمعنى الاستقرار، ويحتمل أن يكون بمعنى المكان الذي يستقرُّ فيه.
16. قوله: ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ المتاع والتمتع والتلذذ والمتعة متقاربة المعنى.. وضدها التألم، يقال: أمتعه به إمتاعاً، وتمتع تمتعاً، واستمتع استمتاعاً، ومتعه تمتيعاً، ومتع النهار متوعاً ـ وذلك قبل الزوال ـ والمتاع من أمتعة البيت: ما يتمتع به الإنسان من حوائجه، وكل شيء تمتعت به فهو متاع، ومنه متعة النكاح، ومتعة المطلقة، ومتعة الحج.
17. الحين، والمدة والزمان، متقاربة، والحين الهلاك حان يحين، وكل شيء لم يوفق للرشاد، فقد حان حينا والحين: الوقت من الزمان وجمعه أحيان، وجمع الجمع، أحايين، ويقال: حان يحين حينونةً، وحينت الشيء: جعلت له حيناً، وحينئذ: يبعد قولك: الآن، فإذا باعدوا بين الوقتين، باعدوا ب (إذ) فقالوا: حينئذ، والحين: يوم القيامة، وأصل الباب، الوقت، والحين: وقت الهلاك، ثم كثر، فسمي الهلاك به، والحين: الوقت الطويل.
18. وفي المراد بالحين في هذا الموضع ثلاثة أقاويل:
أ. قيل: الـ (حين) في الآية يعني الموت.
ب. وقيل: إلى يوم القيامة.
ج. وقيل: إلى أجل.
19. قال ابن سراج: إذا قيل: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ﴾ لَظن أنه غير منقطع، فقال: ﴿إِلَى حِينٍ﴾ انقطاعه، والفرق بين قول القائل: هذا لك حيناً، وبين قوله: إلى حين، أن إلى تدل على الانتهاء، ولا بد أن يكون له ابتداء وليس كذلك الوجه الآخر.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/161.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
2. الزلة: الخطيئة، زل زلة فأزله الشيطان عن الحق إذا أزاله عنه، والزلل مثل الزلة، وأصل الباب الزوال، فالزلة لزوال الحق.
3. الشيطان: المتمرد من كل جنس، وقد بينا من قبل اشتقاقه.
4. الهبوط: التحريك من علو إلى أسفل، ونظيره النزول، يقال: هبط إذا انحدر في هبوطه، والهبوط اسم الموضع الذي يهبط فيه، والهبوط بالضم مصدر هبط، ونظيره الحُدُور.
5. العدو: نقيض الولي، والعداوة المصدر، وأصله من المجاوزة ومنه المعاداة؛ لأن كل واحد يبالغ في مكروه صاحبه حتى يتجاوز الحد، واشتق من ذلك: تَعَاَدى القوم: تبالغوا في حرب أو غيره، كأن كل واحد يعدو في إثر صاحبه.
6. القرار والثبات واحد قَرَّ قرارا، والاستقرار الكون أكثر من وقت على حال، والمستقر يحتمل معنى الاستقرار، ويحتمل معنى المكان الذي يستقر فيه.
7. المتاع: ما يستمتع به الإنسان، وكل شيء تمتعت به فهو متاع، وأصله التمتع، وهو التلذذ.
8. الحين: وقت من الزمان، يقال: حان أن يكون كذا وكذا، ويجمع على الأحايين، والحين بالفتح الهلاك، وأصل الباب الوقت، والحين الوقت الطويل، والحين وقت الهلاك، ثم كثر فسمي الهلاك حينًا.
9. بَيَّنَ تعالى حال آدم في الجنة وما أتى فقال تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾
أ. قيل: حملهما على الزلة بأن وسوس إليهما.
ب. وقيل: أزالهما عن الجنة، وما كانا فيه من الرتبة العظيمة.
10. سؤال وإشكال: لماذا أضاف ذلك إلى الشيطان، وهما فِعْلاَهُمَا؟ والجواب: لأنه حصل عند وسوسته، فكان السبب هو، كما يقال: صرفني فلان عن هذا الأمر، والشيطان المراد به إبليس ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ من النعمة والدعة، وأضاف الإخراج إليه؛ لأنه كان بوسوسته.
11. سؤال وإشكال: كيف وصل إبليس إلى آدم وحواء حتى وسوس إليهما وكلمهما؟ والجواب: اختلفوا فيه:
أ. قيل: كلمهما من الأرض كلامًا عرفاه.
ب. وقيل: راسلهما، والقرآن يدل على المشافهة.
ج. وقيل: كان في السماء ويخرج آدم من الجنة، ويأتي سور الجنة فيكلمه، وكان هذا بعد أن أُخْرِج من الجنة قبل أن يهبط إلى الأرض، عن أبي علي.
د. وقيل: يجوز أن يكون قرب من السماء وإنْ لم يدخلها، عن أبي بكر أحمد بن علي.
هـ. وقيل: أدخلته الحية في فمها، وليس بشيء.
12. اختلفوا في كيف أكلا الشجرة:
أ. قيل: تعمد الأكل من عين ما نهي عنه، ووقعت كبيرة، وهو قول الحشوية، ولا يجوز ذلك على الأنبياء؛ لأنهم معصومون، ولأن ما جوزوه يوجب عليهم البراءة واللعن، وهذا لا يجوز.
ب. وقيل: نسي النهي فتناول منها وهو ناسٍ، يدل عليه قوله تعالى: ﴿ فَنسَىَ ﴾ وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لو نسي لما كان ذنبًا، فكان لا يعاتب عليه، ولأنه كان من شريعته وأمر امرأته بالامتناع أيضًا فكيف ينساه؟، ولا يقال نسي الوعيد؛ لأن النهي يتضمن الوعيد.
ج. وقيل: إنه سكر سقته حواء الخمر حتى سكر فقادته إليها فأكل، عن سعيد بن المسيب، فكان يحلف بِاللهِ ما أكل وهو يعقل، وهذا ليس بالوجيه؛ لأن السكران إن زال عقله زال التكليف فلا يوصف فعله بأنه معصية، وإن لم يزل عقله فالكلام بحاله.
د. وقيل: أكله ناسيًا، والنسيان غير مرفوع عن الأنبياء، وهذا لا يصح لأن النسيان يزيل التكليف، فإن الناسي لا يمكنه أداء ما كلف، وإن أراد بالنسيان التشاغل الذي يتمكن المكلف من إزالته، فلا فرق بيننا وبينهم فيه فلا معنى لهذا الفرق.
هـ. وقيل: إنهما تأولا بأن الإشارة وقعت بالنهي إلى شجرة بعينها، وكان المراد بها الجنس فترك الاستدلال، وهذا نحو ما روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما شبع من هذه البرة السمراء، ونحو إشارته إلى قطعة من ذهب وقطعة من حرير: هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها) وأراد الجنس؛ لأنه لا يجوز على نبي من أنبياء الله تعالى أن يأتي بمعصية، وهو يعلم أنها معصية، وإنما يغفل عن الاستدلال، وهذا هو الأوجه، وهو قول أبي علي.
و. وقيل: تأولا النهي على الندب، لا على الحتم، وقد يجيء صورة النهي، والمراد به التنزيه دون التحريم، كقوله: لا تجلس على الطريق، ونسي الوعيد المقرون به، وهذا يبعد لأن ظاهر النهي يقتضي التحريم، وذلك يتضمن الوعيد، ولا فرق بين أن يقال: نسي الوعيد المقرون بالنهي، أو يقال: نسي النهي.
13. سؤال وإشكال: كيف لم يعلم آدم مع فضله أنه نهي عن الجنس، وعلم ذلك إبليس حتى دعاه إلى أكل الجنس، وهذا كالقدح فيه، ولأنه إذا كان نهاه عن الجنس فلا بد من دليل يتمكن به من معرفته فكان يجب أن ينظر في الدليل، فإذا لم ينظر فقد ترك واجبًا، ولأنه لو نسي ذلك لوجب على الله أن يخطر ذلك بباله حتى لا يقدم عليه، وليستدل على تحريمه، ولأنه تعالى قال ﴿أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ فعاتبه على أنه أكل ما نهي عنه، دل على أنه تناول عين ما نهي عنه، ولأنه ـ وإن نسي الاستدلال ـ لما ذكره الشيطان ودعاه إلى الأكل تذكر فكان يستدل، فلما لم يستدل دل أنه ترك الاستدلال تعمدًا، ثم استوى في ذلك ترك الاستدلال، وفعل الأكل؛ لأن كل واحد منهما ترك الواجب فلأن ذلك كان شريعة له، وكان مأمورًا بتبليغه هو، فكيف يصح أن ينساه، وهو لا يعلم كيفية التحريم والشيطان يعرفه!؟
14. الجواب عن هذا الإشكال: الله تعالى نهاهما عن جنس تلك الشجرة، وأشار إلى شجرة بعينها وقرن بالنهي دليلاً على أنه أراد الجنس، إلا أنه نسي الدليل فترك الاستدلال وتأول النهي على غير تلك الشجرة فأكل متأولاً، ولم يتعمد العصيان.
أ. أما الجواب عن الأول أنه يجوز أن يكون علم إبليس من جهة الملائكة قبل خلق آدم وقبل هذه الأحوال ولم يعلم آدم ذلك، ولأن آدم لم يكن عرف العادات بالخطاب، وهو كان يعرف ذلك، ولأن مبالغته في العداوة تُقَوِّي دواعيه في النظر فعرف، والشهوة صرفت آدم عن النظر، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾ وإنما يكون غرورًا عند عدم العلم.
ب. والجواب عن الثاني: أنه كان هناك دليل فنسي، والنص يدل على العين لا على الجنس.
ج. والجواب عن الثالث: أنه يجوز أن يكون أخطر بباله إلا أنه اشتغل عن الخاطر، أو كان خاطرًا خفيًّا، وكان يجري على عادته في تأويل الشجرة على عينها.
د. والجواب عن الرابع: أن قوله: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ يحتمل الجنس كالنهي الأول.
هـ. والجواب عن الخامس: أن الشيطان كان يذكره الأكل لا تركه وكيفية النهي، بل يميل به عن طريق الاستدلال بالنسية.
و. والجواب عن السادس: أنه لم ينس النهي المنصوص عليه، وإنما نسي المقرون به مما يدل على الجنس، وعلم إبليس بذلك قد بينا الوجه فيه.
15. لا يقال: إن تَرْكَ الاستدلال ونسيان الدليل بمنزلة الأكل وترك النهي في أن كل واحد منهما معصية، فقد فررتم من شيء فوقعتم في مثله؛ وذلك لأن اللفظ يتناول عين الشجرة بدليل قوله تعالى: ﴿ لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾، وكون الجنس مرادًا يعرف بدليل آخر، وذلك الدليل لا يجوز أن يكون من باب الاجتهاد، فلا بد أن يكون مما يوجب العلم، وكان آدم عالمًا بذلك الدليل وقت النهي، فلما تطاولت المدة غفل عنه ولم ينظر مع تمكنه من النظر، وروي أن آدم كان في الجنة دهرًا طويلاً.
16. ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ يعني آدم وذريته وإبليس وذريته، ولم يكن من آدم إليه ما يوجب العداوة، ولكن حسده إبليس وخالفه، فنشأت بينهما عداوة، ثم عداوة آدم له إِيمَانٌ، وعداوة إبليس لآدم كُفْرٌ.
17. ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ أي مقر بأن جعل الأرض قرارًا، ﴿وَمَتَاعٌ﴾ أي: استمتاع.
18. اختلف في معنى ﴿إِلَى حِينٍ﴾ :
أ. إلى وقت.
ب. وقيل: إلى وقت الموت، عن أبي علي.
ج. وقيل: إلى الوقت الذي جعل الله لكم من الأجل في الدنيا، عن الأصم.
د. وقيل: إلى يوم القيامة.
هـ. وقيل: مستقر في القبور إلى يوم البعث.
و. وقيل: لما قال الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ﴾ جاز أن يظن ظان أنه غير منقطع قال: إِلَى حِينٍ) أي إلى وقت انقطاعه، عن ابن السراج.
19. ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا﴾ أي انزلوا، واختلفوا:
أ. قيل: الخطاب لآدم وحواء وإبليس، عن الأصم والزجاج وأبي علي وجماعة من المفسرين، ويجوز ذلك وإن كان إبليس أخرج قبل ذلك كما يقال: أخرج جميع من في الحبس وإن تقدم بعضهم.
ب. وقيل: أراد آدم وحواء والحيّة، وليبس بصحيح؛ لأنه لم يَجْرِ له ذكر، ولا هو مكلف ولا مخاطب.
ج. وقيل: آدم وحواء وذريته، وليس بصحيح لأنهم كانوا معدومين، ولأنه لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ.
د. وقيل: آدم وحواء والوسوسة، عن الحسن، وهذا فاسد؛ لأنه ليس بمخاطب حتى يؤمر، ولم يَجْرِ له ذكر.
20. تدل الآيات الكريمة على:
أ. جواز وقوع الصغيرة من الأنبياء خلاف ما يقوله جماعة من الإمامية، وإنما يجوز الصغيرة فيما يخصه، فأما في أداء الشرع وما يُنَفِّرُ من الصغائر فلا يجوز ألبتَّة، والكبائر لا تجوز عليهم بوجه.
ب. أن الإهباط لم يكن عقوبة؛ لأنه كان بعد التوبة خلاف ما يقوله قوم من الحشوية، وهذا الإهباط من الجنة إلى السماء، عن أبي علي.
ج. بطلان مذهب الجبر في المخلوق، ولأنه لو كان هو خلق الأكل فيه والوسوسة في إبليس، وهو الذي أوقعهما في المعصية لم يكن لِعَتْبِ آدم ولعن إبليس وإضافة ذلك إليهما، ولا لقوله: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيطَانُ) مَعْنًى.
د. أن لوسوسة إبليس تأثيرًا في المعصية على ما يقوله أبو هاشم والأكثر، خلاف قول أبي علي.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/334.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الزلة، والخطيئة، والمعصية، والسيئة، بمعنى واحد.. وضد الخطيئة الإصابة، يقال: زلت قدمه زلا، وزل في مقالته زلة.. والمزلة: المكان الدحض.. والمزلة: الزلل في الدحض.. وأزللت إلى فلان نعمة أي: أسديت.. وفي الحديث: (من أزلت إليه نعمة فليشكرها)، قال كثير: وإني، وإن صدت، لمثن، وصادق عليها بما كانت إلينا أزلت والأصل في ذلك الزوال.. والزلة: زوال عن الحق.. وأزله الشيطان: إذا أزاله عن الحق.
ب. الهبوط، والنزول، والوقوع، نظائر: وهو التحرك من علو إلى سفل.. ويقال: هبطته وأهبطته.. والهبوط: كالحدور وهو الموضع الذي يهبطك من أعلى إلى أسفل، وقد يستعمل الهبوط بمعنى الحلول في المكان، والنزول به، قال الله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ .. ويقول القائل: هبطنا بلد كذا، يريد: حللنا، قال زهير:
ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت... أيدي الركاب بهم من راكس فلقا
ج. العدو: نقيض الولي.. والعداوة المصدر، وأصله من المجاوزة.
د. القرار: الثبات والبقاء.. وضد القرار الانزعاج، وضد الثبات الزوال، وضد البقاء الفناء.. والاستقرار: الكون أكثر من وقت واحد على حال.. والمستقر: يحتمل أن يكون بمعنى الاستقرار، ويحتمل أن يكون بمعنى المكان الذي يستقر فيه.
هـ. المتاع والتمتع والمتعة والتلذذ متقاربة المعنى، وكل شيء تمتعت به فهو متاع.
و. الحين، والمدة، والزمان، متقارب، والحين في غير هذا الموضع: ستة أشهر، يدل عليه قوله تعالى ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ والحين يصلح للأوقات كلها، إلا أنه في الاستعمال في الكثير منها أكثر.
2. ثم بين سبحانه حال آدم عليه السلام قال: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ أي: حملهما على الزلة.. نسب الإزلال إلى الشيطان، لما وقع بدعائه ووسوسته وإغوائه ﴿عَنْهَا﴾ أي: عن الجنة، وما كانا فيه من عظيم الرتبة والمنزلة، والشيطان المراد به إبليس.
3. ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ من النعمة والدعة:
أ. ويحتمل أن يكون أراد اخراجهما من الجنة حتى أهبطا.
ب. ويحتمل أن يكون أراد من الطاعة إلى المعصية.
وأضاف الإخراج إليه لأنه كان السبب فيه كما يقال: صرفني فلان عن هذا الأمر.
4. لم يكن اخراجهما من الجنة وإهباطهما إلى الأرض على وجه العقوبة، لأن الدليل قد دل على أن الأنبياء عليهم السلام، لا تجوز عليهم القبائح على حال، ومن أجاز العقاب على الأنبياء، فقد أساء عليهم الثناء، وأعظم الفرية على الله، سبحانه وتعالى، وإذا صح ما قلناه، فإنما أخرج الله آدم من الجنة لأن المصلحة قد تغيرت بتناوله من الشجرة، فاقتضت الحكمة والتدبير الإلهي إهباطه إلى الأرض، وابتلاءه بالتكليف والمشقة، وسلبه ما ألبسه إياه من ثياب الجنة، لأن إنعامه عليه بذلك كان على وجه التفضل والامتنان، فله أن يمنع ذلك تشديدا للبلوى والامتحان، كما له أن يفقر بعد الإغناء، ويميت بعد الإحياء، ويسقم بعد الصحة، ويعقب المحنة بعد المحنة.
5. اختلف في كيفية وصول إبليس إلى آدم وحواء حتى وسوس إليهما وإبليس كان قد أخرج من الجنة حين أبى السجود، وهما في الجنة:
أ. قيل: إن آدم كان يخرج إلى باب الجنة، وإبليس لم يكن ممنوعا من الدنو منه، فكان يكلمه، وكان هذا قبل أن أهبط إلى الأرض، وبعد أن اخرج من الجنة، عن أبي علي الجبائي.
ب. وقيل: إنه كلمهما من الأرض بكلام عرفاه وفهماه منه.
ج. وقيل: إنه دخل في فقم الحية، وخاطبهما من فقمها.. والفقم: جانب الشدق.
د. وقيل: إنه راسلهما بالخطاب.. وظاهر القرآن يدل على أنه شافههما بالخطاب.
6. ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا﴾ خاطب بخطاب الجمع، وفيه وجوه:
أ. أحدها: إنه خاطب آدم وحواء وإبليس، وهو اختيار الزجاج، وقول جماعة من المفسرين، وهذا غير منكر، وإن إبليس قد أخرج قبل ذلك، بدلالة قوله: ﴿ أخرج منها فإنك رجيم ﴾، فجمع الخبر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنهم قد اجتمعوا في الهبوط، وإن كانت أوقاتهم متفرقة فيه، كما يقال أخرج جميع من في الحبس، وإن أخرجوا متفرقين.
ب. الثاني: إنه أراد آدم وحواء والحية، وفي هذا الوجه بعد، لأن خطاب من لا يفهم الخطاب لا يحسن، ولأنه لم يتقدم للحية ذكر، والكناية عن غير مذكور لا تحسن إلا بحيث لا يقع لبس مثل قوله: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾، وقوله: ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ وقولي حاتم:
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى... إذا حشرجت يوما، وضاق بها الصدر
ج. الثالث: إنه أراد آدم وحواء وذريتهما، لأن الوالدين يدلان على الذرية، ويتعلق بهما.
د. الرابع: أن يكون الخطاب يختص بآدم وحواء عليهما السلام، وخاطب الاثنين على الجمع على عادة العرب، وذلك لأن الاثنين أول الجمع، قال الله تعالى ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ : أراد حكم داوود وسليمان، وقد تأول قوله تعالى ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ على معنى فإن كان له اخوان.
هـ. الخامس: آدم وحواء والوسوسة، عن الحسن، وهذا ضعيف.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ :
أ. قيل: يعني آدم وذريته، وإبليس وذريته، ولم يكن من آدم إليه ما يوجب عداوته إياه، ولكن حسده الملعون، وخالفه، فنشأت بينهما العداوة.. ثم إن عداوة آدم له إيمان، وعداوة إبليس له كفر.
ب. وقال الحسن: يريد بني آدم، وبني إبليس، وليس ذلك بأمر، بل هو تحذير، يعني إن الله تعالى لا يأمر بالعداوة، فالأمر مختص بالهبوط والمعاداة يجري مجرى الحال، لأن الظاهر يقتضي أنه أمرهما بالهبوط في حال عداوة بعضهم بعضا.. فأما على الوجه الذي يتضمن أن الخطاب يختص بآدم وحواء، فالمراد به: إن ذريتهما يعادي بعضهم بعضا، وعلق الخطاب بهما للاختصاص بين الذرية، وبين أصلها.
8. ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ أي: مقر ومقام وثبوت، بأن جعل الأرض قرارا لكم ﴿وَمَتَاعٌ﴾ أي: استمتاع ﴿إِلَى حِينٍ﴾ :
أ. قيل: إلى وقت الموت.
ب. وقيل: إلى يوم القيامة.
ج. وقيل: إلى فناء الآجال أي: كل امرئ مستقر إلى فناء أجله.. وقال أبو بكر السراج: لو قال ولكم في الأرض مستقر ومتاع، لظن أنه غير منقطع، فقال: ﴿إِلَى حِينٍ﴾ أي: إلى حين انقطاعه، والفرق بين قول القائل إن هذا لكم حينا، وبين قوله إلى حين أن إلى يدل على الانتهاء، ولا بد أن يكون له ابتداء، وليس كذلك الوجه الآخر.
9. في هذه الآية دلالة على أن الله تعالى لا يريد المعصية، ولا يصد أحدا عن الطاعة، ولا يخرجه عنها، ولا يسبب المعصية لأنه نسب ذلك إلى الشيطان، جل ربنا وتقدس عما نسبه إلى إبليس والشياطين، ويدل أيضا على أن لوسوسة إبليس تأثيرا في المعاصي.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/197.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هاء ﴿عَنْهَا﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها تعود إلى الجنّة.
ب. الثاني: ترجع إلى الطاعة.
ج. الثالث: ترجع إلى الشجرة، فمعناه: أزلّهما بزلّة صدرت عن الشجرة.
2. في كيفيّة إزلاله لهما، ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه احتال حتى دخل إليهما الجنّة، وكان الذي أدخله الحيّة، قاله ابن عباس والسّدّيّ.
ب. الثاني: أنه وقف على باب الجنة، وناداهما، قاله الحسن.
ج. الثالث: أنه وسوس إليهما، وأوقع في نفوسهما من غير مخاطبة ولا مشاهدة، قاله ابن إسحاق، وفيه بعد.
3. قال الزّجّاج: الأجود: أن يكون خاطبهما، لقوله: ﴿وَقَاسَمَهُمَا﴾ .
4. اختلف العلماء في معصية آدم بالأكل:
أ. فقال قوم: إنه نهي عن شجرة بعينها، فأكل من جنسها.
ب. وقال آخرون: تأوّل الكراهة في النهي دون التحريم.
5. الهبوط بضم الهاء: الانحدار من علو، وبفتح الهاء: المكان الذي يهبط فيه، وإلى من انصرف هذا الخطاب؟ فيه ستة أقوال:
أ. أحدها: أنه انصرف إلى آدم وحوّاء والحيّة، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
ب. الثاني: إلى آدم وحواء وإبليس والحية، حكاه السّدّيّ عن ابن عباس.
ج. الثالث: إلى آدم وإبليس، قاله مجاهد.
د. الرابع: إلى آدم وحواء وإبليس، قاله مقاتل.
هـ. الخامس: إلى آدم وحواء وذرّيتهما، قاله الفرّاء.
و. السادس: إلى آدم وحواء فحسب، ويكون لفظ الجمع واقعا على التثنية، كقوله: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ ذكره ابن الأنباريّ، وهو العلة في قول مجاهد أيضا.
6. اختلف العلماء: هل أهبطوا جملة أو متفرّقين؟ على قولين:
أ. أنهم أهبطوا جملة، لكنهم نزلوا في بلاد متفرّقة، قاله كعب، قاله مقاتل.
ب. وروي عن ابن عباس أنه قال أهبطت الحية بنصيبين، قال وأمر الله تعالى جبريل بإخراج آدم، فقبض على ناصيته وخلّصه من الشجرة التي قبضت عليه، فقال: أيها الملك ارفق بي، قال جبريل: إني لا أرفق بمن عصى الله، فارتعد آدم واضطرب، وذهب كلامه، وجبريل يعاتبه في معصيته، ويعدّد نعم الله عليه، قال وأدخل الجنّة ضحوة، وأخرج منها بين الصلاتين، فمكث فيها نصف يوم، خمسمائة عام مما يعدّ أهل الدنيا.
7. في العداوة المذكورة هاهنا ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن ذرية بعضهم أعداء لبعض، قاله مجاهد.
ب. الثاني: أن إبليس عدوّ لآدم وحوّاء، وهما له عدو، قاله مقاتل.
ج. الثالث: أن إبليس عدوّ للمؤمنين، وهم أعداؤه، قاله الزّجّاج.
8. في المستقر قولان:
أ. أحدهما: أن المراد به القبور، حكاه السّدّيّ عن ابن عباس.
ب. الثاني: موضع الاستقرار، قاله أبو العالية، وابن زيد، والزّجّاج، وابن قتيبة، وهو أصح.
9. المتاع: المنفعة.
10. الحين: الزمان، قال ابن عباس: ﴿إِلَى حِينٍ﴾، أي: إلى فناء الأجل بالموت.
__________
(1) زاد المسير: 1/57.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قال صاحب الكشاف: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ تحقيقه، فأصدر الشيطان زلتهما عنها ولفظة (عن) في هذه الآية كهي في قوله تعالى: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: 82]
2. قال القفال: هو من الزلل يكون الإنسان ثابت القدم على الشيء، فيزل عنه ويصير متحولًا عن ذلك الموضع، ومن قرأ فأزالهما فهو من الزوال عن المكان، وحكي عن أبي معاذ أنه قال يقال أزلتك عن كذا حتى زلت عنه وأزللتك حتى زللت ومعناهما واحد، أي: حولتك عنه، وقال بعض العلماء: أزلهما الشيطان أي استزلهما، فهو من قولك زل في دينه إذا أخطأ وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه.
3. اختلفوا في أنه كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم عليه السلام مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم كان في الجنة، وذكروا فيه وجوهاً:
أ. أحدها: قول القصاص وهو الذي رووه عن وهب بن منبه اليماني والسدي عن ابن عباس وغيره: أنه لما أراد إبليس أن يدخل الجنة منعته الخزنة فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البختية، وهي كأحسن الدواب بعد ما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد منها فابتلعته الحية وأدخلته الجنة خفية من الخزنة، فلما دخلت الحية الجنة خرج إبليس من فمها واشتغل بالوسوسة، فلا جرم لعنت الحية وسقطت قوائمها وصارت تمشي على بطنها، وجعل رزقها في التراب، وصارت عدواً لبني آدم، وهذا وأمثاله مما يجب أن لا يلتفت إليه لأن إبليس لو قدر على الدخول في فم الحية فلم لم يقدر على أن يجعل نفسه حية ثم يدخل الجنة، ولأنه لما فعل ذلك بالحية فلم عوقبت الحية مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة.
ب. ثانيها: أن إبليس دخل الجنة في صورة دابة، وهذا القول أقل فساداً من الأول.
ج. ثالثها: قال بعض أهل الأصول: إن آدم وحواء عليهما السلام لعلهما كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان بقرب الباب ويوسوس إليهما.
د. ورابعها: وهو قول الحسن: أن إبليس كان في الأرض وأوصل الوسوسة إليهما في الجنة، قال بعضهم: هذا بعيد لأن الوسوسة كلام خفي والكلام الخفي لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السماء.
4. اختلفوا من وجه آخر وهو أن إبليس هل باشر خطابهما أو يقال إنه أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه:
أ. حجة القول الأول: قوله تعالى: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: 21]، وذلك يقتضي المشافهة، وكذا قوله: ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾ [الأعراف: 22]
ب. حجة القول الثاني: أن آدم وحواء عليهما السلام كانا يعرفانه ويعرفان ما عنده من الحسد والعداوة، فيستحيل في العادة أن يقبلا قوله وأن يلتفتا إليه، فلا بد وأن يكون المباشر للوسوسة من بعض أتباع إبليس.
5. سؤال وإشكال: أضاف الله تعالى هذا الإزلال إلى إبليس فلم عاتبهما على ذلك الفعل؟ والجواب:
أ. معنى قوله: ﴿فَأَزَلَّهُمَا﴾ أنهما عند وسوسته أتيا بذلك الفعل، فأضيف ذلك إلى إبليس كما في قوله تعالى: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾ [نوح: 6]، فقال تعالى حاكياً عن إبليس: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم: 22]، هذا ما قاله المعتزلة.
ب. التحقيق في هذه الإضافة ما قررناه مراراً أن الإنسان قادر على الفعل والترك ومع التساوي يستحيل أن يصير مصدراً لأحد هذين الأمرين إلا عند انضمام الداعي إليه، والداعي عبارة في حق العبد عن علم أو ظن أو اعتقاد بكون الفعل مشتملًا على مصلحة، فإذا حصل ذلك العلم أو الظن بسبب منبه نبه عليه كان الفعل مضافاً إلى ذلك لما لأجله صار الفاعل بالقوة فاعلًا بالفعل، فلهذا المعنى انضاف الفعل هاهنا إلى الوسوسة(2).
6. سؤال وإشكال: كيف كانت تلك الوسوسة؟ الجواب: أنها هي:
أ. التي حكى الله تعالى عنها في قوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ [الأعراف: 20]
ب. فلم يقبلا ذلك منه، فلما أيس من ذلك عدل إلى اليمين على ما قال: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: 21]
ج. فلم يصدقاه أيضاً، والظاهر أنه بعد ذلك عدل إلى شيء آخر، وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات المباحة حتى صارا مستغرقين فيه، فحصل بسبب استغراقهما فيه نسيان النهي فعند ذلك حصل ما حصل، والله أعلم بحقائق الأمور كيف كانت.
7. اختلف في الحكم على ما صدر من آدم عليه السلام على الأقوال التالية:
أ. القول الأول: صدر عنه ذلك الفعل بعد النبوة، وكان إقدامه على ذلك الفعل ناسياً.
ب. القول الثاني: وهو أنه عليه السلام فعله عامداً، وفيه أربعة أقوال:
• أحدها: أن ذلك النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم.
• الثاني: أنه كان ذلك عمداً من آدم عليه السلام وكان ذلك كبيرة مع أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت نبياً، وقد عرفت فساد هذا القول.
• الثالث: أنه عليه السلام فعله عمداً، لكن كان معه من الوجل والفزع والإشفاق ما صير ذلك في حكم الصغيرة، وهذا القول أيضاً باطل لأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمداً وإن فعله مع الخوف إلا أنه يكون مع ذلك عاصياً مستحقاً للعن والذم والخلود في النار، ولا يصح وصف الأنبياء عليهم السلام بذلك، ولأنه تعالى وصفه بالنسيان في قوله: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: 115]، وذلك ينافي العمدية.
• الرابع: وهو اختيار أكثر المعتزلة: أنه عليه السلام أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه، وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة.
8. احتج القائلون بأنه صدر عنه ذلك الفعل بعد النبوة، وكان إقدامه على ذلك الفعل ناسياً، وهو قول طائفة من المتكلمين بقوله تعالى: ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: 115] ومثلوه بالصائم يشتغل بأمر يستغرقه ويغلب عليه فيصير ساهياً عن الصوم ويأكل في أثناء ذلك السهو لا عن قصد.
9. ذكر المخالفون لهذا، وهم القائلون بأن إقدامه على ذلك الفعل كان متعمدا أن هذا باطل من وجهين:
أ. الأول: أن قوله تعالى: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾، وقوله: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: 20 ـ 21] يدل على أنه ما نسي النهي حال الإقدام، وروى عن ابن عباس ما يدل على أن آدم عليه السلام تعمد لأنه قال لما أكلا منها فبدت لهما سوآتهما خرج آدم فتعلقت به شجرة من شجر الجنة، فحسسته فناداه الله تعالى أفراراً مني، فقال: بل حياء منك، فقال له: أما كان فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك؟ قال بلى يا رب ولكني وعزتك ما كنت أرى أن أحداً يحلف بك كاذباً، فقال: وعزتي لأهبطنك منها ثم لا تنال العيش إلا كداً.
ب. الثاني: وهو أنه لو كان ناسياً لما عوتب على ذلك الفعل:
• أما من حيث العقل فلأن الناسي غير قادر على الفعل، فلا يكون مكلفاً به لقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]
• أما من حيث النقل فلقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: رفع القلم عن ثلاث)، فلما عوتب عليه دل على أن ذلك لم يكن على سبيل النسيان.
10. أجاب من ذكروا أنه صدر عنه ذلك الفعل بعد النبوة، وكان إقدامه على ذلك الفعل ناسياً:
أ. أنا لا نسلم أن آدم وحواء قبلا من إبليس ذلك الكلام ولا صدقاه فيه، لأنهما لو صدقاه لكانت معصيتهما في هذا التصديق أعظم من أكل الشجرة، لأن إبليس لما قال لهما: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾، فقد ألقى إليهما سوء الظن بالله ودعاهما إلى ترك التسليم لأمره والرضا بحكمه وإلى أن يعتقدا فيه كون إبليس ناصحاً لهما وأن الرب تعالى قد غشهما ولا شك أن هذه الأشياء أعظم من أكل الشجرة، فوجب أن تكون المعاتبة في ذلك أشد.
ب. وأيضاً كان آدم عليه السلام عالماً بتمرد إبليس عن السجود وكونه مبغضاً له وحاسداً له على ما آتاه الله من النعم، فكيف يجوز من العاقل أن يقبل قول عدوه مع هذه القرائن وليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل عند ذلك الكلام أو بعده، ويدل على أن آدم كان عالماً بعداوته لقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ [طه: 117]
ج. أما ما روي عن ابن عباس فهو أثر مروي بالآحاد، فكيف يعارض القرآن؟
د. أن العتاب إنما حصل على ترك التحفظ من أسباب النسيان، وهذا الضرب من السهو موضوع عن المسلمين وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به، وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خطرهم ومثلوه بقوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [الأحزاب: 32]، ثم قال ﴿مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب: 30]، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل)، وقال أيضاً: إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم)
هـ. أن هذا يدخل ضمن قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين)، ولقد كان على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من التشديدات في التكليف ما لم يكن على غيره.
و. في بعض التفاسير أن حواء سقته الخمر حتى سكر ثم في أثناء السكر فعل ذلك، قالوا: وهذا ليس ببعيد لأنه عليه السلام كان مأذوناً له في تناول كل الأشياء سوى تلك الشجرة، فإذا حملنا الشجرة على البر، كان مأذوناً في تناول الخمر، ولقائل أن يقول: إن خمر الجنة لا يسكر، لقوله تعالى في صفة خمر الجنة: ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات: 47]
11. ذكر أكثر المعتزلة: أنه عليه السلام أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه، وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة، بيان الاجتهاد الخطأ أنه لما قيل له: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ فلفظ ﴿هَذِهِ﴾ قد يشار به إلى الشخص، وقد يشار به إلى النوع، وروي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذ حريراً وذهباً بيده وقال: هذان حل لإناث أمتي حرام على ذكورهم)، وأراد به نوعهما، وروي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم توضأ مرة مرة وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به)، وأراد نوعه، فلما سمع آدم عليه السلام قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ [البقرة: 35] [الأعراف: 19] ظن أن النهي إنما يتناول تلك الشجرة المعينة، فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع، إلا أنه كان مخطئاً في ذلك الاجتهاد لأن مراد الله تعالى من كلمة ﴿هَذِهِ﴾ كان النوع لا الشخص والاجتهاد في الفروع، إذا كان خطأ لا يوجب استحقاق العقاب واللعن لاحتمال كونه صغيرة مغفورة كما في شرعنا.
12. رد على ما ذكره المعتزلة بالوجوه التالية:
أ. الوجه الأول: أن كلمة هذا في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء الحاضر، والشيء الحاضر لا يكون إلا شيئاً معيناً، فكلمة هذا في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء المعين فأما أن يراد بها الإشارة إلى النوع، فذاك على خلاف الأصل، وأيضاً فلأنه تعالى لا تجوز الإشارة عليه فوجب أن يكون أمر بعض الملائكة بالإشارة إلى ذلك الشخص، فكان ما عداه خارجاً عن النهي لا محالة، إذا ثبت هذا فنقول:
• المجتهد مكلف بحمل اللفظ على حقيقته، فآدم عليه السلام لما حمل لفظ هذا على المعين كان قد فعل الواجب ولا يجوز له حمله على النوع، وهذا الكلام متأيد بأمرين آخرين، أحدهما: أن قوله: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ [البقرة: 35] أفاد الإذن في تناول كل ما في الجنة إلا ما خصه الدليل.
• أن العقل يقتضي حل الانتفاع بجميع المنافع إلا ما خصه الدليل، والدليل المخصص لم يدل إلا على ذلك المعين، فثبت أن آدم عليه السلام كان مأذوناً له في الانتفاع بسائر الأشجار، وإذا ثبت هذا امتنع أن يستحق بسبب هذا عتاباً وأن يحكم عليه بكونه مخطئاً فثبت أن حمل القصة على هذا الوجه، يوجب أن يحكم عليه بأنه كان مصيباً لا مخطئاً، وإذا كان كذلك ثبت فساد هذا التأويل.
ب. الوجه الثاني: في الاعتراض على هذا التأويل، هب أن لفظ هذا متردد بين الشخص والنوع، ولكن هل قرن الله تعالى بهذا اللفظ ما يدل على أن المراد منه النوع دون الشخص أو ما فعل ذلك؟
• فإن كان الأول فإما أن يقال إن آدم عليه السلام قصر في معرفة ذلك البيان، فحينئذ يكون قد أتى بالذنب.
• وإن لم يقصر في معرفته بل عرفه فقد عرف حينئذ أن المراد هو النوع، فإقدامه على التناول من شجرة من ذلك النوع يكون إقداماً على الذنب قصداً.
ج. الوجه الثالث: أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز لهم الاجتهاد لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظن، وذلك إنما يجوز في حق من لا يتمكن من تحصيل العلم، أما الأنبياء فإنهم قادرون على تحصيل اليقين، فوجب أن لا يجوز لهم الاجتهاد لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلًا وشرعاً، وإذا ثبت ذلك ثبت أن الإقدام على الاجتهاد معصية.
د. الوجه الرابع: هذه المسألة إما أن تكون من المسائل القطعية أو الظنية، فإن كانت من القطعيات كان الخطأ فيها كبيراً وحينئذ يعود الإشكال، وإن كانت من الظنيات فإن قلنا إن كل مجتهد مصيب فلا يتحقق الخطأ فيها أصلًا، وإن قلنا المصيب فيها واحد والمخطئ فيها معذور بالاتفاق فكيف صار هذا القدر من الخطأ سبباً لأن نزع عن آدم عليه السلام لباسه وأخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض؟
13. أجاب المعتزلة على هذه الوجوه بما يلي:
أ. الجواب عن الأول: أن لفظ هذا وإن كان في الأصل للإشارة إلى الشخص لكنه قد يستعمل في الإشارة إلى النوع، وأنه سبحانه وتعالى كان قد قرن به ما دل على أن المراد هو النوع.
ب. الجواب عن الثاني: هو أن آدم عليه السلام:
• لعله قصر في معرفة ذلك الدليل لأنه ظن أنه لا يلزمه ذلك في الحال.
• أو يقال: إنه عرف ذلك لا دليل في وقت ما نهاه الله تعالى عن عين الشجرة، فلما طالت المدة غفل عنه لأن في الخبر أن آدم عليه السلام بقي في الجنة الدهر الطويل ثم أخرج.
ج. الجواب عن الثالث: أنه لا حاجة هاهنا إلى إثبات أن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بالاجتهاد، فإنا بينا أنه عليه السلام قصر في معرفة تلك الدلالة أو أنه كان قد عرفها لكنه قد نسيها، وهو المراد من قوله تعالى: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: 115]
د. الجواب عن الرابع: يمكن:
• أن يقال: كانت الدلالة قطعية إلا أنه عليه السلام لما نسيها صار النسيان عذراً في أن لا يصير الذنب كبيراً.
• أو يقال: كانت ظنية إلا أنه ترتب عليه من التشديدات ما لم يترتب على خطأ سائر المجتهدين لأن ذلك يجوز أن يختلف باختلاف الأشخاص، وكما أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مخصوص بأمور كثيرة في باب التشديدات والتخفيفات بما لا يثبت في حق الأمة، فكذا هاهنا.. ويمكن أن يقال في المسألة وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ ونهاهما معاً فظن آدم عليه السلام أنه يجوز لكل واحد منهما وحده أن يقرب من الشجرة وأن يتناول منها، لأن قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبَا﴾ نهي لهما على الجمع ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الانفراد، فلعل الخطأ في هذا الاجتهاد إنما وقع من هذا الوجه.
14. قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ لا شبهة في أنه نهى ولكن هل هذا نهي تحريم أو نهي تنزيه فيه خلاف:
أ. قال قائلون: هذه الصيغة النهي التنزيه، وذلك:
• لأن هذه الصيغة وردت تارة في التنزيه وأخرى في التحريم، والأصل عدم الاشتراك، فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين القسمين، وما ذلك إلا أن يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل من غير أن يكون فيه دلالة على المنع من الفعل أو على الإطلاق فيه، لكن الإطلاق فيه كان ثابتاً بحكم الأصل، فإن الأصل في المنافع الإباحة، فإذا ضممنا مدلول اللفظ إلى هذا الأصل صار المجموع دليلًا على التنزيه.
• وهذا هو الأولى بهذا المقام لأن على هذا التقدير يرجع حاصل معصية آدم عليه السلام إلى ترك الأولى ومعلوم أن كل مذهب كان أفضى إلى عصمة الأنبياء عليهم السلام كان أولى بالقبول.
ب. قال آخرون: بل هذا النهي نهي تحريم واحتجوا عليه بأمور:
• أحدها: أن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ كقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: 222] وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: 152] فكما أن هذا للتحريم فكذا الأول.
• ثانيها: أنه قال ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 35] معناه إن أكلتما منها فقد ظلمتما أنفسكما ألا تراهما لما أكلا ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23]
• ثالثها: أن هذا النهي لو كان نهي تنزيه لما استحق آدم بفعله الإخراج من الجنة ولما وجبت التوبة عليه
15. أجاب القائلون بأن هذه الصيغة نهي التنزيه على هذا بما يلي:
أ. عن الأول: إن النهي وإن كان في الأصل للتنزيه ولكنه قد يحمل على التحريم لدلالة منفصلة.
ب. عن الثاني: أن قوله: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي فتظلما أنفسكما بفعل ما الأولى بكما تركه لأنكما إذا فعلتما ذلك أخرجتما من الجنة التي لا تظمئان فيها ولا تجوعان ولا تضحيان ولا تعريان إلى موضع ليس لكما فيه شيء من هذا.
عن الثالث: أنا لا نسلم أن الإخراج من الجنة كان لهذا السبب.
16. من قال إن جنة آدم كانت في السماء فسر الهبوط بالنزول من العلو إلى السفل، ومن قال إنها كانت في الأرض فسره بالتحول من موضع إلى غيره، كقوله: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: 61]
17. اختلفوا في المخاطبين بهذا الخطاب بعد الاتفاق على أن آدم وحواء عليهما السلام كانا مخاطبين به وذكروا فيه وجوهاً:
أ. الأول: وهو قول الأكثرين: أن إبليس داخل فيه أيضاً قالوا لأن إبليس قد جرى ذكره في قوله: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ أي فأزلهما وقلنا لهم اهبطوا.. والإشكال الموجه لهؤلاء هو أن إبليس لما أبى من السجود صار كافراً وأخرج من الجنة وقيل له: ﴿فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾ [الأعراف: 13]، وقال أيضاً: ﴿فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ [ص: 77، الحجر: 34]، وإنما اهبط منها لأجل تكبره، فزلة آدم عليه السلام إنما وقعت بعد ذلك بمدة طويلة، ثم أمر بالهبوط بسبب الزلة، فلما حصل هبوط إبليس قبل ذلك كيف يكون قوله: ﴿اهْبِطُوا﴾، متناولًا له؟ وقد أجابوا عنه بأن الله تعالى لما أهبطه إلى الأرض فلعله عاد إلى السماء مرة أخرى لأجل أن يوسوس إلى آدم وحواء فحين كان آدم وحواء في الجنة قال الله تعالى لهما: ﴿اهْبِطَا﴾ [طه: 123]، فلما خرجا من الجنة واجتمع إبليس معهما خارج الجنة أمر الكل فقال: ﴿اهْبِطُوا﴾ ومن الناس من قال ليس معنى قوله: ﴿اهْبِطُوا﴾ أنه قال ذلك لهم دفعة واحدة، بل قال ذلك لكل واحد منهم على حدة في وقت.
ب. الثاني: أن المراد آدم وحواء والحية وهذا ضعيف لأنه ثبت بالإجماع أن المكلفين هم الملائكة والجن والإنس، ولقائل أن يمنع هذا الإجماع فإن من الناس من يقول قد يحصل في غيرهم جمع من المكلفين على ما قال تعالى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [النور: 41]، وقال سليمان للهدهد: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [النمل: 21]
ج. الثالث: المراد آدم وحواء وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الإنس كلهم، والدليل عليه قوله: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ .. ﴿اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ [البقرة: 36، 38]، ويدل عليه أيضاً قوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 38، 39]، وهذا حكم يعم الناس كلهم، ومعنى: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ ما عليه الناس من التعادي والتباغض وتضليل بعضهم لبعض، واعلم أن هذا القول ضعيف لأن الذرية ما كانوا موجودين في ذلك الوقت فكيف يتناولهم الخطاب؟ أما من زعم أن أقل الجمع اثنان فالسؤال زائل على قوله.
18. قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ هذا تعريف لآدم وحواء عليهما السلام أن إبليس عدو لهما ولذريتهما كما عرفهما ذلك قبل الأكل من الشجرة فقال: ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ [طه: 117].
19. اختلفوا في أن قوله: ﴿اهْبِطُوا﴾ أمر أو إباحة، والأشبه أنه أمر لأن فيه مشقة شديدة لأن مفارقة ما كانا فيه من الجنة إلى موضع لا تحصل المعيشة فيه إلا بالمشقة والكد من أشق التكاليف، وإذا ثبت هذا بطل ما يظن أن ذلك عقوبة، لأن التشديد في التكليف سبب للثواب، فكيف يكون عقاباً مع ما فيه من النفع العظيم؟
20. سؤال وإشكال: ألستم تقولون في الحدود وكثير من الكفارات إنها عقوبات وإن كانت من باب التكاليف، والجواب:
أ. أما الحدود فهي واقعة بالمحدود من فعل الغير، فيجوز أن تكون عقاباً إذا كان الرجل مصراً.
ب. أما الكفارات فإنما يقال في بعضها إنه يجري مجرى العقوبات لأنها لا تثبت إلا مع المأثم، فأما أن تكون عقوبة مع كونها تعريضات للثواب العظيم فلا.
21. قوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾، أمر بالهبوط وليس أمراً بالعداوة، لأن عداوة إبليس لآدم وحواء عليهما السلام بسبب الحسد والاستكبار عن السجود واختداعه إياهما حتى أخرجهما من الجنة وعداوته لذريتهما بإلقاء الوسوسة والدعوة إلى الكفر والمعصية، وشيء من ذلك لا يجوز أن يكون مأموراً به، فأما عداوة آدم لإبليس فإنها مأمور بها لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ [فاطر: 6] وقال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: 27] إذا ثبت هذا ظهر أن المراد من الآية اهبطوا من السماء وأنتم بعضكم لبعض عدو.
22. المستقر قد يكون بمعنى الاستقرار كقوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ [القيامة: 12]، وقد يكون بمعنى المكان الذي يستقر فيه كقوله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ [الفرقان: 24]، وقال تعالى: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ [الأنعام: 98]
23. الأكثرون حملوا قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ [البقرة: 36] [الأعراف: 24]، على المكان، والمعنى أنها مستقركم حالتي الحياة والموت، وروى السدي عن ابن عباس أنه قال المستقر هو القبر، أي قبوركم تكونون فيها، والأول أولى:
أ. لأنه تعالى قدر المتاع، وذلك لا يليق إلا بحال الحياة.
ب. ولأنه تعالى خاطبهم بذلك عند الإهباط، وذلك يقتضي حال الحياة.
24. قال الله تعالى في سورة الأعراف في هذه القصة: ﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾ [الأعراف: 24، 25]، فيجوز أن يكون قوله: ﴿فِيهَا تَحْيَوْنَ﴾، إلى آخر الكلام بياناً لقوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾، ويجوز أن يكون زيادة على الأول.
25. اختلفوا في معنى الحين بعد اتفاقهم على أنه اسم للزمان، والأولى أن يراد به الممتد من الزمان لأن الرجل يقول لصاحبه: ما رأيتك منذ حين إذا بعدت مشاهدته له ولا يقال ذلك مع قرب المشاهدة، فلما كانت أعمار الناس طويلة وآجالهم عن أوائل حدوثهم متباعدة جاز أن يقول: ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ .
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/456.
(2) ذكر هنا معنى لا نراه سليما، ولا معتبرا، وهو ما عبر عنه بقوله: وما أحسن ما قال بعض العارفين إن زلة آدم عليه السلام هب أنها كانت بسبب وسوسة إبليس، فمعصية إبليس حصلت بوسوسة من! وهذا ينبهك على أنه ما لم يحصل الداعي لا يحصل الفعل وأن الدواعي وإن ترتب بعضها على بعض، فلا بد من انتهائها إلى ما يخلقه الله تعالى ابتداء، وهو الذي صرح به موسى عليه السلام في قوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾ [الأعراف: 155].
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ :
أ. قرأ الجماعة ﴿فَأَزَلَّهُمَا﴾ بغير ألف، من الزلة وهي الخطيئة، أي استزلهما وأوقعهما فيها.
ب. وقرأ حمزة (فأزالهما) بألف، من التنحية، أي نحاهما، يقال: أزلته فزال، قال ابن كيسان: فأزالهما من الزوال، أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية.
وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى، يقال منه: أزللته فزل، ودل على هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ ) [آل عمران: 155]، وقوله: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾
2. الوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية، وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان إنما قدرته على] إدخاله في الزلل، فيكون ذلك سببا إلى زواله من مكان إلى مكان يذنبه، وقد قيل: إن معنى أزلهما من زل عن المكان إذا تنحى، فيكون في المعنى كقراءة حمزة من الزوال، قال امرؤ القيس:
يزل الغلام الخف عن صهواته... ويلوي بأثواب العنيف المثقل
وقال أيضا:
كميت يزل اللبد عن حال متنه... كما زلت الصفواء بالمتنزل
3. قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ إذا جعل أزال من زال عن المكان فقوله: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا﴾ تأكيد وبيان للزوال، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة، وليس كذلك، وإنما كان إخراجهما من الجنة إلى الأرض، لأنهما خلقا منها، وليكون آدم خليفة في الأرض. ولم يقصد إبليس لعنه الله إخراجه منها وإنما قصد إسقاطه من مرتبته وإبعاده كما أبعد هو، فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده، بل ازداد سخنة عين وغيظ نفس وخيبة ظن، قال الله جل ثناؤه: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ [طه: 122] فصار عليه السلام خليفة الله في أرضه بعد أن كان جارا له في داره، فكم بين الخليفة والجار!
4. نسب ذلك إلى إبليس، لأنه كان بسببه وإغوائه، ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولي إغواء آدم.
5. اختلف في الكيفية:
أ. قال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء: أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ والمقاسمة ظاهرها المشافهة.
ب. وقال بعضهم، وذكره عبد الرزاق عن وهب بن منبه،: دخل الجنة في فم الحية وهى ذات أربع كالبختية من أحسن دابة خلقها الله تعالى بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم يدخله إلا الحية، فلما دخلت به الجنة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله آدم وزوجه عنها فجاء بها إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فلم يزل يغويها حتى أخذتها حواء فأكلتها، ثم أغوى آدم، وقالت له حواء: كل فإني قد أكلت فلم يضرني، فأكل منها فبدت لهما سوآتهما وحصلا في حكم الذنب، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه: أين أنت؟ فقال: أنا هذا يا رب، قال ألا تخرج؟ قال أستحي منك يا رب، قال أهبط إلى الأرض التي خلقت منها، ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، ولذلك أمرنا بقتلها، وقيل لحواء: كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم كل شهر وتحملين وتضعين كرها تشرفين به على الموت مرارا، زاد الطبري والنقاش: وتكوني سفيهة وقد كنت حليمة.
ج. وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها وإنما أغوى بشيطانه وسلطانه ووسواسه التي أعطاه الله تعالى، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)
6. اختلفوا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب وهو قوله تعالى: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، فقال قوم: أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر قال ابن العربي: وهي أول معصية عصى الله بها على هذا القول، وفيه دليل على أن من حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث، وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا: لا حنث فيه، وقال مالك وأصحابه: إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه، وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه وحنث بأكل غيره، وعليه حملت قصة آدم عليه السلام فإنه نهي عن شجرة عينت له وأريد بها جنسها، فحمل القول على اللفظ دون المعنى(2).
7. استنبط بعض العلماء نبوة آدم عليه السلام قبل إسكانه الجنة من قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ [البقرة: 33] فأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عز وجل.
8. الصحيح أنه أكلها ناسيا، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد، لأخبار الله تعالى في كتابه بذلك حتما وجزما فقال: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ ) [طه: 115]، ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكر النهي تضييعا صار به عاصيا، أي مخالفا.
9. قال أبو أمامة: لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾، وقول أبي أمامة هذا عموم في جميع بني آدم:
أ. وقد يحتمل أن يخص من ذلك نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه كان أوفر الناس حلما وعقلا.
ب. وقد يحتمل أن يكون المعنى لو أن أحلام بني آدم من غير الأنبياء.
10. ربما ظنا أن المراد العين وكان المراد الجنس، كقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين أخذ ذهبا وحريرا فقال: هذان حرامان على ذكور أمتي)، وقال في خبر آخر: هذان مهلكان أمتي)، وإنما أراد الجنس لا العين.
11. قوله تعالى ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا﴾ حذفت الالف من ﴿اهْبِطُوا﴾ في اللفظ لأنها ألف وصل، وحذفت الالف من ﴿قُلْنَا﴾ في اللفظ لسكونها وسكون الهاء بعدها، وروى محمد بن مصفى عن أبي حيوة ضم الباء في ﴿اهْبِطُوا﴾، وهي لغة يقويها أنه غير متعد والأكثر في غير المتعدي أن يأتي على يفعل.
12. الخطاب لآدم وحواء والحية والشيطان، في قول ابن عباس، وقال الحسن: آدم وحواء والوسوسة، وقال مجاهد والحسن أيضا: بنو آدم وبنو إبليس.
13. الهبوط: النزول من فوق إلى أسفل، فأهبط آدم بسرنديب في الهند بجبل يقال له) بوذا) ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هناك طيبا، فمن ثم يؤتي بالطيب من ريح آدم عليه السلام، وكان السحاب يمسح رأسه فأصلع، فأورث ولده الصلع، وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا) الحديث وأخرجه مسلم، وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالابلة الذي يأكلها ويفني كثيرا منها لا خليت سجستان من أجل الحيات، ذكره أبو الحسن المسعودي.
14. قوله تعالى ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ .. ﴿بَعْضُكُمْ﴾ مبتدأ، ﴿عَدُوٌّ﴾ خبره والجملة في موضع نصب على الحال، والتقدير وهذه حالكم، وحذفت الواو من و ﴿بَعْضُكُمْ﴾ لان في الكلام عائدا، كما يقال: رأيتك السماء تمطر عليك.
15. العدو: خلاف الصديق، وهو من عدا إذا ظلم، وذيب عدوان: يعدو على الناس، والعدوان: الظلم الصراح، وقيل: هو مأخوذ من المجاوزة، من قولك: لا يعدوك هذا الامر، أي لا يتجاوزك، وعداه إذا جاوزه، فسمي عدوا لمجاوزة الحد في مكروه صاحبه، ومنه العدو بالقدم لمجاوزة الشيء، والمعنيان متقاربان، فإن من ظلم فقد تجاوز.
16. حمل بعض العلماء قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [البقرة: 36] على الإنسان نفسه، وفيه بعد وإن كان صحيحا معنى، يدل عليه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن العبد إذا أصبح تقول جوارحه للسانه اتق الله فينا فإنك إذا استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا.
17. سؤال وإشكال: كيف قال عدو ولم يقل أعداء، والجواب: فيه جوابان:
أ. أن بعضا وكلا يخبر عنهما بالواحد على اللفظ وعلى المعنى، وذلك في القرآن، قال الله تعالى: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: 95] على اللفظ، وقال تعالى: ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل: 87] على المعنى.
ب. أن عدوا يفرد في موضع الجمع، قال الله عز وجل: ﴿وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: 50] بمعنى أعداء، وقال تعالى: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ﴾ [المنافقون: 4]، وقال ابن فارس: العدو اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة والتأنيث، وقد يجمع.
18. قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ ابتداء وخبر، أي موضع استقرار، قاله أبو العالية وابن زيد، وقال السدي: ﴿مُسْتَقِرٌّ﴾ يعني القبور، وقول الله تعالى: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾ [غافر: 64] يحتمل المعنيين.
19. المتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة وحديث وأنس وغير ذلك، ومنه سميت متعة النكاح لأنها يتمتع بها، وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر أبنه أيوب إثر دفنه:
وقفت على قبر غريب بقفرة... متاع قليل من حبيب مفارق
20. اختلف المتأولون في الحين على أقوال:
أ. فقالت فرقة: إلى الموت وهذا قول من يقول: المستقر هو المقام في الدنيا.
ب. وقيل: إلى قيام الساعة، وهذا قول من يقول: المستقر هو القبور.
ج. وقال الربيع: ﴿إِلَى حِينٍ﴾ إلى أجل.
د. الحين: الوقت البعيد فحينئذ تبعيد من قولك الآن قال خويلد:
كابي الرماد عظيم القدر جفنته... حين الشتاء كحوض المنهل اللقف
لقف الحوض لقفا، أي تهور من أسفله واتسع، وربما أدخلوا عليه التاء قال أبو وجزة:
العاطفون تحين ما من عاطف... والمطعمون زمان أين المطعم
هـ. والحين: المدة ومنه قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ [الإنسان: 1]
و. والحين: الساعة قال الله تعالى: ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ﴾ [الزم 58] قال ابن عرفة: الحين القطعة من الدهر كالساعة فما فوقها، وقوله ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ﴾ ) [المؤمنون: 54] أي حتى تفنى آجالهم
ز. وقول تعالى ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾ [إبراهيم: 25] أي كل سنة وقيل: بل كل ستة أشهر.
ح. وقيل: بل غدوة وعشيا.
21. قال الأزهري: الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أو قصرت، والمعنى أنه ينتفع بها في كل وقت ولا ينقطع نفعها البتة، قال والحين يوم القيامة، والحين: الغدوة والعشية قال الله تعالى ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: 17] ويقال: عاملته محاينة من الحين وأحينت بالمكان إذا أقمت به حينا، وحان حين كذا أي قرب، قالت بثينة:
وإن سلوّي عن جميل لساعة... من الدهر ما حانت ولا حان حينها
22. لما اختلف أهل اللسان في الحين اختلف فيه أيضا علماؤنا وغيرهم:
أ. فقال الفراء: الحين حينان: حين لا يوقف على حده، والحين الذي ذكر الله جل ثناؤه: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم: 25] ستة أشهر.
ب. قال ابن العربي: الحين المجهول لا يتعلق به حكم والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ويرتبط به التكليف وأكثر المعلوم سنة، ومالك يرى في الأحكام والايمان أعم الأسماء والأزمنة، والشافعي يرى الأقل، وأبو حنيفة توسط فقال ستة أشهر، ولا معنى لقوله لان المقدرات عنده لا تثبت قياسا وليس فيه نص عن صاحب الشريعة، وإنما المعول على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغة، فمن نذر أن يصلي حينا فيحمل على ركعة عند الشافعي لأنه أقل النافلة قياسا على ركعة الوتر، وقال مالك وأصحابه: أقل النافلة ركعتان فيقدر الزمان بقدر الفعل وذكر ابن خويز منداد في أحكامه: أن من حلف ألا يكلم فلانا حينا أو لا يفعل كذا حينا أن الحين سنة، واتفقوا في الأحكام أن من حلف ألا يفعل كذا حينا أولا يكلم فلانا حينا أن الزيادة على سنة لم تدخل في يمينه، وهذا الاتفاق إنما هو في المذهب.
ج. حكى ابن المنذر عن يعقوب وابن الحسن: أن الدهر ستة أشهر، وعن ابن عباس وأصحاب الرأي وعكرمة وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبيدة في قوله تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) [إبراهيم: 25] أنه ستة أشهر، وقال الأوزاعي وأبو عبيد الحين ستة أشهر وليس عند الشافعي في الحين وقت معلوم ولا للحين غاية قد يكون الحين عنده مدة الدنيا، وقال: لانحنثه أبدا، والورع أن يقضيه قبل انقضاء يوم.. وقال أبو ثور وغيره: الحين والزمان على ما تحتمله اللغة يقال: قد جئت من حين ولعله لم يجئ من نصف يوم.. قال الكيا الطبري الشافعي وبالجملة الحين له مصارف ولم ير الشافعي تعيين محمل من هذه المحامل لأنه مجمل لم يوضع في اللغة لمعنى معين.
23. قال بعض العلماء في قول تعالى: ﴿إِلَى حِينٍ﴾ فائدة بشارة إلى آدم عليه السلام ليعلم أنه غير باق فيها، ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها وهي لغير آدم دالة على المعاد فحسب.
24. ذهب بعضهم(3). إلى أن آدم إنما أكل بعد أن سقته حواء الخمر فسكر وكان في غير عقله، وكانا يحلفان بالله أنه ما أكل من هذه الشجرة وهو يعقل، وهذا فاسد نقلا وعقلا:
أ. أما النقل فلم يصح بحال، وقد وصف الله عز وجل خمر الجنة فقال: ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾
ب. أما العقل فلان الأنبياء بعد النبوة معصومون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم.
25. قول الله تعالى ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ [البقرة: 35] نهي لهما ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 35] جوابه، فلا يكونا من الظالمين حتى يفعلا، فلما أكلت لم يصبها شي، لان المنهي عنه ما وجد كاملا، وخفي هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم، وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ [طه: 115] وقيل: نسي قوله: ﴿إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ [طه: 117]
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/312.
(2) اختلف علماؤنا في فرع من هذا، وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين، قال في الكتاب: يحنث، لأنها هكذا تؤكل، وقال ابن المواز: لا شي عليه، لأنه لم يأكل حنطة وإنما أكل خبزا فراعى الاسم والصفة ولو قال في يمينه: لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها)، وفيما اشترى بثمنها من طعام وفيما أنبتت خلاف، وقال آخرون: تأولا النهي على الندب، قال ابن العربي: وهذا وإن كان مسألة من أصول الفقه فقد سقط ذلك ها هنا، لقوله: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 35] فقرن النهي بالوعيد، وكذلك قوله سبحانه: ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ [طه: 117]، تفسير القرطبي: 1/307.
(3) نسبه لابن المسيب ويزيد بن قسيط .
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَأَزَلَّهُمَا﴾ من الزلة وهي الخطيئة أي استزلهما وأوقعهما فيها، وقرأ حمزة: فأزالهما بإثبات الألف، من الإزالة وهي التنحية: أي نحاهما، وقرأ الباقون بحذف الألف، قال ابن كيسان: هو من الزوال: أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية، قال القرطبي: وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى؛ يقال منه: أزللته فزلّ و ﴿عَنْهَا﴾ متعلق بقوله أزلّهما على تضمينه معنى أصدر: أي أصدر الشيطان زلتهما عنها، أي بسببها، يعني الشجرة، وقيل الضمير للجنة، وعلى هذا فالفعل مضمن معنى أبعدهما: أي أبعدهما عن الجنة.
2. قوله: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا﴾ تأكيد لمضمون الجملة الأولى: أي أزلهما إن كان معناه زال عن المكان، وإن لم يكن معناه كذلك فهو تأسيس، لأن الإخراج فيه زيادة على مجرد الصرف والإبعاد ونحوهما، لأن الصرف عن الشجرة والإبعاد عنها قد يكون مع البقاء في الجنة بخلاف الإخراج لهما عما كانا فيه من النعيم والكرامة أو من الجنة، وإنما نسب ذلك إلى الشيطان لأنه الذي تولّى إغواء آدم حتى أكل من الشجرة.
3. اختلف أهل العلم في الكيفية التي فعلها الشيطان في إزلالهما:
أ. قيل: إنه كان ذلك بمشافهة منه لهما، وإليه ذهب الجمهور واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ والمقاسمة ظاهرها المشافهة.
ب. وقيل: لم يصدر منه إلا مجرد الوسوسة.. وقيل غير ذلك.
4. ﴿اهْبِطُوا﴾ خطاب لآدم وحواء، وخوطبا بما يخاطب به الجمع:
أ. لأن الاثنين أقلّ الجمع عند البعض من أئمة العربية.
ب. وقيل إنه خطاب لهما ولذريتهما، لأنهما لما كانا أصل هذا النوع الإنساني جعلا بمنزلته، ويدل على ذلك قوله ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ فإن هذه الجملة الواقعة حالا مبينا للهيئة الثابتة للمأمورين بالهبوط تفيد ذلك.
5. العدوّ خلاف الصديق، وهو من عدا إذا ظلم؛ ويقال ذئب عدوان: أي يعدو على الناس، والعدوان: الظلم الصراح وقيل إنه مأخوذ من المجاوزة، يقال عداه: والمعنيان متقاربان، فإن من ظلم فقد تجاوز.
6. إنما أخبر عن قوله ﴿بَعْضُكُمْ﴾ بقوله: ﴿عَدُوٌّ﴾ مع كونه مفردا، لأن لفظ بعض وإن كان معناه محتملا للتعدد فهو مفرد، فروعي جانب اللفظ وأخبر عنه بالمفرد، وقد يراعى المعنى فيخبر عنه بالمتعدد، وقد يجاب بأن ﴿عَدُوٌّ﴾ وإن كان مفردا فقد يقع موقع المتعدد كقوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ وقوله: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ﴾ قال ابن فارس: العدوّ اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة.
7. المراد بالمستقرّ: موضع الاستقرار، ومنه ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ وقد يكون بمعنى الاستقرار، ومنه: ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ فالآية محتملة للمعنيين، ومثلها قوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾
8. المتاع: ما يستمتع به من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها.
9. اختلف المفسرون في قوله: ﴿إِلَى حِينٍ﴾ فقيل: إلى الموت؛ وقيل: إلى قيام الساعة.. وأصل معنى الحين في اللغة: الوقت البعيد، ومنه: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ والحين الساعة، ومنه: ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ﴾ والقطعة من الدهر، ومنه: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ﴾ أي حتى تفنى آجالهم، ويطلق على السنة؛ وقيل على ستة أشهر، ومنه: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾ ويطلق على المساء والصباح، ومنه: ﴿حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ وقال الفراء: الحين حينان: حين لا يوقف على حده، ثم ذكر الحين الآخر واختلافه بحسب اختلاف المقامات كما ذكرنا، وقال ابن العربي: الحين المجهول لا يتعلق به حكم، والحين المعلوم سنة.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/81.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَأَزَلَّهُمَا﴾ أخرجهما إخراجًا شبيهًا بالإزلال، أي: بالإزلاق، فذلك استعارة أصليَّة اشتقَّ منها تبعيَّة في (أزلَّ)، أو حملهما على الزلَّة وهي الذنب، وهو راجع إلى ذلك؛ لأنَّه شبَّه الذنب بالزلق، ﴿الشَّيْطَانُ﴾ إبليس بقوله: ﴿هَلَ اَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى﴾.. إلخ [طه: 120]، وقوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾.. إلخ [الأعراف: 20]، أو مقاسمته لهما بعد إخراجه من الجنَّة لإبائه وتكبُّره اتَّصلت إليهما وسوسته من حيث هو من الدنيا أو من سماء لخلق الله تعالى له قوَّة على ذلك، أو ذهبا في الجنَّة تمتُّعًا حتَّى وصلا بابها فأسمعهما من خارج الباب، أو دخل الجنَّة متصوِّرًا في صورة دابَّة من دوابِّ الجنَّة ولم تعرفه الملائكة، أو دخل في فم الحيَّة فمنه سمُّها، وكانت بقوائم على طولها من أحسن الدوابِّ فعوقبت بسلب القوائم، وقيل: تسوَّرت عن الحائط، وقيل: وقف طاوس على الجدار فذهب إليه آدم وحوَّاء فوسوس منهما إليه، وقد جاء إلى قرب الحائط، وقيل: وسوس إليهما من وراء الجدار.
2. ﴿عَنْهَا﴾ أي: عن الجنَّة، أو أزلَّهما عن الجنَّة عنها، أي: بالشجرة إذ أمرهما بالأكل منها ﴿فَأَخْرَجَهُمَا﴾ أي: الشيطان بسبب الأكل الذي وسوس به، أسند الإخراج إلى السبب ﴿مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ من النِّعم واللباس والجنَّة وهذا في ضمن الإخراج المذكور بقوله: ﴿أَزَلَّهُمَا﴾، كرَّره تفصيلاً، أو زيادة زجر لغيرهما.
3. وطاوعه آدم وحوَّاء نسيانًا لنهي الله تعالى ، أو توهُّمًا من أوَّل الأمر أنَّ النهي للتنزيه عن أمرٍ سَهْلٍ يتحمَّلانه من الأكل ولا يضرُّهما، أو توهَّما التنزيه أو النسخ من قوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا﴾، وقوله: ﴿هَلَ اَدُلُّكَ﴾، ودعواه النصح مع القَسَم احترامًا لحقِّ الله أن يُكذب عنه ويخالَف، وعدَّ ذلك ذنبًا في حقِّهما لعلوِّ مرتبتهما وعظم النعمة عليهما، فلا يرد أنَّ الأنبياء لا يعصون قبل النبوءة ولو صغيرة؛ ولا يستحضر في قصَّة آدم ما يقال: (حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين)؛ إذ لم يفعل آدم شيئًا مِمَّا عوتب عليه يدَّعيه حسنة بل يستحضر أنَّه يعدُّ في حقِّ عالي الرتبة ذنبًا ما ليس ذنبًا في حقِّ غيره.
4. ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا﴾ أنت وحوَّاء، عبَّر عنهما بصيغة الجمع كما قال: ﴿اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا﴾ [البقرة: 38] إلى الأرض، أنتما ومن فيكما من الذرِّيَّة، وفيه خطاب المعدوم، أو أنتما وإبليس والحيَّة، قيل: والطاوس، قيل: فنزل آدم بسرنديب من الهند على جبل يسمَّى (نودَا) وحوَّاء بجُدَّة ـ بضمِّ الجيم ـ في مدَّة أربعين عامًا فيما قيل، والله قادر على أقلَّ، كما ينزل جبريل وغيره في لحظة، وإبليس بالأُبُلَّة من أعمال البصرة، وزوجه بأصبهان أو سجستان، أو نصِّيبين، والحيَّة بأصبهان، والطاوس بالشام، أنتما لأَكْلِكما من الشجرة، وإبليس لإبائه، والحيَّة لحملها إبليس، والطاوس لإبلاغ أمر إبليس إليها، وليس قولا بمرَّة، بل أُهبط إبليس ثمَّ الحيَّة فالطاوس ثمَّ آدم وحوَّاء، وللحيَّة والطاوس في الجنَّة عقل فعوقبا بالإخراج، أو ليس عقابًا.
5. ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ يطلق على الواحد فصاعدًا؛ لأنَّه بوزن المصدر كـ (القبول)، كما أنَّه يطلق (فعيلٌ) لوصفٍ كذلك لشبهه بالمصدر كالدبيب والصرير، وذلك مجموع لا جميع، فإنَّ العداوة بين آدم وحوَّاء فريقًا، وبين إبليس والحيَّة فريقًا، لا بين آدم وحوَّاء، ولا بين إبليس والحيَّة، ولا بينهم وبين الطاوس، وقيل: الخطاب للذرِّيَّة في ضمن أبويهما.
6. ﴿وَلَكُمْ فِي الَارْضِ﴾ متعلِّق بـ (لَكُمْ) لنيابته عن ثبت أو ثابت، ﴿مُسْتَقَرٌّ﴾ استقرارٌ، أو موضعه، والأوَّل أولى، وليس المراد الموضع الذي نزلوا فيه ﴿وَمَتَاعٌ﴾ تمتُّعٌ، أو ما يُتمتَّع به ﴿اِلَى حِينٍ﴾ إلى آخر أعماركم، وقيل: قيام الساعة؛ لأنَّ المراد هم وذرِّيَّاتهم، تَنَازَعَهُ (مستقرٌّ) و(متاع).
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/83.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ أي أذهبهما عن الجنة، وأبعدهما، يقال: زلّ عن مرتبته، وزل عني ذاك، إذا ذهب عنك، وزلّ من الشهر كذا، وقال ابن جرير: فأزلهما، بتشديد اللام، بمعنى استزلهما، من قولك زل الرجل في دينه، إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيان فيه، وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه، وقرئ (فأزالهما) بالألف، من التنحية.
2. قوله تعالى: ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله تعالى، قال ابن مفلح الحنبليّ في كتاب الاستعاذة: قال ابن حزم: حمل الأمر على الندب، والنّهي على الكراهة، يقع في الفقهاء والأفاضل كثيرا، وهو الذي يقع من الأنبياء عليهم السلام، ولا يؤاخذون به، وعلى السبيل أكل آدم من الشجرة، ومعنى قوله: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي ظالمين لأنفسكما، والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، فمن وضع الأمر والنهي في موضع الندب والكراهة، فقد وضع الشيء في غير موضعه.
3. وقال أبو محمد بن حزم في الملل والنحل: لا براءة من المعصية أعظم من حال من ظن أن أحدا لا يحلف حانثا، وهكذا فعل آدم عليه السلام، فإنه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسيا لنص القرآن، ومتأولا وقاصدا إلى الخير، لأنه قدّر أنه يزداد حظوة عند الله فيكون ملكا مقربا أو خالدا فيما هو فيه أبدا، فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله به، وكان الواجب أن يحمل أمر ربه على ظاهره، لكن تأول وأراد الخير فلم يصبه، ولو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجورا، ولكن آدم لما فعل وأخرج عن الجنة إلى الدنيا، كان بذلك ظالما لنفسه، وقد سمى الله تعالى قاتل الخطأ قاتلا، كما سمى العامد، والمخطئ لم يعمد معصية، وجعل في مثل الخطأ عتق رقبة، وهو لم يعمد ذنبا.
4. وقال تقي الدين بن تيمية وجماعة من المتأخرين: الصواب أن آدم عليه السلام، لما قاسمه عدو الله أنه ناصح، وأكد كلامه بأنواع من التأكيدات:
أ. أحدها القسم.
ب. الثاني الإتيان بجملة اسمية لا فعلية.
ج. الثالث تصديرها بأداة التأكيد.
د. الرابع الإتيان بلام التأكيد في الخبر.
هـ. الخامس الإتيان به اسم فاعل لا فعلا دالا على الحدث.
و. السادس تقدم المعمول على القليل فيه.
ولم يظن آدم أن أحدا يحلف بالله كاذبا يمين غموس، فظن صدقه، وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة، ورأى أن الأكل، وإن كان فيه مفسدة، فمصلحة الخلود أرجح، ولعله يتأتى له استدراك مفسدة اليمين في أثناء ذلك باعتذار أو توبة، كما تجد هذا التأويل في نفس كل مؤمن أقدم على معصية.
5. قال ابن مفلح: آدم عليه السلام لم يخرج من الجنة إلا بالتأويل، فالتأويل لنص الله أخرجه، وإلا فهو لم يقصد المعصية، والمخالفة، وأن يكون ظالما مستحقا للشفاء.
6. ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا﴾ أي انزلوا إلى الأرض، خطاب لآدم وحواء والشيطان.. أو خطاب لآدم وحواء خاصة، لقوله في الآية الأخرى ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ [طه: 123]، وجمع الضمير لأنهما أصلا الإنس، فكأنهما الإنس كلهم.
7. ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ متعادين يبغي بعضكم على بعض ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ منزل وموضع استقرار ﴿وَمَتَاعٌ﴾ تمتع بالعيش ﴿إِلَى حِينٍ﴾ أي إلى الموت.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/295.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قال تعالى ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ أي حولهما وزحزحهما عن الجنة، أو حملهما على الزلة بسبب الشجرة، قرأ حمزة (فأزالهما)
2. الشيطان إبليس الذي لم يسجد ولم يخضع وقد وسوس لهما بما ذكر في سورتي الأعراف وطه حتى أوقعهما في الزلل وحملهما على الأكل من الشجرة فأكلا.
3. بين الله تعالى كيفية الإخراج بقوله: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا﴾ يعنى آدم وزوجه وإبليس فلا حاجة لتقدير إرادة ذرية آدم بالجمع، فان العداوة في قوله عز وجل: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ تنافى هذا التقدير فان العداوة بين الإنسان والشيطان لا بين الإنسان وذريته.
4. الأصل في الهبوط أن يكون من مكان عال إلى أسفل منه، ولذلك احتج به من قال إن آدم كان في السماء، وقد يستعمل في مطلق الانتقال أو مع اعتبار العلو والسفل في المعنى، وقال الراغب: الهبوط الانحدار على سبيل القهر ولا يبعد أن تكون تلك الجنة في ربوة فسمى الخروج منها هبوطا، أو سمى بذلك لأن ما انتقلوا إليه دون ما كانوا فيه أو هو كما يقال هبط من بلد إلى بلد، كقوله تعالى لبنى إسرائيل: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾
5. قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ أي إن استقراركم في الأرض وتمتعكم فيها ينتهيان إلى زمن محدود وليسا بدائمين، ففي الكلام فائدتان:
أ. أن الأرض ممهدة ومهيأة للمعيشة فيها والتمتع يها.
ب. أن طبيعة الحياة فيها تنافى الخلود والدوام، فليس الهبوط لأجل الإبادة ومحو الآثار، وليس للخلود كما زعم إبليس بوسوسته إذ سمى الشجرة المنهى عنها ﴿شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ يعنى أن الله أخرجهم من جنة الراحة إلى أرض العمل لا ليفنيهم، وعبر عن ذلك بالاستقرار في الأرض، ولا ليعاقبهم بالحرمان من التمتع بخيرات الأرض، وعير عن ذلك بالمتاع، ولا ليمتعهم بالخلود وعبر عن ذلك بكون الاستقرار والمتاع إلى حين.
__________
(1) تفسير المنار: 1/279.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ أي حملهما على الزلة بسبب الشجرة، وقد وسوس لهما بقوله: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ وقوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ وقسمه لهما: ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾
2. ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ أي من الجنة أو من النعيم الذي كانا فيه، فاتصلت العقوبة بالذنب اتصال المسبّب بسببه المباشر.
3. سؤال وإشكال حول: عصيان آدم ثم توبته، مع أن الأنبياء معصومون من ارتكاب الذنوب، ولنا في الجواب عن هذه المسألة ثلاث طرق:
أ. أن المخالفة التي صدرت منه كانت قبل النبوة، والعصمة إنما تكون عن مخالفة الأوامر بعدها.
ب. أن الذي وقع منه كان نسيانا، فسمى عصيانا تعظيما لأمره، والنسيان والسهو لا ينافيان العصمة.
ج. أن ذلك من المتشابه كسائر ما جاء في القصة، مما لا يمكن حمله على ظاهره، ويجب تفويض أمره إلى الله كما هو رأى سلف الأمة، أو هو من باب التمثيل كما هو رأى الخلف.
4. ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا﴾ المأمور بالهبوط آدم وزوجه وإبليس، وهو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وكثير من السلف، ويشهد له قوله: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ إذ العداوة بين الشيطان والإنسان.
5. ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ أي اهبطوا متعادين يبغى بعضكم على بعض بتضليله.
6. ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ أي إن استقراركم في الأرض وتمتعكم فيها ينتهيان إلى وقت محدود وليسا بدائمين كما زعم إبليس حين وسوس لآدم، وسمى الشجرة المنهىّ عنها شجرة الخلد.. وفي هذا إشارة إلى أن الإخراج من جنة الراحة إلى الأرض للعمل فيها لا للفناء ولا للمعاقبة بالحرمان من التمتع بخيراتها ولا للخلود فيها.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/92.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الفاء عاطفة على قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبَا﴾ [البقرة: 35] وحقها إفادة التعقيب فيكون التعقيب عرفيا لأن وقوع الإزلال كان بعد مضي مدة هي بالنسبة للمدة المرادة من سكنى الجنة كالأمد القليل، والأحسن جعل الفاء للتفريع مجردة عن التعقيب.
2. الإزلال جعل الغير زالّا أي قائما به الزلل، وهو كالزلق أن تسير الرجلان على الأرض بدون اختيار لارتخاء الأرض بطين ونحوه، أي ذاهبة رجلاه بدون إرادة، وهو مجاز مشهور في صدور الخطيئة والغلط المضر ومنه سمي العصيان ونحوه الزلل.
3. الضمير في قوله: ﴿عَنْهَا﴾ يجوز أن يعود إلى الشجرة لأنها أقرب وليتبين سبب الزلة وسبب الخروج من الجنة إذ لو لم يجعل الضمير عائدا إلى الشجرة لخلت القصة عن ذكر سبب الخروج.
4. (عن) في أصل معناها أي أزلهما إزلالا ناشئا عن الشجرة أي عن الأكل منها، وتقدير المضاف دل عليه قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾، وليست (عن) للسببية ومن ذكر السببية أراد حاصل المعنى كما قال أبو عبيدة في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [النجم: 3] أن معناه وما ينطق بالهوى فقال الرضي: الأولى أن (عن) بمعناها وأن الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أي نطقا صادرا عن الهوى، ويجوز كون الضمير للجنة وتكون (عن) على ظاهرها والإزلال مجازا في الإخراج بكره والمراد منه الهبوط من الجنة مكرهين كمن يزل عن موقفه فيسقط كقوله: وكم منزل لولاي طحت)
5. قوله: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ تفريع عن الإزلال بناء على أن الضمير للشجرة، والمراد من الموصول وصلته التعظيم، كقولهم قد كان ما كان، فإن جعلت الضمير في قوله: ﴿عَنْهَا﴾ عائدا إلى الجنة كان هذا التفريع تفريع المفصّل عن المجمل وكانت الفاء للترتيب الذكري المجرّد كما في قوله تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ [الأعراف: 4] وقوله: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ [القمر: 9]، أما دلالة الموصول عن التعظيم فهي هي.
6. قرأ حمزة (فأزالهما) بألف بعد الزاي وهو من الإزالة بمعنى الإبعاد، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون ضمير ﴿عَنْهَا﴾ عائدا إلى الجنة لا إلى الشجرة، وقد نبه عليه بخصوصه مع العلم بأن من خرج من الجنة فقد خرج مما كان فيه إحضارا لهذه الخسارة العظيمة في ذهن السامعين حتى لا تكون استفادتها بدلالة الالتزام خاصة فإنها دلالة قد تخفى فكانت إعادته في هذه الصلة بمرادفه كإعادته بلفظه في قوله تعالى: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ [طه: 78]
7. تفيد الآية إثارة الحسرة في نفوس بني آدم على ما أصاب آدم من جراء عدم امتثاله لوصاية الله تعالى وموعظة تنبّه بوجوب الوقوف عند الأمر والنهي والترغيب في السعي إلى ما يعيدهم إلى هذه الجنة التي كانت لأبيهم وتربية العداوة بينهم وبين الشيطان وجنده إذ كان سببا في جر هذه المصيبة لأبيهم حتى يكونوا أبدا ثارا لأبيهم معادين للشيطان ووسوسته مسيئين الظنون بإغرائه كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: 27] وقوله هنا: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾، وهذا أصل عظيم في تربية العامة ولأجله كان قادة الأمم يذكرون لهم سوابق عداوات منافسيهم ومن غلبهم في الحروب ليكون ذلك باعثا على أخذ الثأر.
8. عطف ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا﴾ بالواو دون الفاء لأنه ليس متفرّع عن الإخراج بل هو متقدم عليه، ولكن ذكر الإخراج قبل هذا لمناسبة سياق ما فعله الشيطان وغروره بآدم، فلذلك قدم قوله: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا﴾ إثر قوله: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ﴾
9. وجه جمع الضمير في ﴿اهْبِطُوا﴾ :
أ. قيل: لأن هبوط آدم وحواء اقتضى أن لا يوجد نسلهما في الجنة فكان إهباطهما إهباطا لنسلهما.
ب. وقيل: الخطاب لهما ولإبليس وهو وإن أهبط عند إبايته السجود كما أفاده قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ [الأعراف: 12، 13] إلى قوله: ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا﴾ [الأعراف: 18] إلى قوله: ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ [الأعراف: 19] فهذا إهباط ثان فيه تحجير دخول الجنة عليه، والإهباط الأول كان إهباط منع من الكرامة مع تمكينه من الدخول للوسوسة.
10. كلا الوجهين بعيد، فجمع الضمير مراد به التثنية لكراهية توالي المثنيات بالإظهار والإضمار من قوله: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا﴾ [البقرة: 35] والعرب يستثقلون ذلك قال امرؤ القيس:
وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم... يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وإنما له صاحبان لقوله: قفا نبك)، وقال تعالى: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾
11. قوله: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ :
أ. يحتمل أن يراد بالبعض بعض الأنواع وهو عداوة الإنس والجن، إن كان الضمير في ﴿اهْبِطُوا﴾ لآدم وزوجه وإبليس.
ب. ويحتمل أن يراد عداوة بعض أفراد نوع البشر، إن كان ضمير ﴿اهْبِطُوا﴾ لآدم وحواء فيكون ذلك إعلاما لهما بأثر من آثار عملهما يورث في بنيهما، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلاف في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في بنيهما، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلال في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في أنفسهما وأنفس ذريتهما داعية التغرير والحيلة على حد قوله تعالى: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ﴾ فإن الأخلاق تورث وكيف لا وهي مما يعدى بكثرة الملابسة والمصاحبة وقد قال أبو تمام: لأعديتني بالحلم إن العلا تعدي.
12. وجه المناسبة بين هذا الأثر وبين منشئه الذي هو الأكل من الشجرة أن الأكل من الشجرة كان مخالفة لأمر الله تعالى ورفضا له وسوء الظن بالفائدة منه دعا لمخالفته الطمع والحرص على جلب نفع لأنفسهما، وهو الخلود في الجنة والاستئثار بخيراتها مع سوء الظن بالذي نهاهما عن الأكل منها وإعلامه لهما بأنهما إن أكلا منها ظلما أنفسهما لقول إبليس لهما: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ [الأعراف: 20] فكذلك كانت عداوة أفراد البشر مع ما جبلوا عليه من الألفة والأنس والاتحاد منشؤها رفض تلك الألفة والاتحاد لأجل جلب النفع للنفس وإهمال منفعة الغير، فلا جرم كان بين ذلك الخاطر الذي بعثهما على الأكل من الشجرة وبين أثره الذي بقي في نفوسهما والذي سيورثونه نسلهما فيخلق النسل مركبة عقولهم على التخلق بذلك الخلق الذي طرأ على عقل أبويهما، ولا شك أن ذلك الخلق الراجع لإيثار النفس بالخير وسوء الظن بالغير هو منبع العداوات كلها لأن الواحد لا يعادي الآخر إلا لاعتقاد مزاحمة في منفعة أو لسوء ظن به في مضرة، وفي هذا إشارة إلى مسألة أخلاقية وهي أن أصل الأخلاق حسنها وقبيحها هو الخواطر الخيرة والشريرة ثم ينقلب الخاطر إذا ترتب عليه فعل فيصير خلقا وإذا قاومه صاحبه ولم يفعل صارت تلك المقاومة سببا في اضمحلال ذلك الخاطر، ولذلك حذرت الشريعة من الهم بالمعاصي وكان جزاء ترك فعل ما يهم به منها حسنة وأمرت بخواطر الخير فكان جزاء مجرد الهمّ بالحسنة حسنة ولو لم يعملها وكان العمل بذلك الهم عشر حسنات كما ورد في الحديث الصحيح: من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ـ ثم قال ـ ومن همّ بسيئة فعملها كتبت له سيئة واحدة)، وجعل العفو عن حديث النفس منّة من الله تعالى ومغفرة في حديث (إن الله تجاوز عن أمتي فيما حدثت به نفوسها)
13. إن الله تعالى خلق الإنسان خيّرا سالما من الشرور والخواطر الشريرة على صفة ملكية وهو معنى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4] ثم جعله أطوارا:
أ. فأولها طور تعليمه النطق ووضع الأسماء للمسميات لأن ذلك مبدأ المعرفة وبه يكون التعليم أي يعلم بعض أفراده بعضا ما علمه وجهله الآخر فكان إلهامه اللغة مبدأ حركة الفكر الإنساني وهو مبدأ صالح للخير ومعين عليه لأن به علّم الناس بعضهم بعضا، ولذلك ترى الصبي يرى الشيء فيسرع إلى قرنائه يناديهم ليروه معه حرصا على إفادتهم فكان الإنسان معلّما بالطبع وكان ذلك معينا على خيريته إلا أنه صالح أيضا لاستعمال النطق في التمويه والكذب.
ب. ثم إن الله تعالى لما نهاه عن أمر كلّفه بما في استطاعته أن يمتثله وأن يخالفه فتلك الاستطاعة مبدأ حركة نفسه في الحرص والاستئثار فكان خلق الله تعالى إياه على تلك الاستطاعة مبدأ طور جديد هو المشار إليه بقوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين: 5]
ج. ثم هداه بواسطة الشرائع فصار باتباعها يبلغ إلى مراتب الملائكة ويرجع إلى تقويمه الأول وذلك معنى قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [التين: 6] وقد أشير إلى هذا الطور الأخير بقوله فيما يأتي: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ [البقرة: 38] الآية.
14. جملة ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ إما مستأنفة استئنافا ابتدائيا وإما جملة حال من ضير ﴿اهْبِطُوا﴾ وهي اسمية خلت من الواو، وفي اعتبار الجملة الاسمية الخالية من الواو حالا خلاف بين أئمة العربية، منع ذلك الفراء والزمخشري وأجازه ابن مالك وجماعة، والحق أن الجملة الحالية تستغني بالضمير عن الواو وبالواو عن الضمير فإذا كانت في معنى الصفة لصاحبها اشتملت على ضميره أو ضمير سببه فاستغنت عن الواو نحو الآية ونحو جاء زيد يده على رأسه أو أبوه يرافقه، وإلا وجبت الواو إذ لا رابط حينئذ غيرها نحو جاء زيد والشمس طالعة وقول تأبط شرا:
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصّفا... به كدحة والموت خزيان ينظر
15. قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ ضميره راجع إلى ما رجع إليه ضمير ﴿اهْبِطُوا﴾ على التقادير كلها.. يحتمل أن يكون المراد من ضمير ﴿لَكُمْ﴾ التوزيع أي ولكل واحد منكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين.
16. الحين: الوقت والمراد به وقت انقراض النوع الإنساني والشيطاني بانقراض العالم.. هذا إن أريد بالخبر المجموع أي لجميعكم، وإن أريد به التوزيع فالحين هو وقت موت كل فرد على حدّ قولك للجيش: هذه الأفراس لكم أي لكل واحد منكم فرس.
17. إنما كان ذلك متاعا لأن الحياة أمر مرغوب لسائر البشر على أن الحياة لا تخلو من لذات وتمتع بما وهبنا الله من الملائمات.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/419.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ابتدأ إبليس يتخذ طريق الغواية حاقدا حاسدا، فجاءهما من هذه التي أمر الله سبحانه وتعالى بألا يقرباها، وكان النهى عن القرب لا عن الأكل، لأنه أبلغ في النهى عن الأكل، فالنهى عن القرب مبالغة في عدم الأكل بالابتعاد عنها، وهنا كان الاختبار بهذه الشجرة، إذ حيث يكون الهوى فإنه يجر إلى العصيان.
2. ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾، عبر بالشيطان وهو إبليس لأنه ابتدأ يتحرك فاسدا مفسدا، وأزلهما معناها أوقعهما في الزلل، وقد ذكر سبحانه وتعالى النتيجة وهى أنه أوقعهما في الزلل بأكلهما منه.
3. فصل سبحانه وتعالى عمل إبليس في موضع آخر في سورة الأعراف، فقد قال تعالى في هذه السورة ما فعله بإبليس عندما عصى أمر ربه بالسجود إذ أخرجه منها، وقال بعد استكباره: اخرج منها فإنك من الصاغرين.. وقال لآدم: ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف]، ففي هذا النص الذي تدل عليه هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه كيف كان الإغواء، وأنه جاء من جهة الترغيب في الاستعلاء والبقاء، فأوهمهما أن النهى كان لكيلا يكونا من الملائكة، مع أن آدم سجدت له الملائكة، ولكنهما غفلا عن هذا، وأهمهما أنهما يكونان خالدين في الجنة إن أكلا.
4. كانت النتيجة من الأكل أن بدت لهما سوءاتهما بعد الأكل من الشجرة، وادعى بعضهم أن هذا يدل على أنها شجرة الشهوة، ولكن لا دليل، فيبقى أمر الشجرة غير معلوم.
5. الأمر الذي ترتب على الأكل في آية البقرة وآية الأعراف هو الخروج من الجنة، والهبوط إلى الأرض، أي النزول من مكان أعلى منها، ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ أي أمر التكوين كان لآدم وزوجه وإبليس.
6. قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾، أي أن إبليس عدو لكم فاحذروه، وإنه وذريته ينفثون في نفوس الناس الشر، فتكون العداوة الدائمة المستمرة، والتنازع والحروب.
7. ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ أي الأرض التي خلقها، وخلق لكم ما فيها جميعا ستكون مستقرا أي موضع قرار دائم، لا أن تكون مسكنا تتركونه.
8. يكون فيها متاعكم إلى حين، أي إلى وقت أن تموتوا ثم تحيوا فيكون البعث والنشور، وهكذا كان الشيطان بعداوته طريق الخروج من جنة الله تعالى إلى أرضه.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/200.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى عصمة النبي تنزيهه بحكم العقل عن الخطأ والخطيئة في كل ما يتصل بالدين وأحكامه، بحيث يبلغ النبي من الطهر والقداسة، والعلم والمعرفة بالله وما يريده من عباده ـ مرتبة تستحيل معها المخالفة عمدا وسهوا، فمن أثبت العصمة للأنبياء بهذا المعنى، وبشتى أقسامها الآتية أوّل الآيات التي تتنافى بظاهرها مع هذا المبدأ تمشيا مع القاعدة الكلية، وهي وجوب تأويل النقل بما يتفق مع صريح العقل، ومن نفى العصمة عن الأنبياء أبقى الظاهر على ظاهره.
2. لعلماء المذاهب في العصمة أقوال تختلف باختلاف هذه الأقسام:
أ. العصمة في العقيدة وأصول الدين، أي تنزيه النبي عن الكفر والإلحاد، وما اليه.. وهذه ثابتة لكل نبي بالبديهة والاتفاق، إذ لا يعقل أن يكفر النبي بالذي اختاره للنبوة.
ب. العصمة في التبليغ عن الله تعالى، فإذا قال ان الله يأمر بهذا، وينهى عن ذاك فالأمر على ما قال واتفق الشيعة الإمامية على ثبوت هذه العصمة لكل نبي، لأن الغرض من التبليغ حمل المكلفين على الحق، فان أخطأ المبلغ انتقض الغرض من تبليغه، ويؤيده قوله تعالى: ﴿ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ﴾، وقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، وبكلمة ان القول بعصمة الأنبياء لا ينفك أبدا عن القول بأن قولهم وفعلهم وتقريرهم حجة ودليل، وبعد ان قال الرازي في تفسيره: اتفقوا ـ أي المسلمون ـ على ان الخطأ في التبليغ لا يجوز عمدا ولا سهوا)، قال: ومن الناس من جوز ذلك سهوا)، ولا أدري من عنى بهؤلاء الناس؟
ج. العصمة في الفتيا، ومعنى الفتيا ان يفتي النبي بشيء عام، كتحريم الربا، وتحليل البيع، ذكر هذا القسم الرازي في تفسيره، وقال: اجمعوا على ان خطأ الأنبياء لا يجوز في ذلك على سبيل العمد، أما على سبيل السهو فجوزه بعضهم، ومنعه آخرون)، ويلاحظ ان هذا القسم يرجع الى القسم الثاني، أي التبليغ.. وينبغي أن يجعل القسم الثالث العصمة في الحكم لا في الفتوى، واتفق الإمامية على ان النبي معصوم عن الخطأ في الحكم، كما هو معصوم في التبليغ، مع انهم نقلوا عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال: انما أقضي بينكم بالبينات والايمان.. أنا بشر وانكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض ـ أي أفطن من خصمه ـ فاحكم له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من نار) اللهم الا أن يكون الخطأ في حكمه ـ على تقديره ـ انما هو في البينة، أو في يمين الحالف، أو ما أشبه، أي في مستند الحكم لا في الحاكم.
د. العصمة في أفعال الأنبياء، وسيرتهم الخاصة.. قال الإيجي: ان الحشوية أجازوا على الأنبياء فعل الذنوب الكبائر، كالكذب عمدا وسهوا، ومنعه جمهور الأشاعرة ـ أي السنة ـ عمدا لا سهوا، أما الصغائر فتجوز عليهم عمدا فضلا عن السهو)، وقال الإمامية: ان الأنبياء معصومون في كل ما يقولون ويفعلون، تماما كما هم معصومون في العقيدة والتبليغ.. ويستحيل عليهم فعل الصغائر فضلا عن الكبائر، ولن تصدر منهم إطلاقا لا على سبيل القصد، ولا على سبيل السهو، لا قبل النبوة ولا بعدها.
3. أوّل الإمامية كل آية لا يتفق ظاهرها مع هذا المبدأ، وقالوا في أكل آدم من الشجرة ان النهي عنها لم يكن نهي تحريم وتعبد، كما هو الشأن في (لا تزن.. لا تسرق)، بل نهي ارشاد ونصيحة، تماما كقولك لمن تريد له الخير: لا تشتر هذا الثوب، لأنه ليس بجيد، فإذا لم يسمع منك لم يفعل محرما، ولم يظلم أحدا، وإنما ظلم نفسه، وفعل ما كان الأولى به ان لا يفعله.. وبديهة ان الأكل من الشجرة لم يترتب عليه ظلم أي انسان سوى الآكل، وعليه يكون معنى التوبة من آدم التوبة من فعل المرجوح والمفضول، وترك الأفضل والأرجح.. وأمر التوبة سهل يسير، فان الأنبياء والأبرياء دائما يرددون قول: أستغفر الله وأتوب اليه).. وكفى دليلا على ذلك دعاء الإمام زين العابدين في الصحيفة السجادية المعروف بدعاء التوبة الذي جاء فيه: اللهم اني أعتذر اليك من جهلي، واستوهبك سوء فعلي.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/87.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله سبحانه: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ﴾، الظاهر من هذه الجملة كنظائرها وإن لم يكن أزيد من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا (بني آدم) على نحو إلقاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص، لكن الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه: ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ﴾ يدل على أنه تعالى أراهما الشيطان وعرفهما إياه بالشخص والعين دون الوصف:
أ. وكذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان: ﴿يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾ الآية) حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب، ويدل ذلك على متكلم مشعور به.
ب. وكذا قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ والقسم إنما يكون من مقاسم مشعور به.
ج. وكذا قوله تعالى: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ كل ذلك يدل على أنه كان يتراءى لهما وكانا يشاهدانه.
2. لو كان حالهما عليه السلام مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز لهما أن يقولا: ربنا إننا لم نشعر وخلنا أن هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير استشعار بحضوره، ولا قصد لمخالفة ما وصيتنا به من التحذير من وسوسته.
3. بالجملة فهما كانا يشاهدانه ويعرفانه، والأنبياء وهم المعصومون بعصمة الله كذلك يعرفونه ويشاهدونه حين تعرضه بهم لو تعرض على ما وردت به الروايات في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى وأيوب وإسماعيل ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا.
4. كذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ﴾ حيث ينبئ عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنة، فقد كان دخل الجنة، وصاحبهما وغرهما بوسوسته، ولا محذور فيه إذ لم تكن الجنة جنة الخلد حتى لا يدخلها.
5. من التأمّل في المقام يتّضح: أنّ آدم إنّما خالف أمرا إرشاديّا كما مرّت الإشارة إليه، ولا ينافيه ما نسبهما سبحانه إليه بقوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾، وقوله: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ واعترافهما بالظلم: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾؛ فإنّ للظلم والمعصية والغيّ مراتب، فما كلّ ظلم أو معصية فسقا موجبا لدخول النار، فالغفلة عن الحقّ منشأ كلّ ظلم ونقص، وليست من المعصية المصطلحة في شيء.. يستشعر ذلك من قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾؛ حيث يدلّ على الاجتباء أوّلا، ويفرّع عليه التوبة والهداية، والأمر في التوبة من المعصية المعروفة المصطلحة بالعكس.
6. على هذا فما تسلّمه المفسّرون ـ من كون النهي في قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ تعبّديّا في غير محلّه.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/132.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ جعل الشيطان هذه الشجرة سبباً لزلتهما، والزلة الخطيئة، ولعلها سميت زلة تشبيهاً بالزلة في الطين، ونحوه مما يسبب لسقوط الإنسان، فكأنهما انزلقا إلى الخطيئة انزلاق من لا يشعر أنه يسقط في طين أو نحوه، وهذا يشعر بأنهما إنما أكلا منها بخديعة من الشيطان وحيلة لا جرأة على الله وتعمداً لمعصيته.
2. هو يناسب ما يروى مما يفيد: أنهما أكلاها بضرب من التأويل وهو أنها كانت زرعاً، والمنهي عنه شجرة البر، فأكلا منها على تجويز أن المنهي عنه شجرة الشعير، وترددهما في المنهي بعد علم آدم أنه البر لنسيانه.
3. وهذا لا يستقيم على تفسير الإشارة في قوله تعالى: ﴿هَذِهِ الشَّجَرَةِ﴾ بأنها إشارة إلى عين الشجرة وشخصها، إنما يستقيم على تفسير الإشارة بأنها إشارة إلى الجنس، كما في الحديث في شجرة الثوم: من أكل من هذه البقلة فلا يقربن مسجدنا) رواه الإمام زيد بن علي عليهما السلام في (المجموع).
4. سؤال وإشكال: يشكل على هذا قوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾ [الأعراف: 20 ـ 22] فظاهره: أنهما أكلا من الشجرة بسبب رغبتهما فيها لتحصل لهما المنفعة الموهومة، فكيف صح أن تقول: لم يكونا متعمدين أكلها؟ والجواب: لا إشكال أن الرغبة فيها هي الباعث، ولكن يمكن أنهما وإن رغبا فيها كانا كارهين لتعمد المعصية، فلم تبعثهما الرغبة على تعمد أكلها على أنها هي الشجرة المنهي عنها، ولكن بعثتهما الرغبة على ترك الوقوف عند الشبهة فقد كان يمكنهما العدول عن الشجرة التي فيها شبهة إلى غيرها من المأكولات الكثيرة، كما يفيده قوله تعالى: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ فلا ضرورة للأكل من هذه الشجرة المشتبهة، ولكنهما كانا لشدة رغبتهما في فائدة الشجرة الفائدة الموهومة المزعومة يرغبان في أن يأكلاها بدون أن يتعمدا أكلها لتحصل فائدتها من دون تعمد المعصية، وهذا شأن بعض الناس إذا رغبوا في الشيء طلبوا توجيهاً يخلص عن المعصية.
5. من هنا أكلا منها راغبين في أن تكون في الواقع الشجرة المنهي عنها مستأنسين بأنهما لا يعلمان أنها هي الشجرة المنهي عنها، ناسيين أن الله قد حذرهما من الشيطان حيث أعلمهما أنه لهما عدو مبين، فكان الباعث على أكلها هو الرغبة فيها، مع أنهما غير متعمدين لها من حيث هي الشجرة المنهي عنها، فظهر: أنه لا تلازم بين كون السبب الرغبة وكونهما متعمدين للمعصية، فمن هنا انزلقا في المعصية وكانت تلك زلة أقيما منها وعثرة أقيلا منها.
6. الشيطان هو الذي شأنه الإغواء عن طريق الحق بالتغرير، ألا ترى أن إبليس عبر عنه باسمه الأول حين امتنع من السجود لآدم، ولما احتال لإغواء آدم وحواء صار اسمه الشيطان وعبر عنه بهذا الاسم، ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ من رغد العيش بغروره.
7. ﴿وَقُلْنَا﴾ لآدم وزوجه ولإبليس: ﴿اهْبِطُوا﴾ أما آدم وزوجه المخلوقة منه، فهبوطهما من جنتهما، وأما إبليس فهبوطه من السماء أو من جنة آدم؛ إذ لا يبعد أنه لما طرد من السماء صار إلى آدم وحواء ليغويهما، وهذا هو الراجح، ولعلها لم تكن في حقه رفاهية ورغداً؛ لأن ما فيها معدّ للإنسان خاصة؛ ولأن إبليس مستغرق بالحسد والحقد، فليس له في جنة آدم راحة.
8. ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ يبيّن أن عداوة الشيطان لهما باقية لم تنته عند إغوائه لهما وإخراجهما من الجنة، وأما عداوتهما له فبالدعاء عليه واللعنة له ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ أي إلى وقت تستقرون فيها وتتمتعون بما فيها من المنافع القصيرة الأمد من حيث أنكم تنتقلون من الأرض إلى موضع الجزاء في الآخرة النار لإبليس والجنة لآدم وزوجه حيث البقاء الدائم الذي بالنسبة إليه اعتبرت مدة نعم الأرض قصيرة، فسميت متاعاً، والحين وقت الموت.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/95.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ أي: أبعدهما عنها، من الزلل بمعنى الخطيئة التي تبعد الإنسان عن الثبات في موقعه، وذلك من خلال وسوسته وإغوائه وخداعه، وهذا ما قد نستوحيه من قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ من الجنة الخالدة والعيش الرغيد والراحة والهدوء والطمأنينة والفرح الروحي المنفتح على لذّات الجنة وجمالاتها.
2. ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا﴾ إلى الأرض أنتما وإبليس لعصيانكم الله وفشلكم في الاستقامة على خط أوامره ونواهيه.
3. ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ بفعل الحرب المفتوحة بينكما وذريتكما وبينه وجنوده، لأنه يستهدف إبعادكم عن رحمة الله وعن جنته، بينما تعملون على التمرد عليه والخروج من سلطته والسعي إلى دخول الجنة والبعد عن النار.
4. ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ أي مقام ثابت لأن الله جعلها قرارا، ﴿وَمَتَاعٌ﴾ تستمتعون فيه في حاجاتكم الوجودية العامة والخاصة.
5. ﴿إِلَى حِينٍ﴾ إلى الأجل الذي جعله الله لكم في مدة العمر التي حددها لكم في هذه الدنيا.
6. وهكذا عرف آدم ومعه زوجته معنى الشيطان في وسوسته، وقسوة التجربة في نتائجها، وأدرك الهول الكبير الذي يواجهه في البعد عن رحمة الله، وفي الخروج من مواقع القرب إليه، ومقامات الروح في رحابه.
7. ﴿اهْبِطُوا﴾ : هل هو الهبوط المكاني المادي من السماء إلى الأرض، أم هو الهبوط المعنوي في المنزلة والمكانة والنعيم؟ الظاهر من الكلمة هو الجو المادي، إلا أن يثبت غيره، ولم يثبت لنا ذلك.
8. ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ : إن هذه التجربة ركزت العداوة وعمّقتها وأوضحت خطوطها الكاملة، فلم يعد هناك أي مجال للالتباس، فعلى الإنسان أن يعي دوره الجديد في الأرض ويتعرف إلى أساليب هذا العدو الجديد الذي أخرجه من الجنة، وأهبطه إلى الأرض، ويريد ـ من جديد ـ أن يبعده عن الجنة التي تمثل رحمة الله وغفرانه ليشفي غيظه وعقدته الذاتية من تفضيل الله لآدم وتكريمه.
9. ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ إن الأرض هي المجال الجديد الذي يتحرك فيه آدم من موقع التجربة الحية التي انطلقت في حياته بما يشبه الصدمة، فهزت أعماقه وفجرت فيها الروح الجديدة الخاشعة لله، فانطلقت تكتشف الآفاق الرائعة التي يمكن أن تفقدها إذا ابتعدت عن طاعة الله، والآفاق التي يمكن أن تحقق لها الانسجام مع هواه، فكانت التوبة يقظة الروح الخاشعة المنسابة في أجواء العبودية، ليبدأ آدم من خلالها دوره الجديد في خلافته لله في الأرض، من موقع الوعي والطهارة والشعور العميق بالمسؤولية، والحذر من الألاعيب والملابسات التي يلعب من خلالها إبليس لعبة الإغراء والإغواء التي تهيئ أجواء الخطيئة لتنحرف بالإنسان عن دوره الأصيل، ولم تكن التوبة حالة فريدة في التجربة الأولى لآدم، بل كانت سبيلا عاما يلجأ إليه الإنسان لتصحيح نفسه كلما انحرف عن الطريق واستسلم لإغواء إبليس، ليعيش الانفتاح على أجواء الطهارة في كل مجال يحس فيه بالحاجة إلى التطهّر.
10. نعلم من بعض الآيات القرآنية اعتبار آدم نبيا، وذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 33]، وقد تقرر لدى جمهور علماء الإمامية أن الأنبياء معصومون قبل النبوّة وبعدها، وبناء على هذا حاولوا أن يوفق بين ذلك وبين هذه الآيات الدالة على أن هناك عصيانا من آدم وزوجته لأوامر الله لهما في الجنة.. وقد افترقوا في ذلك على اتجاهات مختلفة.
11. الاتجاه الأول، يرى أن للمعصية مجالين:
أ. المجال القانوني الذي يتحدد بالتمرد على التكاليف الصادرة من الله بصفته مشرّعا ومولى بحيث يطلب من المكلف أن يمتثلها تحت طائلة العقوبة الأخروية أو الجزاء الدنيوي.
ب. والمجال الإرشادي الذي يتحدد بالتمرد على الأوامر والنواهي الصادرة من الله بصفته ناصحا ومرشدا يوجه الإنسان نحو مصلحته من دون أن يلزمه بالسير على أساسها من ناحية قانونية، تماما كأوامر الطبيب ونواهيه، فلا يترتب عليها إلا الوقوع في الضرر الذي حذّر منه، أو عدم النفع الذي أريد له أن يحصل عليه.
12. يعبّر عن النهي في المجال الأول بالنهي المولوي، وفي المجال الثاني، بالنهي الإرشادي، ويقولون: إن العصمة لا تتنافى مع القسم الثاني من النهي، لأن النبي لم يتمرد على الله في فعل ما يغضبه، بل كل ما هناك أنه أساء إلى نفسه فيما وجهه الله إليه من نصيحة وإرشاد، وهذا ما نستوحيه من الآية، حيث الظاهر أن النهي كان إرشاديا، باعتبار أن نتيجته فقدان نعيم الجنة، وليس التعرض لعقاب الله.
13. ذكر هؤلاء أننا نجد شواهد على ذلك من هذه الآية وغيرها:
أ. نجد النهي هنا واقعا بعد الحديث معهما عن حريتهما المطلقة في التنعم بنعيم الجنة فيما يشاءان، مما يوحي بأن القضية تتحرك في إطار النصيحة.
ب. ونجد ذلك في قوله سبحانه: ﴿ فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ ولِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى وأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها ولا تَضْحى ﴾ [طه: 117 ـ 119] فنحن نواجه ترغيبا في نعم الجنة كأسلوب من أساليب التشجيع على الانسجام مع التوجيه الإلهي، من دون أن تكون هناك ضغوط تشريعية في هذا المجال، فلم تكن القضية هي أن يعذب أو لا يعذب، بل كل ما كان هناك هو: هل يبقى في الجنة أو لا يبقى فيها؟ فلا منافاة في ذلك لفكرة العصمة من قريب أو من بعيد.
14. سؤال وإشكال: إن كثيرا من ظواهر القرآن لا تؤدي هذه الفكرة، فنحن نلتقي بقوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 121]، وبقوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ وقوله تعالى: ﴿ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وقوله تعالى: ولا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾، فنحن نلاحظ أن المعصية ضد الطاعة، وأن الغواية ضد الرشد، وأن التوبة لا تكون إلا عن ذنب، وأن اعتبار الإنسان ظالما لنفسه لا يكون إلا من خلال عصيانه لله، مما كثر التعبير عنه في القرآن الكريم.. والجواب:
أ. إن كلمة المعصية لا تختص بالمعصية القانونية المستتبعة للعقاب، فيصحّ لنا أن نطلق على التمرد على أوامر الطبيب كلمة العصيان، فتقول: عصيت أمر الطبيب.
ب. أما كلمة الغواية، فإنها ضد الرشد كما ذكر، ولكن الرشد قد يكون في جانب المصلحة الدنيوية أو الذاتية، وقد يكون في إطار المصلحة الأخروية.
ج. وكذلك كلمة التوبة، فإنها تعبر عن الرجوع عن الخطأ، سواء كان فيما يتعلق بالأمور الدنيوية أم الأخروية، فيقال: تاب فلان عن العمل المضرّ، من دون أن يكون محرّما في نفسه.
د. أما الظلم، فقد يظلم الإنسان نفسه إذا منعها من الفرص الطيبة التي تجلب لها الراحة الذاتية، وقد يطلق الظلم على تعريضها للعقاب الأخروي.
هـ. أما طلب المغفرة والرحمة، فإنه قد ينطلق من الشعور بالإساءة إلى مقام الله في ترك اتباع نصائحه، وبمنافاة ذلك لحقّ العبودية للخالق، هذه هي بعض الأفكار التي أثارها الاتجاه الأول في موضوع عصمة آدم.
15. يثير الاتجاه الثاني الموضوع بطريقة أخرى، وهي أن الجنة ليست دار التكليف والمسؤولية، بل هي دار النعيم، وقد يجاب بأن ذلك هو وصف الجنة بعد الدنيا، فلا نعلم أن ذلك هو شأنها قبل النزول إلى الأرض.
16. الاتجاه الثالث، يرى أن لا مانع من حصول المعصية من الأنبياء قبل النبوّة، ولا سيّما في المعاصي الصغيرة التي لا تسيء إلى مكانتهم، ولا تعتبر لطخة عار في تاريخهم، مما لا ينسجم مع جوّ النبوّة.
17. يرى الاتجاه الرابع في قصة آدم وضعا خاصا لا يرتبط بالأجواء التي تثيرها قضية العصمة كعنصر ذاتي من عناصر النبوّة الهادية، وذلك أنّ آدم يمثل بداية الإنسان في وجوده، فهو الحلقة الأولى من هذه السلسلة الإنسانية الممتدة في هذا الكون، وهو خليفة الله في الأرض ـ بصفته الإنسانية ـ، فكان لا بد له من أن يعيش التجربة الحية في مواجهة الإغراء ليخرج من براءته الذهنية، التي قد توحي له بأن الكون يعيش روح البراءة والصفاء في نصائحه وعلاقاته، لأن مثل هذه البراءة قد تؤدي به إلى الوقوع في قبضة الغش والعداوة، لأنه لا يفهم معنى الغش والعداوة في حركة الحياة، ولذا، فقد كانت هذه القضية أسلوبا تجريبيا تدريبيا، حيث يضعه في مواجهة الواقع، ليتعرف، من خلال تجربته، على طبيعة الضعف في تكوينه، ونوعية الأساليب الملتوية التي يبتدعها الشيطان في الإغواء والإضلال، ليأخذ من ذلك فكرة عملية عن الأسلوب الأفضل للمواجهة الدائمة مع الشيطان، ليكون استعداده الجديد، من خلال التجربة الحية، لا من خلال الفكرة المجردة، وليفهم معنى العداوة في النتائج السيئة التي انتهى إليها في إطاعته للشيطان.
18. حصيلتنا من هذه الآيات ـ في الخط العملي لحياتنا ـ هي أن نستفيد من تركيز الله على عداوة إبليس لآدم، لإثارة عمق الإحساس بالعداوة في حياتنا إزاء إبليس وجنوده، مما يجعلنا نعيش الحذر في الفكرة، وفي الكلمة، وفي الخطوات العملية، وذلك، بأن ننفذ إلى أعماق ذلك كله في شهواتنا وخلفياتها الذاتية، لأن الدوافع الشريرة قد تختبئ وراء ستار كثيف من الانطباعات السطحية الخفيفة الكامنة في زوايا النفس، وقد تتلوّن ببعض الألوان المحببة إلى النفس فيما تقبله أو ترفضه، ثم نلتفت إلى ما حولنا من الأشياء التي تثيرنا نحو التحرك، وإلى من حولنا من الناس الذين نختلف معهم في جوانب العقيدة والحياة عندما نلتقي بهم في بعض مراحل الطريق، أو نتفق معهم في بعض خطط العمل، لندرس كل علاقة فكرية أو عملية، بروح الحذر الذكي الذي لا يتجمد ليشلّ في الإنسان جانب الحركة في جو الشك، بل يتحرك ليبحث عن كل السلبيات الكامنة في خلفيات الأشياء والنفوس، فقد تكون هناك بعض الأمور السيئة الكامنة خلف واجهات الإغراء.
19. إن علينا أن نضع أمامنا حقيقة العداوة مع الأعداء، فلا نستسلم لحالات الاسترخاء الطيّب في نفوسنا للعلاقات الطارئة التي تعيش في جوّ حميم، لأن العدو الذي يعيش الإحساس بالفواصل الفكرية والروحية والعملية التي تفصله عنا، لا بد له من التخطيط الفكري والعملي الذي يشل معه قدراتنا عن التحرك، ويوحي لنا بالانحراف من حيث لا نريد أو لا نشعر، فنستسلم للسذاجة الطيبة، وللكلمات المعسولة، وللأجواء الحميمة التي يتنامى فيها الشعور بحسن الظن، إن علينا أن نستحضر هذا الإحساس بالفواصل الفكرية والشعورية لنخطط لعملية الثبات على الإيمان من خلال الثبات على القواعد الفكرية والعملية، لنحفظ خطواتنا من الزلل، ومشاعرنا من الذوبان، وأفكارنا من الانحراف، ولا سيما في مثل هذه الأوقات التي يكثر فيها أعداء الإسلام، وتتنوع أساليب الإغراء التي تقتطع من الإسلام قطعة من هنا وقطعة من هناك، لحساب قضية من القضايا غير الإسلامية، ليتجمع الناس حولها فيحسبوها من الإسلام، وما هي من الإسلام، إن هي إلا الكفر المقنّع خلف الواجهات الإسلامية.
20. إن الله يريد من الإنسان أن يعيش الوعي العميق الممتد في كل خطواته من خلال وعيه لتجاربه فيما حوله وفي من حوله، ليسير إلى غاياته على أساس الرؤية الواضحة، والإرادة الحرة، لينتهي إلى رحاب الله من موقع الطاعة الواعية المستقيمة.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/251.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه مرحلة من المراحل التي مر بها أبو البشر صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه قبل أن يتم استخلافه في الأرض وينوء بأثقاله، ويتعود على تكاليفه، وقد أراد الله بإمراره في هذه المرحلة أن يعده بتربيته على الأمر والنهي وتعويده على البلاء والصبر للتكيف حسب مقتضيات هذا الاستخلاف، فمن المعلوم أن توطين النفس على التكاليف مما يقوي صبرها على تحملها.
2. من لطف الله به أنه لم يلقها على ظهره دفعة واحدة، بل درجه فيها ليبتليه، ويعرفه بضعفه، وليقر في نفسه أنه لا ملجأ له من مكائد الشيطان ووساوسه إلا إلى الله تعالى وحده، حتى يكون أسوة لذريته في ذلك، ويمثل ذلك كله في إسكان الله إياه الجنة، وإذاقته نعيمها، وإباحة متعها له، ما عدا شيئا واحدا وهو شجرة حجر الله عليه الأكل منها سواء كانت هذه الشجرة فردا من الأشجار معينا أو جنسا من أجناسها تدخل ضمنه، أفراد شتى.
3. قد تبدو هذه المحنة هينة عند من لا يعلم طبيعة الإنسان ولا يحيط بمكائد الشيطان ولكنها في حقيقتها محنة صعبة، فإن النفس البشرية خلقت ميالة إلى ما حجر عليها، ومتطلعة إلى ما خفي عنها، وللشيطان وسائل إليها، وقد عقد العزم على إضلالها فكان في حجر الأكل على آدم وزوجه من هذه الشجرة اختبار لإرادته وتعريف له بعجزه.
4. من ناحية أخرى فإن السلب بعد الوهب من أتعب ما يعانيه الإنسان، فلا غرو إذ أعيل صبر آدم على محنة الحرمان من هذا النعيم الذي كان يتفيأ ظلاله ويتقلب على لطفه الوثير، وضاق ذرعه من وحشة الإبعاد بعد أنس التقريب، ولم يكن قذفه بهذه المصائب إلا لتمام إعداده للمهمة التي نيطت به، فإنه خُلق لحياة الأرض التي يجد فيها العطاء والحرمان، والأنس والوحشة، والخير والشر، حتى يجتازها بسلام فينقلب إلى ما أعد له من النعيم الدائم جزاء عمله وصبره، وجهاده وكفاحه، فكان في كل ما مر به تربية نفسية له ولذريته الذين سينوؤون بما ناء به من التكاليف، وسيتحملون ما تحمله من مشاق حتى يعبروا طريق هذه الحياة، وينقلب كل منهم إلى حياة أخرى يجني فيها ما غرس، ويحصد ما زرع خيرا كان أو شرا.
5. سؤال وإشكال: إن آدم عليه السلام فشل في هذا الامتحان لأن الشيطان بلغ منه قصده، فقد تمكن من إنسائه عهد الله، وقدر على التأثير عليه حتى ارتكب ما نُهي عنه، والجواب: أن هذا لا يعد فشلا مع تدارك الأمر بالتوبة والانقلاب من الغفلة والغي والمعصية إلى أضدادها من لذكر والرشد والطاعة، وقد أراد الله لآدم أن يكون إمام التائبين من ذريته فإنهم جميعا خطاؤون وخير الخطائين التوابون، ولهم في أبيهم آدم ـ الذي ثاب إليه رشده فتعجل التوبة إلى الله ـ أسوة حسنة، أما الذي يُخلد إلى هواه ويصر على غيه ويركب رأسه في عناده لله فله في الشيطان ـ الذي أصر واستكبر استكبارا ـ أسوة سيئة.
6. إذا كان هذا العدو الماكر الشيطان الرجيم عليه لعنة الله استطاع بأساليبه الخبيثة أن يوقع صفي الله آدم عليه السلام في حبائل المعصية حتى فكه الله منها، فما بالكم بذرية آدم الذين يندر منهم من يتفطن لمكائده ويتنبه لمداخله.
7. أحسن ما نستفيده من هذه القصة هذه العبرة البالغة التي تجعل اللبيب حذرا في جميع أوقاته، فطنا في كل حالاته، يراقب الشيطان بعيني الخائف الوجل، لا يدري من أي ثغرة يلج عليه، وفي أي حال يفضي إليه.
8. الهمزة في أزل لتعدية زل، والزلل كالزلق وزنا ومعنى، والأصل فيهما استعمالها في انزلاق القدم، وتوسع فيهما فأطلقا فيما يؤدي إلى الهلاك أو إلى بلاء شديد حسيا كان أو معنويا، ومنه الإزلال المسند إلى الشيطان هنا فإنه بمعنى الإغواء، وذهب بعضهم إلى أن أزل هنا بمعنى أزال لأن القدم إذا زلت زالت من مكانها، ويؤيد هذا التفسير قراءة حمزة والحسن وأبي رجاء (فأزالهما) وانتقد هذه القراءة ابن جرير الطبري جريا على عادته في انتقاد القراءات التي لا تروق له، وهو غلط شنيع كما ذكرت من قبل، والباعث له إلى هذا الانتقاد ما توهمه من التكرار لمعنى الإزالة في قوله سبحانه: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ لعدم الفارق عنده بين مدلول لفظي الإزالة والإخراج، والحقيقة عدم التكرار.
9. تفسير الإزلال بالإزالة إنما هو من باب المجاز المبني على المجاز، وذلك أن الإزلال هو الإيقاع في الزلة، والزلة هي سبب للإخراج، فإسناد الإزالة إلى المزل لا يكون إلا بهذا الأسلوب المجازي.
10. المراد بالشيطان إبليس السالف الذكر، الذي كشر عن أنياب عداوته لآدم وذريته ساعة أمره الله بالسجود له.
11. الضمير المجرور في (عنها) عائد إلى الشجرة في قول جماعة من أهل التفسير، وقال غيرهم: إنه عائد إلى الجنة؛ وعلى الأول فعن في هذا الموضع كالتي في قوله تعالى: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة)، وقوله: وما فعلته عن أمري)، وقوله: وما ينطق عن الهوى)، وهي في كل هذه المواضع دالة على النشوء والصدور، ويعني ذلك أن وقوعهما في المعصية نشأ أو صدر عن تلك الشجرة، أي كان بسببها، وحمل بعضهم (عن) قيما كان كذلك على السببية، وهو من باب التفسير بالمعنى؛ وعلى الثاني فعن على بابها؛ والرأي الأول روعي فيه عدم خلو القصة عن ذكر سبب الخروج.
12. اختلف في الوسيلة التي اتخذها ـ لعنه الله ـ حتى تمكن من إغوائهما، وأكثر ما قيل من مزاعم أهل الكتاب وإن عزى إلى بعض الصحابة والتابعين، والباعث إلى التساؤل عن ذلك هو أن الله سبحانه طرد إبليس مذؤوما مدحورا من دار كرامته، فكيف تمكن من الدخول فيها حتى يفضي إليهما، ومما قيل في ذلك:
أ. قيل: أنه لجأ إلى حية كانت تخرج من الجنة وتعود إليها فطلب منها أن تخفيه بين أنيابها حتى تمكن من الإفضاء إليهما، فأخذ يوسوس لهما من بين الأنياب غير أنهما لم يصغيا إليه حتى خرج إليهما، فمناهما بما مناهما به من الخلد إن أكلا من تلك الشجرة كما قال تعالى: ﴿قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾، وقال سبحانه: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)، وهذا الرأي هو الذي درج عليه أكثر المفسرين لا سيما المفسرون بالمأثور، ورائحة الكذب اليهودي تشتم منه، وقد أشار إلى ذلك ابن كثير مع أنه من الذين يعتمدون على المأثور في تفسيرهم.
ب. قيل: إنه تحول إلى صورة دابة فدخل الجنة.
ج. قيل: أنه استطاع أن يوسوس لهما من السماء.
د. قيل: أنه وقف على باب الجنة وكانا ـ عليهما السلام ـ يتجولان في نواحيها فوصلا إلى الباب فتمكن من الوسوسة لهما.
إلى غير ذلك من الأقوال الفارغة من الدليل.
13. للشياطين قوى روحية خارقة كالقوى التي وهبها الله الملائكة، وإنما الفارق ما بين القوتين أن القوى الملكية خيرة، والقوى الشيطانية شريرة، فلا عجب إذا تمكن الشيطان من إغواء آدم وزوجه بما ينفثه في أنفسهما من دواعي السوء، وتلك هي الوسوسة التي أخبر تعالى عنها بقوله: ﴿ فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما ﴾، وإنما عُبر عنها بالقول في مواضع متعددة لأنها سدت مسده، ونحو ذلك قوله عز وجل: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾، ومما يقرب هذا ما يجري في العصر الحديث من التأثير النفسي من إنسان على آخر، ولو بعدت المسافة بينهما بالمكالمة الهاتفية حتى ينام المؤثر عليه بخطاب المؤثر، وهو ما يسمى بالتنويم المغناطيسي.
14. العطف بالفاء في قوله: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ لأن المعطوف فرع عن المعطوف عليه ومسبب له، إن فسر الإزلال بالإيقاع في المعصية، فإن اخراجهما من الجنة ناشئ عن ذلك، وإن فسر الإزلال بالإخراج فهو من باب عطف التفصيل على الإجمال، وجيء بالفاء لإفادتها الترتيب الذكري، كما في قوله تعالى: ﴿ وكم من قرية أهلكناها فجاءها يأسنا ﴾، وقوله: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾، ومثله يقال في قراءة حمزة: ﴿ فأزالهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه ﴾، وبهذا يندفع ما قاله ابن جرير من لزوم التكرار على هذه القراءة فإن عطف التفصيل على الإجمال شائع في القرآن وغيره من الكلام العربي، ومن ناحية أخرى فإن ﴿ ما كانا فيه ﴾ ليس نصا في الجنة لاحتمال أن يفسر بنعيمها أو بما كانا عليه من طاعة الله وأنسها، فأخرجهما الشيطان عنه إلى نقيضه من المعصية ووحشتها.
15. مهما يكن المراد ﴿ بما كانا فيه ﴾ من الجنة ونعيمها، أو من الطاعة وأنسها، فإن التعبير بالموصول يفيد التفخيم كما هو في قوله تعالى: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾، وفيه تلويح إلى ما لحقهما من الخسران بسبب هذا الإخراج، وفي استحضار ذلك لمن تلا الآية أو تليت عليه موعظة وذكرى، وترسيخ لعداوة الشيطان في النفس، فإنه هو الذي جر على أصل الإنسانية هذه المصيبة فما أجدر الفروع أن تثأر لأصلها بمعاداة الشيطان وحزبه، ومقاومة وساوسه، والحذر من إغرائه وإغوائه، والسعي إلى تخييب سعيه في إضلال البشر، وقطع حبل أمانيه في إهلاكهم، وهذا أصل تربوي ناجح في إعداد النفوس لما يراد منها، إذ في تذكير الأولاد والأحفاد بمصائب الآباء والأجداد تأصيل لكراهية من كان السبب في هذه المصائب، وقد اتبع القرآن هذه الطريقة التربوية في أكثر من موضع، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾
16. إطلاق الظلم على فعلهما لا يستلزم أن يكون من الكبائر لمنافاة ذلك عصمة النبوة، وللعلم بأنهما لم يأتيا ما أتياه لأجل الوقوع في مخالفة أمره سبحانه وتعالى، وإنما كان ذلك إما نسيانا وإما خطأ.
17. ليس تهويل هذه المخالفة إلا لعلو قدرهما وعظم شأنهما، وما أحسن قول من قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين)، ومن هذا الباب مضاعفة الوعيد بالعذاب لأمهات المؤمنين في قوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ مع قوله: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾، فلا غرابة في إطلاق اسم الظلم على صنيع صفي الله آدم عليه السلام وإن كان بالنسبة إلى غيره صغيرا.
18. سؤال وإشكال: وصف الله تعالى آدم بالمعصية والغواية في قوله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾، وما ذكر في هذا التأويل يستلزم تبرئته من الغواية والعصيان لأن الجدير بحلم الله عز وجل أن لا يؤاخذ عبده بما قارفه نسيانا، فإن النسيان ليس من كسب الناس وإنما هو أمر مفروض عليه، ومن المعلوم أنه تعالى آخذ آدم بصنيعه هذا إذ أبدى له سوأته وأخرجه من جنته، والجواب:
أ. أن تسمية ما صدر من آدم غيا وعصيانا إنما هو بالنظر إلى علو قدره وسمو رتبته، كيف وقد اختاره الله خليفة في الأرض وعلمه الأسماء كلها وفضله بتعليمها للملائكة وإسجادهم له؟ فكان حريا أن يتفطن في كل حالاته لمكائد الشيطان العدو الأول له ولذريته ـ لا سيما وأن الله قد حذره منه وبين له عاقبة متابعته ـ وأن لا يسترسل مع أماني الخلد حتى ينسى عهد الله إليه، فأي غرابة مع ذلك إن سمى الله ما صدر منه في حالة سهوه غيا ومعصية؟ وما أحسن قول من قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين)
ب. وأي غرابة كذلك في تأديب الله إياه وابتلائه بإخراجه من الجنة لتكون في ذلك عبرة لذريته وردع عن العصيان وتحذير من مؤامرات الشيطان؟
19. استشكل وقوع آدم في حبائل كيد إبليس بأكله من الشجرة التي نهاه الله تعالى عنها مع تحذير الله إياه من مكائد الشيطان وإيذانه أنه عدو له ولزوجه، وأنه يسعى إلى إخراجهما من الجنة وإشقائهما، وهذا كله من دواعي التفطن لمكائده والاحتراز من شروره، واتهامه في كل ما يصدر عنه مما يدعيه نصحا وإرشادا، وقد كان هذا الاستشكال منشأ اختلاف عريض بين المفسرين بحسب ما اتجه لكل من جواب، وقد بلغ الحال ببعضهم أن ادعى أن آدم عليه السلام لم يأكل من تلك الشجرة إلا بعدما سقته حواء الخمر فسكر، وهو منسوب إلى سعيد بن المسيب، وروي عنه أنه كان يقسم عليه، وهو باطل من وجوه:
أ. أولها: أنه لم يثبت به نقل ولا مجال في إثبات مثل ذلك بمجرد النظر.
ب. ثانيها: أن الأنبياء عليهم السلام لا يصدر منهم ما يخل بعقولهم، كيف وهم أوفر الناس عقلا، وأسماهم فكرا، وأنورهم بصيرة.
ج. ثالثا: أن خمر الجنة ليست مسكرة فإن الله نعتها بقوله: لا يصدعون عنها ولا ينزفون)، وهذا مبني على أن جنة آدم هي دار الخلد كما هو رأي من عزي إليه هذا الجواب.
د. وقيل: إنه عليه السلام لما نهي عن الشجرة ظن أن المنهي عنه عين الشجرة المشار إليها فأكل من جنسها لعدم حسبانه أنه ينطوي عليه النهي.
هـ. وقيل: إن أكله كان في حالة نسيان لنهيه تعالى عن تلك الشجرة، ولم يقدم على صنيعه هذا في حالة الذكر، وهذا القول هو أصح الأقوال حسب رأيي لما يعضده من قوله تعالى: ﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما ﴾
20. مما يشكل على هذا القول إذا ما نُظر إلى ظاهر قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾، فإن ظاهر ما في هذه الآيات أن آدم وزوجه أكلا من تلك الشجرة وهما على ذكر من عهد الله لهما، ويندرئ هذا الإشكال مع التعويل على الرأي الذي يقول لأن إغواء الشيطان لهما كان بمجرد الوسوسة كما يدل عليه قوله عز وجل: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾، وأن ما ذكره تعالى من المقاولة والمقاسمة إنما هو لتصوير تلك الحالة النفسية الكائنة من هذه ا الوسوسة ونتائجها في صورة الجدل المسموع بين مُخادِع ومُخادَع، فإن نفس المؤمن عندما ينفث فيها الشيطان أمرا لا بد لها من أخذٍ ورد حتى تدركها العناية فتنجو أو تحتاجها الغواية فتردى.
21. بيان ذلك أن الشيطان ـ لعنه الله ـ ألقى في نفس آدم وحواء عليهما السلام أن تلك الشجرة من أكل منها ظل خالدا في النعيم، ومن طبيعة النفس الإنسانية حب الخلد وكراهة الفناء، فلا عجب إذا تعلقا مع ذلك بها لولا أن عهد الله كان يحجزهما عنها، ثم سعى ـ لعنه الله ـ في إنسائهما العهد بما يلقيه في صدورهما من الوساوس التي تشغلهما عنه، وفي غمرة الغفلة ألجأهما إلى الأكل منها بدافع حبهما للخلد فلم يراعا إلا وقد بدت لهما سوآتهما فتذكرا عهد الله فآبا إليه بالندم والحسرة على مقارفتهما معصيته، وهذا التأويل أحسن ما يجُمع به بين الآي المتحدثة عن هذه القصة وإن لم أجده مأثورا عن أحد.
22. يؤيد هذا أن الله سبحانه أراد بقصة آدم تنبيه ذريته إلى مكائد الشيطان ووجوب احتراسهم منها وتفطنهم لها، من المعلوم أن إغواءه لهم لا يكون ببروزه إليهم ومشافهته إياهم، وإنما يكون بوساوسه الخادعة التي يلقيها في صدورهم فناسب ذلك أن يكون شأنه مع أبيهم كشأنه معهم.
23. استدلّ بأمرهما بالهبوط من قال إنها جنة الخلد كما استدلّ به الجبائي القائل بأنها جنة في السماوات؛ والذين قالوا إنها كانت في الأرض حملوا هذا الهبوط على الانتقال من مكان إلى آخر كما في قوله تعالى؛ ﴿ اهبطوا مصر ﴾
24. حشر المفسرون أقوالا متعددة معزوة إلى الأسلاف في تحديد أماكن هبوط كل من آدم وحواء وعدوهما إبليس، وأضافوا إليهم الحية، ولست أراها إلا من أكاذيب أهل الكتاب التي علقت بأذهان كثير من المفسرين فشانوا بها جمال التفسير، وإن زعم بعض المحدثين كالحاكم صحة نسبة بعضها إلى بعض الصحابة.
25. الأمر بالهبوط موجه ـ في رأي أكثر المفسرين ـ إلى آدم وحواء وإبليس، وعليه فإن العداوة المقصودة هي بين آدم وحواء من جهة وإبليس من جهة أخرى، وزعم بعضهم دخول الحية معهم، وأخرج هذا ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس، ومما ذكروه أنها كانت ذات قوائم وزينة فسلبها الله قوائمها وزينتها ووحش منظرها بعد أن أعانت إبليس على إغواء آدم، وجعل بينها وبين الإنسان عداوة مستمرة، ولا يخفى ما فيه.
26. الصحيح أن الخطاب لآدم وحواء بدليل ما في سورة طه وهو قوله عز من قائل: قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)، إذ لا يمكن أن يكون الخطاب فيه شاملا لإبليس أو له وللحية مع وروده بصيغة التثنية، والقرآن يبين بعضه بعضا، ولا يشكل ورود الخطاب بصيغة الجمع هنا، وفيما بعد الجملة الأولى من سورة طه لأن الخطاب وإن كان لهما فإنه يشمل بفحواه من يأتي من ذريتهما فالعدول فيه إلى صيغة الجمع إنما هو لهذا الغرض.
27. ما قيل من أن المعدوم لا يخاطب لعدم إمكان أن يعقل الخطاب فهو ليس على إطلاقه، فقد خاطب الله تعالى جميع الأجيال إلى أن تقوم الساعة بأوامره ونواهيه التي أنزلها في القرآن نحو قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، وقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾، وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾، وليس من المعقول أن يكون هذا الخطاب محصورا في الجيل الذي عايش نزول القرآن، إذ لو كان كذلك لكان لمن يأتي بعده عذر في عدم التقيد بالأوامر والنواهي لعدم خطابه بها.
28. الحق أنه لا مانع من خطاب المعدوم مع الموجود إن كان الخطاب صالحا لهما وكان المعدوم امتداد للموجود كما في هذا الخطاب فإن ذرية آدم وحواء ليس وجودهم إلا امتداد لوجودهما، فأي مانع من دخولهم في عموم الخطاب الموجه إليهما ومراعاة ذلك فيه بحيث يضاغ صيغة الجمع الشاملة لهم جميعا، ويدل على شمول الخطاب للذرية قوله تعالى في هذه السورة: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، إذ لا يُعقل إلا دخول ذرية آدم في هذا الخطاب وشمول ما فيه، من وعد ووعيد لهم.
29. العجب ممن ادعى دخول إبليس والحية في هذا الخطاب كيف ذهل عن كون الحية ليست من جنس المكلفين حتى توعد على اتباعها هدى الله وتتوعد على إعراضها عنه، وأن إبليس لا يمكن أن يكون مقصودا بهذا الخطاب لاستحالة صلاحه وتعذر فلاحه بعدما طرده الله من واسع رحمته وقضى عليه بالشفاء المستمر.
30. لا يشكل أمر آدم وحواء بالهبوط من الجنة مع ذريتهما مع عدم وجود الذرية حينئذ ذلك لأنهما عليهما السلام كانا منطويين على عناصر هذه الذرية فهبوطهما هبوط للجميع ولو بقيا مكانهما لظهرت ثم ذريتهما ولكان ذلك المكان مستقرا لها.
31. العداوة المقصودة في قوله تعالى: بعضكم لبعض عدو) هي عداوة الشيطان للإنسان عند من قال بدخول إبليس في الخطاب بقوله: اهبطوا)، ومن قال بدخول الحية أيضا قال بأن وصف العداوة شامل لها، فهي وإبليس عدوان لآدم وحواء بالأصالة ولذريتهما بالتبعية، فالمقصود بالعداوة إذا ما يكون بين ذريتهما من تنازع وتقاتل على متاع الحياة الدنيا، وقد بدأت هذه العداوة تتجسد في سلوك الإنسان منذ أن قتل قابيل هابيل، ولا زالت مستعرة نارها والشيطان هو الذي يسعرها بمكائده، فلا يفتأ يوغر الصدور ويثير الأحقاد ويبعث الضغائن حتى تظل الإنسانية في شقاء مستمر، وتتقطع ما بينها الصلات التي أمر الله برعايتها، وغير خافٍ أن ذكر هذه العداوة في معرض الحديث عن إغواء إبليس لآدم وزوجه فيه إشارة إلى أن منشأها مكائد إبليس العدو الأول للإنسان، وفي ذلك تعريض بوجوب أخذ الحذر من شروره والتفطن لمكائده بين الناس.
32. إفراد لفظ عدو ـ مع أن العداوة ليست بين فرد ٍ وفرد بل هي بين أكثر أفراد الجنس البشري غالبا ـ لوجهين:
أ. أحدهما: أن بعضا وكلا مفردان لفظا وإن دلا على الجمعية، فيجوز فيهما رعاية لفظهما فيفردا، ورعاية معناها فيجمعا.
ب. ثانيهما: أن لفظ العدو يشترك فيه الواحد والجمع كما في قوله سبحانه: هم العدو فاحذرهم) (المنافقون: 4).
33. المستقر إما أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الاستقرار، أو ظرفا ميميا ـ أي مكان الاستقرار ـ وعلى هذا الأخير ففي العبارة تجريد كما في قوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ﴾، فإن الأرض نفسها هي مكان الاستقرار، واختلف في هذا المستقر هل هو خاص بالحياة أو هو في الحياة وبعد الممات؟ فالاستقرار في الحياة على ظهر الأرض، وبعد الممات في بطنها، وعطف المتاع عليه يدل على أن المراد بالمستقر ما كان في الحياة فإن الاستمتاع لا يكون إلا فيها.
34. كلمة متاع تطلق على كل ما يستمتع به سواء كان نظرة سارة أو صوتا محبوبا، أو رائحة طيبة، أو لباسا، أو طعاما، أو سكنى، أو أي شيء آخر مما فيه منفعة ظاهرة أو باطنة.
35. لمن قال إن المستقر في الأرض ليس خاصا بالحياة أن يقول بعموم المتاع لما بعد الموت من دفن الأجساد في باطن الأرض، فإن في ذلك سترا لها وهو من منافعها، ويستأنس له بقوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾
36. ذكر المفسرون تفصيل قصة الأكل من الشجرة، ومن ذلك أن آدم لم يأكل منها حتى كانت حواء هي البادئة بالأكل، وذلك لا يختلف عما قبله في كونه قولا لم يبن على دليل، وقد أسرف القرطبي في الاستناد على هذه الحكايات الوهمية حتى أتى شيئا إمرا إذ ادعى أن المعصية لم تتحقق بأكل حواء وحدها من الشجرة حتى تبعها آدم فتحققت معصيتهما فكان ما كان من عقاب الله لهما بإخراجهما من الجنة بعدما أريا سوآتهما.
37. منشأ قوله بأن المعصية لم تقع حتى أكلا جميعا أن الخطاب بالنهي وجه إليهما معا ولم يخص كل واحد به، وبني على ذلك أن من قال لزوجتيه: إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو لأمتيه إن فعلتما فأنتما حرتان، بان الطلاق والعتاق لا يقعان حتى يصدر ذلك منهما معا، وذكر ـ تبعا لابن العربي ـ ما يعارض هذا القول لعدم وقوع الشرط وهو دخول الاثنتين كما أن آدم وحواء لم يكونا ظالمين حتى أكلا جميعا من الشجرة مع قوله عز وجل: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾
38. وهو كلام جدير بأن يستوقف كل سامع، كيف لا يكون ارتكاب النهي معصية وظلما حتى يقع ذلك من كل من وجه إليهم الخطاب إذ لا فرق بين صيغة التثنية وصيغة الجمع في مثل هذا؟ ويترتب على هذا القول أن لا يصدق حكم المعصية على أحد حتى يرتكب الناس كلهم ما نهوا عنه ما دام الخطاب بالنهي موجها إليهم جميعا فيجوز لكل زان أن يعتذر عما ارتكب بأنه غير عاص ما لم يزن جميع الذين خوطبوا بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ كما يجوز لكل آكل ربا أن يعتذر بأنه غير عاص بأكله الربا حتى يأكله الذين خوطبوا بقوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾، ومثل ذلك يقال في قتل النفس المحرمة بغير حق وسائر المعاصي الموبقات ما لم يخص مرتكبها بالنهي عنها في خطاب يخصه، وهو فاسد بالإجماع، وإذا فسد اللازم فسد الملزوم لعدم انفكاكه عنه.
39. العجب ممن يقول إن إبليس لم يتسلط على آدم إلا من طريق حواء مع أن القرآن صريح بأنه ـ لعنة الله ـ كان خطابه لآدم فقد قال تعالى: قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها)، فإن ذلك واضح في أن أكلهما ناشئ عن هذا الخطاب الموجه إلى آدم، وهو لا ينافي أن يكون خاطبهما معا كما يدل عليه قوله سبحانه: وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) وإنما حكى الله تارة خطابه لهما معا، وتارة خطابه لآدم وحده لأن حواء تبع له كما سبق.
40. بين الله لهما عاقبة مخالفتهما أمره بقربهما من تلك الشجرة التي نهيا عنها حيث قال لهما: فتكونا من الظالمين) وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومنه استحسان ما ليس بمستحسن، وقد استحسنا الأكل من تلك الشجرة بتزيين إبليس لهما ذلك مع ما فيه مخالفة أمر الله.
__________
(1) تفسير الخليلي: 3/99.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. وهنا رأى (آدم) نفسه أمام أمر إلهي يقضي بعدم الاقتراب من الشجرة، لكن الشيطان أبى إلّا أن ينفذ بقسمه في إغواء آدم وذريته، فطفق يوسوس لآدم ويعده وزوجه ـ كما يبدو من سائر آيات القرآن الكريم ـ بالخلود وباتخاذ شكل الملائكة وأقسم أنه لهما من الناصحين، تقول الآية بعد ذلك: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ .
2. نعم، أخرجا من الجنة حيث الراحة والهدوء وعدم الألم والتعب والعناء، على أثر وسوسة الشيطان.. وصدر لهما الأمر الإلهي بالهبوط ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾، وهنا، فهم آدم أنه ظلم نفسه، وأخرج من الجوّ الهادي المليء بنعم الجنّة بسبب استسلامه لوسوسة الشيطان، وهبط في جوّ مفعم بالتعب والمشقة والعناء، مع أن آدم كان نبيّا ومعصوما، فإن الله يؤاخذ الأنبياء بترك الأولى كما يؤاخذ باقي الأفراد على ذنوبهم، وهو عقاب شديد تلقاه آدم جرّاء عصيانه.
3. المكانة التي ذكرها القرآن لآدم سامية ورفيعة، فهو خليفة الله في الأرض ومعلم الملائكة، وعلى درجة كبيرة من التقوى والمعرفة، وهو الذي سجدت له ملائكة الله المقربين، ومن المؤكد أن آدم هذا لا يصدر عنه ذنب، إضافة إلى أنه كان نبيّا، والنّبي معصوم.
4. لنوع الذي صدر عن آدم عليه السلام ثلاثة تفسيرات يكمل بعضها الآخر:
أ. ما ارتكبه آدم كان (تركا للأولى) أو بعبارة أخرى كان (ذنبا نسبيا)، ولم يكن (ذنبا مطلقا).. الذنب المطلق، وهو الذنب الذي يستحق مرتكبه العقاب أيا كان، مثل الشرك والكفر والظلم والعدوان، والذنب النسبي هو الذي لا يليق بمرتكبه أن يفعله لعلوّ منزلة ذلك الشخص، وإن كان ارتكابه مباحا، بل مستحبا أحيانا من قبل الأفراد العاديين، على سبيل المثال، نحن نؤدي الصلاة بحضور القلب تارة، وبعدم حضور القلب تارة أخرى، وهذه الصلاة تتناسب وشأننا، لكن مثل هذه الصلاة لا تليق بأفراد عظام مثل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، صلاة الرّسول ينبغي أن تكون بأجمعها اتصالا عميقا بالله تعالى، وإن فعل الرّسول غير ذلك فلا يعني أنه ارتكب محرّما، بل يعني أنه ترك الأولى.. وآدم كان يليق به أن لا يأكل من تلك الشجرة، وإن كان الأكل منها غير محرّم بل (مكروها)
ب. نهي الله لآدم إرشادي، مثل قول الطبيب: لا تأكل الطعام الفلاني فتمرض.. والله سبحانه قال لآدم: لا تقرب هذه الشجرة فتخرج من الجنّة، وآدم في أكله من الشجرة خالف نهيا إرشاديا.
ج. الجنّة التي مكث فيها آدم لم تكن محلا للتكليف، بل كانت دورة اختبارية وتمهيدية لآدم كي يهبط بعدها إلى الأرض، وكان النهي ذا طابع اختياري.
5. كلمة الشيطان من مادة (شطن) و(الشاطن) هو الخبيث والوضيع، والشيطان تطلق على الموجود المتمرد العاصي، إنسانا كان أو غير إنسان، وتعني أيضا الروح الشريرة البعيدة عن الحق، وبين كل هذه المعاني قدر مشترك.. والشّيطان اسم جنس عام، وإبليس اسم علم خاص، وبعبارة أخرى، الشيطان كل موجود مؤذ مغو طاغ متمرّد، إنسانا كان أم غير إنسان، وإبليس اسم الشيطان الذي أغوى آدم ويتربّص هو وجنده الدوائر بأبناء آدم دوما.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/169.
16. آدم والكلمات
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈16⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 30 ـ 39]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الأسلمي:
روي عن أبي برزة الأسلمي (ت 65 هـ) أنّه قال: إن آدم لما طؤطئ عن كلام الملائكة، وكان يستأنس بكلامهم؛ بكى على الجنة مائة سنة، فقال الله تعالى له: يا آدم، ما يحزنك؟ قال كيف لا أحزن وقد أهبطتني من الجنة، ولا أدري أعود إليها أم لا؟ فقال الله تعالى: يا آدم، قل: اللهم لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، سبحانك وبحمدك، رب إني عملت سوءا، وظلمت نفسي؛ فاغفر لي، إنك أنت خير الغافرين، والثانية: اللهم لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، سبحانك وبحمدك، رب إني عملت سوءا، وظلمت نفسي؛ فاغفر لي، إنك أنت أرحم الراحمين، والثالثة: اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، لا شريك لك، رب عملت سوءا، وظلمت نفسي؛ فاغفر لي، إنك أنت التواب الرحيم، فهي الكلمات التي أنزل الله على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، قال وهي لولده من بعده(1).
__________
(1) الدرّ المنثور: الطبراني.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ قوله: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣](1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ أي رب، ألم تخلقني بيدك؟ قال بلى، قال أي رب، ألم تنفخ في من روحك؟ قال بلى، قال أي رب، ألم تسبق إلي رحمتك قبل غضبك؟ قال بلى، قال أي رب، ألم تسكني جنتك؟ قال بلى، قال أي رب، أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال نعم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ إن آدم قال لربه إذ عصاه: رب، أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ فقال له ربه: إني راجعك إلى الجنة(2).
4. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، أي: خالدون أبدا(3).
5. روي أنّه قال: إن ملك الموت لما بعث ليأخذ من الأرض تربة آدم؛ أخذ من وجه الأرض، وخلط، فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء؛ فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، ولذلك سمي: آدم؛ لأنه أخذ من أديم الأرض(4).
6. روي أنه قال: بعث رب العزة إبليس، فأخذ من أديم الأرض: من عذبها ومالحها، فخلق منها آدم، فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى السعادة، وإن كان ابن كافرين، وكل شيء خلقه من مالحها فهو صائر إلى الشقاء، وإن كان ابن نبيين، قال ومن ثم قال إبليس: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾، إن هذه الطينة أنا جئت بها، ومن ثم سمي: آدم؛ لأنه أخذ من أديم الأرض(4).
7. روي أنه قال إنما سمي: آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض ـ زاد الفريابي: قبض قبضة من تربة الأرض، فخلقه منها، وفي الأرض البياض والحمرة والسواد؛ ولذلك ألوان الناس مختلفة، فيهم الأحمر والأبيض والأسود، والطيب والخبيث(5).
8. روي أنّه قال: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾، قال جعله الله كافرا لا يستطيع أن يؤمن(6).
9. روي أنه قال قال الله لآدم: يا آدم، ما حملك على أن أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال يا رب، زينت لي حواء، قال فإني عاقبتها بأن لا تحمل إلا كرها، ولا تضع إلا كرها، ودميتها في كل شهر مرتين، قال فرنت حواء عند ذلك، فقيل لها: عليك الرنة، وعلى بناتك(7).
10. روي أنه قال: إن أول ما أهبط الله آدم إلى الأرض أهبطه بدحنا أرض بالهند(8).
11. روي أنه قال: أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال لها: دحنا، بين مكة والطائف(9).
__________
(1) الثعلبي في تفسيره: ط: دار التفسير، ٣/٢٤٨.
(2) ابن جرير: ١/٥٨١.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٩٣.
(4) ابن جرير: ١/٥١٢.
(5) ابن أبي حاتم: ٥/١٤٤٣.
(6) الدرّ المنثور: ابن المنذر.
(7) ابن أبي الدنيا في كتاب البكاء.
(8) ابن أبي حاتم: ١/٨٨.
(9) ابن أبي حاتم: ١/٨٩.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: أهبط آدم بالصفا، وحواء بالمروة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨٨.
رجاء:
روي عن رجاء بن أبي سلمة (ت 91 هـ) أنّه قال: أهبط آدم يديه على ركبتيه مطأطئا رأسه، وأهبط إبليس مشبكا بين أصابعه، رافعا رأسه إلى السماء(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨٨.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ إن آدم لما أصاب الخطيئة قال يا رب، أرأيت إن تبت وأصلحت؟ فقال الله: إذا أرجعك إلى الجنة، فهي من الكلمات، ومن الكلمات أيضا: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣](1).
2. روي أنّه قال: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ الهدى: الأنبياء، والرسل، والبيان(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٨٢.
(2) ابن جرير: ١/٥٨٩.
أنس بن مالك:
روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءا، وظلمت نفسي؛ فاغفر لي، إنك خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا، وظلمت نفسي؛ فارحمني، إنك أنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا، وظلمت نفسي؛ فتب علي، إنك أنت التواب الرحيم، وذكر أنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكن شك فيه(1).
__________
(1) البيهقي في شعب الإيمان: ٧١٧٣.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لما أصاب آدم الخطيئة فزع إلى كلمة الإخلاص، فقال: لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب عملت سوءا، وظلمت نفسي؛ فارحمني، إنك أنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب عملت سوءا، وظلمت نفسي؛ فتب علي، إنك أنت التواب الرحيم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ يعني: في الآخرة، ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ يعني: لا يحزنون للموت(2).
3. روي أنّه قال: خلق الله آدم من أرض يقال لها: دحناء(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾، قال الكرم(4).
5. روي أنّه قال: ما كان آدم عليه السلام في الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر(5).
__________
(1) هَنّاد في الزُّهد.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٩٣.
(3) ابن سعد في الطبقات: ١/٢٥ ـ: ٢٦.
(4) ابن جرير: ١/٥٥٥.
(5) أحمد في الزهد: ص٤٧.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي؛ فاغفر لي، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي؛ فارحمني، إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي؛ فتب علي، إنك أنت التواب الرحيم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ أي رب، أتتوب علي إن تبت؟ قال نعم، فتاب آدم، فتاب عليه ربه(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٨٥.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدست ميسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان(1).
2. روي أنّه قال: أنّه قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة مائة وثلاثون سنة من أيام الدنيا(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨٩.
(2) أحمد في الزهد: ص٤٧.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي في قوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم(1).
2. روي أنّه قال: إن آدم عليه السلام لمّا بنى الكعبة وطاف بها قال اللّهم إنّ لكلّ عامل أجراً اللهم، وإنّي قد عملت فقيل له: سل يا آدم فقال: اللهم اغفر لي ذنبي فقيل له: قد غفر لك يا آدم فقال: ولذريّتي من بعدي فقيل له: يا آدم من باء منهم بذنبه هيهنا كما بؤت غفرت له(2).
3. روي أنّه قال: الكلمات الّتي تلقّى بهنّ آدم عليه السلام ربّه فتاب عليه: اللهم لا إله إلاّ أنت سبحانك وبحمدك إني عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنّك أنت التّواب الرّحيم، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنّك أنت خير الغافرين(3).
__________
(1) الكافي: 8/305 .
(2) قصص الأنبياء للراوندي، ص45.
(3) قصص الأنبياء للراوندي، ص51.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ ذكر لنا: أنه قال يا رب، أرأيت إن تبت وأصلحت؟ قال فإني إذن أرجعك إلى الجنة، قال ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣]، فاستغفر آدم ربه، وتاب إليه، فتاب عليه، وأما عدو الله إبليس، فوالله، ما تنصل من ذنبه، ولا سأل التوبة، حتى وقع بما وقع به، ولكنه سأل النظرة إلى يوم الدين، فأعطى الله كل واحد منهما ما سأل(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ﴾ الآية: ما زال لله في الأرض أولياء منذ هبط آدم، ما أخلى الله الأرض لإبليس إلا وفيها أولياء له، يعملون لله بطاعته(2).
__________
(1) البيهقي في شعب الإيمان: ٧١٧٤.
(2) الدرّ المنثور: ابن المنذر.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ أي قبلها.. والكلمات: قولهما ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ .(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ والتواب: المعين للعباد على التّوبة، والتّواب من العباد: الرّاجع عن ذنبه، التّارك له، والنّادم على ما تاب منه.(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 81.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: أخرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة، فأخرج آدم معه غصنا من شجر الجنة، على رأسه تاج من شجر الجنة، وهو الإكليل من ورق الجنة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨٨.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن آدم شكا إلى ربّه حديث النفس، فقال: أكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلّا بالله(1).
2. روي أنّه قال: أوحى الله عزّ وجلّ إلى آدم عليه السّلام: إنّي سأجمع لك الخير كلّه في أربع كلمات: قال: يا رب! وما هنّ؟) قال: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين النّاس) قال: يا رب! بيّنهنّ لي حتى أعلمهنّ!) فقال: أمّا الّتي لي، فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأمّا الّتي لك، فأجزيك بعملك أحوج ما تكون إليه، وأمّا الّتي بيني وبينك، فعليك الدّعاء وعليّ الإجابة، وأمّا الّتي بينك وبين النّاس، فترضى للنّاس ما ترضى لنفسك(2).
3. روي أنّه قال: بكى آدم عليه السلام على الجنّة حتّى صار على خدّيه مثل النّهرين العظيمين من الدّموع، وقال: اللهم أقلني عثرتي وأعدني إلى الدّار الّتي أخرجتني منها، فقال الله جلّ ثناؤه: قد أقلتك عثرتك وسأعيدك إلى الدّار الّتي أخرجتك منها(3).
4. روي أنّه قال: لما طاف آدم عليه السّلام بالبيت، وانتهى إلى (الملتزم) قال جبريل: يا آدم! أقرّ لربك بذنوبك في هذا المكان) فوقف آدم فقال: يا رب! إن لكل عامل أجرا، وقد عملت فما أجري؟) فأوحى الله إليه: يا آدم! قد غفرت لك ذنبك، قال: يا رب! ولولدي ـ أو لذرّيّتي ـ فأوحى الله إليه: يا آدم! من جاء من ولدك إلى هذا المكان، وأقرّ بذنوبه وتاب كما تبت ثمّ استغفر غفرت له(4).
5. روي أنّه قال: إن آدم بقي على الصفا أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة وعلى خروجه من جوار الله عز وجل، فنزل عليه جبرئيل فقال: يا آدم، مالك تبكي؟ فقال: يا جبرئيل، ما لي لا أبكي وقد أخرجني الله من جواره، وأهبطني إلى الدنيا، قال يا آدم، تب إليه، قال وكيف أتوب؟ فأنزل الله عليه قبة من نور في موضع البيت فسطع نورها في جبال مكة فهو الحرم، فأمر الله عز وجل جبرئيل أن يضع عليه الأعلام، قال قم، يا آدم، فخرج به يوم التروية، وأمره أن يغتسل ويحرم، وأخرج من الجنة أول يوم من ذي القعدة، فلما كان اليوم الثامن من ذي الحجة أخرجه جبرئيل إلى منى فبات بها، فلما أصبح أخرجه إلى عرفات، وقد كان علمه حين أخرجه من مكة الإحرام وأمره بالتلبية، فلما زالت الشمس يوم عرفة قطع التلبية وأمره أن يغتسل، فلما صلى العصر وقفه بعرفات، وعلمه الكلمات التي تلقاها من ربه، وهي: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، عملت سوءا وظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، عملت سوءا وظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي إنك خير الغافرين، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، عملت سوءا وظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي إنك أنت التواب الرحيم.. فبقي آدم إلى أن غابت الشمس رافعا يديه إلى السماء يتضرع ويبكي إلى الله، فلما غربت الشمس رده إلى المشعر فبات به، فلما أصبح قام على المشعر الحرام فدعا الله تعالى بكلمات وتاب عليه، ثم أفاض إلى منى، وأمره جبرئيل أن يحلق الشعر الذي عليه فحلق، ثم رده إلى مكة فأتى به إلى الجمرة الأولى، فعرض له إبليس عندها، فقال: يا آدم، أين تريد؟ فأمره جبرئيل أن يرميه بسبع حصيات، وأن يكبر مع كل حصاة تكبيرة ففعل ثم ذهب فعرض له إبليس عند الجمرة الثانية، فأمره أن يرميه بسبع حصيات، فرمى وكبر مع كل حصاة تكبيرة ثم ذهب فعرض له إبليس عند الجمرة الثالثة، فأمره أن يرميه بسبع حصيات ويكبر عند كل حصاة، فرمى وكبر مع كل حصاة تكبيرة، فذهب إبليس لعنه الله، وقال له جبرئيل: إنك لن تراه بعد هذا اليوم أبدا، فانطلق به إلى البيت الحرام، وأمره أن يطوف به سبع مرات، ففعل، فقال له: إن الله قد قبل توبتك، وحلت لك زوجتك، فلما قضى آدم حجه لقيته الملائكة بالأبطح، فقالوا: يا آدم، بر حجك، أما إنا قد حججنا قبلك هذا البيت بألفي عام(5).
6. روي أنه قال: إني لأطوف بالبيت مع أبي إذ أقبل رجل طوال جعشم متعمم بعمامة، فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله، قال فرد عليه أبي، فقال: أشياء أردت أن أسألك عنها، ما بقي أحد يعلمها إلا رجل أو رجلان، قال فلما قضى أبي الطواف دخل الحجر فصلى ركعتين، ثم قال ها هنا ـ يا جعفر ـ ثم أقبل على الرجل، فقال له أبي: كأنك غريب؟ فقال: أجل، فأخبرني عن هذا الطواف كيف كان؟ ولم كان؟ قال إن الله لما قال للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ إلى آخر الآية، [كان ذلك من يعصي منهم، فاحتجب عنهم سبع سنين، فلاذوا بالعرش يلوذون يقولون: لبيك ذا المعارج لبيك، حتى تاب عليهم؟]، فلما أصاب آدم الذنب طاف بالبيت حتى قبل الله منه، قال فقال: صدقت، فعجب أبي من قوله: صدقت، قال فأخبرني عن ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾، قال نون نهر في الجنة أشد بياضا من اللبن، قال فأمر الله القلم فجرى بما هو كائن وما يكون، فهو بين يديه موضوع ما شاء منه زاد فيه، وما شاء نقص منه، وما شاء كان، وما لا يشاء لا يكون، قال صدقت، فعجب أبي من قوله: صدقت، قال فأخبرني عن قوله: ﴿فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾ ما هذا الحق المعلوم؟ قال هو الشي ء يخرجه الرجل من ماله ليس من الزكاة، فيكون للنائبة والصلة، قال صدقت، قال فعجب أبي من قوله: صدقت، قال ثم قام الرجل، فقال أبي: علي بالرجل، قال فطلبته فلم أجده(6).
__________
(1) المحاسن، موسوعة الكلمة: 1/272.
(2) من لا يحضره الفقيه، والمحاسن، موسوعة الكلمة: 1/318.
(3) قصص الأنبياء للراوندي، ص46.
(4) الكافي، موسوعة الكلمة: 1/324.
(5) تفسير القمّي: 1/44.
(6) تفسير العيّاشي: 1/29/5.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ يعني: من الجنة جميعا؛ آدم، وحواء، وإبليس، فأوحى الله إليهم بعد ما هبطوا: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ يعني: ذرية آدم، فإن يأتيكم يا ذرية آدم ﴿مِنِّي هُدًى﴾ يعني: رسولا وكتابا فيه البيان، ثم أخبر بمستقر من اتبع الهدى في الآخرة، قال سبحانه: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾، يعني: رسولي، وكتابي(1).
4. روي أنّه قال: كان إبليس من الكافرين الذين أوجب الله تعالى لهم الشقاء في علمه؛ فمن ثم لم يسجد(2).
5. روي أنّه قال: فهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بالبصرة وهي الأبلة، وهبط آدم في واد اسمه: نوذ، في شعب يقال له: سرنديب، فاجتمع آدم وحواء بالمزدلفة، فمن ثم [سميت] جمع؛ لاجتماعهما بها.... وهبط إبليس قبل آدم(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٠٠.
(2) تفسير مقاتل: ١/٩٩.
ابن زيد:
روي عن عبد الله بن زيد (ت 164 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب، عملت سوءا، وظلمت نفسي؛ فاغفر لي، إنك أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب، عملت سوءا، وظلمت نفسي؛ فارحمني، إنك أنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب، عملت سوءا، وظلمت نفسي؛ فتب علي، إنك أنت التواب الرحيم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ الآية: لقاهما هذه الآية: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣](2).
3. روي أنّه قال: ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ لا خوف عليكم أمامكم، وليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فأمنهم منه، وسلاهم عن الدنيا، فقال: ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(3).
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(2) ابن جرير: ١/٥٧٩.
(3) ابن جرير: ١/٥٩١.
ابن يحيى:
روي عن السري بن يحيى (ت 167 هـ) أنّه قال: أهبط آدم من الجنة ومعه البذور، فوضع إبليس عليها يده، فما أصاب يده ذهب منفعته(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٨٨.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، والصحيح عندنا أن الكلمات هو ما كان الله تبارك وتعالى قد أعلمه بخلق من سيخلقه من ذرية آدم ونسله، وأنه سيكون منهم مطيع ويكون منهم عاصي باختيارهم، وأنه سبحانه يقبل التوبة من تائبهم، إذا تاب وأصلح وأخلص التوبة وراجع، فلما كان منه ما كان من أكل الشجرة، ذكر ما كان الله قد أعمله من القبول للتوبة ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23] فهذه الكلمات التي تلقاها آدم من ربه صلوات الله عليه.
2. الكلمات هو كلمات الاستغفار والتوبة والإنابة، ذكرهن آدم بعد المعصية، فطَفَّى بهن ما وجب عليه من غضب ربه، فلما أن تكلم بكلمات التوبة وأظهرهن، صرف الله عنه العقاب، وصار حكمه عند الله حكم من أناب وتاب.
3. قوله: ﴿اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ جائز في لغة العرب، ألا ترى أنك تقول: هبطنا نجران، وهبطنا اليمن، ونريد أن نهبط الحجاز.. فلما كان ذلك معروفا في اللغة؛ جاز أن يقول: ﴿اهْبِطُوا مِنْهَا﴾
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/145.
الناصر للحق:
ذكر الإمام الناصر للحق (ت 304 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. مما ضلوا فيه ونسبوا ـ مولاهم العدل ـ به إلى الجور، ولم يعرفوا معناه: قوله سبحانه: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾، فيقولون: إذا كان الله قد أعطى آدم كلمات تلقاهن، فتاب بها عليه، ولم يعط إبليس مثل ذلك، ولم يتب عليه؛ فجائز أن يخص بعض عباده بالتوبة عليهم والمغفرة، ويمنع ذلك بعضا.
2. جوابنا في ذلك: أنا لا ننكر أن الله يختص الأنبياء والمؤمنين، فيفضلهم بأمور كثيرة، من ثوابه ورحمته وهدايته، على ما قد ذكرناه في باب الهداية.
3. أما ما تلقاه آدم من ربه: فإن الله أعلم جميع عباده أنه يغفر لمن تاب، فقال: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾، فتلقى آدم ذلك عن ربه، فتاب واستغفر وأناب:
أ. ويقال: إن استغفاره كان قوله: سبحان الله، وأستغفر الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)
ب. ويقال: إنه قال: رب إني عملت سوءا، وظلمت نفسي، فاغفر لي؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)
ج. ويقال: إن قوله: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾؛
وكل ذلك فحسن، والله أعلم بحقيقة قوله.
4. وقد كان الله أعطى إبليس ما أعطى آدم لو تلقاه عنه، وفتح له باب التوبة ولجميع الخاطئين، ويدل على حقيقة ذلك قوله: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 38]؛ فهداه هاهنا: ما دلهم عليه من التوبة والرجوع الى طاعته، وهو الذي تلقاه آدم من ربه، ولم يتلقه إبليس، وأصر على ذنبه واستكبر، وامتنع مما أمره الله به وأنكره، ﴿ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكى ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾؛ لأنه لما أعرض عن ذكر ربه، وضل في الحياة الدنيا، وعمي عن أمر ربه وعن التقوى ـ حشر يوم القيامة على ضلاله، الذي هو أعمى عن الهدى، ثم بين ذلك ـ جل ذكره ـ فقال: ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾، معنى ذلك: قد كنت أعطيتك بصرا تبصر به، وعقلا تعقل به أمري، وتعرف به آياتي وأمري، فنسيت آياتي وأمري؛ معنى نسيت: تركت ذلك فعاقبتك بأن تركتك من لطفي ورحمتي، وحشرتك على ضلالك، وكفرك لنعمتي، ثم قال جل ذكره زيادة في البيان، واثبات الحجة على ذوي الطغيان: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾؛ فالحمد لله على هدايته وتوفيقه، وأعوذ بالله من تركه وخذلانه.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/34.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الكلمات هي ما ذكرت في سورة أخرى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا﴾ الآية [الأعراف: 23].
2. قوله تعالى: ﴿مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ قيل إن فيه وجوها:
أ. قيل: فتاب عليه، أي وفق له التوبة، وهداه إليها فتاب، كقوله: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [التوبة: 118]، أي وفق لهم التوبة فتابوا.
ب. وقيل: خلق فعل التوبة منه، فتاب، كما قلنا في قوله: ﴿وَهَدَاهُ﴾ [النحل: 121] أي خلق فعل الاهتداء منه فاهتدى.
ج. وقيل: تاب عليه، أي تجاوز.
د. وقيل: إن التوبة هي الرجوع، رجع آدم عن عصيانه؛ فرجع هو إلى الغفران ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾، ﴿ وتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾، والتجاوز، وبعضه قريب من بعض.. وفى الآية: أنه إنما تاب عليه لكلمات تلقاها من ربه.
3. قوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾:
أ. قيل: أي قابل التوبة.
ب. وقيل: أي موفق التوبة، وهادى لها؛ كقوله: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ [غافر: 3] وقد ذكرنا في قوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 37] ما احتمل فيه.
4. ﴿الرَّحِيمُ﴾ بالمؤمنين، ورحيم بالتائبين.
5. الآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون: إن من ارتكب صغيرة فهو مغفور له لا يحتاج إلى الدعاء، ولا إلى التوبة، فآدم عليه السلام دعا بكلمات، تلقاها منه؛ فتاب عليه، ولو كان مغفورا له ما ارتكب لكان الدعاء فضلا وتكلفا.
6. قوله: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ ذكر هبوطهم جميعا؛ فإذا هبطوا فرادى لم يخرجوا من الأمر، بل كانوا في الأمر، فدل أن الجمع في الأمر، والذكر، لا يصيّر الجمع في الفعل شرطا.
7. قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ أي ليأتينكم، وهذا جائز في اللغة.
8. قوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي من تبع هداي، ودام عليه حتى مات، فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون وكذلك قوله: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ﴾ : في الدنيا، ﴿وَلَا يَشْقَى﴾ [طه: 123] في الآخرة، إذا مات عليه.
9. هذه الآية والتي تليها وهو قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ تنقض على الجهمية؛ لأنهم يقولون بفناء الجنة والنار، وانقطاع ما فيهما، فلو كانت الجنة تفنى وينقطع ما فيها، لكان فيها خوف وحزن؛ لأن من خاف في الدنيا زوال النعمة عنه وفوتها يحزن عليه، وينغصه ذلك، ولهذا وصف الدنيا بالخوف والحزن لما يزول نعيمها ولا تبقى، فأخبر عزّ وجل ألا خوف عليهم فيها؛ أي خوف النقمة، ولا حزن، أي حزن فوات النعمة، ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ دل أنها باقية، وأن نعيمها دائم، لا يزول.. وكذلك أخبر عزّ وجل أن الكفار في النار خالدون وأن عذابها أليم شديد، فلو كان لهم رجاء النجاة منها لخف ذلك العذاب عليهم وهان؛ لأن من عوقب في الدنيا بعقوبة، وله رجاء النجاة منها هان ذلك عليه وخف.
10. في الآية دلالة أن الشرط في الذكر قد يضمر، ويكون شرطا بلا ذكر؛ لأنه قال ﴿أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى﴾ [طه: 118] ثم قد جاع وعرى حين عصى، فدل أن ترك المعصية كان شرطا فيه.
11. في الآية دلالة على أن الحال التي يكون فيه الإنسان في سعة ورغد يشتد على الشيطان اللعين؛ لأنه إنما تعرض لآدم وحواء بالوسوسة التي وسوس إليهما ليزيل تلك الحال عنهما.. وإنما يبلى بالسعة، والرخاء ثم لما لحقته من الشدائد والبلايا مما كسبت أيدينا؛ لقوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30].
12. الآية ترد على بعض المتقشفة قولهم بتحريم الطيبات والزينة.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/441.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ : أي قبل من ربه ما علمه، فتاب عليه لمّا قبل ذلك وفهمه، وعمل بما فيه مما آتاه الله وألهمه.(1).
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 273.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ أما الكلمات فمأخوذ من التأثير في النفس بما يدل عليه من المعاني، وأما الكلمات التي تلقى بها ربه:
أ. فالذي صح عندنا قوله: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
ب. وقيل: إنه قال: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين.
2. ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ أي قَبِل توبته والتوبة الرجوع فهي من العبد رجوعه من الذنب بالندم والإقلاع وهي من الله تعالى على عبده رجوعه إلى ما كان من المغفرة.
3. سؤال وإشكال: لم قال ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ ولم يقل: فتاب عليهما لأن الذنب كان من آدم وحواء؟ والجواب: فيه جوابان:
أ. أحدهما: أنه لما ذكر آدم وحده بقوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ﴾ ذكر بعد قبول توبته ولم يذكر توبة حواء، وإن كانت مقبولة التوبة لأنه لم يتقدم ذكرها.
ب. الثاني: أن الاثنين إذا كان معنى فعلهما واحداً جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما كما قال: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: 11]، وكما قال: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: 62]
4. ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ أي كثير القبول للتوبة.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/45.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. (الكلام) مأخوذ من التأثير، لأن له تأثيرا في النفس بما يدلّ عليه من المعاني؛ ولذلك سمّي الجرح كلما لتأثيره في البدن، واللفظ مشتق من قولك: لفظت الشيء، إذا أخرجته من قلبك.
2. اختلف في الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: قوله: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23] وهذا قول الحسن، وقتادة، وابن زيد.
ب. الثاني: قول آدم: اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي، فاغفر لي، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، إنّي ظلمت نفسي، فتب عليّ، إنّك أنت التواب الرحيم، وهذا قول مجاهد.
ج. الثالث: أن آدم قال لربّه إذ عصاه: ربّ أرأيت إن تبت وأصلحت؟ فقال ربّه: إني راجعك إلى الجنّة، وكانت هي الكلمات التي تلقاها من ربه، وهذا قول ابن عباس.
3. قوله عزّ وجل: ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾، أي قبل توبته، والتوبة الرجوع، فهي من العبد رجوعه عن الذنب بالندم عليه، والإقلاع عنه، وهي من الله تعالى على عبده، رجوع له إلى ما كان عليه.
4. قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾، أي الكثير القبول للتوبة، وعقّبه بالرحمة، لئلا يخلّي الله تعالى عباده من نعمه.
5. سؤال وإشكال: فلم قال ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾، ولم يقل: فتاب عليهما، والتوبة قد توجهت إليهما؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: لما ذكر آدم وحده بقوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾، ذكر بعده قبول توبته، ولم يذكر توبة حوّاء وإن كانت مقبولة التوبة، لأنه لم يتقدم ذكرها.
ب. الثاني: أن الاثنين إذا كان معنى فعلهما واحدا، جاز أن يذكر أحدهما، ويكون المعنى لهما، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾، [الجمعة: 11] وكما قال عزّ وجل: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: 62].
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/109.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. يقال: لقي زيد خيراً فيتعدى الفعل الى مفعولٍ واحد، ومنه قوله: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾، وقوله: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾، و ﴿لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾ فإذا ضعفت العين تعدى إلى مفعولين.. تقول: لقّيت زيداً خيراً، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ .. وتقول: لقيت بعض متاعك على بعض، فتعدِّيه إلى مفعولٍ واحد لأنه بناء مفرد لا لأنه منقول ليتعدى إلى مفعولين، وتقول: لقيته لقية واحدة في التلاقي واللقيان، ولقيته لقاء ولقياناً ولقاة، وقوله: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾ معناه يلقون ثوابه بخلاف قوله: يلقون غيا)
2. معنى ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾، تعلمها، يقال: تلقيت هذا من فلان أي قبله فهمي من لفظه، قال أبو عبيدة: قال أبو مهدية: ـ وتلا عليه آيات آدم من ربه كلمات، وانما جاز نصب آدم، لأن الأفعال المتعدية الى المفعول به على ثلاثة اقسام:
أ. أحدها يجوز ان يكون الفاعل له مفعولا به والمفعول به فاعلا، نحو أكرم بشرٌ بشراً وشتم زيد عمراً.
ب. ثانيها لا يكون المفعول به فاعلا، نحو: أكلت الخبز، وسرقت درهماً، وأعطيت ديناراً، وأمكنني الغرض.
ج. ثالثها، ما يكون اسناده الى الفاعل في المعنى كإسناده الى المفعول، نحو: أصبت ونلت، وتلقيت، تقول: نالني خيرٌ، ونلت خيراً، وأصابني خيرٌ، وأصبت خيراً، ولقيني زيدٌ، ولقيت زيداً، وتلقاني، وتلقيته، وقال تعالى: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾، وقال: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ فعلى هذا الرفع والنصب في المعنى واحد في الآية.
3. إنما أجيز رفع آدم، لأن عليه الأكثر وشواهده اكثر، كقوله ﴿تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾، وأسند الفعل الى المخاطبين والمفعول به كلام متلقى، كما أن الذي تلقى آدم كلام متلقى وكما أسند الفعل الى المخاطبين، فجعل التلقي لهم كذلك يلزم ان يسند الفعل إلى آدم، فيجعل التلقي له دون الكلمات، واما على ما قال ابو عبيدة معناه قبل الكلمات، فالكلمات مقبولة، فلا يجوز غير الرفع في آدم.. ومثل هذا في جواز اضافته تارة الى الفاعل، وأخرى الى المفعول، كقوله: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، وفي قراءة ابن مسعود: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾
4. الكلمات جمع كلمة، والكلمة: اسم جنس لوقوعه على الكثير والقليل، يقولون: قال امرؤ القيس في كلمته يعني في قصيدته، وقال قِسّ قولا وأوقع الكلام على المتألف، والذي حرره المتكلمون، ان حد الكلام ما انتظم من حرفين فصاعداً من هذه الحروف المنقولة، إذا وقع ممن يصح منه أو من قِبِله الافادة، ثم ينقسم قسمين: مفيد، ومهمل، فالذي أراد سيبويه أنه لا يكون كلاماً، أنه لا يكون مفيداً وذلك صحيح، فأما تسميته بأنه كلام، صحيح.. وكيف لا يكون صحيحاً، وقد قسموه الى قسمين: مهمل، ومفيد، فأدخلوا المهمل الذي لا يفيد في جملة الكلام.
5. اختلف في الكلمات التي تلقاها آدم:
أ. قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ فان في ذلك اعترافاً بالخطيئة، ولذلك وقعت موقع الندم، وحقيقته الانابة.
ب. وحكي عن مجاهد أنه قال هي قول آدم: اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني، إنك أنت خير الراحمين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي، فتب علي إنك أنت التواب الرحيم) وروى مثل ذلك عن أبي جعفر عليه السلام.
ج. وحكي عن ابن عباس، أن آدم قال لربه إذ عصاه: أرأيت أن تبت وأصلحت؟ فقال له تعالى: إني راجعك إلى الجنة وكانت هذه الكلمات وروي في أخبارنا: أن الكلمات هي توسله بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأهل بيته.. وكل ذلك جائز.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ :
أ. قيل: يعني قبل توبته، لأنه لما عرضه للتوبة، بما ألقاه من الكلمات فعل التوبة، وقبلها الله تعالى منه.
ب. وقيل: تاب عليه أي وفق للتوبة وهداه اليها، فقال: اللهم تب عليّ أي وفقني للتوبة، فلقنه الكلمات حتى قالها فلما قالها قبل توبته.
7. قوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾، إنما ذكر الرحيم، ليدل بذلك:
أ. على أنه متفضل بقبول التوبة، ومنعم به، وأن ذلك ليس هو على وجه الوجوب، على ما يقوله المخالف.
ب. من خالف في ذلك يقول: لما ذكر التواب بمعنى الغفار بإسقاط العقوبة، وصل ذلك بذكر النعمة، ليدل على أنه مع إسقاط العقوبة، لا يخلي العبد من النعمة الحاصلة ترغيباً له، وفي الانابة والرجوع اليه بالتوبة.
8. (وتواب) بمعنى أنه قابل التوبة لا يطلق إلا عليه تعالى، ولا يطلق في الواحد منا، وإنما قال ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾، ولم يقل فتاب عليهما، لأنه اختصر، كما قال ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾، ومعناه أن يرضوهما، كذلك معنى الآية: فتاب عليهما ومثل ذلك قوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ وقال الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي... بريئاً، ومن جول الطَّوِي رماني
9. حكي عن الحسن، انه قال: لم يخلق الله آدم إلا للأرض، ولو لم يعص لخرج على غير تلك الحال، وقال غيره: يجوز ان يكون خلقه للأرض إن عصى، ولغيرها ان لم يعص، وهو الأقوى، لأن ما قاله لا دليل عليه.
10. روي عن قتادة: ان اليوم الذي قبل الله توبة آدم فيه يوم عاشوراء ورواه ايضاً أصحابنا.
11. قد يستعمل الهبوط في غير النزول من مكان عالٍ الى أسفل، يقال هبط فلانٌ الى أرض كذا، إذا أتاها، وإن لم يرد به النزول الذي فيه، إلا أن فيه إيماءً الى هبوط المنزل قال لبيد:
كلُّ بني حرةٍ مصيرهم... قلَّ وإن أكثروا من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن... أمروا يوماً فهم للفناء والفند
12. إنما كرر ﴿اهْبِطُوا﴾ :
أ. قيل: لأن أحدهما كان من الجنة إلى السماء، والثاني من السماء، الى الأرض عند أبي علي.
ب. وقيل: المعنى واحد، وكرر تأكيداً.
ج. وقيل: هو على تقدير اختلاف حال المعنى، لا اختلاف الأحوال، كما يقول: اذهب مصاحباً، اذهب سالماً معافىً، وكأنه على تقدير ذهاب يجامع ذهاباً ـ وإن كانت حقيقته واحدة.
13. دخلت (ما) في قوله مع (ان) التي للجزاء، ليصح دخول النون التي للتوكيد في الفعل، ولو أسقطت (ما) لم يجز دخول النون، لأنها لا تدخل في الخبر الواجب الا في القسم، أو ما أشبه القسم كقولك: زيدٌ ليأتينك ولو قلت بغير اللام، لم يجز وكذلك تقول: بعينٍ ما أرينك ولو قلت: بعينٍ أرينك، بغير ما لم يجز فدخول (ما) هاهنا كدخول اللام في أنها تؤكد أول الكلام وتؤكد النون آخره، والأمر، والنهي، والاستفهام، تدخل النون فيه وان لم يكن معه (ما) إذا كان الأمر والنهي، مما تشتد الحاجة الى التوكيد فيه والاستفهام مشبه به إذا كان معناه اخبرني والنون انما تلحق للتوكيد، فلذلك كان من مواضعها قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾
14. سؤال وإشكال: اين جواب اما؟ واين جواب من؟ والجواب:
أ. قيل: الجزاء وجوابه بمنزلة المبتدإ والخبر، لأن الشرط لا يتم الا بجوابه، كما لا يتم المبتدأ الا بخبره ألا ترى، انك لو قلت: إن تقم، وسكتت، لم يجز، كما لو قلت: زيد، لم يكن كلاما، حتى تأتي بالخبر.
ب. ولك أن تجعل خبر المبتدأ جملة، وهي أيضاً مبتدأ وخبر، كقولك: زيد أبوه منطلق، وكذلك (إن) التي للجزاء، إذا كان الجواب بالفاء، ووقع بعد إلقاء الكلام مستأنفاً، صلح أن يكون جزاءً، وغير جزاء، تقول: إن تأتي فأنت محمود ولك أن تقول: إن تأتني، فمن يكرمك أكرمه، وإن تأتني فمن يبغضك فلا وضيعة عليه.
15. إنما كرر (اما) في قوله: ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ ولم يكرر هاهنا، لأنها هناك للعطف، وهاهنا للجزاء، وإنما هي (إن) ضم اليها (ما) كقوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾
16. وهداي: مثل هواي، وهي لغة قريش، وعامة العرب، وبعض بني سليم يقولون: هويّ، مثل: عليّ، ولديّ، قال أبو ذؤيب: في الآية عن الجحدري، وابن أبي إسحاق، وعيسى.. والصواب ما عليه القراء، والفرق بين هوي ولدي وعلي، وهو أن إلي وعلي ولدي مما يلزمها الاضافة، وليست بمتمكنة، ففصلوا بينها وبين الأسماء المتمكنة، كما فصلوا بين ضمير الفاعل وضمير المفعول، حين قالوا: ضربت فسكنوا لأجل التاء، ولم يسكنوا في ضربك، إذ الفاعل يلزم الفعل.
17. الاتباع، والاقتداء، والاحتذاء، نظائر، ونقيض الاتباع: الابتداع تقول: تبعه تباعاً وأتبعه اتباعاً، وتابعه متابعةً، وتتبع تتبعاً، واستتبع استتباعاً.. والتابع: التالي، ومنه التتبُّع، والتبيع: ما تبع أثر شيء فهو يتبعه، والتتبُّع، فعلك شيئاً بعد شيء، تقول: تتبعت عليه آثاره، وفي الحديث: القادة والأتباع.. والقادة: السادة، والأتباع، القوم الذين يتبعونهم، والقوائم، يقال لها تبع.. والتبيع من ولد البقر: العجل، لأنه تبع أمه يعدو، وثلاثة أتبعة ـ الجمع ـ وبقرة متبع: خلفها تبيع، وخادم متبع: معها ولدها يتبعها حيثما أقبلت وأدبرت، وأتبع فلان فلاناً، وأتبعه الشيطان: إذا تتبعه يريد به شراً، كما تبع فرعون موسى، قال الله تعالى: ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾، وفلان يتبع فلاناً: إذا تتبع مساوئه في مهلة، والتتابع من الأشياء: إذا فعل هذا في أثر هذا بلا مهلة.. ومنه تتابعت الأمطار، وتتابعت الأشياء، والتبع الظل، وأصل الباب كله، الاتباع وهو أن يتلو شيء شيئاً.
18. (الهدى) المذكور في الآية يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ البيان والدلالة.
ب. الآخر ـ الأنبياء والرُّسل، وعلى القول الأخير يكون قوله: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا﴾ لآدم وحواء وذرّيتهما، كما قال: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ أي أتينا بما فينا من الخلق طائعين.
19. الخوف والجزع، والفزع، نظائر، ونقيض الخوف: الأمن، تقول: خافه، يخافه خوفاً وأخافه إخافة، وتخوف تخوفاً، وخوفه تخويفاً، وطريق مخوف: يخافه الناس، وطريق مخيف: تخيف الناس، والتخوف: التنقص، يقال: تخوفناهم: تنقصناهم، ومنه قوله: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾، أي على تنقص، وأصل الباب: الخوف الذي هو الفزع، والخوف كله من الضرر، يقال: فلان يخاف الأسد، أي يخاف ضرره، ويخاف الله، أي يخاف عقابه.
20. الحزن، والهم، والغم نظائر، ونقيضه السرور، يقال: حزن حزناً وحزنه حزناً وتحزن تحزناً وحزن تحزيناً، والحُزن، والحَزن، لغتان، وحزنني، وأحزنني، لغتان، وأنا محزون ومحزن، وإذا أفردوا الصوت أو الأمر، قالوا: محزن لا غير، والحزن من الأرض والدواب: ما فيه خشونة، والأنثى: حزنة، والفعل: حزن، حُزونة، وقولهم: كيف حشمك وحزانتك؟ أي كيف من تتحزن بأمره، وأصل الباب: غلظ الهم.
21. اختلف في عموم قوله تعالى: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ :
أ. قيل: هذا يقضي أنه لا يلحقهم خوف أهوال القيامة، وهو قول الجبائي.
ب. وقال ابن أخشيذ: لا يدل على ذلك، لأن الله تعالى وصف القيامة بعظم الخوف، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ إلى قوله ﴿شَدِيدٌ﴾، ولأنه روي أنه يلجم الناس العرق، وغير ذلك من الشدائد، وهذا ليس بمعتمد، لأنه لا يمتنع أن يكون هؤلاء خارجين من ذلك الغم.
ج. أما الحزن، فلا خلاف أنه لا يلحقهم، ومن أجاز الخوف، فرق بينه وبين الحزن، لأن الحزن إنما يقع على ما يغلظ ويعظم من الغم والهم، فلذلك لم يوصفوا بذلك، ولذلك قال تعالى ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ لأن ما يلحقهم لا يثبت، ويزول وشيكا.. قالوا: ويدلك على أن الحزن ما ذكرنا، أنه مأخوذ من الحزن، وهو ما غلظ من الأرض، فكان ما غلظ من الهم، فأما لحوق الحزن والخوف في دار الدنيا، فلا خلاف أنه يجوز أن يلحقهم، لأن من المعلوم، أن المؤمنين لا ينفكون منه.
22. الاستدلال بهذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ على أن من مات مصراً على الكفر، غير تائب منه، فكذب بآيات ربه، فهو مخلد في نار جهنم ـ صحيح، لأن الظاهر يفيد ذلك، والاستدلال بها، على أن عمل الجوارح من الكفر، من حيث قال: ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ فبعيد، لأن التكذيب نفسه وإن لم يكن كفراً، وهو لا يقع الا من كافر ـ فهو دلالة عليه كالسجود للشمس وغيره.
23. قوله: ﴿أَصْحَابُ﴾، فالاصطحاب، والاجتماع، والاقتران، نظائر وكذلك الصاحب والقرين، ونقيضه: الافتراق، يقال صحبه صحبةً، وأصحبه إصحاباً، واصطحبوا اصطحاباً وتصاحبوا تصاحباً، واستصحبوا استصحاباً، وصاحبه مصاحبة والصحب: جماعة، والصحب، والأصحاب جماعة الصاحب، ويقال أيضاً: الصحبان والصحبة، والصحاب، والصحابة: مصدر قولك: صحبك الله يعني بالسلامة وأحسن صحابتك ويقال للرجل عند التوديع: معاناً، مصاحباً ومصحوب، ومصاحب، ومن قال مصاحب معان، فإنما معناه: أنت المصاحب المعان، والصحبة: مصدر صحب يصحب، وقد أصحب الرجل: إذا صار صاحباً.. ويقال: قد أصحب الرجل، وقد أشطأ: إذ بلغ ابنه مبلغ الرجال، الذي صار ابنه مثله، وأشطأ الزرع: إذا لحقته فراخه، ويقال له: الشطأ، قال أبو عبيدة، وابن دريد: قوله: ﴿وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ﴾ أي لا يحفظون وأديم مصحب: إذا دبغته وتركت عليه بعض الصوف والشعر، وأصل الصحبة: المقارنة، والصاحب هو الحاصل مع آخر مدة، لأنه إذا اجتمع معه وقتاً واحداً، لا يقال: صاحب، ولكن يقال: صحبه وقتاً من الزمان ثم فارقه، والفرق بين المصاحبة، والمقارنة، أن في المصاحبة دلالة على المبالاة، وليس ذلك حاصلا في المقارنة، واتباع الرئيس: أصحابه.
24. (آيات الله)، دلائله، وكتبه التي أنزلها على أنبيائه، والآية: الحجة.. والدلالة، والبيان، والبرهان واحد في أكثر المواضع، ـ وإن كان بينها فرق في الأصل ـ لأنك تقول دلالة هذا الكلام كذا، ولا تقول: آيته، ولا علامته.. وكذلك تقول: دلالة هذا الاسم، ولا تقول: برهانه.
25. ﴿أَصْحَابَ النَّارِ﴾، هم الملازمون لها، كما تقول: أصحاب الصحراء يعني القاطنين فيها، الملازمين لها.
26. الخلود معرب من العرف، يدل على الدوام لأنهم يقولون: ليست الدنيا دار خلود، وأهل الجنة مخلدون، يريدون الدوام فأما في أصل الوضع، فإنه موضوع لطول الحبس.
27. سؤال وإشكال: لم دخلت الفاء في قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ في سورة الحج ولم يقل هاهنا في قوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾؟ والجواب: لأن ما دخلت فيه الفاء من خبر (الذي وأخواته) مشبه بالجزاء، وما لم يكن فيه فاء، فهو على أصل الخبر، وإذا قلت: ما لي، فهو لك، جاز على وجه، ولم يجز على وجه، فان أردت أن معنى (ما) الذي، فهو جائز، وإن أردت أن مالي تريد به المال، ثم تضيفه إليك، كقولك: غلامي لك، لم يجز، كما لم يجز، غلامي، فهو لك.
28. الآيات جمع آية ومعنى الآية في اللغة العلامة ومنه قوله تعالى ﴿عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ﴾ أي علامة لإجابتك دعاءنا، وكل آية من كتاب الله علامة ودلالة على المضمون فيها، وقال أبو عبيدة معنى الآية أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها وانقطاعه من الذي بعدها وقيل إن الآية القصة والرسالة قال كعب بن زهير:
ألا أبلغا هذا المعرض آية... أيقظان قال القول إذ قال أم حلم
أي رسالة فعلى هذا يكون معنى الآيات القصص أي قصة تتلو قصة، وقال ابن السكيت: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم لم يدعو وراءهم شيئا، وعلى هذا يكون معنى الآية من كتاب الله جماعة حروف دالة على معنى مخصوص.
29. الأصحاب جمع الصاحب وهو القرين وأصل الصحبة المقارنة فالصاحب هو الحاصل مع آخر مدة لأنه إذا اجتمع معه وقتا واحدا لم يكن صاحبا له لكن يقال صحبه وقتا من الزمان ثم فارقه.
30. ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي جحدوا ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي دلالاتنا وما أنزلناه على الأنبياء ف ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أي الملازمون للنار ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي دائمون.
31. في هذه الآية دلالة على أن من مات مصرا على كفره غير تائب منه وكذب بآيات ربه فهو مخلد في نار جهنم.
32. آيات الله دلائله وكتبه المنزلة على رسله والآية مثل الحجة والدلالة وإن كان بينهما فرق في الأصل يقال دلالة هذا الكلام كذا ولا يقال آيته ومن استدلّ بهذه الآية على أن عمل الجوارح قد يكون من الكفر بقوله ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ فقوله يفسد بأن التكذيب نفسه وإن لم يكن كفرا فهو دلالة على الكفر لأنه لا يقع إلا من كافر كالسجود للشمس وغيره.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/167.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التلقي والتلقن نظيران، يقال: تلقيت منه أي أخذت وقبلت، وأصله من الملاقاة وهي الملاصقة، ولكنه كثر حتى قيل: لاقى فلان فلانًا إذا قاربه وإن لم يلاصقه، وتلاقى الجيشان، وتلقيت الرجل استقبلته، وتلقاني: استقبلني.
ب. الكلمة: واحد الكلام، والكلمات الجمع، يقال: كلمه تكليمًا وكالمه مكالمة وكلامًا، وكليمك: الذي يكلمك، والكلام حروف منظومة، وأصوات مقطعة، ويقع على المهمل والمستعمل عند مشايخنا، ومنهم من قال: لا يقع إلا على المفيد، عن أبي القاسم، والكَلْمُ: الجرح، وأصل الباب الأثر الدال، والكلام أثر يدل على المعنى، والمتكلم فاعل الكلام، لا محلة الكلام؛ ألا ترى أن الكلام محله اللسان وليس بمتكلم، وكذلك الصدى، والجملة هي المتَكَلَّم، لا محلة الكلام.. وأجناس الكلام ستة: أمر، ونهي، وخبر، واستخبار، ونداء، وتَمَنٍّ، ويمكن أن يرد ذلك إلى وجه واحد، وهو الخبر، فإذا قال: افعل فكأنه قال: أريد أن تفعل، وإذا قال: لا تفعل، كأنه قال: أكره أن تفعل، وإذا قال: يا زيد كأنه قال: أريد أن يأتي زيد، وإذا قال: ليت زيدًا عندنا كأنه قال: نتمنى كونه عندنا.
ج. التوبة والندم والإنابة نظائر، ونقيضه الإصرار. تاب: إذا ندم، واللَّه التواب: قابل التوبة، وحقيقته: الندم على ما سلف والعزم على ترك المعاودة.
د. الإتيان والمجيء والإقبال نظائر، ونقيضه الذهاب، يقال: أتى إتيانا: جاء، وآتى بالمد إيتاء بمعنى أعطى إعطاء.
هـ. الهدى: الدلالة والبيان.
و. الاتباع: الاقتداء، واتبع فلان فلانًا فالتابع التالي، وجاء في الحديث: القادة والأتباع؛ فالقادة: السادة، والأتباع الذي يتبعونهم.
ز. الخوف: الفزع: ونقيضه الأمن خاف يخاف خوفًا.
ح. الحزن: الغم، ونقيضه السرور، ويقال: حزن حزنًا، وحَزَنَهُ غيره، ويقال: حَزَنَنِي يَحْزُنُنِي حزنًا، فأنا محزون، وأحزنني يُحْزِنُنِي إحزانًا فأنا مُحْزَن، وأصله غلظ الهم، ومنه يقال للأرض الغليظة: حَزْن.
ط. الصاب: القرين، وأصله الملازمة، ومنه أصحاب فلان إذا لازموه. ويقال: صاحب وصحب وأصحاب، وهو جمع الجمع.
ي. الخلود الدوام، ومنه جنة الخلد، ومنه: ليس الدنيا بدار خلود.
ك. الآية والدلالة والحجة والبرهان نظائر، وأصل الآية العلامة.
2. لما تقدم ذكر ما سلف من آدم من الصغيرة عقَّبه بذكر توبته وما بادر إليه، لكي يقتدي به بنوه، فقال تعالى: ﴿فَتُلْقَى﴾ أي قبل وأخذ (مِنْ ربه) يعني رب آدم ورب كل شيء.
3. اختلف في المراد بـ ﴿كَلِمَاتُ﴾ :
أ. قيل: هي قوله: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ الآية، عن الحسن وقتادة ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والأصم، وهو أولى؛ لدلالته على الندم.
ب. وقيل: هو قوله: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)
ج. وقيل: إنه نظر إلى العرش فرأى مكتوبًا على ساقه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، فقال: يا رب بحق محمد أن تغفر لي، فهي الكلمات.
د. وقيل: أراد بالكلمات إنزال وجوب التوبة وبيانها والدعاء إليها، في معنى قول أبي علي.
هـ. وقيل: إنه دعا ربه بذكر النعم التي خصه بها، فقال: يا رب ألم تخلقني؟ ألم تنفخِ فيَّ مِنْ روحك؟ ألم تُسْكِنِّي جنتك؟ يا رب فلماذا أخرجتني؟ قال بشؤم معصيتك، قال يا رب إن تبت أرجع إلى الجنة؟ قال بلى؟ فهي الكلمات، عن ابن عباس.
و. وقيل: الكلمات ما وعد الله تعالى العاصي من العقاب، والتائبين من المغفرة، فلما بينه عليه تاب.
ز. وقيل: أتى بمحامد وحسن الثناء بما دل على شدة ندامته، والخضوع له تعالى.
ح. وقيل: كان ثلاثة أشياء: الحياء، والدعاء، والبكاء، وعن ابن عباس أنهما بكيا مائتي سنة، وعن بعضهم لما أهبطا لم يرفع رأسه ثلاثمائة سنة حياءً.
4. سؤال وإشكال: كيف تجب التوبة عن الصغيرة، وهي مكفرة؟ والجواب:
أ. قيل: لا تجب عقلاً، ولكن تجب سمعًا؛ لأن فيه استدراك ما فاته من الثواب في مقابلة الصغيرة، عن أبي هاشم.
ب. وقيل: تجب عقلاً لكيلا يكون مصرًّا، والإصرار كبيرة، عن أبي علي.
ج. وقيل: إن فيه لطفًا فلذلك تجب.
5. سؤال وإشكال: كيف يصح مغفرة المغفور؟ والجواب: الله تعالى يستره حالاً بعد حال، ويوجب له الثواب.
6. قبول التوبة يكون بأحد شيئين:
أ. إسقاط عقوبة.
ب. أو إيجاب مثوبة؛ ولذلك قال إبراهيم: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾
7. اختلف في معنى ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ :
أ. قيل: فيه حذف أي: تاب آدم فتاب الله عليه، أي قَبِلَ توبته.
ب. وقيل: تاب عليه ووفقه للتوبة وهداه إليها بأنْ لقنه الكلمات حتى قالها، فلما قالها قبل توبته؛ لأنه تواب، وهو في صفة الله كثير القبول للتوبة يقبل مرة بعد مرة، وفي صفة العباد كثير التوبة.
ج. وقيل: يقبل التوبة وإن عظمت الذنوب، فيسقط العقاب، ثم هو رحيم لا يخليه مع إسقاط عقابه من رحمته ونعمه.
8. قال ﴿عَلَيْهِ﴾ ولم يقل: عليهما:
أ. قيل: أراد عليهما فحذف للإيجاز والتغليب، كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾
ب. وقيل: لأنه جرى ذكر آدم.
9. اختلفوا في قبول التوبة:
أ. قيل: تجب لأنها استفراغ الوسع في استدراك الفائت، ولأنه لو لم تجب لأدى إلى ألا يكون للمكلف طريق إلى التخلص من العقاب مع بقاء التكليف، وهذا لا يجوز.
ب. وقال أبو القاسم: تجب لأنه أصلح.
ج. من الناس من يقول: لا تجب، وليس بصحيح.
10. اختلفوا فيمن تاب ثم عاد هل يعود عقابه أم لا؟ فكذلك إذا تاب ثانيًا هل يعوده ثواب ما أبطله؟:
أ. عندنا لا يعود شيء.
ب. وعند بعضهم يعود في الموضعين.
ج. وقال أبو القاسم: يعود الثواب، ولا يعود العقاب.
11. اختلفوا فيمن تاب من ذنب مع الإقامة على غيره:
أ. قال أبو علي: يجوز.
ب. وقال أبو هاشم: لا يجوز؛ لأن التوبة يجب أن تكون لقبحه.
12. بَيَّنَ تعالى إهباطهم إلى الأرض، فقال تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا﴾ أي انزلوا، والخطاب لآدم وحواء وإبليس، وقيل: لآدم وحواء وذريتهما.
13. اختلفوا في تكرار الهبوط:
أ. قيل: الأول من الجنة إلى السماء، والآخر من السماء إلى الأرض، عن أبي علي، وهو الأوجه؛ لأنه حمل الكلام على حقيقته وعلى ما تظاهر به الأخبار.
ب. وقيل: المعنى واحد، وكرر تأكيدًا، كقولهم: اذهب سالمًا، اذهب مصاحبا.
ج. وقيل: هو هبوط من درجة شريفة، وهبوط إبليس طَرْدُهُ ولَعْنُهُ، والجنة كانت في الأرض، عن أبي مسلم.
14. ﴿مِنْهَا﴾ قيل: من الجنة، وقيل: من السماء ﴿جَمِيعًا﴾ تأكيد للكلام.
15. ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ قيل: بيان ودلالة، وقيل: أنبياء ورسل.
16. ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ أَي اقتدى برسلي وأدلتي.
17. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي كذبوا وجحدوا ﴿بِآيَاتِنَا﴾ أي دلالتنا وما أنزلنا على الأنبياء ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ يعني الملازمون للنار (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي دائمون.
18. سؤال وإشكال: إذا كان استحقاق العقاب يتعلق بالكفر وبالتكذيب فلم عطف أحدهما على الآخر؟ والجواب: لأن الكفر قد يكون بالعمل وبالتكذيب بالآيات، ويكون بالجهل بالحجة، فلما كان الإيمان الذي يستحق به الثواب يدخل فيه العلم والعمل حتى يكون هُدًى ذكر في مقابلته ما يتناول العلم والعمل، والوعيد يتعلق بكل واحد على الانفراد؛ لأن الآية خرجت مخرج التغليظ، ولو استحق عليهما لكان فيه تسهيل، ولأنه لا يضم إلى الكفر ما هو مباح دل على أن كل واحد منهما يستحق عليه العقاب.
19. تدل الآيات الكريمة على:
20. وجوب التوبة من المعاصي.
21. أن توبة آدم عرفت ووجبت بالكلمات.
22. أنه تعالى يقبل التوبة، ويرحم العبد بعد ما تاب.
23. وجوب المسارعة إلى التوبة كيلا يكون من المصرين.
24. عظم محل آدم حيث بادر بالتوبة، واستدل بعضهم بالآية على أن التوبة تقع بالكلام، وليس بصحيح؛ لأن التوبة. هي الندم المخصوص، فيجب حمل الكلمات على أن المراد به الدلالة على التوبة والدعاء إليها، وقد بينا أن التوبة من الصغير إنما تجب سمعًا.
25. أن الهدى قد ثبت ولا اهتداء، وأن الاهتداء يقع بالاتباع والقبول.
26. بطلان القول بأن المعارف ضرورية.
27. أن الجنة تنال باتباع الهدى، وذلك لا يكون إلا بالتمسك بها، وذلك يجمع العلم والعمل.
28. أن المؤمن في الآخرة لا يلحقه الخوف والفزع؛ إذ المعلوم أنه لم يُرِدْ به في الدنيا، وقد اختلفوا فيه، فعند أبي علي وأبي هاشم لا يلحقهم خوف ولا حزن، وقال أبو بكر الأخشيد: قد يلحقهم خوف وتحير ثم يذهب، والأوجه هو الأول.
29. دوام العقاب، ولا يقال: كيف يلزم على معصية منقطعة عقابٌ دائم؛ لأن العقاب لا يتقدر بقدر وقت الفعل؛ ولذلك قد يستحق المسيء الذم دائمًا حتى يحسن منا ذم فرعون مع بُعْدِ العهد، والذم يجري مجرى العقاب، كذلك العقاب.
30. مسائل نحوية:
أ. ﴿آدَمَ﴾ رفع لأنه الفاعل، والمفعول الكلمات، وإذا نصب فهو المفعول، والكلمات بالرفع هو الفاعل.. ونصب اسم اللَّه؛ لأنه اسم (إنّ)، والتَّوابُ الخبرُ.
ب. دخلت ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ مع (إن) للجزاء ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل؛ إذ لو أسقط لم يجز دخول النون. فأما الأمر والنهي فتدخل النون فيه من غير (ما)؛ لأن الأمر والنهي يشتد الحاجة فيهما إلى التأكيد، والنون تلحق للتأكيد؛ فلذلك كان من مواضعها، وفي القسم تدخل إذا كان فيه لام، قال اللَّه تعالى: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ وقال الشاعر:
اسْتَقْدِرِ اللَّه خَيْرًا وارْضَيَنَّ بِهِ... فَبَيْنَمَا العُسْرُ إِذْ دَارَتْ مَيَاسِيرُ
وقد تدخل في الاستفهام أيضًا، قال: أَفَبَعْدَ كِنْدَةَ تَمْدَحَنَّ قَبِيلاَ
ج. قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ شرط وجوابه الفاء، و ﴿مِنَ﴾ بَعْدَهُ من قوله: ﴿فَمَنْ﴾ شرط آخر، وجوابه الفَاء من بعده ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾
د. في موضع ﴿أُولَئِكَ﴾ من الإعراب ثلاثة أوجه:
• الأول: أنه بدل من ﴿الَّذِينَ﴾ أو عطف بيان، وأصحاب النار بيان عن أولئك، مجراة مجرى الوصف، والخبر ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
• الثاني: أن يكون ابتداء، وخبره موضع خبر الأول.
• الثالث: أن يكون على خبرين بمنزلة خبر واحد كقولك: حلو حامض.
هـ. دخلت الفاء في سورة الحج في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ ولم تدخل ههنا لأن ما دخل فيه الفاء في خبر ﴿الَّذِينَ﴾ وأخواته مشبه بالجزاء وما لم يكن فيه الفاء فعلى أصل الخبر.
و. لم يقل: هدَيَّ على وزن عَلَيَّ وإليَّ ولدَيَّ: للفرق بينهما لأن (لدَيَّ) و(علَيَّ) يلزمهما الإضافة، وليست بمتمكنة، ففصل بينهما وبين المتمكنة، والعذر فيه أن (إلى) حرف ناقص، فجاز أن يتصل به الياء، فيلزمه حتى يصير كجزء منه، ثم قلبوا الألف ياء وأدغموها في ياء الإضافة. فأما (هداي) فاسم متمكن؛ لأنه تلزمه الإضافة حتى يصير بمنزلة حرف منه، فلم يدغموا للفرق بين المتمكن وغيره، وقوله: (فإما) أصله (إنْ) ضم إليها (ما)، وإنما كرر في قوله: ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ ولم يكرر ههنا لأنه في الأول للعطف، وفي الثاني للجزاء.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/340.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التلقي: نظير التلقن، يقال: تلقيت منه أي: أخذت وقبلت، وأصله من لقيت خيرا، فتعدى إلى مفعول واحد، ثم يعدى إلى مفعولين بتضعيف العين، نحو: لقيت زيدا خيرا، كقوله تعالى ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ ومطاوعة تلقيته بالقبول أي قبلته منه ومن ذلك قول أبي مهدية في آيات من القرآن، تلقيتها من عمي، تلقاها من أبي هريرة، تلقاها من رسول الله.. وتلقيت الرجل: استقبلني.
ب. كلمات: جمع كلمة.. والكلمة: اسم جنس لوقوعها على الكثير من ذلك والقليل، قالوا: ) قال امرؤ القيس في كلمته ) يعنون في قصيدته.. (وقال قس في كلمته) يعنون خطبته، فقد وقعت على الكثير.. وقيل: لكل واحد من الكلم الثلاث كلمة فوقعت على القليل من الاسم المفرد، والفعل المفرد، والحرف المفرد.. وأما الكلام فإن سيبويه قد استعمله فيما كان مؤلفا من هذه الكلم، وعلى هذا جاء التنزيل قال الله تعالى ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ﴾ يعني به قوله تعالى ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا﴾ ألا ترى إلى قوله ﴿كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ﴾ .. يقال كلمه تكليما وكلاما، وتكلم تكلما.. والكلم: الجرح.. يقال: كلمته أكلمه.. وأصل الباب التأثر.. والكلم: أثر دال على الجارح.. والكلام: أثر دال على المعنى الذي تحته.. والذي حرره المتكلمون في حد الكلام هو أنه ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المعقولة، إذا وقع ممن يصح منه، أو من قبيله الإفادة.. وقال بعضهم: هو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة، ليتميز من الكتابة التي ليست بمسموعة، ويتميز من أصوات كثير من الطيور، لأنها ليست بمتميزة.. وينقسم الكلام إلى مهمل ومستعمل.. وإنما أراد سيبويه بقوله: (إن المهمل لا يكون كلاما) أنه لا يكون مفيدا، إذ الكلام عنده لا يقع إلا على المفيد، وبه قال أبو القاسم البلخي.
ج. التوبة، والإقلاع، والإنابة، في اللغة: نظائر، وضد التوبة الإصرار.. والله تعالى يوصف بالتواب، ومعناه أنه يقبل التوبة عن عباده.. وأصل التوبة: الرجوع عما سلف، والندم على ما فرط.. فالله تعالى تائب على العبد بقبول توبته، والعبد تائب إلى الله تعالى بندمه على معصيته.
د. الهبوط: النزول من موضع عال إلى استفال، وقد يستعمل في هبوط المنزلة، قال لبيد:
كل بني حرة مصيرهم... قل، وإن أكثروا من العدد
إن يغبطوا يهبطوا، وإن أمروا... يوما فهم للفناء، والفند
هـ. الإتيان، والمجئ، والإقبال، نظائر.. ونقيضه الذهاب والانصراف.
و. الاتباع والاقتداء والاحتذاء نظائر.. والتابع: التالي.. وفي الحديث القادة والأتباع، فالقادة: السادة، والأتباع: الذين يتبعونهم.. والتبيع: ولد البقرة.. وثلاثة أتبعة.. والجمع أتابيع، والتبع: الظل.
ز. الخوف والجزع والفزع نظائر.. ونقيض الخوف: الأمن.. وطريق مخوف: يخافه الناس.. ومخيف: يخيف الناس.
ح. الحزن والغم والهم نظائر.. ونقيضه: السرور.. يقال: حزن حزنا، وحزنه حزنا، ويقال: حزنه وأحزنه، وهو محزون ومحزن.. وقال قوم: لا يقولون حزنه الأمر، ويقولون: يحزنه، فإذا صاروا إلى الماضي قالوا: أحزنه، وهذا شاذ نادر، لأنه استعمل أحزن، وأهمل يحزن، واستعمل يحزن، وأهمل حزن.. وأصل الباب غلظ الهم، مأخوذ من الحزن: وهو ما غلظ من الأرض.
ط. الآيات: جمع آية، ومعنى الآية في اللغة: العلامة، ومنه قوله تعالى ﴿عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ﴾ أي: علامة لإجابتك دعاءنا.. وكل آية من كتاب الله علامة ودلالة على المضمون فيها.. وقال أبو عبيدة: معنى الآية أنها علامة لانقطاع تعالى من الأوامر والنواهي وغيرها.. وقيل: إن الآية القصة والرسالة، قال كعب بن زهير:
ألا أبلغا هذا المعرض آية... أيقظان قال القول إذ قال أم حلم
أي: رسالة، فعلى هذا يكون معنى الآيات القصص أي: قصة تتلو قصة.. وقال ابن السكيت: خرج القوم بآيتهم أي: بجماعتهم لم يدعو وراءهم شيئا، وعلى هذا يكون معنى الآية من كتاب الله جماعة حروف دالة على معنى مخصوص.
ي. الأصحاب: جمع الصاحب وهو القرين.. وأصل الصحبة المقارنة، فالصاحب: هو الحاصل مع آخر مدة، لأنه إذا اجتمع معه وقتا واحدا لم يكن صاحبا له، لكن يقال صحبه وقتا من الزمان، ثم فارقه.
2. قوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ﴾ أي قبل وأخذ وتناول على سبيل الطاعة ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ ورب كل شيء ﴿كَلِمَاتُ﴾ وأغنى قوله: ﴿فَتُلْقَى﴾ عن أن يقول فرغب إلى الله بهن أو سأله بحقهن، لأن معنى التلقي يقيد ذلك وينبئ عما حذف من الكلام اختصارا، ولهذا قال تعالى ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ لأنه لا يتوب عليه إلا بأن سأل بتلك الكلمات.. وعلى قراءة من قرأ فتلقى آدم من ربه كلمات لا يكون معنى التلقي القبول، بل معناه أن الكلمات تداركته بالنجاة والرحمة.
3. اختلف في الكلمات ما هي:
أ. فقيل: هي قوله ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ الآية عن الحسن وقتادة وعكرمة وسعيد بن جبير وأن في ذلك اعترافا بالخطيئة فلذلك وقعت موقع الندم وحقيقته الإنابة.
ب. وقيل: هي قوله: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين) (اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم) عن مجاهد وهو المروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام.
ج. وقيل: بل هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
د. وقيل: وهي رواية تختص بأهل البيت عليهم السلام أن آدم عليه السلام رأى مكتوبا على العرش أسماء معظمة مكرمة فسأل عنها، فقيل له: هذه أسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى، والأسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فتوسل آدم عليهم السلام إلى ربه بهم في قبول توبته ورفع منزلته.
4. اختلف في قوله ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ :
أ. قيل: فيه حذف أي تاب آدم فتاب الله عليه أي قبل توبته.
ب. وقيل: تاب عليه أي وفقه للتوبة وهداه إليها بأن لقنه الكلمات حتى قالها، فلما قالها قبل توبته.
5. ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ﴾:
أ. قيل: أي كثير القبول للتوبة يقبل مرة بعد مرة، وهو في صفة العباد الكثير التوبة.
ب. وقيل: إن معناه أنه يقبل التوبة وإن عظمت الذنوب فيسقط عقابها.
3. قوله ﴿الرَّحِيمُ﴾ إنما ذكره ليدل به على أنه متفضل بقبول التوبة ومنعم به وأن ذلك ليس على وجه الوجوب.
6. إنما قال: فتاب عليه ولم يقل عليهما لأنه اختصر وحذف للإيجاز والتغليب، كقوله سبحانه وتعالى ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ ومعناه أن يرضوهما وقوله ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ وكقول الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي... بريا ومن جول الطوي رماني
وقال الآخر:
نحن بما عندنا وأنت بما... عندك راض والرأي مختلف
فكذلك معنى الآية فتاب عليهما.
7. ثم بين تعالى اهباطهم إلى الأرض، فقال ﴿اهْبِطُوا﴾ أي: انزلوا، والخطاب لآدم وحواء على ما ورد من الاختلاف فيه.
8. اختلف في تكرار الهبوط:
أ. قيل: الهبوط الأول من الجنة إلى السماء، وهذا الهبوط من السماء إلى الأرض عن أبي علي.
ب. وقيل: إنما كرر للتأكيد.
ج. وقيل: إنما كرر لاختلاف الحالين فقد بين بقوله: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ ان الاهباط إنما كان في حال عداوة بعضهم لبعض.
9. بين بقوله: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ أن الاهباط إنما كان للابتلاء والتكليف كما يقال إذهب سالما معافى، إذهب مصاحبا، وإن كان الذهاب واحدا لاختلاف الحالين.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ :
أ. قيل: أي: بيان ودلالة.
ب. وقيل: أنبياء ورسل.. وعلى هذا القول يكون الخطاب في قوله ﴿اهْبِطُوا﴾ لآدم وحواء وذريتهما كقوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ أي: أتينا بما فينا من الخلق طائعين.
11. ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ أي: اقتدى برسلي، واحتذى أدلتي، فلا يلحقهم خوف من أهوال يوم القيامة من العقاب، ولا هم يحزنون على فوات الثواب.. فأما الخوف والحزن في الدنيا: فإنه يجوز أن يلحقهم، لأن من المعلوم أن المؤمنين لا ينفكون منه.. وفي هذه الآية دلالة على أن الهدى قد يثبت، ولا اهتداء، وأن الاهتداء إنما يقع بالاتباع والقبول.
12. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: جحدوا ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي: دلالاتنا وما أنزلناه على الأنبياء ف (أولئك أصحاب النار) أي: الملازمون للنار ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي: دائمون.. وفي هذه الآية دلالة على أن من مات مصرا على كفره، غير تائب منه، وكذب بآيات ربه، فهو مخلد في نار جهنم.
13. وآيات الله: دلائله وكتبه المنزلة على رسله.. والآية: مثل الحجة والدلالة، وإن كان بينهما فرق في الأصل، يقال: دلالة هذا الكلام كذا، ولا يقال آيته، ومن استدلّ بهذه الآية على أن عمل الجوارح قد يكون من الكفر بقوله ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ فقوله يفسد بأن التكذيب نفسه، وإن لم يكن كفرا، فهو دلالة على الكفر، لأنه لا يقع إلا من كافر كالسجود للشمس، وغيره.
14. مسائل نحوية:
أ. ﴿أَمَّا﴾ : هو إن الجزاء دخلت عليها (ما) ليصح دخول نون التأكيد في الفعل ولو أسقطت لم يجز دخول النون، لأنها لا تدخل في الخبر الواجب إلا في القسم، أو ما أشبه القسم، كقولك: زيد ليأتينك، ولو قلت بغير لام لم يجز.. وكذلك تقول: بعين ما أرينك، وبجهد ما تبلغن، وفي عضة ما ينبتن شكيرها، ولو قلت بعين أرينك، بغير ما، لم يجز، فدخول ما هاهنا كدخول اللام في أنها تؤكد أول الكلام، وتؤكد النون آخره.. والأمر والنهي مما يشتد الحاجة إلى التوكيد فيه.. والاستفهام مشبه به، إذ كان معناه أخبرني.. والنون إنما تلحق للتوكيد، فلذلك كان من مواضعها، قال الله تعالى ﴿ لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ﴾.
ب. قال الزجاج: إنما فتح ما قبل النون في قوله ﴿يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ لسكون الياء، وسكون النون الأولى.. قال أبو علي: ولو كان كذلك لما حرك في نحو هل تضربن ونحوه من الصحيح، لأن الساكنين لا يلتقيان في هذا النحو، وفي هذا ما يدل على أن هذه الحركة للبناء دون ما ذكره من التقاء الساكنين، وجواب الشرط في الفاء مع الشرط الثاني وجزائه، لأن الشرط وجوابه بمنزلة المبتدأ والخبر، فكما أن المبتدأ لا يتم إلا بخبره، فكذلك الشرط لا يتم إلا بجزائه.. ولك أن تجعل خبر المبتدأ جملة هي مبتدأ وخبر، كقولك زيد أبوه منطلق، فكذلك إن التي للجزاء إذا كان جوابه بالفاء، ووقع بعد الفاء الكلام مستأنفا، صلح أن يكون جزاء وغير جزاء.. تقول: إن تأتني فأنت مكرم، ولك أن تقول: إن تأتني فمن يكرمك أكرمه، فقوله ﴿إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ شرط و(يأتينكم) في موضع الجزم بأن، وجزاؤه الفاء وما بعده من قوله ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ الآية.
ج. ﴿مِنَ﴾ في موضع الرفع بالابتداء.
د. ﴿تَبعَ﴾ في موضع الجزم بالشرط، وجزاؤه الفاء وما بعده، وهو قوله: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ ولا خوف عليهم جملة اسمية ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ جملة اسمية معطوفة على الجملة التي قبلها.
هـ. الفاء مع ما بعده في موضع جزم بالجزاء، لقوله ﴿ من تبع هداي ﴾ والشرط والجزاء مع معنى حرف الشرط الذي تضمنته (من) في موضع رفع بأنها خبر المبتدأ الذي هو ﴿مِنَ﴾ ثم الفاء وما بعده من قوله ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ الآية في موضع جزم بأنه جزاء لقوله ﴿إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ .. وهذا في المقدمات القياسية يسمى الشرطية المركبة، وذلك أن المقدم فيها إذا وجب وجب التالي المركب عليه.
و. موضع ﴿أُولَئِكَ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه:
• أحدها: أن يكون بدلا من الذين، أو عطف بيان ﴿أَصْحَابَ النَّارِ﴾ : بيان عن ﴿أُولَئِكَ﴾، مجراه مجرى الوصف.. والخبر ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
• والثاني: أن يكون ابتداء وخبرا في موضع الخبر الأول.
• والثالث: أن يكون على خبرين بمنزلة خبر واحد.. كقولك: هذا حلو حامض.
ز. دخلت الفاء في موضع آخر مثل قوله: ﴿فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ ولم يدخل هاهنا لأن ما دخل فيه الفاء من خبر الذي وأخواته مشبه بالجزاء، وما لم يكن فيه فاء، فهو على أصل الخبر، وإذا قلت: ما لي فهو لك، إن أردت ما بمعنى الذي، جاز، وإن أردت به المال، لم يجز.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/200.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾، تلقّى: بمعنى أخذ، وقبل، قاله ابن قتيبة: كأن الله تعالى أوحى إليه أن يستغفره ويستقبله بكلام من عنده، ففعل ذلك آدم فتاب عليه، وقرأ ابن كثير: فتلقى آدم) بالنصب، (كلمات) بالرفع؛ على أن الكلمات هي الفاعلة.
2. في الكلمات أقوال:
أ. أحدها: أنها قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء الخراسانيّ، وعبيد بن عمير، وأبيّ بن كعب، وابن زيد.
ب. الثاني: أنه قال أي ربّ؛ ألم تخلقني بيدك؟ قال بلى، قال ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال بلى، قال ألم تسبق رحمتك إليّ قبل غضبك؟ قال بلى، قال ألم تسجد لي ملائكتك وتسكني جنتك؟ قال بلى، قال أي ربّ، إن تبت وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنّة؟ قال نعم، حكاه السّدّيّ عن ابن عباس.
ج. الثالث: أنه قال اللهمّ لا إله إلّا أنت، سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنك خير الغافرين، اللهمّ لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فارحمني، فأنت خير الراحمين، اللهمّ لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فتب عليّ، إنك أنت التواب الرحيم، رواه ابن أبي نجيح] عن مجاهد، وقد ذكرت أقوال من كلمات الاعتذار تقارب هذا المعنى.
3. قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾، أصل التوبة: الرجوع، فالتوبة من آدم: رجوعه عن المعصية، وهي من الله تعالى: رجوعه عليه بالرحمة، والثواب الذي كلما تكرّرت توبة العبد تكرّر قبوله.
4. إنما لم تذكر حوّاء في التوبة:
أ. لأنه لم يجر لها ذكر، لا أن توبتها لم تقبل.
ب. وقال قوم: إذا كان معنى فعل الاثنين واحدا؛ جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما؛ كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾، وقوله: ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ .
5. قوله تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾، في إعادة ذكر الهبوط ـ وقد تقدم ـ قولان:
أ. أحدهما: أنه أعيد لأن آدم أهبط إهباطين، أحدهما من الجنّة إلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض، وأيّهما الإهباط المذكور في هذه الآية؟ فيه قولان.
ب. الثاني: أنه إنما كرّر الهبوط توكيدا.
6. قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا﴾، قال الزّجّاج: هذه (إن) التي للجزاء، ضمّت إليها (ما)، والأصل في اللفظ (إن ما) مفصولة، ولكنها مدغمة، وكتبت على الإدغام، فإذا ضمّت (ما) إلى (إن) لزم الفعل النون الثقيلة أو الخفيفة، وإنما تلزمه النون لأن (ما) تدخل مؤكّدة، ودخلت النون مؤكدة أيضا، كما لزمت اللام النون في القسم في قولك: والله لتفعلن، وجواب الجزاء الفاء.
7. في المراد بـ (الهدى) ها هنا قولان:
أ. أحدهما: أنه الرسول، قاله ابن عباس ومقاتل.
ب. الثاني: الكتاب، حكاه بعض المفسّرين.
8. ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ : فلا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب، ولا هم يحزنون عند الموت، والخوف لأمر مستقبل، والحزن لأمر ماض.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها العلامة، فمعنى آية: علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها والذي بعدها، قال الشاعر:
ألا أبلغ لديك بني تميم... بآية ما يحبّون الطّعاما
وقال النّابغة:
توهّمت آيات لها فعرفتها... لستّة أعوام وذا العام سابع
وهذا اختيار أبي عبيد.
ب. الثاني: أنها سمّيت آية، لأنها جماعة حروف من القرآن، وطائفة منه.. قال أبو عمرو الشّيبانيّ: يقال: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم، وأنشدوا:
خرجنا من النّقبين لا حيّ مثلنا... بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا
ج. الثالث: أنها سمّيت آية، لأنها عجب، وذلك أن قارئها يستدلّ إذا قرأها على مباينتها كلام المخلوقين، وهذا كما تقول: فلان آية من الآيات؛ أي: عجب من العجائب، ذكره ابن الأنباريّ.
10. في المراد بهذه الآيات أربعة أقوال:
أ. أحدها: آيات الكتاب التي تتلى.
ب. الثاني: معجزات الأنبياء.
ج. الثالث: القرآن.
د. الرابع: دلائل الله في مصنوعاته.
11. أصحاب النار: سكّانها، سمّوا أصحابا، لصحبتهم إياها بالملازمة.
__________
(1) زاد المسير: 1/58.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. أصل التلقي هو التعرض للقاء، ثم يوضع في موضع الاستقبال للشيء الجائي، ثم يوضع موضع القبول والأخذ، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل: 6]، أي تلقنه، ويقال: تلقينا الحجاج أي استقبلناهم، ويقال: تلقيت هذه الكلمة من فلان أي أخذتها منه.
2. إذا كان هذا أصل الكلمة وكان من تلقى رجلًا فتلاقيا لقي كل واحد صاحبه فأضيف الاجتماع إليهما معاً صلح أن يشتركا في الوصف بذلك، فيقال: كل ما تلقيته فقد تلقاك فجاز أن يقال: تلقى آدم كلمات أي أخذها ووعاها واستقبلها بالقبول، وجاز أن يقال: تلقى كلمات بالرفع على معنى جاءته عن الله كلمات ومثله قوله: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124] وفي قراءة ابن مسعود (الظالمون)
3. لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى عرفه حقيقة التوبة لأن المكلف لا بد وأن يعرف ماهية التوبة ويتمكن بفعلها من تدارك الذنوب ويميزها عن غيرها فضلًا عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل يجب حمله على أحد أمور:
أ. أحدها: التنبيه على المعصية الواقعة منه على وجه صار آدم عليه السلام عند ذلك من التائبين المنيبين.
ب. ثانيها: أنه تعالى عرفه وجوب التوبة وكونها مقبولة لا محالة على معنى أن من أذنب ذنباً صغيراً أو كبيراً ثم ندم على ما صنع وعزم على أن لا يعود فإني أتوب عليه، قال الله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾، أي أخذها وقبلها وعمل بها.
ج. ثالثها: أنه تعالى ذكره بنعمه العظيمة عليه فصار ذلك من الدواعي القوية إلى التوبة.
د. رابعها: أنه تعالى علمه كلاماً لو حصلت التوبة معه لكان ذلك سبباً لكمال حال التوبة.
4. اختلفوا في تلك الكلمات:
أ. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن آدم عليه السلام قال: يا رب ألم تخلقني بيدك بلا واسطة؟ قال بلى، قال يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال بلى قال ألم تسكني جنتك؟ قال يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال بلى، قال يا رب إن تبت وأصلحت تردني إلى الجنة؟ قال بلى فهو قوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ وزاد السدي فيه: يا رب هل كنت كتبت علي ذنباً؟ قال نعم.
ب. ثانيها: قال النخعي: أتيت ابن عباس فقلت: ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه، قال علم الله آدم وحواء أمر الحج فحجا وهي الكلمات التي تقال في الحج، فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما بأني قبلت توبتكما.
ج. ثالثها: قال مجاهد وقتادة في إحدى الروايتين عنهما هي قوله: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23]
د. رابعها: قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم: إنها قوله لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت خير الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
هـ. خامسها: قالت عائشة: لما أراد الله تعالى أن يتوب على آدم طاف بالبيت سبعاً، والبيت يومئذ ربوة حمراء، فلما صلى ركعتين استقبل البيت وقال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي وأرضى بما قسمت لي، فأوحى الله تعالى إلى آدم: يا آدم قد غفرت لك ذنبك ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بهذا الدعاء الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من بين عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها.
5. إنما اكتفى الله تعالى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعاً له كما طوى ذكر النساء في القرآن والسنة لذلك، وقد ذكرها في قوله: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23]
6. سؤال وإشكال: إذا كانت هذه المعصية صغيرة، فكيف تلزم التوبة؟ والجواب:
أ. قيل: أنها تلزمه لأن المكلف متى علم أنه قد عصى لم يحد ولا مانع من أن يكون نادماً أو مصراً لكن الإصرار قبيح فلا تتم مفارقته لهذا القبيح إلا بالتوبة، فهي إذن لازمة سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة وسواء ذكرها وقد تاب عنها من قبل أو لم يتب.
ب. قيل: إنه يجوز أن يخلو العاصي من التوبة والإصرار ويقول: لا يصح أن تكون التوبة واجبة على الأنبياء لهذا الوجه، بل يجب أن تكون واجبة لإحدى خلال:
• فإما أن تجب لأن بالصغيرة قد نقص ثوابهم فيعود ذلك النقصان بالتوبة.
• وإما لأن التوبة نازلة منزلة الترك، فإذا كان الترك واجباً عند الإمكان فلا بد من وجوب التوبة مع عدم الإمكان.
• وربما قال: تجب التوبة عليهم من جهة السمع وهذا هو الأصح على قوله: لأن التوبة لا يجوز أن تجب لعود الثواب الذي هو المنافع فقط لأن الفعل لا يجوز أن يجب لأجل جلب المنافع كما لا تجب النوافل، بل الأنبياء عليهم السلام لما عصمهم الله تعالى صار أحد أسباب عصمتهم التشديد عليهم في التوبة حالًا بعد حال وإن كانت معاصيهم صغيرة.
7. ذكروا في فائدة تكرير الأمر بالهبوط وجهين:
أ. الأول: قال الجبائي: الهبوط الأول غير الثاني، فالأول من الجنة إلى سماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض، وهذا ضعيف من وجهين:
• أحدهما: أنه قال في الهبوط الأول: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾، فلو كان الاستقرار في الأرض إنما حصل بالهبوط الثاني لكان ذلك قوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ﴾ [البقرة: 36] عقيب الهبوط الثاني أولى.
• ثانيهما: أنه قال في الهبوط الثاني: ﴿اهْبِطُوا مِنْهَا﴾ والضمير في (منها) عائد إلى الجنة، وذلك يقتضي كون الهبوط الثاني من الجنة.
ب. الوجه الثاني: أن التكرير لأجل التأكيد.
8. الأقوى من هذين الوجهين هو أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة أمرا بالهبوط، فتابا بعد الأمر بالهبوط، ووقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط لما كان بسبب الزلة، فبعد التوبة وجب أن لا يبقى الأمر بالهبوط، فأعاد الله تعالى الأمر بالهبوط مرة ثانية، ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة لأن الأمر به كان تحقيقاً للوعد المتقدم في قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]
9. بين الله تعالى أن من اتبع هداه بحقه علماً وعملًا بالإقدام على ما يلزم والاحجام عما يحرم فإنه يصير إلى حال لا خوف فيها ولا حزن، وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئاً كثيراً من المعاني:
أ. لأن قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ [البقرة: 38] [طه: 123] دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادات البيان وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكن.
ب. وجمع قوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ [البقرة: 38] تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها ويجمع ذلك كل التكاليف.
ج. وجمع قوله: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 38] جميع ما أعد الله تعالى لأوليائه لأن زوال الخوف يتضمن السلامة من جميع الآفات وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات.
10. قدّم الله تعالى عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على طلب ما ينبغي، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف في القبر ولا عند البعث ولا عند حضور الموقف ولا عند تطاير الكتب ولا عند نصب الموازين ولا عند الصراط كما قال الله تعالى: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: 103]
11. قال قوم من المتكلمين: إن أهوال القيامة كما تصل إلى الكفار والفساق تصل أيضاً إلى المؤمنين لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ [الحج: 2] وأيضاً فإذا انكشفت تلك الأهوال وصاروا إلى الجنة ورضوان الله صار ما تقدم كأن لم يمكن، بل ربما كان زائداً في الالتذاذ بما يجده من النعيم وهذا ضعيف لأن قوله: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ أخص من قوله: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ والخاص مقدم على العام، وقال ابن زيد: لا خوف عليهم أمامهم فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فأمنهم الله تعالى منه، ثم سلاهم عن الدنيا فقال: ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا.
12. سؤال وإشكال: قوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ يقتضي نفي الخوف والحزن مطلقاً في الدنيا والآخرة، وليس الأمر كذلك لأنهما حصلا في الدنيا للمؤمنين أكثر من حصولهما لغير المؤمنين، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل)، وأيضاً فالمؤمن لا يمكنه القطع أنه أتى بالعبادات كما ينبغي فخوف التقصير حاصل وأيضاً فخوف سوء العاقبة حاصل، والجواب: قرائن الكلام تدل على أن المراد نفيهما في الآخرة لا في الدنيا، ولذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا حين دخلوا الجنة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: 43] أي أذهب عنا ما كنا فيه من الخوف والإشفاق في الدنيا من أن تفوتنا كرامة الله تعالى التي نلناها الآن.
13. لما وعد الله متبع الهدى بالأمن من العذاب والحزن عقبه بذكر من أعد له العذاب الدائم فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ سواء كانوا من الإنس أو من الجن فهم أصحاب العذاب الدائم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/466.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى تلقى:
أ. قيل معناه: فهم وفطن.
ب. وقيل: قبل واخذ، وكان عليه السلام يتلقى الوحى أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه تقول: خرجنا نتلقى الحجيج أي نستقبلهم.
ج. وقيل: معنى تلقى تلقن، وهذا في المعنى صحيح، ولكن لا يجوز أن يكون التلقي من التلقن في الأصل، لان أحد الحرفين إنما يقلب ياء إذا تجانسا مثل تظنى من تظنن، وتقصى من تقصص، ومثله تسريت من تسررت، وأمليت من أمللت، وشبه ذلك، ولهذا لا يقال: تقبى من تقبل ولا تلقى من تلقن.
د. وحكى مكي أنه ألهمها فانتفع بها.
هـ. وقال الحسن: قبولها تعلمه لها وعمله بها
2. قرأ ابن كثير: فتلقى آدم من ربه كلمات)، والباقون برفع (آدم) ونصب (كلمات)، والقراءتان ترجعان إلى معنى:
أ. قيل: لان آدم إذا تلقي الكلمات فقد تلقته.
ب. وقيل: لما كانت الكلمات هي المنقذة لآدم بتوفيق الله تعالى له لقبول إياها ودعائه بها كانت الكلمات فاعلة وكان الأصل على هذه القراءة (فتلقت آدم من ربه كلمات)، ولكن لما بعد ما بين المؤنث وفعله حسن حذف علامة التأنيث، وهذا أصل يجري في كل القرآن والكلام إذا جاء فعل المؤنث بغير علامة، ومنه قولهم: حضر القاضي اليوم امرأة.
ج. وقيل: إن الكلمات لما لم يكن تأنيثه حقيقيا حمل على معنى الكلم فذكر.
3. قال سعيد بن جبير لما أهبط آدم إلى الأرض لم يكن فيها شي غير النسر في البر والحوت في البحر فكان النسر يأوي إلى الحوت فيبيت عنده، فلما رأى النسر آدم قال يا حوت لقد أهبط اليوم إلى الأرض شي يمشى على رجليه ويبطش بيديه! فقال الحوت: لئن كنت صادقا مالي منه في البحر منجى، ولا لك في البر منه مخلص!.
4. اختلف أهل التأويل في الكلمات:
أ. قال ابن عباس والحسن وسعيد ابن جبير والضحاك ومجاهد هي قوله: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23]
ب. وعن مجاهد أيضا: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ربي ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم.
ج. وقالت طائفة: رأى مكتوبا على ساق العرش (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) فتشفع بذلك فهي الكلمات.
د. وقالت طائفة: المراد بالكلمات البكاء والحياء والدعاء.
هـ. وقيل: الندم والاستغفار والحزن، قال ابن عطية: وهذا يقتضي أن آدم عليه السلام لم يقل شيا إلا الاستغفار المعهود.
و. سئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال: يقول ما قاله أبواه: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ الآية وقال موسى: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ [القصص: 16] وقال يونس: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87]
ز. عن ابن عباس ووهب بن منبه: أن الكلمات (سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم)
ح. وقال محمد بن كعب هي قوله: لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أرحم الراحمين)
ط. وقيل: الكلمات قوله حين عطس: الحمد لله.
5. قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ أي قبل توبته، أو وفقه للتوبة، وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم جمعة.
6. تاب العبد: رجع إلى طاعة ربه وعبد تواب: كثير الرجوع إلى الطاعة واصل التوبة الرجوع يقال: تاب وثاب وآب وأناب: رجع.
7. قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) وصف نفسه سبحانه وتعالى بأنه التواب وتكرر في القرآن معرفا ومنكرا واسما وفعلا، وقد يطلق على العبد أيضا تواب قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222]
8. في وصف الله تعالى بأنه تواب ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه يجوز في حق الرب سبحانه وتعالى فيدعى به كما في الكتاب والسنة ولا يتأول.
ب. وقال آخرون: هو وصف حقيقي لله سبحانه وتعالى وتوبة الله على العبد رجوعه من حال المعصية إلى حال الطاعة.
ج. وقال آخرون: توبة الله على العبد قبول توبته، وذلك يحتمل أن يرجع إلى قوله سبحانه وتعالى: قبلت توبتك، وأن يرجع إلى خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسيء وإجراء الطاعات على جوارحه الظاهرة.
9. لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى: تائب اسم فاعل من تاب يتوب لأنه ليس لنا أن نطلق عليه من الأسماء والصفات إلا ما أطلقه هو على نفسه أو نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أو جماعة المسلمين، وإن كان في اللغة محتملا جائزا، هذا هو الصحيح في هذا الباب، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ [التوبة: 117] وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ [التوبة: 104]، وإنما قيل لله عز وجل: تواب لمبالغة الفعل وكثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه.
10. ليس لاحد قدرة على خلق التوبة لان الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بخلق الأعمال خلافا للمعتزلة ومن قال بقولهم، وكذلك ليس لاحد أن يقبل توبة من أسرف على نفسه ولا أن يعفو عنه، قال علماؤنا: وقد كفرت اليهود والنصارى بهذا الأصل العظيم في الدين: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31] عز وجل وجعلوا لمن أذنب أن يأتي الحبر أو الراهب فيعطيه شيئا ويحط عنه ذنوبه ﴿افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [الانعام: 140].
11. سؤال وإشكال: لم قال: ﴿عَلَيْهِ﴾ لم يقل عليهما وحواء مشاركة له في الذنب بإجماع وقد قال: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ [البقرة: 35]، و ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23] والجواب:
أ. قيل: أن آدم عليه السلام لما خوطب في أول القصة بقوله: ﴿اسْكُنْ﴾ خصه بالذكر في التلقي فلذلك كملت القصة بذكره وحده.
ب. قيل: لأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها، ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 121]
ج. قيل: لما كانت المرأة تابعة للرجل في غالب الامر لم تذكر كما لم يذكر فتى موسى مع موسى في قوله: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ﴾ [الكهف: 75]
د. قيل: إنه دل بذكر التوبة عليه أنه تاب عليها إذ أمرهما سواء قاله الحسن.
هـ. قيل: إنه مثل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: 11] أي التجارة لأنها كانت مقصود القوم فأعاد الضمير عليها ولم يقل إليهما والمعنى متقارب، وقال الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي... بريئا ومن فوق الطوي رماني
وفي التنزيل: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: 62] فحذف إيجازا واختصارا.
12. قوله تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا﴾ كرر الامر:
أ. قيل: على جهة التغليظ وتأكيده، كما تقول لرجل: قم قم.
ب. وقيل: كرر الامر لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر فعلق بالأول العداوة وبالثاني إتيان الهدى.
ج. وقيل: الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض، وعلى هذا يكون فيه دليل على أن الجنة في السماء السابعة كما دل عليه حديث الاسراء.
13. اختلف في معنى قوله ﴿هُدًى﴾ :
أ. قيل: كتاب الله قاله السدي.
ب. وقيل: التوفيق للهداية.
ج. وقالت فرقة: الهدى الرسل وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر كما جاء في حديث أبى ذر وخرجه الآجري.
14. الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل، وخاوفني فلان فخفته أي كنت أشد خوفا منه والتخوف: التنقص ومنه قوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ [النحل: 47]
15. الحزن والحزن: ضد السرور ولا يكون إلا على ماض، وحزن الرجل (بالكسر) فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ومحزون بنى عليه، قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما، واحتزن وتحزن بمعنى.
16. اختلف في معنى الآية:
أ. قيل: لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا.
ب. قيل: ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا.
17. قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي أشركوا، لقوله: ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ الصحبة: الاقتران بالشيء في حالة ما في زمان ما فان كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة وهكذا هي صحبة أهل النار لها، وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة إذ مراتبهم متباينة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/324.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَلَقَّى ءَادَمُ﴾ وحوَّاء لقوله تعالى: ﴿قَالَا رَبَّنَا﴾ ﴿مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ دعوا بهنَّ: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23] على الأصحِّ، وقيل: (سبحانك اللهمَّ وبحمدكَ، تبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله إلَّا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، إنَّه لا يغفر الذنوب إلَّا أنت)، وأخرج الحاكم في المستدرك عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم من طريق ابن عبَّاس أنَّه قال: (يا ربِّ ألم تخلقني بيدك؟) قال: (بلى)، قال: (يا ربِّ ألم تنفخ فيَ الروح من روحك؟) قال: (بلى)، قال: (يا ربِّ ألم تسبق رحمتك غضبَك؟) قال: (بلى)، قال: (يا ربِّ ألم تسكنِّي جنَّتك؟) قال: (بلى)، قال: (يا ربِّ إن تبتُ وأصلحتُ أراجعي أنت إلى الجنَّة؟) قال: (نعم)، وتلقِّي الكلمات: التوجُّهُ إليهنَّ بقبولهنَّ، والدعاء بهنَّ إذ ألهمه الرحمن الرحيم إياهنَّ، وقيل: هنَّ توسُّله بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم حين رآه مكتوبًا على ساق العرش، وقد علَّمه الله الكتابة.
2. ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ رجع إليه بعد الإعراض عنه، وولايته وعداوته لا تتقلَّبان، لكنَّه شبَّه كراهتَهُ أكلَهُما بالإعراض، ورضاه بندمهما بالرجوع، والله منزَّه عن الجهات والأمكنة والتنقُّل، أو قَبِل توبته أو وفَّقه للتوبة، وهكذا توبة الله حيث ذُكِرت، وبعدما تاب الله عليه بقي ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله تعالى .
3. ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ﴾ كثير الرجوع وعظيمه على عباده بالإنعام وقبول التوبة ﴿الرَّحِيمُ﴾ للعاصي والمطيع، إلَّا من أصرَّ من العصاة فله في الدنيا فقط، ولا يقال: الله تائب، لعدم وروده في القرآن بالإجماع، وأسماء الله توقيفيَّة، وقيل: تقاس فيما ورد فيه لفظ الفعل أو غيره مسندًا فتقول: الله تائب على عباده، لورود: ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 37] و﴿تَابَ عَلَيْهِم﴾ [التوبة: 117 ـ 118] وباني السماء، وداحي الأرض.
4. واعلم أنَّ [نطق] لفظ الشرك حرام باتِّفاق الأمَّة ولو لم ينوِ به الشرك إلَّا حكاية أو اضطرارًا لأنَّه موهم، وذلك من الإلحاد في أسمائه كما قال بعض العلماء: إنَّ الله حكم بشرك من قال: ﴿عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ﴾ [التوبة: 30] أو قال: ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ﴾ [التوبة: 30] ولو لم ينو حقيقة البنوَّة، وذلك بناء منهم على أنَّ لفظ الإشراك شرك ولو لم ينوِ، كما أنَّ نيته شرك بلا لفظ أوْ مع لفظ، حتَّى إنَّ من العلماء من لا يجيز للمضطرِّ أن يلفظ بشرك ولو اطمأنَّ قلبه بالإيمان إلَّا بتأويل لفظه، أو بمعرضة، أو إسرار شيء يخالفه وينقضه، أو عناية ما مِمَّا ينقض اللفظ زيادة على اطمئنان قلبه، وإنَّما منعوا ما يوهم الشرك ولو لم يقصده حسمًا لمادَّة الشرك، كما نصَّ عليه بعض محشِّي البيضاوي.
5. وقد اختلفوا في أسماء الله أتوقيفيَّة أم قياسيَّة فيما ورد فيه معنى المادَّة بشرط الإضافة على الكيفيَّة الواردة مثل أن يقال: فارش الأرض، وداحي الأرض، لقوله تعالى: ﴿وَالَارْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ [الذاريات: 48]، ﴿وَالَارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَاهَآ﴾ [النازعات: 30].
6. واتَّفقوا أنَّه لا يجوز تسميته بما يوهم شركًا أو نُقصًا ولو مجازًا بقرينة واضحة وعلاقة، مثل أن يقال لله: (بَابَ)، فإنَّه لا يجوز إجماعًا من الأمَّة، مع أنَّ قائله لم يقصد حقيقة البنوَّة والأبوَّة، وإنَّما اختلفوا: هل يشرك من لم يقصد حقيقة البنوَّة والأبوَّة؟ فقيل: يُشرك، وقيل: لا، وَأَمَّا أن يقول قائل بجواز أن يقال لله: (بَابَ) فلا، بل اتَّفقوا أنَّه لا يجوز أن يقال ذلك، ولو بلا قصد لحقيقة البنوَّة والأبوَّة، واتَّفقوا أنَّه لا يجوز أن يُترَك إنسانٌ يقوله، وقد قال بعض في برابرة المغرب:
çإذا كُنتَ في الفردَوسِ جارًا لبربر...فيلزمكَ الرحيلُ منها إلى سقر
يقولون للرحمن: بَابَ، بجهلهم...ومن قال للرحمن: بَابَ، فقد كفرé
وقد أصاب في قوله: (كَفَر) إن أراد أنَّه تلفَّظ بلفظ الشرك، وإن أراد أنَّه أشرك، ولو لم يقصد الشرك فهو قول للعلماء كما رأيت، وهو ضعيف؛ وأخطأ في قوله: (إذا كنت في الفردوس..) البيت، وأجابه بعض المغاربة بقوله:
çكفى بك جهلاً أن تحنَّ إلى سقر...بديلاً من الفردوس في خير مستقر
فإنَّ أبا الإنسان يدعون أنَّه...كفيل وقيِّم رحيم به وَبَرّ
ومن قال للرحمن: (بَابَ) وقد عنى... به ذلك المعنى مجازًا فما كفرé
وهذا المجيب أصاب، وجرى على الواضح، إلَّا أنَّه إن أراد أنَّه يجوز إبقاء البربريِّ أو غيره على ذلك القول لعنايته الرحمة فقد أخطأ، فينبغي أن يُفصِحَ بأنَّه لم يشرك، وأنَّه لا يجوز له قول ذلك، ولا يجوز إبقاؤه بلا نهي عن ذلك.
7. ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ أي: من الجنَّة، وهذا يقوِّي رجوع الضمير في ﴿عَنْهَا﴾ إلى الجنَّة، وكرَّر قول: ﴿اهْبِطُوا﴾ لأنَّ الأوَّل مذكور برسم العقاب بالهبوط وفَوْتِ نعيم الجنَّة التي لا أجل لها، ومضارِّ الهبوط من العداوة إلى دار مؤجَّلة، وبرسم التوبة، والثاني مذكور على رسم التكليف، كما قال: ﴿فَإِمَّا﴾، أي: إنْ ما، و(ما) تأكيد لعموم الإتيان، وهذا يقوِّي أنَّ الخطاب للذرِّيَّة في الأوَّل أيضًا؛ لأنَّ الحيَّة والطاوس لا تكليف عليهما، وقد يقال: الأوَّل لهما ولآدم وحوَّاء وإبليس، والثاني للذرِّيَّة، أو ذكره أوَّلاً بليَّة وثانيًا نعمة، إذ رتَّب عليه التكليف المؤدِّي إلى الرجوع إلى الجنَّة مع ما لا يحصى من ولده؛ كما روي أنَّه رقَّ قلب جبريل على آدم وحوَّاء، فأوحى الله إليه: دعهما فإنَّهما سيعودان إليها مع ما لا يحصى من ذرِّيَّتهما ويخلدون أبدًا، وقد يقال: كِلَا الخطابين كلٌّ لا كُلِّـيَّة، وقد يقال: هبوطان: الأوَّل إلى السماء الدنيا، وخصَّ السماء الدنيا لقربها من الأرض، ولا ضعف في قولنا: اهبطوا إلى السماء الدنيا مقدِّرين الاستقرار والتمتُّع في الأرض، والثاني إلى الأرض.
8. ﴿فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم﴾ في الأرض ﴿مِّنِّي هُدًى﴾ وحيٌ أو رسول، ومقتضى الظاهر: (فإذا أتاكم منِّي هدًى) لتحقُّق الإتيان، لكن لَمَّا كان بعث الأنبياء والوحي إليهم من الجائز لا الواجب ـ ولا واجب على الله تعالى ـ ذكر بصيغة الشكِّ المعتبرة بالمخاطبة؛ لأنَّ العقل لا يوجبه، ولو كانت الحكمة أن لا يهمل العاقل، وفي صيغة الشكِّ أيضًا تدريج، وفيه تخفيف، أو لتنزيل العالِم منزلة الجاهل الشاكِّ، إذا لم يجر على مقتضى علمه.
9. ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ مقتضى الظاهر: (فمن تبعه)، لكن أظهر وأضاف للياء تعظيمًا، وقيل: لأنَّه لعموم ما يُعقل بالاستدلال، واتِّباع الهدى: الإيمان والعمل والتقوى، ومن آمن ومات أو تاب ومات قبل وجوب الواجبات فهو من هذا القسم، ومن أصرَّ ففي النار، ولم يذكر في هذه الآية إلَّا بمفهوم الشرط، إذ شرط باتِّباع الهدى فلا خوف عليهم، والجملة جواب، وقيل: محذوف، أي: اتَّبِعوه.
10. ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ في آخر موتهم ولا في القبر ولا عند البعث، ويصيبهم الخوف في الدنيا من مضارِّها، ولا من سوء الخاتمة، ولا من العقاب، ولا في بعض مواطن الموقف ﴿وَلَا هُم يَحْزَنُونَ﴾ في الآخرة من ترك الإيمان والتقوى، إذ لم يتركوها فاستحقُّوا الجنَّة، والخوف: غمٌّ لتوقُّع مكروه، والحزن غمٌّ لفوت مهمٍّ، ويجب التحفُّظ عن المعاصي، قال بعض:
çيا ناظِرًا يرنو بِعَيْنَيْ راقد...ومُشاهِدٍ للأمرِ غيرَ مُشاهِدِ
منَّيتَ نفسَك ضِلَّةً وأبَحْتَها...طرُقَ الرجاء وهنَّ غيرُ قواصد
تَصِلُ الذنوبَ إلى الذنوب وترتجي...دُرَج الجنانِ بها وفوزَ العابد
ونسيتَ أنَّ الله أخرج آدمًا...منها إلى الدنيا بذنب واحدé
11. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في قلوبهم، أي: بها، أي: بآياتنا ﴿وَكَذَّبُوا بِئَايَاتِنَآ﴾ في ألسنتهم وهي القرآن وسائر كتب الله العظيم، وهي آيات، أي: علامات على وجود الله وكمال قدرته وصدق الأنبياء، ويدخل بالأولى: من أنكر الله.
12. وسمِّيت الآية لأنَّها علامة على معناها، أو لأنَّها جماعة حروف وكلمات، يقال: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم، أو لأنَّها علامة على الانقطاع عمَّا قبلها وعمَّا بعدها باعتبار التمام لا باعتبار المعنى؛ لأنَّ المعنى كثيرًا ما يتمُّ بآيتين أو آيات، أو لأنَّها يُتعجَّب من إعجازها، يقال: فلان آية من الآيات!.
13. ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ ملابسوها ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا تفنى ولا يفنون ولا يخرجون، خاطب الله مشركي العرب ومنافقيهم، وقد يكون الخطاب على عموم الناس، ثمَّ خاطب اليهود خصوصًا فقال: ما طُلب من بني إسرائيل.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/86.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إنما كرر الأمر بالهبوط للتأكد والإيذان بتحتم مقتضاه، وتحققه لا محالة، أو لاختلاف المقصود، فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون، والثاني أشعر بأنهم اهبطوا للتكليف، فمن اتبع الهدى نجا، ومن ضله هلك.
2. دلت الآيات الكريمة على أن الله تعالى ـ في عظمته وجلاله ـ يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعته، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه، لا سيما عند الحيرة، والسؤال يكون بالمقال، ويكون بالحال، والتوجّه إلى الله تعالى في إفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها ـ كالبحث العلميّ، والاستدلال العقليّ، والإلهام الإلهيّ ـ.
3. إذا كان من أسرار الله تعالى، وحكمه، ما يخفى على الملائكة، فنحن أولى بأن يخفى علينا، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها، لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
4. إنّ الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم، وأجابهم عن سؤالهم بإقامة الدليل ـ بعد الإرشاد ـ إلى الخضوع والتسليم، وذلك أنه ـ بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ـ علّم آدم الأسماء، ثم عرضهم على الملائكة، كما سيأتي بيانه.
5. تسلية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان، على إنكار ما أنكروا، وبطلان ما جحدوا، فإذا كان الملأ الأعلى قد مثّلوا على أنهم يختصمون، ويطلبون البيان والبرهان، فيما لا يعلمون، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين، أي فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين، وترشد المسترشدين، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين، وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها، وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب، وكونه لا ريب فيه، والرسول، وكونه يبلغ وحي الله تعالى، ويهدي به عباده، واختلاف الناس فيها.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/296.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثم قال الله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ أي ألهمه الله إياها فأناب إليه بها وهى كما في سورة الأعراف: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ تاب آدم بذلك وأناب إلى ربه ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ أي قبل توبته؛ وعاد عليه بفضله ورحمته.
2. بين سبب ذلك بأنه تعالى هو التواب أي الذي يقبل التوبة كثيرا، فمهما يذنب العبد ويندم ويتب يتب الرب عليه، وبأنه هو الرحيم بعباده مهما يسيء أحدهم بما هو سبب لغضبه تعالى ويرجع إليه فإنه يحفه برحمته.
3. قال تعالى ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ أي فقد انتهى طور النعيم الخالص والراحة العامة، وادخلوا في طور لكم فيه طريقان: هدى وضلال، إيمان وكفران، فلاح وخسران.
4. ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ من رسول مرشد وكتاب مبين ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ الذي أشرعه، وسلك صراطي المستقيم الذي أحدده ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من وسوسة الشيطان، ولا مما يعقبها من الشقاء والخسران ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على فوت مطلوب، أو فقد محبوب، لأنهم يعلمون بهذه الهداية أن الصبر والتسليم مما يرضى الله تعالى ويوجب مثوبته، ويفتح للإنسان باب الاعتبار بالحوادث، ويقويه على مصارعة الكوارث، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته، وأفضل تعزية عما فقده.
5. الخوف عبارة عن تألم الإنسان من توقع مكروه يصيبه، أو توقع حرمان من محبوب يتمتع به أو يطلبه، والحزن ألم يلم بالإنسان إذا فقد ما يحب، وقد أعطانا الله جل ثناؤه الطمأنينة التامة في مقابلة ما تحدثه كلمة ﴿اهْبِطُوا﴾ من الخوف من سوء المنقلب، وما تثيره من كوامن الرعب، فالمهتدون بهداية الله تعالى لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، لأن اتباع الهدى يسهل عليهم طريق اكتساب الخيرات، ويعدهم لسعادة الدنيا والآخرة، ومن كانت هذه وجهته، يسهل عليه كل ما يستقبله، ويهون عليه كل ما أصابه أو فقده، لأنه موقن بأن الله يخلفه، فيكون كالتعب في الكسب، لا يلبث أن يزل بلذة الربح الذي يقع أو يتوقع.
6. سؤال وإشكال: إن الدين يقيد حرية الإنسان ويمنعه بعض اللذات التي يقدر على التمتع بها، ويحزنه الحرمان منها، فكيف يكون هو المأمن من الأحزان، ويكون باتباعه الفوز وبتركه الخسران؟ والجواب: إن الدين لا يمنع من لذة إلا إذا كان في إصابتها ضرر على مصيبها، أو على أحد إخوانه من أبناء جنسه الذين يفوته من منافع تعاونهم إذا آذاهم أكثر مما يناله بالتلذذ بإيذائهم، ولو تمثلت لمستحل اللذة المحرمة مضارها التي تعقبها في نفسه وفى الناس، وتصور مالها من التأثير في فساد العمران لو كانت عامة، وكان صحيح العقل معتدل الفطرة، لرجع عنها متمثلا بقول الشاعر: لا خير في لذة من بعدها كدر.. فكيف إذا كان مع ذلك يؤمن باليوم الآخر، ويعلم أن هذه المحرمات تدنس الروح فلا تكون أهلا لدار الكرامة في يوم القيامة.
7. ليست سعادة الإنسان في حرية البهائم بل في الحرية التي تكون في دائرة الشرع ومحيطه، فمن اتبع هداية الله فلا شك أنه يتمتع تمتعا حسنا ويتلقى بالصبر كل ما أصابه، وبالطمأنينة ما يتوقع أن يصيبه، فلا يخاف ولا يحزن يريد أن رجاء الإنسان فيما وراء الطبيعة هو الذي يقيه من تحكم عوادي الطبيعة فيه، وبدون ذلك الرجاء تتحكم فيه أشد مما تتحكم في البهائم التي هي أقوى منه طبيعة ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ فالتماس السعادة بحرية البهائم، هو الشقاء اللازم، وقد صرح بلفظ التمتع الحسن أخذا من قوله تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾
8. الآيات الدالة على أن سعادة الدنيا معلولة للاهتداء بالدين كثيرة جدا، وقد حجبها عن كثير من المسلمين قولهم في الكافرين: لهم الدنيا ولنا الأخرة، يغالطون أنفسهم بحجة القرآن عليهم، وآيات سورة طه في قصة آدم أوضح في المراد من آيات البقرة، وهى قوله عز وجل: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ الآيات.
9. الآيات: جمع آية، وهى كما قال الجمهور: العلامة الظاهرة، قال الراغب: وحقيقته لكل شيء ظاهر ملازم لشيء باطن يعرف به ويدرك بإدراكه حسيا كان كأعلام الطرق ومنار السفن أو عقليا كالدلائل المؤلفة من مقدمات ونتيجة.. واشتقاق الآية إما من أي فإنها هي التي تبين أيّا من أي والصحيح أنها مشتقة من التأبّي الذي هو التثبت والاقامة على الشي.. والأصح أن أصله قصد آية الشيء أي شخصه، ومنه قول الشاعر:
تنأيا الطير غدوته... ثقة بالشبع من جزره
أي تتحرى الطير وتقصد خروجه صباحا إلى القتال أو الصيد لثقتها بما سبق من التجارب بأن تستشبع مما يترك لها من الفرائس.
10. أطلقت الآية على كل قسم من الأقسام التي تتألف منها سور القرآن العظيم وتفصله من غيره فاصلة يقف القارئ عندها في تلاوته، ويميزها الكاتب له ببياض أو بنقطة دائرة أو ذات نقش أو بالعدد، والعمدة في معرفة الآيات بفواصلها التوقيف المأثور عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن كان أكثرها يدرك من النظم.
11. الآيات تطلق في القرآن على:
أ. هذه وهى الآيات المنزلة من عند الله تعالى، لأنها دلائل لفظية على العقائد والحكم والأحكام والآداب التي شرعها لعباده.
ب. كما تدل في جملتها على كونها من عند الله تعالى لاشتمالها على وجوه إعجاز البشر عن مثلها.
ج. وتطلق أيضا على كل ما يدل على وجود الخالق تعالى وقدرته ووحدانيته وصفات كماله من هذه المخلوقات، ومن نتائج العقول وبراهينها، أو على غير ذلك من السنن والعبر.
12. هذه الآية مقابل قوله قبله: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ﴾، أي وأما الذين لم يتبعوا هداي وهم الذين كفروا بنا وكذبوا بآياتنا المبينة لسبيل ذلك الهدى ـ كما قال قبل قصة آدم: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ ـ أو: وأما الذين كفروا بآياتنا اعتقادا، وكذبوا بها لسانا، فجزاؤهم ما يأتي والتكذيب كفر، سواء أكان عن اعتقاد بعدم صدق الرسول أم مع اعتقاد صدقه وهو تكذيب الجحود والعناد الذي قال الله لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أهله: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ كما أن الكفر القلبي قد يوجد مع تصديق اللسان كما هي حال المنافقين.
13. المعنى: والذين كفروا وكذبوا بآياتنا التي نجعلها دلائل الهداية وحجج الإرشاد بأن جحدوا بها وأنكروها، ولم يذعنوا لصدقها، اتباعا لخطوات الشيطان وعملا بوسوسته، وذهابا مع إغوائه ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وهذه الجملة تدل على الحصر أو الاختصاص الإضافي، أي أولئك الكافرون المكذبون البعداء هم دون متبعي هداي أصحاب النار وأهلها هم فيها خالدون لا يظعنون عنها، أي وهم في خوف قاهر، وحزن مساور.
14. ذكر محمد عبده بعد تفسير الكفر بالجحود، والتكذيب بالإنكار أن كل منهما يأتي في فرق من الناس، فمنهم من لا تقوى ولا إيمان له وهم الذين لا يؤمنون بالغيب لأنه ليس عندهم أصل للنظر فيما جاءهم، فهؤلاء منكرون وهم مكذبون لأن التكذيب يشمل عدم الاعتقاد بصدق الدعوى التي جاء بها الرسول واعتقاد كذبها، والجحود قد يأتي من المعتقد، قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ .. فهذا هو الطور الأخير للإنسان بعد ما وكل إلى كسبه، وجعل فلاحه وخسرانه بعمله، فمن لطف الله به أن أيده بهداية الدين بعد هداية الحس والوجدان والعقل، فبهذه الهدايات يرتقى بالتدريج ما شاء الله تعالى.
__________
(1) تفسير المنار: 1/280.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. أمر الله تعالى آدم وحواء وإبليس بالهبوط مرتين:
أ. الأولى للإشارة إلى أنهم يهبطون من الجنة إلى دار بلاء وشقاء، وتعاد واستقرار في الأرض إلى حين للتمتع بخيراتها.
ب. الثانية لبيان حالهم من حيث الطاعة والمعصية، وأنهم ينقسمون فريقين:
• فريق يهتدى بهدى الله الذي أنزله وبلّغه للناس على لسان رسله، وأولئك هم الفائزون ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
• وفريق سار في طريق الضلال وكذّب بالآيات، وأولئك جزاؤهم جهنم خالدين فيها أبدا.
2. ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ هذا الأمر لبيان أن طور النعيم والراحة قد انتهى وجاء طور العمل، وفيه طريقان: هدى وإيمان، وكفر وخسران.
3. ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ أي فمن استمسكوا بالشرائع التي أتى بها الرسل، وراعوا ما يحكم العقل بصحته بعد النظر في الأدلة التي في الآفاق والأنفس.
4. ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي إن المهتدين بهدى الله لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، فإن من سلك سبيل الهدى سهل عليه كل ما أصابه أو فقده، لأنه موقن بأن الصبر والتسليم مما يرضى ربه، ويوجب مثوبته، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته، وأحسن عزاء عما فقده، فمثله مثل التاجر الذي يكدّ ويسعى وتنسيه لذة الربح آلام التعب.
5. الأديان قد حرّمت بعض اللذات التي كان في استطاعة الإنسان أن يتمتع بها، لضررها إما بالشخص أو بالمجتمع، فمن تمثلت له المضارّ التي تعقب اللذة المحرّمة وتصور ما لها من تأثير في نفسه أو في الأمة فرّ منها فرار السليم من الأجرب، إلى أن المؤمن بالله واليوم الآخر، يرى في انتهاك حرمات الدين ما يدنّس النفس ويبعدها عن الكرامة، يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه.
6. الخلاصة ـ إن من جاءه الهدى على لسان رسول بلغه إياه واتبعه، فقد فاز بالنجاة وبعد عنه الحزن والخوف يوم الحساب والجزاء والعرض على الملك الديان، يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
7. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي وأما الذين لم يتبعوا هداي وهم الذين كفروا بآياتنا اعتقادا وكذّبوا بها لسانا، فجزاؤهم الخلود في النار بسبب جحودهم بها وإنكارهم إياها اتباعا لوسوسة الشيطان، وهذا مقابل قوله قبل: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾
8. التكذيب كفر سواء كان عن اعتقاد بعدم صدق الرسول، أو مع اعتقاد صدقه وهو تكذيب الجحود والعناد، وفي مثلهم يقول الله تعالى لنبيه: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ وقد يوجد الكفر بالقلب مع تصديق اللسان كما هي حال المنافقين.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/97.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ جاء بالفاء إيذانا بمبادرة آدم بطلب العفو، والتلقي استقبال إكرام ومسرة قال تعالى: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ [الأنبياء: 103] ووجه دلالته على ذلك أنه صيغة تفعل من لقيه، وهي دالة على التكلف لحصوله وتطلبه، وإنما يتكلف ويتطلب لقاء الأمر المحبوب بخلاف لاقى، فلا يدل على كون الملاقي محبوبا، بل تقول: لاقى العدو، واللقاء الحضور نحو الغير بقصد أو بغير قصد وفي خير أو شر، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا﴾ [الأنفال: 45]
2. التعبير بتلقي هنا مؤذن بأن الكلمات التي أخذها آدم كلمات نافعة له، وعلم أنها ليست كلمات زجر وتوبيخ، بل كلمات عفو ومغفرة ورضى وهي:
أ. إما كلمات لقنها آدم من قبل الله تعالى ليقولها طالبا المغفرة.
ب. وإما كلمات إعلام من الله إياه بأنه عفا عنه بعد أن أهبطه من الجنة اكتفاء بذلك في العقوبة، ومما يدل على أنها كلمات عفو عطف ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ بالفاء إذ لو كانت كلمات توبيخ لما صح التسبب.
3. تلقي آدم للكلمات إما بطريق الوحي أو الإلهام، ولهم في تعيين هذه الكلمات روايات أعرضنا عنها لقلة جدوى الاشتغال بذلك، فقد قال آدم الكلمات فتيب عليه، فلنهتم نحن بما ينفعنا من الكلام الصالح والفعل الصالح.
4. أصل معنى تاب رجع ونظيره ثاب بالمثلثة، ولما كانت التوبة رجوعا من التائب إلى الطاعة ونبذا للعصيان وكان قبولها رجوعا من المتوب إليه إلى الرضى وحسن المعاملة وصف بذلك رجوع العاصي عن العصيان ورجوع المعصي عن العقاب فقالوا تاب فلان لفلان فتاب عليه لأنهم ضمنوا الثاني معنى عطف ورضى فاختلاف مفادي هذا الفعل باختلاف الحرف الذي يتعدى به وكان أصله مبنيا على المشاكلة.
5. التوبة تتركب من علم وحال وعمل، فالعلم هو معرفة الذنب والحال هو تألم النفس من ذلك الضرر ويسمى ندما، والعمل هو الترك للإثم وتدارك ما يمكن تداركه وهو المقصود من التوبة، وأما الندم فهو الباعث على العمل ولذلك ورد في الحديث: الندم توبة)، أي لأنه سببها ضرورة أنه لم يقصر لأن أحد الجزءين غير معرفة.
6. قوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ تذييل وتعليل للجملة السابقة وهي ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ لأنه يفيد مفادها مع زيادة التعميم والتذييل من الإطناب كما تقرر في علم المعاني، ومعنى المبالغة في التواب أنه الكثير القبول للتوبة أي لكثرة التائبين فهو مثال مبالغة من تاب المتعدي بعلى الذي هو بمعنى قبول التوبة إيذان بأن ذلك لا يخص تائبا دون آخر وهو تذييل لقوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ﴾ المؤذن بتقدير تاب آدم فتاب الله عليه على جعل التواب بمعنى الملهم لعباده الكثيرين أن يتوبوا فإن أمثلة المبالغة قد تجيء من غير التكاثر فالتواب هنا معناه الملهم التوبة وهو كناية عن قبول توبة التائب.
7. تعقيب التواب بالرحيم لأن الرحيم جار مجرى العلة للتواب إذ قبوله التوبة عن عباده ضرب من الرحمة بهم وإلا لكانت التوبة لا تقتضي إلا نفع التائب نفسه بعدم العود للذنب حتى تترتب عليه الآثام، وأما الإثم المترتب فكان من العدل أن يتحقق عقابه لكن الرحمة سبقت العدل هنا بوعد من الله.
8. لم تذكر توبة حواء هنا مع أنها مذكورة في مواضع أخرى نحو قوله: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23]:
أ. لظهور أنها تتبعه في سائر أحواله وأنه أرشدها إلى ما أرشد إليه.
ب. وإنما لم يذكر في هذه الآية لأن الكلام جرى على الابتداء بتكريم آدم وجعله في الأرض خليفة فكان الاعتناء بذكر تقلباته هو الغرض المقصود.
9. كررت جملة ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا﴾ فاحتمل تكريرها:
أ. قيل: أن يكون لأجل ربط النظم في الآية القرآنية من غير أن تكون دالة على تكرير معناها في الكلام الذي خوطب به آدم فيكون هذا التكرير لمجرد اتصال ما تعلق بمدلول ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا﴾ [البقرة: 36] وذلك قوله: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [البقرة: 36] وقوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾، إذ قد فصل بين هذين المتعلقين ما اعترض بينهما من قوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 37] فإنه لو عقب ذلك بقوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ لم يرتبط كمال الارتباط ولتوهم السامع أنه خطاب للمؤمنين على عادة القرآن في التفنن فلدفع ذلك أعيد قوله: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا﴾ فهو قول واحد كرر مرتين لربط الكلام، ولذلك لم يعطف ﴿قُلْنَا﴾ لأن بينهما شبه كمال الاتصال لتنزل قوله: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ من قوله: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ منزلة التوكيد اللفظي ثم بنى عليه قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ الآية، وهو مغاير لما بنى على قوله: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ ليحصل شيء من تجدد فائدة في الكلام لكي لا يكون إعادة ﴿اهْبِطُوا﴾ مجرد توكيد ويسمى هذا الأسلوب في علم البديع بالترديد نحو قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [آل عمران: 188] وإفادته التأكيد حاصلة بمجرد إعادة اللفظ.
ب. وقيل هو أمر ثاني بالهبوط بأن أهبط آدم من الجنة إلى السماء الدنيا بالأمر الأول، ثم أهبط من السماء الدنيا إلى الأرض فتكون إعادة ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا﴾ للتنبيه على اختلاف زمن القولين والهبوط، وهو تأويل يفيد أن المراحل والمسافات لا عبرة بها عند المسافر، ولأن ضمير ﴿مِنْهَا﴾ المتعين للعود إلى الجنة لتنسق الضمائر في قوله: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا﴾ [البقرة: 35] وقوله: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ [البقرة: 36] مانع من أن يكون المراد اهبطوا من السماء جميعا إذ لم يسبق معاد للسماء.
10. الأوجه على تقدير أن تكون إعادة ﴿اهْبِطُوا﴾ الثاني لغير ربط نظم الكلام أن تكون لحكاية أمر ثان لآدم بالهبوط كيلا يظن أن توبة الله عليه ورضاه عنه عند مبادرته بالتوبة عقب الأمر بالهبوط قد أوجبت العفو عنه من الهبوط من الجنة، فأعاد له الأمر بالهبوط بعد قبول توبته، ليعلم أن ذلك كائن لا محالة لأنه مراد الله تعالى وطور من الأطوار التي أرادها الله تعالى من جعله خليفة في الأرض، وهو ما أخبر به الملائكة.
11. في هذا إشارة إلى أن العفو يكون من التائب في الزواجر والعقوبات، وأما تحقيق آثار المخالفة وهو العقوبة التأديبية فإن العفو عنها فساد في العالم لأن الفاعل للمخالفة إذا لم ير أثر فعله لم يتأدب في المستقبل فالتسامح معه في ذلك تفويت لمقتضى الحكمة، فإن الصبي إذا لوث موضعا وغضب عليه مربيه ثم تاب فعفا عنه، فالعفو يتعلق بالعقاب، وأما تكليفه بأن يزيل بيده التلويث الذي لوث به الموضع فذلك لا يحسن التسامح فيه، ولذا لما تاب الله على آدم رضي عنه ولم يؤاخذه بعقوبة ولا بزاجر في الدنيا، ولكنه لم يصفح عنه في تحقق أثر مخالفته وهو الهبوط من الجنة ليرى أثر حرصه وسوء ظنه، هكذا ينبغي أن يكون التوجيه إذا كان المراد من ﴿اهْبِطُوا﴾ الثاني حكاية أمر ثان بالهبوط خوطب به آدم.
12. ﴿جَمِيعًا﴾ حال، وجميع اسم للمجتمعين مثل لفظ (جمع) فلذلك التزموا فيه حالة واحدة وليس هو في الأصل وصفا وإلا لقالوا جاؤوا جميعين لأن فعيلا بمعنى فاعل يطابق موصوفه وقد تأولوا قول امرئ القيس: فلو أنها نفس تموت جميعة.. بأن التاء فيه للمبالغة والمعنى اهبطوا مجتمعين في الهبوط متقارنين فيه لأنهما استويا في اقتراف سبب الهبوط.
13. قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ الآية هو في معنى العهد أخذه الله على آدم، فلزم ذريته أن يتبعوا كل هدى يأتيهم من الله وأن من أعرض عن هدى يأتي من الله فقد استوجب العذاب، فشمل جميع الشرائع الإلهية المخاطب بها طوائف الناس لوقوع (هدى) نكرة في سياق الشرط وهو من صيغ العموم.
14. أولى الهدي وأجدره بوجوب اتباعه الهدي الذي أتى من الله لسائر البشر وهو دين الإسلام الذي خوطب به جميع بني آدم وبذلك تهيأ الموقع لقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فالله أخذ العهد من لدن آدم على اتباع الهدي العام كقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ [آل عمران: 81]
15. هذه الآية تدل على أن الله لا يؤاخذ البشر بما يقترفونه من الضلال إلا بعد أن يرسل إليهم من يهديهم فأما في تفاصيل الشرائع فلا شك في ذلك ولا اختلاف وأما في توحيد الله وما يقتضيه من صفات الكمال فيجري على الخلاف بين علمائنا في مؤاخذة أهل الفترة على الإشراك.
16. لعل الآية تدل على أن الهدى الآتي من عند الله في ذلك قد حصل من عهد آدم ونوح وعرفه البشر كلهم فيكون خطابا ثابتا لا يسع البشر ادعاء جهله وهو أحد قولين عن الأشعري، وقيل لا، وعند المعتزلة والماتريدية أنه دليل عقلي.
17. قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ شرط على شرط لأن (إما) شرط مركب من إن الشرطية وما الزائدة دالة على تأكيد التعليق لأن إن بمجردها دالة على الشرط فلم يكن دخول ما الزائدة عليها كدخولها على (متى) و(أي) و(أين) و(أيان) و(ما) و(من) و(مهما) على القول بأن أصلها ماما لأن تلك كانت زيادتها لجعلها مفيدة معنى الشرط فإن هذه الكلمات لم توضع له بخلاف (إن) وقد التزمت العرب تأكيد فعل الشرط مع إما بنون التوكيد لزيادة توكيد التعليق بدخول علامته على أداته وعلى فعله فهو تأكيد لا يفيد تحقيق حصول الجواب لأنه مناف للتعليق، ولذلك لم يؤكد جواب الشرط بالنون بل يفيد تحقيق الربط أي إن كون حصول الجواب متوقفا على حصول الشرط أمر محقق لا محالة فإن التعليق ما هو إلا خبر من الأخبار، إذ حاصله الإخبار بتوقف حصول الجزاء على حصول الشرط فلا جرم كان كغيره من الأخبار قابلا للتوكيد وقلما خلا فعل الشرط مع إما عن نون التوكيد كقول الأعشى:
إما ترينا حفاة نعال لنا... إنا كذلك ما نحفي وننتعل
وهو غير حسن عند سيبويه والفارسي، وقال المبرد والزجاج هو ممنوع فجعلا خلو الفعل عنه ضرورة.
18. قوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ من شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ لأن الفاء وإن دخلت في خبر الموصول كثيرا فذلك على معاملته معاملة الشرط فلتحمل هنا على الشرطية اختصارا للمسافة.
19. أظهر لفظ الهدى في قوله: ﴿هُدَايَ﴾ وهو عين الهدى في قوله: ﴿مِنِّي هُدًى﴾ فكان المقام للضمير الرابط للشرطية الثانية ب الأولى لكنه أظهر اهتماما بالهدى ليزيد رسوخا في أذهان المخاطبين على حد ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ [المزمل: 15، 16] ولتكون هاته الجملة مستقلة بنفسها لا تشتمل على عائد يحتاج إلى ذكر معاد حتى يتأتى تسييرها مسير المثل أو النصيحة فتلحظ فتحفظ وتتذكرها النفوس لتهذب وترتاض كما أظهر في قوله: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81] لتسير هذه الجملة الأخيرة مسير المثل ومنه قول بشار:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن... برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة... مكان الخوافي قوة للقوادم
وأدن إلى الشّورى المسدّد رأيه... ولا تشهد الشورى امرأ غير كاتم
فكرر الشورى ثلاث مرات في البيتين الثاني والثالث ليكون كل نصف سائرا مسير المثل وبهذا يظهر وجه تعريف الهدى الثاني بالإضافة لضمير الجلالة دون أل مع أنها الأصل في وضع الظاهر موضع الضمير الواقع معاد لئلا يفوت هاته الجملة المستقلة شيء تضمنته الجملة الأولى إذ الجملة الأولى تضمنت وصف الهدى بأنه آت من الله والإضافة في الجملة الثانية تفيد هذا المفاد.
20. الإتيان في قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ بحرف الشرط الدال على عدم الجزم بوقوع الشرط إيذان ببقية من عتاب على عدم امتثال الهدى الأول وتعريض بأن محاولة هديكم في المستقبل لا جدوى لها كما يقول السيد لعبده إذا لم يعمل بما أوصاه به فغضب عليه ثم اعتذر له فرضي عنه: إن أوصيتك يوما آخر بشيء فلا تعد لمثل فعلتك، يعرض له بأن تعلق الغرض بوصيته في المستقبل أمر مشكوك فيه إذ لعله قليل الجدوى، وهذا وجه بليغ فات صاحب (الكشاف) حجبه عنه توجيه تكلّفه لإرغام الآية على أن تكون دليلا لقول المعتزلة بعدم وجوب بعثة الرسل للاستغناء عنها بهدي العقل في الإيمان بالله مع كون هدي الله تعالى الناس واجبا عندهم، وذلك التكلف كثير في (كتابه) وهو لا يليق برسوخ
لا أرى الموت يسبق الموت شيء... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا
قدمه في العلم، فكان تقريره هذا كالاعتذار عن القول بعدم وجوب بعثة الرسل على أن الهدى لا يختص بالإيمان الذي يغني فيه العقل عن الرسالة عندهم بل معظمه هدي التكاليف وكثير منها لا قبل للعقل بإدراكه، وهو على أصولهم أيضا واجب على الله إبلاغه للناس فيبقى الإشكال على الإتيان بحرف الشك هنا بحالة فلذلك كانت الآية أسعد بمذهبنا أيها الأشاعرة من عدم وجوب الهدي كله على الله تعالى لو شئنا أن نستدل بها على ذلك كما فعل البيضاوي ولكنا لا نراها واردة لأجله.
21. قوله: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ نفي لجنس الخوف، و ﴿خَوْفٍ﴾ مرفوع في قراءة الجمهور وقرأه يعقوب مبنيا على الفتح وهما وجهان في اسم (لا) النافية للجنس وقد روي بالوجهين قول المرأة الرابعة من نساء حديث أم زرع (زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة)، وبناء الاسم على الفتح نص في نفي الجنس ورفعه محتمل لنفي الجنس ولنفي فرد واحد، ولذلك فإذا انتفى اللبس استوى الوجهان كما هنا إذ القرينة ظاهرة في نفي الجنس.
22. قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ يحتمل أنه من جملة ما قيل لآدم، فإكمال ذكره هنا استيعاب لأقسام ذرية آدم، وفيه تعريض بالمشركين من ذرية آدم، وهو يعم من كذب بالمعجزات كلها، ومن جملتها القرآن.
23. عطف على (من) الشرطية في قوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ هو من عطف جملة اسمية على جملة اسمية، وأتى بالجملة المعطوفة غير شرطية مع ما في الشرطية من قوة الربط والتنصيص على ترتب الجزاء على الشرط وعدم الانفكاك عنه لأن معنى الترتب والتسبب وعدم الانفكاك قد حصل بطرق أخرى فحصل معنى الشرط من مفهوم قوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ فإنه بشارة يؤذن مفهومها بنذارة من لم يتبعه فهو خائف حزين فيترقب السامع ما يبين هذا الخوف والحزن فيحصل ذلك بقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا﴾ الآية:
أ. أما معنى التسبب فقد حصل من تعليق الخبر على الموصول وصلته المومي إلى وجه بناء الخبر وعلته على أحد التفسيرين في الإيماء إلى وجه بناء الخبر.
ب. وأما عدم الانفكاك فقد اقتضاه الإخبار عنهم بأصحاب النار المقتضي للملازمة ثم التصريح بقوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، ويحتمل أنه تذييل ذيلت به قصة آدم لمناسبة ذكر المهتدين وليس من المقول له، والمقصود من هذا التذييل تهديد المشركين والعود إلى عرض قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: 21] وقوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 28] فتكون الواو في قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ اعتراضية والمراد بالذين كفروا الذين أنكروا الخالق وأنكروا أنبياءه وجحدوا عهده كما هو اصطلاح القرآن والمعنى والذين كفروا بي وبهداي كما دلت عليه المقابلة.
24. الآيات جمع آية، وهي الشيء الدال على أمر من شأنه أن يخفى، ولذلك قيل لأعلام الطريق آيات لأنهم وضعوها للإرشاد إلى الطرق الخفية في الرمال، وتسمى الحجة آية لأنها تظهر الحق الخفي، كما قال الحارث بن حلزة:
من لنا عنده من الخير آيا... ت ثلاث في كلهن القضاء
يعني ثلاث حجج على نصحهم وحسن بلائهم في الحرب وعلى اتصالهم بالملك عمرو بن هند.
25. سمى الله الدلائل على وجوده وعلى وحدانيته وعلى إبطال عقيدة الشرك آيات، فقال: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ [الأنعام: 4] وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 97] إلى قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 99] وقال: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ [الأنعام: 109]
26. سمي الله تعالى القرآن آية فقال: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ في سورة العنكبوت [50، 51]، وسمّى أجزاءه آيات فقال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ [الحج: 72] وقال: ﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ﴾ [الرعد: 1] لأن كل سورة من القرآن يعجز البشر عن الإتيان بمثلها كما قال تعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: 23]، فكان دالا على صدق الرسول فيما جاء به وكانت جمله آيات لأن بها بعض المقدار المعجز، ولم تسم أجزاء الكتب السماوية الأخرى آيات، وأما ما ورد في حديث الرجم أن ابن صوريا حين نشر التوراة وضع يده على آية الرجم فذلك على تشبيه الجزء من التوراة بالجزء من القرآن وهو من تعبير راوي الحديث.. والمراد بآياتنا هنا آيات القرآن أي وكذبوا بالقرآن أي بأنه وحي من عند الله.
27. الباء في قوله: ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ باء يكثر دخولها على متعلق مادة التكذيب مع أن التكذيب متعد بنفسه ولم يذكر أئمة اللغة خصائص لحاقها بهذه المادة والصيغة فيحتمل أنها لتأكيد اللصوق للمبالغة في التكذيب فتكون كالباء في قوله تعالى: ﴿ وامْسَحُوا برؤوسكم ﴾ [المائدة: 6] وقول النابغة: لك الخير أن وارت بك الأرض واحدا.. ويحتمل أن أصلها للسببية وأن الأصل أن يقال كذّب فلانا بخبره ثم كثر ذلك فصار كذب به وكذب بمعنى واحد والأكثر أن يقال كذّب فلانا، وكذب بالخبر الفلاني، فقوله: ﴿بِآيَاتِنَا﴾ يتنازعه فعلا كفروا وكذبوا.
28. قوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ بيان لمضمون قوله: ﴿أَصْحَابَ النَّارِ﴾ فإن الصاحب هنا بمعنى الملازم ولذلك فصلت جملة ﴿فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لتنزلها من الأولى منزلة البيان فبينهما كمال الاتصال.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/423.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إن آدم أحس بأنه عصى ربه، وأنه ظلم نفسه، فألهمهما الله تعالى أن يقرّا بالمعصية، وأن يطلبا منه سبحانه وتعالى غفران هذا العصيان ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف]، هذه هي الكلمات التي تلقياها من ربهما.
2. خرج آدم وزوجه من الجنة، ولم يكن فيها تكليف إلا أمرهما بألا يأكلا من شجرة معينة، خرجا إلى هذه الأرض، وكان التكليف، وكان اختبار بنى آدم فيها، وعلى قدر ما يفعلون من خير يكون جزاء الخير، وعلى قدر ما يكسبون من إثم يكون جزاؤه، وفى كل نفس استعداد للخير، وللشر، والخير هو الأصل؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ فكانت النفس الأمارة بالسوء بجوار النفس اللوامة فكان الاختبار بعد هبوط الأرض.
3. جاء التكليف عند نزول الأرض، وقوله: ﴿قُلْنَا﴾ معناه أنه أخرج من الجنة، وقال له تعالى بلسان التكوين: اهبطوا، والهبوط هنا معنوي أو حسى:
أ. والمعنوي أنهم نزلوا من الجنة حيث كان القرب من الملائكة الأطهار، وحيث كان العيش رغدا لا مشقة فيه، ولا جهد، بل هو راحة واطمئنان ـ إلى حيث اللغوب والمشقة، والمعترك الذي يكون فيه الغلب والقهر والانهزام.
ب. وحسى لأنه نزول من مكان عال إلى أدنى منه.
4. الهبوط المعنوي ظاهر؛ ولذا نقتصر عليه، لأن الحسى غير ظاهر، وإذا كان الهبوط حيث التكليف فالجميع يهبطون: آدم وزوجه وإبليس، والتكليف على الجميع، فكل ينال أثر عمله.
5. قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ يدل على أن الله تعالى يرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فالهدى الذي يجيء من قبل الله تعالى هو ما يكون بالرسالة الإلهية التي تكون عن طريق من يرسلهم الله تعالى مؤيدين بالمعجزات الظاهرة الباهرة.
6. قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا﴾ فيه (ما) زائدة في الإعراب، وليست زائدة في البيان؛ لأنها دالة على تأكيد الإتيان؛ ولذلك يكون بعدها تأكيد الفعل بنون التوكيد الثقيلة تأكيدا وجوبيّا عند أكثر علماء البيان، كالقسم لأن إما في معناه، بيد أن هذه تأكيد لفعل الشرط، وهنالك تأكيد لجواب القسم ـ وإن معنى التأكيد لفعل الشرط أن مجيء الهداية ثابت ثبوتا لا مجال للريب فيه.
7. تنكير هدى هنا للتعظيم والتكثير، فهو هدى يهدى إلى الحق، ويهدى إلى حياة قويمة مستقيمة، ويهدى إلى النفع الإنساني العام، وإلى استخراج ينابيع الأرض مما في باطنها، وإلى الفضيلة الإنسانية، والعدالة في كل نواحي الحياة.
8. جواب الشرط في قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ هو قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ﴾ أي أن الذين يتبعون ما يجيء به النبيون من رسالات إلهية فإنهم يكونون طائعين خاضعين لأحكام الله تعالى، محاربين للشيطان وإغرائه ووسوسته، ولا يعاقبون؛ ولذا قال تعالى: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾، وهو جواب ﴿فَمَنْ تَبِعَ﴾ لأنها هي الأخرى شرط، فكان جواب ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ جملة شرطية، أي فيها شرط وجواب، فقوله تعالى: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ جواب شرط الثانية.
9. معنى ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ أنهم يكونون في أمن من عذاب الله تعالى، ولا يحزنون على أمر فاتهم، لأنهم سبقت طاعتهم، ولا يكونون في حال حزن، بل في سرور، وعلى سرر متقابلين.. وليسوا كالذين يخضعون لوسوسة إبليس، وإغرائه، فلا يطيعون، ويجحدون، ولذا ذكر عقوبة الأشرار بجوار ثواب الأخيار ليدرك أهل الحق الفرق بين الفريقين.
10. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وكفروا معناها جحدوا أو ستروا ينابيع الإيمان في قلوبهم، وأفسدوا فطرة الله تعالى، وكذبوا بآياتنا.
11. آيات الله تعالى آيات كونية، وهى خلق السموات والأرض وكل ما في الكون مما يدل على الله تعالى، وأنه خالق كل شيء، وآيات تجيء على أيدى الرسل الذين يجيئون بهدى الله سبحانه، وهى المعجزات التي تدل على أن حامليها رسل من عند الله سبحانه وتعالى العلى القدير، وآيات تتلى في كتبه.
12. قد كذبوا بكل هذه الآيات؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي طمس الله تعالى على بصائرهم فلا يدركون حقا، ولا يذعنون لدليل، ولو كان من عند العزيز العليم.
13. كما ذكر سبحانه جزاء الذين اتبعوا الهدى، وآمنوا بالحق، وهو أنهم لا يخافون، ولا يحزنون، وذكر الخوف بقوله تعالى: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي لا ننزل بهم ما يوجب الخوف.
14. كما ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء المتقين الذين ينتفعون بالآيات والعظات، ذكر جزاء الكافرين فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ .
15. ذكر الله سبحانه وتعالى عقوبتهم في الآخرة بهذا النص السامي فابتدأ باسم الإشارة، وقد ذكرنا آنفا أن الإشارة إلى المذكور بصفات تكون الإشارة إلى الصفات، وفيها إيماء إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم التالي الذي هو خبر اسم الإشارة، والحكم أنهم أصحاب النار؛ أي أنهم الملازمون للنار لا يفارقونها، ولا تتخلى عنهم كما لا يتخلى الصاحب عن صاحبه، وذكر سبحانه وتعالى أنهم خالدون فيها، فقال تعالى: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وقد أكد خلودهم في النار بالجملة الاسمية، وتقديم الجار والمجرور، أي هم خالدون، وخلودهم مقصور عليها، فلا حول لهم ولا قوة.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/201.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ مشعر بأنّ التوبة ـ وهي من العبد الرجوع إلى ربّه من ذنبه ومعصيته، ومن الله سبحانه اللطف على عبده برحمته ـ لا تكون إلّا مسبوقة بتوبة من الله ـ تعالى ـ، فالتوبة من العبد توبة واحدة، ومن الله توبتان محفوفة بهما توبة العبد، كما يدلّ عليه أيضا قوله: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾
2. وقع في سورة الأعراف نظير هذا المعنى، وهو قوله تعالى: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ وهو تذلّل منهما وتسبيح لربّهما وتمسّك بصفتي المغفرة والرحمة، وهما كالفرع مع أصله.
3. يمكن أن يستظهر من ذلك أنّ هذه الكلمات هي التي تلقّاها آدم من ربّه أو تلقّت هي آدم من ربّه، على اختلاف القراءتين، غير أنّ وقوع قوله: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا﴾ قبل قوله: ﴿قَالَ اهْبِطُوا﴾ في سورة الأعراف، ووقوع قوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ﴾ بعد قوله: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا﴾ في هذه السورة، لا يساعد عليه.
4. إذا تدبّرت الآيات في هذه القصّة ـ وخاصّة ما في سورة طه ـ وجدت أنّ المستفاد منها:
أ. أنّ الأكل من الشجرة أوجب القضاء منه سبحانه بالهبوط والاستقرار في الأرض والحياة فيها، تلك الحياة الشقيّة التي حذّرهما الله ـ سبحانه ـ إيّاها حين نهاهما أن يقربا الشجرة هذا.
ب. وأنّ الاجتباء والتوبة ثانيا، تعقّب قضاء ثانيا بإكرامه عليه السلام بالهداية إلى العبوديّة، فالمقضيّ أوّلا كان نفس الحياة الأرضيّة، ثمّ بالتوبة طيّب الله تلك الحياة؛ بأن ركّب عليها الهداية إليه تعالى، فتألّفت الحياة من حياة أرضيّة وحياة سماويّة.
5. هذا هو المستفاد من تكرار الأمر بالهبوط في هذه السورة؛ حيث يقول سبحانه: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ إلى أن قال ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ وتوسيط التوبة بين الأمرين بالهبوط يشعر بأنّ التوبة وقعت ولمّا ينفصلا من الجنّة، وإن لم يكونا فيها كاستقرارهما قبل، ويشعر بذلك أيضا قوله سبحانه: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ بعد ما قال لهما: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ فأتى بلفظة (تلكما) بعد ما أتى بلفظة (هذه)، أي بالإشارة إلى البعيد بعد الإشارة إلى القريب.
6. سياق الآيات وخاصة قوله تعالى في صدر القصة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ يعطي أن آدم عليه السلام إنما خلق ليحيا في الأرض ويموت فيها وإنما أسكنهما الله الجنة لاختبارهما ولتبدو لهما سوآتهما حتى يهبطا إلى الأرض.. وكذا سياق قوله تعالى في سورة طه: ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ﴾، وفي سورة الأعراف: ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ﴾ حيث سبك قصة الجنة مع قصة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصة واحدة متواصلة.
7. بالجملة فهو عليه السلام كان مخلوقا ليسكن الأرض، وكان الطريق إلى الاستقرار في الأرض هذا الطريق، وهو تفضيله على الملائكة لإثبات خلافته، ثم أمرهم بالسجدة، ثم إسكان الجنة، والنهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الأرض.
8. آخر العوامل للاستقرار في الأرض، وانتخاب الحياة الدنيوية ظهور السوأة، وهي العورة بقرينة قوله تعالى: ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ فهو التمايل الحيواني ويستلزم التغذي والنمو أيضا فما كان لإبليس هم إلا إبداء سوآتهما.
9. وآدم وزوجته وإن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية ثم أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية، ولم يمهلا كثيرا، ليتم في الدنيا إدراكهما لسوآتهما ولا لغيرها من لوازم الحياة الدنيا واحتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنة، وأنه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما ولما ينفصلا ولما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح والملائكة، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا﴾ ولم يقل ما كان ووري عنهما، وهو مشعر بأن مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحياة الدنيا استدامة وإنما تمشت دفعة ما واستعقب ذلك إسكان الجنة فظهور السوآة كان مقضيا محتوما في الحياة الأرضية ومع أكل الشجرة، ولذلك قال تعالى: ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾، وقال تعالى: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾
10. الله تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا ولم يرجعهما إلى الجنة بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها ولو لم تكن الحياة الأرضية مع أكل الشجرة وظهور السوآة حتما مقضيا، والرجوع إلى الجنة مع ذلك محالا، لرجعا إليها بعد حط الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنة وهبوطهما هو الأكل من الشجرة وظهور السوآة، وكان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين، وقد قال تعالى في سورة طه في صدر القصة: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾، ثم ساق تعالى القصة.
11. هل هذا العهد هو:
أ. قوله تعالى: ﴿ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾
ب. أو أنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ﴾
ج. أو أنه العهد بمعنى الميثاق العمومي المأخوذ من جميع الإنسان، ومن الأنبياء خاصة بوجه آكد وأغلظ.
12. الاحتمال الأول غير صحيح لقوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ الآيتان فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة واقتراب الشجرة على ذكر من النهي، وقد قال تعالى: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ فالعهد المذكور ليس هو النهي عن قرب الشجرة.
13. الاحتمال الثاني، وهو أن يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتباع إبليس، فهو وإن لم يكن بالبعيد، كل البعيد، لكن ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإن العهد مخصوص بآدم عليه السلام كما هو ظاهر الآية مع أن التحذير عن إبليس كان لهما معا.
14. ذيل الآيات وهو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلي، لا العهد بمعنى التحذير عن إبليس، قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ فبحسب التطبيق ينطبق قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ على نسيان العهد، وهو كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبية والعبودية أنسب منه مع التحذير من إبليس، إذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الإعراض عن الذكر واتباع إبليس، وأما الميثاق على الربوبية فهو له أنسب، فإن الميثاق على الربوبية هو أن لا ينسى الإنسان كونه تعالى ربا له أي مالكا مدبرا أي لا ينسى الإنسان أبدا ولا في حال أنه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئا لا نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، أي لا ذاتا ولا وصفا ولا فعلا.
15. الخطيئة التي تقابل الميثاق الكلي هو إعراض الإنسان عن ذكر مقام ربه والغفلة عنه بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود ويرجع إلى نفسه من زخارف الحياة الدنيا الفانية البالية هذا.
16. إذا أمعنت النظر في الحياة الدنيا على اختلاف جهاتها وتشتت أطرافها وأنحائها ووحدتها واشتراكها بين المؤمن والكافر وجدتها بحسب الحقيقة والباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى والجهل به فالعارف بمقام ربه إذا نظر إلى نفسه وكذلك إلى الحياة الدنيا الجامعة لأقسام الكدورات وأنواع الآلام وضروب المكاره من موت وحياة، وصحة وسقم، وسعة وإقتار، وراحة وتعب، ووجدان وفقدان.. على أن الجميع (أعم مما في نفس الإنسان أو في غيره) مملوكة لربه، لا استقلال لشيء منها وفيها، بل الكل ممن ليس عنده إلا الحسن والبهاء والجمال والخير على ما يليق بعزته وجلاله، ولا يترشح من لدنه إلا الجميل والخير.
17. فإذا نظر إليها وهي هكذا لم ير مكروها يكرهه ولا مخوفا يخافه، ولا مهيبا يهابه، ولا محذورا يحذره، بل يرى كل ما يراه حسنا محبوبا إلا ما يأمره ربه أن يكرهه ويبغضه، وهو مع ذلك يكرهه لأمره، ويحب ما يحب ويلتذ ويبتهج بأمره، لا شغل له إلا بربه، كل ذلك لما يرى الجميع ملكا طلقا لربه لا نصيب ولا حظ لشيء غيره في شيء منها، فما له ولمالك الأمر وما يتصرف به في ملكه؟ من إحياء وإماتة، ونفع وضر وغيرها، فهذه هي الحياة الطيبة التي لا شقاء فيها البتة وهي نور لا ظلمة معه، وسرور لا غم معه، ووجدان لا فقد معه، وغنى لا فقر معه كل ذلك بالله سبحانه.
18. في مقابل هذه الحياة حياة الجاهل بمقام ربه، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربه لا يقع بصره على موجود من نفسه وغيره إلا رآه مستقلا بنفسه ضارا أو نافعا خيرا أو شرا فهو يتقلب في حياته بين الخوف عما يخاف فوته، والحذر عما يحذر وقوعه، والحزن لما يفوته، والحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو أعوان وسائر ما يحبه ويتكل ويعتمد عليه ويؤثره.. كلما نضج جلده بالاعتياد بمكروه والسكون إلى مرارة بدل جلدا غيره، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق، وحشى ذائب محترق، وصدر ضيق حرج، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.
19. إذا عرفت هذا علمت: أن مرجع الأمرين أعني نسيان الميثاق وشقاء الحياة الدنيا واحد، وأن الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق، وهذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لأهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾، وبدل ذلك في هذه السورة من قوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ .
20. من هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أن الشجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحياة الدنيا وشقاؤها، وهو أن يعيش الإنسان في الدنيا ناسيا لربه، غافلا عن مقامه، وأن آدم عليه السلام كأنه أراد أن يجمع بينها وبين الميثاق المأخوذ عليه، فلم يتمكن فنسي الميثاق ووقع في تعب الحياة الدنيا، ثم تدورك له ذلك بالتوبة.
21. قوله سبحانه: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا﴾ ظاهر السياق أنّه خطاب لآدم وزوجته ـ عليهما السلام ـ وإبليس ـ لعنة الله عليه ـ وقد خصّ آدم وزوجته بالخطاب في سورة طه؛ إذ قال: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ وخصّ إبليس به وحده في سورة الأعراف؛ إذ قال: ﴿فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾ فكأنّ قوله سبحانه: ﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ جمع بين الخطابين، وحكاية عن قضاء قضي به: من العداوة بين إبليس وبين آدم وذرّيّته، ومن حياتهم وموتهم في الأرض وبعثهم منها، وذرّيّة آدم معه في الحكم، على ما يعطيه ظاهر قوله: ﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ﴾ وقوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ إلى آخر الآيات؛ ومثله ما في ذيل الآيات في سورة طه من قضيّة تفريق الهابطين فريقين، فافهم.
22. في قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ دليل على أنّ إسجاد الملائكة لآدم إنّما كان بما أنّه خليفة أرضيّ، فكان المسجود له هو آدم، وحكم السجدة لجميع البشر، فمنزلته من بين البشر ـ في سجدة الملائكة ـ منزلة الكعبة من بين الجهات؛ وقد قال سبحانه: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ وقال: ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، وبالجملة، فيشبه أن تكون هذه القضيّة التي حكاها سبحانه ـ من إسكان آدم وزوجته الجنّة، ثمّ إهباطهما للأكل من الشجرة ـ كالمثل يمثّل به ما كان الإنسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة والكرامة والحبور والسرور، بسكونة حظيرة القدس، ومنزل الرفعة والقرب، ودار نعمة وسرور ونور وأنس، لا شقاء ولا ظلمة ولا وحشة فيها، مع رفقاء طاهرين وأخلّاء روحانيّين، وبجوار ربّ العالمين، ثمّ إنّه يختار بدله كلّ تعب وألم ومكروه، بالميل إلى حياة فانية وجيفة منتنة دانية، ثمّ إنّه لو رجع إلى ربّه وأناب إليه، أعاده إلى دار كرامته وسعادته، ولو لم يرجع وأخلد إلى الأرض واتّبع هواه، فقد بدّل نعمة الله كفرا وأحلّ نفسه دار البوار، جهنّم يصلاها وبئس القرار.
23. أنّ آدم عليه السلام وإن ظلم نفسه في إلقائها إلى شفا جرف المهلكة ومنشعب طريقي السعادة والشقاوة، فلو وقف في مهبطه فقد هلك، ولو رجع إلى سعادته الاولى فقد أتعب نفسه وظلمها، فهو ظالم لنفسه على كلّ تقدير، إلّا أنّه هيّأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة ما كان ينالها لو لم ينزل، فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر والذلّة والمسكنة والحاجة والقصور، وله في كلّ ما يصيبه ـ من التعب والكدّ والنائبة ـ روح وراحة في حظيرة القدس وجوار ربّ العالمين، فلله سبحانه صفات من عفو ومغفرة وتوبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلّا المذنبون، وله سبحانه في أيّام الدهر نفحات لا يرتاح بها إلّا المتعرّضون، والكلام طويل الذيل سيمرّ بك بعضه فيما سيجيء ـ إن شاء الله ـ
__________
(1) تفسير البيان: 1/121.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ هذه الكلمات مبهمة تلقاها آدم، أي قبلها أو تلقنها، فكانت سبباً لأن يتوب عليه، ولعلها دعوته إلى التوبة، والإيحاء أن يقولا: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ الآية [الأعراف: 23] أو إعلامه أن قد عصى بقوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: 22].
2. قال الهادي عليه السلام: والصحيح عندنا: أن الكلمات هو ما كان الله قد أعلمه بخلق من سيخلقه من ذريّة آدم ونسله، أنه سيكون منهم مطيع ويكون عاص باختيارهم، وأنه سبحانه يقبل التوبة من تائبهم إذا تاب وأخلص التوبة وراجع..) إلى آخره.
3. في تفسير هذه الكلمات يقول القاسم بن إبراهيم عليهما السلام: هن كلمات الاستغفار والتوبة والإنابة، ذكرهن آدم بعد المعصية، فطفى بهنّ ما وجب عليه من غضب ربّه، فلما أن تلكم بكلمات التوبة وأظهرهنّ صرف الله عنه العقاب وصار حكمه عند الله حكم من أناب وتاب)
4. لا مانع من هذا التفسير على أن يكون الله تعالى أمره أن يقول كلمات التوبة، فتلقاها من ربه وقالها، فكانت الكلمات من الله حين أمره بها، ومن آدم حين قبلها وتكلم بها، فكان (تلقَّى) هنا مثل (تلقن)
5. الأرجح الموافق لما في (سورة الأعراف) أن الكلمات قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ وأن تلقيها هو التوبة بقولهما: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [آية: 23] فهنا أجمل الكلمات وهناك بينها والقصة واحدة، والسياق واحد، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، ووجه كون قوله: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23] إلى آخره تلقياً للكلمات، أن الكلمات موعظة باعثة على التوبة، فكانت التوبة تلقياً لها وقبولاً يؤكد كونها قبولاً التطابق بين قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا﴾ [الأعراف: 22] وقول آدم: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23].
6. ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ ظاهره الأمر لآدم وزوجه والشيطان، وقوله: ﴿مِنْهَا﴾ ظاهر الضمير للجنة، وهذا يصحح ما ذكر أن إبليس لما طرد من السماء صار إلى جنة آدم ليغويه ويوقعه في المعصية.
7. ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ إرشاد إلى طريق الحق بكتاب أو وحي إلى نبي ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ والمراد في الآخرة يأمنون عذاب الآخرة وأهوالها، كذا قيل.. والأرجح: أن المعنى لا يخاف عليهم، والنفي هذا كقوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي ليس من شأنهم أن يخاف عليهم غيرهم أو لأنه الواقع لأن من عرفهم لا يخاف عليهم العذاب، ولا يحزنون كما يحزن أعداء الله في الآخرة؛ لأنه قابل ذلك بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هم الجاحدون لشيء مما يجب الإيمان به.
8. المكذبون بآيات الله: هم الذين يقولون: ليست آيات توجب الإيمان بما تدل عليه، والآية هي العلامة الدالة ومنها آيات القرآن؛ لأنها تدل على الحق، وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر الآية، فتأملها في مواردها نحو: ﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الشعراء: 197] ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً﴾ [الأعراف: 73]
9. الذين كفروا وكذبوا بآيات الله قد جمعوا بين جريمتين كبيرتين:
أ. الكفر بالله أو برسوله أو باليوم الآخر أو بالكتاب أو بالملائكة أو بالنبيين؛ لأن الكفر أساس الباطل وبعضه يدعو إلى بعض، فالكافر باليوم الآخر يتجرأ على الظلم وغيره من القبائح؛ لأنه لا يخاف العقاب ويفقد الرغبة في فعل الخير؛ لأنه لا يرجو الثواب، كما أشار إليه قول الله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الماعون: 1 ـ 3] ولا يصلح المجتمع الإنساني إلاَّ بالرهبة من العقاب والرغبة في الثواب.
ب. التكذيب بآيات الله يلجئون إليه تبريراً لكفرهم ومحاربة للحق وصداً للناس عن الإيمان.
10. الجمع بين الجريمتين شأن الأمم التي كذبت الرسل، وهي جمهور العالم الإنساني، وهو شأن المكذبين بالقرآن وبالرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهو أمر توارثته جماهير الأمم من عهد نوح عليه السلام أو من قبله إلى هذا الزمان على أنه أمر عظيم الخطر، فكان التقدم بذكره والتحذير منه من أول تكليف البشر بالشرائع هو الذي ينبغي إكمالاً للحجة على الأمم، وأصحاب النار هم سكانها الملازمون لها.
11. في قصة آدم عبرة ولا سيما لأهل العلم، فقد ترادفت عليه النعم حيث عُلّم الأسماء وجُعل خليفة في الأرض وأمِر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلاَّ إبليس، ومع ذلك تتابع عليه الوعيد:
أ. الأول: إذا أكل من الشجرة صار من الظالمين، وذلك يستلزم أنه يكون جزاؤه كجزاء سائر الظالمين إذا لم يتب.
ب. الوعيد الثاني: إذا أكل من الشجرة شقي بإخراجه من الجنة وجعله في دار العناء يحرث ويحصد ويغزل وينسج له ثوباً وغير ذلك، ويعرض له في بعض الحالات الجوع أو التعب أو الحر أو البرد.
12. سؤال وإشكال: هل الشقاء والظلم بمعنى واحد؟ والجواب: لا موجب لذلك، ولا دليل عليه إلاَّ أن يقال: إخراجه من الجنة وما لحقه بعد ذلك من العناء لا يسمى شقاء؛ لأنه صحيح البدن قوي معدّ للعمل بفطرته، فلا يكون العمل شقاء، وخروجه من الجنة المفوّت للرفاهيّة فيها إلى عيشه في دار العمل لا يبلغ أن يسمى شقاء، وإن كان فيه مشقّة؛ لأنه لم يثبت أنه كان في الجنة التي فيها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، ألا ترى أنه لم يذكر في جنة آدم أن فيها ما تشتهي نفسه أو ما يشاء، وإنما وصفت بأنه لا يجوع فيها ولا يعرى ولا يظمأ ولا يضحى، وهكذا حالة كثير من الناس في أرض العمل، فليس أسف الخروج منها شديداً بحيث يعد شقاء؛ لأنه لا يبلغ أسف الطفل إذا فطم، بل ولا قريباً منه بالنظر إلى أن آدم يعرف من نفسه الكفاءة للعيش في دار العمل بسهولة وهناء، لكن يقال: لا بد أن يحصل له في أول الأمر شدة وعسر حتى تحصل الثمرة والثياب والفراش والمسكن، والشقاء في اللغة: الشدة والعسر.
13. سؤال وإشكال: إذا لم يكونا واحداً، فكيف قال في سورة البقرة: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وفي سورة طه: ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ [طه: 117]؟ والجواب: هذه نفسها دليل لنا على أن الشقاء غير الظلم؛ لأن الظلم رتب الحكم به على الأكل من الشجرة والشقاء رتب على الخروج من الجنة، وهو متأخر عن الأكل من الشجرة، فقد كان من الظالمين قبل أن يشقى، وعادة القرآن أن يذكر في موضع شيئاً وفي موضع آخر شيئاً آخر من القصة الواحدة، انظر قصة آدم في (سورة البقرة) و(سورة الأعراف) ففي سورة البقرة ذكر الهبوط مرتين، وفي (سورة الأعراف) ذكر قوله: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا﴾ الآية [آية: 22] وكذلك غيرها من القصص في القرآن الكريم.
14. في قصة آدم عليه السلام عبرة من حيث أن المعصية كانت سبباً لزوال النعمة، وفي ذلك تحذير لذريته من زوال النعم بسبب المعاصي، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11] وعبرة قطع الطمع في دخول جنة الخلد مع الإصرار على المعاصي؛ لأن المعصية سببت الخروج من هذه الجنة، وهي دون تلك، فكيف يمكن دخول جنة الخلد التي لهم فيها ما يشاؤون مع العصيان، وفي نهج البلاغة نحو هذا عن أمير المؤمنين عليه السلام، وعبرة أن التوبة لم تنفع لإرجاع النعمة الفائتة بسبب المعصية، وإن سببت للخروج من الظلم والسلامة من العقاب؛ لأن توبة آدم عليه السلام لم تنفع لإرجاعه في الجنة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/98.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ ترتفع إلى الله من روح خاشعة خاضعة وقلب نابض بالحسرة والندم، ولسان ينطق بالتوبة، وكيان يرتجف بالتوسل، وذلك بالإلهام الإلهي من خلال الفطرة التي توحي بالمعرفة في علاقة النتائج بالمقدمات، وفي طريقة تغيير الموقف من دائرة السلب إلى دائرة الإيجاب، ليكون التحوّل الإنساني في الاعتراف بالذنب والاستسلام للندم، والعزيمة على التصحيح، والرجوع إلى الله بالعودة إلى طاعته فيما يكلفه به من مهمّات، وفيما يرشده إليه من إرشادات، لأن أوامر الله الإرشادية تتصل بمحبته لعبده لئلا يقع في قبضة الفساد، كما تتصل أوامره المولوية بحرصه عليه في البقاء في خط الاستقامة، وابتعاده عن خط الانحراف الذي يؤدي به إلى الزلل ويقوده إلى الهلاك.
2. إن الرجوع إلى القصة في سورة الأعراف يوحي بأن آدم الذي انطلق نحو التوبة في عملية تكامل مع حوّاء، وقف معها ليقولا في توبتهما: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23]، ويبدو من خلال هذه الآية، أن التوبة كانت قبل الهبوط إلى الأرض، بعد التوبيخ الإلهي والتذكير لهما بأن سقوطهما في التجربة الصعبة لم يحصل من حالة غفلة لا تعرف الطريق إلى الوعي، بل كان حاصلا بعد التحذير الإلهي من الأكل من الشجرة، ومن الشيطان، باعتباره عدوّا لهما، وذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 22]
3. يؤكد هذا التفسير للكلمات الحديث المرويّ في قوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ قال: لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الراحمين، لا إله إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم)، وهذا ما ينسجم مع الآية في أصل الفكرة ولكنه يختلف عنها في التفاصيل.
4. يعلّق صاحب تفسير الميزان على هذا القول، فيردّه بأن التوبة كما تدل عليه الآيات في هذه السورة ـ أعني سورة البقرة ـ وقعت بعد الهبوط إلى الأرض، قال تعالى: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ إلى أن قال ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ الآيات، وهذه الكلمات تكلم بها آدم وزوجته قبل الهبوط، وهما في الجنة كما في سورة الأعراف، قال تعالى: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ إلى أن قال: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ إلى أن قال: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [الأعراف: 22 ـ 24] الآيات، بل الظاهر أن قولهما: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ تذلّل منهما وخضوع قبال ندائه تعالى وإيذان بأن الأمر إلى الله سبحانه كيف يشاء، بعد الاعتراف بأن له الربوبية وأنهما ظالمان مشرفان على خطر الخسران.
5. نلاحظ على ذلك أن الآيات في سورة الأعراف وطه، تدل على أن التوبة كانت قبل الهبوط إلى الأرض:
أ. أما في الأعراف فإن الظاهر من الآية: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ إلى آخر الآية أنها تعبير عن التوبة والندم بقرينة: ﴿وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، فإن مدلولها، هو طلب الغفران والرحمة من الله لإدراكهما النتائج الخاسرة في حالة عدم حصولهما على ذلك، وليست مجرد تعبير عن التذلل والخضوع لله، في قبال ندائه وإيكال الأمر إليه، لأنه المالك للأمر كله.
ب. أما في سورة طه، فقد ذكر التوبة بعد العصيان وذلك قوله تعالى: ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ وذكر الأمر بالهبوط إلى الأرض ـ بعد ذلك ـ ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ [طه: 121 ـ 123].
أما آية سورة البقرة، فإنها لا تبتعد عن ذلك إلّا من خلال موقع الفاء التي لا مانع من حملها على خلاف الظاهر من الترتيب بقرينة ما جاء في سورة الأعراف وطه، والله العالم.
6. هناك تفسير آخر للكلمات؛ فقد جاء في الدر المنثور، للسيوطي، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه، رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى الله إليه: ومن محمد؟ فقال: تبارك اسمك، لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى الله إليه: يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك، ولولا هو ما خلقتك.. وقال الكليني في الكافي: وفي رواية أخرى في قوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ قال سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين.. وروى هذا المعنى أيضا الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم ـ كما جاء في الميزان.. ولكن صاحب الميزان يرى أن هذا المعنى بعيد عن ظاهر الآيات في بادي النظر، ومع ذلك فإنه يستقربه لأن (إشباع النظر والتدبر فيها ربما قرّب ذلك تقريبا، إذ قوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ﴾، يشتمل على معنى الأخذ مع الاستقبال، ففيه دلالة على أخذ آدم هذه الكلمات من ربه، ففيه علم سابق على التوبة، وقد كان عليه السّلام تعلّم من ربه الأسماء كلها، إذ قال تعالى للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كل ظلم ومعصية لا محالة، ودواء كل داء وإلّا لم يتم الجواب عما أورده الملائكة ولا قامت الحجة عليهم لأنه سبحانه لم يذكر قبال قولهم: ﴿يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ شيئا ولم يقابلهم بشيء دون أن علّم آدم الأسماء كلها، ففيه إصلاح كل فاسد، وقد عرفت ما حقيقة هذه الأسماء، وأنها موجودات عالية مغيبة في غيب السموات والأرض، ووسائط فيوضاته تعالى لما دونها، لا يتم كمال لمستكمل إلا ببركاتها، وقد ورد في بعض الأخبار أنه رأى أشباح أهل البيت وأنوارهم حين علم الأسماء، وورد أنه رآها حين أخرج الله ذريته من ظهره، وورد أيضا أنه رآها وهو في الجنة)
7. يمكن مناقشة ما ذكره السيد الطباطبائي بما يلي:
أ. أولا: إن حمل القرآن على خلاف ظاهره لا بد فيه من حجة واضحة تقرّب الفكرة الجديدة إلى الفهم العام بحيث تتبادر إليه بعد البيان، ولم يثبت سلامة هذه الروايات من حيث التوثيق السندي، بالإضافة إلى معارضتها بالروايات التي تؤكدها آية الأعراف.
ب. ثانيا: إن العلّامة الطباطبائي ركّز على كلمة التلقي، التي تعني معنى الأخذ مع الاستقبال، ففيه دلالة على أخذ هذه الكلمات من ربه، ففيه علم سابق على التوبة.. ولكن الكلمة لا تدل على ذلك ـ بحسب الظهور ـ لأنه يكفي في صدق التلقي الإلهام من خلال الفطرة، لأن كل شيء لدى الإنسان هو من الله، تماما كما هي الهداية من الله، وليس من الضروري أن يكون هناك علم سابق على التوبة، بل قد تكون القضية هي إيحاء الله له بأن يتوب ويتراجع ليتوب الله عليه، لأنه قد لا يكون عالما بذلك أو بأساليب التوبة، هذا مع ملاحظة مهمة، وهي أن الظاهر من الآية أن التلقي كان بعد المعصية، ولم يكن في حال جعل الخلافة لآدم.. وإذا لاحظنا الأحاديث، فإننا نرى أنها تتحدث عن مبادرة آدم للتوسل بهذه الأسماء من خلال تجربته النفسية، أو ملاحظته الرؤيوية مما رآه مكتوبا في السماء، أو مما شاهده من أشباح أهل البيت وأنوارهم.
ج. ثالثا: إننا ناقشنا ما استفاده صاحب الميزان من كلمة الأسماء أن المقصود بها الموجودات الحية العاقلة المغيبة في غيب السموات والأرض، وربما كان هناك مجال للجمع بين الروايات بأن آدم دعا ربه بما جاء في سورة طه متوسلا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل البيت عليهم السّلام.. ومهما كان الأمر، فإن الله قد أبهم أمر هذه الكلمات ونكّرها، للإيحاء بأن القضية هي قضية لطف الله بآدم في توجيهه نحو التوبة وتقريبه إليه، للتدليل على كرامته عنده، بخلاف إبليس الذي سلب الله عنه رحمته وأبعده عن مواقع القرب عنده، فلنجمل ما أجمله الله، ولنقف في التفاصيل على ما تثبت لنا حجيته، لأن أمر تفسير كلام الله من القضايا الكبيرة التي لا مجال للتساهل فيها بالاعتماد على رأي واحد.
8. ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ لأنه عرف منه صدق الندم، وإخلاص النية، ووعي الموقف، فآدم عليه السّلام لم يخالف أمر ربه من موقع التمرد، بل من حالة ضعف في وعي التجربة الجديدة التي لم يسبق له أن مرّ بها، أو عرف طبيعتها وخلفياتها، حيث كان تفكيره يتحرك في اتجاه صدق محدّثه الذي أقسم له أنه من الناصحين، فانفتح له قلبه الطاهر الطيب، وضعفت إرادته أمامه، وخيّل إليه أن المسألة ليست مسألة عصيان يستتبع غضب الله، بل هي مسألة نصيحة عادية يمكن أن يتجاوز الله أمرها في حالة عدم الاستجابة لها، ولا سيما أن مسألة الالتزامات القانونية الشرعية لم تكن واردة في حسابه، لأنها ليست مطروحة في المرحلة التي عاشها، مما جعله لا يعيش الذهنية القانونية في عملية الالتزام بالتعاليم، فكان ينسى العهد بسرعة، ويفقد العزم على الاستجابة له من موقع الضعف الإنساني لديه بالإضافة إلى ضعف التجربة في حياته.
9. هكذا أدخله الله في التجربة التي سقط فيها، ليضعه بعد ذلك في خط التجربة الأصعب في قضايا المسؤولية في الحياة في خط الخلافة، بعد أن اهتزت مشاعره بفعل الصدمة الأولى، فاجتباه إليه واختاره ليكون أول نبي في الأرض، بل ربما كانت المسألة تتجه في طبيعتها هذا الاتجاه التربوي الذي يتعرض فيه الإنسان الجديد للخطأ في تجربته الأولى ليعرف كيف يقف مع الصواب، وهكذا كانت التوبة نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى.
10. ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ لأنه هو الذي خلق في عباده نقاط ضعفهم التي قد يسقطون معها في الخطيئة، وأراد لهم أن يرجعوا إليه، ليستقيموا في الخط الصحيح، وليقبلهم من جديد في ساحة طاعته، وليرحمهم بمغفرته ورضوانه.. وأراد الله له ولذريته ـ بعد ذلك ـ أن ينطلقوا في المنهج الإلهي الذي يضع الحياة الإنسانية في خطين: خط الهدى وخط الضلال، فإن الله، سبحانه وتعالى، وضع لهم برنامجا عمليا في وحيه، بالإضافة إلى البرنامج الذي يوحي به العقل عندهم، ليلتزموا به ويستقيموا على نهجه.
11. وصف الله تعالى نفسه في هذه الآية بأنه التوّاب الرحيم، ليشعر الإنسان بعمق مبدأ التوبة وامتداده في علاقته بالله، باعتبار أنها من صفات الله المرتبطة برحمته، التي لا تنفصل عن حياة الإنسان، ولذا تحدث الله عنها بصفة المبالغة التي تعني الكثرة، فقد خلق الله الإنسان وعرف أن غرائزه قد تثور وتنحرف وتقوده إلى غير ما يرضي الله، فأراد أن يفتح للناس أبواب الرجوع إليه في كل وقت، ليستقيموا على طريقه، ويرجعوا إلى شريعته.
12. ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ والخطاب لآدم وحواء ـ على الظاهر ـ وإن كان يشمل الأمر بالهبوط إبليس أيضا، ففي الأرض مستقركم وحركتكم ومسئولياتكم، فليست لكم الحرية في أن تتحركوا على مزاجكم فيما تفعلون أو تتركون، لأن عبوديتكم لله الذي خلقكم تفرض عليكم أن تخضعوا له، وتطيعوه في أوامره ونواهيه، وتسيروا على منهاجه.
13. ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ مما أوحي به إليكم من خلال رسلي في كل شؤونكم العامة والخاصة وفيما يتصل بدوركم في رعاية الحياة من حولكم.
14. ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ وآمن بي وبرسلي وبرسالاتي وباليوم الآخر وعمل صالحا، فله الدرجة العليا عندي، وله النجاة في الآخرة، وله النعيم الخالد في الجنة، حيث الأمن والفرح والطمأنينة الروحية، ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ إذ من يعيش في أمان الله، فممن يخاف؟ ومم يخاف؟ ومن ينفتح على فرح رضوانه، فكيف يحزن، وعلى ماذا يحزن!؟
15. ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ هنا حدد الله القضية وخط السير للإنسان، المتجسّد بالهدى والعمل الذي ينزله على عباده، فهو الذي يحدد له دوره، وهو الذي يقرر له مصيره.
16. إنه الهدى الذي تتضح فيه الرؤية للبداية والنهاية في خط السير؛ الهدى في الفكر، وفي العمل، وفي الوسيلة، وفي الغاية، وفي جميع مجالات الحياة، فلا لبس ولا غموض في ذلك كله، إنه النور الذي يغدقه الله على روح الإنسان وفكره من خلال ألطافه ومن خلال آياته، لتكون إرادته حرة في الحركة من خلال وضوح الرؤية، فلا تتجمد أمام عوامل الشك والغموض، وليكون المصير الإنساني في الآخرة خاضعا لإرادة الإنسان واختياره بعد قيام الحجة عليه من عند الله، وليشعر الإنسان أولا وأخيرا بأن الحياة الدنيا تعني مواجهة المسؤولية من خلال الرسالات، وأن الدار الآخرة تعني مواجهة نتائج المسؤولية من خلال العمل.
17. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا حقائق الإيمان ﴿وَكَذَّبُوا﴾ الرسل وانحرفوا عن خط الرسالات، فكذبوا ﴿بِآيَاتِنَا﴾ الواضحة الجلية التي لا مجال فيها لإنكار منكر، ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ دائمون، لأن الله قد أقام عليهم الحجة في توحيده وربوبيته، وأخذ عليهم العهد في الالتزام بالمضمون الحيّ لمعنى العبودية المنطلقة من خلقه لهم، فأنكروا ذلك كله، فحقّت عليهم كلمة العذاب في نار جهنم وبئس المصير.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/252.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى التلقي:
أ. قيل: الاستقبال، وهو نفعل من اللقاء وصيغته توحي أنه اكتساب اللقاء، وهو يعني المحاولة للوصول إليه، فلا يكون إلا في المحبوب بخلاف اللقاء نفسه والملاقاة، فقد يستعمل في المحبوب وغيره، يقال: لقى فلان صديقه ولقى عدوه، ولاقى صديقه ولاقى عدوه.
ب. قيل: أن التلقي هنا بمعنى التلقن، وهو ـ وإن صح معنى ـ لا يصح لغة لأن قلب لام الفعل ياء إنما يصح إذا جانست العين نحو تسرى وتسرر، وأملي وأملل، وتقصي وتقصص، وتضني وتضنن، وليس تلقن من هذا الباب.
2. قرأ الجمهور: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ برفع آدم ونصب (كلماتٍ)، وعكس ابن كثير فنصب آدمَ، ورفع كلمات، وانتقد قراءته ابن جرير جريا على عادته في عدم الاحتراز من انتقاد القراءات؛ وعلى قراءة الجمهور فإن آدم استقبل الكلمات من ربه إذ ألهمه إياها، وعلى قراءة ابن كثير فالكلمات هي التي استقبلته استقبال المحب لمحبوبه، وهذا من باب المجاز، والأصل في تلقي الشيء للشيء جواز كون كليهما فاعلا ومفعولا، فإن كلا منهما تلقي الآخر، فلذلك يجوز إسناد التلقي إلى كل منهما.
3. هذه الكلمات:
أ. إما أن تكون معبرة عن التوبة والندم إلهمها الله آدم وزوجه، وعليه فهي ما ذكره الله عنهما في سورة الأعراف من قولهما: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين).. ويرجح لذكر توبة الله على آدم في هذه الآية معطوفة على تلقي الكلمات بالفاء التي تقتضي الترتيب والتعقيب، ومن المعلوم أن التوبة حصلت له من الله عقب إتيانه بهذه الكلمات المعبرة عن توبته إلى ربه.
ب. وإما أن تكون كلمات وجهها الله إليهما لإيقاظهما من غفلتهما، وتذكيرهما بعد نسيانهما، وعليه فهي ما ذكره الله من قوله لهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين)
4. لقائل أن يجمع بين القولين فيقول إن توبة الله عليه جاءت مع توبته هو إلى الله تعالى التي استلهمها من إدراكه لخطيئته وسماعه عتاب ربه، فلا إشكال في عطف توبته سبحانه عليه على عتابه الذي وجهه إليه بالفاء الترتيبية التعقيبية، على أن دلالة ﴿ تلقى من ربه ﴾ على ما صدر من ربه إليه أوضح منها على ما صدر منه إلى ربه.
5. يرى ابن عاشور أن التعبير بتلقي هنا مؤذن بأن الكلمات التي أخذها آدم كلمات نافعة له، فعُلم أنها ليست كلمات زجر وتوبيخ، بل كلمات عفو ومغفرة ورضا، وهي إما كلمات لُقنها آدم من قبل الله تعالى ليقولها طالبا المغفرة، وإما كلمات إعلام من الله إياه بأنه عفا عنه بعد أن أهبطه من الجنة اكتفاء بذلك في العقوبة، قال: ﴿ ومما يدل أنها كلمات عفو عطف فتاب عليه بالفاء إذ لو كانت توبيخ لما صح التسبب ﴾، ومن فهم أن الكلمات هي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ الآية، يسوغ له أن يقول: إن هذا التوبيخ لما كان باعثا إلى التوبة وهاديا للنفس إلى صوابها بعد خطئها، فهو أمر نافع لأن المصلحة مترتبة عليه.
6. أكثر الناس في الحديث عن هذه الكلمات وإيراد ما نسب إلى السلف عما يُراد بها، ومن ذلك:
أ. ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن أبي الدنيا، وعبد بن حميد والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس أن الكلمات هي قوله: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ في من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: أي رب أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم.
ب. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر عن أنس أنه قال في الكلمات هي لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، علمت سوءاَ وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ربي عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، إني عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
7. الروايات عن السلف في ذلك كثيرة متضاربة، وبعضها غير خارج عن كونه من شواذ التأويلات، والأولى الرجوع إلى القرآن نفسه، والتعويل على ما جاء فيه، ولذلك لا أرى العدول عن الوجهين السابقين، على أن الوجه الأول مروي عن جماعة من السلف، فقد أخرجه الثعلبي وابن المنذر عن ابن عباس، ورواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان، وعبد بن حميد عن محمد بن كعب القرظي وروى مثله عبد بن حميد عن الحسن، والضحاك، ومجاهد، ورواه أيضا ابن أبي حاتم عن مجاهد.
8. لفظة (تاب) ومشتقاتها دالة على الرجوع، وكذا أخواتها كآب وثاب، وتوبة العاصي إلى ربه رجوعه إلى طاعته واستقالته العثرة، واستغفاره مما وقع فيه، وتوبة الله عليه عوده بالمنة والإحسان إليه.
9. لما في ذلك من معنى العفو عُديت التوبة الصادرة من الله تعالى بعلى بخلاف توبة العبد فإنها رجوع محض فلذلك عديت بإلى الدالة على الغاية، فإن غاية ما يلتمسه العبد من ربه أن يحقق توبته ويكفر حوبته.
10. قوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ تذييل منطو على التعليل فإن قوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ﴾ تعليل لقوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾، والتواب على وزن فعال بمعنى كثير التوبة، فهو مشعر:
أ. بأن الله يتوب على عبده كلما تاب العبد إليه من أعماق قلبه، وبإخلاص سريرته وإن تكررت المعصية منه.
ب. ومن ناحية أخرى فإن التائبين بعد المعصية كثرة كاثرة، والله يتوب عليهم جميعا، فناسب ذلك لفظ (التواب) الدال على كثرة صدور التوبة منه تعالى.
11. في (الرحيم) تعليل لمدلول التواب، فإن سبب كثرة توبة الله على عباده رحمته بهم، وفي هذا تنبيه على أن توبته تعالى على العاصين من خلقه هي محض فضل وإحسان منه سبحانه، وليست واجبة عليه كما يقول أهل الاعتزال.
12. لم تذكر توبة حواء في هذه السورة اكتفاء بذكر توبة آدم لأن القصة سيقت من أجله، وقد ابتُدئت به، ومن ناحية أخرى فإن المرأة كثيرا ما يُطوى ذكرها ويقتصر على ذكر الرجل لأجل سترها وبيان تبعيتها له، وقد ذُكرت توبتهما معا في سورة الأعراف.
13. الأمر بالهبوط هنا يترتب عليه بيان أن الناس مجزيون في الآخرة بحسب أعمالهم في الدنيا، ومن المسلمات عند الجميع أن النفس البشرية مطبوعة على حب الحياة، فإذا ما أوذن الإنسان أن حياته على الأرض محدودة استحكم فيه القلق واستولى عليه الاضطراب إلا إذا علم ما يتبع مرحلة الفناء التي تلي الحياة، واطمأن إلى وجود حياة أخرى.
14. وإذا لم يستبن الإنسان ذلك من طريق الوحي فإن القلق والاضطراب لن ينفكا عنه، إذ المصير مبهم، والمستقبل معمى لا يمكن اكتناهه بالعقل، ولا بوسائل العلوم التجريبية، وإنما الوحي وحده هو الذي يزيح ستره ويكشف سره.
15. وقد أراد الله أن يرفع عن صدر آدم وزوجه هموم التفكير في هذا المستقبل الغامض فآذنهما بأن هذه الحياة المنصرمة تتبعها حياة سرمدية يلقي فيها كل عامل جزاءه، وفي ذلك طمأنينة لهما بأنهما لن يخسرا الخلود في النعيم إذا ما عملا صالحا وهما يرجوان من الله أن يوفقهما لصالحات العمل بعد تلك الورطة التي أوقعهما فيها الشيطان فكانت لهما درسا لا ينسيانه، كما أن في ذلك تبشيرا لهما بأن كل صالح من ذريتهما سينقلب إلى هذا المنقلب، وسيلقى هذا الجزاء الخالد، فإن كانت الجنة التي أهبطا منها هي جنة الخلد فإنهما سيعودان إليها بتوفيق الله مع عدد لا يحصى من ذريتهما، وإن كانت غيرها سيبدلان بها ما هو خير منها وأبقى.
16. بجانب ذلك فإن في هذا التبشير والإنذار حفزا لهما ولكل لبيب من ذريتهما على المسارعة إلى البر والتوقي من الفجور، فإن المنقلب إما إلى جنة عالية وإما إلى نار حامية، والبقاء في كل منهما ليس له أمد، ولا مصير بين هذين المصيرين، وحسبهما وحسب ذريتهما عظة وعبرة تلك الهفوة التي صدرت منهما فتجرعا غصص عاقبتها.
17. ذهب بعض المفسرين إلى أن الهبوط الأول هو الانتقال من الجنة إلى السماء، والهبوط الثاني هو الانتقال من السماء إلى الأرض، وهو قول مرفوض لأمرين:
أ. أولهما: أن الله تعالى قال إثر الأمر بالهبوط الأول: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ والمستقر والمتاع إنما هما في الأرض دون السماء.
ب. ثانيهما: أنه تعالى أمرهما هنا بالهبوط منها، والضمير في منها عائد إلى الجنة قطعا، لأن الضمائر السابقة لا تعود إلا إليها، فلا ينسجم البيان إذا ما فصل هذا الضمير عنها وأعيد إلى السماء على أن السماء لم يسبق لها ذكر حتى يُعاد إليها.
18. ذهب الفخر الرازي إلى أن إعادة الأمر بالهبوط لأن آدم وحواء تابا بعدما أمرهما الله بالهبوط فوقع في قلبهما انتساخ هذا الأمر لأنه كان بسبب الزلة وقد محتها التوبة فأعاد الله تعالى الأمر به ليعلم أنه ليس جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها وإنما هو لأجل تحقيق ما تقدم من وعده تعالى في قوله للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، ومقتضى رأيه أن الأمر بالهبوط ليس عقوبة على ارتكاب الخطيئة، وهو يتنافى مع قوله عز وجل لآدم وحواء تحذيرا من الشيطان: ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ فإنه صريح في أن إخراجهما من الجنة كان بسبب تلبسهما بالخطيئة التي أوقعهما فيها الشيطان، ولا ينافي ذلك تحقق الوعد الذي وعد الله به ملائكته بنفس هذا الهبوط فإن لله أن يرتب ما شاء من أمره على ما يشاء، وله تعالى في كل شيء حكمة.
19. ذهب ابن عاشور إلى أن هذه حكاية أمر ثان لآدم بالهبوط كي لا يظن أن توبة الله عليه ورضاه عنه عند مبادرته بالتوبة عقب الأمر قد أوجبت العفو عنه من الهبوط من الجنة فأعاد له الأمر بالهبوط بعد قبول توبته، ليعلم أن ذلك كائن لا محالة لأنه مراد الله تعالى، وطور من الأطوار التي أرادها الله تعالى من جعله خليفة في الأرض، وهو ما أخبر به الملائكة، وفيه إشارة أخرى وهي أن العفو يكون من التائب في الزواجر والعقوبات، وأما تحقيق آثار المخالفة ـ وهو العقوبة التأديبية ـ فإن العفو عنها فساد في العالم، لأن الفاعل للمخالفة إذا لم ير أثر فعله لم يتأدب في المستقبل، فالتسامح معه في ذلك تفويت لمقتضى الحكمة، فإن الصبي إذا لوث موضعا وغضب عليه مربيه ثم تاب فعفا عنه، فالعفو يتعلق بالعقاب، وأما تكليفه بأن يزيل بيده التلويث الذي لوث به الموضع فذلك لا يحسن التسامح فيه، ولذا لما تاب الله على آدم ورضي عنه ولم يؤاخذه بعقوبة ولا بزاجر في الدنيا، ولكنه لم يصفح عنه في تحقق أثر مخالفته، وهو الهبوط من الجنة ليرى أثر حرصه وسوء ظنه.. ورأيه يتفق مع رأي الفخر كما هو واضح من كلامه غير أنه أضاف إلى ذلك الإشارة التي ذكرها.
20. ذهب الزمخشري وجماعة إلى أن هذا تأكيد للأمر الأول وحمله ابن عاشور على أن تسميته تأكيدا ليست إلا لإعادة نفس الأمر الأول بلفظه، وإلا فقد ترتبت على هذه الإعادة فائدة لا تتم بدونها، وهي ارتباط البيان بعضه ببعض وتوضيح مراده للسامع فلو لم يعد هذا اللفظ نفسه لتوهم أن الخطاب في قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ للمؤمنين على عادة القرآن في التفنن، فهو قول واحد كرر مرتين لربط الكلام مع استقلاله في كل مرة بفائدة، ولذلك لم يعطف (قلنا) على ما قبله لما بينهما من شبه كمال الاتصال، وبناء على ها التوجيه، فالقول بالتأكيد لا ينافى المراد من إعادة الأمر.
21. (إما) مركبة من (إن) الشرطية و(ما) التأكيدية، والأصل في (إن) أن تكون في الشرط غير المقطوع به بخلاف (إذا)، وقد أوثرت عليها للإيماء إلى أن إتيان الهدى ليس واجبا على الله وإنما هو مجرد فضل منه تعالى غير أن اقترانها ب (ما) ودخول نون التوكيد على فعلها ينفيان شك السامع في عدم تحقق شرطها.
22. اختلف في معنى الهدى هنا:
أ. روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية أنه الأنبياء والرسل والبيان، وبنى عليه ابن جرير أن الخطاب هنا لغير آدم، بل هو لذريته لأنه نفسه كان من الرسل، مع أن ابن جرير نفسه ذكر أن الرسل إلى الأنبياء هم الملائكة وإلى سائر الناس هم الأنبياء.
ب. ذهب قوم إلى أن المراد بالهدى الكتب.
ج. وقال آخرون هو القرآن خاصة.
د. وقيل هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذان القولان ـ وإن صححهما ابن كثير ـ يردهما أن الخطاب لآدم وحواء وجميع ذريتهما، وليس خاصا بهذه الأمة وحدها، وقد خلت رسل جاءت بكتب من عند الله تعبدت الأمم السالفة بما فيها من الهدى والبيان.
23. استدلّ القطب في الهيميان للقول بأنه الرسل بقوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾، ولا أرى وجها للاستدلال بالآية لأنها في بني آدم بينما الخطاب هنا لآدم وحواء، وإنما تدخل فيه ذريتهما بالتبعية وقد علمتم أن آدم كان نفسه رسولا.
24. أولى الأقوال بالصواب هو أن الهدى كل ما تقوم به حجة الله على خلقه سواء كان عقلا أو وحيا؛ فالعقل حجة في معرفة به وجود الله، ومعرفة صفاته الذاتية، كالوحدانية، والقدم والبقاء، والعلم والقدرة؛ والوحي حجة في ذلك وفي سائر المعتقدات، وفي أحكام الله المتعلقة بأفعال العباد.
25. لا يبعد أن يكون هو الهدى هو الدين الذي تعبد الله به خلقه، فإن المتمسك به آخذ بحجرة هدى الله، ومستمسك بالعروة الوثقى منه، والمفرط فيه أصفر الكفين من كل خير، وانتظام حياة الفرد والمجتمع تتوقف عليه، فللنفس الإنسانية مطالب شتى، منها روحية ومنها جسدية، ومنها قلبية ومنها عقلية، والتأليف بين هذه الجوانب، والتنسيق بين هذه المطالب لا يتم إلا بعقيدة روحية يسري أثرها على كل شيء في الإنسان، ومصالح أفراد هذا الجنس متشابكة وشؤونهم متداخلة، فإذا لم يهيمن عليهم وازع من الدين أدى بهم الأمر إلى النزاع والشقاق، والتدافع والتنافر، ومن هنا كان الدين ضروريا للسعادة والنظام، إذ العقل وحده لا يكفي لأن يسد مسده، فإن العقول متباينة باختلاف المؤثرات النفسية والاجتماعية على أصحابها، فالتربية والتثقيف، والبيئة والمحيط لها أثر في تكوين الفكر وتوجيه العقل، بينما الدين فوق ذلك كله لأنه تنزيل من حكيم حميد يخضع له العقل والقلب، ويستسلم له الروح والجسد.
26. قد يتصور عبيد الشهوات أن في الدين حرمانا بسبب ردعه للإنسان عن الانطلاق وراء شهواته، والواقع أن تلك هي السعادة المطلوبة والغاية المحبوبة، فإن الإنسان إذا أطلق له العنان فاتبع هواه كان ذلك أخطر العوامل في تدمير الفرد والمجتمع، فقد تقوده شهواته إلى ما فيه هلاك نفسه، وفساد مجتمعه، والله لم يحرم في دينه شيئا إلا لما علمه من مصلحة لعباده في هذا التحريم، خفية كانت أم ظاهرة، عاجلة أم آجلة، وكفى سعادة أن يفوز الإنسان برضوان الله وما يترتب عليه من حياة الخلد والنعيم المقيم ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ في مقابل قيد نفسه عن بعض شهواتها في فترة قصيرة لا توازي شيئا بجانب حياة الأبد.
27. من هنا كان تغابن الناس الحقيقي بحسب اختلاف حظهم من التمسك بالدين فهم وإن تفاوتوا في الغنى والفقر، وفي الراحة والبؤس، وفي طول الأعمار وقصرها، وفي امتداد الأفكار وانحصارها، وفي قوة الأبدان وضعفها، وفي الجاه والسلطان إلى غير ذلك مما يعد التفاوت فيه ربحا أو خسارة، فإن ذلك لا يساوي شيئا بجانب التفاوت في التمسك بأهداب الدين، والاعتصام بحبل التقوى.
28. في إضافة الهدى إليه تعالى إيماء إلى أنه لا يأتي إلا منه، ولا يتلقى إلا عنه، سواء كان من كتبه التي أنزلها، أو من رسله الذين بعثهم، أو من العقل الذي نوره، واتباع الهدى سبب الأمان من الخوف، والوقاية من الحزن، فالمجتمع المتمسك بهدى الله مجتمع آمن مستقر لا خوف عليه مما يتهدد المجتمعات الضالة الفاسدة من عواقب سيئة، والفرد المتبع للهدى يبعث يوم القيامة آمنا مطمئنا تتلقاه الملائكة بالبشائر، وتطمئنه بالفوز والسعادة، فلذلك قال تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
29. الخوف انزعاج النفس لتوقع مكروه في المستقبل، والحزن تألمها لفوات محبوب أو لتوقع فواته، فهو يكون على ما وقع في الماضي، أو ما يتوقع في المستقبل، وهو مأخوذ من الحزن ـ أي ما غلظ من الأرض ـ فكأنه هم غليظ، وخصه الأكثرون بالواقع دون المتوقع، ويرده قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: إني ليحزنني أن تذهبوا به)، ولا داعي إلى تأويله.
30. اختلف المفسرون فيما يراد من الخوف والحزن المنفيين هنا عن اتباع الهدى على أقوال أبلغها أبو حيان في البحر المحيط إلى اثني عشر قولا، وأكثرها متداخل، وهي كلها ترجع إلى أنهم لا يحزنون على فائت ولا يخشون مما يستقبلهم، وهذه الحالة إنما هي في الحياة الآخرة طبعا عندما تتلقاهم الملائكة، ﴿أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾، أما في الدنيا فالمؤمنون أشد خوفا لعدم أمنهم من مكر الله، ولمعرفتهم بعظم الهول وجلل الخطب، فلذا كانوا أشد مراقبة للنفس ومحاسبة لها، ويدل على ذلك ما وصفهم الله به في كتابه كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ إلى قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾، وقد وصف الله بالخوف الأنبياء ـ وهم صفوته من خلقه ـ ومن ذلك قوله في زكريا وآله: ﴿ وكانوا يدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ﴾
31. كذا الحزن، فإن من شأن المؤمن أن يحزن في الدنيا بسبب شعوره بالتقصير في طاعة الله، وهو يرى نفسه دائما مسبوقا بالمجدين في الطاعة والمسارعة إلى الخيرات كما أنه يحزن ـ كما يحزن غيره ـ لما يعتريه من مصائب الدنيا ونوائبها.
32. ظاهر كلام محمد عبده في المنار أن الخوف والحزن منفيان عن أهل الهدى في الدنيا والآخرة، ونصه: فالمهتدون بهداية الله تعالى لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، لأن اتباع الهدى يسهل عليهم طريق اكتساب الخيرات ويعدهم لسعادة الدنيا والآخرة، ومن كانت هذه وجهته يسهل عليه كل ما يستقبله، ويهون عليه كل ما أصابه أو فقده، لأنه موقن بأن الله يخلفه فيكون كالتعب في الكسب لا يلبث أن يزول بلذة الربح الذي يقع أو يتوقع):
أ. المؤمن في الدنيا لا يبارحه الخوف لأنه الواقي من الخوف في الآخرة إذ لا يجمع الله على عبد خوفين، وفي الآيات القرآنية الواصفة للمؤمنين بالخوف والآمرة به، وفي أحاديث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يكفي دليلا على أن الخوف من الله ـ كرجائه تعالى ـ من أهم واجبات الدين، فبما يستقيم أود النفس، وتنزجر عن المعاصي، وتسابق إلى الخيرات، وإذا كان النبيون أشد خوفا من الله كما ثبت في الحديث، فما بالكم بسائر المؤمنين على أن خوف كل أحد إنما هو بقدر علمه وإيمانه، فكيف يقال إن المؤمنين لا يعتريهم الخوف في الدنيا؟
ب. الحزن أمر فطري جبلت عليه نفوس البشر وإن تباينت فيه بحسب اختلاف أمزجتها، وهو يعتري البر والفاجر، كيف وقد جلدا، فقد وصف الله يعقوب عليه السلام بقوله: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾، وحكى عنه قوله: ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ﴾، وقال لصفوة الأنبياء وخاتم المرسلين: ﴿ ولقد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ﴾، وثبت في الحديث أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ـ ودمعه ينسكب وقلبه يتألم على فراق قرة عينه وفلذة كبده إبراهيم الذي وُهبه على الكبر ـ (وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون)
33. استدلّ الفخر الرازي بهذه الآية على عدم خوف المؤمن بعد الموت لا في قبره، ولا عند بعثه ولا في الموقف، وعزز هذا الاستدلال بمدلول قوله تعالى: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾، وذهب الأكثرون إلى أنه لا دليل في الآية على نفي الخوف يوم القيامة عن المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد ذلك اليوم إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا.
34. الظاهر أن هؤلاء نظروا إلى أن من طبع الإنسان أن يتأثر بالهول النازل وإن كان على ثقة بأنه في مأمن منه، وأنتم تدرون أن الطبيعة البشرية في الآخرة لا تبقى بحسب ما كانت في الدنيا، ومن الدليل على ذلك ما ذكره الله من التقاول الذي يكون بين أهل النار من العذاب ـ والعياذ بالله ـ مع عدم تكدير ذلك صفو نعيمهم ولا إثارة مشاعر الألم والحزن في نفوسهم، وذلك مخالف للطبع البشري المألوف في الدنيا؛ فما المانع أن يكون الحال كذلك في الموقف؟ وما أشاروا إليه من وصف الله ورسوله لأهوال ذلك اليوم لا يخلو إما أن يكون من العمومات القابلة للتخصيص أو الروايات الأحادية التي لا تقوى على معارضة النصوص القاطعة برفع الخوف عن المؤمنين الصالحين نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾، وقوله: ﴿ ولا يحزنهم الفزع الأكبر ﴾
35. اتباع هدى الله الذي يترتب عليه الأمن من الخوف والسلامة من الحزن إنما هو باتباع مراشده أمرا ونهيا ومعرفة سننه في خلقه، وذلك ما جاءت به رسالاته التي بعث بها رسله واحتوته الرسالة الخالدة، رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم المتمثلة في كتاب الله الكريم وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فالتمسك بهما أصل النجاة من كل مخوف والسلامة من كل محزن.
36. بعد تقرير عاقبة المتبعين لهدى الله بين مآل أضدادهم الذين انحرفوا عن مسلك الهدى واتبعوا طرائق الضلال، بقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
37. يُلحظ إفراد الاسم الموصول في معرض الحديث عن المهتدين وجمعه عندما ذكر أعداؤهم الضالون، والحكمة في ذلك الإيماء إلى قلة المهتدين بجانب الكثرة الكاثرة من الضلال، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾، وقوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾
38. الكفر أعم من التكذيب لأنه يكون بالقلب وباللسان بينما التكذيب من عمل اللسان فالمكذب بلسانه كافر بما كذب به وان صدقه قلبه، ومن هذا الباب ما وصف الله به فرعون وقومه في قوله: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾، فهم موقنون بصدق آيات الله وإنما دعاهم الظلم والعلو إلى جحدها، ووصف الله بذلك كفار العرب في قوله لرسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾، فقد كانوا يكابرون أنفسهم في إنكار ما جاء به عليه أفضل الصلاة والسلام مع إيقانهم بصدقه، والمصدق بلسانه كافر إن لم يعتقد في قلبه صدق ما أقر لسانه بتصديقه، ومن هذا الباب كفر المنافقين الذين يدعون الإيمان بألسنتهم وقلوبهم فارغة منه، كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ويقولون: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾، وهم في كل ذلك كاذبون.
39. الآيات جمع آية وهي علامة ظاهرة على شيء خفي يعرف بها ويدرك بإدراكها سواء كانا حسيين، كمعلم الطريق، ومنارة السفينة، أو عقليين كالدلالة المؤلفة من مقدمات ونتيجتها، واختلف في مأخذها، فقيل من أي التفسيرية لأنها تبين أيا من أي، وقيل من التأبي وهو النظر والتؤدة.
40. أولى ما تفسر به الآيات هنا هو كل ما كان شاهدا على معرفته تعالى ودليلا على وحدانيته، وتبيينا لأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، فتدخل في ذلك المخلوقات المحسوسة والمعقولة، وما أوحاه الله إلى أنبيائه من تعليم لخلقه، وتبيين لما خفي عنهم علمه، ولا وجه لحصر هذه الآيات في القرآن لأنه تخصيص بغير مخصص، ولأن الخطاب لم يكن لهذه الأمة وحدها.
41. العدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر ـ في قوله: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ﴾ مع جواز أن يكون بدله فمن اتبعه لتقدم اسم الهدى ـ إنما هو لأجل التفخيم والاهتمام ليزداد المعنى رسوخا في أذهان المخاطبين، ولأجل استقلال هذه الجملة بنفسها بحيث لا تشتمل على ضمير يعود على ما ذكر فيما قبلها حتى يمكن اعتبارها مثلا سائرا، ونصيحة مشهورة ترددها الألسن فتتذكرها النفوس وتتأثر بها على حد قوله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾
42. المراد بكون الذين كفروا وكذبوا بآيات الله أصحاب النار أنهم يلزمونها كما يلزم الصاحب صاحبه غير أن الصحبة قد تكون دائمة وقد تكون مؤقتة، وقد نُفي الاحتمال الثاني بقوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ فلا مطمع لهم في الانفكاك عنها والخروج منها.
43. كان آدم عليه السلام بتوبته هذه قدوة لكل من تاب من ذريته بخلاف إبليس فهو قدوة للمصرين، ولينظر الإنسان لنفسه أي القدوتين يختار، هل يختار الاقتداء بأبيه الذي ينتمي إليه أو إلى الشيطان العدو المبين الذي لا يسعى إلا إلى إردائه في الجحيم؟
44. وكما وقع آدم في الخطيئة فإن ذلك أمر لا بد منه في ذريته، وإنما التلافي للأمر باتباع مسلكه في التوبة، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، والله تعالى ينادي عباده بأن يتوبوا ويبين لهم سعة فضله وعظيم رحمته ويحذرهم من الإصرار على العصيان، والاستخفاف بسوء عواقبه، ومن ذلك قوله: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
__________
(1) تفسير الخليلي: 3/112.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تعددت الآراء في تفسير (الكلمات)، التي تلقاها آدم عليه السّلام من ربّه:
أ. المعروف أنها الكلمات المذكورة في قوله تعالى: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
ب. وقال آخرون أن المقصود من الكلمات هذا الدعاء: اللهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فاغفر لي إنّك خير الغافرين.. اللهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فارحمني إنّك خير الرّاحمين.. اللهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فتب عليّ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم)، وهذا ما نقل في رواية عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السّلام.
2. مثل هذه التعابير ذكرها القرآن على لسان يونس وموسى عليهما السّلام، يونس ناجى ربّه فقال: ﴿سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، وموسى أيضا: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ﴾
3. في روايات وردت عن طرق أهل البيت عليهم السّلام أن المقصود من (الكلمات) أسماء أفضل مخلوقات الله وهم: محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ وآدم توسل بهذه الكلمات ليطلب العفو من ربّ العالمين فعفا عنه.
4. هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها، ولعلّ آدم تلقى من ربّه كل هذه الكلمات، كي يحدث فيه تغيير روحي تام بعد أن يعي حقيقة هذه الكلمات، وليشمله بعد ذلك لطف الله ورحمته.
5. الأمر بالهبوط تكرر في الآيتين: 36 و38 من هذه السّورة، أي قبل توبة آدم وحواء وبعدها، للمفسرين رأيان في سبب التكرار، بعضهم قالوا للتأكيد، وآخرون قالوا إن موضوع الجملة الاولى يختلف عن موضوع الجملة الثانية.
6. الظاهر أن الجملة الثانية توضح لآدم مسألة عدم انتفاء الأمر بالهبوط في الأرض بعد قبول التوبة، وعدم الانتفاء هذا يعود إمّا إلى أن آدم قد خلق منذ البداية لهذا الهدف، أو لأن هذا الهبوط أثر وضعي لعمله، وهذا الأثر الوضعي لا يتغير بالتوبة.
7. الضمير في ﴿اهْبِطُوا﴾ للجمع، بينما عدد المخاطبين اثنان فقط، هما آدم وزوجه، والجمع هنا ناظر إلى النتيجة التي تستتبع هبوط آدم وحواء في الأرض، فأبناؤهما وأجيال البشر بعد هما سيستقرون على هذه المعمورة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/176.
17. بنو إسرائيل والنعم والوفاء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈17⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ [البقرة: 40 ـ 46]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال لهم: هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟(1).
2. روي أنّه قال: إن إسرائيل، وميكائيل، وجبريل، وإسرافيل؛ كقولك: عبد الله(2).
3. روي أنّه قال: ﴿ اذْكُرُوا الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم ﴾، أي: بلائي عندكم وعند آبائكم، لما كان نجاهم به من فرعون وقومه(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾، أي: أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم، من النقمات التي عرفتم؛ من المسخ وغيره(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم(5).
__________
(1) أبو داوود الطيالسي: ٤/٤٥٠.
(2) ابن جرير: ١/٥٩٣.
(3) ابن جرير: ١/٥٩٥.
(4) ابن جرير: ١/٥٩٨.
(5) ابن جرير: ١/٦٠٣.
أبو العالية:
أبو العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب(1).
2. روي أنّه قال: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ فاخشون(2).
4. روي أنّه قال: يا معشر أهل الكتاب، آمنوا بما أنزلت على محمد، ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل(3).
5. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ لا تأخذوا عليه أجرا، وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم، علم مجانا كما علمت مجانا(4).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٩٥.
(2) ابن جرير: ١/٥٩٩.
(3) ابن جرير: ١/٦٠٠.
(4) ابن جرير: ١/٦٠٣.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ وإن آياته كتابه الذي أنزل إليهم، وإن الثمن القليل هو الدنيا وشهواتها(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٩٧.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾، يعني: نعمته التي أنعم على بني إسرائيل فيما سمى، وفيما سوى ذلك، فجر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ القرآن ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ التوراة والإنجيل(2).
__________
(1) تفسير مجاهد: ١/٧٧.
(2) ابن جرير: ١/٦٠٠.
البصري:
سئل الحسن البصري (ت 110 هـ) عن قوله تعالى: ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، ما الثمن القليل؟ قال الدنيا بحذافيرها(1).
__________
(1) ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا ـ موسوعة الإمام ابن أبي الدنيا: ٥/١٩٧ ـ.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: هي النعم التي خصت بها بنو إسرائيل؛ من فلق البحر، وإنجائهم من فرعون بإغراقه، وتظليل الغمام عليهم في التيه، وإنزال المن والسلوى، وإنزال التوراة، في نعم كثيرة لا تحصى(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ العهد الذي أخذ الله عليهم وأعطاهم الآية التي في سورة المائدة: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾(2).
__________
(1) تفسير البغوي: ١/٨٦.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ أي بطاعتي ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ أي أوف لكم بالجنة(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 81.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ لا تأخذوا طمعا قليلا وتكتموا اسم الله، فذلك الطمع هو الثمن(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٩٨.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ في الإيمان بمحمد، ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ الذي عهدت لكم من الجنة(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٣٥.
الصادق:
سئل الإمام الصادق (ت 148 هـ): جعلت فداك، إن الله يقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ وإنا ندعو فلا يستجاب لنا! قال: لأنكم لا توفون بعهد الله، لو وفيتم لوفى الله لكم(1).
__________
(1) تفسير القمّي: 1/46.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾، يعني: أجدادهم، فكانت النعمة حين أنجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوهم، وحين فرق البحر لهم، وحين أنزل عليهم المن والسلوى، وحين ظلل عليهم الغمام بالنهار من حر الشمس.. وفجر لهم اثني عشر عينا من الحجر، وأعطاهم التوراة فيها بيان كل شيء، فدلهم على صنعه ليوحدوه تعالى(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ يعني: اليهود، وذلك أن الله تعالى عهد إليهم في التوراة أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالنبيين والكتاب، فأخبر الله تعالى عنهم في المائدة، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾ بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ يعني: ونصرتموهم، ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [المائدة: ١٢]، فهذا الذي قال الله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ الذي عهدت إليكم في التوراة، فإذا فعلتم ذلك ﴿أُوفِ﴾ لكم ﴿بِعَهْدِكُمْ﴾، يعني: المغفرة والجنة، فعاهدهم إن أوفوا له بما قال المغفرة والجنة، فكفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبعيسى عليه السلام، فذلك قوله سبحانه: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، فهذا وفاء الرب تعالى لهم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ يعني: محمدا، فتتابع اليهود كلها على كفر به، فلما كفروا تتابعت اليهود كلها: أهل خيبر، وأهل فدك، وأهل قريظة، وغيرهم على الكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم قال لرؤوس اليهود: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، وذلك أن رؤوس اليهود كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة، وكتموا أمره عن سفلة اليهود، وكانت للرؤساء منهم مأكلة في كل عام من زرعهم وثمارهم، ولو تابعوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم لحبست تلك المأكلة عنهم، فقال الله لهم: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، يعني: بكتمان بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عرضا قليلا من الدنيا مما تصيبون من سفلة اليهود، ثم يخوفهم ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ في محمد؛ فمن كذب به فله النار(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٠٠.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٠١.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ ذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ إلى آخر الآية [المائدة: ١٢]، فهذا عهد الله الذي عهد إليهم، وهو عهد الله فينا، فمن أوفى بعهد الله وفى الله له بعهده(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ بالقرآن(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٩٧.
(2) ابن جرير: ١/٦٠٢.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ : بأمري، ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ قال بما أمرتكم به(1).
__________
(1) تفسير سفيان الثوري: ص٤٤.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ نعمه عامة، ولا نعمة أفضل من الإسلام، والنعم بعد تبع لها، وقرأ قول الله تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ﴾ [الحجرات: ١٧](1).
1. روي أنّه قال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ أوفوا بأمري أوف بالذي وعدتكم، وقرأ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ حتى بلغ: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١١١]، قال هذا عهده الذي عهده لهم(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٩٥.
(2) ابن جرير: ١/٥٩٨.
العسكري:
روي عن الإمام العسكري (ت 260 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: قال الله عز وجل: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ لما بعثت محمدا وأقررته في مدينتكم، ولم أجشمكم الحط والترحال إليه، وأوضحت علاماته ودلائل صدقه لئلا يشتبه عليكم حاله(1)..
2. روي أنّه قال: و ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ [البقرة: 40] الذي أخذته على أسلافكم أنبياؤكم، وأمروا أن يؤدوه إلى أخلافهم، ليؤمنن بمحمد العربي القرشي الهاشمي، المبان بالآيات، والمؤيد بالمعجزات التي منها: أن كلمته ذراع مسمومة، وناطقه ذئب، وحن عليه عود المنبر، وكثر الله له القليل من الطعام، وألان له الصلب من الأحجار، وصلب له المياه السيالة، ولم يؤيد نبيا من أنبيائه بدلالة إلا جعل له مثلها أو أفضل منها.. ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ الذي أوجبت لكم به نعيم الأبد في دار الكرامة، ومستقر الرحمة(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ في مخالفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإني القادر على صرف بلاء من يعاديكم على موافقتي، وهم الذين لا يقدرون على صرف انتقامي عنكم، إذا آثرتم مخالفتي(1).
__________
(1) علل الشرائع: ص43/1.
الناصر للحق:
ذكر الإمام الناصر للحق (ت 304 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ أي اعملوا بما عهدت إليكم أوف بما ضمنت لكم، من الجزاء على طاعتكم.
2. ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾، أي: خافوا وعيدي، وآمنوا بما أنزلت، مصدقا لما معكم من التوراة والكتب الأولى؛ يقول: آمنوا بالقرآن.
3. ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: ولا تبيعوا ما قد تبين لكم من الحق في القرآن بالثمن القليل، من اتباع الهوى وتقليد الرؤساء.
4. ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ أي: فاحذرون، وتوقوا عقابي وسخطي عند عصيانكم إياي.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/36.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل قوله: اذكروا نعمتي التي خصصت لكم دون غيركم من نحو ما جعل منكم الأنبياء، والملوك، كقوله: ﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: 20]
ب. يحتمل ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ يعنى: النجاة من فرعون، حيث كان يستعبدكم ويستخدمكم ويستحيى نساءكم، كقوله تعالى: ﴿يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ الآية [الأعراف: 141]
ج. قيل: من العالمين، خصوا بذلك من دون غيرهم.
د. وقيل: نعمته محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث وقت اختلافهم في الدين، وتفرّقهم فيما كان عليه من مضى من النبيين ليدلّهم على الحق من ذلك، ويؤلف بينهم بالبيّنات، كما أحوجهم الاختلاف إلى من يقوم بذلك من وجه يعلم صدقه في ذلك؛ فبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نعمة منه عليهم، إذ بطاعته نجاتهم، ولا قوة إلا بالله.
هـ. ويحتمل: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ أي وجهوا شكر نعمتي إلىّ، ولا توجهوها إلى غيرى.. فإن كان هذا المراد، فهم وغيرهم فيه سواء؛ إذ على كل منعم عليه أن يوجّه شكر نعمه إلى ربه.
2. كان الأمر بذكر النعمة ـ والله أعلم ـ أمرا بعرفانها في القلب أنها منّة، لا الذكر باللسان؛ إذ لا سبيل إلى ذكر كل ما أنعم عليه سوى الاعتراف بالعجز عن أداء شكر واحدة منها طول عمره.
3. قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ عهد الله على وجهين:
أ. عهد خلقة: لما جعل في خلقة كلّ أحد دلائل تدل على معرفته وتوحيده، وأنه لم يخلقه للعبث، ولا يتركه سدى.
ب. وعهد رسالة: على ألسن الرسل؛ كقوله تعالى: ﴿إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾ الآية [المائدة: 12]، وكقوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الآية [المائدة: 12]، وكقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الآية [آل عمران: 187]
4. قوله تعالى: ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ الذى وعدتكم؛ وهو الجنة، كقوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ﴾ الآية [المائدة: 12]
5. يقال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ أي أدوا ما فرضت عليكم من فرائض، ووجّهوا إلىّ شكر نعمتي، ولا تشكروا غيرى، ويكون أوفوا بعهدي الذي أخذ على النبيّين بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ الآية [آل عمران: 81]، ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 187] فيكون عهده تبليغ ما بيّن في كتبهم؛ من بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والإقرار به، والنصر له إذا بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
6. اختلف في معنى قوله: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ :
أ. قيل: أي اخشوا سلطاني وقدرتي.
ب. وقيل: اخشوا عذابي ونقمتي.
ج. وقيل: اخشوا نقض عهدي وكتمان بعث محمد نبيّي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
7. ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ على نبيّي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من القرآن.
8. اختلف في معنى ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ :
أ. قيل: أي موافقا لما معكم من الكتب؛ من التوراة، والإنجيل، وغيرهما، وهم قد عرفوا موافقته كتبهم؛ إذ لم يتكلفوا جمع هذا إلى كتبهم، ومقابلة بعض ببعض.
ب. أو يحتمل قوله: ﴿مُصَدِّقًا﴾ أي موافقا لما معكم من الكتب، وليس كما قال صنف من الكفرة ـ وهم الصابئون ـ: إن الإنجيل نزل بالرّخص، والتوراة نزلت بالشدائد، فقالوا باثنين؛ لما لم يروا نزول الكتب ـ بعضها على الرّخص وبعضها على الشدائد من واحد ـ حكمة، فقال عزّ وجل: ﴿مُصَدِّقًا﴾ أي موافقا للكتب، وأنها إنما نزلت من واحد لا شريك له، وإن كان فيه شدائد ورخص؛ إذ لله أن ينهى هذا عن شيء، ويأمر آخر، وينهى في وقت، ويأمر به في وقت، وليس فيه خروج عن الحكمة أن يأمر أحدا وينهاه في وقت واحد، وفى حال واحدة، وفى شيء واحد.
9. في الآية دلالة أن المنسوخ موافق للناسخ، غير مخالف له؛ لأن من الأحكام والشرائع ما كانت في كتبهم، ثم نسخت لنا، فلو كان فيها خلاف لظهر القول منهم إنه مخالف، وإنه غير موافق.. وكذلك في القرآن ناسخ ومنسوخ، فلم يكن بعضه مخالفا لبعضه، كقوله: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]
10. اختلف في معنى ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ :
أ. قيل: لا تكونوا أول قدوة يقتدى بكم في الكفر.
ب. وقيل: أي لا تكونوا أول كافر بما آمنتم به؛ لأنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به.
ج. وقيل: هم أول من التقوا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنه ظهر بين أظهرهم؛ فلو كفروا لكانوا أول من يكفر به فيلحقهم ما يلحق من سن الكفر لقومه مع ما يكونون هم بمعنى الحجة لغيرهم؛ إذ كانوا أعرف به، وأبصر بما معه من الأدلة والبراهين؛ فيقتدى بهم من لم يشهد ولا علم، فيكون عليهم ـ لو كفروا ـ ما على أول من كفر ـ ولا قوة إلا بالله ـ مع ما يلحقهم فيه وصف التعنّت والتمرد.
11. اختلف في معنى ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ :
أ. قيل: بحجتي.
ب. وقيل: الآيات في جميع القرآن هي الدين؛ كقوله: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: 16، 175]
12. اسم الشراء قد يقع من اختيار شيء بشيء وإن لم يتلفظ بلفظ الشراء.
13. ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ أي اتقوا عذابي ونقمتي، ويحتمل: سلطاني وقدرتي.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/443.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ : أي أوفوا بما وعدتم الله من الطاعة يوف بما وعدكم من الثواب في الدنيا والآخرة(1)..
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 274.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إسرائيل هو يعقوب ومعنى إسر عبد، ومعنى ايل هو الله كما يقال: ميكائيل أي خاصة الله وجبرائيل كميل.
2. الذكر اسم مشترك، فالذكر بالقلب ضد النسيان، والذكر باللسان ضد الإنصات، والذكر الشرف.
3. لا تغفلوا عن نعمتي التي أنعمت بها عليكم ولا تناسوها.. وفي النعمة التي أنعمها عليهم قولان:
أ. أحدهما: خصوص نعمه التي أنعم بها على خلقه، كما قال ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: 34].
ب. الثاني: وهو قول جيد أنه تعالى ذكرهم النعمة التي أنعم بها على آبائهم إذ نجاهم من آل فرعون وجعل منهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب وفجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى والنعم على الآباء نعم على الأبناء لأنهم يشرفون بشرف آبائهم.
4. ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ يحتمل وجهين أحدهما:
أ. قيل: أوفوا بعهدي الذي أخذت عليكم والعهد هو الميثاق وأن تؤمنوا وتصدقوا رسلي أوف بما وعدتكم إياه من الجنة.
ب. قيل: أوفوا بما أمرتكم به أوف بما وعدتكم إياه.
5. ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ يعني من القرآن على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ :
أ. يعني التوراة يعني مصدقاً بما في التوراة أنها من عند الله.
ب. ويجوز أن يكون معناه مصدقاً لما في التوراة من ذكر القرآن وبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم نبياً.
6. ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ :
أ. أي بالقرآن.
ب. ويجوز: ولا تكونوا أول كافر بما في التوراة من ذكر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ :
أ. قيل: أي علموا الناس بغير طمع تبغونه أو تطلبونه.
ب. ويحتمل: ولا تأخذوا على تغييره وتبديله ثمناً.
ج. وفيه وجه ثالث وهو أن يكون معناه ولا تأخذوا على كتم ما فيه من ذكر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/46.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال ابن عباس: إسرا) بالعبرانية: عبد، و(إيل) هو الله، فكان اسمه عبد الله.
2. قوله: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ الذكر اسم مشترك، فالذكر بالقلب ضد النسيان، والذكر باللسان ضد الإنصات، والذكر الشرف، وقال الكسائي: ما كان بالقلب فهو مضموم الذال، وقال غيره: هو لغتان: ذكر وذكر، ومعناهما واحد.. والمراد بالآية الذكر بالقلب، وتقديره: لا تغفلوا عن نعمتي، التي أنعمت عليكم ولا تناسوها.
3. في النعمة التي أنعمها عليهم قولان:
أ. أحدهما: عموم نعمه الّتي أنعم بها على خلقه، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل: 18]
ب. الثاني: وهو قول الحسن البصري، أنه أراد نعمه على آبائهم، إذ نجّاهم من آل فرعون، وجعل منهم الأنبياء، وأنزل عليهم الكتب، وفجّر لهم الحجر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، والنعم على الآباء، نعم على الأبناء، لأنهم يشرفون بشرف آبائهم.
4. في قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أوفوا بعهدي الذي أخذت عليكم من الميثاق، أن تؤمنوا بي وتصدقوا رسلي، أوف بعهدكم على ما وعدتكم من الجنة.
ب. الثاني: قاله عبد الله بن عباس: أوفوا بما أمرتكم، أوف بما وعدتكم إيّاه.
5. في تسمية ذلك عهدا قولان:
أ. أحدهما: لأنه عهده في الكتب السالفة.
ب. الثاني: أنه جعله كالعهد، الذي هو يمين للزوم الوفاء بهما معا.
6. ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ يعني من القرآن على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
7. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ يعني من التوراة، وفيه ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: مصدقا لما في التوراة، من توحيد الله وطاعته.
ب. الثاني: مصدقا لما في التوراة، أنها من عند الله.
ج. الثالث: مصدقا لما في التوراة من ذكر القرآن، وبعثه محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيّا.
8. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: ولا تكونوا أول كافر بالقرآن من أهل الكتاب، وهو قول ابن جريج.
ب. الثاني: ولا تكونوا أول كافر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا قول أبي العالية.
ج. الثالث: ولا تكونوا أول كافر بما في التوراة والإنجيل من ذكر محمد وتصديق القرآن.
9. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: لا تأخذوا عليه أجرا، وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: (يا ابن آدم علّم مجّانا كما علّمت مجّانا)، وهذا قول أبي العالية.
ب. الثاني: لا تأخذوا على تغييره وتبديله ثمنا، وهذا قول الحسن البصري.
ج. الثالث: لا تأخذوا ثمنا قليلا على كتم ما فيه من ذكر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتصديق القرآن، وهذا قول السدي.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/111.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ :
أ. قال أكثر المفسرين: إن المعنى، يا بني إسرائيل، أحبار اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو المحكي عن ابن عباس.
ب. وقال الجبائي: المعني به بنو إسرائيل من اليهود والنصارى، ونسبهم إلى الأب الأعلى، كما قال: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾
2. قوله: ﴿اذْكُرُوا﴾ الذكر، والتنبيه، والتيقظ، نظائر، ونقيضه: التغافل يقال: ذكره يذكره ذكراً، وأذكره إذكاراً، واستذكره استذكاراً، وتذكره تذكراً، وذكّره تذكاراً، واذّكر اذكاراً، وقال صاحب العين: الذكر: الحفظ للشيء تذكره. تقول: هو مني على ذكر، والذكر: جري الشيء على لسانك.. تقول: جرى منه ذكر، والذكر: الشرف، والصيت لقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ والذكر: الكتاب الذي فيه تفصيل الدين وكل كتاب من كتب الأنبياء ذكر، والذكر: الصلاة، والدعاء، وقيل: كانت الأنبياء إذا حزنهم أمر فزعوا إلى الذكر أي الصلاة، يقومون فيصلون، وذكر الحق: هو الصك.. والذكرى: هو اسم للتذكير، والذكر: ذكر الرجل معروف، والجمع: الذكرة ولهذا سمي ما ينسب اليه، المذاكير، ولا يفرد، وإن أفرد فمذكر، مثل مقدم ومقاديم، والذكر: خلاف الأنثى، وجمعه: ذكور، وذكران، ومن الدواب، ذكورة لا غير، والذكر من الحديد: أيبسه وأشده، ولذلك يسمى السيف، مذكر، وامرأة مذكرة، وناقة مذكرة: إذا كانت خلقتها تشبه خلقة الذكر، وأشبهته في شمائلها، وامرأة مذكار: إذا أكثرت ولادة الذكور، وعكسه: مئناث، ويقال للحبلى: أيسرت، وأكثرت أي يسر عليها، وولدت ذكوراً، والذكر: ضد النسيان، ورجل ذكر: شهم من الرجال، ماهر في أموره، واصل الباب: الذكر الذي هو التنبيه على الشيء، والذكر: الوصف بالمدح والثناء أو بالمدح والهجاء.
3. قوله: ﴿نِعْمَتِي﴾ . المراد بها الجماعة. كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ والنعمة وإن كانت على أسلافهم جاز أن تضاف اليهم، كما يقول القائل إذا فاخره غيره: هزمناكم يوم ذي قار، وقتلناكم يوم الفجار، وبددنا جمعكم يوم النار، والمراد بذلك، جميع النعم الواصلة اليهم، مما اختصوا به، دون آبائهم، أو اشتركوا فيه معهم، وكان نعمة على الجميع.
4. من نعم الله على بني إسرائيل: تبقية آبائهم حتى تناسلوا، فصاروا من أولادهم، ومن ذلك، خلقه إياهم على وجه يمكنهم الاستدلال على توحيده، والوصول الى معرفته، فيشكروا نعمه، ويستحقوا ثوابه ومن ذلك ما لا يحلون منه في كل وقت من منفعة ودفع مضرة.
5. اختلف في النعم التي دعوا إلى تذكرها:
أ. القول الأول هو التذكير بالنعمة عليهم في أسلافهم.
ب. القول الثاني: تذكير جميع النعم عليهم والنعم التي على أسلافهم، ما ذكر في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾
6. قوله: ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ . في موضع جزم، لأنه جواب الأمر، قال صاحب العين: تقول وفيت بعهدك وفاءً، ولغة أهل تهامة: أوفيت بعهدك، وهي القرآن. قال الشاعر في الجمع بين اللغتين:
أما ابن عوفٍ فقد أوفى بذمته... كما وفى بقلاص النجم حاديها
يعني به الدبران، وهو التالي وتقول: وفى، يفي وفاءً وأوفى، يوفي ايفاءً واستوفى، استيفاءً وتوفى، توفيا، ووفى، توفية، وتوافى، توافياً ووافاه موافاةً، وكل شيء بلغ تمام الكلام فقد وفى وتم، وكذلك درهمٌ وافٍ، لأنه درهم وفي مثقالًا، وكيل واف ورجل وفا: ذو وفاء وأوفى فلان على شرفٍ من الأرض إذا أشرف فوقها، وتقول: أوفيته حقه، ووفيته اجره، والوفاة: المنية توفى فلان، وتوفاه الله: إذا قبض نفسه، واصل الباب: الوفاء وهذا هو الإتمام.. ومن أكرم اخلاق النفس الوفاء، ومن أدونها، وارذلها الغدر.
7. معنى قوله: ﴿ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ قال ابن عباس: أوفوا بما أمرتكم من طاعتي، ونهيتكم عن معصيتي في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيره ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ اي ارضى عنكم، وأدخلكم الجنة.
8. سمى ذلك عهداً، لأنه تقدم بذلك اليهم في الكتب السابقة، كما قال: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، والعهد: هو العقد عليهم في الكتاب السابق بما أمروا به، ونهوا عنه.. قيل: انما جعله عهداً، لتأكيده بمنزلة العهد الذي هو اليمين، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾
9. اختلف في العهد الذي عاهدهم عليه:
أ. قال الحسن: العهد الذي عاهدهم عليه حيث قال: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ اي بجد ﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ اي ما في الكتاب في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾ الى آخر الآية.
ب. قال الجبائي: جعل تعريفه إياهم نعمه عهداً عليهم وميثاقاً لأنه يلزمهم القيام بما يأمرهم به من شكر هذه النعمة، كما يلزمهم الوفاء بالعهد، والميثاق الذي يأخذ عليهم.
القول الأول أقوى، لأن عليه أكثر المفسرين، وبه يشهد القرآن.
10. الرهبة، والخشية، والمخافة، نظائر، وضدها: الرغبة. تقول: رهب رهبة: وأرهبه، إرهاباً، ورهبه، ترهيباً، واسترهب، استرهاباً، ويقال: رهب فلانٌ يرهب. رَهبا، ورهاباً، ورهبة: إذا خاف من شيء، ومنه اشتقاق الراهب.. والاسم: الرهبة، ومن أمثالهم: رَهبوتٌ خير من رحموت. أي ترهب خير من أن ترحم، والترهب: التعبد في صومعة. الجمع: الرهبان، والرهبانية: خطباء.
11. الفرق بين الخوف والرهبة: أن الخوف هو شك في أن الضرر يقع أم لا، والرهبة: معها العلم بأن الضرر واقع عند شرط، فان لم يحصل ذلك الشرط، لم يقع.
12. ﴿آمَنُوا﴾ معناه صدِّقوا، فالإيمان هو التصديق.. ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ يعني بما أنزلت على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من القرآن.
13. قوله: ﴿مُصَدِّقًا﴾ :
أ. قيل: يعني ان القرآن مصدق لما مع اليهود من بني إسرائيل من التوراة، وأمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم ان فيه تصديقهم بالتوراة، لأن الذي في القرآن من الامر بالإقرار بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتصديقه نظير الذي في التوراة والإنجيل، وموافق لما تقدم من الاخبار به، فهو مصداق ذلك الخبر.
ب. وقيل: معناه انه مصدق بالتوراة والإنجيل الذي فيه الدلالة على انه حق.
القول الاول أوجه، لأن على ذلك الوجه حجة عليهم، دون هذا الوجه.
14. انما وحد (كافراً) في قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ﴾، وقبله جَمَع، لما ذكره الفرّاء والأخفش: وهو أنه ذهب مذهب الفعل، كأنه قال أول من كفر به، ولو أراد الاسم لما جاز إلا الجمع، ومثل ذلك قول القائل للجماعة: لا تكونوا أول رجل يفعل ذلك، قال المبرد: هذا الذي ذكره الفرّاء خارجٌ عن المعنى المفهوم، لأن الفعل هاهنا والاسم سواء، إذا قال القائل: زيد أول رجل جاء فمعناه أول الرجال الذين جاؤوا رجلًا رجلًا، ولذلك قال: أول كافر، وأول مؤمن ومعناه: أول الكافرين وأول المؤمنين لا فصل بينهما في لغة ولا قياس، ألا ترى أنك تقول: رأيت مؤمناً، ورأيت كافراً كما تقول: رأيت رجلًا لا يكون إلا ذلك، لأنك انما رأيت واحداً، كما تقول: رأيت زيداً أفضل مؤمن، وزيدٌ أفضل حرّ، وزيدٌ أفضل رجل، وأنبل غلام، وليس بين ذلك اختلاف، ولكن جاز ولا تكونوا أول قبيل كافر به، وأول حزب كافر به، وهو مما يسوغ فيه النعت، ويبين به الاسم، لأنك تقول: جاءني قبيلٌ صالح، وجاءني حيٌّ كريم، فينعت به الجمع، إذا كان الجمع اسماً واحداً لجميعه كقولك: نفر، وقبيل، وحزبٌ، وجمع ولا تقول: جاءني رجل كريم، وانت تريد برجل نفراً كما تقول: نفر كريم، لأن النعت جارٍ على المنعوت والاسم منفرد بنفسه ونظير قوله: أول كافر)، قول الشاعر:
فإذا هُم طَعِموا فألأم طاعم... وإذا هُم جاعوا فشرُّ جِياع
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ :
أ. قيل: يعني بالقرآن من أهل الكتاب: لأن قريشاً كفرت به قبلهم بمكة.
ب. وقيل: معناه: لا تكونوا أول كافر به أي لا تكونوا أول السابقين بالكفر فيه فيتبعكم الناس أي لا تكونوا أئمة في الكفر به.
ج. وقيل: لا تكونوا أول كافر به، اي أول جاحدٍ به إن صفته في كتابكم.
16. الأول والسابق والمتقدم نظائر، ويقال أول وآخر وأول وثان، والأول: هو الموجود قبل الآخر، والأول قبل كل شيء يناقض الوصف بانه محدث ويعلم ذلك ضرورة.
17. الهاء في قوله: به) قيل فيه ثلاثة اقوال:
أ. أحدها ـ انه يعود الى (ما) في قوله: ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ وهو الأجود.
ب. الثاني ـ لا تكونوا أول كافر به اي بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. الثالث ـ أول كافر بما معكم، من كتابكم، لأنهم إذا جحدوا ما فيه من صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد كفروا به.
18. القول الاول قول ابن جريج، وإنما كان هو الأجود لأنه أشكل بما تقدم، والثاني قول أبي الغالية، والثالث حكاه الزّجاج وقواه بأنهم كفروا بالقرآن.
19. إنما قيل: ولا تكونوا أول كافر بكتابكم اي صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه، وقال الرماني: وإنما عظم أول الكفر لأنهم إذا كانوا ائمة فيه وقدوة في الضلالة كان كفرهم أعظم، كما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: من سن سنَّة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها الى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئةً كان عليه وِزْرها ووِزْر من عمل بها الى يوم القيامة)
20. ليس في نهيه عن ان يكونوا أول كافر دلالة على انه يجوز ان يكونوا آخر كافر، لأن المقصود من الكلام النهي عن الكفر على كل حال، وخص الاول بالذكر لعظم موقعه، كما قال الشاعر:
من أناس ليس في أخلاقهم... عاجل الفحش ولا سوء الجزع
وليس يريد ان فيهم فحشاً آجلا.
21. ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ الثمن والعوض والبدل نظائر، وبينها فرق فالثمن: هو البدل في البيع من العين أو الورق، وإذا استعمل في غيرهما كان مشبهاً بهما ومجازاً، والعِوض: هو البدل الذي ينتفع به كائناً ما كان، واما البدل: فهو الجعل للشيء مكان غيره، ويقال: ثمنه تثميناً، وثامنه مثامنة، ويجمع الثمن اثماناً واثمناً، ويروى بيت زهير: وعزَّت اثمن البدن.. جمع ثمن، ومن روى أثمن البدن: أراد الثمينة منها أي أكثرها ثمنا، والثمن جزء من الثمانية اجزاء، من اي مالٍ كان، وثوب ثمين: إذا كان كثير الثمن والفرق بين الثمن والقيمة، أن الثمن قد يكون وفقا، وقد يكون بخسا، وقد يكون زائداً.. والقيمة لا تكون الا مساوية المقدار للمثمن من غير نقصان ولا زيادة، وكل ماله ثمن فهو مال، وليس كل ملك له ثمن.
22. القليل، والحقير، واليسير، نظائر، وضده: الكثير. تقول: قل، يقل، قلةً، واقل منه، إقلالا، واستقل استقلالا، وتقلل، تقللا، وقلله، تقليلا.. وقليل، وقلال، بمعنى واحد، ورجل قليل أي قصير، وقل الشيء: اقله، والقلة، والقل لغتان، والقلة: راس كل شيء، والرجل يقل شيئا: يحمله، وكذلك يستقله.. واستقل الطائر: إذا ارتفع، وقلة الجبل: أعلاه، وهي قطعة تستدير في أعلاه، وهي القلة، والقلة التي جاءت في الحديث مثل: قلال هجر. قيل إنها جرارٌ عظام.. والقلة: النقصان من العدد، وقيل: في الصغر.
23. في قوله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أدخل (الباء) في الآيات دون الثمن، وفي سورة يوسف، في الثمن في قوله: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ إنما كان كذلك، لأن العوض كلها، أنت مخير فيها في إدخال الباء. إن شئت قلت: اشتريت الثوب بكساءٍ، وإن شئت قلت: اشتريت بالثوب كساءً، أيهما جعلته ثمناً لصاحبه، جاز فإذا جئت الى الدراهم والدنانير، وضعت الباء في الثمن كقوله: ﴿بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾، لأن الدراهم ثمن أبداً.
24. روي عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ قال: كان ليحيى بن أخطب وكعب بن اشرف، وآخرين منهم مأكلة على يهود في كل سنة، وكرهوا بطلانها بأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فحرفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره، فذلك الثمن القليل الذي أريد به في الآية.
25. تقييده بـ ﴿ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا ﴾ لا يدل على أنه إذا كان كثيراً يجوز مشترىً به، لأن المقصود من الكلام، أن أي شيء باعوا به آيات الله كان قليلا، وانه لا يجوز أن يكون له ثمنٌ يساويه، كقوله: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ انما أراد بذلك نفي البرهان عنه على كل حال، وأنه لا يجوز أن يكون عليه برهان، ومثله قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وإنما أراد ان قتلهم لا يكون إلا بغير الحق نظائر ذلك كثيرة، ومثله قول الشاعر: على لاحِبٍ لا يهتدى بمناره.. وانما أراد: لا منار هناك فيهتدى به، ولذلك نظائر.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/180.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وقيل: إن أصل الاسم مضاف كقولك: عبد اللَّه؛ لأن (إسرا) عبد، و(إيل) اللَّه بالعبرانية، فكان معناه: عبد اللَّه، وقيل: معناه: صفوة اللَّه.
ب. الابن والولد نظيران غير أن الابن تخصيص الذكور دون الإناث، والولد يجمعهما، وأصل الابن من البناء، وهو وضع الشيء على الشيء. والابن مبني على الأب، فكان الأب أصل الابن، والابن فرعًا له، ويقال: هو ابنه على سبيل التبني، وهو مجاز وتوسع مشبه بالابن الحقيقي.
ج. الذِّكْر الحفظ للشيء، وضده النسيان، والذكر: جري الشيء على لسانك، والذكر: الشرف والصيت، والذكر: الكتاب الذي فيه تفصيل الدين، والذكر: الصلاة، وأصل الباب: التنبيه على الشيء.
د. النعمة: هي النفع الواصل إليه إذا قصد به الخير، أنعم عليه وأنعمت عليه.
هـ. الإيجاب والوفاء والإتمام نظائر، يقال: وَفَى يَفِي وفاء، ويقال: وَفَيْتُ بعهدي، وأوفيته لغة تهامة، وبه جاء القرآن.
و. العهد: الأمر، والعهد: الوصية.
ز. الرهبة: الخوف والخشية، ومنه الراهب، ومنه رهَبُوت خير من رحَمُوت، يعني أن تُرْهَبَ خير من أن تُرْحَمَ، والرهبة قيل: جنس برأسه من أجناس الأعراض عندنا أنه يرجع إلى الاعتقادات، فمن اعتقد في شيء ضررًا دعاه إلى اجتنابه، فهو رهبة، ومن اعتقد فيه نفعًا دعاه إلى فعله، فهو رغبة.
ح. الثمن: هو البدل في البيع، وإذا قيل في غير ذلك: ثمن، فهو مشبه به توسعًا، والثمن المطلق هو الدراهم والدنانير، ولذلك يلزمهما بالبدل، وإذا عينت هل يتعين؟.. قال أبو حنيفة: لا يتعين في العقود؛ لأن تعيينه لا يفيد، ولأنه يثبت في الذمة مطلقًا، وقال الشافعي: يتعين، ولا خلاف أنه يتعين في المغصوب.
ط. القليل: نقيض الكثير.
ي. الأول: هو الموجود قبل كل شيء، ونظيره السابق، ونقيضه الآخر، واللَّه هو الأول الآخر، وإذا أطلق على غيره فالمراد به أنه سابق لغيره، ومتأخر عن غيره.
أ. قيل: نزلت في اليهود والنصارى الَّذِينَ كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: هو عامٌّ.
ج. وقيل: في اليهود والنصارى.
2. ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ يعني يا بني يعقوب، نسبهم إلى الأب الأعلى، كما قال: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾، والمخاطب بهذا:
أ. قيل: أحبار اليهود الَّذِينَ كانوا حول المدينة، عن ابن عباس وأكثر أهل العلم.
ب. وقيل: جميع اليهود والنصارى، عن أبي علي.
3. اختلف في معنى ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ :
أ. قيل: أراد به النعم التي خصهم بها، وأراد الجنس وإن ذكر بلفظ الواحد كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ وأراد النعم.
ب. وقيل: أراد بهذه النعم ما أنعم به على أسلافهم من الرسل والكتب وأنجاهم من الغرق ومن فرعون وغير ذلك، ومثل هذا جائز يقال: فعلنا بكم كذا ويريد الأسلاف، والعرب تقول: نحن الَّذِينَ أعز الله بنا الإسلام.
ج. وقيل: أراد النعم الواصلة إليهم نحو تبقية آبائهم حتى تناسلوا، وخلقهم لينفعهم ويمكنهم بالآلات والقدرة والهداية من الاستدلال على توحيده وحياتهم وحواسهم السليمة وما يوصل إليهم حالاً بعد حال من الرزق، ويدفع عنهم من المكاره وما يسبغ عليهم من نعم الدين والدنيا.
4. اختلف في معنى ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ :
أ. قيل: ما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عن معصيتي في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (أُوفِ بِعَهْدِكم) أدخلكم الجنة، عن ابن عباس، وسمى ذلك عهدًا؛ لأنه تقدم به إليهم في الكتب السالفة، وقيل: هو ما عهد إليهم في سورة المائدة في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ الآية إلى آخرها، عن قتادة.
ب. قيل: هو جميع الأوامر والنواهي، وقيل: هو ما عهد إليهم في التوراة والإنجيل في أمر رسول الله فكتموه.
5. خصهم بتذكير العهد وغيرُهُم بمنزلتهم في لزوم الوفاء بالعهد لأن الإيمان بنبينا كان من تكليفهم، وبيان صفته ونعته مذكور في كتبهم فكتم علماؤهم ذلك عن عوامهم، ويجوز العناد على نفر يسير لحب الرياسة أو لغرض من الأغراض.
6. اختلف في ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ :
أ. قيل: أغفر لكم وأدخلكم الجنة إن آمنتم بمحمد كما أمرتكم، وذلك عهدي معكم في كتابكم.
ب. قيل: سمي الجزاء على الوفاء بالعهد وفاء، كقولهم: الجزاء بالجزاء.
7. سؤال وإشكال: العهد هو اللزوم فكيف يلزمه تعالى الثواب، وما سببه؟ والجواب: سبب الثواب التكليف؛ لأنه لولا الثواب لما حسن التكليف، فإذا كلفهم ضَمِنَ الثواب لهم، فحل مَحَلَّ العهد الذي يجب الوفاء به.
8. ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ يعني خافوا عذابي؛ لأن الخوف يكون من المضار، ولا مضرة أعظم من العقاب، وأمر بالتحذير منه لمجانبة معاصيه.
9. سؤال وإشكال: قد يحصل هذا الخوف لجميع المكلفين، فكيف يحصل الخوف؟ والجواب: الخوف قد يحصل بتيقن الضرر، وبتوهم الضرر، ثم قد يكون خوف العقاب، ويكون تحرزًا عن إحباط الثواب والإضْرَارِ بذلك، كخوف الأنبياء.
10. بَيَّنَ تعالى تفصيل ما أجمله في قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾، فقال تعالى: ﴿وَآمِنُوا﴾ أي صدقوا ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ يعني القرآن؛ لأنه أنزله من السماء إلى الأرض.
11. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ :
أ. قيل: جاء موافقًا لما تقدم الإخبار به في كتبهم، فهو حجة عليهم.
ب. وقيل: يصدق التوراة والإنجيل.
والأول الأوجه؛ لأنه يكون حجة عليهم.. وقيل: إنه خطاب لأحبار اليهود، وقيل: لأهل الكتاب.
12. ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ :
أ. قيل: أي أول كافر من أهل الكتاب.
ب. وقيل: كانت قريش كفرت قبلهم بمكة، عن أبي علي.
ج. وقيل: لا تكونوا أول جاحد أن صفته في كتابكم.
د. وقيل: لا تكونوا السابقين إلى الكفر فيتبعكم الناس، فتكونوا أئمة الكفر.
هـ. وقيل: لا تكونوا أول كافر بما معكم من كتابكم فيتبعكم الناس.
13. ﴿بِهِ﴾ :
أ. قيل: بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن ابن جريج وأبي علي.
ب. وقيل: بالقرآن، عن أبي العالية.
ج. وقيل: بما معكم من الكتاب، عن الأصم والزجاج.
14. عظم الكفر الأول لأنه يُقْتَدَى به فيصير من أئمة الكفر فيعظم دوره، كما أن المقتدى به في الخير يعظم ثوابه.
15. ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي﴾
أ. قيل: بحججي وما أنزلته من الكتب.
ب. وقيل: أراد به صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
16. ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ :
أ. قيل: لا تأخذوا على تعليمه أجرًا، قال أبو العالية: في كتابهم: يا ابن آدم علم مجانًا كما علمت مجانًا)
ب. وقيل: لا تأخذوا على كتمانه أجرًا وهو ما كانوا يأخذونه من الأموال والرُّشا في الدنيا ليكتموا صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
17. أدخل الباء ههنا في الآيات، وفي سورة يوسف على الثمن فقال: ﴿بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ لأن العُروض أنت مخير فيها إن شئت أدخلت الباء على أي البدلين، وإن شئت تقول: اشتريت الثوب بكساء، واشتريت الكساء بثوب، فإذا جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت الباء في الدراهم؛ لأدأ الدراهم ثمن أبدًا.
18. (ثَمَنًا) يعني عوضًا (قَلِيلًا) يعني أنه بالإضافة إلى نعيم الجنة قليل.
19. تدل الآيات الكريمة على:
أ. وجوب شكر النعمة والتحدث بها عند لحوق التهمة.
ب. وجوب الوفاء بعهد اللَّه، وهي أوامره ونواهيه.
ج. أن كثرة النعمة تقتضي الرهبة من كفرانها بالمعصية وإلحاق الوعيد بكتمانها.
د. أن أفعال العباد فعلهم؛ إذ لو خلق اللَّه فيهم لما صح العهد والأمر والنهي والوعد والوعيد؛ إذ لو خلق فيهم الكفر لأظهروا من غير هذه المعاني، وإن لم يخلق لما أظهروا مع هذه المعاني، بَيَّنَ أن مذهب الجبر يؤدي إلى بطلان الرسل والكتب والأمر والنهي.
هـ. تحريم الرشا في الدين؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون أمرًا يجب إظهاره فأخذ المال عليه لا يجوز، أو يحرم إظهاره فالأخذ لإظهاره حرام.
و. أن مَنْ غَيَّرَ شيئًا من أمر الدين لأغراض دنيوية فهو داخل في الوعيد وقد خسر خسرانًا مبينًا، وهذا الخطاب كما يتوجه إلى علماء بني إسرائيل يتوجه إلى علماء السوء من هذه الأمة إذا اختاروا الدنيا على الدين، فتدخل فيه الشهادات والفتاوى والقضاء وإظهار البدع ونحو ذلك.
20. مسائل نحوية:
أ. لا يجوز أن ينتصب ﴿ إِيَّايَ ﴾ بقوله: ﴿فَارْهَبُونِ ﴾ لا، لكن بما دل عليه لأنه مشغول بالضمير، كما لا يجوز: زيدا فَاضْرِبْهُ، فتنصب (زيدًا) بقولك: (فاضربه) إذْ كان مشغولا بضميره، ولكن نصبه بإضمار فعل يفسره هذا المذكور، كأنه قال: إياي ارهبوا فارهبون، ولكنه مستغنٍ عنه بما يفسره، فلا يظهر، وإنْ صح أنه مقدر.
ب. اختير تحريك الياء من ﴿نِعْمَتِي﴾ لأنه لقيها ألف ولام فلا بد من إسقاطٍ أو تحريك، فكان التحريك أولى؛ لأنه أدل على الأصل، وأشكل بما يلزم اللام في الاستئناف من فتح ألف الوصل، والاختيار في ﴿يَا عِبَادِيَ﴾ ألا تثبت بالإضافة في النداء، وإذا لم تثبت لم يكن سبيل إلى التحريك.
ج. نصب ﴿مُصَدِّقًا﴾ لأنه حال من الهاء المحذوفة كأنه قال: أنزلته مصدقًا، وقيل: انتصب ب ﴿آمَنُوا﴾، تقديره: آمنوا بالقرآن مصدقًا.
د. لم وحد كافر، وقبله الجمع: قال الفراء: لأنه في معنى الفعل كأنه أول من كفر به، ولو أريد الاسم لم يجز إلا بالجمع كقولك للجماعة: لا تكونوا أول رجال يفعلون، ولا يجوز: لا تكونوا أول رجل، وقال المبرد: معناه أول قبيل كافر، وأول حزب كافر به، فيكون نعت الجمع.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/349.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الابن، والولد، والنسل، والذرية، متقاربة المعاني، إلا أن الابن: للذكر، والولد: يقع على الذكر والأنثى، والنسل والذرية: يقع على جميع ذلك، وأصله من البناء: وهو وضع الشيء على الشيء، فالابن: مبني على الأب، لأن الأب أصل والابن فرع.. والبنوة مصدر الابن وإن كان من الياء، كالفتوة مصدر الفتى، وتثنيته فتيان.
ب. إسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.. وقيل: أصله مضاف لأن أسر: معناه عبد، وآيل: هو الله بالعبرانية، فصار مثل عبد الله وكذلك جبرائيل وميكائيل.
ج. الذكر: الحفظ للشيء بذكره، وضده النسيان.. والذكر: جري الشيء على لسانك.. والذكر: الشرف في قوله ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ والذكر: الكتاب الذي فيه تفصيل الدين، وكل كتاب من كتب الأنبياء ذكر.. والذكر: الصلاة والدعاء.. وفي الأثر: كانت الأنبياء إذا أحزنهم أمر فزعوا إلى الذكر أي: إلى الصلاة.. وأصل الباب: التنبيه على الشيء.
د. وفى: قال صاحب العين: تقول: وفيت بعهدك وفاء، وأوفيت لغة تهامة، قال الشاعر في الجمع بين اللغتين:
أما ابن عوف فقد أوفى بذمته... كما وفى بقلاص النحر حاديها
يعني به الدبران وهو التالي.
هـ. العهد: الوصية.
و. الرهبة: الخوف.. وضدها الرغبة.. وفي المثل: (رهبوت خير من رحموت) أي: لأن ترهب خير من أن ترحم.
ز. أول كافر: قال الزجاج: يعني أول الكافرين، وفيه قولان: قال الأخفش: معناه: أول من كفر به، وقال غيره من البصريين معناه: أول فريق كافر به أي: بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وقال: وكلا القولين صواب حسن، ونظير قوله أول كافر به قول الشاعر:
وإذا هم طعموا، فألأم طاعم... وإذا هم جاعوا، فشر جياع
ح. الثمن، والعوض، والبدل، نظائر.. وبينها فروق: فالثمن هو البدل في البيع من العين أو الورق، وإذا استعمل في غيرهما كان مشبها بهما، ومجازا.. والعوض: هو البدل الذي ينتفع به كائنا ما كان.. والبدل: هو الشيء الذي يجعل مكان غيره.. وثوب ثمين: كثير الثمن.. والثمين: الثمن.. والفرق بين الثمن والقيمة: إن الثمن قد يكون وفقا، وقد يكون بخسا، وقد يكون زائدا.. والقيمة: لا تكون إلا مساوية المقدار للثمن، من غير نقصان، ولا زيادة.
2. لما عم الله تعالى جميع الخلق بالحجج الواضحة على توحيده، وذكرهم ما أنعم به عليهم في أبيهم آدم عليه السلام خص بني إسرائيل بالحجج، وذكرهم ما أسدى إليهم وإلى آبائهم من النعم، فقال: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ يعني يا بني يعقوب، نسبهم إلى الأب الأعلى، كما قال: يا بني آدم! والخطاب:
أ. قيل: لليهود والنصارى.
ب. وقيل: هو خطاب لليهود الذين كانوا بالمدينة وما حولها، عن ابن عباس.
3. ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ : أراد بذلك النعم التي أنعم بها على أسلافهم من كثرة الأنبياء فيهم، والكتب، وإنجائهم من فرعون ومن الغرق، على أعجب الوجوه، وإنزال المن والسلوى عليهم، وكون الملك فيهم في زمن سليمان عليه السلام وغير ذلك.
4. اختلف في المراد بقوله تعالى: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ :
أ. قيل: عد النعمة على آبائهم نعمة عليهم لأن الأولاد يتشرفون بفضيلة الآباء، وهذا كما يقال في المفاخرة: قتلناكم يوم الفجار، وهزمناكم يوم ذي قار، وغلبناكم يوم النسار، وذكر النعمة بلفظ الواحد، والمراد بها الجنس، كقوله تعالى ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ والواحد لا يمكن عده.
ب. وقيل: المراد بها النعم الواصلة إليهم مما اختصوا به دون آبائهم، واشتركوا فيه مع آبائهم، فكان نعمة على الجميع، فمن ذلك تبقية آبائهم حتى تناسلوا، فصاروا من أولادهم، ومن ذلك خلفه إياهم على وجه يمكنهم معه الاستدلال على توحيده، والوصول إلى معرفته، فيشكروا نعمه، ويستحقوا ثوابه، ومن ذلك ما يوصل إليهم حالا بعد حال من الرزق، ويدفع عنهم من المكاره والأسواء، وما يسبغ عليهم من نعم الدين والدنيا.
5. على القول الأول: تكون الآية تذكيرا بالنعم عليهم في أسلافهم، وعلى القول الثاني تكون تذكيرا بالمنعم عليهم، ومن النعم على أسلافهم ما ذكره في قوله: ﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قومي اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ﴾، وقال ابن الأنباري: أراد اذكروا ما أنعمت به عليكم فيما استودعتكم من علم التوراة، وبينت لكم من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وألزمتكم من تصديقه واتباعه، فلما بعث ولم يتبعوه كانوا كالناسين لهذه النعمة.
6. في قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ وجوه، والأول أقوى، لأن عليه أكثر المفسرين، وبه يشهد القرآن:
أ. أحدها: إن هذا العهد هو أن الله تعالى عهد إليهم في التوراة أنه باعث نبيا يقال له محمد، فمن تبعه كان له أجران اثنان: أجر باتباعه موسى وإيمانه بالتوراة، وأجر باتباعه محمدا وإيمانه بالقرآن، ومن كفر به تكاملت أوزاره، وكانت النار جزاءه، فقال: أوفوا بعهدي في محمد، أوف بعهدكم أدخلكم الجنة، عن ابن عباس، فسمى ذلك عهدا، لأنه تقدم به إليهم في الكتاب السابق.. وقيل: إنما جعله عهدا لتأكيده بمنزلة العهد الذي هو اليمين، كما قال سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾
ب. وثانيها: إنه العهد الذي عاهدهم عليه، حيث قال: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ أي بجد، واذكروا ما فيه أي: ما في الكتاب، عن الحسن.
ج. وثالثها: إنه ما عهد إليهم في سورة المائدة، حيث قال ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ وقال الله: ﴿إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾ الآية، عن قتادة.
د. ورابعها: إنه أراد جميع الأوامر والنواهي وخامسها: إنه جعل تعريفه إياهم نعمه عهدا عليهم، وميثاقا، لأنه يلزمهم القيام بما يأمرهم به من شكر هذه النعم، كما يلزمهم الوفاء بالعهد والميثاق الذي يؤخذ عليهم.
7. قوله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ أي: خافوني في نقض العهد.
8. في هذه الآية دلالة على:
أ. وجوب شكر النعمة، وفي الحديث: (التحدث بالنعم شكر)..
ب. عظم المعصية في جحود النعم وكفرانها، ولحوق الوعيد الشديد بكتمانها.
ج. ثبوت أفعال العباد، إذ لو لم تكن لهم أفعال لما صح العهد، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولأدى إلى بطلان الرسل والكتب.
9. ثم قال مخاطبا لليهود: ﴿وَآمِنُوا﴾ أي: صدقوا ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من القرآن، لأنه منزل من السماء إلى الأرض.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ :
أ. قيل: من التوراة.. أمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة، لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بالنبوة لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتصديقه نظير الذي في التوراة والإنجيل، فإن فيهما البشارة بمحمد، وبيان صفته، فالقرآن مصدق لهما، وهو أوجه لأنه يكون حجة عليهم، بأن جاء القرآن بالصفة التي تقدمت بها بشارة موسى وعيسى عليهما السلام.
ب. وقيل: معناه أنه يصدق بالتوراة، لأن فيه الدلالة على أنه حق، وأنه من عند الله.
11. اختلف في معنى ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ :
أ. قيل: أي بالقرآن من أهل الكتاب لأن قريشا قد كانت قد كفرت به بمكة قبل اليهود.
ب. وقيل: المعنى ولا تكونوا السابقين إلى الكفر به فيتبعكم الناس أي لا تكونوا أئمة في الكفر به عن أبي العالية.
ج. وقيل: المعنى ولا تكونوا أول جاحدين صفة النبي في كتابكم فعلى هذا تعود الهاء في به إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ابن جريج
د. وقيل: المعنى ولا تكونوا أول كافر بما معكم من كتابكم لأنكم إذا جحدتم ما فيه من صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد كفرتم به، قال الزجاج: وقواه بأن الخطاب وقع على علماء أهل الكتاب، فإذا كفروا كفر معهم الأتباع، فلذلك قيل لهم: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ قال: ولو كان الهاء في به للقرآن فلا فائدة فيه لأنهم كانوا يظهرون أنهم كافرون بالقرآن.
هـ. قال علي بن عيسى: يحتمل أن يكون أول كافر بالقرآن أنه حق في كتابكم.
12. إنما عظم أول الكفر لأنهم إذا كانوا أئمة لهم وقدوة في الضلالة كانت ضلالتهم أعظم نحو ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)
13. ليس في نهيه عن أن يكونوا أول كافر به دلالة على أنه يجوز أن يكونوا آخر كافر لأن المقصود النهي عن الكفر على كل حال وخص أولا بالذكر لما ذكرناه من عظم موقعه كما قال الشاعر:
من أناس ليس في أخلاقهم... عاجل الفحش ولا سوء الجزع
وليس يريد أن فيهم فحشا آجلا.
14. قال الفراء: إنما أدخل الباء في الآيات دون الثمن وفي سورة يوسف أدخله في الثمن في قوله ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ لأن العروض كلها أنت مخير فيها، إن شئت قلت: اشتريت الثوب بكساء، وإن شئت قلت: اشتريت بالثوب كساء، أيهما جعلت ثمنا لصاحبه جاز، فإذا جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت الباء في الثمن كقوله ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ﴾ لأن الدراهم ثمن أبدا، والمعنى: لا تستبدلوا بآياتي أي: بما في التوراة من بيان صفة محمد ونعته، ثمنا قليلا أي: عرضا يسيرا من الدنيا.
15. ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ فاخشوني في أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا ما يفوتكم من المآكل والرئاسة.
16. تقييده الثمن بالقلة لا يدل على أنه إذا كان كثيرا يجوز شراؤه به، لأن المقصود أن أي شيء باعوا به آيات الله كان قليلا، وإنه لا يجوز أن يكون ثمن يساويه كقوله: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ وإنما أراد بذلك نفي البرهان عنه على كل حال، وأنه لا يجوز أن يكون عليه برهان، ومثله قوله ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وإنما أراد أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق.. ونظائر ذلك كثيرة، ومنه قول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره... إذا سافه العود الديافي جرجرا
وإنما أراد أنه لا منار هناك فيهتدى به.
17. في هذه الآية دلالة على تحريم أخذ الرشى في الدين، لأنه لا يخلو إما أن يكون أمرا يجب إظهاره أو يحرم إظهاره، فالأخذ على مخالفة كلا الوجهين حرام.. وهذا الخطاب يتوجه أيضا على علماء السوء من هذه الأمة، إذا اختاروا الدنيا على الدين، فتدخل فيه الشهادات، والقضايا، والفتاوى، وغير ذلك.
18. مسائل نحوية:
أ. ﴿يَا﴾ : حرف النداء، وهي في موضع نصب، لأنه منادى مضاف.
ب. ﴿إِسْرَائِيلَ﴾ : في موضع جر، لأنه مضاف إليه، وفتح لأنه غير منصرف، وفيه سببان: العجمة والتعريف.
ج. ﴿وَإِيَّايَ﴾ : ضمير منصوب، ولا يجوز أن يكون منصوبا بقوله ﴿فَارْهَبُونِ﴾، لأنه مشغول كما لا يجوز أن يقول إن زيدا في قولك: زيدا فاضربه، منصوب باضربه، ولكنه يكون منصوبا بفعل يدل عليه ما هو مذكور في اللفظ، وتقديره وإياي ارهبوا فارهبون، ولا يظهر ذلك لأنه استغنى عنه بما يفسره، وإن صح تقديره.. ولا يجوز في مثل ذلك الرفع على أن يكون الخبر ﴿فَارْهَبُونِ﴾ إلا على تقدير محذوف، كما أنشد سيبويه وقائلة خولان فانكح فتاتهم... وأكرومة الحيين خلو كما هيا تقديره هؤلاء خولان، فانكح فتاتهم، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ وتقديره: وفيما يتلى عليكم السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، وفيما فرض عليكم الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما.
د. ﴿مُصَدِّقًا﴾ : نصب لأنه حال من الهاء المحذوفة من ﴿أُنْزِلَتْ﴾، كأنه قال: أنزلته مصدقا، ويصلح أن ينتصب بآمنوا، كأنه قال: آمنوا بالقرآن مصدقا.
هـ. ﴿مَعَكُمْ﴾ : صلة لما، والعامل فيه الاستقرار أي: الذي استقر معكم.
و. الهاء في ﴿بِهِ﴾ عائد إلى ما في قوله ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ إلى ما في قوله ﴿لِمَا مَعَكُمْ﴾ .
ز. نصب ﴿أَوَّلَ كَافِرٍ﴾ لأنه خبر كان.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/208.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إسرائيل: هو يعقوب، وهو اسم أعجميّ. قال ابن عباس: ومعناه: عبد الله، وقد لفظت به العرب على أوجه، فقالت: إسرائيل، وإسرال، وإسرائيل، وإسرائين، قال أميّة:
إنّني زارد الحديد على النّا... س دروعا سوابغ الأذيال
لا أرى من يعينني في حياتي... غير نفسي إلا بني إسرال
وقال أعرابيّ صاد ضبّا، فأتى به أهله:
يقول أهل السوق لمّا جينا:... هذا وربّ البيت إسرائينا
أراد: هذا مما مسخ من بني إسرائيل.
2. المراد من ذكرها: شكرها، إذ من لم يشكر فما ذكر.
3. النعمة: المنّة، ومثلها: النّعماء، والنّعمة: بفتح النون: التّنعم، وأراد بالنعمة: النّعم، فوحدها، لأنهم يكتفون بالواحد من الجميع؛ كقوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾، أي: ظهراء، وفي المراد بهذه النّعمة ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها ما استودعهم من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: أنها ما أنعم به على آبائهم وأجدادهم إذ أنجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوّهم، وأعطاهم التوراة، ونحو ذلك، قاله الحسن والزّجّاج، وإنما منّ عليهم بما أعطى آباءهم، لأن فخر الآباء فخر للأبناء، وعار الآبار عار على الأبناء.
ج. الثالث: أنها جمع نعمة على تصريف الأحوال.
4. قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا﴾ قال الفرّاء: أهل الحجاز يقولون: أوفيت، وأهل نجد يقولون: وفّيت، بغير ألف. قال الزّجّاج: يقال: وفّى بالعهد، وأوفى به، وأنشد:
أمّا ابن طوق فقد أوفى بذمّته... كما وفّى بقلاص النّجم حاديها
وقال ابن قتيبة: يقال: وفيت بالعهد، وأوفيت به، وأوفيت الكيل، لا غير.
5. في المراد بعهده أقوال:
أ. أحدها: أنه ما عهده إليهم في التوراة من صفة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنه امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.
ج. الثالث: أنه الإسلام، قاله أبو العالية، والرابع: أنه العهد المذكور في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾، قاله قتادة.
6. قوله تعالى: ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ قال ابن عباس: أدخلكم الجنّة.
7. قوله تعالى: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾، يعني القرآن ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ يعني التوراة أو الإنجيل، فإن القرآن يصدّقهما أنهما من عند الله، ويوافقهما في صفة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
8. ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ إنّما قال أوّل كافر:
أ. قيل: لأن التقدّم إلى الكفر أعظم من الكفر بعد ذلك، إذ المبادر لم يتأمل الحجّة، وإنما بادر بالعناد، فحاله أشدّ.
ب. وقيل: ولا تكونوا أول كافر به بعد أن آمن، والخطاب لرؤساء اليهود.
9. في هاء (به) قولان:
أ. أحدهما: أنها تعود إلى المنزّل، قاله ابن مسعود وابن عباس.
ب. الثاني: أنها تعود على ما معهم، لأنهم إذا كتموا وصف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو معهم، فقد كفروا به، ذكره الزّجّاج.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾، أي: لا تستبدلوا ثمنا قليلا، وفيه ثلاثة أقوال:
10. أحدها: أنه ما كانوا يأخذون من عرض الدنيا.
11. الثاني: بقاء رئاستهم عليهم.
12. الثالث: أخذ الأجرة على تعليم الدين.
__________
(1) زاد المسير: 1/60.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن إبراهيم، ويقولون: إن معنى إسرائيل عبد الله لأن (إسرا) في لغتهم هو العبد و(إيل) هو الله، وكذلك جبريل وهو عبد الله وميكائيل عبد الله.. قال القفال: قيل: إن (إسرا) بالعبرانية في معنى إنسان، فكأنه قيل رجل الله فقوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب عليه السلام في أيام محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. نعم الله تعالى على بني إسرائيل كثيرة:
أ. استنقذهم مما كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه، وأبدلهم من ذلك بتمكينهم في الأرض وتخليصهم من العبودية كما قال: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: 5، 6]
ب. جعلهم أنبياء وملوكاً بعد أن كانوا عبيداً للقبط، فأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم كما قال: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: 59]
ج. أنزل عليهم الكتب العظيمة التي ما أنزلها على أمة سواهم كما قال: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: 20]
د. روى هشام عن ابن عباس أنه قال: من نعمة الله تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون وظلل عليهم في التيه الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى في التيه وأعطاهم الحجر الذي كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاءوا من الماء متى أرادوا فإذا استغنوا عن الماء رفعوه فاحتبس الماء عنهم وأعطاهم عموداً من النور ليضيء لهم بالليل وكانت رؤوسهم لا تتشعث وثيابهم لا تبلى.
3. إنما ذكرهم الله تعالى بهذه النعم لوجوه:
أ. أحدها: أن في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو التوراة والإنجيل والزبور.
ب. ثانيها: أن كثرة النعم توجب عظم المعصية فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالقرآن.
ج. ثالثها: أن تذكير النعم الكثيرة يوجب الحياء عن إظهار المخالفة.
د. رابعها: أن تذكير النعم الكثيرة يفيد أن المنعم خصهم من بين سائر الناس بها ومن خص أحداً بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم، لما قيل: إتمام المعروف خير من ابتدائه فكأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الآتية، وذلك الطمع مانع من إظهار المخالفة والمخاصمة.
4. سؤال وإشكال: هذه النعم ما كانت على المخاطبين، بل كانت على آبائهم فكيف تكون نعماً عليهم وسبباً لعظم معصيتهم؟ والجواب من وجوه:
أ. أحدها: لولا هذه النعم على آبائهم لما بقوا، فما كان يحصل هذا النسل فصارت النعم على الآباء كأنها نعم على الأبناء.
ب. ثانيها: أن الانتساب إلى الآباء وقد خصهم الله تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد.
ج. ثالثها: الأولاد متى سمعوا أن الله خص آباءهم بهذه النعم لمكان طاعتهم وإعراضهم عن الكفر والجحود رغب الولد في هذه الطريقة لأن الولد مجبول على التشبه بالأب في أفعال الخير فيصير هذا التذكير داعياً إلى الاشتغال بالخيرات والإعراض عن الشرور.
5. العهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعاً، وذكروا في هذا العهد قولين:
أ. القول الأول: أن المراد منه جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ببعض التكاليف دون بعض، ثم فيه روايات:
• إحداها: أنه تعالى جعل تعريفه إياهم نعمه عهداً له عليهم من حيث يلزمهم القيام بشكرها كما يلزمهم الوفاء بالعهد والميثاق، وقوله: ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ أراد به الثواب والمغفرة. فجعل الوعد بالثواب شبيهاً بالعهد من حيث اشتراكهما في أنه لا يجوز الإخلال به.
• ثانيها: قال الحسن: المراد منه العهد الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل في قوله تعالى: ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [المائدة: 12] فمن وفى لله بعهده وفى الله له بعهده.
• ثالثها: وهو قول جمهور المفسرين أن المراد أوفوا بما أمرتكم به من الطاعات ونهيتكم عنه من المعاصي أوف بعهدكم، أي أرضى عنكم وأدخلكم الجنة وهو الذي حكاه الضحاك عن ابن عباس وتحقيقه ما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ [التوبة: 111]
ب. القول الثاني: أن المراد من هذا العهد:
• ما أثبته في الكتب المتقدمة من وصف محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنه سيبعثه على ما صرح بذلك في سورة المائدة بقوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [المائدة: 12] وقال في سورة الأعراف: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف: 156 ـ 157]
• أما عهد الله معهم فهو أن ينجز لهم ما وعدهم من وضع ما كان عليهم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقهم، وقال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ﴾ [آل عمران: 81] الآية، وقال: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: 6]، وقال ابن عباس: إن الله تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً فمن تبعه وصدق بالنور الذي يأتي به ـ أي بالقرآن ـ غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين، أجراً باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل، وأجراً باتباع ما جاء به محمد النبي الأمي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: 52] إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ [القصص: 54] وكان علي بن عيسى يقول تصديق ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد: 28] وتصديقه أيضاً فيما روى أبو موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران، ورجل أطاع الله وأطاع سيده فله أجران)
6. سؤال وإشكال: لو كان الأمر هكذا، فكيف يجوز من جماعتهم جحده؟ والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أن هذا العلم كان حاصلًا عند العلماء بكتبهم لكن لم يكن لهم العدد الكثير فجاز منهم كتمانه.
ب. الثاني: أن ذلك النص كان نصاً خفياً لا جلياً فجاز وقوع الشكوك والشبهات فيه.
7. سؤال وإشكال: الشخص المبشر به في هذه الكتب، إما أن يكون قد ذكر في هذه الكتب وقت خروجه ومكان خروجه وسائر التفاصيل المتعلقة بذلك أو لم يذكر شيء من ذلك:
أ. فإن كان ذلك النص نصاً جلياً وارداً في كتب منقولة إلى أهل العلم بالتواتر فكان يمتنع قدرتهم على الكتمان، وكان يلزم أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين.
ب. وإن كان الثاني لم يدل ذلك النص على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لاحتمال أن يقولوا: إن ذلك المبشر به سيجيء بعد ذلك على ما هو قول جمهور اليهود.
والجواب:
أ. أن الذين حملوا قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ على الأمر بالتأمل في الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة على ما في القول الأول إنما اختاروه لقوة هذا السؤال.
ب. أما من أراد أن ينصر القول الثاني فإنه يجيب عنه بأن تعيين الزمان والمكان لم يكن منصوصاً عليه نصاً جلياً يعرفه كل أحد بل كان منصوصاً عليه نصاً خفياً، فلا جرم لم يلزم أن يعلم ذلك بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين عليهم السلام.
8. اختلف في قوله تعالى: ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ :
أ. قالت المعتزلة، ومن وافقهم: ذلك العهد هو ما دل العقل عليه من أن الله تعالى يجب عليه إيصال الثواب إلى المطيع وصح وصف ذلك الوجوب بالعهد لأنه بحيث يجب الوفاء به، فكان ذلك أوكد من العهد بالإيجاب بالنذر واليمين.
ب. قال الأشاعرة، ومن وافقهم: إنه لا يجب للعبد على الله شيء، وفي هذه الآية ما يدل على ذلك لأنه تعالى لما قدم ذكر النعم، ثم رتب عليه الأمر بالوفاء بالعهد دل على أن تلك النعم السالفة توجب عهد العبودية، وإذا كان كذلك كان أداء العبادات أداء لما وجب بسبب النعم السالفة وأداء الواجب لا يكون سبباً لواجب آخر، فثبت أن أداء التكاليف لا يوجب الثواب فبطل قول المعتزلة.
5. التفسير الحق لقوله تعالى: ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ من وجهين:
أ. الأول: أنه تعالى لما وعد بالثواب وكل ما وعد به استحال أن لا يوجد، لأنه لو لم يوجد لانقلب خبره الصدق كذباً، والكذب عليه محال، والمفضي إلى المحال محال، فكان ذلك واجب الوقوع فكان ذلك آكد مما ثبت باليمين والنذر.
ب. الثاني: أن يقال العهد هو الأمر والعبد يجوز أن يكون مأموراً إلا أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مأموراً لكنه سبحانه وتعالى جرى في ذلك على موافقة اللفظ كقوله: ﴿ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَخادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142]، ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 54]
9. الرهبة هي الخوف، والخوف منه تعالى هو الخوف من عقابه، وقد يقال في المكلف إنه خائف على وجهين: أحدهما مع العلم، والآخر مع الظن:
أ. أما العلم فإذا كان على يقين من أنه أتى بكل ما أمر به، واحترز عن كل ما نهى عنه، فإن خوفه إنما يكون عن المستقبل، وعلى هذا نصف الملائكة والأنبياء عليهم السلام بالخوف والرهبة، قال تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: 50]
ب. أما الظن فإذا لم يقطع بأنه فعل المأمورات، واحترز عن المنهيات، فحينئذ يخاف أن لا يكون من أهل الثواب.
10. كل من كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس، روي: أنه ينادي مناد يوم القيامة وعزتي وجلالي إني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة)
11. قوله: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ يدل على أن المرء يجب أن لا يخاف أحداً إلا الله تعالى، وكما يجب ذلك في الخوف، فكذا في الرجاء والأمل، وذلك يدل على أن الكل بقضاء الله وقدره، إذ لو كان العبد مستقلًا بالفعل لوجب أن يخاف منه كما يخاف من الله تعالى، وحينئذ يبطل الحصر الذي دل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾، بل كان يجب أن لا يرهب إلا نفسه، لأن مفاتيح الثواب والعقاب بيده لا بيد الله تعالى فوجب أن لا يخاف إلا نفسه وأن لا يخاف الله ألبتة، وفيها دلالة على أنه يجب على المكلف أن يأتي بالطاعات للخوف والرجاء وأن ذلك لا بد منه في صحتها.
12. المخاطبون بقوله: ﴿وَآمِنُوا﴾ هم بنو إسرائيل، ويدل عليه وجهان:
أ. الأول: أنه معطوف على قوله: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾، كأنه قيل: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأوفوا بعهدي، وآمنوا بما أنزلت.
ب. الثاني: أن قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ يدل على ذلك.
13. قوله تعالى: ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ فيه قولان:
أ. أنه القرآن، وهو الأقوى، وله دليلان:
• أحدهما: أنه وصفه بكونه منزلًا، وذلك هو القرآن لأنه تعالى قال: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ [آل عمران: 3]
• الثاني: وصفه بكونه مصدقاً لما معهم من الكتب، وذلك هو القرآن.
ب. قال قتادة: المراد ﴿ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ ﴾ من كتاب ورسول تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل.
14. قوله: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ فيه تفسيران:
أ. أحدهما: أن في القرآن أن موسى وعيسى حق، وأن التوراة والإنجيل حق، وأن التوراة أنزلت على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام، فكان الإيمان بالقرآن مؤكداً للإيمان بالتوراة والإنجيل فكأنه قيل لهم: إن كنتم تريدون المبالغة في الإيمان بالتوراة والإنجيل فآمنوا بالقرآن، فإن الإيمان به يؤكد الإيمان بالتوراة والإنجيل.
ب. الثاني: أنه حصلت البشارة بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالقرآن في التوراة والإنجيل، فكأن الإيمان بمحمد وبالقرآن تصديقاً للتوراة والإنجيل، وتكذيب محمد والقرآن تكذيباً للتوراة والإنجيل.
15. التفسير الثاني أولى لأن:
أ. على التفسير الأول لا يلزم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه بمجرد كونه مخبراً عن كون التوراة والإنجيل حقاً لا يجب الإيمان بنبوته.
ب. أما على التفسير الثاني يلزم الإيمان به لأن التوراة والإنجيل إذا اشتملا على كون محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم صادقاً، فالإيمان بالتوراة والإنجيل يوجب الإيمان بكون محمد صادقاً لا محالة، ومعلوم أن الله تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة عليهم في وجوب الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فثبت أن هذا التفسير أولى.
16. التفسير الثاني يدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من وجهين:
أ. الأول: أن شهادة كتب الأنبياء عليهم السلام لا تكون إلا حقاً.
ب. الثاني: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبر عن كتبهم ولم يكن له معرفة بذلك إلا من قبل الوحي.
17. ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ معناه:
أ. أول من كفر به.
ب. أو أول فريق أو فوج كافر به.
ج. أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به.
18. اعتبرهم الله تعالى كفارا أول من كفر به، وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب لوجوه:
أ. أحدها: أن هذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته، ولأنهم كانوا هم المبشرون بزمان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمستفتحون على الذين كفروا به، فلما بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ . [البقرة: 89]
ب. ثانيها: يجوز أن يراد: ولا تكونوا مثل أول كافر به، يعني من أشرك من أهل مكة، أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة والإنجيل مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له.
ج. ثالثها: ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، لأن هؤلاء كانوا أول من كفر بالقرآن من بني إسرائيل، وإن كانت قريش كفروا به قبل ذلك.
د. رابعها: ولا تكونوا أول كافر به، يعني بكتابكم يقول ذلك لعلمائهم: أي ولا تكونوا أول أحد من أمتكم كذب كتابكم لأن تكذيبكم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يوجب تكذيبكم بكتابكم.
هـ. خامسها: أن المراد منه بيان تغليظ كفرهم، وذلك لأنهم لما شاهدوا المعجزات الدالة على صدقه، عرفوا البشارات الواردة في التوراة والإنجيل بمقدمه، فكان كفرهم أشد من كفر من لم يعرف إلا نوعاً واحداً من الدليل، والسابق إلى الكفر يكون أعظم ذنباً ممن بعده لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من سن سيئة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها)، فلما كان كفرهم عظيماً وكفر من كان سابقاً في الكفر عظيماً فقد اشتركا من هذا الوجه، فصح إطلاق اسم أحدهما على الآخر على سبيل الاستعارة.
و. سادسها: المعنى ولا تكونوا أول من جحد مع المعرفة، لأن كفر قريش كان مع الجهل لا مع المعرفة.
ز. سابعها: أول كافر به من اليهود لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قدم المدينة وبها قريظة والنضير فكفروا به ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر، فكأنه قيل: أول من كفر به من أهل الكتاب، وهو كقوله: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 47، 122] أي على عالمي زمانهم.
ح. ثامنها: ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم بذكره، بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه.
ط. تاسعها: أن لفظ: أول) صلة، والمعنى ولا تكونوا كافرين به، وهذا ضعيف.
19. اعتبرهم الله تعالى كفارا مع أنه لم يسبق لهم إيمان لوجوه:
أ. أحدها: أنه ليس في ذكر تلك الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه.
ب. ثانيها: أن في قوله: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ دلالة على أن كفرهم أولًا وآخراً محظور.
ج. ثالثها: أن قوله: ﴿رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الرعد: 2] لا يدل على وجود عمد لا يرونها، وقوله: ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [النساء: 155] لا يدل على وقوع قتل الأنبياء بحق، وقوله: عقيب هذه الآية: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير، فكذا هاهنا، بل المقصود من هذه السياقة استعظام وقوع الجحد والإنكار ممن قرأ في الكتب نعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صفته.
د. رابعها: هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم، فقيل لهم: لا تكفروا بمحمد فإنه سيكون بعدكم الكفار فلا تكونوا أنتم أول الكفار لأن هذه الأولية موجبة لمزيد الإثم، وذلك لأنهم إذا سبقوا إلى الكفر، فإما أن يقتدي بهم غيرهم في ذلك الكفر أو لا يكون كذلك، فإن اقتدى بهم غيرهم في ذلك الكفر كان لهم وزر ذلك الكفر ووزر كل من كفر إلى يوم القيامة، وإن لم يقتد بهم غيرهم اجتمع عليهم أمران:
• أحدهما: السبق إلى الكفر.
• الثاني: التفرد به، ولا شك في أنه منقصة عظيمة، فقوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ إشارة إلى هذا المعنى.
20. الاشتراء يوضع موضع الاستبدال، فكذا الثمن يوضع موضع البدل عن الشيء، والعوض عنه، فإذا اختير على ثواب الله شيء من الدنيا فقد جعل ذلك الشيء ثمناً عند فاعله.
21. قال ابن عباس: إن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا وعلموا أنهم لو اتبعوا محمداً لانقطعت عنهم تلك الهدايا، فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القدر المحقر، وذلك لأن الدنيا كلها بالنسبة إلى الدين قليلة جداً فنسبتها إليه نسبة المتناهي إلى غير المتناهي، ثم تلك الهدايا كانت في نهاية القلة بالنسبة إلى الدنيا، فالقليل جداً من القليل جداً أي نسبة له إلى الكثير الذي لا يتناهى؟
22. هذا النهي صحيح سواء كان فيهم من فعل ذلك أو لم يكن، بل لو ثبت أن علماءهم كانوا يأخذون الرشا على كتمان أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وتحريف ما يدل على ذلك من التوراة كان الكلام أبين.
23. قوله: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ يقرب معناه مما تقدم من قوله: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف، وأما الاتقاء فإنما يحتاج إليه عند الجزم بحصول ما يتقى منه فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/475.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ نداء مضاف علامة النصب فيه الياء وحذفت منه النون للإضافة. الواحد ابن والأصل فيه بنى، وقيل: بنو.. والابن فرع للأب وهو موضوع عليه.
2. إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.. قال أبو الفرج الجوزي: وليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلا نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فإن له أسماء كثيرة.. وقد قيل في المسيح أنه اسم علم لعيسى عليه السلام غير مشتق، وقد سماه الله روحا وكلمة، وكانوا يسمونه أبيل الابيلين ذكره الجوهري في الصحاح، وذكر الخليل بن أحمد: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين محمد وأحمد نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم وعيسى والمسيح وإسرائيل ويعقوب ويونس وذو النون وإلياس وذو الكفل صلى الله عليهم وسلم.
3. إسرائيل: اسم أعجمي، ولذلك لم ينصرف وهو في موضع خفض بالإضافة، وفيه سبع لغات، ومعنى إسرائيل:
أ. قيل: عبد الله، قال ابن عباس: إسرا بالعبرانية هو عبد وائل هو الله.
ب. وقيل: إسرا هو صفوة الله وائل هو الله.
ج. وقيل: إسرا من الشد، فكأن إسرائيل الذي شده الله، وأتقن خلقه، ذكره المهدوي.
د. وقيل: سمي إسرائيل لأنه أسرى ذات ليلة حين هاجر إلى الله تعالى، فسمي إسرائيل أي أسرى إلى الله ونحو هذا فيكون بعض الاسم عبرانيا وبعضه موافقا للعرب.
4. الذكر: اسم مشترك، فالذكر بالقلب ضد النسيان والذكر باللسان ضد الإنصات، وذكرت الشيء بلساني وقلبي ذكرا.. والمعنى في الآية:
أ. قيل: اذكروا شكر نعمتي فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة.
ب. وقيل: إنه أراد الذكر بالقلب، وهو المطلوب أي لا تغفلوا عن نعمتي التي أنعمت عليكم ولا تناسوها وهو حسن.
5. النعمة هنا اسم جنس فهي مفردة بمعنى الجمع قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: 34] أي نعمه، ومن نعمه عليهم أن أنجاهم من آل فرعون وجعل منهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب والمن والسلوى وفجر لهم من الحجر الماء إلى ما أستودعهم من التوراة التي فيها صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونعته ورسالته، والنعم على الآباء نعم على الأبناء لأنهم يشرفون بشرف آبائهم.
6. قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ أمر وجوابه، واختلف في هذا العهد ما هو:
أ. قال الحسن: عهده قوله ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: 63]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ [المائدة: 12]
ب. وقيل: هو قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]
ج. قال الزجاج: ﴿ أَوْفُوا بِعَهْدِي ﴾ الذي عهدت إليكم في التوراة من اتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ بما ضمنت لكم على ذلك إن أوفيتم به فلكم الجنة.
د. وقيل: ﴿ أَوْفُوا بِعَهْدِي ﴾ في أداء الفرائض على السنة والإخلاص ﴿أُوفِ﴾ بقبولها منكم ومجاراتكم عليها.
هـ. وقال بعضهم: ﴿ أَوْفُوا بِعَهْدِي ﴾ في العبادات ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ أي أوصلكم إلى منازل الرعايات.
و. وقيل ﴿ أَوْفُوا بِعَهْدِي ﴾ في حفظ آداب الظواهر ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ بتزيين سرائركم.
ز. وقيل: هو عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه، فيدخل في ذلك ذكر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي في التوراة وغيره، هذا قول الجمهور من العلماء وهو الصحيح، وعهده سبحانه وتعالى هو أن يدخلهم الجنة.
7. ما طلب من هؤلاء من الوفاء بالعهد هو مطلوب منا، قال الله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1] ﴿ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ ﴾ [النحل: 91]، وهو كثير.
8. وفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم لا علة له، بل ذلك تفضل منه عليهم.
9. ﴿وَإِيَّايَ﴾ منصوب بإضمار فعل وكذا الاختيار في الامر والنهي والاستفهام التقدير: وإياي ارهبوا فارهبون، ويجوز في الكلام (وأنا فارهبون) على الابتداء والخبر، وكون ﴿فَارْهَبُونِ﴾ الخبر على تقدير الحذف المعنى وأنا ربكم فارهبون.
10. قوله تعالى: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ أي صدقوا، يعني بالقرآن، ﴿مُصَدِّقًا﴾ حال من الضمير في ﴿أُنْزِلَتْ﴾، التقدير بما أنزلته مصدقا، والعامل فيه أنزلت، ويجوز أن يكون حالا من ما والعامل فيه آمنوا التقدير أمنوا بالقرآن مصدقا، ويجوز أن تكون مصدرية التقدير آمنوا بإنزال ﴿لِمَا مَعَكُمْ﴾ يعني من التوراة.
11. ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ الضمير في (به):
أ. قيل: هو عائد على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله أبو العالية.
ب. قال ابن جريج: هو عائد على القرآن إذ تضمنه قوله: ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾
ج. وقيل: على التوراة، إذ تضمنها قوله: ﴿لِمَا مَعَكُمْ﴾
12. قال: ﴿كَافِرٌ﴾ ولم يقل كافرين:
أ. قيل: التقدير ولا تكونوا أول فريق كافر به.
ب. زعم الأخفش والفراء أنه محمول على معنى الفعل لان المعنى أول من كفر به.
ج. وحكى سيبويه هو أظرف الفتيان وأجمله وكان ظاهر الكلام هو أظرف فتى وأجمله، وقال: ﴿أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ وقد كان قد كفر قبلهم كفار قريش فإنما معناه من أهل الكتاب إذ هم منظور إليهم في مثل هذا لأنهم حجة مظنون بهم علم.
13. ﴿أَوَّلُ﴾ هو من وأل إذا نجا فأصله أوال ثم خففت الهمزة وأبدلت واوا وأدغمت فقيل أول كما تخفف همزة خطيئة. قال الجوهري: والجمع الأوائل والاولى أيضا على القلب، وقال قوم: أصله وول على فوعل فقلبت الواو الاولى همزة وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع)، وقيل: هو أفعل من آل يؤول فأصله أول قلب فجاء أعفل مقلوبا من أفعل فسهل وأبدل وأدغم.
14. لا حجة في هذه الآية لمن يمنع القول بدليل الخطاب، وهم الكوفيون ومن وافقهم، لان المقصود من الكلام النهي عن الكفر أولا وآخرا، وخص الأول بالذكر لان التقدم فيه أغلظ، فكان حكم المذكور والمسكوت عنه واحدا، وهذا واضح.
15. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا﴾ معطوف على قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا﴾ :
أ. قيل: نهاهم عن أن يكونوا أول من كفر وألا يأخذوا على آيات الله ثمنا أي على تغيير صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم رشى، وكان الأحبار يفعلون ذلك فنهوا عنه قاله قوم من أهل التأويل منهم الحسن وغيره.
ب. وقيل: كانت لهم مآكل يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك.
ج. وقيل: إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك، وفى كتبهم: يا ابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا أي باطلا بغير أجرة قاله أبو العالية.
د. وقيل: المعنى ولا تشتروا بأوامري ونواهي وآياتي ثمنا قليلا يعني الدنيا ومدتها والثمن الذي هو نزر لا خطر له فسمي ما اعتاضوه عن ذلك ثمنا لأنهم جعلوه عوضا فانطلق عليه اسم الثمن وإن لم يكن ثمنا، قال الشاعر:
إن كنت حاولت ذنبا أو ظفرت به... فما أصبت بترك الحج من ثمن
16. هذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم، فمن أخذ رشوة على تغير حق أو إبطاله أو امتنع من تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجرا فقد دخل في مقتضى الآية.
أ. قال سهل بن عبد الله: قوله ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ موضع علمي السابق فيكم، ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ موضع المكر والاستدراج لقول الله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 182] وقوله: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99] فما استثنى نبيا ولا صديقا.
ب. روى أبو داوود عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) يعنى ريحها.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/331.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ومعناه عبد الله، لأن إسرا في لغتهم: هو العبد وإيل هو الله، قيل: إن له اسمين، وقيل: إسرائيل لقب له، وهو اسم عجمي غير منصرف، وفيه سبع لغات: إسرائيل بزنة إبراهيم، وإسرائيل بمدّة مهموزة مختلسة رواها ابن شنبوذ عن ورش، وإسرائيل بمدّة بعد الياء من غير همز، وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر، وقرأ الحسن من غير همز ولا مدّ وإسرائيل بهمزة مكسورة، وإسراءل بهمزة مفتوحة، وتميم يقولون إسرائين.
2. الذكر هو ضد الإنصات، وجعله بعض أهل اللغة مشتركا بين ذكر القلب واللسان، وقال الكسائي: ما كان بالقلب فهو مضموم الذال، وما كان باللسان فهو مكسور الذال. قال ابن الأنباري: والمعنى في الآية: اذكروا شكر نعمتي، فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة.
3. الرهب والرهبة: الخوف، ويتضمن الأمر به معنى التهديد.
4. تقديم معمول الفعل يفيد الاختصاص كما في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، وإذا كان التقديم على طريقة الإضمار والتفسير مثل زيدا ضربته ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ كان أوكد في إفادة الاختصاص، ولهذا قال صاحب الكشاف: وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد، وسقطت الياء من قوله ﴿فَارْهَبُونِ﴾ لأنها رأس آية.
5. ﴿أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ إنما جاء به مفردا، لم يقل كافرين:
أ. قيل: حتى يطابق ما قبله لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ، متعدد المعنى نحو فريق أو فوج.
ب. وقال الأخفش والفرّاء: إنه محمول على معنى الفعل، لأن المعنى أوّل من كفر.
ج. وقد يكون من باب قولهم: هو أظرف الفتيان وأجمله، كما حكى ذلك سيبويه، فيكون هذا المفرد قائما مقام الجمع.
6. إنما قال أوّل مع أنه تقدّمهم إلى الكفر به كفار قريش:
أ. قيل: لأن المراد أوّل كافر به من أهل الكتاب، لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء، وما يلزم من التصديق، والضمير في به عائد إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أي لا تكونوا أوّل كافر بهذا النبي مع كونكم قد وجدتموه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، مبشرا به في الكتب المنزلة عليكم.
ب. وقيل: إنه عائد إلى القرآن المدلول عليه بقوله: ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾
ج. وقيل: عائد إلى التوراة المدلول عليها بقوله: ﴿لِمَا مَعَكُمْ﴾
7. ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي﴾ أي بأوامري ونواهي ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي عيشا نزرا ورئاسة لا خطر لها، جعل ما اعتاضوه ثمنا، وأوقع الاشتراء عليه وإن كان الثمن هو المشترى به، لأن الاشتراء هنا مستعار للاستبدال: أي لا تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا، وكثيرا ما يقع مثل هذا في كلامهم.
8. يجوز إطلاق اسم الثمن على نيل عرض من أعراض الدنيا، ومنه قول الشاعر:
إن كنت حاولت ذنبا أو ظفرت به... فما أصبت بترك الحجّ من ثمن
9. هذه الآية وإن كانت خطابا لبني إسرائيل ونهيا لهم، فهي متناولة لهذه الأمة بفحوى الخطاب أو بلحنه، فمن أخذ من المسلمين رشوة على إبطال حق أمر الله به، أو إثبات باطل نهى الله عنه، أو امتنع من تعليم ما علّمه الله، وكتم البيان الذي أخذ الله عليه ميثاقه به، فقد اشترى بآيات الله ثمنا قليلا.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/87.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي أولاد يعقوب، وقد هيجهم تعالى بذكر أبيهم إسرائيل، كأنه قيل: يا بني العبد الصالح المطيع لله، كونوا مثل أبيكم، كما تقول: يا ابن الكريم، افعل كذا، ويا ابن العالم، اطلب العلم.
2. ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ نعمه التي أنعم بها على بني إسرائيل: اصطفاؤه منهم الرسل، وإنزاله عليهم الكتب، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المنّ والسلوى.. فأمر، جل ثناؤه، أعقابهم أن يكون ما سلف منه إلى آبائهم على ذكر، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحل بهم من النقم، ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها، وجحد صنائعه عنده.
3. ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ أي اخشوني واتقوا، أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل، والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت على أنبيائي أن تؤمنوا به وتتبعوه، أن أحل بكم من عقوبتي إن لم تتوبوا إليّ باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه، ما أحللت بمن خالف أمري، وكذب رسلي من أسلافكم.
4. ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ أي من القرآن ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ أي موافقا بالتوحيد، وصفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونعته، وبعض الشرائع، لما معكم من الكتاب، قال ابن جرير: أمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة، لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وتصديقه واتباعه، نظير الذي من ذلك في الإنجيل والتوراة، ففي تصديقهم بما أنزل على محمد، تصديق منهم لما معهم من التوراة، وفي تكذيبهم به تكذيب منهم لما معهم من التوراة.
5. تقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم، لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر، فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا.
6. كثيرا ما يستدل مجادلة أهل الكتاب على عدم تحريف كتبهم بهذه الآية وأمثالها، كآية: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: 89]، وآية ﴿وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [يونس: 37] وغيرهما، مع أنه ثبت بالبراهين القاطعة ذهاب قدر كبير من كتبهم، واختلاط حقها بباطلها فيما بقي، كما صنفت في ذلك مصنفات عدة، وقد ردّ استدلالهم بهذه الآية وأمثالها على ما ادعوه، بأن معنى كون القرآن مصدقا لما معهم، ما ذكره المفسّرون في تأويلها، وحاصله: أن ما أنزل عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم هو طبق ما عندهم من حقية نبوته، وصحة البشائر عنه، كما قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ أي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم جاء طبق ما عندهم عنه في التوراة والإنجيل، بمعنى أن أحواله جميعا توافق البشائر
7. ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ :
أ. قيل: يعني من جنسكم أهل الكتاب، بعد سماعكم بمبعثه، فالأولية نسبية، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن.
ب. وقيل: هو تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه، والمستفتحين على الذين كفروا به، وكانوا يعدون أتباعه أول الناس كلهم، فلما بعث كان أمرهم على العكس، لقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾
8. ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي، بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية، فالاشتراء استعارة للاستبدال.
9. ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ بالإيمان واتباع الحق، والإعراض عن حطام الدنيا.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/298.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَابَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾ عبد الله يعقوب، واللفظان عبريَّان، أو أسر: القوة، أي: قوَّة الله، أو أسرى ليلاً مهاجرًا إلى الله، أو أسِرَ جنِّـيًّا لوجه الله كان يطفئ سراج بيت المقدس، وعلى الثلاثة (إيل) لفظ عبريٌّ معناه (الله)، وما قبله عربيٌّ، كما قيل في (تلمسان) تلمُّ بمعنى تجمع عربيٌّ، و(سان) اثنان بلغة البربر، أي: جمعت حسن البرِّ والبحر، أو اتَّفقت اللغتان العربيَّة والعبريَّة، وقيل: (أسر) صفوة أو إنسان، أو مهاجر، والمراد بنو إسرائيل الموجودون حال نزول الآية.
2. ﴿اَذْكُرُوا نِعْمَتِي﴾ اذكروها في قلوبكم لتشكروها بتعظيم القلب، ومدح اللسان، وعمل الجوارح، ولا تكتفوا بمجرَّد حضورها في القلب واللسان.
3. ﴿الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ أنعمتها، أي: أنعمت بها، أو ضُمِّن معنى أثبت، وقد أجيز حذف الرابط بلا شرط إذا علم، وهي التنجيةُ من فرعون، وفرق البحر، والإحياء بعد موت، وتظليل الغمام، والمنُّ والسلوى، والعفو، وغفران الخطايا، والتوراة، والماء من الحجر، والصحف.. مجموعهنَّ نعمة تتضمَّن نعمًا، أو الإضافة للحقيقة، أو النعمة اسم مصدر، أي: اذكروا إنعامي بذلك، وذلك لآبائهم، وما كان فخرًا لآبائهم فهو فخر لهم، كما أنَّه نسب إليهم ما فعل آباؤهم من السوء لرضاهم عنهم مع السوء من قولهم: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ [البقرة: 93] و﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: 153] و﴿لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ [البقرة: 61]، واتِّخاذ العجل، وتبديل الذين ظلموا، وتحريف الكَلِم، والتولِّي بعد ذلك، وقسوة القلب، والكفر بالآيات، وقتل الأنبياء.
4. ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ بما عهدتُ إليكم من الإيمان بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أخذْتُه من موسى وأخَذه موسى عليكم، قال الله جلَّ وعلا: ﴿وَلَقَدَ اَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [المائدة: 12]، والعهد: إنزال نبوءته ورسالته صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة، ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ بما عهدته لكم من الجنَّة على الوفاء بعهدي.
5. ﴿وَإِيَّايَ﴾ ارهبوا، يقدَّر العامل هكذا مؤخَّرا للحصر، أي: خافوني وحدي على ترك الإيفاء بعهدي، والشاغل الياء المحذوفة في قوله: ﴿فَارْهَبُونِ﴾ في جميع أحوالكم، وفي نقض العهد، وفي أن تنزل نقمة عليكم كآبائكم، وكأنَّها مذكورة إذ وجدت نون الوقاية المكسورة لها، والفاء صلة للتأكيد، أو يقدَّر: إيَّاي فارهبوا، تنبَّهوا فارهبون؛ وعليه فحذف (ارهبوا) للدلالة عليه لا على رسم الاشتغال، والرهبة: الخوف، أو مع التحرُّز.
6. ﴿وَءَامِنُوا﴾ يا بني إسرائيل، وقيل: المراد العلماء والرؤساء منهم، ككعب بن الأشرف، ﴿بِمَآ أَنزَلْتُ﴾ على محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم من القرآن وسائر الوحي ﴿مُصَدِّقًا﴾ أنا، فهو حال من التاء، والأَولى أنَّه حال من الهاء المحذوفة، أي: أنزلته أو من (ما)، ﴿لِّمَا مَعَكُمْ﴾ من التوراة والإنجيل، أي: صدَّقتُه بما أنزلتُه، أو مصدِّقًا ما أنزلت؛ لأنَّ القرآن جاء مطابقًا لما في التوراة والإنجيل فيما ذكر الله فيهما من نبوءة سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ورسالته وسيرته، ومن وصف القرآن والقصص والمواعيد والتوحيد والدعاء إليه، والعبادة والنهي عن المنكر، حتَّى إنَّ اتِّباعهما موجب للإيمان به وبما جاء به.
7. ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ﴾ أي: مِثْلَ أوَّلِ ﴿كَافِرِ بِهِ﴾ أوَّل فريق كافر، أو لا يكن واحد منكم أوَّل إنسان كافر به من أهل الكتاب فيتبعكم مَن بعدَكم ومن معكم، فيكون عليكم إثم كُفرِكم، ومثل إثم مَن تبعكم، وقد سبقكم في الكفر به قريش وسائر العرب، ولا تكونوا مثلهم فإنَّكم أحقُّ وأوَّل من يؤمن، لِما تتلون في التوراة والإنجيل من الإخبار به، والهاء لِـ (مَا مَعَكُمْ)، فكفركم بالقرآن كفر بما معكم من التوراة والإنجيل، والعرب لم تسبقكم بالكفر بهما، بل بالكفر بالقرآن، والواو الثانية: مِن (أَوَّلَ) عن همزة من (وَأَلَ) إذا نَجَا، وفيه معنى السبق والتبادر، وقيل: من (آل) بمعنى: رجع، وقيل: أصل شاذٌّ لا فعل له، إذ لا توجد كلمة فاؤها وعينها واو، وما قيل من أنَّ فعله (وَوَلَ) بيانٌ لا سماع، وقيل: وزنه (فوعل)، ويردُّه منع صرفه.
8. ﴿وَلَا تَشْتَرُوا﴾ ضدُّ البيع، استعارة عن تستبدلوا ﴿بِئَايَاتِي﴾ الآيات التي في التوراة والإنجيل الدالَّات على ما أنزلتُ على محمَّد، بأن تخفوها أو تمحوها أو تبدلوها، أو تفسِّروها بغير تأويلها ﴿ثَمَنًا﴾ مثمنًا ﴿قَلِيلاً﴾ هو ما تعطيكم سفَلَتُكُمْ مَبنيًّا على ذلك التغيير وعلى رئاستكم به، وفي الموسم وأزمان الثمار، فتركُ الآيات بتلك الأوجه ثمن اشتروا به مثمنًا هو ما يعطون، أو ثمنًا بمعنى عوضًا، وكلٌّ من الثمن والمثمن ثمن ومثمن من حيث إنَّ كلًّا عوض، أو تشتروا: تستبدلوا، من حيث إنَّ الاستبدال أعمُّ من الشراء؛ فذلك مجاز مرسل للإطلاق والتقييد، وما يأخذونه كثير لكنَّه بالنسبة لما تركوا من الدنيا قليل.
9. وبَّخ الله اليهود المعاصرين لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالكتم، وبيع الدِّين، والتحريف، وقولهم: ﴿هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ﴾ [البقرة: 79]، و﴿نَحْنُ أَبْنَآؤُاْ اللهِ﴾ [المائدة: 18]، و﴿يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: 64]، وقتل أنفسهم، وإخراج فريق منهم من ديارهم، والحرص على الحياة، وعداوة جبريل، واتِّباع السحر.
10. ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ مثل ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/92.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إسرائيل لقب نبيّ الله يعقوب ابن نبيه اسحق ابن نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام قيل: معناه الأمير المجاهد مع الله، والمراد ببنيه ذريته من أسباطه الإثني عشر؛ وأطلق عليهم لقبه في كتبهم وتواريخهم كما تسمى العرب القبيلة كلها باسم جدها الأعلى.
2. لما كانت سورة البقرة أول السور المدنية الطول وكان جل يهود بلاد العرب في جوارها دعاهم الله تعالى فيها إلى الإسلام، وأقام عليهم الحجج والبراهين، وبين لهم من حقيقة دينهم وتاريخ سلفهم ما لم يكن يعلمه أحد من قومه المجاورين لهم فضلا عن أهل وطنه بمكة المكرمة.
3. اختص بني إسرائيل بالخطاب اهتماما بهم لأنهم أقدم الشعوب الحاملة للكتب السماوية والمؤمنة بالأنبياء المعروفين، ولأنهم كانوا أشد الناس على المؤمنين، ولأن في دخولهم في الإسلام من الحجة على النصارى وغيرهم أقوى مما في دخول النصارى من الحجة عليهم.
4. هذه النعمة التي أطلقها في التذكير لعظم شأنها هي نعمة جعل النبوة فيهم زمنا طويلا (أو أعم)، ولذلك كانوا يسمون شعب الله كما في كتبهم.
5. في القرآن: إن الله اصطفاهم وفضلهم، ولا شك أن هذه المنقبة نعمة عظيمة من الله منحهم إياها بفضله ورحمته فكانوا بها مفضلين على العالمين من الأمم والشعوب، وكان الواجب عليهم أن يكونوا أكثر الناس لله شكرا، وأشدهم لنعمته ذكرا، وذلك بأن يؤمنوا بكل نبيّ يرسله لهدايتهم، ولكنهم جعلوا النعمة حجة الإعراض عن الإيمان، وسبب إيذاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنهم زعموا أن فضل الله تعالى محصور فيهم، وأنه لا يبعث نبيا إلا منهم؛ ولذلك بدأ الله تعالى خطابهم بالتذكير بنعمته، وقفى عليه بالأمر بالوفاء بعهده.
6. ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ عهد الله تعالى إليهم يعرف من الكتاب الذي نزله اليهم، فقد عهد اليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا؛ وأن يؤمنوا برسله متى قامت الأدلة على صدقهم، وأن يخضعوا لأحكامه وشرائعه، وعهد اليهم أن يرسل اليهم نبيا من بنى إخوتهم أي بنى إسماعيل يقيم شعبا جديدا، هذا هو العهد الخاص المنصوص.
7. يدخل في عموم العهد عهد الله الأكبر الذي أخذه على جميع البشر بمقتضى الفطرة وهو التدبر والتروي، ووزن كل شيء بميزان العقل والنظر الصحيح، لا بميزان الهوى والغرور.
8. لو التفت بنو إسرائيل إلى هذا العهد الإلهي العام، أو إلى تلك العهود الخاصة المنصوصة في كتابهم، لآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واتبعوا النور الذي أنزل معه وكانوا من المفلحين.
9. لا حاجة إلى تخصيص العهد بالإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن الإيمان داخل في العهد العام وهو من أفراد العهد الخاص فلا دليل على قصر عموم العهد المضاف عليه.
10. هذا هو عهد الله وأما عهدهم فهو التمكين في الأرض المقدسة والنصر على الأمم الكافرة والرفعة في الدنيا وخفض العيش فيها.. هذا هو الشائع في التوراة التي بين أيديهم، ولا شك أن الله تعالى قد وعدهم أيضا بسعادة الآخرة، ولكن لا دليل على هذا في التوراة إلا الاشارات، ولذلك ظنّ بعض الباحثين أن اليهود لا يؤمنون بالبعث، ومع هذا يقول (الجلال) كغيره إن هذا العهد هو دخول الجنة ويقتصر عليه.
11. لما كان من موانع الوفاء بالعهد الذي فشا تركه في شعب اسرائيل خوف بعضهم من بعض لما بين الرؤساء والمرؤوسين من المنافع المشتركة عقب الأمر بالوفاء بقوله: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾
12. أي إن كنتم تخافون فوت بعض المنافع، ونزول بعض المضار بكم إذا خالفتم الجماهير واتبعتم الحق، فالأولى أن لا تخافوا ولا ترهبوا إلا من بيده أزمة المنافع كلها، وهو الله الذي أنعم عليكم بتلك النعمة الكبرى أو النعم كلها، وهو وحده القادر على سلبها، وعلى العقوبة على ترك الشكر عليها، فارهبوه وحده لا ترهبوا سواه.
13. انتقل الله تعالى من الأمر بالوفاء بعموم العهد إلى العهد الخاص المقصود من السياق، فقال تعالى جل شأنه: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ من تعليم التوراة وكتب الأنبياء كالتوحيد والنهى عن الفواحش والمنكرات والأمر بالمعروف، وما يتصل بهذا من الارشاد الموصل إلى السعادة، فاذا نظرتم في القرآن ووجدتموه مصدقا لما معكم من مقاصد الدين الالهي وأصوله ووعود الأنبياء وعهودهم، تعلمون أن الروح الذي نزل به هو عين الروح الذي نزل بما سبقه، وتعلمون أنه لا غرض لهذا النبيّ الذي يدعوكم إلى مثل ما دعاكم إليه موسى والأنبياء إلا تقرير الحق، وهداية الخلق، بعد ما طرأ من ضلالة التأويل، وجهالة التقليد، فبادروا إلى الايمان بهذا الكتاب الذي قامت به، الحجة عليكم من وجهين: أحدهما) إعجازه (وثانيهما) كونه مصدقا لما معكم.
14. ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ أي ولا تبادروا إلى الكفر به والجحود له مع جدارتكم بالسبق إليه، وهذا الاستعمال معروف في الكلام البليغ لهذا المعنى لا يقصد بالأولية فيه حقيقتها، والخطاب عام لليهود في كل عصر وزمان.
15. ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ الآيات هي الدلائل التي أيد بها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأعظمها القرآن فهو كقوله تعالى ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أى لا تعرضوا عن الايمان بهذا النبيّ وما جاء به وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل وهو ما يستفيده رؤساؤكم من المرؤوسين من مال وجاه أوقعاهم في الكبر والغرور، وما يتوقعه المرؤوسون من الزلفى والحظوة بتقليد الرؤساء واتباعهم وما يخشونه إذا خالفوهم من المهانة والذلة.
16. إنما سمى هذا الجزاء قليلا لأن كل ما عدا الحق قليل وحقير بالنسبة إليه، وكيف لا يكون قليلا وصاحبه يخسر عقله وروحه قبل كل شيء لإعراضه عن الآيات البينات، والبراهين الواضحات، ثم إنه يخسر عز الحق وما يكون له من الشأن العظيم وحسن العاقبة، ثم إنه يخسر مرضاة الله تعالى وتحل به نقمه في الدنيا وعقوبته في الآخرة.
17. ختم هذه الآية بشبه ما ختم به ما قبلها وذلك قوله ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾، وليس في هذه مع سابقتها تكرار ولا شبه تكرار كما يتوهم، فقد حل كل من القولين محله، ولا مندوحة عن واحد منهما لأن استبدال الباطل بالحق إنما كان منهم لاتقاء الرئيس فوت المنفعة من المرؤوس، واتقاء المرؤوس غضب الرئيس، فدحض هذه الشبهة بالأمر بتقوى الله وحده الذي بيده قلوب العباد وجوارحهم، وهو المسخر لهم في أعمالهم، وبيده الخير كله، وهو على كل شيء قدير.
__________
(1) تفسير المنار: 1/290.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ أي احفظوا بقلوبكم نعمى بالتفكر في شكرها باللسان.. وفي هذا إشارة إلى أنهم نسوها ولم يخطروها ببالهم، ولم تعين الآية هذه النعمة أراد بها نعمة النبوة التي اصطفاهم بها زمانا طويلا، حتى كانوا يسمّون شعب الله.
2. هذه المكرمة التي أوتوها، والنعمة التي اختصّوا بها وكانوا مفضلين على الأمم والشعوب تقتضى ذكرها وشكرها، ومن شكرها الإيمان بكل نبيّ يرسله الله لهداية البشر، لكنهم جعلوا هذه النعمة حجة للإعراض عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والازدراء به، زعما منهم أن فضل الله محصور فيهم، فلا يبعث الله نبيا إلا منهم.
3. عهد الله نوعان:
أ. عهد نظري، وهو الذي أخذه على جميع البشر، وهو وزن الأمور بميزان العقل والتدبر، والنظر المؤدى إلى جلاء الحقائق توصلا إلى معرفة الخالق، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾
ب. وعهد دينيّ وهو أن يعبدوا الله وحده لا شريك له وأن يعملوا بشرائعه وأحكامه، وأن يؤمنوا برسله متى قامت الأدلة على صدقهم.
4. لو نظر بنو إسرائيل إلى العهد العام أو إلى العهود الخاصة المعروفة في كتابهم الذي أنزل إليهم، ومنها أنه سيرسل إليهم نبيا من بنى إخوتهم (إسماعيل) يقيم شعبا جديدا لآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، واتبعوا النور الذي أنزل معه وكانوا من الفائزين.
5. أما عهد الله لهم فإن يمكّن لهم في الأرض المقدسة، ويرفع من شأنهم، ويخفض لهم العيش فيها، وينصرهم على أعدائهم الكفرة، ويكتب لهم السعادة في الآخرة.
6. لما كان من موانع الوفاء بالعهد خوف بعضهم من بعض، ذكر هنا أن الخوف يجب أن يكون من الله وحده فقال: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ أي لا ترهبوا ولا تخافوا إلا من بيده مقاليد الأمور كلها، وهو الله الذي أنعم عليكم بتلك النعمة الكبرى، وهو القادر على سلبها منكم، وعلى عقوبتكم على ترك الشكر عليها.
7. لا يرهب بعضكم بعضا خوف فوت بعض المنافع ونزول بعض الأضرار إذا أنتم اتبعتم الحق، وخالفتم غيركم من الرؤساء.
8. بعد أن ذكر الله تعالى الوفاء بالعهد العام انتقل إلى العهد الخاص المقصود من السياق فقال: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ أمرهم بالإيمان بالقرآن مع دخوله في قوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ إشارة إلى أن الوفاء به أهمّ إذ هو العمدة القصوى والمقصد الأول، وهو قد نزل مصدقا لما جاء في التوراة وما قبلها من كتب الأنبياء؛ فالأوامر التي جاء بها: من الدعوة إلى التوحيد وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إلى نحو ذلك مما يوصّل إلى السعادة في الدنيا والآخرة، هي مثل ما دعاكم إليه موسى والأنبياء قبله، إذ مقصد الجميع واحد، وهو تقرير الحق، وهداية الخلق، وإزالة ما طرأ على العقائد من الضلال.
9. ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ أي ولا تسارعوا إلى الكفر به، مع أن الأجدر بكم أن تكونوا أوّل من يؤمن به، إذ أنتم تعرفون حقيقته مما معكم من الكتب الإلهية، وقد كنتم تبشرون بزمانه، وقد جاء في كتب السيرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قدم المدينة فكذبه يهودها، ثم بنو قريظة، وبنو النّضير، ثم خيبر، ثم تتابعت على ذلك سائر اليهود.
10. ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي ولا تعرضوا عن التصديق بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل الذي يستفيده الرؤساء من مرؤوسيهم من مال وجاه، ويرجوه المرؤوسون من الحظوة باتباع الرؤساء ويخشونه من سطوتهم إذا هم خالفوهم.
11. سمى هذا البدل قليلا لأن صاحبه يخسر رضوان الله وتحل به عقوبته في الدنيا والآخرة، ويخسر عزّ الحق، ويخسر عقله لإعراضه عن واضح البراهين وبيّن الآيات.
12. ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ بالإيمان واتباع الحق، والإعراض عن لذات الدنيا متى شغلت عن أعمال الآخرة، وليس في هذا تكرار مع قوله: وإياي فارهبون، لأن استبدال الباطل بالحق إنما كان لاتقاء الرئيس خوف منفعة تفوته من المرؤوس، واتقاء المرؤوس خوف غضب الرئيس، فطلب إليهم أن يتقوا الله وحده، إذ بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير، وإليه المصير.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/100.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إن المستعرض لتاريخ بني إسرائيل ليأخذه العجب من فيض الآلاء التي أفاضها الله عليهم، ومن الجحود المنكر المتكرر الذي قابلوا به هذا الفيض المدرار.
2. هنا يذكرهم الله بنعمته التي أنعمها عليهم إجمالا، قبل البدء في تفصيل بعضها في الفقر التالية، يذكرهم بها ليدعوهم بعدها إلى الوفاء بعهدهم معه ـ سبحانه ـ كي يتم عليهم النعمة ويمد لهم في الآلاء:
3. أي عهد هذا الذي يشار إليه في هذا المقام؟
أ. أهو العهد الأول، عهد الله لآدم: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾؟
ب. أم هو العهد الكوني السابق على عهد الله هذا مع آدم. العهد المعقود بين فطرة الإنسان وبارئه: أن يعرفه ويعبده وحده لا شريك له، وهو العهد الذي لا يحتاج إلى بيان، ولا يحتاج إلى برهان، لأن فطرة الإنسان بذاتها تتجه إليه بأشواقها اللدنية، ولا يصدها عنه إلا الغواية والانحراف؟
ج. أم هو العهد الخاص الذي قطعه الله لإبراهيم جد إسرائيل، والذي سيجيء في سياق السورة: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾؟
د. أم هو العهد الخاص الذي قطعه الله على بني إسرائيل وقد رفع فوقهم الطور، وأمرهم أن يأخذوا ما فيه بقوة، والذي سيأتي ذكره في هذه الجولة؟
4. إن هذه العهود جميعا إن هي إلا عهد واحد في صميمها.. إنه العهد بين البارئ وعباده أن يصغوا قلوبهم إليه، وأن يسلموا أنفسهم كلها له، وهذا هو الدين الواحد، وهذا هو الإسلام الذي جاء به الرسل جميعا؛ وسار موكب الإيمان يحمله شعارا له على مدار القرون.
5. ووفاء بهذا العهد يدعو الله بني إسرائيل أن يخافوه وحده وأن يفردوه بالخشية: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾
6. وفاء بهذا العهد كذلك يدعو الله بني إسرائيل أن يؤمنوا بما أنزله على رسوله، مصدقا لما معهم؛ وألا يسارعوا إلى الكفر به، فيصبحوا أول الكافرين؛ وكان ينبغي أن يكونوا أول المؤمنين: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ .
7. ما الإسلام الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا الدين الواحد الخالد، جاء به في صورته الأخيرة؛ وهو امتداد لرسالة الله، ولعهد الله منذ البشرية الأولى، يضم جناحيه على ما مضى، ويأخذ بيد البشرية فيما سيأتي؛ ويوحد بين (العهد القديم) ويضيف ما أراده الله من الخير والصلاح للبشرية في مستقبلها الطويل؛ ويجمع بذلك بين البشر كلهم إخوة متعارفين؛ يلتقون على عهد الله، ودين الله؛ لا يتفرقون شيعا وأحزابا، وأقواما وأجناسا؛ ولكن يلتقون عبادا لله، مستمسكين جميعا بعهده الذي لا يتبدل منذ فجر الحياة.
8. ينهى الله بني إسرائيل أن يكون كفرهم بما أنزله مصدقا لما معهم، شراء للدنيا بالآخرة، وإيثارا لما بين أيديهم من مصالح خاصة لهم ـ وبخاصة أحبارهم الذين يخشون أن يؤمنوا بالإسلام فيخسروا رياستهم، وما تدره عليهم من منافع وإتاوات ـ ويدعوهم إلى خشيته وحده وتقواه.
9. الثمن والمال والكسب الدنيوي المادي.. كله شنشنة يهود من قديم! وقد يكون المقصود بالنهي هنا هو ما يكسبه رؤساؤهم من ثمن الخدمات الدينية والفتاوى المكذوبة، وتحريف الأحكام حتى لا تقع العقوبة على الأغنياء منهم والكبراء، كما ورد في مواضع أخرى، واستبقاء هذا كله في أيديهم بصد شعبهم كله عن الدخول في الإسلام، حيث تفلت منهم القيادة والرئاسة.. على أن الدنيا كلها ـ كما قال بعض الصحابة والتابعين في تفسير هذه الآية ـ ثمن قليل، حين تقاس إلى الإيمان بآيات الله، وإلى عاقبة الإيمان في الآخرة عند الله.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/67.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. النعمة التي أنعم الله بها على بنى إسرائيل، هي بعث الرسل إليهم، يحملون الهدى والنور، ولكن القوم في عمى وضلال، وفى شغل بالدنيا لإشباع أطماع قاتلة مسلطة عليهم، فكتموا ما أنزل الله، لقاء عرض زائل منّتهم به أنفسهم، من وراء تلك الشهادات المزوّرة التي يدفعون بها إلى كفار قريش، فيما يسألونهم عنه من أمر (محمد) باعتبار أنهم أهل كتاب، وأهل علم، كما قال الله تعالى عنهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾
2. العهد الذي دعا الله بنى إسرائيل إلى الوفاء به، هو ما أخذه الله على أهل الكتاب، وأهل العلم منهم خاصة ـ وهو أن يؤدوا هذه الأمانة ـ أمانة العلم ـ التي حملوها إلى الناس، وألا يكتموا منها شيئا، أو يحرفوها على غير الوجه الذي جاءت عليه.
3. يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾، وكما يشير إليه أيضا قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾، والمراد بالنبيين هنا النبيون وأتباعهم، فقد أخذ الله هذا الميثاق على النبيين ثم أخذه النبيّون على أتباعهم، وبذلك يتناصر المؤمنون، ويجتمعون على كلمة الحق، وتحت راية الحق، وإن تباعدت أوطانهم، واختلفت أجناسهم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/79.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ خطاب لذرية يعقوب، وفي ذريته انحصر سائر الأمة اليهودية، وقد خاطبهم بهذا الوصف دون أن يقول: يا أيها اليهود لكونه هو اسم القبيلة، أما اليهود فهو اسم النحلة والديانة، ولأن من كان متبعا دين اليهودية من غير بني إسرائيل كحمير لم يعتد بهم لأنهم تبع لبني إسرائيل، فلو آمن بنو إسرائيل بالنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم لآمن أتباعهم لأن المقلد تبع لمقلده، ولأن هذا الخطاب للتذكير بنعم أنعم الله بها على أسلافهم وكرامات أكرمهم بها فكان لندائهم بعنوان كونهم أبناء يعقوب وأعقابه مزيد مناسبة لذلك ألا ترى أنه لما ذكروا بعنوان التدين بدين موسى ذكروا بوصف الذين هادوا في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ [البقرة: 62]
2. توجيه الخطاب إلى جميع بني إسرائيل يشمل علماءهم وعامتهم لأن ما خوطبوا به، هو من التذكير بنعمة الله على أسلافهم وبعهد الله لهم، وكذلك نجد خطابهم في الأغراض التي يراد منها التسجيل على جميعهم يكون بنحو: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: 64]، أو بوصف اليهود الذين هادوا أو بوصف النصارى.
3. إذا كان الغرض التسجيل على علمائهم نجد القرآن يعنونهم بوصف: ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [النساء: 47] أو ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ [الأنعام: 20]، وقد يستغنى عن ذلك بكون الخبر المسوق مما يناسب علماءهم خاصة مثل قوله تعالى: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 75]، ونحو ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: 41]، ونحو ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 42]، ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: 79] الآية، ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: 89]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 159]، ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ [البقرة: 145] الآية.
4. إذا جاء الخطاب بأسلوب شامل لعلمائهم وعامتهم صرف إلى كل طائفة من الطائفتين ما هو لائق بها.
5. إسرائيل لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، قال ابن عباس: معناه عبد الله، لأن إسرا بمعنى عبد وإيل اسم الله أي مركب من كلمتين ـ إسرا ـ وإيل ـ اسم الله تعالى كما يقولون بيت إيل (اسم لقرية تسمى لوز من أرض كنعان نزلها يعقوب عليه السلام في مهاجره فرارا من أخيه عيسو وبنى فيها مذبحا ودعا اسمه بيت إيل)، والذي في كتب اليهود أن سبب تسمية يعقوب إسرائيل أنه لما كان خائفا في مهاجره من أن يلحقه أخوه عيسو لينتقم منه عرض له في إحدى الليالي شخص فعلم يعقوب أنه ربه (أي ملك من ملائكة الله) فأمسكه وصارعه يعقوب كامل الليل إلى طلوع الفجر فقال له أطلقني فقد طلع الفجر فقال له يعقوب: لا أطلقك حتى تباركني فقال له: ما اسمك؟ قال يعقوب قال له: لا يدعى اسمك يعقوب بعد اليوم بل أنت إسرائيل لأنك جاهدت الله والناس وقدرت، وباركه هناك.. فهذا يدل على أن إسرا في هذا الاسم راجع إلى معنى الأسر في الحرب كما هو في العربية، فإذا كان هذا من أصل التوراة فهو على تأويل رؤيا رآها يعقوب جعل الله بها له شرفا أو عرض له ملك كذلك.
6. ﴿اذْكُرُوا﴾ أمر من الذكر وهو ـ أي الذكر ـ بكسر الذال وضمها يطلق على خطور شيء ببال من نسيه ولذلك قيل: وكيف يذكره من ليس ينساه، ويطلق على النطق باسم الشيء الخاطر ببال الناس، ثم أطلق على التصريح بالدالّ مطلقا لأن الشأن أن أحدا لا ينطق باسم الشيء إلا إذا خطر بباله، وقد فرق بعض اللغويين بين مكسور الذال ومضمومه فجعل المكسور للساني والمضموم للعقلي، ولعلها تفرقة استعمالية مولدة إذ لا يحجر على المستعمل تخصيصه أحد مصدري الفعل الواحد لأحد معاني الفعل عند التعبير فيصير ذلك اصطلاحيا استعماليا لا وضعا حتى يكون من المترادف إذ اتحاد الفعل مانع من دعوى ترادف المصدرين فقد قال عمر: أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه فسمى النوعين ذكرا، والمقصود هنا الذكر العقلي إذ ليس المراد ذكر النعمة باللسان.
7. الأمر بذكر النعمة هنا مراد منه لازمه وهو شكرها، ومن أول مراتب الشكر ترك المكابرة في تلقي ما ينسب إلى الله من الرسالة بالنظر في أدلتها ومتابعة ما يأتي به المرسلون، فقوله: ﴿الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ وصف أشير به إلى وجوب شكر النعم لما يؤذن الموصول وصلته من التعليل فهو من باب قوله تعالى: ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]
8. يفيد ذكر النعمة مع ذلك أمرهم بتفكر النعم التي أنعم بها عليكم لينصرفوا بذلك عن حسد غيرهم فإن تذكير الحسود بما عنده من النعم عظة له وصرف له عن الحسد الناشئ عن الاشتغال بنعم الغير وهذا تعريض بهم أنهم حاسدون للعرب فيما أوتوا من الكتاب والحكمة ببعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وانتقال النبوة من بني إسرائيل إلى العرب وإنما ذكروا بذلك لأن للنفس غفلة عما هو قائم بها وإنما تشتغل بأحوال غيرها لأن الحس هو أصل المعلومات فإذا رأى الحاسد نعم الغير نسي أنه أيضا في نعمة فإذا أريد صرفه عن الحسد ذكر بنعمه حتى يخف حسده فإن حسدهم هو الذي حال دون تصديقهم به فيكون وزانه وزان قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: 54]، وتقديمه على قوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ من باب تقديم التخلية ـ بالمعجمة ـ على التحلية ـ بالمهملة ـ ويكون افتتاح خطابهم بهذا التذكير تهيئة لنفوسهم إلى تلقي الخطاب بسلامة طوية وإنصاف.
9. المراد بالنعمة هنا جميع ما أنعم الله به على المخاطبين مباشرة أو بواسطة الإنعام على أسلافهم فإن النعمة على الأسلاف نعمة على الأبناء لأنها سمعة لهم، وقدوة يقتدون بها، وبركة تعود عليهم منها، وصلاح حالهم الحاضر كان بسببها، وبعض النعم يكون فيما فطر الله عليه الإنسان من فطنة وسلامة ضمير وتلك قد تورث في الأبناء، ولولا تلك النعم لهلك سلفهم أو لساءت حالهم فجاء أبناؤهم في شر حال.
10. يشمل هذا جميع النعم التي أنعم الله بها عليهم فهو بمنزلة اذكروا نعمي عليكم، وهذا العموم مستفاد من إضافة نعمة إلى ضمير الله تعالى إذ الإضافة تأتي لما تأتي له اللام ولا يستقيم من معاني اللام العهد إذ ليس في الكلام نعمة معينة معهودة، ولا يستقيم معنى اللام الجنسية، فتعين أن تكون الإضافة على معنى لام الاستغراق، فالعموم حصل من إضافة نعمة إلى المعرفة، وقليل من علماء أصول الفقه من يذكرون المفرد المعرف بالإضافة في صيغ العموم، وقد ذكره الإمام الرازي في (المحصول) في أثناء الاستدلال.. وقال ابن السبكي: دلالة المفرد المضاف على العموم ما لم يتحقق عهد هو الصحيح نحو قوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: 63] أي كل أمره.
11. تأيد قصد عموم النعمة بأن المقام للامتنان والدعوة إلى الإسلام فيناسبه تكثير النعم، والمراد النعم التي أنعم الله بها على أسلافهم وعلى الحاضرين منهم زمن نزول القرآن فإن النعمة على أسلافهم نعمة عليهم وقد تتابعت النعم عليهم إذ بوأهم قرى في بلاد العرب بعد أن سلبت بلادهم فلسطين وجعلهم في بحبوحة من العيش مع الأمن والثروة ومسالمة العرب لهم.
12. ﴿وَأَوْفُوا﴾ هو فعل مهموز من (وفى) المجرد وأصل معنى، وفى أتم الأمر تقول وفيته حقه، ولما كان المجرد متعديا للمفعول ولم يكن في المهموز زيادة تعدية للتساوي بين قولك وفيته حقه وأوفيته حقه تعينت الزيادة لمجرد المبالغة في التوفية مثل بان وأبان وشغل وأشغل، وأما وفّى بالتضعيف فهو أبلغ من أوفى لأن فعل وإن شارك أفعل في معانيه إلا أنه لما كان دالا على التقضي شيئا بعد شيء كان أدل على المبالغة لأن شأن الأمر الذي يفعل مدرجا أن يكون أتقن، وقد أطلق الوفاء على تحقيق الوعد والعهد إطلاقا شائعا صيره حقيقة.
13. العهد هنا هو الالتزام للغير بمعاملة التزاما لا يفرط فيه المعاهد حتى يفسخاه بينهما، واستعير العهد المضاف إلى ضمير الجلالة لقبول ما يكلفهم به من الدين، واستعمل مجازا لقبول التكاليف والدخول في الدين، واستعير المضاف إلى ضمير المخاطبين للوعد على ذلك بالثواب في الآخرة والنصر في الدنيا.
14. يمكن أن نعتبر كل عهد مجازا مفردا استعمل العهد الأول في التكاليف، واستعمل العهد الثاني في الوعد بالثواب والنصر، واستعمل الإيفاء مع كليهما في تحقيق ما التزم به كلا الجانبين مستعارا من ملائم المشبه به إلى ملائم المشبه ليفيد ترشيحا لاستعارته، ويمكن أن نعتبر المجموع استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من قولهم لما أمرهم الله به وأن لا يقصروا في العمل ومن وعد الله إياهم على ذلك بالثواب بهيئة المتعاهدين على التزام كل منهما بعمل للآخر ووفائه بعهده في عدم الإخلال به فاستعير لهذه الهيئة الكلام المشتمل على قوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ وهذا أحسن وبه يتبين وجه استعمال لفظ العهد الثاني في قوله تعالى: ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ وتقربه المشاكلة.
15. على الوجهين فالعهد في الموضعين مضاف للمفعول وهو ما ذهب إليه صاحب (الكشاف) لأن إضافته إلى المفعول متعينة إذا تعلق به الإيفاء، إذ لا يوفي أحد إلا بعهد نفسه، فإذا أضيف العهد الذي هو مفعول ﴿أَوْفُوا﴾ إلى غير فاعل الإيفاء تعين أن تكون إضافته للمفعول، وبذلك يتم ترشيح المجاز إن كان مفردا، فإن كان مركبا فأخلق به لأن اللفظ الموضوع للهيئة المشبه بها يضاف بقيد الإيفاء إلى مفعوله لا محالة.
16. من لطائف القرآن في اختيار لفظ العهد للاستعارة هنا لتكليف الله تعالى إياهم أن ذلك خطاب لهم باللفظ المعروف عندهم في كتبهم، فإن التوراة المنزلة على موسى عليه السلام تلقب عندهم بالعهد لأنها وصايات الله تعالى لهم، ولذا عبر عنه في مواضع من القرآن بالميثاق، وهذا من طرق الإعجاز العلمي الذي لا يعرفه إلا علماؤهم، وهم أشح به منهم في كل شيء بحيث لا يعرف ذلك إلا خاصة أهل الدين، فمجيئه على لسان النبي العربي الأمي دليل على أنه وحي من العلام بالغيوب.
17. العهد قد أخذ على أسلافهم بواسطة رسلهم وأنبيائهم، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ [آل عمران: 81] الآية، وإذ قد كان المخاطبون بالآية قد تلقوا الشريعة من أسلافهم بما فيها من عهد، فقد كان العهد لازما لهم، وكان الوفاء متعينا عليهم لأنهم الذين جاء فيهم الرسول الموعود به.
18. ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ عطفت الواو جملة ﴿وَإِيَّايَ﴾ على الجمل المتقدمة من قوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ إلى آخرها على طريقه الانتقال من معنى إلى المعنى المتولد عنه، وهي أصل طريقة المنشئين أن يراعوا الترتيب الخارجي في الخبر والإنشاء لأنه الأصل ما لم يطرأ مقتض لتغيير الترتيب الطبيعي، ومنه في القرآن قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾ [هود: 77]، فإنه لما افتتح خطابهم بالتذكير بالنعمة الباعث على شكر المنعم ومراقبة حقه والمطهر لهم من الحسد فإنه صارف عن الاعتراف بالنعمة.. ثم عطف عليه قوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ وهو مبدأ المقصود من الأمر بتصديق الرسول الموعود به على ألسنة أنبيائهم.. ثم عقب ذلك بقوله: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ فهو تتميم لذلك الأمر السابق بالنهي عما يحول بينهم وبين الإيفاء بالعهد على وجهه، وذلك هو صد كبرائهم وأحبارهم إياهم عن الانتقال عما هم عليه من التمسك بالتوراة فإنهم هم القوم الذين كانوا يقولون لملك بلادهم فرعون مصر يوم بعثة موسى ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا﴾ [طه: 72] فكانوا أحرياء بأن يخاطبوا سادتهم وأحبارهم بمثل ذلك الخطاب عند البعثة المحمدية.
19. تقديم المفعول هنا متعين للاختصاص ليحصل من الجملة إثبات ونفي، واختير من طرق القصر طريق التقديم دون ما وإلا ليكون الحاصل بالمنطوق هو الأمر برهبة الله تعالى، ويكون النهي عن رهبة غيره حاصلا بالمفهوم، فإنهم إذا رهبوا الله تعالى حرصوا على الإيفاء بالعهد، ولما كانت رهبتهم أحبارهم تمنعهم من الإيفاء بالعهد أدمج النهي عن رهبة غير الله مع الأمر برهبة الله تعالى في صيغة واحدة.
20. تقديم المفعول مع اشتغال فعله بضميره آكد في إفادة التقديم الحصر من تقديم المفعول على الفعل غير المشتغل بضميره، فإياي ارهبون آكد من نحو إياي ارهبوا كما أشار إليه صاحب (الكشاف) إذ قال: وهو من قولك زيدا رهبته وهو أوكد في إفادة الاختصاص من ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: 5])، ووجهه أن تقديم المفعول يحتمل الاختصاص، إلا أن الأصل فيه أن يدل على الاختصاص إلا إذا أقامت القرينة على التقوى فإذا كان مع التقديم اشتغال الفعل بضمير المقدم نحو زيدا ضربته كان الاختصاص أوكد أي كان احتمال التقوى أضعف وذلك لأن إسناد الفعل إلى الضمير بعد إسناده إلى الظاهر المتقدم يفيد التقوى فتعين أن تقديم المفعول للاختصاص دون التقوى إذ التقوى قد حصل بإسناد الفعل أولا إلى الاسم أو الظاهر المتقدم وثانيا إلى ضمير المتقدم.
21. هذا والتقديم إذا اقترن بالفاء كان فيه مبالغة، لأن الفاء كما في هذه الآية مؤذنة بشرط مقدر ولما كان هذا الشرط لا دليل عليه إلا الفاء تعين تقديره عاما نحو إن يكن شيء أو مهما يكن شيء كما أشار له صاحب (الكشاف) في قوله تعالى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر: 3] حيث قال: ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل مهما كان فلا تدع تكبيره)، فالمعنى هنا وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ومهما يكن شيء فإياي ارهبوني، فلما حذفت جملة الشرط بعد واو العطف بقيت فاء الجواب موالية لواو العطف فزحلقت إلى أثناء الجواب كراهية توالي حرفين، فقيل ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ بدلا عن أن يقال فارهبون، والتعليق على الشرط العام يستلزم تحقق وقوع الجواب لأن التعليق الشرطي بمنزلة ربط المسبب بالسبب فإذا كان المعلق عليه أمرا محقق الوقوع لعدم خلو الحدثان عنه تعين تحقق وقوع المعلق.
22. في قوله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ وجوها من التأكيد: تقديم الضمير المنفصل، وتأخير المتصل، والفاء الموجبة معطوفا عليه ومعطوفا تقديره إياي ارهبوا فارهبون أحدهما مقدر والثاني مظهر، وما في ذلك من تكرار الرهبة، وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئا فارهبون.
23. حذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية في قوله: ﴿فَارْهَبُونِ﴾ للجمهور من العشرة في الوصل والوقف وأثبتها يعقوب في الوصل والوقف، وجمهور العرب يحذفونها في الوقف دون الوصل وهذيل يحذفونها في الوقف والوصل وأهل الحجاز يثبتونها في الحالين.
24. ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ شروع في دعوة بني إسرائيل إلى الإسلام وهدي القرآن وهذا هو المقصود من خطابهم، ولكن قدم بين يديه ما يهيئ نفوسهم إلى قبوله كما تتقدم المقدمة على الغرض، والتخلية على التحلية.
25. الإيمان بالكتاب المنزل من عند الله أو بكتب الله، وإن كان من جملة ما شمله العهد المشار إليه بقوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ [البقرة: 40] إلا أنه لم يلتفت إليه هنا من تلك الجهة لأنهم عاهدوا الله على أشياء كثيرة، ومن جملتها الإيمان بالرسل والكتب التي تأتي بعد موسى عليه السلام إلا أن ذلك مجمل في العهد فلا يتعين أن يكون ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو مما عاهدوا الله عليه، بل حتى يصدقوا بأنه من عند الله وأن الجائي به رسول من الله فهم مدعوّون إلى ذلك التصديق هنا، عطف قوله: ﴿وَآمِنُوا﴾ على قوله: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة: 40] كعطف المقصد على المقدمة، وعطفه على قوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ من قبيل عطف الخاص على العام في المعنى، ولكن هذا من عطف الجمل فلا يقال فيه عطف خاص على عام لأنه إنما يكون في عطف الجزئي على الكلي من المفردات لا في عطف الجمل.
26. في تعليق الأمر باسم الموصول وهو ﴿مَا أُنْزِلَتْ﴾ دون غيره من الأسماء نحو الكتاب أو القرآن أو هذا الكتاب إيماء إلى تعليل الأمر بالإيمان به وهو أنه منزل من الله وهم قد أوصوا بالإيمان بكل كتاب يثبت أنه منزل من الله، ولهذا أتى بالحال التي هي علة الصلة إذ جعل كونه مصدقا لما في التوراة علامة على أنه من عند الله، وهي العلامة الدينية المناسبة لأهل العلم من أهل الكتاب فكما جعل الإعجاز اللفظي علامة على كون القرآن من عند الله لأهل الفصاحة والبلاغة من العرب كما أشير إليه بقوله: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: 1، 2] إلى قوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: 23]؛ كذلك جعل الإعجاز المعنوي وهو اشتماله على الهدى الذي هو شأن الكتب الإلهية علامة على أنه من عنده لأهل الدين والعلم بالشرائع، ثم الإيمان بالقرآن يستلزم الإيمان بالذي جاء به وبالذي أنزله.
27. المراد بما معهم كتب التوراة الأربعة وما ألحق بها من كتب الأنبياء من بني إسرائيل كالزبور، وكتاب أشعياء، وأرمياء، وحزقيال، ودانيال وغيرها، ولذا اختير التعبير بما معكم دون التوراة مع أنها عبر بها في مواضع غير هذا لأن في كتب الأنبياء من بعد موسى عليه السلام بشارات ببعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أصرح مما في التوراة فكان التنبيه إليها أوقع.
28. المراد من كون القرآن مصدقا لما معهم:
أ. أنه يشتمل على الهدى الذي دعت إليه أنبياؤهم من التوحيد والأمر بالفضائل واجتناب الرذائل وإقامة العدل ومن الوعيد والوعد والمواعظ والقصص فما تماثل منه بها، فأمره ظاهر.
ب. وما اختلف فإنما هو لاختلاف المصالح والعصور مع دخول الجميع تحت أصل واحد، ولذلك سمي ذلك الاختلاف نسخا لأن النسخ إزالة حكم ثابت ولم يسم إبطالا أو تكذيبا، فظهر أنه مصدق لما معهم حتى فيما جاء مخالفا فيه لما معهم لأنه ينادي على أن المخالفة تغيير أحكام تبعا لتغير أحوال المصالح والمفاسد بسبب تفاوت الأعصار بحيث يكون المغيّر والمغيّر حقا بحسب زمانه وليس ذلك إبطالا ولا تكذيبا قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ﴾ [النساء: 160] الآية.
29. هذا يشير إلى أن الإيمان بالقرآن لا ينافي تمسكهم القديم بدينهم، ولا ما سبق من أخذ رسلهم عليهم العهد باتباعه، ومما يشمله تصديق القرآن لما معهم أن الصفات التي اشتمل عليها القرآن ودين الإسلام والجائي به موافقة لما بشرت به كتبهم، فيكون وروده معجزة لأنبيائهم وتصديقا آخر لدينهم، وهو أحد وجهين ذكرهما الفخر والبيضاوي، فيلزم تأويل التصديق بالتحقيق لأن التصديق حقيقة في إعلام المخبر (بفتح الباء) بأن خبر المخبر مطابق للواقع إما بقوله صدقت أو صدق فلان كما ورد في حديث جبريل في (صحيح البخاري) لما سأله عن الإيمان والإسلام والإحسان أنه لما أخبره قال السائل صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه، وإما بأن يخبر الرجل بخبر مثل ما أخبر به غيره فيكون إخباره الثاني تصديقا لإخبار الأول، وأما إطلاق التصديق على دلالة شيء على صدق خبر ما فهو إطلاق مجازي والمقصود وصف القرآن بكونه مصدقا لما معهم بأخباره وأحكامه لا وصف الدين والنبوة كما لا يخفى.
30. ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ جمع الضمير في ﴿تَكُونُوا﴾ مع إفراد لفظ ﴿كَافِرٌ﴾ يدل على أن المراد من الكافر فريق ثبت له الكفر لا فرد واحد فإضافة ﴿أَوَّلُ﴾ إلى ﴿كَافِرٌ﴾ بيانية تفيد معنى فريق هو أول فرق الكافرين.
31. الضمير المجرور في ﴿بِهِ﴾ ظاهره أنه عائد إلى ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ لأنه المقصود، وهو عطف على جملة ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ وهو ارتقاء في الدعوة واستجلاب القلوب فإنه لما أمرهم بالإيمان بالقرآن وكانت صيغة الأمر محتملة لطلب الامتثال بالفور أو بالتأخير وكانوا معروفين بشدة العداوة لدين الإسلام، عطف على أمرهم بالإيمان بالقرآن نهيهم عن أن يكونوا أول كافر بالقرآن، وذلك يصدق بمعان بعضها يستفاد من حق التركيب وبعضها من لوازمه وبعضها من مستتبعاته وكلها تحتملها الآية.
32. من المعاني التي تحتملها الآية أن يحمل قوله: ﴿أَوَّلَ كَافِرٍ﴾ على حقيقة معنى الأول وهو السابق غيره فيحصل من الجملة المعطوفة تأكيد الجملة المعطوف عليها بدلالة المطابقة فالنهي عن الكفر بالقرآن يؤكد قوله: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ ثم إن وصف (أول) يشعر بتقييد النهي بالوصف ولكن قرينة السياق دالة على أنه لا يراد تقييد النهي عن الكفر بحالة أوليتهم في الكفر، إذ ليس المقصود منه مجرد النهي عن أن يكونوا مبادرين بالكفر ولا سابقين به غيرهم لقلة جدوى ذلك، ولكن المقصود الأهم منه أن يكونوا أول المؤمنين فأفيد ذلك بطريق الكناية التلويحية، فإن وصف أول أصله السابق غيره في عمل يعمل أو شيء يذكر فالسبق والمبادرة من لوازم معنى الأولى لأنها بعض مدلول اللفظ، ولما كان الإيمان والكفر نقيضين إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر كان النهي عن أن يكونوا أول الكافرين يستلزم أن يكونوا أول المؤمنين.
33. المقصود من النهي توبيخهم على تأخرهم في اتباع دعوة الإسلام فيكون هذا المركب قد كني به عن معنيين من ملزوماته، هما معنى المبادرة إلى الإسلام ومعنى التوبيخ المكنى عنه بالنهي، فيكون معنى النهي مرادا ولازمه وهو الأمر بالمبادرة بالإيمان مرادا وهو المقصود فيكون الكلام كناية اجتمع فيها الملزوم واللازم معا، فباعتبار اللازم يكون النهي في معنى الأمر فيتأكد به الأمر الذي قبله كأنه قيل: وآمنوا بما أنزلت وكونوا أول المؤمنين، وباعتبار الملزوم يكون نهيا عن الكفر بعد الأمر بالإيمان فيحصل بذلك غرضان.
34. هذه الكناية تعريضية لأن غرض المعنى الكنائي غير غرض المعنى الصريح وهذا الذي يفيده التعريض، وهو أن يكون غرض الحكم المشار إليه به غير غرض الحكم المصرح به، أو أن يكون المحكوم له به غير المحكوم له بالصريح، وهذا الوجه مستند إلى الظاهر والتحقيق بين متناثر كلامهم في التعريض المعروف من الكناية.
35. يندفع بهذا إشكالان مستقلان أحدهما ناشئ عما قبله:
أ. الأول كيف يصح النهي عن أن يكونوا أول الكافرين ومفهومه يقتضي أنهم لو كفروا به ثانيا لما كان كفرهم منهيّا عنه؟
ب. الثاني أنه قد سبقهم أهل مكة للكفر لأن آية البقرة في خطاب اليهود نزلت في المدينة فقد تحقق أن اليهود لم يكونوا أول الكافرين، فالنهي عن أن يكونوا أول الكافرين تحصيل حاصل، ووجه الاندفاع أن المقصود الأهم هو المعنى التعريضي، وهو يقوم قرينة على أن القصد من النهي أن لا يكونوا من المبادرين بالكفر أي لا يكونوا متأخرين في الإيمان، وهذا أول الوجوه في تفسير الآية عند صاحب (الكشاف) واختاره البيضاوي فاقتصر عليه التعريض في خصوص وصف (أول) وأما أصل النهي عن أن يكونوا كافرين به فذلك مدلول اللفظ حقيقة وصريحا، والتعريض من قبيل الكناية التلويحية لما فيه من خفاء الانتقال من المعنى إلى لوازمه، وبعض التعريض يحصل من قرائن الأحوال عند النطق بالكلام ولعل هذا لا يوصف بحقيقة ولا مجاز ولا كناية وهو من مستتبعات التراكيب ودلالتها العقلية وسيجيء لهذا زيادة بيان عند قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ [البقرة: 235] في هذه السورة.
36. قد يكون المقصود التعريض بالمشركين وأنهم أشد من اليهود كفرا أي لا تكونوا في عدادهم، ولعل هذا هو مراد صاحب (الكشاف) من قوله: ويجوز أن يراد ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من أهل مكة) ولا يريد أنه تشبيه بليغ وإن كان كلامه يوهمه وسكت عنه شراحه.
37. قد يكون المقصود من (أول) المبادر والمستعجل لأنه من لوازم الأولية كما قال تعالى: ﴿فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزخرف: 81] وقال سعيد بن مقروم الضبي:
فدعوا نزال فكنت أول نازل... وعلام أركبه إذا لم أنزل
فقوله: أول نازل لا يريد تحقيق أنه لم ينزل أحد قبله، وإنما أراد أنه بادر مع الناس فإن الشأن أنه إذا دعا القوم نزال أن ينزل السامعون كلهم ولكنه أراد أنه ممن لم يتربص، ويكون المعنى ولا تعجلوا بالتصريح بالكفر قبل التأمل، فالمراد من الكفر هنا التصميم عليه لا البقاء على ما كانوا عليه فتكون الكناية بالمفرد وهو كلمة (أول).
38. قد يكون المقصود من (أول) أن يكون (أول) كناية عن القدوة في الأمر لأن الرئيس وصاحب اللواء ونحوهما يتقدمون القوم، قال تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [هود: 98] وقال خالد بن زهير وهو ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي:
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها... فأول راض سنة من يسيرها
أي الأجدر والناصر لسنة، والمعنى ولا تكونوا مقرين للكافرين بكفركم فإنهم إن شاهدوا كفركم كفروا اقتداء بكم وهذا أيضا كناية بالمفرد.
39. قد يكون المقصود من (أول) أن يكون المراد الأول بالنسبة إلى الدعوة الثانية وهي الدعوة في المدينة لأن ما بعد الهجرة هو حال ثانية للإسلام، فيما ظهر الإسلام متميزا مستقلا.
40. هذا كله مبني على جعل الضمير المجرور بالباء في قوله: ﴿كَافِرٍ بِهِ﴾ عائدا على ما ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ أي القرآن وهو الظاهر لأنه ذكر في مقابل الإيمان به، وقيل: إن الضمير عائد على ما معكم وهو التوراة قال ابن عطية: وعلى هذا القول يجيء ﴿أَوَّلَ كَافِرٍ﴾ مستقيما على ظاهره في الأولية)، ولا يخفى أن هذا الوجه تكلف لأنه مؤول بأن كفرهم بالقرآن وهو الذي جاء على نحو ما وصفت التوراة وكتب أنبيائهم في بشاراتهم بنبي وكتاب يكونان من بعد موسى فإذا كذبوا بذلك فقد كفروا بصحة ما في التوراة فيفضي إلى الكفر بما معهم، قال التفتازانيّ: وهذا كله إنما يتم لو كان كفرهم به بمعنى ادعائهم أنه كله كذب وأما إذا كفروا بكونه كلام الله واعتقدوا أن فيه صدقا وكذبا فلا يتم، ولهذا كان هذا الوجه مرجوحا، ورده عبد الحكيم بما لا يليق به.
41. بهذا كله يتضح أن قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ لا يتوهم منه أن يكون النفي منصبا على القيد بحيث يفيد عدم النهي عن أن يكونوا ثاني كافر أو ثالث كافر بسبب القرينة الظاهرة وأن أول كافر ليس من قبيل الوصف الملازم حتى يستوي في نفي موصوفه أن يذكر الوصف وأن لا يذكر كقول امرئ القيس: على لاحب لا يهتدى بمناره.. وقول ابن أحمر: ولا ترى الضّبّ بها ينجحر.
42. ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ عطف على النهي الذي قبله، وهذا النهي موجّه إلى علماء بني إسرائيل وهم القدوة لقومهم والمناسبة أن الذي صدهم عن قبول دعوة الإسلام هو خشيتهم أن تزول رئاستهم في قومهم فكانوا يتظاهرون بإنكار القرآن ليلتف حولهم عامة قومهم فتبقى رئاستهم عليهم، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم)
43. والاشتراء هو اعتياض أعيان بغيرها مثلها أو ثمنها من النقدين ونحوهما كأوراق المال والسفاتج، وقد استعير الاشتراء هنا لاستبدال شيء بآخر دون تبايع.
44. الآيات جمع آية وأصلها في اللغة العلامة على المنزل أو على الطريق قال النابغة:
توهّمت آيات لها فعرفتها... لستة أعوام وذا العام سابع
ثم أطلقت الآية على الحجة لأن الحجة علامة على الحق قال الحارث ابن حلّزة:
من لنا عنده من الخير يا... ت ثلاث في كلّهن القضاء
ولذلك سميت معجزة الرسول آية كما في قوله تعالى: ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ﴾ [النمل: 12] ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ﴾ [الأعراف: 203]، وأطلقت أيضا على الجملة التامة من القرآن قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران: 7] وفي الحديث الصحيح قال رسول الله: أما تكفيك آية الصيف ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ [النساء: 176] لأن جمل القرآن حجة على صدق الرسول لأن بلاغتها معجزة، وإطلاق آية على الجملة من التوراة في حديث الرجم في قول الراوي (فوضع المدراس يده على آية الرجم) مجاز على مجاز لعلاقة المشابهة.
45. وجه المشابهة بين إعراضهم وبين الاشتراء، أن إعراضهم عن آيات القرآن لأجل استبقاء السيادة، والنفع في الدنيا يشبه استبدال المشتري في أنه يعطي ما لا حاجة له به ويأخذ ما إليه احتياجه وله فيه منفعته، ففي ﴿تَشْتَرُوا﴾ استعارة تحقيقية في الفعل، ويجوز كون ﴿تَشْتَرُوا﴾ مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم أو بعلاقة الاستعمال المقيد في المطلق كما تقدم في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: 16]، لكن هنا الاستعارة متأتية فهي أظهر لظهور علاقة المشابهة واستغناء علاقة المشابهة عن تطلب وجه العدول عن الحقيقة إلى المجاز لأن مقصد التشبيه وحده كاف في العدول إلى الاستعارة، إذ التشبيه من مقاصد البلغاء.
46. وإذ قد كان فعل الاشتراء يقتضي شيئين أبدل أحدهما بالآخر جعل العوض المرغوب فيه هو المشتري وهو المأخوذ ويعدى إلى الفعل بنفسه، وجعل العوض الآخر هو المدفوع ويسمى الثمن ويتعدى الفعل إليه بالباء الدالة على معنى العوض، وقد عدي الاشتراء هنا إلى الآيات بالباء فكانت الآيات هي الواقعة موقع الثمن لأن الثمن هو مدخل الباء فدل دخول الباء على أن الآيات شبهت بالثمن في كونها أهون العوضين عند المستبدل، وذكر الباء قرينة المكنية لأنها تدخل على الثمن ولا يصح كونها تبعية إذ ليس ثم معنى حقه أن يؤدى بالحرف شبه بمعنى الباء، فها هنا يتعين سلوك طريقة السكاكي في رد التبعية للمكنية، ولا يصح أيضا جعل الباء تخييلا إذ ليست دالة على معنى مستقل يمكن تخيله.
47. عبر عن مفعول الاشتراء بلفظ الثمن وكان الظاهر أن يعطى لفظ الثمن لمدخول الباء أو أن يعبر عن كل بلفظ آخر كأن يقال: لا تشتروا بآياتي متاعا قليلا فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر وعبر عن المتاع ونحوه بالثمن على طريق الاستعارة التحقيقية لتشبيه هذا العوض من الرئاسة أو المال بالثمن أو لأنه يشبه الثمن في كونه أعيانا وحطاما جعلت بدلا عن أمر نافع وفي ذلك تعريض بهم في أنهم مغبونو الصفقة إذ قد بذلوا أنفس شيء وأخذوا حظّا ما قليلا فكان كلا البدلين في الآية مشبها بالثمن إلا أن الآيات شبهت به في كونها أهون على المعتاض، والمتاع الذي يأخذونه شبه بالثمن في كونه شيئا ماديا يناله كل أحد أو للإشارة إلى أن كلا من الآيات والثمن أمر هين على فريق فالآيات هانت على الأحبار والأموال هانت على العامة وخص الهين حقيقة بإعطائه اللفظ الحقيقي الدال على أنه هين وأما الهين صورة فقد أعطى الباء المجازية وكل من الاستعارتين قرينة على الأخرى، ولأنه لما غلب في الاستعمال إطلاق الثمن على النقدين اختير إطلاق ذلك على ما يأخذونه تلميحا إلى أنهم يأخذون المال عن تغيير الأحكام الشرعية كقوله ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى﴾ [الأعراف: 169]
48. إضافة آيات إلى ضمير الجلالة للتشريف، فقد عظم الآيات بشيئين الجمع والإضافة إلى ضمير الجلالة وحقر العوض بتحقيرين التنكير والوصف بالقلة.. وفي ذلك تعريض بغبن صفقتهم إذ استبدلوا نفيسا بخسيس.
49. وصف ﴿قَلِيلًا﴾ صفة كاشفة لأن الثمن الذي تباع به إضاعة الآيات هو قليل ولو كان أعظم متمول بالنسبة إلى ما أضاعه آخذ ذلك الثمن.
50. أجمل العوض الذي استبدلوا به الآيات فلم يبين أهو الرئاسة أو الرشى التي يأخذونها ليشمل ذلك اختلاف أحوالهم فإنهم متفاوتون في المقاصد التي تصدهم عن اتباع الإسلام على حسب اختلاف همهم.
51. وصف ﴿ثَمَنًا﴾ بقوله: ﴿قَلِيلًا﴾ ليس المراد به التقييد بحيث يفيد النهي عن أخذ عوض قليل دون أخذ عوض له بال وإنما هو وصف ملازم للثمن المأخوذ عوضا عن استبدال الآيات، فإن كل ثمن في جانب ذلك هو قليل، فذكر هذا القيد مقصود به تحقير كل ثمن في ذلك، فهذا النفي شبيه بنفي القيود الملازمة للمقيد ليفيد نفي القيد والمقيد معا كما في البيت المشهور لامرئ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره... إذا سافه العود الدّيافي جرجرا
أي لا منار له فيهتدى به لأن الاهتداء لازم للمنار، وكذلك قول ابن أحمر:
لا يفزع الأرنب أهوالها... ولا ترى الضبّ بها ينجحر
أي لا أرنب بها حتى يفزع من أهوالها ولا ضبّ بها حتى ينجحر.. ومثله كثير في الكلام البليغ.
52. وقع ﴿ثَمَنًا﴾ نكرة في سياق النهي وهو كالنفي فشمل كل عوض، كما وقعت الآيات جمعا مضافا فشملت كل آية، كما وقع الفعل في سياق النفي فشمل كل اشتراء إذ الفعل كالنكرة.
53. ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ القول فيه كالقول في ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ إلا أن التعبير في الأولى بارهبون وفي الثاني باتقون لأن الرهبة مقدّمة التقوى إذ التقوى رهبة معتبر فيها العمل بالمأمورات واجتناب المنهيات بخلاف مطلق الرهبة فإنها اعتقاد وانفعال دون عمل، ولأن الآية المتقدمة تأمرهم بالوفاء بالعهد فناسبها أن يخوفوا من نكثه، وهذه الآية تأمرهم بالإيمان بالقرآن الذي منعهم منه بقية دهمائهم فناسبها الأمر بأن لا يتقوا إلا الله، وللتقوى معنى شرعي وهي بذلك المعنى أخص لا محالة من الرهبة.
54. الخطاب وإن كان لبني إسرائيل غير أن خطابات القرآن وقصصه المتعلقة بالأمم الأخرى إنما يقصد منها الاعتبار والاتعاظ فنحن محذرون من مثل ما وقعوا فيه بطريق الأولى لأننا أولى بالكمالات النفسية كما قال بشار: الحر يلحى والعصا للعبد، وكالبيت السائر:
العبد يقرع بالعصا... والحر تكفيه الإشارة
فعلماؤنا منهيون على أن يأتوا بما نهي عنه بنو إسرائيل من الصدف عن الحق لأعراض الدنيا وكذلك كانت سيرة السلف.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/435.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ النداء لأولاد إسرائيل من عهد موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكن المخاطبين هم الذين عاصروا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وخوطب من كانوا في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنعم التي أنعم الله بها على بنى إسرائيل في ماضيهم، مع أنهم لم يروها، فالذين عبدوا العجل ليسوا هم، والذين كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم ليسوا هم، ولا تزر وازرة وزر أخرى.. خوطبوا بكفرهم النعم ونقضهم الميثاق، لأنهم أمة واحدة، ويخاطب الحاضرون بمآثم الماضين إذا علموها وأقروها وساروا على مثلها، ولو أنهم ناقضوها، أو استنكروها، كعبد الله بن سلام وغيره، ما خوطبوا بأخطاء من سبقوهم، لأنهم لم يرضوا عنها ولم ينادوا بشرف الانتماء إليهم.
2. النداء بـ (يا) يكون للبعيد، ويراد هنا بالبعد البعد المعنوي، وهو علو الله في ندائهم، وناداهم ببنى إسرائيل تذكيرا بمقام يعقوب وشرفه، وأنه كان ذلك النسب مقتضيا أن يكونوا في مثل شرفه النبوي، وإيمانه وإذعانه وأن يكونوا عونا للخير، وأن يكونوا شاكرين لأنعمه مثله.
3. هم بنو إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعا السلام، فهم ذرية إبراهيم من فرع إسحاق، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فرع إبراهيم من إسماعيل الابن البكر له عليهما السلام، وقد وهب إسماعيل وإسحاق لإبراهيم على الكبر؛ ولذلك قال فيما حكاه عنه رب العالمين: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم]
4. بنو يعقوب ذرية إبراهيم من إسحاق جعلهم الله تعالى صورا للإنسانية التي يختبرها سبحانه وتعالى بالنعم، فمنهم من يشكرها، ومنهم من يكفرها وهم الأكثرون، واختبرهم سبحانه بالنقم تنزل بهم بكفرهم، واستيلاء الشر عليهم، فكانوا بهذا مثلا واضحا للإنسان الذي يتسلط عليه إبليس في النعم والنقم فإن اختبرهم بالنعم لم يشكروها وطغوا واستكبروا كما فعل إبليس، وإن اختبرهم بالنقم ذلوا واستكانوا؛ ولذلك كانوا مثلا للخاضعين لإبليس وهم في نعمهم ونقمهم يحسدون الناس على ما أتاهم من فضله.
5. ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ ومعنى اذكروها، تفكروا في أمرها، وما يوجبه، فإن ذلك التفكر في مقدارها وفى مجيئها في وقت الشدائد والغمة يحملكم على القيام بشكرها، وشكر النعم واجب بالعقل كما هي بدائه العقول.
6. أنعم الله تعالى عليهم بأن نجاهم من فرعون وطغيانه عليهم، ونجاهم باجتياز البحر، وقد انفلق حتى مروا فكان كل فرق كالطود العظيم، وانطبق على فرعون وملئه الذين ساموهم سوء العذاب وكانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وأنعم عليهم في الصحراء بالمن والسلوى يتغذون منه بأطيب الغذاء، وأنعم عليهم بأنهم استسقوا فانبجست من حجر ضربه موسى عليه السلام بعصاه ـ اثنتا عشرة عينا، لكل أناس مشربهم.
7. أنعم سبحانه وتعالى بهذه النعم كلها، وكان من شأنها أن تحملهم على الشكر والطاعة، ولكنهم وهم أهل حسد وحقد على الناس، اتخذوها ذريعة للكفر والطغيان، وحسبوها اختصاصا من الله تعالى وتدليلا، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، فزادوا بالنعمة كفرا وطغيانا.
8. كان الحاضرون في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم صورة للماضين يفعلون مثل ما كانوا يفعلون، ويرضون عما كانوا عليه، ويقولون مثل ما قالوا.
9. أمرهم سبحانه وتعالى عساهم يشكرون، ويعتبرون بما نزل من الأمور بمن سبقوهم، ثم أمرهم سبحانه من بعد هذا التذكير بالوفاء بالعهد، فقال تعالت كلماته: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ :
أ. أخذ الله تعالى عهدا بمقتضى الفطرة، وهو أنه أخذ عليهم من ظهورهم ذريتهم أن يؤمنوا.
ب. وأخذ عليهم العهود والمواثيق في عهد موسى، ومن جاء بعد موسى من النبيين، وأخذ عليهم العهد بألا يسفكوا دماء.
ج. وأخذ عليهم سبحانه وتعالى عهدا موثقا ببيان قدرة الله تعالى إذ نتق الجبل فوقهم، فقد قال تعالى: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
د. وصرح سبحانه وتعالى بهذا الميثاق وعهده لهم، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾، هذا عهد من العهود التي واثقهم الله تعالى عليها، عهد عليهم أن يقيموا الصلاة ويؤدوا العبادات وأن يؤمنوا بالرسل، وكان عهد الله تعالى أن يكفر عنهم سيئاتهم، وأن يدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.
10. أوجب الله تعالى على نفسه تفضلا، ورحمة وإنعاما كالإنعام المتوالي عليهم، والله تعالى لا يجب عليه شيء.
11. يقرن القرآن الكريم وعد الله تعالى بوعيده، لقد وعدهم سبحانه بأنه يوفى بعهدهم بأن يكفر عنهم سيئاتهم، ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار إذ أوفوا بعهده بأن عبدوه وحده، وآمنوا برسله ونصروهم، ولا شك أن ذلك ترغيب في النعيم.
12. أردف سبحانه الوعد بالنعيم بالترهيب، فقال تعالى: ﴿ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ النون هنا تسمى بنون الوقاية التي تكون بين الفعل وياء المتكلم، والياء حذفت مع تقديرها في الكلام: فارهبوني، وهذا تخويف بأشد صيغ التخويف والترهيب، وتخصيص التخويف بالله، وأنه لا يخاف أحد سواه كما أنه لا يعبد سواه.
13. دل على التخصيص قوله تعالى: ﴿ إِيَّايَ ﴾ فهي دالة على التحذير، وفعلها محذوف تقديره مثلا احذرني، كما تقول في كلامك إياك إياك محذرا مخوفا، فمعنى إياي: احذروني وحدى، فإن رحمتي يلحقها عذابي، وهى للمطيع، وعذابي للعاصي.
14. ﴿فَارْهَبُونِ﴾ الفاء للإفصاح عن شرط مقدر تقديره: فإن كان من ترهبونه فارهبوني أنا وحدى؛ ولذلك كان الكلام فيه تأكيد للخوف من الله وحده أولا بذكر كلمة الله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ﴾ الدالة على التحذير وتقديمها، وفى التقديم اختصاص وفى تكرار التخويف، وفى ذكر الفاء المفصحة عن شرط، وهى جوابه.
15. الرّهب: إبقاء الخوف في النفس مع التحذير والتيقظ وتوقع العذاب الأليم.
16. في الآية نص على وجوب الوفاء، وعلى شكر النعمة، وأنه لا يصح أن يخاف المؤمن أحدا غير الله تعالى.
17. أخذ الله تعالى عهدا على بني إسرائيل بأن يؤمنوا برسله، إذا أرسلهم الله تعالى إليهم مؤيدين بالمعجزة، ولا يكفروا بالرسل بعد أن يتبين الهدى؛ ولذا أمرهم بأن يؤمنوا بالكتاب الذي أنزله الله تعالى على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يذكر الرسول ابتداء، بل ذكر ما أنزل على ذلك الرسول، وإن الإيمان به يتضمن الإيمان بصدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك لأن ذات المنزّل هو الحجة الدامغة، وهو فيما يدل عليه من علم حجة عليهم، لأنه مصدق لما عندهم فهو يحمل في نفسه دليل صدقه، وذكره أخذ للحجة عليهم ابتداء وإذا آمنوا بالكتاب فقد آمنوا لا محالة برسالة من نزل عليه الكتاب الحكيم؛ ولأن ما نزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الحق الذي لا ريب فيه؛ فهو يدعو إلى تصديقه.
18. قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ بما يدل على أنهم إذا آمنوا بهذا الكتاب المنزل من عند الله يؤمنون بما عندهم، وأنهم إن كفروا به يكفرون بما عندهم.. وهذا يدل على أن الذي نزل على موسى، وبقى عندهم من تعاليمه يصدق ما في هذا الكتاب، إذ التعاليم واحدة في أصلها وفى لبها؛ ولذا قال محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: لو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا اتباعي)، وإن التوراة التي نزلت على موسى فيها التبشير بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف]
19. قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [المائدة]، وقوله في هذا النص الكريم: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ لا يدل على أن التوراة الحاضرة صادقة لم يعترها تحريف ولا تبديل، فإن القرآن قد نص على التحريف، إذ يقول سبحانه وتعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾، وقال تعالى: ﴿ وإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وما هُوَمِنَ الْكِتابِ ويَقُولُونَ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ وما هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ ﴾، وإذا كانوا يريدون أن يستدلوا من القرآن على صدق ما عندهم، فليأخذوا به كله، لا أن يتعلقوا بحرف مما جاء فيه ويستدلوا به.
20. معنى ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾، أي ما بقى معكم من غير تحريف ولا تبديل وهو الرسالة الموسوية في أصلها ومعناها من عبادة الله وحده، ومن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن تبشير بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم يعلمون. كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾
21. بعد أن طالبهم الله تعالى بأن يؤمنوا بما أنزل من كتاب بين لهم أنهم جديرون بأن يسارعوا إلى الإيمان لمعرفتهم ما جاء فيه من الحق، وأن يكونوا أسوة للمشركين الذين لم يؤتوا علم الكتاب، ولم تكن لهم البينات التي عندهم، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾، أي لا تكونوا أول من يكفر به.
22. أول (أفعل) في وزنه، والبصريون يقولون إنه لا فعل له، والكوفيون يقولون إن له فعلا، هو من وأل إذا نجا، ف (وأل) فعل بمعنى نجا وخرج ومنه اشتق أول.
23. الظاهر من سياق قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ أن يقال أول الكافرين به، ولكن الله تعالى اختار التعبير بالمفرد، على تقدير الفريق، والمعنى لا تكونوا أول فريق يكفر به، أي لا تكونوا أول من يجتمع على الكفر به، باعتبارهم موحّدين في الفكرة والغاية، وأنهم يتضافرون فيما يفعلون، وإن المراد تقبيح أن يقع منهم فعل الكفر، أو أن يقع فيهم الكفر، لأنهم أهل علم بالنبوة، وفى ذلك إغراء لهم بالاتباع وحث لهم على الإيمان لأنهم أولى به وأجدر.
24. سؤال وإشكال: أنهم إن كفروا فلن يكونوا أول الكافرين لأن قوما من قريش قد كفروا به من قبل في مكة، وهذه الآية في سورة مدنية فكيف ينهون عن أن يكونوا أول كافر به؟ والجواب:
أ. قيل: معنى أول كافر أول فريق يكذب به، وإن قريشا لم يكفروا على أنهم فريق، بل كفروا به آحادا، ثم كان منهم من يؤمن.
ب. وقيل: إن المراد أول كافر به من أهل الكتاب.
ومهما يكن من تخريج، فالآية الكريمة تحث على المسارعة في الإيمان، وأن يكونوا أول الجماعة المؤمنة.
25. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي لا تستبدلوا بآياتي القائمة المبينة للحق، وتتركوها في نظير أي أمر من الأمور، فهو مهما يكن ثمن قليل بالنسبة للآيات البينات الدالة على الحق؛ لأن الحق أغلى ما في الوجود، فإذا ترك فإن ثمن تركه لا يمكن أن يكون في منزلته.
26. التنكير في قوله تعالى: ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ للدلالة على أن أي ثمن ـ مهما يكن ـ قليل بالنسبة لذات الحق، وأنهم كانوا يتركون الحق لمآرب دنيوية، وهو السلطان والغلب والمفاخرة، وغير ذلك مما تدفع إليه أهواء أهل الدنيا.
27. بعد ذلك التحريض والحث على الاتباع، وبيان أنهم إن اشتروا بالحق شيئا فهو ثمن قليل، بعد ذلك حذرهم من ترك الحق، وخوفهم من عاقبة هذا الترك، فقال: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ تحذير من المخالفة بالتقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى والمعنى: وإياي فاحذروا ﴿فَاتَّقُونِ﴾ النون هنا نون الوقاية التي تكون بين الفعل وياء المتكلم، والفاء جواب عن شرط مقدر أفصحت عنه، والمعنى إن كان هناك من يتقى عذابه ومن يجب أن تكون وقاية بينكم وبينه، فاتقوني أنا وحدى، أي اجعلوا بينكم وبين عذابي وقاية تقيكم من عذاب النار.
28. أمرهم سبحانه وتعالى أن يؤمنوا بالحق وهو الكتاب الذي أنزل مصدقا لما معهم، وهو القرآن الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن الأمر بالإيمان بالقرآن أمر بالإيمان بمن نزل عليه القرآن.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/207.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الخطاب موجه بظاهره الى يهود المدينة، مع العلم بأن النعم المشار اليها منحها الله لآبائهم، لأن النعمة على الآباء نعمة أيضا على الأبناء، حيث يكتسب الابن شرفا من أبيه.. هذا، إلى أن الجميع أمة واحدة.
2. ذكر الله سبحانه اليهود في العديد من آي الذكر الحكيم، وبينت هذه الآيات نعم الله على اليهود، وجحودهم بها وقتلهم الأنبياء بغير الحق، ومعاندتهم لموسى وهارون، وعبادتهم العجل، واستعباد الفراعنة لهم، ثم تحريرهم من العبودية والاضطهاد، ونجاتهم من الغرق، وانزال المنّ والسلوى عليهم، ثم كرههم ومؤامراتهم ضد محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعداءهم الشديد للمسلمين؛ وللحق وأهله الى غير ذلك من المواقف والمشاهد التي يأتي بيانها بالتفصيل.. وقد حوت سورة البقرة الكثير من صفاتهم وأعمالهم.
3. ان أكثر مظاهر الحياة التي يعيشها الإنسان هي نتاج حتمي لتاريخ طويل، فكيفية اللباس الذي نلبسه، وطهي الطعام الذي نأكله، وهندسة البيت الذي نسكنه، كل أولاء، وما اليها نتيجة لتصميم سابق، حتى مركب البخار إن هو إلا امتداد للمركب الهوائي بعد مروره بمراحل التطور.. ان التقاليد التاريخية تفعل فعلها تماما كسنن الطبيعة، كأمواج البحر تطفو على سطحه نتيجة للمد والجزر.. فالوقائع الجزئية التي تحدث في حياتنا اليومية، ونوع العلاقات التي نقيمها مع الآخرين حسنة كانت أو سيئة كلها أو جلها امتداد للماضي البعيد أو القريب، ومن هنا قال بعض الفلاسفة بحق: ان التاريخ طريق من طرق المعرفة، وصورة من صورها.. وهذه الآيات التي خاطب الله بها اليهود ترتبط ارتباطا وثيقا بتاريخهم، كما سنرى.
4. إسرائيل اسم ثان ليعقوب بن اسحق بن ابراهيم خليل الرحمن عليه السلام، فإسحاق أخ لإسماعيل جد نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويلتقي اليهود والعرب جميعا في ابراهيم، قال تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ .. وجاء في مجمع البيان ان العرب كلهم من ولد إسماعيل، وأكثر العجم، أي غير العرب، من ولد اسحق.. ومعنى إسرائيل في اللغة العبرية عبد الله، لأن (اسرا) هو العبد، و(ايل) هو الله.
5. تلطف الله تعالى في خطابه مع اليهود، حيث أضافهم الى النبي الكريم إسرائيل، ليذكرهم بهذا النسب الشريف، عسى أن يحرك فيهم شعور الكرامة، ان كان في نفوسهم شيء منها، تماما كما تقول: يا ابن الأبرار، كن كآبائك وأجدادك.. وقد ذكّر أهل مريم ام عيسى عليه السلام بآلها وأرحامها.
6. ابتدأ الله سبحانه خطابه مع اليهود بالتذكير بنعمه عليهم.. ومن هذه النعم كثرة الأنبياء فيهم، وتشريفهم بالتوراة والزبور، وتحريرهم من فرعون، ونجاتهم من الغرق، وانزال المن والسلوى عليهم، واعطاؤهم الملك والسلطان في عهد سليمان، وغير ذلك مما يستوجب الإيمان والشكر، لا الجحود والكفر.
7. نعم الله عليهم التي أشار اليها بقوله: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ كثيرة، منها اختيار الأنبياء منهم كموسى وهارون ويوشع وداوود وسليمان وأيوب وعزير وزكريا ويحيى وغيرهم، ومريم ام عيسى اسرائيلية ينتهي نسبها الى داوود، ولكن اليهود لا يعترفون بالسيد المسيح ابن مريم عليه السلام، ويزعمون ان المسيح المذكور بالتوراة لم يأت بعد.
8. بعد أن ذكّرهم الله بنعمه خاطبهم بقوله سبحانه: ﴿ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ وعهد الله هو الأخذ والعمل بما دلت عليه الفطرة، ونزلت به الكتب من الإيمان بالله ورسله والعمل بأحكامه، وقال صاحب مجمع البيان: ان الله تعالى عهد اليهم في التوراة انه باعث نبيا، يقال له محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وعلى هذا أكثر المفسرين، وبه يشهد القرآن)
9. أما عهد اليهود:
أ. فهو عهد الله لهم، ولكل من آمن وعمل صالحا فإنه يجزيه بالأجر والثواب يوم القيامة.
ب. وقيل: انه تعالى أعطاهم ان اتقوا أن يرفع من شأنهم في هذه الحياة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/94.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إسرائيل: هو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ـ عليهم وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام.. وبنو إسرائيل: هم أهل الكتابين: التوراة) و(الإنجيل) وقد آمن بعضهم بنبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعضهم كفروا، فكبرت معصيتهم بكونهم أهل الكتاب يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يعرفون أبناءهم، وكونهم يفسدون من يقتدي بهم فجاءت فيهم هذه الآيات موعظة لهم، واحتجاجاً عليهم، وإنذاراً وبياناً لفسادهم وطغيانهم، وتمردهم حسداً وحبّاً للدنيا، لئلا يغتر بهم أحد ولتعظم الحجة عليهم يوم القيامة إن لم يقبلوا، وقد أجمل النعمة هنا وفصل فيما بعد بتعداد نعم كثيرة.
2. من عهد الله الذي يجب عليهم الوفاء به ما ذكره سبحانه في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]
3. أما العهد العام فهو على قبول التوراة وذكر ما فيها من الإنذار والتبشير وغير ذلك، ويأتي ذكر مواثيق أخذت عليهم في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ الآية.
4. ذكر الله تعالى عهده وعهدهم في (سورة المائدة) في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾
5. ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ الرهبة: الخوف، قال في (الكشاف): وهو من قولك: زيداً رهبته، وهو أوكد في إفادة الاختصاص من ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ .. فالمعنى: أمرهم أن يخافوا الله، ولا يخافوا أحداً إلاَّ الله.
6. في قوله تعالى: ﴿بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ تنبيه على وجه وجوب الإيمان به، وهو أن الله أنزله فهو حق وصدق وإنزاله حق، كما قال سبحانه: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ [الإسراء: 105]، وكما قال تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42]
7. ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ وهو القرآن الكريم، وفي كونه مصدقاً لما معهم قطع لعلّتهم؛ لأن الإيمان به لا ينافي الإيمان بما معهم.
8. ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ لأنهم بسبب الكتاب الذي معهم يقتدي بهم بعض الناس في الكفر، فنُهوا أن يكونوا أول هذا الفريق، أي قدوته ومتبوعه؛ لأن ذلك جريمتان؛ جريمة كفرهم، وجريمة صد الناس عن دين الله، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾ [آية: 88]
9. ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ لا تتبدلوا بها متاع الدنيا فإنه قليل بالنسبة للثمن المدفوع فيه، ولأنه يفنى عن قليل، كما قال تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ [النساء: 77]، وقوله: ﴿بِآيَاتِي﴾ يعم (التوراة) و(القرآن) لأنهم إذا كفروا فقد تركوا التوراة والقرآن، لأنهما يدعوان إلى الإيمان بالله ورسله.
10. ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ أمِروا أن يتقوا الله وحده؛ لأن بطشه شديد، ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ [الفجر: 25 ـ 26]، فالتقوى تنجي من عذابه وما لحقهم من ضر مع التقوى، فهو خير لهم حتى لو قتلوا في سبيل الله فهو خير لهم، وإذا فاتتهم التقوى فاتهم كل خير في الآخرة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يرجونَّ أحدكم إلاَّ ربه، ولا يخافنّ إلاَّ ذنبه)
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/102.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إن الله يريد في هذه الآيات أن يذكّر بني إسرائيل بنعمه عليهم، ليقودهم إلى الشعور بمسؤوليتهم إزاءها، فيقفون منها موقف الشاكر للنعمة في مجالها العملي بطاعة الله، ويقدمون للرسالات الإلهية الدعم والقبول والانقياد.
2. ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ لتعرفوا أن سلوككم المتعنّت مع النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس موقف الشاكر، بل هو موقف الكافر للنعمة، لأنكم تعرفون أنه رسول الله حقا. أما ما هي النعم التي أنعمها الله عليهم، فهذا ما تحدثت عنه سورة البقرة فيما يأتينا من آيات.
3. يخاطب الله تعالى بهذه الآيات اليهود الذين كانوا معاصرين للنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، مع أنّ هذه القضايا التي أثارتها الآيات حدثت مع القوم الذين كانوا معاصرين لموسى، لأن الجماعة التي عاصرت النبي محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم كانت امتدادا لتلك الجماعة في مفاهيمها وقناعاتها وتمردها وبغيها، لأنها مارست الأساليب التي مارسها أولئك مع موسى من اللف والدوران وارتباك المواقف، وهذا يدل على أن كل فئة من الفئات التي تكون امتدادا لتأريخ معيّن تتبناه وترضى به، تعتبر شريكة للفئات التي مارست ذلك التاريخ، وعلى هذا الأساس، نستطيع أن نحاسب أيّة فئة في مجتمعنا مشدودة إلى أيّ تاريخ انشدادا نفسيا أو فكريا أو عمليا ونخاطبها تماما بكل السلبيات المتحركة فيه، لأن الرضى والانتماء يجعلانها في الموقف نفسه وفي الاتجاه ذاته، مما يجعل الماضي قاعدة للمستقبل في مركز الوحدة الفكرية والروحية للفكرة وللحركة(2)..
4. تعطينا الآيات الكريمة صورة مجملة عن بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون التمرد والقلق والطفولة الفكرية التي تقفز من طلب إلى طلب، ومن حاجة إلى حاجة، لأنهم لم يرتكزوا على قاعدة فكرية أو روحية، بل كانوا يتحركون بوحي شهواتهم وأطماعهم ونزواتهم، فكانوا يقدمون الطلبات التي تستجاب لهم حتى على سبيل المعجزة، لإفساح المجال لكل نقاط الضعف الكامنة فيهم أن تتحرك وتظهر لتأخذ مجالها في التوجيه والتربية دون جدوى.
5. هذه الآيات الكريمة وغيرها تعطينا فكرة واضحة عن القوة الرسالية الروحية التي كان يتميز بها موسى النبي عليه السّلام، حينما كان يواجه كل مواقف التمرّد والطغيان والدلع والطفولة الفكرية والعملية.. برحابة الصدر وهدوء الرسالة الواثقة بنفسها، ككل الأنبياء الذين حملوا الرسالة بقوّة وواجهوا كل أشكال التمرد والطغيان بروح واثقة برسالتها، ومنسجمة مع مسئولياتها في الأسلوب والهدف، لأنهم يشعرون بأن دور الرسول هو أن لا يعيش لمزاجه بل للرسالة، وأن يشعر بأن عليه أن يتابع كل إمكانات الهداية ليطرحها في الساحة ويجربها في مجال الدعوة والعمل.. وهذا ما نحتاجه في عملنا الرسالي عندما تواجهنا كل مواقف التمرد والطغيان، ونكران الجميل، والاتهام الكاذب، والسباب.. وغير ذلك من التحديات التي تقابل الرسل والرسالات؛ أن نقف في خط الرسالات الهادئ الواثق بالله، المنطلق أبدا من موقع الرسالة لا من موقع الذات.
6. لعلّ رسالة موسى عليه السلام كانت أولى الرسالات المتحركة في نطاق جمهورها، الذي عملت من أجله على صعيد الرسالة وعلى صعيد الواقع، فنحن نلاحظ أن الرسالات السابقة كرسالة نوح وإبراهيم عليه السّلام، لا تشعرنا بوجود المؤمنين كقوّة تتحرك مع النبي في صراعه، أو يتحرك معها النبي في خطواته العملية، بل كان الصراع وحده يتجه إلى الجو الذي يعيش فيه النبي مع الخصوم الرئيسيين للرسالة:
أ. ففي إطار رسالة نوح عليه السلام، لا نشعر بالمؤمنين إلا من خلال وصف الكفار لهم بأنهم ﴿أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود: 27]، ثم لا نجد لهم أيّة حركة، بل نجد نوحا يواجه كل التحديات كما لو كان وحده.
ب. وفي نطاق رسالة إبراهيم عليه السلام، كان يواجه الكفار وحده، وكان يواجه طاغية زمانه وحده.. وكانت القضية كلها هي قضية الإيمان والكفر في إطارهما العقيدي، في حدود المعلومات التي حدّثنا القرآن عنها في شؤون الرسالتين.
7. كان موسى عليه السلام يحمل قضية العقيدة في صراع الإيمان والكفر، ويحمل قضية الاضطهاد الذي يعانيه هذا الشعب من حكم فرعون، وبهذا كانت الرسالة تتحرك في اتجاهين: في صراع الإيمان ضد الكفر، وفي صراع العدل ضد الظلم، وبهذا كان للرسالة جمهورها المتحرك، ولكن هذا الجمهور الذي خرج من جوّ الاضطهاد إلى جوّ الحرية بفضل الرسالة والرسول، لم يكن في مستوى الرسالة، فقد كان يناصر الرسول على أساس قضيته الحياتية المباشرة، لا على أساس قضية الرسالة، ولهذا كان لا بد للرسالة من الاحتفاظ بجمهورها أو بمقدار منه، فتمنحه مقدارا كبيرا من الأجواء الهادئة الواسعة التي يتنفس فيها روح الرسالة ـ حياتها وأهدافها ـ ويشعر بأن الأجواء الجديدة هي أجواء الرحمة والرعاية حتى مع أشدّ التحديات قساوة وضراوة، ولعل التجربة كانت ناجحة، لأننا رأينا انفصال مقدار كبير من الجمهور عن الخط المنحرف إلى الخط المستقيم، كما نجد ذلك في الآيات القرآنية المقبلة إن شاء الله.. وباختصار، إن الخطة كانت تتلخص في أن الرسالة لا تفقد جمهورها لتجعله يشعر بأنها لا تضطهده حتى في حالة تمرّده، ولهذا أعطته المجالات الرحبة للالتقاء بخط الإيمان فكرا وروحا وحياة.
8. ركز القرآن الكريم كثيرا على بني إسرائيل، بحيث شغل جوّ القرآن كله بهم، حتى نشعر بأننا نلتقي بهم في كل سورة لأن صراع الإسلام مع التحريف في الرسالات السماوية المتقدمة ومع جمهورها المنحرف، ليس صراعا بسيطا، بل كان يمثل الصراع حول المفاهيم الأساسية لخط الإيمان العريض، وللتفاصيل التي تتحرك في هذا الخط، وكان ـ إلى جانب ذلك ـ يعتبر في موقع الخطورة الكبرى عندما يواجه رسالة الله التي يؤمن بها ويصدّق بأنبيائها، وعلى ضوء هذا، كان لا بد له من أن يعطي كل الفكرة عن هذا الجمهور الضال، باعتباره القوة الأولى التي تهدد حركته، ويعطي الفكرة من خلال ذلك للأفكار الصحيحة السليمة التي طرأ عليها الانحراف، ولذلك لم تكن القضية قضية الاهتمام بهذا الشعب من خلال ما يملك من قيمة ومنزلة، بل هي قضية الاهتمام بتاريخ الرسالات السماوية في جمهورها المنحرف والمستقيم، وفي أفكارها المحرّفة والخاطئة، باعتبار أن الإسلام يمثل الامتداد الحيّ لهذه الرسالات، مما يجعل لحركتها وتاريخها ومفاهيمها تأثيرا كبيرا على حركة الإسلام في حاضره ومستقبله.. ولعل ما يؤكّد الفكرة، أننا نرى الإسلام يرفض هذا التاريخ ويحاكمه وينقده، فكيف يجتمع هذا مع نظرة القداسة والتكريم التي يطرحها السؤال أو يوحي بها البعض في المفهوم الخطأ!؟
9. قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ يوحي بأن ثمة عهدا بين الله وبينهم، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأن ينسجموا مع الخط الذي يريده للإنسان، بتصديق رسله ونصرهم، وهو ليس خاصا بين الله وبين بني إسرائيل، لتنطلق المطالبة من خلال هذه الخصوصية التي تميزهم عن الآخرين، فالقضية أوسع من ذلك، فنحن لا نلمح وجود عهد خاص ببني إسرائيل، بل هو عهد الله مع كل عباده في كل زمان ومكان، فيما أخذه الله عليهم من خلال فطرتهم التي تدعوهم إلى عبادته، وقد تحدث الله في أكثر من آية عن هذا العهد والميثاق فيما بينه وبين عباده، ولم يكن الحديث عن العهد مع بني إسرائيل، إلا لأن القصة تتضمنهم وتسير في اتجاه تاريخهم.
10. هناك عهود أخرى ذكرها القرآن فيما أخذه الله عليهم مثل قوله تعالى: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: 63]، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ [المائدة: 12]، ونستوحي من مفردات هذا الميثاق تأكيدا على ما ذكرناه من أنه ليس هناك عهد خاص بهم، بل هو العهد الذي أخذه الله على عباده كافة.
11. ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ لقد تعهد الله لعباده بأن ييسر لهم سبل الحياة، ويسخّر لهم ما فيها من نعم وطاقات، ويدخلهم جنات عدن التي وعد بها عباده المتقين.
12. عندما وعد الله تعالى عباده بالجنة في الآخرة، وبالنصر، والمعونة، والرعاية، وبجميع المعاني الكبيرة، اعتبر ذلك في مقابل عهد عباده له في ميثاقه الذي أخذه عليهم، بأن ينسجموا مع خط الإيمان والعمل الصالح، فليس لهم أن يطالبوه بشيء ما لم يقدّموا في مقابل ذلك وفاء بالعهد والميثاق.
13. ينبغي أن نلاحظ في هذا المجال، أن العباد لا يستحقون على الله شيئا ـ أيّ شيء ـ لأنهم مخلوقون مملوكون له، ولكنهم استحقوا ذلك بوعده ولطفه ورحمته، فهو استحقاق بالوعد والتفضل له بالذات.
14. ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ فإذا كنتم تخافون وتنحرفون عن الخط خوفا من الناس، ورهبة من فقدانكم لامتيازاتكم فيما تحصلون عليه من مال وشهوة ونفوذ، فاعلموا أن أحدا لا يستطيع أن يضركم إلا بإذن الله، فلتكن الرهبة له في قضايا الدنيا والآخرة، لأنه هو مالك الدنيا والآخرة جميعا، فهو وحده الذي يرهب من سطوته وعقابه.
15. قدم المفعول هنا لإفادة الحصر كما في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]
16. ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ آمنوا بما أنزلت على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في رسالته وفي قرآنه، الذي يصدق ما معكم من التوراة، لأن الأنبياء لا يأتون ليكذّبوا من قبلهم، بل ليصدّقوه وليكملوا ما نقص بفعل تقدم الحياة وتطورها وحاجتها إلى الأشياء الجديدة.
17. ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾، لأن الكفر به لا ينسجم مع معرفتكم بصحة دعوته ورسالته، من خلال البراهين التي تملكونها فيما بين أيديكم من الدلائل والبراهين.
18. سؤال وإشكال: كيف يقول الله سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾، مع أنهم ليسوا أول الكفرة به، لأن مشركي قريش قد سبقوهم إلى الكفر والإنكار؟ والجواب:
أ. إن من الممكن ورود هذا التعبير على سبيل المبالغة لتأكيد ضرورة الإيمان بالقرآن قبل الآخرين.
ب. وربما كان الأساس في ذلك، أن المشركين لا يملكون القوة الفكرية المؤثرة في المجال العملي للدعوة الإسلامية، بالمستوى الذي يملكه الكتابيون من التأثير، مما يجعل لهم أهمية بالغة بالنسبة إلى غيرهم، حتى أن كفر غيرهم ممّن سبقهم إلى الكفر بمنزلة العدم لقلة أهميته.
19. ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، الشراء هنا بمعنى البيع، كقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ ﴾ [البقرة: 207] ﴿وَلَا تَشْتَرُوا﴾ وذلك بأن لا تتركوا الآيات الحقة في مقابل ما تحصلون عليه من الآخرين من امتيازات مالية أو معنوية، فإن هذا الثمن الذي تأخذونه في مقابل محاربتكم للإسلام لا يمثل شيئا أمام المكاسب الدنيوية والأخروية التي تحصلون عليها بالسير مع آيات الله وشرائعه.
20. ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ أي لا تخافوا غيري، لأنه لا يملك لكم ضرا ولا نفعا، بل اتقون فيما تفعلون وفيما تتركون، لأني القوة الوحيدة التي تملك مصير الإنسان في دنياه وفي آخرته.
21. التقوى ليست هي الخوف، كحالة طارئة تعيش في مشاعر الإنسان الداخلية، بل هي ملكة في وجدانه وضميره، توجهه نحو الانضباط أمام أوامر الله ونواهيه، فإذا انفتح له باب من الحرام لم يدخل فيه، وإذا انفتحت له أبواب الطاعة سار إليها بإخلاص وإيمان.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/14.
(2) من وحي القرآن: 2/62.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إسرائيل هو يعقوب عليه السلام ومعناه صفي الله، وفي ندائهم بهذا الاسم تذكير لهم بأنهم أحرياء بأن يكونوا أسبق الناس إلى الإيمان وأسرعهم إلى الإحسان، خصوصا، وأنهم قد تسلسلت فيهم النبوات وتتابعت في أجيالهم الرسالات، وبسط الله لهم صنوف نعمه، وكانت لديهم بقية من علم الكتاب يمكنهم بها التمييز بين الهدى والضلال، وكانوا بذلك على علم بمبعث خاتم النبيين، بل كانوا على انتظاره بفارغ الصبر ليرفع عنهم كابوس الذل، ويحطم عنهم قيود الهوان، وإنما صرفهم عنه الحسد الذي مردوا عليه، والأنانية التي عرفوا بها، فكانوا مصدر بلاء عليه وعلى أمته، وعقبة كؤودا في طريق دعوته، فكثيرا ما حاولوا صرف الناس عن الإيمان به، وشوهوا الحقيقة للذين ينشدونها، وظلوا على اتصال بكل الفئات المحاربة للإسلام، كما أظهر بعضهم الإسلام بقوله لأجل الوصول إلى ما يريدونه من إشعال نار الفتنة في صفوفه وبين أبنائه، وهؤلاء هم الذين عرفوا بالمنافقين.
2. بنو إسرائيل الذين كانوا في ذلك الوقت مصدر هذا البلاء هم يهود المدينة وما حولها، وهم جزء من سائر اليهود، فطبائعهم هي طبائعهم، وسلوكهم هو سلوكهم، وقد انطوى خطابهم على الترغيب تارة، وعلى الترهيب تارة، وعلى التذكير أخرى ليكون ذلك أدعى إلى ارعوائهم وأرجى في إصلاح نفوسهم الفاسدة، وعلاج أدوائهم المتأصلة غير أن أمراضهم كانت أعصى على العلاج، وأبلغ من الدواء، فلم يؤمن منهم إلا قلة قليلة قدروا على مغالبة طبائعهم، ومقاومة نفوسهم، فكانوا للحق حجة للإسلام قوة، وهم عبدالله بن سلام رضي الله عنه، ومن نهج نهجه، أما سائرهم فقد شرقوا عندما ظهر هذا النبي من ولد إسماعيل عليه السلام ولم يكن من ولد إسحاق، وهم كانوا يطمعون أن لا تخرج النبوة عنهم لما يرونه لأنفسهم من المزايا فأدى ذلك إلى تكذيبهم بما كانوا يرددونه من قبل من بشائر إظلال زمنه ودنو إشراق صبحه، وإلى تأويل نصوص التبشير به في أسفارهم من توراة وغيرها، رغم أن صفاته فيها واضحة جلية لا يماري فيها لبيب.
3. في خطابهم ببني إسرائيل ـ مع إمكان خطابهم بغيره من الأسماء والألقاب ـ ما علمتم من بعث عزائم الخير في نفوسهم لو كانوا لذلك أهلا لأن من شأن الإنسان الرغبة في أن يحذو حذو أبيه فيما كان عليه من مجد وخير، ففي مواطن القتال يُثار حماس المقاتلين بتذكيرهم ببطولات آبائهم الماضين، وفي مقام البذل والعطاء يذكر أصحاب الكرم بأيادي آبائهم الأسخياء فينادون منسوبين إليهم، وهكذا في مقام الدعوة إلى الخير والنداء إلى البر يحسن تذكير الخلاف بالأسلاف، ومن وسيلة ذلك نسبتهم إليهم في ندائهم.
4. في تذكير بني إسرائيل بنعمة الله التي أنعمها عليهم ـ مع كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين بغير حق، وإشاعتهم الفساد في الأرض دليل على صحة قول المعتزلة ومن وافقهم كالباقلاني والرازي من الأشاعرة على أن نعمة الله غير محصورة في المؤمنين، وحسبكم شاهدا على صحته هذا الامتنان وقوله تعالى: ﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ﴾، وقوله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾، وتذكير الله للأمم العاتية كقوم نوح وعاد وثمود بما آتاهم من نعمه.
5. المراد بالنعمة التي أنعم الله بها عليهم جنس النعم، فتدخل فيها أصناف الأيادي التي بسطها الله لهم، ونعمه تعالى أكثر من أن تحصى، منها ما هو مشترك بين بني إسرائيل وغيرهم من الناس، ومنها ما هو خاص بهم، ومنها ما هو خاص بغيرهم، والجنسية مستفادة من الإضافة لأنها تأتي لما تأتي له (أل) من المعاني.
6. النعم المشتركة ما بينهم وسائر الناس هي خلقهم وخلق أصولهم، وخلق الأرض ومنافعها لهم، وتسخير ما في السماوات لأجلهم، وإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم لتتبين لهم مسالك الرشد، وليحذروا طرائق الضلال، إلى غيرها من سائر النعم التي لم يخص الله بها طائفة دون أخرى من الناس.
7. أما النعم الخاصة ببني إسرائيل فهي إنجاؤهم من فرعون وآله بعدما كانوا يسومونهم سوء العذاب، ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وفلق البحر لهم لينجوا من شر عدوهم فرعون، وإهلاكه وقومه بإغراقهم في البحر، وكثرة الأنبياء فيهم، وتظليل الغمام لهم، وإنزال المن والسلوى عليهم إلى غيرها من النعم التي ذُكرت في هذه السورة وفي غيرها.
8. لما كانت النعمة داعية إلى وفاء المنعم عليه لمن أنعم بها قرن الله تعالى بين تذكيرهم بالنعمة ومطالبتهم بأن يفوا بعهده.
9. بنو إسرائيل مشتركون مع سائر الناس في العهد العام الذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
10. لهم عهود خاصة ذكرها الله تعالى في العديد من آي الكتاب، منها قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، وقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾، وقوله: ﴿ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا، وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعززتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ﴾
11. ذكر بعضهم أن العهود ثلاثة:
أ. عهد أخذه الله على جميع بني آدم، وهو العهد الفطري المراد بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾
ب. وعهد أخذه على الأنبياء وأممهم لهم فيه تبع، وهو الذي دل عليه قوله: ﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتينكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ﴾
ج. وعهد أخذه الله على العلماء، وهو الذي دل عليه قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾
12. بنو إسرائيل داخلون في هذه العهود الثلاثة، فهم من بني آدم الذين أخذ عليهم العهد الفطري، ويدخلون في عهد النبيين لأن الأمم تبع لأنبيائها فيه، وهم من ضمن الذين أوتوا الكتاب، وقد كان بينهم كثير من الأحبار الذين لا مناص لهم عن تبيينه إلا بمخالفة أمر الله وقطع عهده.
13. رويت عن السلف روايات شتى في تفسير عهد الله وعهدهم، والظاهر أنها من باب التمثيل لجنس العهدين، ولا تعد أقوالا مختلفة، وإن ذكرها أبو حيان على أنها أقوال، وأوصلها إلى أربعة وعشرين قولا.. والصحيح أن عهده تعالى عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه.
14. عهدهم هو إدخالهم الجنة إن وقوا بذلك، وهذا هو الذي صححه القرطبي وعزاه إلى جمهور العلماء، وهو مشتمل على أكثر الأقوال المروية، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾
15. تقديم المعمول على العامل، ثم إعادة ضمير المعمول في قوله: وإياي فارهبون) لأجل تأكيد حصر.
16. الرهبة في الله وحده بحيث لا يكون غيره مرهوبا عندهم، وذلك من مقتضيات صدف الإيمان، واستشعار عظمة الخالق تعالى.
17. أمرهم برهبته سبحانه بعد أمرهم بذكر نعمته والإيفاء بعهده لأن النفوس مجبولة على التفريط ما لم تراقب بوازع من الإيمان، ومخافته تعالى هي أجدى ما يزعها عما فيه مضرتها، فهي سور العمل الصالح ووقاية الإنسان من التردي في المهالك.
18. أمر الله تعالى بني إسرائيل بأن يؤمنوا بما أنزل على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم مصدقا لما معهم، ويراد به القرآن كما يراد بما معهم التوراة والإنجيل وغيرهما من صحف أنبياء بني إسرائيل، ومن المعروف أنهم شوهوها جميعا بما أضافوا إليها من الأكاذيب وألصقوه بها من التأويلات الفاسدة غير أنهم كانوا لا يزالون يحتفظون بشيء من نصوصها غير محرف ولا مبدل، وإن اختلط بالأكاذيب المفتراة التي أدخلوها فيها، ومن ذلك ما دل على توحيد الله عز وجل وعلى التبشير ببعثة خاتم النبيين وعلى مكارم الأخلاق، وقد جاء القرآن الكريم مصدقا لذلك مع تفنيده لكثير من مزاعمهم وتبيينه كثيرا مما أخفوه من محتويات كتبهم، وبشائر بعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بينة في تلك الصحف رغم ما تراكم عليها من غبار الأباطيل الذي أخذ يستر كثيرا مما فيها من الحقائق بتضاعفه عبر العصور.
19. بعد مطالبتهم بالإيمان بما أنزل حذرهم من الكفر بقوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾، وذلك لتأكيد هذه المطالبة، فإن مما تقرر عند أكثر الأصوليين أن الأمر المطلق لا يدل على الفور لا على التراخي، وقد يتعلل إذا ما أمر بأمر لم يقيد بالفورية ولا بزمن معين بأنه سيأتي بالمأمور به ولو بعد حين، فاستؤصلت شبهة الاعتذار عندهم بالنص على نهيهم عن ضد ما أمروا به، والنهي يقتضي الفورية، وعموم الأزمان والأحوال إذ لو أتى المنهى في أي وقت بما نهى عنه لعد ذلك خروجا عن طاعة الناهي وتحديا له.
20. سؤال وإشكال: لم نُهوا أن يكونوا أول كافر به ولم يُنهوا عن مطلق الكفر به؟ وهم لم يكونوا أول كافر بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد سبقهم إلى ذلك كفار العرب من قريش وغيرهم.. والجواب: أجيب عن هذين السؤالين بالعديد من الأجوبة:
أ. منها: أن المراد بقوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ تأكيد حثهم على السبق إلى الإيمان، فإن الإيمان والكفر نقيضان، فإذا لم يكونوا كافرين كانوا مؤمنين، وقد دلت قرائن السياق على أن مطلق الكفر قبيح، ولا يصح إقراره خصوصا عند من توفرت لديه دواعي الإيمان كبني إسرائيل، الذين أوتوا نصيبا من الكتاب وكانوا يعرفون نعوت النبي الموعود به ويتطلعون إلى بعثته بكل لهفة وشوق، فهم أحق ـ لما اختصوا به ـ أن يكونوا سابقين إلى الإيمان به فور ما يصل إليهم علمه، وهذا من باب ما يسمى بالكناية التلويحية، وذلك لانطواء التركيب على غرضين، النهي عن الكفر والدعوة إلى الإيمان، إذ الجملة المعطوفة مقررة لمضمون الجملة المعطوفة عليها وهو طلب الإيمان بجانب مدلولها الصريح وهو النهي عن الكفر.
ب. ومنها أنه يراد به التعريض بكفار قريش وغيرهم ممن بادر الدعوة بالتكذيب، ومعنى ذلك نهيهم أن يكونوا في عدادهم، وسوغ ابن عاشور أن يكون هذا هو مراد الزمخشري في تسويغه كون المعنى: ولا تكونوا مثل أول كافر به)
ج. ومنها أنه أريد به النهي عن مبادرتهم بالتكذيب والكفر، لأن الأولية من لوازمها السبق إلى الشيء كما في قوله تعالى: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)، وعليه ف الأولية ليست على حقيقتها، ونهيهم عن المبادرة إلى الكفر به يستدعي تأملهم فيه لأنهم لو تأملوه لأدركوا حقه بما سبق عندهم من علم الكتاب.
د. ومنها أن الأولية على حقيقتها وإنما نهوا أن يكونوا أول من يكفر من أهل الكتاب أو بعد الهجرة، لأن السورة أول ما نزل في المدينة.
21. أقوى هذه الأجوبة أولها، ولا بأس بثالثها، لما عهد في الكلام البليغ من استعمال هذا الأسلوب للغرض المشار إليه فيه.
22. الضمير في ﴿بِهِ﴾ عائد إلى الموصول في قوله: ﴿مَا أُنْزِلَتْ﴾ وأجيز عوده إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلى الموصول في قوله: ﴿لِمَا مَعَكُمْ﴾، والوجه الأول هو الصحيح لعدم سبق ذكر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولأن الكلام سيق لأجل ما أنزل إليه وهو القرآن لا لأجل ما معهم، وإن كان كفرهم بهذا المنزل يعد كفرا بما معهم لأنه مصدق له، فمحافظتهم على التصديق بما معهم تقتضي الإيمان بما أنزل إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
23. الأصل في البيع والشراء دخول الباء على الثمن دون المثمن، لأن المثمن هو الغاية والثمن وسيلة إليه، ومن شأن الباء أن تدخل على الآلة، كقول القائل ذبحت بالسكين، وكتبت بالقلم، واشتريت بالدراهم والدنانير، لأنهم ـ لحماقتهم ـ عدوا الآيات أهون العوضين، فاتخذوها وسيلة لما يطمحون إليه من مكاسب الدنيا، سواء كانت أموالا يقتنونها أو مناصب يتبوأونها.
24. تسمية ما يأخذونه في مقابل الآيات ثمنا مع كونه المقصود الحقيقي عندهم، فيناسبه أن يكون مثمنا، لأنهم مغبونو الصفقة فقد بذلوا النفيس وأخذوا الرخيص، فالمال والجاه ومناصب الدنيا كل منها متاع فان وعارية مستردة، ويشترك فيها الناس أبرار كانوا أو فجارا، أما آيات الله فهي الكنز الذي لا يفنى والثروة التي لا تبلى إذا ما حوفظ عليها بالإيمان والعمل، ولذلك وُصف الثمن بالقلة، ولا يستدل بذلك على جواز أخذ الثمن الكثير في مقابل آيات الله، فإن الدنيا بأسرها قليلة مهينة إذا ما قيست بجانب هدى الله، أو بجانب نعيم الآخرة، فقد قال أصدق القائلين: ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، فلو كانت الدنيا تبرا والآخرة ترابا لما كانت الدنيا ـ مع فنائها ـ شيئا يذكر بجانب الآخرة التي لا انصرام لها، فكيف والدنيا نفسها أهون من التراب والآخرة أغلى من التبر.
25. ليس هذا النهي خاصا ببني إسرائيل وإن كان الخطاب موجها إليهم، فعلماء هذه الأمة مطالبون كذلك بأن لا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، بل هم أحق بهذه المطالبة لأنهم شهداء على الناس، كما أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شهيد عليهم، وقد أكرموا بإنزال الكتاب المعجز الخالد المهيمن على ما قبله من كتاب على نبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكل منهم ضليع بأمانة هذا الكتاب ومسئول عن القيام بأداء رسالته والمحافظة عليه، وأن يكون ذلك خالصا لوجه الله سبحانه، وهو يعني أنهم مطالبون بأن يكونوا مخلصين في العلم والعمل معا، ولا يجتمع ذلك مع اتخاذ الكتاب وما فيه وسيلة لغرض شخصي ومنفعة عاجلة.
26. اختتمت هذه الآية بأمرهم بالتقوى في قوله: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ كما اختتمت التي قبلها بقوله: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾، وليس في ذلك تكرار لأن التقوى، وإن استلزمت الرهبة فهي مستلزمة معها تجنب ما يؤدي إلى الأمر المرهوب والإتيان بما يقي منه إذ الرهبة انفعال نفسي قد لا يصحبه عمل ولا يقترن به ترك، بينما التقوى هي اجتناب لمساخط المرهوب بفعل مأموره وترك منهيه.
27. كل واحدة من الفاصلتين أنسب بما تقدمها:
أ. ففي الآية السابقة ذكروا بنعمة الله وطولبوا بأن يفوا بعهده ليفي بعهدهم، وفي هذا ما يدعو إلى رهبتهم من قطع النعمة عنهم وعدم الوفاء بعهدهم إذا لم يفوا بعهده؛ وأما في هذه الآية فقد طولبوا بالإيمان وحذروا من الكفر ونهوا أن يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وذلك يستلزم فعلا وتركا، فكان فصلها بالأمر بالتقوى أنسب.
ب. وقيل: إن الخطاب في تلك الآية لعامتهم فلذلك فصلت بالأمر بالرهبة لأنها تكون في العوام كما تكون في الخواص، والخطاب في هذه الآية لخاصتهم وهم العلماء، فلذلك فصلت بالأمر بالتقوى، لأن التقوى لا تكون إلا مع العلم بما يُتقى، وقيل: قدم الأمر بالرهبة لأنها وسيلة للتقوى، فمخافة الله في النفس طريق إلى اتقائه بإتيان أمره واجتناب نهيه.
__________
(1) تفسير الخليلي: 3/137.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. (إسرائيل) أحد أسماء يعقوب والد يوسف، وفي سبب تسمية يعقوب بهذا الاسم، ذكر المؤرّخون غير المسلمين عللا ممزوجة بالخرافة.. ورد في (قاموس الكتاب المقدس): أن إسرائيل تعني الشخص المنتصر على الله)! ويقول: وهذه الكلمة لقّب بها يعقوب بن إسحاق بعد أن صرع الملك الإلهي)، ويقول تحت عنوان (يعقوب): إنه أثبت مقاومته واستقامته وإيمانه، وفي هذه الحالة غيّر الله اسمه إلى (إسرائيل)، ووعده أن يكون أبا لكل الطوائف.. ثم مات بعد أن هرم، ودفن كما يدفن السلاطين الدنيويون وأطلق اسم يعقوب وإسرائيل على جميع قومه)، ويقول تحت كلمة (إسرائيل): لهذا الاسم معان كثيرة، يقصد به أحيانا نسل إسرائيل ونسل يعقوب).
2. أمّا علماؤنا كالمفسر المعروف (الطبرسي) فيقول: إن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السّلام وإن (أسر) تعني (العبد) و(ئيل) بمعنى الله، فيكون معنى إسرائيل عبد الله.
3. واضح أن ما تتحدث عنه التوراة من مصارعة بين يعقوب والملك الإلهي، أو بين يعقوب والله، خرافة وسخافة لا تتناسب إطلاقا مع الكتاب الإلهي، وهي أوضح دليل على تحريف التوراة الموجودة.
4. ميثاق بني إسرائيل الإلهي يتكون من اثني عشر بندا، عشر منها ذكرت في آيتين متواليتين من هذه السّورة:
أ. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ .
ب. وبندان ذكرا في الآية الكريمة: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾، وهما: الإيمان بالأنبياء ومؤازرتهم.
5. كان بنو إسرائيل قد وعدوا بالنعيم إن وفوا بعهودهم، ﴿وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ لكنهم نقضوا الميثاق، ولا يزالون حتى اليوم ينقضونه.
6. كان نتيجة ذلك النقض هو التشتيت والتشريد، وسيبقون كذلك ما داموا ناكثين، وإذا رأينا لهم يوما جولة وضجيجا بفضل الدعم الاستكباري لهم، فإن هذه الجولة سرعان ما ستخبو إن شاء الله أمام صولة أبناء الإسلام.. وها نحن نرى في الأفق بوادر الصحوة الإسلامية التي تدفع بالشباب أن يتخلوا عن المدارس الفكرية المنحرفة والاتجاهات القومية والعنصرية الكافرة ويقضوا على هذا الضجيج.
7. نعم الله تستتبعها دوما قيود وشروط، وإلى جانب كل نعمة، مسئولية وشرط.
8. روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام في قوله الله عزّ وجلّ: ﴿ أَوْفُوا بِعَهْدِي ﴾ قال قال بولاية أمير المؤمنين عليه السّلام ﴿ أوف بعهدكم أوف لكم بالجنّة ﴾.. ولا عجب إن ورد الإيمان بولاية علي عليه السّلام في هذا الحديث، باعتباره جزءا من العهد. لأن الإيمان بالأنبياء ومؤازرتهم، من بنود العهد مع بني إسرائيل، ويستتبع ذلك الإيمان بخلفاء الأنبياء باعتبارهم امتدادا لمسألة القيادة والولاية، وهذه المسألة ينبغي تحققها بشكل يتناسب مع زمانها. موسى عليه السّلام في زمانه كان يتولى مسئولية القيادة والولاية، والرّسول الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي كان يتولى هذه المسؤولية في عصره، ثم تولّاها في زمن تال علي بن أبي طالب عليه السّلام.
9. جملة ﴿ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ تأكيد على كسر كل حواجز الخوف القائمة في طريق الوفاء بالعهد الإلهي، وعلى الخوف من الله وحده دون سواه.
10. هذا الحصر يتضح من تقديم ضمير النصب المنفصل (إيّاي) على جملة (فارهبون).
11. القرآن مصدق لما مع اليهود من كتاب، أي أن البشائر التي زفتها التوراة والكتب السماوية الأخرى بشأن النّبي الخاتم، والأوصاف التي ذكرتها لهذا النّبي والكتاب السماوي تنطبق على محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلى القرآن المنزل عليه، فلما ذا لا تؤمنون به!؟
12. ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ أي ـ لا عجب أن يكون المشركون والوثنيون في مكة ـ كفّارا بالرسالة، بل العجب في كفركم، بل في كونكم روّادا للكفر، وسباقين للمعارضة. لأنكم أهل الكتاب، وكتابكم يحمل بشائر ظهور هذا النّبي، وكنتم لذلك تترقبون ظهوره. فما عدى ممّا بدا؟ ولماذا كنتم أول كافر به!؟.. إنه تعنتهم الذي لولاه لكانوا أول المؤمنين برسالة النّبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
13. في مواضع عديدة يصرّح القرآن بتصديقه لما جاء في الكتب الإلهية السابقة، كما جاء في الآية المذكورة: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ وكما جاء في قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ﴾، وبعض دعاة اليهودية والنصرانية استدلوا بهذه الآيات لإثبات عدم تحريف التوراة والإنجيل، وقالوا: إن التوراة والإنجيل في عصر نبي الإسلام لا يختلفان حتما عمّا عليه الآن، وإن أصابهما تحريف فهذا التحريف يعود إلى فترة سابقة على ذلك العصر، ولما كان القرآن قد أيّد صحة التوراة والإنجيل الموجودين في عصر نبي الإسلام، فعلى المسلمين أن يعترفوا بصحة هذين الكتابين الموجودين بين ظهرانينا اليوم.. والجواب على هذه الشبهة هو:
أ. أن القرآن الكريم يؤكد في مواضع عديدة وجود علائم نبي الإسلام ودينه في تلك الكتب المحرفة التي كانت موجودة في أيدي اليهود والنصارى آنذاك، وهذا يعني وجود حقائق في تلك الكتب لم تمتد إليها يد التحريف، ذلك لأنّ التحريف لا يعني تغيير كل نصوص تلك الكتب السماويّة، بل إن تلك الكتب كانت تحمل بين طياتها حقائق، ومن تلك الحقائق علامات النّبي الخاتم (ولا زالت بعض هذه البشائر مشهودة في الكتب الموجودة الآن)، بعثة النّبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم وكتابه السماوي تصديق لما جاء في تلك الكتب من علامات، أي تحقيق عملي لتلك العلامات.
ب. كلمة التصديق بمعنى (التحقيق العملي) وردت في مواضع أخرى من القرآن الكريم كقوله تعالى لنبيّه إبراهيم عليه السّلام: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾، أي أنك قد حققت عمليا رؤياك.
ج. يصرح قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ بأن الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم تحقيق عملي لما يجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل.
د. ليس في الآيات المذكورة دلالة على تصديق جميع محتويات التوراة والإنجيل، بل دلالتها تقتصر على (التصديق العملي) لما جاء في الكتب الموجودة بيد اليهود والنصارى بشأن النّبي الخاتم وكتابه.
هـ. هذا، إلى جانب وجود آيات عديدة في القرآن تتحدث عن تحريف اليهود والنصارى لآيات التوراة والإنجيل، وهو شاهد حيّ صريح على مسألة التحريف.
14. ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ آيات الله، لا ينبغي ـ دون شك ـ معاوضتها، بأي ثمن، قليلا كان أم كثيرا.. وفي تعبير هذه الآية إشارة إلى دناءة هذه المجموعة من اليهود، التي تنسى كل التزاماتها من أجل مصالحها التافهة.. هذه الفئة، التي كانت قبل البعثة من المبشرين بظهور نبي الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبكتابه السماوي، أنكرت بشارات التوراة وحرفتها، حين رأت مصالحها معرضة للخطر، وعلمت أن مكانتها الاجتماعية معرضة للانهيار عند انكشاف الحقيقة للناس.
15. في الواقع، لو أعطيت الدنيا بأجمعها لشخص ثمنا لإنكار آية واحدة من آيات الله، لكان ثمنا قليلا، لأنّ هذه الحياة فانية، والحياة الأخرى هي دار البقاء والخلود، فما بالك بإنسان يفرّط بهذه الآيات الإلهية في سبيل مصالحه التافهة!؟
16. ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾، الخطاب موجّه إلى زعماء اليهود الذين يخشون أن ينقطع رزقهم، وأن يثور المتعصبون اليهود ضدّهم، وتطلب منهم أن يخشوا الله وحده، أي أن يخشوا عصيان أوامره سبحانه.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/183.
18. الحقّ واللبس والكتمان
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈18⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 40 ـ 46]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ لا تخلطوا الصدق بالكذب(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ لا تكتموا الحق وقد علمتم أن محمدا رسول الله، فنهاهم عن ذلك(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، أي: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي، وما جاء به، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، يعني بالزكاة: طاعة الله، والإخلاص(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ ما يوجب الزكاة؛ مائتين فصاعدا(5).
__________
(1) ابن جرير: ١/٦٠٦.
(2) ابن جرير: ١/٦٠٨ ـ: ٦٠٩.
(3) ابن جرير: ١/٦٠٩.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٩٩.
(5) ابن أبي حاتم: ١/١٠٠.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله في أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ كتموا نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٦٠٦.
(2) ابن جرير: ١/٦٠٨.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ اليهودية والنصرانية بالإسلام(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يكتم أهل الكتاب محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٦٠٧.
(2) ابن جرير: ١/٦٠٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ فريضة واجبة، لا تنفع الأعمال إلا بها وبالزكاة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٩٩.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ كتموا محمدا، وهم يعلمون أنه رسول الله، ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧](2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ فريضتان واجبتان، فأدوهما إلى الله ـ جل ثناؤه ـ(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٩٨.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(3) ابن جرير: ١/٦١١.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٦١٠.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. سئل عن قول الله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ قال: هي الفطرة التي افترض الله على المؤمنين(1).
2. روي أنّه قال: نزلت الزكاة وليس للناس الأموال، وإنما كانت الفطرة(2).
3. روي أنّه قال: أعط الفطرة قبل الصلاة، وهو قول الله ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ والذي يأخذ الفطرة عليه أن يؤدي عن نفسه وعن عياله، وإن لم يعطها حتى ينصرف من صلاته فلا تعد له فطرة(3).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/42/32.
(2) تفسير العيّاشي: 1/43/35.
(3) تفسير العيّاشي: 1/43/36.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أمرهم أن يركعوا مع أمة محمد، يقول: كونوا منهم، ومعهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٠٠.
مقاتل:
مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم قال لليهود: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾، وذلك أن اليهود يقرون ببعض أمر محمد، ويكتمون بعضا؛ ليصدقوا في ذلك، فقال الله تعالى: ولا تخلطوا الحق بالباطل، نظيرها في آل عمران، والأنعام: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾، يعني: ولم يخلطوا بشرك(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ أي: ولا تكتموا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أن محمدا نبي، ونعته في التوراة(1).
3. روي أنّه قال: وقال لليهود: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ في مواقيتها، ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ يعني: وأعطوا الزكاة من أموالكم(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ يعني: اليهود، صلوا مع المصلين؛ يعني: مع المؤمنين من أصحاب النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٠١.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ الحق: التوراة التي أنزل الله، والباطل: الذي كتبوه بأيديهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٦٠٧.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: لا تشتروا بالحق الباطل.
ب. ويحتمل: لا تلبسوا، أي لا تلبسوا؛ هو تلبيس الحق بالباطل.
ج. ويحتمل: لا تلبسوا، أي لا تخلطوا.
د. ويحتمل: لا تلبسوا، أي لا تشبهوا الحق بالباطل.
هـ. ويحتمل: لا تلبسوا، أي تكتموا.
و. ويحتمل: لا تلبسوا، أي لا تمحوا نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا تثبتوا غيره، وكله يرجع إلى واحد.
2. ﴿الْحَقُّ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ونعته.
ب. ويحتمل الحق: القرآن.
ج. ويحتمل الحق: الإيمان.
3. الباطل: هو الظلم والكفر.
4. قوله: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ لما ذكر هو ونعته في كتابهم أنه حق؛ إن كان محمدا عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات، أو القرآن والإيمان، لكن تعاندون وتكابرون.
5. قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة أمرا بقبول الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة والمدعوة إليهما؛ كقوله: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: 5]، ليس هو إخبارا عن إقامة فعلهما، ولكن القبول لهما والإيمان بهما.
ب. ويحتمل: أن يكون الأمر بإقامة الصلاة والزكاة أمرا بكونهم على حال تكون صلاتهم صلاة، وزكاتهم زكاة.. قال كونوا في حال تكون صلاتكم صلاة، وزكاتكم زكاة في الحقيقة؛ لأن الآية نزلت في بنى إسرائيل وهم كانوا أهل كتاب، وكانوا يصلّون ويصّدقون، ولكن صلاتهم وزكاتهم لم تكن لله، لما لم يأتوا بإيمانهم فأمروا أن يأتوا بالإيمان؛ لتكون صلاتهم تلك صلاة في الحقيقة.
ج. ويحتمل: الأمر بإقامة الصلاة والزكاة أمرا بإقامتها بأسبابها وشرائطها من نحو ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ الطهارة واللباس، وإخلاص النية له، وذلك راجع إلى المؤمنين.
د. ويحتمل: الأمر بالصلاة والزكاة أمرا لمعنى فيهما، وهو الخضوع والطاعة له، والثناء عليه، وذلك على كل أحد أن يخضع لربه ويطيعه ولا يعصيه، وكذلك الزكاة على كل أحد أن يزكى نفسه عن جميع القاذورات، ويحفظها، ويصونها عن جميع ما يضر به وذلك فرض على كل واحد.
6. قوله عزّ وجل: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ قيل فيه بوجوه:
أ. قيل: إن اليهود كانوا يصلون ولا يركعون؛ فأمروا أن يصلوا لله ويركعوا فيها على ما يفعله المسلمون.
ب. وقيل: إنّهم كانوا يصلون وحدانا لغير الله؛ فأمروا بالصلاة مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه بالجماعة، وفيه أمر بحضور الجماعة.
ج. وقيل: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي كونوا مع المصلين يعنى المسلمين، ولا تخالفوهم في الدين والمذهب، أي اعتقادا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/446.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ يعني لا تخلطوا الحق بالباطل، ومنه قوله: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾، أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون، ومنه قول الحجاج:
لما عبثن الحق بالتجني... عبثن واستبدلن زيداً مني
2. قوله: ﴿الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ أي الصدق بالكذب، واليهودية والنصرانية بالإسلام.
3. ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ يعني نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعرفة نبوته.
4. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه في الكتب التي بأيديكم.
5. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أصل الصلاة في اللغة الدعاء، قال الشاعر:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً... يا ربِّ جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي... يوماً فإن لجنب الحي مضطجعا
أي مثل الذي دعوت، وقد صارت في الشرع عبارة عن أفعال وإن لم يكن فيه دعاء، فالاسم الشرعي ليس فيه معنى اللغة.
6. أما الزكاة ففي تسمية صدقة الأموال بها قولان:
أ. أحدهما: أنه من تثمير المال وزيادته، ومنه قولهم: زكى الزرع أي زاد، وزكى الفرد أي صار زوجاً بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعاً قال الراجز:
فلا خسَّا عديده ولا زكى... كما شرار البقل أطراف الشقا
الشقا شوك البهما، والبهما الشوك الممدود، مثل السلا يقال: خسا الوتر وزكى الشفع.
ب. الثاني: أنه مأخوذ من التطهير لقوله تعالى: ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زاكيةً ﴾ [الكهف: 74]، يعني طاهرة من الذنوب أي أنها تطهر مالكها من مآثم المنع.
7. ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: المراد به الصلاة يقال: فرغت من ركوعي أي من صلاتي.
ب. الثاني: أراد الركوع الذي من الصلاة لأنه لم يكن من صلاة أحد من أهل الكتاب.
8. أصل الركوع في اللغة قولان:
أ. أحدهما: التطامن والانحناء، كما قال لبيد:
أخبر أخبار القرون التي مضت... أدب كأني كلما قمت أركع
ب. الثاني: أنه مأخوذ من المذلة والخضوع قال الشاعر:
لا تذل الكريم علك أن... تركع يوماً والدهر قد رفعه
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/48.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله عزّ وجل: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ يعني لا تخلطوا الحقّ بالباطل، واللبس خلط الأمور، وفيه قوله تعالى: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: 9] قال ابن عباس: معناه: ولخلطنا عليهم ما كانوا يخلطون، ومنه قول العجاج:
لمّا لبسن الحقّ بالتّجنّي... غنين واستبدلن زيدا منّي
2. في قوله: ﴿الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: الصدق، وهو قول ابن عباس.
ب. الثاني: اليهودية والنصرانية بالإسلام، وهو قول مجاهد.
ج. الثالث: الحقّ: التوراة التي أنزلت على موسى، والباطل: الذي كتبوه بأيديهم.
3. قوله تعالى: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ يعني محمدا، ومعرفة نبوّته، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه في الكتب التي بأيديكم، وهذا قول الجميع.
4. في تسمية صدقة الأموال بالزكاة قولان:
أ. أحدهما: أنه من تثمير المال وزيادته، ومنه قولهم: زكا الزرع، إذا زاد، ويقال: زكا الفرد إذا صار زوجا بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعا كما قال الشاعر:
كانوا خسا أو زكا من دون أربعة... لم يخلقوا وجدود النّاس تعتلج
فخسا: الوتر، وزكا: الشفع، وقال الراجز:
فلا خسا عديده ولا زكا... كما شرار البقل أطراف السّفا
السّفا: شوك البهمي، والبهمي: الشوك الممدود مثل السبلي.
ب. الثاني: أنّها مأخوذة من التطهير، ومنه قوله تعالى: ﴿ أقتلت نفسا زاكية ﴾ [الكهف: 74] أي طاهرة من الذنوب، وفيما يطهّر قولان:
• أحدهما: أنه تطهير المال حتى صار بأداء الحقّ منه حلالا ولولاه لخبث.
• الثاني: تطهير نفس المزكي، فكأن المزكي طهّر نفسه من الشحّ والبخل.
5. في قوله تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه أراد جملة الصلاة، فعبر عنها بالركوع، كما يقول الإنسان: فرغت من ركوعي، أي من صلاتي.
ب. الثاني: أنه أراد الركوع الذي في الصلاة، لأنه لم يكن في صلاة أهل الكتاب ركوع، فأمرهم بما لا يفعلونه في صلاتهم.
6. في أصل الركوع قولان:
أ. أحدهما: أنه مأخوذ من التطامن والانحناء، وهو قول الخليل، وابن زيد، قال لبيد بن ربيعة:
أخبّر أخبار القرون التي مضت... أدبّ كأنّي كلّما قمت راكع
ب. الثاني: أنه مأخوذ من المذلّة والخضوع، وهو قول الأصمعي والمفضل، قال الأضبط بن قريع السّعديّ:
لا تذلّ الضّعيف علّك أن تر... كع يوما والدّهر قد رفعه
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/113.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اللبس، والستر، والتغطية، والتعمية، نظائر، والفرق بين التعمية، والتغطية ان التعمية قد تكون بالنقصان والزيادة، والتغطية تكون بالزيادة، وضد الستر: الكشف، وضد اللبس: الإيضاح. يقال: لبس، لبساً، وألبَسه، إلباساً.. والتبس، التباساً، وتلبَّس، تلبساً، ولبّسه، تلبيساً ولابَسه، ملابسةً، واللباس ما واريت به جسدك، ولِباس التقوى: الحياء والفعل: لبس، يلبس، واللبس: خلط الأمور بعضها ببعض. إذا التبست، واللبوس: الدروع، وكل شيء تحصنت به، فهو لبوس. قال الله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾ . قال الشاعر:
البس لكل حالة لبوسَها... إما نعيمها وإما بؤسها
وثوبٌ لبيس، وجمعه: ألبس، واللبسة: ضربٌ من اللباس، والفعل: لبس يلبس، لبساً، ولبسة واحدة، ويقال: لبست الأمر ألبسه: إذا عميته، ومنه قوله: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾، ولا بست الرجل ملابسةً: إذا عرفت دخلته، وفي فلان ملبس: إذا كان فيه مستمع، وفي أمره لبسة: أي ليس بواضح وأصل اللبس: الستر: قال الأخطل:
وقد لبست لهذا الدهر أعصره... حتى تجلل راسي الشيب فاشتعلا
2. الفرق بين اللبس، والإخفاء، والريب، والاشكال: أن الإخفاء يمكن أن يدرك معه المعنى، ولا يمكن إدراك المعنى مع اللبس، والريب معه تهمة المشكوك فيه، والاشكال قد يدرك معه المعنى، إلا أنه بصعوبة، لأجل التعقيد.
3. أسباب الإلباس كثيرة: منها ـ الاشتراك، ومنها ـ الاختلاف، ومنها ـ الاختزال وهو: حذف مقدمه وشرطه، أو ركنه، ومنها ـ الاختلاط، والبسط، وهو: المنع من إدراك الشيء، تشبيهاً بما يمنع من إدراكه بالستر والتغطية، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للحارث بن خوط: يا حار، إنه ملبوس عليك. إن الحق لا يعرف بالرجال. اعرف الحق تعرف أهله.
4. البطلان، والفساد، والكذب، والزور، والبهتان، نظائر، وضد الحق: الباطل. يقال: بطل، بطولا، وبطلا، وبطلاناً: إذا تلف، وأبطلته، إبطالا: إذا أتلفته، والبطل، والباطل، واحد، وبطل الرجل، بطولة إذا صار بطلا، ويقال: رجل بطل، ولا يقال: امرأة بطلة، وبطل، بطالة: إذا هزل، وكان بطالا.. والأباطل: جمع إبطالة وأبطولة، والباطل: ضد الحق، وأبطلته: جعلته باطلا.. وأبطل فلان: إذا جاء بباطل، والبطل: الشجاع الذي يبطل جراحاته، لا يكترث لها، ولا تكفه عن نجدته، وأصل الباطل، الخبر الكذب. ثم كثر حتى قيل لكل فاسد.. ويقال: فعل باطل أي قبيح، وبناء باطل أي منتقض، وزرع باطل أي محترق تالف.
5. معنى لبسهم الحق بالباطل:
أ. قيل: أنهم آمنوا ببعض الكتاب، وكفروا ببعض، فخلطوا الحق بالباطل، لأنهم جحدوا صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فذلك الباطل، وأقروا بغيره مما في الكتاب على ما هو به، وذلك حق.
ب. وقال ابن عباس: لا تخلطوا الصدق بالكذب.
ج. وقال الحسن: كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ودينه، وهو الحق، وأظهروا دين اليهودية والنصرانية.
د. وقال ابن زيد: الحق: التوراة التي أنزلها الله على موسى، والباطل: ما لبسوه بأيديهم.
6. اللبس في الآية:
أ. قيل معناه: التعمية.
ب. وقيل: خلط الحق بالباطل، عن ابن عباس، ومنه قوله: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ أي لخلطنا عليهم ما يخلطون. قال العجاج:
لما لبسن الحق بالتجني... عيين واستبدلن زيداً مني
ومثله: لا يسعني شيء، ويعجز عنك، وعند الخليل وسيبويه، والأخفش، ينصب مثل ذلك، بإضمار أن، ويكون تقدير الكلام: لا يكن منكم لبس الحق وكتمانه، ودل (تلبسوا) على اللبس و(تكتموا) على الكتمان. كما تقول: من كذب كان شراً له. فكذب دليل على الكذب. فكأنه قال من كذب كان الكذب شراً له.
7. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ :
أ. قيل: هو متوجه إلى رؤساء أهل الكتاب، ولذلك وصفهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه للتلبيس على أتباعهم ـ قالوا ـ وهذا تقبيح لما يفعلونه، وكذلك قوله: ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ أي تتركون الاعتراف به، وأنتم تعرفونه أي تجحدون ما تعلمون، وجحد المعاند أعظم من جحد الجاهل، ومن قال هذا، لا يلزمه ما يتعلق به أهل التعارف، من هذه الآية، من قولهم: إن الله أخبر أنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، لأنه إذا خص الخطاب بالرؤساء ـ وهم نفر قليل ـ فقد جوز على مثلهم العناد والاجتماع على الكتمان، وإنما يمنع مع ذلك في الجماعة الكثيرة، لما يرجع الى العادات، واختلاف الدواعي. كما قيل في الفرق بين التواطي والاتفاق في العدد الكثير، وقيل: وأنتم تعلمون البعث والجزاء.
ب. وقيل: الآية متوجهة إلى المنافقين منهم، وكان خلطهم الحق بالباطل ما أظهروا بلسانهم من الإقرار بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بما يستبطنونه من الكفر، وهذا يمكننا الاعتماد عليه، ويكون قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ معناه أنكم تعلمون أنكم تظهرون خلاف ما تبطنونه، وهذا أسلم من كل وجه على أصلنا.
ج. يمكن أن يقال: معنى قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي عند أنفسكم، لأنهم إذا كانوا يعتقدون أنهم عالمون بالتوراة، وبأنه من عند الله، وفيها ذكر النبي، فهم عالمون عند أنفسهم بنبوته، لكن يكابرون.
8. سؤال وإشكال: كيف يصح ذلك على أصلكم الذي تقولون: إن من عرف الله لا يجوز أن يكفر؟ وهؤلاء إذا كانوا كفاراً، وماتوا على كفرهم. كيف يجوز أن يكونوا عارفين بصفة محمد، وأنه حق، بما معهم من التوراة، وذلك مبني على معرفة الله، وعندكم ما عرفوا الله؟ والجواب:
أ. قيل: إن الله الذي يمنع أن يكفر من عرف الله، إذا كان معرفته على وجه يستحق بها الثواب، فلا يجوز أن يكفر، لأنه يؤدي إلى اجتماع الثواب الدائم على إيمانه، والعقاب الدائم على كفره، والإحباط باطل، وذلك خلاف الإجماع، ولا يمتنع أن يكونوا عرفوا الله على وجه لا يستحقون به الثواب لأن الثواب إنما يستحق، بأن يكونوا نظروا من الوجه الذي وجب عليهم. فأما إذا نظروا بغير ذلك، فلا يستحقون الثواب، فيكونوا على هذا عارفين بالله وبالكتاب الذي أنزله على موسى، وعارفين بصفات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. لكن لا يؤمنون مستحقين الثواب، وعلى هذا يجوز أن يكفروا.. وهذا هو المعتمد.
ب. وقيل: استحقاقهم الثواب على إيمانهم، مشروط بالموافاة، فإذا لم يوافوا به، لم يستحقوا الثواب، فعلى هذا أيضاً، يجوز أن يكونوا عارفين، وإن لم يكونوا مستحقين لثواب يبطل بالكفر.
9. الصلاة في أصل اللغة:
أ. قيل: الدعاء. قال الأعشى:
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي... نوماً فان لجنب المرء مضطجعا
أي دعوت، وقال آخر:
وقابلها الريح في دنّها... وصلى على دنّها وارتسم
أي ودعا.
ب. وقيل: أصلها: اللزوم. من قول الشاعر:
لم أكن من جناتها علم الله... واني لحرها اليوم صال
أي ملازم لحرها، وكان معنى الصلاة، ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله عز وجل.
ج. وقيل: أصلها: الصلا وهو عظم العجز لرفعه في الركوع والسجود من قول الشاعر:
فآب مصلوه بغير جلية... وغودر بالجولان حزم ونائل
10. اختلف في أصل الزكاة:
أ. قيل: أصل الباب: النمو، والزكاة تنمي المال بالبركة التي يجعل الله فيه، وسمي بالزكاة في الشريعة، ما يجب إخراجه من المال، لأنه نماء ما ينقى ويثمر.
ب. وقيل: بل مدح لما ينقى، لأنه زكي أي مطهر. كما قال: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ أي طاهرة.
11. ورد في القرآن على طريق الجملة آي كثير: نحو قوله: ﴿ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ﴾، وقوله ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، وقوله: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ وقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، ويمكن الاستدلال بهذه الآيات على وجوب الصلوات، وعلى صلاة الجنائز، وصلاة العيدين، وعلى وجوب الصلاة على النبي وآله في التشهد، لأنه عام في جميع ذلك.
12. اختلف في أصل الركوع:
أ. وقيل: الركوع والانحناء، والانخفاض نظائر في اللغة، يقال: ركع، ورفع. قال الشاعر:
لا تهين الفقير علك أن... تركع يوماً والدهر قد رفعه
وقال لبيد:
أخبر أخبار القرون التي مضت... أدب كأني كلما قمت راكع
ب. وقيل: إنه مأخوذ من الخضوع. ذهب اليه المفضل بن سلمة والأصمعي، قال الشاعر:
لا تهين الفقير علك أن... تركع يوماً والدهر قد رفعه
الأول أقوى، لأن هذا مجاز مشبه به.
13. إنما خص الركوع بالذكر من أفعال الصلاة:
أ. قيل: إن المأمورين هم أهل الكتاب، ولا ركوع في صلاتهم، وكان الأحسن ذكر المختص دون المشترك، لأنه أبعد عن اللبس.
ب. وقيل: لأنه يعبر بالركوع عن الصلاة. يقول القائل: فرغت من ركوعي أي من صلاتي.. وانما فعل ذلك، لأنه أول ما يشاهد مما يدل على أن الإنسان في الصلاة، لأنا بينا أن أصل الركوع الانحناء.
14. سؤال وإشكال: كيف أمروا بالصلاة والزكاة وهم لا يعرفون حقيقة ما في الشريعة؟ والجواب: قيل: إنما أمروا بذلك، لأنهم أحيلوا فيه على بيان الرسول إذ قال: ﴿ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾، ولذلك جاز أن يأمرهم بالصلاة على طريق الجملة، ويحيلهم في التفصيل الى بيان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
15. سؤال وإشكال: قد ثبت أن قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ خطاب لأهل الكتاب، وليس في صلاتهم ركوع، والجواب:
أ. قيل: كأنه أمرهم بالصلاة على ما يرون هم، وأمرهم بضم الركوع إليها، وعلى معنى قوله: ﴿ارْكَعُوا﴾ ـ أي صلوا نقول: إن ذلك تأكيد.
ب. ويمكن أن يقال: فيه فائدة، وهو أن يقال: إن قوله: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ إنما يفيد وجوب إقامتها، ويحتمل أن يكون إشارة إلى صلاتهم التي يعرفونها، ويمكن أن يكون إشارة إلى الصلاة الشرعية، فلما قال: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ يعني مع هؤلاء المسلمين الراكعين، تخصصت بالصلاة في الشرع، ولا يكون تكراراً، بل يكون بياناً.
ج. وقيل: قوله: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ حث على صلاة الجماعة، لتقدم ذكر الصلاة المنفردة في أول الآية.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/190.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. اللبس: الخلط والتغطية، ونقيضه الإيضاح، لبَسَّ لبْسًا ولبْسَة وتلبيسًا.
ب. الباطل نقيض الحق، ونظيره الفاسد، بطل الشيء إذا تلف، وأبطله جعله باطلاً، وأبطله: نسبه إلى البطلان، وأصله الخبر الكاذب، ثم كثر حتى قيل لكل فاسد: باطل.
ج. الزكاة: أصلها النماء والزيادة، يقال: زكا الزرع: نما، وسميت الزكاة؛ لأن المال ينمو بتزكيتها، وقيل: أصله الطهارة، فكأنه يطهر المال، ومنه: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ .
د. الصلاة: أصلها الدعاء، نقل في الشرع إلى أركان مخصوصة، وأفعال معلومة، وكذلك الزكاة نقل في الشرع إلى إخراج جزء من النصاب عند اجتماع الشرائط.
هـ. الركوع: الانحناء فصار اسمًا لفعل مخصوص في الصلاة.
2. نهى تعالى عن كتمان الحق فقال: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا﴾ :
أ. قيل: اللبس التعمية.
ب. وقيل: خلط الحق بالباطل، عن ابن عباس.
3. ﴿الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ :
أ. قيل: لا تخرجوا الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، وهذا عادة علماء السوء، ثم ذلك قد يكون بالكتمان، وقد يكون بالتحريف، فعظم تعالى ذلك من حيث كان إضلالاً.
ب. وقيل: لا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم في صفة محمد بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم لتلبسوا على العوام.
ج. وقيل: كان لبسهم الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض، وهو صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
د. وقيل: لا تحرفوا الكلام عن مواضعه.
هـ. وقيل: لا تخلطوا الصدق بالكذب، عن ابن عباس.
و. وقيل: كتموا صفة محمد والإسلام، وأظهروا اليهودية، وهو الباطل.
ز. وقيل: الحق التوراة المنزلة، والباطل: ما كتبوه بأيديهم، عن ابن زيد.
4. ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ أي لا تكتموا الحق.
5. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الحق، وقيل: ثبوته وصفته فعاندتم، وهذا في رؤساء اليهود، وقيل: في أهل الكتاب، وهم جماعة يجوز عليهم الكتمان والعناد، وقيل: وأنتم تعلمون ما أنزل وسينزل بمن كذب على الله، وقيل: وأنتم تعلمون ما نزل ببني إسرائيل من المسخ وغيره.
6. سؤال وإشكال: لِمَ صار ذنب الْعَاِلمِ أعظم؟ والجواب: الجاهل يستحق الوعيد من وجهين: أحدهما: الجحد، والثاني: الجهل، إلا أن ذنب العالم أقبح للعناد، ولعظم نعم الله عليه.
7. سؤال وإشكال: كيف حرفوا وعامتهم كان يعرف ذلك؟ والجواب: يحرفون ويفسرون بخلاف الحق، والعامة تحسن الظن بهم يتبعونهم كما هو عادة المبتدعة في هذه الأمة أيضًا.
8. لما أمر الله تعالى بالإيمان أَتْبَعَهُ بذكر أركانه وشرائطه، فقال تعالي: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ :
أ. قيل: أدوها بأركانها كما أُمِرْتُمْ.
ب. وقيل: أديموها، والصلاة مجملة في القرآن، وقد بينها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بيانًا عرف من دينه ضرورة.
9. ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أي أعطوا ما فرض الله عليكم في أموالكم، واختلف في أصل الزكاة:
أ. قيل: أصلها النماء والزيادة: يقال: زكا الزرع: نما، وسميت الزكاة؛ لأن المال ينمو بتزكيتها.
ب. وقيل: أصله الطهارة، فكأنه يطهر المال، ومنه: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ .
10. أصل الصلاة: الدعاء، نقل في الشرع إلى أركان مخصوصة، وأفعال معلومة، وكذلك الزكاة نقل في الشرع إلى إخراج جزء من النصاب عند اجتماع الشرائط، والركوع: الانحناء فصار اسمًا لفعل مخصوص في الصلاة.
11. اختلف في معنى ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ :
أ. وقيل: أي صلوا مع المصلين محمدٍ وأصحابه من المسلمين، عن أبي علي.
ب. وقيل: خص الركوع بالذكر لأن الخطاب لليهود ولا ركوع في صلاتهم فكان الأحسن ذكر المختص دون المشترك.
ج. وقيل: لأن العرب كانت تأنف من الركوع، والمراد به الخضوع، فقال: اخضعوا لله تعالى بعبادته مع الخاضعين، فيكون الخطاب عامًّا من غير تكرار فيه.
د. وقيل: عبر بالركوع عن الصلاة وكرره تأكيدًا عن أبي مسلم.
هـ. وقيل: الخطاب عام، ففي أول الآية أمر بالصلاة، وفي آخرها بالجماعة.
12. تدل الآيات الكريمة على:
أ. عظم لبس الحق بالباطل بما فيه من الإضلال، وذلك يدل على أن كتمان الحق من المعاصي العظيمة، وقد يبلغ الكفر في بعض المواضع، وتدخل فيه الشهادات والفتاوى وكتمان المذاهب الصحيحة وإظهار البدع لغرض، وإنما يكون كتمانًا إذا مست الحاجة إلى إظهاره، فأما مع عدم ذلك فلا يعد كتمانًا، وقد يجب إظهار المذهب والدليل للتهمة والإرشاد، ونحوها.
ب. قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ يدل على العناد متى حمل على كتمان ما يعلمون، واستدل به بعضهم على أن المعارف ضرورية، وعندنا يجوز ذلك في بعض المواضع، وفي نفر يسير فلا تعلق لهم بها، على أن الآية تدل على خلاف مذهبهم؛ لأنه لو كانت المعارف ضرورة لم يصح اللبس.
ج. وجوب الصلاة، وتدل على وجوبها في الجماعة، وإذا حمل عليه لا يبطل حق العطف، ولا يكون فيها تكرار، فتدل على وجوب الزكاة.
13. ﴿تَكْتُمُوا﴾ يحتمل وجهين: الجزم على النهي، تقديره: لا تلبسوا، ولا تكتموا، والآخر النصب على الظرف كأنه قال: لا يجتمع اللبس والكتمان، وقال الشاعر:
لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعلْتَ عَظِيمُ
كأنه قال: لا يجتمع النهي والإتيان به.
وعند الخليل وسيبويه والأخفش ينصب مثل ذلك بإضمار (أن)، ويكون تقدير الكلام لا يكن منكم لبس الحق وكتمانه.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/354.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. اللبس، والتغطية، والتعمية، نظائر.. والفرق بين التغطية والتعمية: إن التغطية تكون بالزيادة، والتعمية قد تكون بالنقصان والزيادة، وضد اللبس: الإيضاح.. واللباس: ما واريت به جسدك.. ولباس التقوى: الحياء.. واللبس: خلط الأمور بعضها ببعض.. والفعل لبس الأمر يلبس لبسا، ولبس الثوب يلبسه لبسا.. والفرق بين اللبس والإخفاء: إن الإخفاء يمكن أن يدرك معه المعنى، ولا يمكن مع اللبس إدراك المعنى، والإشكال قد يدرك معه المعنى، إلا أنه بصعوبة لأجل التعقيد، وقال أمير المؤمنين عليه السلام للحرث بن حوط: يا (حار! إنه ملبوس عليك أن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله)
ب. الباطل والبطل واحد، وهو ضد الحق.. والبطلان والفساد والكذب والزور والبهتان نظائر.. وأبطلت الشيء: جعلته باطلا.. وأبطل الرجل: جاء بباطل.
ج. أصل الصلاة عند أكثر أهل اللغة: الدعاء، ومنه قول الأعشى:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا: ... يا رب جنب أبي الأوصاب، والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي... نوما، فإن لجنب المرء مضطجعا
أي: دعوت.
وقيل: أصلها اللزوم من قول الشاعر:
لم أكن من جناتها ـ علم الله ـ... وإني لحرها اليوم صال
أي: ملازم لحرها.
فكأن معنى الصلاة ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به.
وقيل: أصلها من الصلا: وهو عظم العجز لرفعه في الركوع والسجود، ومنه قول النابغة: فآب مصلوه بعين جلية... وغودر بالجولان حزم، ونائل أي: الذين جاؤوا في صلا السابق.
وعلى القول الأول أكثر العلماء.
د. الزكاة، والنماء، والزيادة، نظائر في اللغة.. وقال صاحب العين: الزكاة زكاة المال: وهو تطهيره.. وزكا الزرع وغيره يزكو زكاء ممدودا اي: نما وازداد.. وهذا لا يزكو بفلان أي: لا يليق به.. والزكا: الشفع.. والخسا: الوتر.. وأصله تثمير المال بالبركة التي يجعلها الله فيه.
هـ. الركوع، والانحناء، والانخفاض، نظائر في اللغة.. قال ابن دريد: الراكع الذي يكبو على وجهه ومنه الركوع في الصلاة، قال الشاعر:
وأفلت حاجب فوق العوالي... على شقاء تركع في الظراب
وقال صاحب العين: كل شيء ينكب لوجهه، فتمس ركبته الأرض، أو لا تمس بعد أن يطأطئ رأسه، فهو راكع.
قال الشاعر:
ولكني أنص العيس تدمى... أياطلها، وتركع بالحزون
وقال لبيد:
أخبر أخبار القرون التي مضت... أدب كأني كلما قمت راكع
وقيل: إنه مأخوذ من الخضوع.
قال الشاعر:
لا تهين الفقير علك أن... تركع يوما، والدهر قد رفعه
والأول أقوى، وإنما يستعمل في الخضوع مجازا، وتوسعا.
2. ﴿ لا تَلْبِسُوا ﴾ أي لا وتخلطوا ﴿الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾، ومعنى لبسهم الحق بالباطل:
أ. قيل: أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، لأنهم جحدوا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذلك الباطل، وأقروا بغيره مما في الكتاب.
ب. وقيل: معناه لا تحرفوا الكلم عن مواضعه، فالتحريف هو الباطل، وتركهم ما في الكتاب على ما هو به هو الحق.
ج. وقال ابن عباس: لا تخلطوا الصدق بالكذب.
د. وقيل: الحق التوراة التي أنزلها الله على موسى والباطل ما كتبوه بأيديهم
هـ. وقيل: الحق إقرارهم أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم مبعوث إلى غيرهم، والباطل إنكارهم أن يكون بعث إليهم
3. قوله ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي لا تكتموا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة.
4. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ :
أ. قيل: هو وأنتم تعلمون أنه حق، والخطاب متوجه إلى رؤساء أهل الكتاب كما وصفهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه للتلبيس على أتباعهم، وهذا تقبيح لما يفعلونه أي يجحدون ما يعلمون وجحد العالم أعظم من جحد الجاهل.
ب. وقيل: معناه وأنتم تعلمون البعث والجزاء.
ج. وقيل: معناه وأنتم تعلمون ما أنزل ببني إسرائيل وما سينزل بمن كذب على الله تعالى.
د. وقيل: معناه وأنتم تعلمون ما نزل ببني إسرائيل من المسخ وغيره.
5. سؤال وإشكال: كيف يجوز أن يكون هؤلاء عارفين بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك مبني على معرفة الله وعندكم أن من عرف الله لا يجوز أن يكفر، وهؤلاء صاروا كفارا وماتوا على كفرهم، والجواب:
أ. لا يمتنع أن يكونوا عرفوا الله على وجه لا يستحقون به الثواب، لأن الثواب إنما يستحق بأن ينظروا من الوجه الذي يستحق به الثواب، فإذا نظروا على غير ذلك الوجه لا يستحقون الثواب، فعلى هذا يجوز أن يكونوا عارفين بالله والتوراة وبصفات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن لم يستحقوا الثواب، فلا يمتنع أن يكفروا.. وهذا هو المعتمد.
ب. استحقاقهم الثواب على إيمانهم مشروط بالموافاة، فإذا لم يوافوا بالإيمان لم يستحقوا الثواب، فعلى هذا يجوز أن يكونوا عارفين وإن لم يكونوا مستحقين لثواب يبطل بالكفر.
6. إنما خص الركوع بالذكر وهو من أفعال الصلاة بعد قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ لأحد وجوه:
أ. أحدها، أن الخطاب لليهود ولم يكن في صلاتهم ركوع، وكان الأحسن ذكر المختص دون المشترك لأنه أبعد من اللبس.
ب. ثانيها، أنه عبر بالركوع عن الصلاة يقول القائل فرغت من ركوعي أي صلاتي، وإنما قيل ذلك لأن الركوع أول ما يشاهد من الأفعال التي يستدل بها على أن الإنسان يصلي، فكأنه كرر ذكر الصلاة تأكيدا، عن أبي مسلم، ويمكن أن يكون فيه فائدة تزيد على التأكيد، وهو أن قوله ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ إنما يفيد وجوب إقامتها، ويحتمل أن يكون إشارة إلى صلاتهم التي يعرفونها، وأن يكون الصلاة إشارة إلى الصلاة الشرعية، وقوله ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ يكون معناه صلوا مع هؤلاء المسلمين الراكعين فيكون متخصصا بالصلاة المتقررة في الشرع فلا يكون تكرارا بل يكون بيانا.
ج. ثالثها، أنه حث على صلاة الجماعة لتقدم ذكر الصلاة في أول الآية.
7. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أي أدوها بأركانها وحدودها وشرائطها كما بينها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أي أعطوا ما فرض الله عليكم في أموالكم على ما بينه الرسول لكم وهذا حكم جميع ما ورد في القرآن مجملا فإن بيانه يكون موكولا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ فلذلك أمرهم بالصلاة والزكاة على طريق الإجمال وأحال في التفصيل على بيانه.
8. مسائل نحوية:
9. قوله: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ : يحتمل وجهين من الإعراب:
• أحدهما: الجزم على النهي، كأنه قال لا تلبسوا الحق، ولا تكتموا، فيكون عطف جملة على جملة.
• والآخر: النصب على الظرف بإضمار أن، فيكون عطف الاسم على مصدر الفعل الذي قبله، وتقديره لا يكن منكم لبس الحق وكتمانه.
10. دل تلبسوا على لبس، كما يقال من كذب كان شرا له، فكذب يدل على الكذب، فكأنه قال: من كذب كان الكذب شرا، قال الشاعر في مثله:
لا تنه عن خلق، وتأتي مثله... عار عليك إذا فعلت عظيم
أي: لا تجمع بين النهي عن خلق، والإتيان بمثله.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/212.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تلبسوا: بمعنى تخلطوا. يقال: لبست الأمر عليهم، ألبسه: إذا عمّيته عليهم، وتخليطهم: أنهم قالوا: إن الله عهد إلينا أن نؤمن بالنّبيّ الأمّي، ولم يذكر أنه من العرب.
2. في المراد بالحق قولان:
أ. أحدهما: أنه أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله ابن عباس، ومجاهد وقتادة، وأبو العالية، والسّدّيّ ومقاتل.
ب. الثاني: أنه الإسلام، قاله الحسن.
3. قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ . يريد: الصلوات الخمس، وهي هاهنا اسم جنس.
4. معنى الزّكاة في كلام العرب: الزيادة والنماء، فسمّيت زكاة، لأنها تزيد في المال الذي تخرج منه، وتوفّره، وتقيه من الآفات، ويقال: هذا أزكى من ذاك، أي: أزيد فضلا منه.
5. قوله تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ :
أ. قيل: أي: صلّوا مع المصلّين. قال ابن عباس: يريد محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأصحابه.
ب. وقيل: إنما ذكر الركوع، لأنه ليس في صلاتهم ركوع، والخطاب لليهود.
6. في هذه الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع، وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
__________
(1) زاد المسير: 1/61.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).
1. قوله سبحانه: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ أمر بترك الكفر والضلال، وقوله: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ أمر بترك الإغراء والإضلال.
2. إضلال الغير لا يحصل إلا بطريقين، وذلك لأن ذلك الغير إن كان قد سمع دلائل الحق، فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش تلك الدلائل عليه، وإن كان ما سمعها، فإضلاله إنما يمكن بإخفاء تلك الدلائل عنه، ومنعه من الوصول إليها:
أ. فقوله: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ إشارة إلى القسم الأول، وهو تشويش الدلائل عليه.
ب. وقوله: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ إشارة إلى القسم الثاني، وهو منعه من الوصول إلى الدلائل.
3. الأظهر في الباء التي في قوله: ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ أنها باء الاستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقلم، والمعنى: ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين)، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد عليكم كانت نصوصاً خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات، فهذا هو المراد بقوله: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ فهو المذكور في قوله: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ [غافر: 5]
4. قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي تعلمون ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة، وذلك لأن ذلك التلبيس صار صارفاً للخلق عن قبول الحق إلى يوم القيامة وداعياً لهم إلى الاستمرار على الباطل إلى يوم القيامة ولا شك في أن موقعه عظيم.
5. هذا الخطاب وإن ورد فيهم، فهو تنبيه لسائر الخلق وتحذير من مثله فصار الخطاب وإن كان خاصاً في الصورة لكنه عام في المعنى.
6. النهي عن اللبس والكتمان وإن تقيد بالعلم، فلا يدل على جوازهما حال عدم العلم، وذلك لأنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أو باطل، وما لا يعرف كونه حقاً أو باطلًا لا يجوز الإقدام عليه بالنفي ولا بالإثبات، بل يجب التوقف فيه.
7. سبب ذلك التقييد أن الإقدام على الفعل الضار مع العلم بكونه ضاراً أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضاراً، فلما كانوا عالمين بما في التلبيس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح.
8. الآية دالة على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه.
9. قوله: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ جزم داخل تحت حكم النهي بمعنى ولا تكتموا، أو منصوب بإضمار أن.
10. النهي عن اللبس والكتمان، وإن تقيد بالعلم فلا يدل على جوازهما حال عدم العلم، وذلك لأنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أو باطل، وما لا يعرف كونه حقاً أو باطلًا لا يجوز الإقدام عليه بالنفي ولا بالإثبات، بل يجب التوقف فيه، وسبب ذلك التقييد أن الإقدام على الفعل الضار مع العلم بكونه ضاراً أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضاراً، فلما كانوا عالمين بما في التلبيس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح.
11. الآية دالة على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه.
12. لما أمرهم الله تعالى بالإيمان أولًا ثم نهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمان دلائل النبوة ثانياً، ذكر بعد ذلك بيان ما لزمهم من الشرائع، وذكر من جملة الشرائع ما كان كالمقدم، والأصل فيها وهو الصلاة التي هي أعظم العبادات البدنية والزكاة التي هي أعظم العبادات المالية.
13. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ هل كان بعد أن وصف لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أركان الصلاة وشرائطها، أم بعد ذلك:
أ. القائلون بأنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قالوا: إنما جاء الخطاب في قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ بعد أن كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصف لهم أركان الصلاة وشرائطها، فكأنه تعالى قال: وأقيموا الصلاة التي عرفتموها.
ب. القائلون بجواز التأخير قالوا: يجوز أن يراد الأمر بالصلاة: وإن كانوا لا يعرفون أن الصلاة ما هي: ويكون المقصود أن يوطن السامع نفسه على الامتثال: وإن كان لا يعلم أن المأمور به ما هو: كما أنه لا نزاع في أن يحسن من السيد أن يقول لعبده: إني آمرك غداً بشيء فلا بد وأن تفعله: ويكون غرضه منه بأن يعزم العبد في الحال على أدائه في الوقت الثاني.
14. اختلف في أصل كلمة الصلاة:
أ. قيل: أصلها في اللغة الدعاء قال الأعشى:
عليك مثل الذي صليت فاعتصمي... عينا فإن لجنب المرء مضطجعا
وقال آخر:
وقابلها الريح في دنها... وصلى على دنها وارتسم
ب. وقيل: الأصل فيها اللزوم قال الشاعر:
لم أكن من جناتها علم الله... وإني بحرها اليوم صالي
أي ملازم.
ج. وقيل: هي مأخوذة من المصلي، وهو الفرس الذي يتبع غيره.
15. الأقرب في أصل كلمة الصلاة أنها مأخوذة من الدعاء، إذ لا صلاة إلا ويقع فيها الدعاء، أو ما يجري مجراه، وقد تكون صلاة ولا يحصل فيها متابعة الغير، وإذا حصل في وجه التشبيه ما عم كل الصور كان أولى أن يجعل وجه التشبيه شيئاً يختص ببعض الصور.
16. اختلف في أصل كلمة الصلاة هل هو اسم شرعي مرتجل أم لا:
أ. قيل: الصلاة من الأسماء الشرعية لأنها أمر حدث في الشرع، فاستحال أن يكون الاسم الموضوع قد كان حاصلًا قبل الشرع.
ب. وقيل: من المجازات المشهورة في اللغة إطلاق اسم الجزء على الكل، ولما كانت الصلاة الشرعية مشتملة على الدعاء، لا جرم أطلق اسم الدعاء عليها على سبيل المجاز.
17. إن كان المراد من كونها اسماً شرعيًا أن الشرع ارتجل هذه اللفظة ابتداء لهذا المسمى، فهو باطل وإلا لما كانت هذه اللفظة عربية، وذلك ينافي قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [يوسف: 2]
18. الزكاة في اللغة عبارة عن:
أ. النماء، يقال: زكا الزرع إذا نما.
ب. وعن التطهير قال الله تعالى: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً﴾ [الكهف: 74] أي طاهرة، وقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى: 14] أي تطهر، وقال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ [النور: 21]، وقال: ﴿وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: 18] أي تطهر بطاعة الله.
19. لعل إخراج نصف دينار من عشرين ديناراً سمي بالزكاة تشبيهاً بهذين الوجهين:
أ. لأن في إخراج ذلك القدر تنمية للبقية من حيث البركة، فإن الله يرفع البلاء عن ذلك المال بسبب تزكية تلك العطية، فصار ذلك الإعطاء نماء في المعنى، وإن كان نقصاناً في الصورة، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: عليكم بالصدقة فإن فيها ست خصال، ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الآخرة، فأما التي في الدنيا فتزيد في الرزق وتكثر المال وتعمر الديار، وأما التي في الآخرة فتستر العورة وتصير ظلًا فوق الرأس وتكون ستراً من النار)
ب. لأن في إخراج ذلك القدر تطهير مخرج الزكاة عن كل الذنوب، ولهذا قال تعالى لنبيه: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: 103]
20. قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ خطاب مع اليهود وذلك يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]:
أ. قيل: إن اليهود لا ركوع في صلاتهم، فخص الله الركوع بالذكر تحريضاً لهم على الإتيان بصلاة المسلمين.
ب. وقيل: إن المراد صلوا مع المصلين، وعلى هذا يزول التكرار لأن في الأول أمر تعالى بإقامتها وأمر في الثاني بفعلها في الجماعة.
ج. وقيل: إن المراد من الأمر بالركوع هو الأمر بالخضوع، لأن الركوع والخضوع في اللغة سواء، فيكون نهياً عن الاستكبار المذموم، وأمراً بالتذلل، فكأنه تعالى لما أمرهم بالصلاة والزكاة أمرهم بعد ذلك بالانقياد والخضوع وترك التمرد، كما:
• قال الله تعالى للمؤمنين: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 54]
• وقوله تأديباً لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 215]
• ومدحه له بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]
• وهكذا في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: 55]
22. إنما أمر الله تعالى بني إسرائيل بالزكاة لأنهم كانوا لا يؤتون الزكاة، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ [المائدة: 62، 63] وبقوله: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا﴾ .. ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 161]، فأظهر الله تعالى في هذا الموضع ما كان مكتوباً ليحذروا أن يفضحهم في سائر أسرارهم ومعاصيهم فيصير هذا كالإخبار عن الغيب الذي هو أحد دلائل نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/485.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اللبس: الخلط. لبست عليه الامر ألبسه، إذا مزجت بينه بمشكلة وحقه بباطله، قال الله تعالى ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الانعام: 9]، وفى الامر لبسة أي ليس بواضح، ومن هذا المعنى قول علي للحارث بن حوط: يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله، وقالت الخنساء:
ترى الجليس يقول الحق تحسبه... رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا
صدق مقالته واحذر عداوته... والبس عليه أمورا مثل ما لبسا
وقال العجاج:
لما لبسن الحق بالتجني... غنين واستبدلن زيدا مني
2. روي عن قتادة في قوله: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 42]، يقول: لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن دين الله ـ الذي لا يقبل غيره ولا يجزئ إلا به ـ الإسلام وأن اليهودية والنصرانية بدعة وليست من الله، والظاهر من قول عنترة: وكتيبة لبستها بكتيبة.. أنه من هذا المعنى، ويحتمل أن يكون من اللباس، وقد قيل هذا في معنى الآية، أي لا تغطوا، ومنه لبس الثوب يقال لبست الثوب ألبسه ولباس الرجل زوجته وزوجها لباسها قال الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها... تثنت عليه فكانت لباسا
وقال الأخطل:
وقد لبست لهذا الامر أعصره... حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا
واللبوس: كل ما يلبس من ثياب ودرع، قال الله تعالى ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾ [الأنبياء: 80]، ولابست فلانا حتى عرفت باطنه وفي فلان ملبس أي مستمتع قال ألا إن بعد العدم للمرء قنوة.
3. الباطل: الشيطان والبطل الشجاع سمي بذلك لأنه يبطل شجاعة صاحبه. قال النابغة:
لهم لواء بأيدي ماجد بطل... لا يقطع الخرق إلا طرفه سامي
والمرأة بطله، وقد بطل الرجل (بالضم) يبطل بطوله وبطالة أي صار شجاعا وبطل الأجير (بالفتح) بطالة أي تعطل فهو بطال.
4. اختلف أهل التأويل في المراد بقوله ﴿الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ :
أ. روي عن ابن عباس وغيره: لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل، وهو التغيير والتبديل، وهو أصوب، لأنه عام فيدخل فيه جميع الأقوال.
ب. قال أبو العالية: قالت اليهود محمد مبعوث، ولكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حق، وجحدهم أنه بعث إليهم باطل.
ج. قال ابن زيد: المراد بالحق التوراة، والباطل ما بدلوا فيها من ذكر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيره.
د. قال مجاهد: لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام.
5. قوله تعالى: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ يجوز أن يكون معطوفا على ﴿تَلْبِسُوا﴾ فيكون مجزوما، ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن، والتقدير لا يكن منكم لبس الحق وكتمانه أي وأن تكتموه.
6. قال ابن عباس: يعني كتمانهم أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم يعرفونه، وقال محمد بن سيرين: نزل عصابة من ولد هارون يثرب لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العدو عليهم والذلة وتلك العصابة هم حملة التوراة يومئذ فأقاموا بيثرب يرجون أن يخرج محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بين ظهرانيهم وهم مؤمنون مصدقون بنبوته فمضى أولئك الآباء وهم مؤمنون وخلف الأبناء وأبناء الأبناء فأدركوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم فكفروا به وهم يعرفونه، وهو معنى قوله تعالى ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: 89]
7. قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملة في موضع الحال أي أن محمدا عليه السلام حق فكفرهم كان كفر عناد ولم يشهد تعالى لهم بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا، ودل هذا على تغليظ الذنب على من واقعه على علم وأنه أعصى من الجاهل.
8. قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أمر معناه الوجوب ولا خلاف فيه.
9. قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أمر يقتضي الوجوب والإيتاء الإعطاء، أتيته: أعطيته قال الله تعالى ﴿لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ [التوبة: 75]، واتيته ـ بالقصر من غير مد ـ جئته فإذا كان المجيء بمعنى الاستقبال مد ومنه الحديث: ولآتين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلأخبرنه)
10. الزكاة في اللغة مشتقة:
أ. قيل: من زكا الشيء إذا نما وزاد يقال زكا الزرع والمال يزكو إذا كثر وزاد، ورجل زكي أي زائد الخير، وسمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكي، ويقال زرع زاك بين الزكاء، وزكأت الناقة بولدها تزكأ به إذا رمت به من بين رجليها، وزكا الفرد إذا صار زوجا بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعا قال الشاعر:
كانوا خسا أو زكا من دون أربعة... لم يخلقوا وجدود الناس تعتلج
ب. وقيل: أصلها الثناء الجميل، ومنه زكى القاضي الشاهد. فكأن من يخرج الزكاة يحصل لنفسه الثناء الجميل.
ج. وقيل: الزكاة مأخوذة من التطهير كما يقال: زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة والاغفال، فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين، ولذلك سمى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يخرج من الزكاة أوساخ الناس، وقد قال تعالى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: 103]
11. اختلف في المراد بالزكاة هنا:
أ. قيل: الزكاة المفروضة لمقارنتها بالصلاة، وهو قول أكثر العلماء.
ب. وقيل: صدقة الفطر، لأنه ليس لها في الكتاب نص عليها إلا ما تأوله مالك هنا، وقوله تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 15]
12. الركوع في اللغة:
أ. قيل: الانحناء بالشخص وكل منحن راكع. قال لبيد:
أخبِّر أخبار القرون التي مضت... أدبُّ كأني كلما قمت راكع
وقال ابن دريد: الركعة الهوة في الأرض لغة يمانية
ب. وقيل: الانحناء يعم الركوع والسجود، ويستعار أيضا في الانحطاط في المنزلة قال:
ولا تعاد الضعيف علّك أن... تركع يوما والدهر قد رفعه
13. اختلف الناس في تخصيص الركوع بالذكر:
أ. قيل: جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة، وهذا ليس مختصا بالركوع وحده، فقد جعل الشرع القراءة عن الصلاة والسجود عبارة عن الركعة بكمالها فقال: وقرآن الفجر) أي صلاة الفجر، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)، وأهل الحجاز يطلقون على الركعة سجدة.
ب. وقيل: إنما خص الركوع بالذكر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع.
ج. وقيل: لأنه كان أثقل عل القوم في الجاهلية حتى لقد قال بعض من أسلم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: على ألا أخر إلا قائما.. فمن تأويله على ألا أركع فلما تمكن الإسلام من قلبه اطمأنت بذلك نفسه وامتثل ما أمر به من الركوع.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/341.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. من معاني اللبس:
أ. الخلط: وهو أولى، يقال لبست عليه الأمر ألبسه: إذا خلطت حقه بباطله وواضحه بمشكله، قال الله تعالى: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ قالت الخنساء:
ترى الجليس يقول الحقّ تحسبه... رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا
صدّق مقالته واحذر عداوته... والبس عليه أمورا مثل ما لبسا
وقال العجّاج:
لمّا لبسن الحقّ بالتجنّي... غنين فاستبدلن زيدا منّي
ومنه قول عنترة:
وكتيبة لبّستها بكتيبة... حتّى إذا التبست نفضت لها يدي
ب. وقيل: هو مأخوذ من التغطية: أي لا تغطّوا الحق بالباطل، ومنه قول الجعدي:
إذا ما الضّجيع ثنى جيدها... تثنّت عليه فكانت لباسا
وقول الأخطل:
وقد لبست لهذا الأمر أعصره... حتى تجلّل رأسي الشيب فاشتعلا
2. الباطل في كلام العرب: الزائل، ومنه قول لبيد: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل.. وبطل الشيء يبطل بطولا وبطلانا، وأبطله غيره، ويقال ذهب دمه بطلا: أي هدرا، والباطل: الشيطان؛ وسمي الشجاع بطلا لأنه يبطل شجاعة صاحبه، والمراد به هنا خلاف الحق.
الباء في قوله: ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ يحتمل أن تكون صلة، وأن تكون للاستعانة ذكر معناه في الكشاف، ورجّح الرازي في تفسيره الثاني.
3. ﴿وَتَكْتُمُوا﴾ يجوز أن يكون داخلا تحت حكم النهي، أو منصوبا بإضمار أن:
أ. وعلى الأوّل يكون كل واحد من اللبس والكتم منهيا عنه.
ب. وعلى الثاني يكون المنهي عنه هو الجمع بين الأمرين.
ومن هذا يلوح رجحان دخوله تحت حكم النهي، وأن كل واحد منهما لا يجوز فعله على انفراده.
4. المراد النهي عن كتم حجج الله التي أوجب عليهم تبليغها وأخذ عليهم بيانها، ومن فسرّ اللبس أو الكتمان بشيء معين، ومعنى خاص فلم يصب إن أراد أن ذلك هو المراد دون غيره، لا إن أراد أنه مما يصدق عليه.
5. قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملة حالية، وفيه أن كفرهم كفر عناد لا كفر جهل، وذلك أغلظ للذنب وأوجب للعقوبة.
6. هذا التقييد ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ لا يفيد جواز اللبس والكتمان مع الجهل، لأن الجاهل يجب عليه أن لا يقدم على شيء حتى يعلم بحكمه، خصوصا في أمور الدين، فإن التكلم فيها والتصدّي للإصدار والإيراد في أبوابها إنما أذن الله به لمن كان رأسا في العلم فردا في الفهم، وما للجهال والدخول فيما ليس من شأنهم والقعود في غير مقاعدهم!؟
7. المراد هنا الصلاة المعهودة، وهي صلاة المسلمين، على أن التعريف للعهد، ويجوز أن تكون للجنس، ومثلها الزكاة.
8. الإيتاء: الإعطاء، يقال آتيته: أي أعطيته، والزكاة مأخوذة من الزكاء، وهو النماء، زكا الشيء: إذا نما وزاد، ورجل زكي: أي زائد الخير؛ وسمي إخراج جزء من المال زكاة: أي زيادة مع أنه نقص منه، لأنها تكثر بركته بذلك، أو تكثر أجر صاحبه؛ وقيل: الزكاة مأخوذة من التطهير، كما يقال: زكا فلان: أي طهر.
9. الظاهر أن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها قد نقلها الشرع إلى معان شرعية هي المرادة بما هو مذكور في الكتاب والسنة منها، وقد تكلّم أهل العلم على ذلك بما لا يتسع المقام لبسطه.
10. اختلف أهل العلم في المراد بالزكاة هنا:
أ. قيل: المراد المفروضة لاقترانها بالصلاة.
ب. وقيل: صدقة الفطر، والظاهر أن المراد ما هو أعمّ من ذلك.
11. اختلف في معنى الركوع في اللغة:
أ. قيل: الانحناء، وكل منحن راكع، قال لبيد:
أخبّر أخبار القرون التي مضت... أدبّ كأنّي كلّما قمت راكع
ب. وقيل: الانحناء يعم الركوع والسجود، ويستعار الركوع أيضا للانحطاط في المنزلة، قال الشاعر:
لا تهين الفقير علّك أن... تركع يوما والدّهر قد رفعه
12. إنما خص الركوع بالذكر هنا:
أ. قيل: لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم.
ب. وقيل: لكونه كان ثقيلا على أهل الجاهلية.
ج. وقيل: إنه أراد بالركوع جميع أركان الصلاة.
13. الركوع الشرعي: هو أن ينحني الرجل ويمد ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعا ذاكرا بالذكر المشروع.
14. قوله: ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ فيه الإرشاد إلى شهود الجماعة، والخروج إلى المساجد، وقد ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ما هو معروف.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/89.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ﴾ لا تخلطوه، وهو ما في التوراة والإنجيل ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ هو خلاف الحقِّ من أنفسهم، خلطوه بالحقِّ تفسيرًا وكتابة، فهو بعد كلام حقٍّ؛ وقيل: كلام آخر حقّ، سواء زادوه بينهما فقط، أو أسقطوا كلامًا بينهما وجعلوا مكانه باطلاً.
2. ﴿وَتَكْتُمُوا﴾ أي: ولا تكتموا، أو مع أن تكتموا، جزمًا بالعطف أو نصبًا في جواب النهي ﴿الْحَقَّ﴾ كصفة محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ورجم المحصن إذا سئلوا أنكروا وجود ذلك في التوراة، وكرَّر (الحقَّ) للتأكيد إذ لم يضمر له، أو لأنَّ المراد بالأوَّل غير صفته صلّى الله عليه وآله وسلّم ورجم المحصن.
3. ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنَّه حقٌّ، أو تعلمون أنَّه موجود في التوراة، أو البعثُ، أو الجزاءُ، أو أنَّكم لابسون كاتمون وتقولون: لا يوجد، وذلك قبيح ولو لم تعلموا، فكيف وقد علمتم، أو أنتم من ذوي العلم هكذا، فلا يقدَّر له عملٌ في محذوف.
4. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ﴾ المنزَّلتين في القرآن، لوجوب الإيمان به واتِّباعه عليكم ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ محمَّد وأصحابه جماعةً، أو الجنس، فالكفَّار مخاطَبون بفروع الشريعة كما خوطبوا بالتوحيد، وتأويل الآية ونحوها بـ (آمِنُوا بوجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ليكون من الأصول) دعوًى بلا دليل، وتكلُّفٌ، والحقُّ جواز الأمر بالشيء قبل بيانه، فليس ذلك من تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما تقول لعبدك: (خِطْ هذا الثوب) فيقول: لا أعرف، فتقول: سأعلِّمك، وأنت حين أمرتَه عارف بأنَّه لا يعرف.
5. وقدَّم الصلاة تدريجًا؛ لأنَّها أسهل على النفس من المال؛ ولأنَّها أفضل العبادات بعد التوحيد، وقرنها بالزكاة لأنَّها تطهِّر النفس من البخل، وتُورثها فضيلة الكرم، كما أنَّها تنمِّي المال وتطهِّره من البخل، فإنَّ الزكاة لغةً: النموُّ والطهارة.
6. وفيه تلويح بزجرهم عمَّا هم عليه قبلُ من الصلاة فرادى بلا ركوع، أو المراد بالركوع: الانقيادُ لأمر الشرع وترك التكبُّر.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/95.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بين قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ مسلكهم في الغواية والاغواء في سياق النهى عنه، فقد جاء في كتبهم التحذير من أنبياء كذبة يبعثون فيهم ويعملون العجائب، وجاء فيها أيضا أنه تعالى يبعث فيهم نبيا من ولد اسماعيل يقيم به أمة، وأنه يكون من ولد الجارية (هاجر) وبين علاماته بما لا لبس فيه ولا اشتباه، ولكن الأحبار والرؤساء كانوا يلبسون على العامة الحق بالباطل فيوهمونهم أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأنبياء الذين نعتتهم الكتب بالكذبة (حاشاه) ويكتمون ما يعرفون من نعوته التي لا تنطبق على سواه، وما يعلمون من صفات الأنبياء الصادقين وما يدعون إليه، وكله ظاهر فيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بأكمل المظاهر.
2. من اللبس أيضا ما يفتريه الرؤساء والأحبار فيكون صادا لهم عن سبيل الله وعن الإيمان بنبيه عن ضلال وجهل وهو لبس أصول الدين بالمحدثات والتقاليد التي زادوها على الكتب المنزلة بضروب من التأويل والاستنباط من كلام بعض المتقدمين وأفعالهم، فكانوا يحكمون هذه الزيادات في الدين حتى في كتب الأنبياء ويعتذرون بأن الأقدمين أعلم بكلام الأنبياء وأشد اتباعا لهم فهم الواسطة بينهم وبين الأنبياء؛ وعلى من بعدهم الأخذ بما يقولون دون ما يقول الأنبياء الذين يصعب عليهم فهم كلامهم بزعمهم، ولكن الله لم يقبل هذا العذر منهم فأسند إليهم ذلك اللبس وكتمان الحق الموجود في التوراة إلى اليوم، وكذلك لا يقبل الله ممن بعدهم ترك كتابه لكلام الرؤساء بحجة أنهم أكثر علما وفهما، فكل ما يعلم من كتاب الله تعالى يجب العمل به، وإنما يسأل الإنسان أهل الفهم عما لا يعلم منه ليعلم فيعمل.
3. بعد الدعوة إلى الإيمان اليقيني دعاهم إلى العمل الصالح على الوجه النافع المرضى لله تعالى، فقال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾
4. كانوا ضلوا عنه بالتمسك بالظواهر والوقوف عند الرسوم، فقد كانوا يصلون ولكنهم ما كانوا يقيمون الصلاة، لأن الإقامة هي الإتيان بالشيء مقوما كاملا وهى في الصلاة التوجه إلى الله تعالى بالقلب والخشوع بين يديه والاخلاص له في الذكر والدعاء والثناء، فهذا هو روح الصلاة الذي شرعت لأجله ولم تشرع لهذه الصورة، فان الصورة تتغير في حكم الله تعالى على ألسنة أنبيائه لأنها رابطة مذكرة، فلم تكن للأنبياء صورة واحدة للصلاة، ولكن هذا الروح لا يتغير فهو واحد لم يختلف فيه نبيّ ولم ينسخ في دين.
5. ثم أمر بعد الصلاة التي تطهر الروح وتقربها من الله تعالى بالزكاة التي هي عنوان الإيمان ومظهر شكر الله على نعمه والصلة العظيمة بين الناس، وقد عهد في القرآن قرن الأمر بإتيان الزكاة بالأمر بإقامة الصلاة، ومن أقام الصلاة لا ينسى الله تعالى ولا يغفل عن فضله، ومن كان كذلك فهو جدير ببذل المال في سبيله، مواساة لعياله ومساعدة على مصالحهم التي هي ملاك مصلحته، فان الانسان إنما يكتسب المال من الناس بحذقه وعمله معهم فهو لم يكن غنيا إلا بهم ومنهم، فاذا عجز بعضهم عن الكسب لآفة في فكره ونفسه أو علة في بدنه، فيجب على الآخرين الأخذ بيده، وأن يكونوا عونا له حفظا للمجموع الذي ترتبط مصالح بعضه بمصالح البعض الآخر، وشكرا لله على ما ميزهم به من النعمة، وظاهر أن الغنى في حاجة دائمة إلى الفقير كما أن الفقير في حاجة إليه، ولكن النفوس تمرض فتغفل عن المصلحة في بذل المال ومساعدة الفقير والضعيف مبالغة وغلوا في حب المال الذي هو شقيق الروح كما يقولون، لهذا جعل الله بذل المال والإنفاق في سبل الخير علامة من علامات الإيمان، وجعل البخل من آيات النفاق والكفر.
6. البخل ـ ومنبعه القسوة على عباد الله تعالى والحرص على المال استرسالا في الشهوات، وميلا مع الأهواء ـ لا يجتمع مع الإيمان الصحيح في قلب واحد قط، وليس لأحد أن يزعم أنه يؤمن بالله وبما أنزل على رسله من الأوامر والنواهي حتى يقوم بما أمر الله فيما طلب منه على ما يحب الله ويرضى.
7. أمر الله تعالى بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالركوع مع الراكعين، والركوع صورة الصلاة أو جزء من أجزائها، وقد أخره ولم يصله بالصلاة لحكمة جليلة لا رعاية للفاصلة كما زعم بعض المفسرين، فليس من الجائز أن يكون في القرآن ما يعرض فيه إخلال بالمعنى لأجل رعاية الفاصلة، بل هذا لا يرتضيه البلغاء من الناس فكيف يقع في كلام الله تعالى؟
8. إنما وردت هذه الأوامر الثلاثة مرتبة كما يحب الله تعالى:
أ. فإقامة الصلاة في المرتبة الأولى من عبادة الله تعالى لأنها روح العبادة والإخلاص له.
ب. يليها إيتاه الزكاة لأنها تدل أيضا على زكاء الروح وقوة الإيمان.
ج. أما الركوع وهو صورة الصلاة البدنية أو بعض صورتها أشير به إليها فهو في المرتبة الثالثة فرض للتذكير بسابقيه، وما هو بعبادة لذاته، وإنما كان عبادة لأنه يؤدى امتثالا لأمر الله تعالى وإظهارا لخشيته، والخشوع لعظمته، ولكنه قد يصير عادة لا يلاحظ فيها امتثال ولا إخلاص فلا يعد عند الله شيئا، وإن عده أهل الرسوم كل شيء، بخلاف إقامة الصلاة بالمعنى الذي ذكرناه وإيتاء الزكاة، ولا يخفى أن الفصل بين معني الصلاة وصورتها بالزكاة فيه تعظيم لشأن الزكاة.
__________
(1) تفسير المنار: 1/293.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي ولا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى لا يتميزا، ولا تكتموا الحق الذي تعرفونه، فالنهى الأوّل عن التغيير، والنهى الثاني عن الكتمان وقد أبانت الآية طريقهم في الغواية والإغواء، فقد جاء في كتبهم: التحذير من أنبياء كذبة يبعثون فيهم، وتكون لهم عجائب وأفاعيل تدهش الألباب)، وأن الله يبعث فيهم نبيا من ولد إسماعيل يقيم به أمة، وأنه يكون من ولد الجارية (هاجر) وبين علامات واضحة له لا لبس فيها ولا اشتباه.
2. أخذ الأحبار والرهبان يلبسون على العامة الحق بالباطل، ويوهمونهم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أولئك الأنبياء الذين وصفوا في التوراة بالكذب، ويكتمون ما يعرفونه من أوصاف لا تنطبق إلا عليه، وما يعرفونه من نعوت الأنبياء الصادقين وسبيل دعوتهم إلى الله، إلى أنهم كانوا يصدونهم عن السبيل القويم بعدم الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بزيادات يستحدثونها، وتقاليد يبتدعونها بضروب من التأويل والاستنباط من كلام بعض سلفهم وأفعالهم ويحكّمونها في الدين ويحتجون بأن الأقدمين كانوا أعلم بكلام الأنبياء وأشد اتباعا لهم، فعلى من بعدهم أن يأخذ بكلامهم دون كلام الأنبياء الذي يصعب علينا فهمه بزعمهم.
3. هذه المعذرة لم يتقبلها الله منهم، ونسب إليهم اللبس والكتمان للحق الذي في التوراة إلى يومنا هذا، كما لم يتقبل ممن بعدهم من العلماء في أي شريعة ودين أن يتركوا كتابه ويتبعوا كلام العلماء بتلك الحجة عينها، فكل ما يعلم من كتاب الله يجب علينا أن نعمل به، وما لا يعلم يسأل عنه أهل الذكر، ومتى فهمناه وعلمناه عملنا به.
4. يجوز صرف الخطاب إلى المسلمين وإلى كل صنف منهم، وبيانه أن يقال: أيها السلاطين لا تخلطوا العدل بالجور، ويا أيها القضاة لا تخلطوا الحكم بالرشوة، وهكذا كل فريق. فهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم، فمن أخذ رشوة على تغيير حق وإبطاله، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه، أو أداء ما علمه، وقد تعين عليه أداؤه حتى يأخذ عليه أجرا، فقد دخل في حكم الآية.
5. بعد أن دعا الله تعالى بنى إسرائيل إلى الإيمان أمرهم بصالح العمل على الوجه المقبول عند الله، فطلب إليهم إقامة الصلاة لتطهر نفوسهم كما طلب إليهم إيتاء الزكاة التي هي مظهر شكر الله على نعمه والصلة العظيمة بين الناس، لما فيها من بذل المال لمواساة عيال الله وهم الفقراء، ولما بين الناس من تكافل عام في هذه الحياة، فالغنى في حاجة إلى الفقير، والفقير في حاجة إلى الغنى كما ورد في الحديث: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا).
6. في الصلاة إظهار الحاجة إلى المعبود، والافتقار إليه بالقول أو بالفعل أو بكليهما، وإقامتها هي التوجه إلى الله بقلب خاشع والإخلاص له في الدعاء، وهذا هو روح الصلاة الذي شرعت لأجله، أما الصورة فليست مقصودة لذاتها، ومن ثم اختلفت في الشرائع بحسب الأديان والأزمان، ولكن الروح لا تغيير فيه ولا تبديل باختلاف الأنبياء.
7. بعدئذ أمرهم بالركوع مع الراكعين، أي أن يكونوا في جماعة المسلمين ويصلوا صلاتهم، وقد حثّ على صلاة الجماعة لما فيها من تظاهر النفوس عند مناجاة الله، وإيجاد الألفة بين المؤمنين، ولأنه عند اجتماعهم يتشاورون في دفع ما ينزل بهم من البأساء أو يجلب لهم السراء، ومن ثم جاء في الخبر: صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة)
8. عبر عن الصلاة بالركوع ليبعدهم عن الصلاة التي كانوا يصلونها قبلا، إذ لا ركوع فيها.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/102.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ .. لقد زاول اليهود هذا التلبيس والتخليط وكتمان الحق في كل مناسبة عرضت لهم، كما فصل القرآن في مواضع منه كثيرة؛ وكانوا دائما عامل فتنة وبلبلة في المجتمع الإسلامي، وعامل اضطراب وخلخلة في الصف المسلم.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/69.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ معطوف على جميع ما تقدم من قوله: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 40] إلى هنا لأن هاته الجمل كلها لم يقصد أن الواحدة منها معطوفة على التي قبلها خاصة، بل على جميع ما تقدمها لا سيما قوله: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا﴾ فإنه مبدأ انتقال من غرض التحذير من الضلال إلى غرض التحذير من الإضلال بعد أن وسط بينهما قوله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي﴾ [البقرة: 41]
2. إن شئت أن تجعل كلا معطوفا على الذي قبله فهو معطوف على الذي قبله بعد اعتبار كون ما قبله معطوفا على ما قبله كذلك، وهذا شأن الجمل المتعاطفة إلا إذا أريد عطف جملة على جملة معينة لكون الثانية أعلق بالتي والتها دون البقية وذلك كعطف ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ على ﴿ لا تَلْبِسُوا ﴾ فإنها متعينة للعطف على ﴿تَلْبِسُوا﴾ لا محالة إن كانت معطوفة وهو الظاهر فإن كلا الأمرين منهي عنه والتغليظ في النهي عن الجمع بينهما واضح ب الأولى.
3. جوزوا أن يكون ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ منصوبا بأن مضمرة بعد واو المعية ويكون مناط النهي الجمع بين الأمرين، وهو بعيد، لأن كليهما منهي عنه، والتفريق في المنهي يفيد النهي عن الجمع بالأولى بخلاف العكس، اللهم إلا أن يقال: إنما نهوا عن الأمرين معا على وجه الجمع تعريضا بهم بأنهم لا يرجى منهم أكثر من هذا الترك للبس، وهو ترك اللبس المقارن لكتم الحق، فإن كونه جريمة في الدين أمر ظاهر. أما ترك اللبس الذي هو بمعنى التحريف في التأويل فلا يرجى منهم تركه إذ لا طماعية في صلاحهم العاجل.
4. الحق: الأمر الثابت من حقّ إذا ثبت ووجب وهو ما تعترف به سائر النفوس بقطع النظر عن شهواتها، والباطل في كلامهم ضد الحق فإنه الأمر الزائل الضائع يقال بطل بطلا وبطولا وبطلانا إذا ذهب ضياعا وخسرا وذهب دمه بطلا أي هدرا، والمراد به هنا ما تتبرأ منه النفوس وتزيله ما دامت خلية عن غرض أو هوى، وسمي باطلا لأنه فعل يذهب ضياعا وخسارا على صاحبه.
5. اللبس: خلط بين متشابهات في الصفات يعسر معه التمييز أو يتعذر، وهو يتعدى إلى الذي اختلط عليه بعدة حروف مثل على واللام والباء على اختلاف السياق الذي يقتضي معنى بعض تلك الحروف، وقد يعلق به ظرف عند، وقد يجرد عن التعليق بالحرف.. ويطلق على اختلاط المعاني وهو الغالب، وظاهر كلام الراغب في (مفردات القرآن) أنه هو المعنى الحقيقي، ويقال في الأمر لبسة بضم اللام أي اشتباه، وفي حديث شق الصدر (فخفت أن يكون قد التبس بي) أي حصل اختلاط في عقلي بحيث لا يميز بين الرؤية والخيال، وفعله من باب ضرب وأما فعل لبس الثياب فمن باب سمع.
6. لبس الحق بالباطل ترويج الباطل في صورة الحق، وهذا اللّبس هو مبدأ التضليل والإلحاد في الأمور المشهورة فإن المزاولين لذلك لا يروج عليهم قصد إبطالها فشأن من يريد إبطالها أن يعمد إلى خلط الحق بالباطل حتى يوهم أنه يريد الحق قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾ [الأنعام: 137] لأنهم أوهموهم أن ذلك قربة إلى الأصنام.
7. أكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل(2)... وقد قالت الخوارج (لا حكم إلا لله) فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل)، وحرّف أقوام آيات بالتأويل البعيد، ثم سموا ذلك بالباطن وزعموا أن للقرآن ظاهرا وباطنا فكان من ذلك لبس كثير، ثم نشأت عن ذلك نحلة الباطنية، ثم تأويلات المتفلسفين في الشريعة كأصحاب (الرسائل) الملقبين بإخوان الصفاء. ثم نشأ تلبيس الواعظين والمرغبين والمرجئة فأخذوا بعض الآيات فأشاعوها وكتموا ما يقيدها ويعارضها نحو قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 53] فأوهموا الناس أن المغفرة عامة لكل ذنب وكل مذنب ولو لم يتب وأغضوا عن آيات الوعيد وآيات التوبة.
8. لتفادي من هذا الوصف الذي ذمه الله تعالى قال علماء أصول الفقه: إن التأويل لا يصح إلا إذا دل عليه دليل قوي، أما إذا وقع التأويل لما يظن أنه دليل فهو تأويل باطل، فإن وقع بلا دليل أصلا فهو لعب لا تأويل، ولهذا نهى الفقهاء عن اقتباس القرآن في غير المعنى الذي جاء له كما قال ابن الرومي:
لئن أخطأت في مدح... ك ما أخطأت في منعي
لقد أنزلت حاجاتي... بواد غير ذي زرع
9. قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ حال، وهو أبلغ في النهي لأن صدور ذلك من العالم أشد فمفعول (تعلمون) محذوف دل عليه ما تقدم، أي وأنتم تعلمون ذلك أي لبسكم الحق بالباطل.
10. قال الطيبي عند قوله تعالى الآتي: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44] إن قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ غير منزل منزلة اللازم لأنه إذا نزل منزلة اللازم دل على أنهم موصوفون بالعلم الذي هو وصف كمال وذلك ينافي قوله الآتي: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44] إذ نفى عنهم وصف العقل فكيف يثبت لهم هنا وصف العلم على الإطلاق.
11. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أمر بالتلبس بشعار الإسلام عقب الأمر باعتقاد عقيدة الإسلام، فقوله: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ [البقرة: 41] الآية راجع إلى الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما هو وسيلة ذلك وما هو غايته:
أ. فالوسيلة ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ إلى ﴿فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة: 40]
ب. والمقصد ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾
ج. والغاية ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾
وقد تخلل ذلك نهي عن مفاسد تصدهم عن المأمورات مناسبات للأوامر.
12. قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ :
أ. أمر بأعظم القواعد الإسلامية بعد الإيمان والنطق بكلمة الإسلام.
ب. وفيه تعريض بحسن الظن بإجابتهم وامتثالهم للأوامر السالفة، وأنهم كملت لهم الأمور المطلوبة.
13. في هذا الأمر تعريض بالمنافقين، ذلك أن الإيمان عقد قلبي لا يدل عليه إلا النطق، والنطق اللساني أمر سهل قد يقتحمه من لم يعتقد إذا لم يكن ذا غلو في دينه فلا يتحرج أن ينطق بكلام يخالف الدين إذا كان غير معتقد مدلوله كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: 14] الآية، فلذلك أمروا بالصلاة والزكاة:
أ. لأن الأولى عمل يدل على تعظيم الخالق والسجود إليه وخلع الآلهة، ومثل هذا الفعل لا يفعله المشرك لأنه يغيظ آلهته بالفعل، وبقول الله أكبر ولا يفعله الكتابي لأنه يخالف عبادته.
ب. ولأن الزكاة إنفاق المال، وهو عزيز على النفس فلا يبذله المرء في غير ما ينفعه إلا عن اعتقاد نفع أخروي لا سيما إذا كان ذلك المال ينفق على العدو في الدين، فلذلك عقب الأمر بالإيمان بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنهما لا يتجشمهما إلا مؤمن صادق، ولذلك جاء في المنافقين: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ [النساء: 142] وقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 4، 5] وفي (الصحيح) أن صلاة العشاء أثقل صلاة على المنافقين.
14. قوله: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ تأكيد لمعنى الصلاة لأن لليهود صلاة لا ركوع فيها فلكي لا يقولوا إننا نقيم صلاتنا دفع هذا التوهم بقوله: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، والركوع طأطأة وانحناء الظهر لقصد التعظيم أو التبجيل، وقد كانت العرب تفعله لبعض كبرائهم، قال الأعشى:
إذا ما أتانا أبو مالك... ركعنا له وخلعنا العمامة
15. روي سجدنا له وخلعنا العمارا، والعمار هو العمامة.
16. قوله: ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ إيماء إلى وجوب مماثلة المسلمين في أداء شعائر الإسلام المفروضة، فالمراد بالراكعين المسلمون، وفيه إشارة إلى الإتيان بالصلاة بأركانها وشرائطها.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/455.
(2) ذكر هنا بعض النماذج الجدلية التي لم نر استساغة الحديث عنها هنا، وسنذكرها في الأجزاء الخاصة بالمواضيع القرآنية.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. من دأب اليهود التمويه، ليصلوا من وراء ذلك إلى باطلهم؛ ولذا قال تعالى ناهيا لهم: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
2. اللبس: معناه الخلط ومزج شيئين بعضهما ببعض، حتى لا يميز أحدهما عن الآخر، ولبست الحق بالباطل أي خلطت بينهما، بحيث لا يميز الحق عن الباطل الذي اختلط، فلا يدرك إلا مشوبا بالباطل، فلا يكون الحق واضحا لا تحوطه الريب والظنون، ويقال: إن الرجل ملبوس عليه، إذا اختلط عليه الحق بالباطل، ولقد روى عن على كرم الله وجهه لبعض صحابته: يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله)
3. اليهود غيروا في كتبهم، فلبسوا الحق بالباطل فنهاهم الله عن ذلك، وقال تعالت كلماته: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾، وقد روى عن عبد الله بن عباس في تفسير هذه الآية أن معناها: لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل، وهو التغيير والتبديل.
4. المعنى الجملي للنهى: لا تخلطوا الحق الذي جاء في شرع موسى عليه السلام بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه بأيديكم، كما توهمتم في التوراة التي بأيديكم من أن هارون عليه السلام عبد العجل مع الذين ضلوا منكم، فهم يخلطون بين الحق والباطل، فيلتبس الحق، وتختفى معالمه، فنهاهم الله تعالى عن ذلك.
5. نهاهم الله تعالى عن أمر آخر، يقع منهم، وهو أن يكتموا ما أنزل الله تعالى، فإنهم يعملون عملين:
أ. أولهما: أن يخلطوا الحق بالباطل، فلا يدرك الحق على وجهه، ولا يعرف صريحه مما اختلط به، وكذلك شأن المضللين يأتون ببعض الحق، ويخلطونه بالباطل، فيختفى نور الحق ببهرج الباطل.
ب. الثاني: أنهم يكتمون الحق الذي لا التباس فيه، ولم يستطيعوا أن يخلطوه فيكتموه ككتمانهم البشارة بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكتمانهم تحريم الربا وقد نهوا عنه، وغير ذلك مما حرم كتمانه، وكاستباحتهم ما حرم عليهم يوم السبت، وغير ذلك.
6. نعى الله تعالى عليهم ذلك الكتمان للحق، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
7. إنهم إذ يكتمون الحق من الكتاب يفعلونه متعمدين قاصدين التضليل؛ لأنهم يعلمون ما يلبسون به الحق بالباطل، ويعلمون ما يكتمونه؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الحق فيما لبستم به، وتعلمون الحق الذي كتمتموه قاصدين كتمانه.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/213.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ لا تخلطوا الحق بالباطل ليقبل الباطل بسبب اختلاطه بالحق.
2. حكى الرضي في (نهج البلاغة) عن علي عليه السلام من كلام له عليه السلام: فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحق لم يخفَ على المرتادين، ولو أنّ الحق خلصَ من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث، فيُمْزَجانِ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى)
3. ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه الحق الذي أخذ عليكم الميثاق ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]
4. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ عطف على ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ لأنه لم يتخلل إلاَّ ما يجري مجرى الحث على الإيمان، فالمراد: آمنوا، وأقيموا الصلاة.. إلخ، والإيمان بالقرآن يستلزم العمل بشرائع الدين كلها، ولكن خصت هذه لعظمتها في الدين وفي ذكرها مع الدعوة إلى الإيمان إشارة أن الغرض الدعوة إلى عبادة الله، كقوله تعالى: ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ﴾ الآية [آل عمران: 64]
5. إيتاء الزكاة هو تسليمها من دون مطالبة من الفقير أو تهديد من الإمام، بل إذا حضر المصدق سلموها إليه لمجرد معرفة أنه مصدق، ولعل هذا هو السبب في عبارة ﴿ آَتُوا الزَّكَاةَ ﴾ في أكثر مواضعها في القرآن دون زكوا، ليفيد حسن الأداء لها.
6. تخصيص (الركوع) بالذكر، مع أنه جزء من الصلاة فقيل فيه ـ على ما حكاه الشرفي في (المصابيح) ـ: اقتضى ذكر الركوع هاهنا أن اليهود لم يكن في صلاتهم ركوع، فأُمروا بالركوع).. إن صح هذا فهو الظاهر، وإلا فقد خص الركوع لحكمة لا نعلمها، ولا يبعد أنه توطئه لقوله: ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ ويكون تخصيصه إشارة إلى إدراك الجماعة بإدراك الركوع مع الراكعين، وأن ذلك لا ينافي إقامة الصلاة حيث استلزم ترك القراءة في الركعة الأولى.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/104.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان اليهود يتبعون في مواجهة الإسلام أسلوبين:
أ. الأول: أسلوب الخداع والتمويه، وذلك بتلبيس الحق بالباطل، وإثارة الشبهات والالتباسات في قضايا الإيمان والتشريع، حتى يجعلوا الحق خفيا على الناس، بحيث يقف الإنسان بين الحق والباطل، فلا يقدر على التمييز بينهما.. وهذا ما يحاول الكثيرون إثارته وممارسته في حياتنا الآن، فيما يحركونه من أساليب التشكيك في فكر الإسلام وطبيعته، وفي انتصار الإسلام وإمكانيات وصوله إلى الهدف الكبير في الحياة، وقد مارسه اليهود في الماضي ولا يزالون يمارسونه في الحاضر بأساليبهم المتنوّعة.
ب. الثاني: أسلوب كتمان الحقيقة وإخفائها، فقد كانوا يملكون الكثير من المعلومات والأدلة التي تؤكد صدق الرسول في رسالته، ولكنهم كانوا يخفونها عن الناس لأنهم لا يريدون للإسلام أن يأخذ مكانه الطبيعي كقوة رسالية إلهية في الحياة، حسدا وبغيا من عند أنفسهم، وهذا الأسلوب هو ما نواجهه تماما في صراعنا مع الكفر والإلحاد، عندما ينكرون كثيرا من دلائل الحق التي يعلمونها، لئلا يكون منه حجة عليهم فيما يقبلونه وفيما يرفضونه منه.
2. الفرق بين حالة كتمان الحق وحالة تلبسه بالباطل، هو أن هناك قضايا لا يستطيعون اللعب عليها، لعدم قابليتها لذلك في مدلولها الفكري والعملي، فكانوا يلجؤون إلى كتمانها عن الناس لئلا يعرفوا وجه الحق فيرتبطوا به، وهناك قضايا لا تخلو من الغموض والخفاء في تفاصيلها الدقيقة، فكانوا يلجؤون إلى خلطها بالباطل من عند أنفسهم، ليلبسوا على الناس دينهم، ويلعبوا من خلال ذلك فيما يريدون من شؤون اللعب بالحق والباطل.
3. نلاحظ في القرآن أنه يتوجه إلى أهل الكتاب لا إلى الأمّة في قضية كتمان الحق أو تلبيسه بالباطل، مع أن من المفروض ـ فيما يبدو ـ أن يطلب من الأمّة أن تتعرف وجه الحق وخلوصه من الباطل من خلال قراءة التوراة والتدبر فيها، ولكن الظاهر أن الناس كانوا لا يملكون سبيلا إلى الاطلاع على التوراة ليطلعوا على ما فيها، لأنهم كانوا يحتكرونها ويخفونها عن الناس، ولا يظهرون لهم إلا ما يريدون إظهاره، كما أنها لم تكن معرّبة حتى يعرف الناس لغتها لو قدروا على الحصول عليها، فكانت طريقة المعرفة الوحيدة هي طريقة الأخذ من علماء أهل الكتاب، ولهذا رأينا القرآن الكريم يتجه إليهم ليتحداهم أن يظهروها للناس ليكشف لهم ما فيها من حقائق، وهذا ما تظهره الآية الكريمة: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: 93]
4. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ فإن الركوع هو غاية الخضوع لله الذي يجب أن تعيشه الخليقة في كل مظهر من مظاهر وجودها الحي الفاعل، لتكون الحياة كلها في خدمة الله وطوع إرادته، فينبغي للإنسان أن يكون مع الناس في ركوعهم لله، فلا يكون في جانب والذين يسيرون مع الله في جانب آخر.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/17.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآية ـ بما فيها من جمل ـ معطوفة على مجموع ما تقدم من قوله: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ ... الخ، ففي الآيتين السابقتين خصوصا في قوله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا﴾ تحذير من الضلال، وفي هذه تحذير من الإضلال، والإضلال لا ينشأ إلا عن الضلال، كما أن هدى الغير لا يكون إلا بعد هدى النفس.
2. اللبس الخلط بين الأشياء المتشابهة حتى يتعذر تمييز بعضها من بعض أو يتعسر، ويتعدى بالباء واللام وعلى، بحسب اختلاف مقتضى الكلام.
3. الباء هنا:
أ. للإلصاق لأنهم منهيون عن الخلط بين الحق الذي أنزله الله عليهم، والباطل الذي استوحوه من هدى أنفسهم فأضافوه إلى المنزل، وهذا كما يقال خلطت البر بالشعير، والماء باللبن.
ب. ذهب الفخر الرازي إلى أنها الباء الآلية المسماة بباء الاستعانة، كالتي في قولك كتبت بالقلم، وعليه فالمعنى لا تجعلوا الحق ملتبسا على الناس بسبب الباطل الذي تأتون به، وهو ما يوردونه من الشبه الحائلة دون وصول حقيقة الحق إلى أفهام عوامهم، وهذا الذي ذهب إليه الفخر جوزه الزمخشري من قبل، وقال باحتماله كثير من المفسرين، واستدل له الفخر بقوله تعالى: ﴿ وجادلوا بالباطل ليد حضوا به الحق ﴾
4. كون الباء هنا للإلصاق أقرب لأن متعلقها مشتق من اللبس، وهو دال على الخلط بين شيئين أو أشياء، بخلافها في آية الكهف فهي متعلقة فيها بما تصرف من المجادلة أولا، وما اشتق من الإدحاض ثانيا، والفرق بينهما وبين اللبس واضح.
5. الباطل: نقيض الحق مأخوذ من بطل إذا فنى، ولذا قالوا إن أصدق الشعر قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.. ومشتقاته دالة على الزوال، ومنها قولهم بطل الأمر إذا لم يكن صحيحا، ومعناه أنه ليس له بقاء، وكذا تسمية الشجاع بطلا لتلاشي شجاعات خصومه بين يديه.
6. المراد بلبسهم الحق بالباطل خلط ما أوتوه من الكتاب بما أضافه إليه الأحبار من إفكهم، أو ما ألصقوه به من التأويلات الباطلة:
أ. وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه فسر الحق بالصدق، والباطل بالكذب.
ب. وقال آخرون إن الحق هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والباطل إنكار أحبار اليهود أن تكون صفات النبي المنتظر منطبقة عليه.
ج. وقيل: الحق هو صفات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والباطل صفات الدجال، وذلك أن في كتب بني إسرائيل ذكر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ونعوته، وذكر الدجالين الذين يدعون النبوات وهم كاذبون، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وانكشفت صفاته لأحبار اليهود اضطرمت في قلوبهم نار الغيظ لكونه من ولد إسماعيل فادعوا أنه من الدجالين مع معرفتهم بنعوته التي تميزه عنهم، وذكر بعض السلف أنه آوى إلى المدينة جماعة من ذرية هارون عليه السلام فرارا من اضطهاد الدولة الرومية التي أذاقت بني إسرائيل فشوهوا الحقيقة وكتموا الحق.
7. الحق ما طابق الواقع، والباطل ما خالفه، وحمل لفظيهما على العموم أولى، وما ذكروه يندرج تحت ذلك.
8. كما نهوا عن لبس الحق بالباطل نهوا عن كتمانه لأن الحق أمانة عند عارفيه، فعليهم أن يبلغوه من لا يعرفه، والذين يضلون الناس عن سبيله لهم في ذلك نهجان بحسب اختلاف أحوال الذين يضلونهم لأنهم إما أن يكونوا على معرفة به أو بشيء منه، وإما أن يكونوا غير عارفين به رأسا:
أ. فمسلكهم مع الطائفة الأولى خلطه بالباطل، وذلك بإثارة الشبهات من حوله، حتى تعمى حجته وينطمس دليله.
ب. ومسلكهم مع الطائفة الثانية حجبه عنهم حتى لا يلمع لهم شيء من نوره.
9. جملة ﴿ تكتموا الحق ﴾ معطوفة على ما قبلها فهي داخلة في النهي، وهذا ما رواه ابن جرير عن ابن عباس، إذ فسرها بقوله: ولا تكتموا الحق)، وأجاز ابن جرير أن تكون الواو للمعية والفعل بعدها منصوبا، ووافقه أكثر المفسرين منهم الزمخشري وابن عطية، وخالفهم أبو حيان، وابن عاشور، فمنعا ذلك لأنه يلزمه أن يكون مناط النهي الجمع بين الأمرين، فيفهم منه عدم منعهما إن فرق بينهما، مع أن كلا منهما ممنوع لذاته، وهذا هو الصحيح وإن حمل اعتبار الواو للمعية على قصد التعريض بهم أن من شأنهم التلبس بكلتا الخصلتين لأن الكلام مسوق مساق النهي ولم يسق مساق تعديد مثالبهم وإن كان في هذا النهي إيماء إلى أنهم متلبسون بهذه الخصال المنهى عنها.
10. أعيد ذكر الحق ثانية ولم يكتف بضميره إما للتأكيد وإما لأن الحق الثاني غير الأول:
أ. فالأول ما كان بأيديهم مما أنزل الله على أنبيائهم.
ب. والثاني هو أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله ابن عباس ومجاهد، وقتادة، والسدى، وأبو العالية، ومقاتل؛ أو الإسلام، قاله الحسن.
11. قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملة حالية كاشفة لما هم عليه من معرفة الحق الذي تركوه، والباطل الذي ارتكبوه، والمعصية من العالم أشد قبحا، وأسوأ عاقبة كما يدل عليه قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ويل لمن لم يعلم ولم يعمل مرة وويل لمن علم ولم يعمل مرتين).
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ :
أ. قيل: ما كانوا يعلمونه هو صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة، وقد أخبر الله عنهم بذلك في قوله: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾
ب. وقيل: هو عموم رسالته للناس قاطبة.
ج. وقيل: البعث والجزاء.
د. وقيل: هو تلبسهم باللبس والكتمان.
هـ. وقيل: ليس لتعلمون هنا مفعول لأنه مراد به إثبات صفة العلم لهم وهذا يعني أنه سُلب صفة التعدي وعُد من اللوازم، وذكر ابن عاشور عن الطيبي إنكار ذلك لمنافاته قوله تعالى فيهم: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ إلى ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ إذ نفى عنهم وصف العقل، فكيف يثبت لهم هنا وصف العلم، وهذا مبني على ما ذكره ابن عاشور في موضع آخر أن الاستفهام التقريري يقحم فيه النفي مع عدم الحاجة إليه، وخطأ ذلك ظاهر، فإن الاستفهام ذاته نفي، فإذا دخل على المنفي كان مثبتا، وإذا دخل المثبت كان منفيا، ألا ترون أن قوله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، إثبات لشرح صدره، فكذا قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ إثبات لوجود عقل فيهم، ولا ينافي ذلك قوله تعالى حاكيا عن أهل النار: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، فإن مرادهم به العقل الهادي على الخير، ويدل عليه قرنه بالسمع مع العلم أنهم لم يكونوا جميعا إيفوا في أسماعهم، والعقل المقصود بقوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ هو مطلق العقل المشترك بين الأبرار والفجار، وهو الذي يترتب عليه التكليف، وتقوم به الحجة.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ :
أ. قيل: الركوع المعروف، وأصله طأطأة الرأس وحني الظهر، ويطلق على الذلة وخسة المنزلة، وهو من أركان الصلاة، والركوع الشرعي هو وضع اليدين على الركبتين مع حني الظهر حتى يستوي مقدمه ومؤخره، وهو معنى ما أخرجه مسلم عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك، وفي حديث أبي حميد الساعدي: إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره)
ب. وقيل: أن المراد بالركوع هنا الصلاة، وهو من باب تسمية الكل بالجزء كما تسمى بالقيام وبالسجود.
ج. وقيل: إن صلاة اليهود لا ركوع فيها فلذلك أمروا به لئلا يفهموا من قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ الأمر بإقامتها حسب عادتهم.
14. هذا الخطاب كالذي قبله موجه إلى بني إسرائيل في حال إعراضهم عن الإسلام، ومكابرتهم للحق وصدهم عن الإسلام، ومكابرتهم للحق وصدهم عن الإيمان، فهو دليل قاطع على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فهم مطالبون بالعبادات وسائر الواجبات العلمية، كما أنهم مطالبون بالإيمان، ويدل على ذلك قول الله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾، فانظروا كيف جمعوا في إجابتهم بين تركهم الصلاة وعدم إطعامهم المسكين، وخوضهم مع الخائضين وتكذيبهم بيوم الدين.
15. مع هذه النصوص تجد الأشعرية ومن حذا حذوهم ينكرون مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، ويرون أنهم لا يعذبون إلا على عقيدة الكفر وحدها، وقد ركب كثير من علمائهم الشطط في هذه المسألة فشنعوا على القائلين بأن الواجبات العلمية مشتركة بين المسلم والكافر، وأن كفر الكافر ليس عذرا في تركها، وتجد مفسريهم كثيرا ما يعنون بالدفاع عن فكرتهم هذه ويرجمون القائلين بخلافها بالتخطئة العنيفة.
16. غير أن أكثرهم عندما وصلوا إلى هذه الآية فبهرتهم حجتها لجأوا إلى الصمت اللهم إلا ما كان من الشيخ أبي منصور الماتريدي الذي حكى عنه الألوسي أنه حمل الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هنا على مجرد الإيمان بهما، ولعمري إن صح تصريف القرآن بمثل هذا التأويل لم تنهض بشيء منه حجة، ولم يثبت بنص منه حكم لاحتمال أن تحمل جميع أوامره ونواهيه على مجرد الإيمان بها لا على تطبيقها والعمل بمقتضاها.
17. استبعد الألوسي نفسه هذا الجواب كما استبعد القول بأن الخطاب موجه إلى المسلمين وليس موجها إلى بني إسرائيل، لما يلزمه من تفكك الجمل وخروج الكلام عن نسقه، فما قبل الآية وما بعدها خطاب لبني إسرائيل فما الذي يقحم وسطه خطاب المسلمين، على أنه مما اتفق عليه أن الأمر لا يعطف على آخر إن كان المأمور في المعطوف غير المأمور في المعطوف عليه إلا مع القرينة نحو ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾، وقد حصر بعضهم القرينة في النداء.
18. ما يقولونه ـ من أن المشرك لا يتأتى منه القيام بالعبادات ما دام متلبسا بالشرك فهو إذن غير مخاطب بها ـ باطل من أساسه، إذ الشرك لا يعدو أن يكون كسائر الموانع التي يمكن التخلص منها، فالحدث الأصغر والأكبر مانعان من الصلاة ولكن لا يعني ذلك أن المحدث غير مخاطب بها، وأنه مخاطب برفع الحدث وحده، بل هو مخاطب بها مع مخاطبته برفع الحدث، وكذا المشرك مطالب بالإيمان والعبادات معا، ولا تسقط عنه العبادات مع تركه الإسلام، لأن الإسلام شرط لصحتها وليس شرطا لوجوبها.. ولعله التبس شرط الوجوب بشرط الصحة على إفهام القائلين بعدم تكليف المشركين بفروع الشريعة.
__________
(1) تفسير الخليلي: 3/154.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في البند الخامس من هذه الأوامر ينهى الله سبحانه عن خلط الحق بالباطل: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾
2. في البند السادس ينهى عن كتمان الحق: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ كتمان الحق، مثل خلط الحق بالباطل ذنب وجريمة.
3. الآية تقول لهم: قولوا الحق ولو على أنفسكم، ولا تشوهوا وجه الحقيقة بخلطها بالباطل وإن تعرضت مصالحكم الآنية للخط.
4. من الملفت للنظر أنّ الآية لم تقل (أدّوا الصلاة)، بل قالت: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾، وهذا الحث يحمّل الفرد مسئولية خلق المجتمع المصلي، ومسئولية جذب الآخرين نحو الصلاة.
5. بعض المفسرين قال إن تعبير (أقيموا) إشارة إلى إقامة الصلاة كاملة، وعدم الاكتفاء بالأذكار والأوراد، وأهم أركان كمال الصلاة حضور القلب والفكر لدى الله سبحانه، وتأثير الصلاة على المحتوى الداخلي للإنسان.
6. هذه الأوامر الأخيرة تتضمن في الحقيقة: أولا بيان ارتباط الفرد بخالقه (الصلاة)، ثمّ ارتباطه بالمخلوق (الزكاة)، وبعد ذلك ارتباط المجموعة البشرية مع بعضها على طريق الله!
7. البند الأخير يأمر بالصلاة جماعة، غير أن (الركوع) هو الذي ذكر دون غيره من أجزاء الصلاة، ولعل ذلك يعود إلى أنّ صلاة اليهود كانت خالية من الركوع، تماما، بينما احتل الركوع مكان الرّكن الأساسي في صلاة المسلمين.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/187.
19. البرّ والاستعانة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈19⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 44]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي قال: نزلت هذه الآية ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ في يهود أهل المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره ولذوي قرابته ولمن بينه وبينهم رضاع من المسلمين: اثبت على الدين الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل ـ يعنون به: محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فإن أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ بالدخول في دين محمد، وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة(2).
3. روي أنّه قال في الآية: تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة، وتتركون أنفسكم وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ﴾ تدرسون الكتاب بذلك(4).
5. روي أنّه قال: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أفلا تفقهون، فنهاهم عن هذا الخلق القبيح(5).
6. روي أنه جاءه رجل، فقال: يا ابن عباس، إني أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، قال أوبلغت ذلك؟ قال أرجو، قال فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل، قال وما هن؟ قال قوله عز وجل: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾، أحكمت هذه الآية؟ قال لا، قال فالحرف الثاني؟ قال قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2 ـ 3]، أحكمت هذه الآية؟ قال لا، قال فالحرف الثالث؟ قال قول العبد الصالح شعيب: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ [هود: ٨٨]، أحكمت هذه الآية؟ قال لا، قال فابدأ بنفسك(6).
7. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ المصدقين بما أنزل الله(7).
__________
(1) أورده الواحِدِي في أسباب النزول: ص٢٤.
(2) ابن جرير: ١/٦١٤.
(3) ابن جرير: ١/٦١٣.
(4) ابن جرير: ١/٦١٦.
(5) ابن جرير: ١/٦١٧.
(6) البيهقي في شعب الإيمان: ٧١٦٢.
(7) ابن جرير: ١/٦٢٢.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ على مرضاة الله، واعلموا أنهما من طاعة الله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ الظن ههنا يقين(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٦٢٠.
(2) ابن جرير: ١/٦٢٣.
(3) ابن جرير: ١/٦٢٨.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ الذين شروا أنفسهم لله، ووطنوها على الموت(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٠٤.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ لثقيلة(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٦٢٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾ الصبر: الصيام(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ الصلاة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ المؤمنين حقا(3).
4. روي أنّه قال: كل ظن في القرآن فهو يقين(4).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٠٢.
(2) ابن أبي حاتم: ١/١٠٣.
(3) تفسير مجاهد: ص٢٠١.
(4) ابن جرير: ١/٦٢٥.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: استعينوا بالصبر على الدين كله(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٣٧.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أولئك أهل الكتاب، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، ولا ينتفعون بما فيه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله، وبتقواه، وبالبر، وهم يخالفون ذلك؛ فعيرهم الله به(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ إنهما معونتان من الله، فاستعينوا بهما(1).
4. روي أنّه قال: ما كان من ظن الآخرة فهو علم(3).
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(2) عبد الرزاق: ١/٤٤.
(3) ابن جرير: ٢٣/٢٣٢.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه، وهم يعصونه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ أما ﴿يَظُنُّونَ﴾ فيستيقنون(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٦١٤.
(2) ابن جرير: ١/٦٢٥.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أفلا تتفكرون(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٠١.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾، يقول: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة، فحافظوا عليها، وعلى مواقيتها، وتلاوة القرآن فيها، وركوعها، وسجودها، وتكبيرها، والتشهد فيها، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإكمال طهورها؛ فذلك إقامتها وإتمامها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، يعني: المتواضعين(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ صرفك عن بيت المقدس إلى الكعبة، كبر ذلك على المنافقين واليهود(2).
__________
(1) البيهقي في الشعب: ٩٦٨٥.
(2) ابن أبي حاتم: ١/١٠٣.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا﴾، نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه رؤوس اليهود، يقول: صدقوا بما أنزلت من القرآن على محمد ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾، يقول: محمد تصديقه معكم أنه نبي رسول(1).
2. روي أنّه قال: وذلك أن اليهود قالوا لبعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن محمدا حق؛ فاتبعوه ترشدوا، فقال الله تعالى لليهود: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ يعني: أصحاب محمد، ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ يقول: وتتركون أنفسكم فلا تتبعوه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ يعني: التوراة فيها بيان أمر محمد ونعته، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أنتم فتتبعونه(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ على طلب الآخرة ﴿بِالصَّبْرِ﴾ على الفرائض، ﴿وَالصَّلَاةِ﴾ الخمس، حافظوا عليها في مواقيتها(2).
5. روي أنّه قال: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾، يعني: حين صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، فكبر ذلك على اليهود، منهم: جدي بن أخطب، وسعيد بن عمرو الشاعر، وغيرهم(2).
6. روي أنّه قال: ثم استثنى فقال: ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، يعني: إلا على المتواضعين من المؤمنين، لم يكبر عليهم تحويل القبلة(2).
7. روي أنّه قال: ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فيجزيهم بأعمالهم(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٠١.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٠٢.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ أهل الكتاب والمنافقون، كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ إنهما معونتان على رحمة الله(2).
3. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ علموا أنهم ملاقو ربهم، هي كقوله: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠]: علمت(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٦١٤.
(2) ابن جرير: ١/٦٢١.
(3) ابن جرير: ١/٦٢٥.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: هؤلاء اليهود، كان إذا جاء الرجل يسألهم ما ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق، فقال الله لهم: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ الآية: قال المشركون: والله، يا محمد، إنك لتدعونا إلى أمر كبير، إلى الصلاة والإيمان بالله(2).
3. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ : لأنهم لم يعاينوا، فكان ظنهم يقينا، وليس ظنا في شك، ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠](3).
4. روي أنّه قال: الخشوع: الخوف والخشية لله تعالى، ﴿خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ﴾ [الشورى: ٤٥]، قد أذلهم الخوف الذي نزل بهم، وخشعوا له(4).
__________
(1) ابن جرير: ١/٦١٥.
(2) ابن جرير: ١/٦٢١.
(3) ابن جرير: ١/٦٢٥.
(4) ابن جرير: ١/٦٢٣.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله عزّ وجل: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ قيل فيه بوجوه:
أ. قيل: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ﴾ يعنى: الأتباع والسفلة باتباعكم، وتعظيمكم لعلمكم، وتلاوتكم الكتاب، ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ ولا تأمرونها باتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتعظيمه، لعلمه، ولنبوته، ولفضل منزلته عند الله ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ أي تجدون في كتابكم أنه كذلك، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أنّ ذا لا يصحّ!؟
ب. وقيل: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ﴾ يعنى: الفقراء والضعفة بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا تأمرون الأغنياء وأهل المروءة بالإيمان به، لما تخافون فوت المأكلة، والبر، وانقطاعه عنكم.
2. يحتمل أن ذا الخطاب لهم ولجميع المسلمين، ألا يأمر أحد أحدا بمعروف إلا ويأمر نفسه بمثله، بل الواجب أن يبدأ بنفسه، ثم بغيره، فذلك أنفع وأسرع إلى القبول.
3. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أن ذلك في العقل لازم أن يجعل أول السعي في إصلاح نفسه، ثم الأمر لغيره.
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
4. قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أن استعينوا بالصبر على ترك الرئاسة والمأكلة في الدنيا؛ لأن الخطاب كان للرؤساء منهم بقوله: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾
ب. ويحتمل: أن اصبروا على ترك الرئاسة لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والانقياد والخضوع له، لما بيّن لكم من الثواب في الآخرة لمن آمن به وأطاعه، وترك الرئاسة له.
ج. ويحتمل: أن اصبروا على المكاره وترك الشهوات؛ بأن الجنة لا تدرك إلا بذلك؛ لما جاء: حفت الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات)
د. ويحتمل: أن استعينوا بالصوم والصلاة على أدائهما.. لكن هذا يرجع إلى المؤمنين، والآية نزلت في رؤساء بنى إسرائيل، دليله قوله: ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾، وإنما يصلح هذا التأويل في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا﴾ الآية [البقرة: 153]
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(2).:
5. قوله عزّ وجل: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ يحتمل:
أ. ترك الرئاسة، والمأكلة في الدنيا، إنها لكبيرة عليهم إلا على الخاشعين، فإنها غير كبيرة، ولا عظيمة عليهم.
ب. ترك الرئاسة لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والانقياد له، والخضوع ـ لثقيل إلا على الخاشعين؛ فإنه لا يثقل ذلك عليهم، ولا يكبر.
ج. الصبر على الطاعة، وأداء هذه الفرائض كبيرة على المنافقين إلا على المؤمنين خاصة، فإنه لا يتعاظم ذلك عليهم.
د. تحويل القبلة إلى الكعبة لثقيل على اليهود.
6. قوله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ قيل فيه بوجوه:
أ. قيل: الخاشع؛ هو الخائف بالقلب.
ب. وقيل: الخاشع؛ المتواضع.
ج. وقيل: الخاشع ـ هاهنا ـ المؤمن.
د. وقيل: الخشوع هو الخوف اللازم بالقلب.
7. قوله عزّ وجل: ﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ﴾ يعنى: يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو ربهم بكسبهم وصنيعهم.
8. قوله: ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ أي سيعلمون يومئذ أنهم راجعون إليه.
9. الظن هو الوقوف على أحد طرفي اليقين، والشك هو الوقوف على أحد طرفي الظن، والهمّة بين هذين.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/449.
(2) تأويلات أهل السنة: 1/450.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ فيه ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وهم يعصونه، والبر هاهنا الطاعة، كما قال الشاعر:
لا هم إن آل بكر دونكا... يبرك الناس ويفجروكا
أي يطيعونك.
ب. الثاني: أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وهم يعصونه بالتمسك بكتابهم وهم يجحدونه بكتمان ما فيه من نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. الثالث: أنهم كانوا يأمرون بالصدقة وهم يظنون بها.
2. الصبر هو حبس النفس عما تنازع إليه ومنه: صبر صاحب المصيبة وهو أن يحبس نفسه عن الجزع ومنه سمي الصوم صبراً لأنه يحبس نفسه عن الطعام والشراب، وسمي شهر رمضان شهر الصبر، وذلك فيمن أمسك رجلاً حتى جاء آخر فقتله فأمر بقتل القاتل وحبس الممسك.
3. في الصبر المأمور به قولان:
أ. أحدهما: أنه الصبر على ما أمر به من الطاعة والكف عن المعصية.
ب. الثاني: الصيام، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا أحزبه أمر استعان بالصيام والصلاة، وروي أنه رأى سلمان مضطجعاً على وجهه فقال له: يا سلمان (أبينكم تدور) قم فصل فإن الصلاة شفاء.
4. ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ أي إنها ثقيلة إلا على المؤمنين، والمراد الصلاة، وتحتمل وجهاً آخر وهو أن المراد به الصوم والصلاة وإن عادت الكناية إلى الصلاة لأنها أقرب مذكور كقول الشاعر:
فمن يك أمسى في المدينة رحله... وإني وقيام بها لغريب
5. الخشوع في اللغة التواضع نظير الخضوع وقيل: إن الخضوع في البدن والخشوع في البصر والصوت لقوله: ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾ [طه]، وقوله: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾ [القلم: 43]، وهذا أوضح.
6. ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ :
أ. لإشفاقهم من المعاصي التي كانت منهم.
ب. والثاني: أن يكون الظن بمعنى العلم واليقين وكأنه قال الذين يتيقنون أنهم ملاقو ربهم وذلك مثل قوله: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة]، أي علمت وأيقنت كما قال أبو داوود:
رُبَّ هم فرجته بغريم... وغيوب كشفتها بظنون
وقال آخر:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج... سرابهم في الفارسي المسرد
7. ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما إلى الموت.
ب. الثاني إلى الحياة بالنشأة بعد الموت.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/49.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله عزّ وجلّ: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله، وهم يعصونه، وهو قول السدي، وقتادة، لأنه قد يعبر بالبر عن الطاعة، قال الشاعر:
لا همّ إنّ آل بكر دونكا... يبرّك النّاس ويفجرونكا
أي يطيعونك.
ب. الثاني: أنهم كانوا يأمرون الناس بالتمسك بكتاب ربهم ويتركونه بجحود ما فيه من نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو قول ابن عباس.
ج. الثالث: أنهم كانوا يأمرون بالصدقة ويضنون بها.
2. الصبر: هو حبس النفس عما تنازع إليه، ومنه صبر صاحب المصيبة، أن يحبس نفسه عن الجزع، وسمّي الصوم صبرا لحبس النفس عن الطعام والشراب، ولذلك سمّي شهر رمضان شهر الصبر، وجاء في الحديث: اقتلوا القاتل، واصبروا الصّابر)، وذلك فيمن أمسك رجلا حتى قتله آخر، فأمر بقتل القاتل، وحبس الممسك.
3. في الصبر المأمور به، قولان:
أ. أحدهما: أنه الصبر على طاعته، والكف عن معصيته.
ب. الثاني: أنه الصوم، وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا حزبه أمر استعان بالصلاة والصيام، وروي أنه رأى سلمان منبطحا على وجهه، فقال له: أشكو من برد، قال: قم فصلّ الصلاة تشف).
4. في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: يعني: وإن الصلاة لثقيلة إلا على المؤمنين، لعود الكناية إلى مؤنث اللفظ.
ب. الثاني: يعني الصبر والصلاة، فأرادهما، وإن عادت الكناية إلى الصلاة؛ لأنها أقرب مذكور، كما قال الشاعر:
فمن يك أمسى في المدينة رحله... فإنّي وقيّار بها لغريب
ج. الثالث: وإن إجابة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لشديدة إلا على الخاشعين.
5. الخشوع في الله: التواضع، ونظيره الخضوع.. وقيل: إن الخضوع في البدن، والخشوع في الصوت، والبصر.
6. في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: يظنون أنهم ملاقو ربهم بذنوبهم، لإشفاقهم من المعاصي التي كانت منهم.
ب. الثاني: وهو قول الجمهور: أن الظن هاهنا اليقين، فكأنه قال الذين يتيقّنون أنهم ملاقو ربهم، وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ أي تيقّنت، قال أبو داوود:
ربّ همّ فرّجته بغريم... وغيوب كشفتها بظنون
7. في ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أنه أراد بالرجوع الموت.
ب. الثاني: أنهم راجعون بالإعادة في الآخرة، وهو قول أبي العالية.
ج. الثالث: راجعون إليه، أي لا يملك أحد لهم ضرّا ولا نفعا غيره كما كانوا في بدء الخلق.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/115.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كل طاعة لله تعالى، لا خلاف أنها تسمى براً، واختلفوا في المراد بقوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ :
أ. قال ابن عباس: المراد به التمسك بكتابهم، فكانوا يأمرون أتباعهم، ويتركون هم التمسك به، لأن جحدهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو تركهم التمسك به.
ب. قال قتادة: كانوا يأمرون الناس بطاعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويخالفون ذلك.
ج. قال قوم: إن معناه: أنهم كانوا يأمرون ببذل الصدقة، ويضنون بها.
د. قال بعضهم: البر: الصدق من قولهم: صدق، وبر، ومعناه: أنهم يأمرون بالصدق ولا يصدقون.
2. قوله: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾، النسيان، والغفلة، والسهو، نظائر، وضد النسيان: الذكر.. تقول: نسي نسياناً، وأنساه، إنساء، وتناساه، تناسياً، وفلان نسي، كثير النسيان.. والنسي، والمنسي. الذي ذكره الله تعالى: ﴿وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ وسمي الإنسان إنساناً، اشتقاقاً من النسيان، وهو في الأصل: إنسيان، وكذلك إنسان العين، والجمع: أناسي، والنسا: عرق سيق بين الفخذين، فيستمر في الرجل.. وهما نسيان، والجمع: أنساء، وهو في الفخذ، ويسمى في الساق: الطفل، وفي البطن: الحالبين وفي الظهر: الأبهر، وفي الحلق: الوريد، وفي القلب: الوتين، وفي اليد: الأكحل، وفي العين: الناظر. يقال: هو بهر الجسد، لأنه يمد جميع العروق، وأصل الباب: النسيان ضد الذكر، وقوله: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ أي تركوا طاعته، فترك ثوابهم، ويقال: آفة العلم النسيان، والمذاكرة تحيي العلم.
3. حد النسيان: غروب الشيء عن النفس بعد حضوره لها.
4. الفرق بين النسيان والسهو:
أ. أن السهو يكون ابتداءً وبعد الذكر.
ب. والنسيان لا يكون إلا بعد الذكر.
5. النسيان، والذكر معاً، من فعل الله تعالى، لأن الإنسان يجتهد أن يذكر شيئاً فلا يذكره.
6. معنى قوله: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي تتركونها، وليس المراد بذلك ما يضاد الذكر، لأن ذلك من فعل الله لا ينهاهم عنه.
7. سؤال وإشكال: إذا كان الواجب عليهم مع ترك الطاعة والاقامة على المعصية، الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية، فكيف قيل لهم هذا القول؟ والجواب: في أمرهم بالطاعة، ونهيهم عن المعصية تعظيم لما يرتكبونه من معصية الله تعالى، لأن الزواجر كلها، كلما كانت أكثر، كانت المعصية أعظم ففي نهيهم لغيرهم، زواجر، فهو توبيخ على عظيم ما ارتكبوا من ذلك.
8. قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾، التلاوة، والقراءة، والدراسة، نظائر. يقال: فلانٌ يتلو تلاوة، فهو تالٍ أي تابع، والمتالي: الأمهات إذا تلاهن الأولاد، والواحد: متل، وناقة متلية: وهي التي تنتج في آخر النتاج، وأصل الباب: الاتباع. فتسمى التلاوة بذلك، لاتباع بعض الحروف فيها بعضاً.
9. الفرق بين التلاوة والقراءة:
أ. أن أصل القراءة جمع الحروف.
ب. أصل التلاوة، اتباع الحروف.
وكل قراءةٍ تلاوة، وكل تلاوةٍ قراءة وحد الرماني: التلاوة: ما به صوت يتبع فيه بعض الحروف بعضاً.
10. الكتاب الذي كانوا يتلونه: التوراة ـ على قول ابن عباس وغيره، وقال أبو مسلم كانوا يأمرون العرب باتباع الكتاب الذي في أيديهم، فلما جاءهم كتاب مثله، لم يتبعوه.
11. قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، العقل، والفهم، واللب، والمعرفة، نظائر يقال فلانٌ عاقلٌ فهيم أديب ذو معرفة، وضد العقل: الحمق. يقال: عقل الشيء عقلا، وأعقله غيره إعقالا.. ويقال: اعتقله، اعتقالا وانعقل، انعقالا، وقيل: لابن عباس: أنى لك هذا العلم؟ قال قلبٌ عقول، ولسانٌ سئول، ويقال: عقلت بعد الصبا أي عرفت الخطأ الذي كنت فيه، وقال صاحب العين: العقل: ضد الجهل يقال: عقل الجاهل: إذا علم.. وعقل المريض بعد ما هجر وعقل المعتوه ونحوه والعِقال: الرباط ويقال: عقلت البعير أعقله، عقلًا: إذا شددت يده بالعقال وإذا أخذ صدقة الإبل تامةً لسنةٍ يقال: أخذ عقالًا وعقالين لسنتين، وعقلا لجماعة وقال الشاعر:
سعى عقالًا فلم يترك لنا سبداً... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
لا صبح الناس أو باداً وما وجدوا... يوم التحمل في الهيجا جمالين
بل يلزم الجاني، وعاقلة الرجل: بنو عمه الأدنون، لأنهم كالمعقل له.
12. أصل الباب العقل الذي هو العقد، والعقل مجموع علوم لأجلها يمتنع من كثير من القبائح يعقل كثيراً من الواجبات:
أ. قال الرماني: العقل هو العلم الأول الذي يزجر عن قبيح الفعل، وكل من كان زاجره أقوى، كان عقله أقوى.
ب. وقيل: العقل: معرفة يفصل بها بين القبيح والحسن في الجملة.
ج. وقيل: العقل: قوة يمكن معها الاستدلال بالشاهد على الغائب.
13. الفرق بين العقل والعلم:
أ. أن العقل قد يكمل لمن فقد بعض العلوم، كفقدِ من كمل عقله العلم بأن هذه الرمانة حلوة أو حامضة.
ب. ولا يكمل العلم لمن فقد بعض عقله.
14. سؤال وإشكال: إذا كان العقل مختلفا فيه، فكيف يجوز أن يستشهد به؟ والجواب: الاختلاف في ماهية العقل، لا يوجب الاختلاف في قضاياه.. ألا ترى أن الاختلاف في ماهية العقل ـ حتى قال بعضهم معرفة، وقال بعضهم قوة ـ لا يوجب الاختلاف في أن الألف أكثر من الواحد، وأن الموجود غير المعدوم، وغير ذلك من قضايا العقل.
15. البر ـ في أصول اللغة ـ والصلة، والإحسان، نظائر. يقال: هو بار وصول محسن، وضد البر: العقوق، وقال ابن دريد: البر ضد العقوق، ورجل بار وبر بمعنى واحد، وبرت يمينه: إذا لم يحنث، وبر حجه وبر ـ لغتان ـ، والبر: خلاف البحر، والبر: ـ معروف ـ أفصح من الحنطة والقمح، واحدة برة. قال الهذلي:
لا در دري إن أطعمت نازلهم... قرف الحني وعندي البر مكنوز
الحني: ردي المقل خاصة، ومن أمثالهم: لا يعرف الهر من البر، واختلفوا في هذا المثل فقال الرماني: الهر: السنور، والبر: الفارة في بعض اللغات، أو دويبة تشبهها، وقال الأخفش: معناه: لا يعرف من يبره ممن يهر عليه، وقوم بررة أبرار والمصدر البر، ويقال: صدق وبر، وبرت يمينه أي صدقت، وكانت العرب تقول: فلان يبرر به أي يطيعه. قال الراجز:
لا هم إن بكراً دونكا... يبرك الناس ويفجرونكا
والأبرار: الغلبة. يقال أبر عليهم فلان. قال طرفة: ويبرون على الآي البر.. والبربرة: كثرة الكلام، والجلبة باللسان.
أصل الباب كله: البر وهو: اتساع الخير، والفرق بين البر والخير، أن البر يدل على القصد، والخير قد يقع على وجه السهولة.
16. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ :
أ. قال الجبائي: هذا خطاب للمؤمنين دون أهل الكتاب.
ب. وقال الطبري، والرماني: هو خطاب لأهل الكتاب، ويتناول المؤمنين على وجه التأديب، لأنه قال: واستعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتكم في كتابكم عليه: من طاعتي، واتباع أمري واتباع رسولي، وترك ما نهبتكم عنه، والتسليم لأمري ولمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصبر والصلاة.
17. الأقوى أن يكون خطاباً لجميع من هو بشرائط التكليف، لفقد الدلالة على التخصيص، واقتضاء العموم ذلك.
18. الاستعانة في الآية المأمور بها على ما تنازع اليه نفوسهم من حب الرياسة وغلبة الشهوة للذة العاجلة والاستعانة بالصبر على المشقة بطاعة الله، ومعنى (الكبيرة) هاهنا أي ثقيلة، وأصل ذلك ما يكبر ويثقل على الإنسان حمله، كالأحمال الجافية التي يشق حملها، فقيل لما يصعب على النفس، وان لم يكن من جهة الحمل ـ يكبر عليها. تشبيهاً بذلك.
19. أصل الصبر: هو منع النفس محابها، وكفها عن هواها، ومنه الصبر على المصيبة، لكفه نفسه عن الجزع، وقيل: لشهر رمضان: الصبر، لصبر صائمه عن الطعام والشراب نهاراً وصبرت إياهم صبرة: حبسه لهم، وكفه إياهم عنه، كما يصبر الرجل القتيل، فيحبسه عليه، حتى يقتله صبراً يعني حبسه عليه، حتى قتله، والمقتول: مصبور، والقاتل: صابر، والصبر، واللبث، والحبس، نظائر، والصبر: ضد الجزع، وأنشد أبو العباس:
فان تصبرا، فالصبر، خيرُ معيشة... وإن تجزعا، فالأمر ما تريان
ويقال: صبر صبراً، وتصبر تصبراً، واصطبر، واصطباراً، وتصابر تصابراً، وصابره مصابرة. قال صاحب العين: الصبر: نصب الإنسان للقتل. فهو مصبور. يقال: صبروه أي نصبوه للقتل، ويقال: صبرته أي حلّفته بالله جهد نفسه، وكل من حبسته لقتل أو يمين، فهو قتل صبر ويمين صبر، والصبر: عصارة شجر معروف، والصبار: تمر الهند، وصبر الإناء ونحوه: نواحيه، وأصبار القبر: نواحيه، والصبرة من الحجارة: ما اشتد وغلظ، والجمع: الصبّار، وأم صبار: هي الداهية الشديدة، وصبر كل شيء: أعلاه، وصبير القوم: الذي يصبر معهم في أمرهم وصبر الخِوان: رقاقة غليظة تبسط تحت ما يؤكل من الطعام، وتقول: اشتريت الشيء بلا صبر أي بلا كيل والصبير: الكفيل واصل الباب: الصبر الذي هو الحبس.
20. الصبر خلق محمود، أمر الله تعالى به ودل عليه، فقال: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ وقال: ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا﴾ وقال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ وقال: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، وفي الحديث: اقتلوا القاتل، واصبروا الصابر، وذلك فيمن أمسكه حتى قتله آخر، فأمر بقتل القاتل، وحبس الممسك.
21. في الصبر المأمور به في الآية، قيل فيه قولان:
أ. أحدهما ـ الصبر على طاعته واجتناب معصيته.
ب. الثاني ـ أنه الصوم.
22. في الصلاة هاهنا قولان:
أ. أحدهما ـ الدعاء.
ب. الثاني ـ أنها الصلاة الشرعية ذات الركوع والسجود، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا أحزنه أمر، استعان بالصلاة والصوم، ووجه الاستعانة بالصلاة، لمكان ما فيها من تلاوة القرآن والدعاء والخضوع لله تعالى، والإخبات، فان في ذلك معونة على ما تنازع اليه النفس من حب الرياسة والانفة من الانقياد الى الطاعة.
23. الضمير في قوله: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ :
أ. قيل: عائد على الصلاة دون غيرها على ظاهر الكلام، لقربها منه ولأنها الأهم والأفضل ولتأكيد حالها وتفخيم شأنها وعموم فرضها.
ب. وقيل: عائد الى الاجابة للنبي عليه السلام وهذا ضعيف، لأنه لم يجر للإجابة ذكر ولا هي معلومة، إلا بدليل غامض، وليس ذلك كقوله ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ لأن ذلك معلوم ورد الضمير على واحد.
ج. وقيل: أن يكون المراد الاثنين وان كان اللفظ واحداً كقوله: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ قال الشاعر:
اما الوسامة أو حسن النساء فقد... أوتيت منه أو انّ العقل محتنك
وقال آخر:
نحن بما عندنا وانت بما عندك... راضٍ والرأي مختلف
وقوله ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾، قال قوم: اللفظ واحد والمراد به اثنان، وقال الفرّاء: راجع الى التجارة لأن تجارةً جاءت فضربوا بالطبل فانصرف الناس اليها.
24. الخشوع، والخضوع، والتذلل، والإخبات، نظائر، وضد الخضوع: الاستكبار. يقال: خشع خشوعاً، وتخشع تخشعاً. قال صاحب العين: خشع الرجل يخشع خشوعاً: إذا رمى بصره الأرض، واختشع: إذا طأطأ رأسه كالمتواضع، والخشوع قريب المعنى من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن، والإقرار بالاستخدام، والخشوع في الصوت والبصر. قال الله تعالى: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾ و﴿ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ ﴾، أي سكنت، وأصل الباب: من اللين والسهولة من قولهم: نقاً خاشعاً: للأرض التي غلبت عليها السهولة.. والخاشع: الأرض التي لا يهتدى إليها بسهولة، لمحو الرياح آثارها، والخاشع، والمتواضع، والمتذلل، والمسكين، بمعنى واحد قال الشاعر:
لما أتى خبر الزبير تواضعت... سور المدينة والجبال الخشع
وخاشع: صفة مدح، لقوله: ﴿وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ﴾
25. إنما خص الخاشع بأنها لا تكبر عليه، لأن الخاشع قد تواطأ ذلك له، بالاعتياد له، والمعرفة بماله فيه، فقد صار بذلك بمنزلة ما لا يشق عليه فعله، ولا يثقل تناوله وقال الربيع بن أنس: ﴿الْخَاشِعِينَ﴾ في الآية: الخائفون.
26. معنى قوله: ﴿إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ اي ملاقو جزاء ربهم، فجعل ملاقاة الجزاء ملاقاة له تفخيما وتعظيماً لشأن الجزاء، وأصل الملاقاة الملاصقة، من قولك التقى الحدان اي تلاصقا، ثم كثر حتى قالوا التقى الفارسان إذا تحاذيا ولم يتلاصقا.. ومثل ما قلنا في قوله ﴿مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ قوله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ معناه يوم يلقون جزاءه، لأن المنافقين لا يرون الله عند احد من اهل الصلاة، وكذلك قوله ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ معناه إذ وقفوا على جزاء ربهم، لأن الكفار لا يرون الله عند احد من الأمة.
27. اختلف في معنى الرجوع هنا:
أ. قيل: راجعون بالإعادة في الآخرة ـ في قول أبي الغالية ـ وهو اظهر وأقوى.
ب. وقيل: يرجعون بالموت كما كانوا في الحال المتقدمة، لأنهم كانوا أمواتاً،، ثم أحيوا، ثم يموتون، فيرجعون أمواتاً كما كانوا.
ج. وقيل: ان معناه: انهم راجعون الى ان لا يملك أحدهم ضرا ولا نفعاً غيره تعالى كما كانوا في بد والخلق، لأنهم في ايام حياتهم قد يملك الحكم عليهم غيرهم، والتدبير لنفعهم وضرهم بين ذلك قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ ومعنى ذلك انهم يقرون بالنشأة الاخرة فجعل رجوعهم بعد الموت الى المحشر رجوعا اليه.
28. أصل الرجوع العود الى الحال الاول. يقال رجع الرجل ورجعته وهو احد ما جاء على فعل وفعلة ويحتمل ان يكون المراد أنهم اليه صائرون. كما يقول القائل: رجع الأمر الى فلان وان كان قط لم يكن له، ومعناه صار اليه.
29. حذفت النون من ﴿مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ عند البصريين تخفيفاً والمعنى على إثباتها، ومثله قوله: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ﴾ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ قال الشاعر:
هل انت باعث دينار لحاجتنا... او عبد رب أخا عون بن مخراق
ولو أردت معنى الماضي لتعرف الاسم بالإضافة، لم يجز فيه اظهار النون البتة، وإذا كان الفعل غير واقع كان اثبات النون هو الوجه دون الاضافة. فلو قيل ملاقون كان صواباً. قال الأخفش: وجرى حذف النون هاهنا للاستثقال كما قال الشاعر في قوله:
فان الذي حانت بفلج دماؤهم... هم القوم كل القوم يا ام خالد
فاسقط النون من الذين استثقالا وقال الأخطل:
أبني كليب ان عمّي اللذا... قتلا الملوك وفككا الاغلالا
فاسقط النون، وقال الكوفيون: إذا حذف النون فاللفظ الاسم وإذا اثبت وظهر النصب فالمعنى الفعل. قال الزجاج: ويجوز كسر الهمزة من قولهم: انهم اليه راجعون، لكن لم يقرأ به أحد على معنى الابتداء ولا يجوز كسر الأولى لأن الظن وقع عليها.
30. الظن المذكور في الآية المراد به العلم واليقين. قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج... سراتهم في الفارسيّ المسرّد
وقال عمير بن طارق:
بان تغتزوا قومي واقعد فيكم... واجعل مني الظن غيباً مرجماً
وقال آخر:
ربّ هم فرجته بعزيم... وغيوب كشفتها بظنون
وقال المبرد: ليس من كلام العرب: أظن عند زيد مالًا، يريد: أعلم لأن العلم المشاهد لا يناسب باب الظن، وقد أفصح في ذلك أوس بن حجر في قوله:
الألمعي الذي يظن بك الظن... كأن قد رأى وقد سمعا
وقال آخر:
فالّا يأتكم خبر يقين... فان الظن ينقص أو يزبد
وقال بعض الشيوخ: اصل الظن ما يجول في النفس من الخاطر الذي يغلب على القلب، كأنه حديث النفس بالشيء، وتأول جميع ما في القرآن من معنى العلم على هذا، وقال الحسن وابو الغالية ومجاهد وابن جريح: يظنون، أي يوقنون، ومثله: ﴿ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ أي علمت ومثله: ﴿وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾، ومعناه استيقنوا، وقوله ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾، يعني: علموا.
31. جاء في القرآن الظن بمعنى الشك كقوله: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾
32. يحتمل قوله: ﴿يَظُنُّونَ﴾ وجهاً آخراً، وهو انهم يظنون انهم ملاقو ربهم بذنوبهم لشدة إشفاقهم من الاقامة على معصية الله، وهذا وجه مليح، وقد استبعده الرماني وقال: لأن فيه حذوفا كثيرة، وليس بمنكر إذا كان الكلام محتملًا له.
33. يحتمل قوله: ﴿يَظُنُّونَ﴾ وجهاً آخراً، وهو: الذين يظنون انقضاء أجلهم وسرعة موتهم فيكونون ابداً على حذر ووجل، كما يقال لمن مات: لقي الله.
34. الظن والشك والتجويز نظائر، إلا ان الظن فيه قوة على أحد الأمرين دون الآخر، وحده ما قوي عند الظان كون المظنون على ما ظنه مع تجويزه ان يكون خلافه، فبالتجويز ينفصل من العلم، وبالقوة ينفصل من الشك والتقليد وغير ذلك، وضد الظن اليقين ويقال ظن ظنا وتظنن تظننا، وقال: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ﴾، وقوله: ﴿وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ والظنين المتهم، ومصدره الظنة والظنون الرجل السيء الظن بكل احد، والظنون القليل الخير، والتظني والتظنن بمعنى واحد، والظنون البئر التي يظن ان بها ماء ولا يكون فيها شيء، ومظنة الرجل ومظانه حيث يألفه فيكون فيه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/198.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الأمر: هو قول القائل لمن دونه: افعل، إذا أراد الآمر المأمور به، فهو حقيقة في القول مجاز في الفعل؛ لأن التصرف في القول دون الفعل.
ب. البر: الإحسان، ورجل بَرٌّ وبَارّ، وفي المثل: لا يَعْرِف الهِرَّ مِن البِرِّ، قيل: من يَبَرُّهُ ممن يَهِرُّ عليه، وقيل: السِّنَّوْرَةُ من الفأرة، وقيل: البر النفع المقصود، وقيل: الطاعة لله، وقيل: البار لذوي قرابته، وأصله من اتساع الخير، ومنه الْبَرُّ خلاف البحر.
ج. النسيان والسهو والغفلة نظائر، ونقيضه الذكر، يقال: نسي نسيانًا، وحقيقته غروب الشيء عن النفس بعد حضوره، وهو عدم علم ضروري من فعل اللَّه، ويُقال: نسي بمعنى ترك، ومنه: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ أي تركوا ذكره فترك رحمتهم.
د. التلاوة: القراءة، تلا يتلو: قرأ، وأصل التلاوة اتباع الحروف.
هـ. العقل واللب والمعرفة نظائر، يقال: رجل عاقل، والعقل علوم ضرورية مجموعة إذا حصل في الإنسان صار مكلفًا، وآخر علوم العقل العلم بالواجبات العقلية والمحسنات والمقبحات، وسمي ذلك عقلاً، تشبيهًا بالعقال؛ لأنه يمنعه عن الإقدام على القبيح، وقيل: العقل قوة يمكن بها الاستدلال بالشاهد على الغائب، واختلفوا فقيل: العقل لا يختلف، وقيل: يختلف وإن كان قضاياه لا تختلف.
و. الاستعانة: طلب المعونة، يقال: استعان به فأعانه.
ز. الصبر: حبس النفس عما ينازع إليه، ونقيضه الجزع، قال الشاعر:
فَإِنْ تَصْبِرَا فَالصَّبْرُ خَيْرُ مَغَبَّةٍ... وَإِنْ تَجْزَعَا فَالأَمْرُ مَاَ تَرَيانِ
والصبور: الكثير الصبر.
ح. الخشوع والخضوع والتذلل نظائر، ونقيضه الاستكبار، يقال: خشع خشوعًا، والخاشع المسكين، والخاشع الخاضع، والخاشع الراكع في بعض اللغات، عن ابن دريد.
ط. الظن والتحزير من النظائر، والظن جنس برأسه سوى الاعتقاد عند أبي علي والقاضي، وهو من جنس الاعتقاد عند أبي هاشم، ويفارق الشك؛ لأن في الشك يستوي النقيضان عنده، والظن أن يقوى أحد الجانبين، ويستعمل الظن بمعنى اليقين، قال الشاعر: هو دريد بن الصمة:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظنوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ... سَرَاتُهُمْ في الفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ
وتستعمل بمعنى الشك، والقرآن جاء بهما، فأما بمعنى اليقين فقوله: ﴿وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ﴾ وبمعنى الشك: ﴿وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ والظن يكون اسمًا ويكون مصدرًا، فإذا قلت: ظننت ظنًّا فهذا مصدر، وإذا قلت: ظني به كذا جعلته اسمًا، والظن قد يحسن كما في المسائل الاجتهادية، وقد يقبح كما في أصول الدين.
ي. أصل الملاقاة: الملاصقة، ثم قد يستعمل في غيره، يقال: التقى الفارسان.
ك. الرجوع: العود إلى حال كان عليه هذا لصلة، ثم يستعمل في غيره توسعًا ومجازًا.
2. لما أمر الله تعالى اليهود بالإيمان بَيَّنَ لهم ذم ما هم عليه فقال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ﴾ خطاب لعلمائهم بأنهم يأمرون عوامهم ﴿بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾، يعني: تتركون أنفسكم ولا تعملون به.
3. اختلفوا في البر الذي أمروا به:
أ. قيل: التمسك بكتابهم، كانوا يأمرون به أتباعهم ويتركون ذلك؛ لأن جحدهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفَتُهُ فيه تَرْك للتمسك به، عن ابن عباس.
ب. وقيل: أمروا بطاعة الله وتركوا طاعته، عن قتادة والأصم.
ج. وقيل: أمروا ببذل الصدقة وضنوا بها؛ لأنهم ـ كما وصفوا ـ قست قلوبهم وأكلوا الربا والسحت.
د. وقيل: كانوا ينصحون العوام باتباع الأدلة ولا يتبعونها، بل اتبعوا الشهوات.
هـ. وقيل: كان الرجل منهم يقول لقرابته من المسلمين في السر إذا سأله عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اثبت على الدين الذي أنت عليه، ودعاك محمد إليه، فإنه حق، وقَولُهُ صِدْقٌ، ولا يؤمن هو، فأنزل الله: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ يعني بالإيمان بمحمد، ولا تؤمنون به.
و. وقيل: كانوا يأمرون العرب بالإيمان إذا بُعث، فلما بعث كفروا، عن أبي مسلم.
4. ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ يعني تقرؤون التوراة، وفيه صفته ونعته، عن ابن عباس وجماعة.
5. سؤال وإشكال: الأمر بالبر طاعة فكيف نهوا عنه؟ والجواب:
أ. قيل: المذموم ما ضموا إليه من ترك العمل؛ لأنه كالمتناقض أن يشفق على غيره ولا يشفق على نفسه.
ب. وقيل: لأنهم لم يأمروا بالبر لحسنه؛ إذ لو أمروا به لحسنه لبدؤوا بأنفسهم فذمهم؛ لأنهم لم يأتوا بالأمر على وجهه.
ج. وقيل: يختلف وإن كان قضاياه لا تختلف.
6. اختلف في معنى ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ :
أ. قيل: يعني أفلا تفقهون أن ما تفعلونه قبيح في العقول.
ب. وقيل: أفلا تعلمون أن ذلك متناقض.
ج. وقيل: أفلا تعقلون أن ذلك لا يرضاه الله عنكم، بل يعاقبكم عليه، عن أبي علي.
د. وقيل: معناه أن هذا ليس بفعل من يعقل، عن أبي مسلم.
هـ. وقيل: أفلا تعقلون أنه يلزمكم فيما علمتم ما يلزمهم فيما علموه، عن الأصم.
و. وقيل: أفلا تعقلون أنه الحق فتصدقونه وتتبعونه، يعني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
7. اختلف في معنى البر:
أ. قيل: الإحسان، ورجل بَرٌّ وبَارّ، وفي المثل: لا يَعْرِف الهِرَّ مِن البِرِّ، قيل: من يَبَرُّهُ ممن يَهِرُّ عليه.
ب. وقيل: البر النفع المقصود.
ج. وقيل: الطاعة لله.
د. وقيل: البار لذوي قرابته، وأصله من اتساع الخير، ومنه الْبَرُّ خلاف البحر.
8. سؤال وإشكال: إذا أخل بالطاعة هل يصح منه الأمر بها؟ والجواب: لا، بل يلزمه ذلك كما يلزمه في نفسه أن يطيع، فإخلاله بأحد الأمرين لا يمنع كونه مؤديًا للآخر، وروي عن الحسن: لو لم يأمر بشيء حتى يفعل لضاع الأمر.
9. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ :
أ. قيل: إنه خطاب لليهود، وفيهم نزل، وهو أظهر؛ لأن ما قبله وما بعده خطاب لأهل الكتاب.
ب. وقيل: رجع بهذا القول إلى المسلمين، عن أبي علي.
10. أمر الله تعالى بالاستعانة بطاعته تعالى على أداء ما كلف فقال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ يعني: اطلبوا المعونة:
أ. قيل: على أداء الفرائض التي تقدم ذكرها من الصلاة والزكاة وغيرهما، وعن الانتهاء عما نهوا عنه.
ب. وقيل: هو خطاب لليهود الَّذِينَ أخذوا الرشا من أتباعهم على تغيير الدين، فأمرهم بالاستعانة عن الضيق، ولا تفعلوا ذلك.
ج. وقيل: على مشقة التكليف.
د. وقيل: على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم من طاعتي.
هـ. وقيل: على تنجيز ما وعد به لمن اتبع الرسل، عن أبي مسلم.
11. ﴿بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ بعني: بفعلهما:
أ. أما الصلاة فلما فيها من تلاوة القرآن والتدبر في معانيه والاتعاظ بمواعظه، والإقدام على أوامره، والانتهاء عن نواهيه، وفيها الدعاء والخضوع لله، وفيها معونة على من تنازعْ النفس إليه من الاستكبار وحب الدنيا، وفيها لطف للمكلف في الامتناع عن الفحشاء والمنكر.
ب. أما الصبر:
• فقيل: أراد به الصوم.
• وقيل: الكف عن المحارم.
• وقيل: الصبر على الطاعة وعن المعصية.
ج. أن الصبر والصلاة ألطاف في الدعاء إلى الطاعات واجتناب المعاصي.
د. أنه ليس من أفعال القلب أعظم من الصبر وِلا في أفعال الجوارح أعظم من الصلاة، فأمر بالاستعانة بهما.
12. ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ أي ثقيلة عن الحسن وجماعة، والأصل فيه أن ما يكبر يثقل على الإنسان حمله كالأجسام.
13. اختلف في معنى ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ :
أ. قيل: على المصلين، عن ابن عباس.
ب. وقيل: المؤمنين، عن أبي علي.
ج. وقيل: الخائفين، عن الحسن والأصم.
د. وقيل: المتواضعين، عن مقاتل.
هـ. وقيل: المطيعين، عن أبي روق.
14. سؤال وإشكال: كيف خص الخاشع بأنه لا يكبر عليه فإذا لم يكبر عليه، كيف يستحق الثواب؟ والجواب: فيه قولان:
أ. أحدهما: أنه يكبر عليه ويشق كما يشق على غيره، ويزيده مشقة؛ لأنه يؤديها تامة من ابتدائها إلى انتهائها، ويحضرها النية في كل وقت وركن، ولا يلهي جوارحه فيتدبر آيات القرآن، ويتجدد عليه الخوف والحزن، ولكنه يسهل على نفسه؛ لِمَا علم من حسن عاقبته والثواب العظيم المعد له، وهذا كمن يشرب الدواء الكريه فإنه يسهل عليه شربه لما يرجو من العافية، والجاهل لا يصور لنفسه ذلك، فيشق عليه فعل الطاعة.
ب. الثاني: أنه قد اعتاد تحمل المشقة، فصار بمنزلة من لا يشِقُّ عليه، بخلاف من لا يعتاده.
15. لما تقدم ذكر المؤمنين أتبعه ببيان صفتهم فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ :
أ. قيل: يعني يوقنون، والظن بمعنى اليقين عند أكثر أهل العلم: الحسن ومجاهد وأبي العالية وابن جريج وغيرهم، ونظيره: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾
ب. وقيل: إنه بمعنى الظن لا اليقين، والمعنى يظنون أنهم ملاقو ربهم بذنوبهم لشدة إشفاقهم من الإقامة على معصية الله تعالى، وفيه بُعْد لكثرة الحذف.
ج. وقيل: إنه لا يفارق قلبه ظن الموت في كل وقت فتقوى دواعيه إلى التوبة والطاعات، ويقل ركونه إلى الدنيا.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾:
أ. قيل: ملاقو جزاء ربهم، فجعل ملاقاة الجزاء ملاقاة له على جهة التفخيم لبيان الجزاء وإيجاز الكلام، يدل عليه قوله تعالى في صفة المنافقين: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾، والمنافق لا يجوز أن يرى ربه، ويدل عليه قوله: ﴿إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾ يعني جزاء ربهم، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: من حلف على مال امرئ مسلم كاذبًا لقي الله وهو عليه غضبان)، عن أبي علي.
ب. وقيل: معنى (مُلاَقُو رَبِّهِمْ) يعني راجعون إليه، والمراد به البعث والنشور.
17. ليس اللقاء من الرؤية في شيء، يقال: لقيت فلانًا، يعني: زاره وكلمه وإن كان القائل أعمى، ويقال: لقَّاكَ الله مَحَابَّكَ، وهو لا يريد أشخاصا يراها، وإنما يريد لقاء ما يسره، عن أبي مسلم.
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ :
أ. قيل: بالإعادة في الآخرة، عن أبي العالية.
ب. وقيل: يرجعون أمواتًا كما كانوا أمواتًا، وإنما قال ﴿إِلَيْهِ﴾ لأنهم يرجعون إلى حُكْمِهِ ومَقَامٍ لا مالك هناك سواه يملك نفعهم وضرهم كما كانوا في الابتداء.
19. تدل الآيات الكريمة على:
20. وجوب البر والأمر به لا أنه منع من الأمر؛ لأن تقديره: إذا نصحت غيرك لينجو من العذاب، فأنت إلى نُصْحِ نفسك أقرب، فيجب أن تتمسك بالطاعة التي بها فوزك.
21. توبيخ علماء السوء حيث نصحوا غيرهم، ولا يعملون لأنفسهم.
22. يدل قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ أن الحجة على من يتلو الكتاب أعظم إذا خالفه، وعقوبته أشد، ويجب عليه أن يتمسك به.
23. أن الصبر والصلاة لطفان في التكليف؛ لذلك أُمِرْنَا بالاستعانة بهما على غيرهما، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ .
24. أن تحمل المشقة يسهل متى تَصَوَّرْتَهَا عاقبة محمودة، وذلك صفة المؤمنين، وتدل على عظم موضع هاتين العبادتين لما خصهما بالذكر.
25. أن المؤمن الخاشع يكثر تفكره في العاقبة، وفيما أعد اللَّه لأهل الثواب وأهل العفاف فيكون ذلك لطفًا لهم في الطاعات واجتناب المعاصي.
26. إثبات المعاد، وأن الخلق يرجعون إلى جزاء ما عملوا.
27. أن العلم بالمعاد لطف.
28. اختلف في الضمير في قوله: ﴿وَإِنَّهَا﴾ :
أ. قيل: يعود الضمير على مذكور:
• على الصلاة.
• على الاستعانة، يعني أن الاستعانة بهما لكبيرة.
• على جميع ما تقدم ذكره من قوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى ما ههنا، عن أبي علي.
ب. وقيل: يعود الضمير على محذوف:
• على الإجابة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الأصم، وليس بالوجه؛ لأنه لم يَجْرِ له ذكر، ولا هو المعلوم الذي لا يتوجه الكلام إلا عليه.
• أراد مؤاخذة النفس بهما لكبيرة.
• أراد به ما تقدم.
• أراد الصلاة وضروب الصبر؛ لأن الصبر ينقسم، عن القاضي.
• هذه الفعلة لكبيرة، عن أبي مسلم.
29. اختلف في سبب رد الضمير على واحد، وقد تقدم اثنان:
أ. قيل: أن المعنى على الصلاة دون غيرها على ظاهر الكلام، وخصها بالذكر لتأكيد حالها وعموم فرضها، وتفخيم شأنها.
ب. وقيل: أن المراد به الإتيان بهما، وإن كان اللفظ على الواحد كقوله: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ قال الشاعر:
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالمدينة رَحْلُهُ.. فَإِني وقَيَّارٌ بِهَا لَغَريب
ج. وقيل: أراد كل خصلة منهما لكبيرة، عن الأخفش.
د. وقيل: يعود إلى الاستعانة، قيل: إنها تعود على الأظهر والأعم، ومن شأن العرب تفعل ذلك كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا﴾ .
30. اختلف في سبب حذف النون من ﴿مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾:
أ. قال البصريون: حذفت تخفيفًا، والمعنى على إثباتها، ومثله: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ﴾
ب. قال الكوفيون: إذا حذفت النون فللفظ الاسم، وإذا ثبت وظهر النصب فلمعنى الفعل، ولا يجوز كسر (إن) الأولى؛ لأن الظن واقع عليها، ويجوز في الثانية الكسر، والقراءة بالنصب فيهما.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/359.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح الكلمات:
أ. البر في اللغة والإحسان والصلة نظائر يقال: فلان بار وصول محسن، وضد البر العقوق، ورجل بر، وباز، وبرت يمينه: صدقت، وبر حجه وبر لغتان، وقولهم: فلان لا يعرف الهر من البر، قال الأخفش: معناه: لا يعرف من يهر عليه ممن يبره، وقال المازني: الهر السنور، والبر: الفأرة، أو دويبة تشبهها، والفرق بين البر، الخير: إن البر يدل على قصد، والخير قد يقع على وجه السهو.
ب. النسيان، والسهو، والغفلة، نظائر، وضد النسيان الذكر، وحقيقته غروب الشيء عن النفس بعد حضوره، وهو عدم علم ضروري من فعل الله تعالى، والسهو: قد يقع عما كان الانسان عالما به، وعما لم يكن عالما به، وقد يكون النسيان بمعنى الترك نحو قوله ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ أي: تركوا ذكر الله فخذلهم.
ج. التلاوة: القراءة، تلا يتلو تلاوة أي: قرأ، وتلا يتلو تلوا أي: تبع، وأصل التلاوة منه، لاتباع بعض الحروف فيها بعضا، والفرق بين التلاوة والقراءة: أن أصل القراءة جمع الحروف، وأصل التلاوة اتباع الحروف.
د. العقل، والفهم، والمعرفة، واللب، نظائر، ورجل عاقل: فهم لبيب ذو معرفة، وضد العقل الحمق، يقال: عقل الشيء عقلا، وأعقله غيره، وقيل لابن عباس: أنى لك هذا العلم؟ قال: قلب عقول ولسان سؤول، وقال صاحب كتاب العين: العقل ضد الجهل، يقال: عقل الجاهل: إذا علم، وعقل المريض بعد أن أهجر، وعقل المعتوه ونحوه، والعقال: الرباط، يقال: عقلت البعير أعقله عقلا: إذا شددت يده بالعقال.
هـ. الصبر: منع النفس عن محابها، وكفها عن هواها، ومنه الصبر على المصيبة لكف الصابر نفسه عن الجزع، ومنه جاء في الحديث: (وهو شهر الصبر) لشهر رمضان لأن الصائم يصبر نفسه ويكفها عما يفسد الصيام، وقتل فلان صبرا: وهو أن ينصب للقتل ويحبس عليه حتى يقتل، وكل من حبسته لقتل أو يمين يقال فيه قتل صبرا ويمين صبر وصبرته أي حلفته بالله جهد القسم، وفي الحديث: ) اقتلوا القاتل واصبروا الصابر ) وذلك فيمن أمسكه حتى قتله آخر، فأمر بقتل القاتل، وحبس الممسك.
و. الخشوع، والخضوع والتذلل والإخبات نظائر، وضد الخشوع: الاستكبار، وخشع الرجل: إذا رمى ببصره إلى الأرض، واختشع: إذا طأطأ رأسه كالمتواضع، والخشوع: قريب المعنى من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن، والإقرار بالاستخدام، والخشوع: في الصوت، والبصر، قال سبحانه ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾، وخشعت الأصوات: أي: سكنت، وأصل الباء من اللين والسهولة، والخاشع، والمتواضع، والمتذلل، والمستكين بمعنى، قال الشاعر:
لما أتى خبر الزبير، تواضعت... سور المدينة، والجبال الخشع
ز. اختلف في تعريف العقل:
• قيل: مجموع علوم لأجلها يمتنع الحي من كثير من المقبحات، ويفعل كثيرا من الواجبات، وإنما سميت تلك العلوم عقلا، لأنها تعقل عن القبيح، وقيل: لأنها تعقل العلوم المكتسبة، ولا يوصف القديم تعالى بأنه عاقل، لأنه لا يعقله شيء عن فعل القبيح، وإنما لا يختاره لعلمه بقبحه، وبأنه غني عنه، ولأنه لا يكتسب علما بشيء فيثبت بعض علومه ببعض.
• وقال علي بن عيسى: العقل هو العلم الذي يزجر عن قبيح الفعل، ومن كان زاجره أقوى فهو أعقل، وقيل: العقل معرفة يفصل بها بين القبيح والحسن في الجملة.
• وقيل: هو التمييز الذي به فارق الانسان جميع الحيوان، وهذه العبارات قريبة معاني بعضها من بعض.
ح. الفرق بين العقل والعلم: إن العقل قد يكمل لمن فقد بعض العلوم، ولا يكمل العلم لمن فقد بعض عقله، فإن قيل: إذا كان العقل مختلفا فيه، فكيف يجوز أن يستشهد به؟ قلنا: إن الاختلاف في ماهية العقل لا يوجب الاختلاف في قضاياه، ألا ترى أن الاختلاف في ماهية العقل حتى إن بعضهم قال معرفة، وبعضهم قال قوة، لا توجب الاختلاف في أن المائة أكثر من واحد، وأن الكل أعظم من الجزء، وغير ذلك من قضايا العقول.
ط. الظن المذكور في الآية بمعنى العلم واليقين كما قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج... سراتهم في الفارسي المسرد
وقال أبو داوود:
رب هم فرجعته بعزيم... وغيوب كشفتها بظنون
وقال بعض المحققين: أصل الظن ما يجول في النفس من الخاطر الذي يغلب على القلب كأنه حديث النفس بالشيء، ويؤول جميع ما في القرآن من الظن بمعنى العلم على هذا.
2. هذه الآية خطاب لعلماء اليهود وكانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين أثبتوا على ما أنتم عليه، ولا يؤمنون هم، والألف للاستفهام، ومعناه التوبيخ.
3. اختلف في المراد بالبر:
أ. قيل: الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وترك أنفسهم عن ذلك، قال أبو مسلم: كانوا يأمرون العرب بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا بعث، فلما بعث كفروا به.
ب. وقيل: أن المراد أنهم كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بالتوراة وتركوا هم التمسك به لأن جحدهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته فيه ترك للتمسك به، روي عن ابن عباس.
ج. وقيل: كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وهم يخالفونه، عن قتادة.
د. وقيل: أتأمرون الناس بالصدقة وتتركونها أنتم، وإذا أتتكم الضعفاء بالصدقة لتفرقوها على المساكين خنتم فيها.
4. قوله ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ معناه: وأنتم تقرأون التوراة وفيها صفته ونعته عن ابن عباس.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ :
أ. قيل: أفلا تفقهون أن ما تفعلونه قبيح في العقول.
ب. وقيل: أن معناه هذا ليس بفعل من يعقل.
ج. وقيل: معناه أفلا تعلمون أن الله يعذبكم ويعاقبكم على ذلك.
د. وقيل: أفلا تعلمون أن ما في التوراة حق فتصدقوا محمدا وتتبعوه.
6. سؤال وإشكال: إن كان فعل البر واجبا، والأمر به واجبا، فلما ذا وبخهم الله تعالى على الأمر بالبر، والجواب: لم يوبخهم الله على الأمر بالبر، وإنما وبخهم على ترك فعل البر المضموم إلى الأمر بالبر لأن ترك البر ممن يأمر به أقبح من تركه ممن لا يأمر به فهو كقول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله... عار عليك إذا فعلت عظيم
ومعلوم أنه لم يرد به النهي عن الخلق المذموم، وإنما أراد النهي عن إتيان مثله.
7. قال الجبائي: أنه خطاب للمسلمين دون أهل الكتاب، وقال الرماني وغيره: هو خطاب لأهل الكتاب ويتناول المؤمنين على وجه التأديب، والأولى أن يكون خطابا لجميع المكلفين لفقد الدلالة على التخصيص، ويؤيد قول من قال أنه خطاب لأهل الكتاب إن ما قبل الآية وما بعدها خطاب لهم.
8. من قال أنه خطاب لليهود قال إن حب الرياسة كان يمنع علماء اليهود عن اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنهم خافوا زوال الرياسة إذا اتبعوه فأمرهم الله تعالى فقال: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ على الوفاء بعهدي الذي عاهدتكم في كتابكم عليه من طاعتي واتباع أمري وترك ما نهيتكم عنه والتسليم لأمري واتباع رسولي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصبر على ما أنتم فيه من ضيق المعاش الذي تأخذون الأموال من عوامكم بسببه.
9. روي عن أئمتنا عليهم السلام أن المراد بالصبر الصوم فيكون فائدة الاستعانة به أنه يذهب بالشره وهوى النفس كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: الصوم وجاء.
10. فائدة الاستعانة بالصلاة أنه يتلى فيها ما يرغب فيما عند الله تعالى وبزهد في الدنيا وحب الرياسة كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، ولأنها تتضمن التواضع لله تعالى فيدفع حب الرياسة، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا حزنه أمر استعان بالصلاة والصوم.
11. من قال أنه خطاب للمسلمين قال: المراد به استعينوا على تنجز ما وعدته لمن اتبع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو على مشقة التكليف بالصبر أي بحبس النفس على الطاعات وحبسها عن المعاصي والشهوات، وبالصلاة لما فيها من تلاوة القرآن والتدبر لمعانيه والاتعاظ بمواعظه والائتمار بأوامره والانزجار عن نواهيه، فليس في أفعال القلوب أعظم من الصبر ولا في أفعال الجوارح أعظم من الصلاة فأمر بالاستعانة بهما، وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غم من غموم الدنيا أن يتوضأ، ثم يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعو الله فيها أما سمعت الله تعالى يقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾
12. لما تقدم ذكر الخاشعين بين صفتهم فقال: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ :
أ. قيل: أي يوقنون ﴿إِنَّهُمْ مُلَاقُو﴾ ما وعدهم ﴿رَبَّهُمْ﴾ عن الحسن ومجاهد وغيرهما ونظيره قوله ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾
ب. وقيل: أنه بمعنى الظن غير اليقين والمعنى أنهم يظنون أنهم ملاقو ربهم بذنوبهم لشدة إشفاقهم من الإقامة على معصية الله قال الرماني وفيه بعد لكثرة الحذف
ج. وقيل: الذين يظنون انقضاء آجالهم وسرعة موتهم فيكونون أبدا على حذر ووجل ولا يركنون إلى الدنيا كما يقال لمن مات لقي الله
13. يدل على أن المراد بقوله ﴿مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ ملاقون جزاء ربهم قوله تعالى في صفة المنافقين ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾، ولا خلاف في أن المنافق لا يجوز أن يرى ربه وكذلك قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ وجاء في الحديث من حلف على مال امرئ مسلم كاذبا لقي الله وهو عليه غضبان.
14. ليس اللقاء من الرؤية في شيء يقال: لقاك الله محابك ولا يراد به أن يرى أشخاصا وإنما يراد به لقاء ما يسره.
15. معنى الرجوع في الآية:
أ. قيل: أنهم راجعون بالإعادة في الآخرة عن أبي العالية.
ب. وقيل: أنهم يرجعون بالموت كما كانوا في الحال المتقدمة لأنهم كانوا أمواتا فأحيوا، ثم يموتون فيرجعون أمواتا كما كانوا.
ج. وقيل: أنهم يرجعون إلى موضع لا يملك أحد لهم ضرا ولا نفعا غيره تعالى كما كانوا في بدء الخلق لأنهم في أيام حياتهم قد يملك غيرهم الحكم عليهم والتدبير لنفعهم وضرهم يبين ذلك قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وتحقيق معنى الآية أنه يقرون بالنشأة الثانية فجعل رجوعهم بعد الموت إلى المحشر رجوعا إليه.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/215.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ . قال ابن عباس: نزلت في اليهود، كان الرجل يقول لقرابته من المسلمين في السّر: اثبت على ما أنت عليه فإنه حقّ.
2. الألف في (أتأمرون) ألف الاستفهام، ومعناه التوبيخ.
3. في (البر) هنا ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه التمسّك بكتابهم، كانوا يأمرون باتّباعه ولا يقومون به.
ب. الثاني: اتّباع محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، روي القولان عن ابن عباس.
ج. الثالث: الصّدقة، كانوا يأمرون بها، ويبخلون. ذكره الزّجّاج.
4. قوله تعالى: ﴿وَتَنْسَوْنَ﴾، أي: تتركون.
5. وفي (الكتاب) قولان:
أ. أحدهما: أنه التوراة، قاله الجمهور.
ب. الثاني: أنه القرآن، فلا يكون الخطاب على هذا القول لليهود.
6. الأصل في الصبر: الحبس، فالصابر حابس لنفسه عن الجزع، وسمّي الصائم صابرا لحبسه نفسه عن الأكل والشرب والجماع، والمصبورة: البهيمة تتّخذ غرضا، وقال مجاهد: الصبر هاهنا: الصوم.
7. فيما أمروا بالصبر عليه ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه أداء الفرائض، قاله ابن عباس ومقاتل.
ب. الثاني: أنه ترك المعاصي، قاله قتادة.
ج. الثالث: عدم الرئاسة.
8. وهو خطاب لأهل الكتابين، ووجه الاستعانة بالصلاة أنه يتلى فيها ما يرغّب في الآخرة، ويزهّد في الدنيا.
9. في المكنّى في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه الصلاة، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والجمهور.
ب. الثاني: أنها الكعبة والقبلة، لأنها لما ذكر الصّلاة، دلّت على القبلة، ذكره الضّحّاك عن ابن عباس، وبه قال مقاتل.
ج. الثالث: أنها الاستعانة، لأنها لما قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ دلّ على الاستعانة، ذكره محمّد بن القاسم النّحويّ.
10. معنى قوله تعالى: ﴿لَكَبِيرَةً﴾ : الثقيلة، مثل قوله تعالى: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾، أي: ثقل.
11. الخشوع في اللغة:
أ. قيل: التّطامن والتّواضع.
ب. وقيل: السّكون.
12. قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ . الظنّ هاهنا: بمعنى اليقين.
__________
(1) زاد المسير: 1/62.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما أمر الله تعالى بالإيمان والشرائع بناء على ما خصهم به من النعم ورغبهم في ذلك بناء على مأخذ آخر، وهو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول، إذ المقصود من أمر الناس بذلك إما النصيحة أو الشفقة، وليس من العقل أن يشفق الإنسان على غيره أو أن ينصح غيره ويهمل نفسه فحذرهم الله تعالى من ذلك بأن قرعهم بهذا الكلام.
2. اختلفوا في المراد بالبر في هذا الموضع على وجوه:
أ. أحدها: وهو قول السدي أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وينهونهم عن معصية الله، وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية.
ب. ثانيها: قول ابن جريج أنهم كانوا يأمرون الناس بالصلاة والزكاة وهم كانوا يتركونهما.
ج. ثالثها: أنه إذا جاءهم أحد في الخفية لاستعلام أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا: هو صادق فيما يقول وأمره حق فاتبعوه، وهم كانوا لا يتبعونه لطمعهم في الهدايا والصلاة التي كانت تصل إليهم من أتباعهم.
د. رابعها: أن جماعة من اليهود كانوا قبل مبعث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يخبرون مشركي العرب أن رسولًا سيظهر منكم ويدعو إلى الحق وكانوا يرغبونهم باتباعه فلما بعث الله محمداً حسدوه وكفروا به، فبكتهم الله تعالى بسبب أنهم كانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره، فلما ظهر تركوه وأعرضوا عن دينه، وهذا اختيار أبي مسلم.
هـ. خامسها: وهو قول الزجاج أنهم كانوا يأمرون الناس ببذل الصدقة، وكانوا يشحون بها لأن الله تعالى وصفهم بقساوة القلوب وأكل الربا والسحت.
و. سادسها: لعل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في الظاهر، ثم إنهم كانوا في قلوبهم منكرين له فوبخهم الله تعالى عليه.
ز. سابعاً: أن اليهود كانوا يأمرون غيرهم باتباع التوراة ثم إنهم خالفوه لأنهم وجدوا فيها ما يدل على صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم إنهم ما آمنوا به.
3. قوله تعالى: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾، فالنسيان عبارة عن السهو الحادث بعد حصول العلم، والناسي غير مكلف، ومن لا يكون مكلفاً لا يجوز أن يذمه الله تعالى على ما صدر منه، فالمراد بقوله: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أنكم تغفلون عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع.
4. قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ معناه تقرأون التوراة وتدرسونها وتعلمون بما فيها من الحث على أفعال البر والإعراض عن أفعال الإثم.
5. قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ تعجب للعقلاء من أفعالهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: 67]، وسبب التعجب وجوه:
أ. الأول: أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة، وتحذيره عما يوقعه في المفسدة، والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل، فلهذا قال: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
ب. الثاني: أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق، ثم لم يتعظ صار ذلك الوعظ سبباً لرغبة الناس في المعصية لأن الناس يقولون: إنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات وإلا لما أقدم على المعصية، فيصير هذا داعياً لهم إلى التهاون بالدين والجراءة على المعصية، فإذا كان غرض الواعظ الزجر عن المعصية، ثم أتى بفعل يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء، فلهذا قال: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
ج. الثالث: أن من وعظ فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذاً في القلوب، والإقدام على المعصية مما ينفر القلوب عن القبول، فمن وعظ كان غرضه أن يصير وعظه مؤثراً في القلوب، ومن عصى كان غرضه أن لا يصير وعظه مؤثراً في القلوب، فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء، ولهذا قال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك.
6. الهمزة في ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ للتقرير مع التقريع والتعجب من حالهم.
7. البر هو اسم جامع لأعمال الخير، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما، ومنه عمل مبرور، أي قد رضيه الله تعالى وقد يكون بمعنى الصدق كما يقال بر في يمينه أي صدق ولم يحنث، ويقال: صدقت وبررت، وقال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: 189] فأخبر أن البر جامع للتقوى.
8. اختلفوا في المخاطبين بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ :
أ. قيل: هم المؤمنون بالرسول، لأن من ينكر الصلاة أصلًا والصبر على دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة، فلا جرم وجب صرفه إلى من صدق بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: لا يمتنع أن يكون الخطاب أولًا في بني إسرائيل، ثم يقع بعد ذلك خطاباً للمؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. وقيل: الأقرب أن المخاطبين هم بنو إسرائيل لأن صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك النظم.
9. سؤال وإشكال: كيف يؤمرون بالصبر والصلاة مع كونهم منكرين لهما؟ والجواب: لا نسلم كونهم منكرين لهما، وذلك لأن كل أحد يعلم أن الصبر على ما يجب الصبر عليه حسن، وأن الصلاة التي هي تواضع للخالق والاشتغال بذكر الله تعالى يسلي عن محن الدنيا وآفاتها، إنما الاختلاف في الكيفية، فإن صلاة اليهود واقعة على كيفية، وصلاة المسلمين على كيفية أخرى، وإذا كان متعلق الأمر هو الماهية التي هي القدر المشترك زال الإشكال المذكور، وعلى هذا فإنه تعالى لما أمرهم بالإيمان وبترك الإضلال وبالتزام الشرائع وهي الصلاة والزكاة، وكان ذلك شاقاً عليهم لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه لا جرم عالج الله تعالى هذا المرض، فقال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾
10. ذكروا في الصبر والصلاة وجوهاً:
أ. أحدها: كأنه قيل واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصبر أي يحبس النفس عن اللذات، فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليه وخف عليها، ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك تم الأمر، لأن المشتغل بالصلاة لا بد وأن يكون مشتغلًا بذكر الله عز وجل وذكر جلاله وقهره وذكر رحمته وفضله، فإذا تذكر رحمته صار مائلًا إلى طاعته وإذا تذكر عقابه ترك معصيته فيسهل عند ذلك اشتغاله بالطاعة وتركه للمعصية.
ب. ثانيها: المراد من الصبر هاهنا هو الصوم لأن الصائم صابر عن الطعام والشراب، ومن حبس نفسه عن قضاء شهوة البطن والفرج زالت عنه كدورات حب الدنيا، فإذا انضاف إليه الصلاة استنار القلب بأنوار معرفة الله تعالى وإنما قدم الصوم على الصلاة لأن تأثير الصوم في إزالة ما لا ينبغي وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي والنفي مقدم على الإثبات، ولأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: الصوم جنة من النار)، وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45] لأن الصلاة تمنع عن الاشتغال بالدنيا وتخشع القلب ويحصل بسببها تلاوة الكتاب والوقوف على ما فيه من الوعد والوعيد والمواعظ والآداب الجميلة، وذكر مصير الخلق إلى دار الثواب أو دار العقاب رغبة في الآخرة ونفرة عن الدنيا فيهون على الإنسان حينئذ ترك الرياسة، ومقطعة عن المخلوقين إلى قبلة خدمة الخالق ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153]
11. اختلف في الضمير في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا﴾ :
أ. قيل: الضمير عائد إلى الصلاة أي صلاة ثقيلة إلا على الخاشعين.
ب. وقيل: الضمير عائد إلى الاستعانة التي يدل عليها قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾
ج. وقيل: عائد إلى جميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 40، 47، 122] إلى قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾، والعرب قد تضمر الشيء اختصاراً أو تقتصر فيه على الإيماء إذا وثقت بعلم المخاطب فيقول القائل: ما عليها أفضل من فلان يعني الأرض، ويقولون: ما بين لابتيها أكرم من فلان يعنون المدينة، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [النحل: 61]، ولا ذكر للأرض.
12. قوله تعالى: ﴿لَكَبِيرَةً﴾ يعني إنها ثقيلة على من لم يخشع أنه من حيث لا يعتقد في فعلها ثواباً ولا في تركها عقاباً، فيصعب عليه فعلها، فالملحد إذا لم يعتقد في فعلها منفعة ثقل عليه فعلها، لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطبع، أما الموحد فلما اعتقد في فعلها أعظم المنافع وفي تركها أعظم المضار لم يثقل ذلك عليه لما يعتقد في فعله من الثواب والفوز العظيم بالنعيم المقيم والخلاص من العذاب الأليم، ألا ترى إلى قوله: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ أي يتوقعون نيل ثوابه والخلاص من عقابه.. مثاله إذا قيل للمريض: كل هذا الشيء المر فإن اعتقد أن له فيه شفاء سهل ذلك عليه، وإن لم يعتقد ذلك فيه صعب الأمر عليه، وعليه يحمل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وجعلت قرة عيني في الصلاة)، وصف الصلاة بذلك للوجوه التي ذكرناها لا لأنها كانت لا تثقل عليه، وكيف وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي حتى تورمت قدماه، وأما الخشوع فهو التذلل والخضوع.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ :
أ. قيل: الظن بمعنى العلم، لأن الظن وهو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض يقتضي أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة وذلك كفر والله تعالى مدح على هذا الظن والمدح على الكفر غير جائز، فوجب أن يكون المراد من الظن هاهنا العلم، وسبب هذا المجاز أن العلم والظن يشتركان في كون كل واحد منهما اعتقاداً راجحاً إلا أن العلم راجح مانع من النقيض والظن راجح غير مانع من النقيض، فلما اشتبها من هذا الوجه صح إطلاق اسم أحدهما على الآخر، قال أوس بن حجر:
فأرسلته مستيقن الظن أنه... مخالط ما بين الشراسيف خائف
وقال تعالى: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: 20] وقال: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾ [المطففين: 4] ذكر الله تعالى ذلك إنكاراً عليهم وبعثاً على الظن، ولا يجوز أن يبعثهم على الاعتقاد المجوز للنقيض فثبت أن المراد بالظن هاهنا العلم.
ب. وقيل: يحمل اللفظ على ظاهره وهو الظن الحقيقي.
14. اختلف في معنى ملاقاة الرب:
أ. قيل: ملاقاة الرب مجاز عن الموت، وذلك لأن ملاقاة الرب مسبب عن الموت، فأطلق المسبب والمراد منه السبب، وهذا مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات إنه لقي ربه.. وهذا يعني أن الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون الموت في كل لحظة، وذلك لأن كل من كان متوقعاً للموت في كل لحظة فإنه لا يفارق قلبه الخشوع فهم يبادرون إلى التوبة، لأن خوف الموت مما يقوي دواعي التوبة ولأنه مع خشوعه لا بد في كل حال من أن لا يأمن تقصيراً جرى منه فيلزمه التلافي، فإذا كان حاله ما ذكرنا كان ذلك داعياً إلى المبادرة إلى التوبة.
ب. وقيل: تفسر ملاقاة الرب بملاقاة ثواب الرب، وذلك مظنون لا معلوم فإن الزاهد العابد لا يقطع بكونه ملاقياً لثواب الله بل يظن إلا أن ذلك الظن مما يحمله على كمال الخشوع.
ج. وقيل: المعنى الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم بذنوبهم فإن الإنسان الخاشع قد يسيء ظنه بنفسه وبأعماله فيغلب على ظنه أنه يلقى الله تعالى بذنوبه فعند ذلك يسارع إلى التوبة وذلك من صفات المدح.
15. ذكر نفاة رؤية الله تعالى على لفظ اللقاء لا يفيد الرؤية، والدليل عليه الآية والخبر والعرف:
أ. أما الآية فقوله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ [التوبة: 77] والمنافق لا يرى ربه، وقال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ [الفرقان: 68] وقال تعالى في معرض التهديد: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ [البقرة: 223] فهذا يتناول الكافر والمؤمن، والرؤية لا تثبت للكافر فعلمنا أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية.
ب. أما الخبر فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)، وليس المراد رأى الله تعالى لأن ذلك وصف أهل النار.
ج. العرف هو قول المسلمين فيمن مات: لقي الله، ولا يعنون أنه رأى الله عز وجل.
16. بالإضافة إلى ذلك، فإن اللقاء يراد به القرب ممن يلقاه على وجه يزول الحجاب بينهما، ولذلك يقول الرجل إذا حجب عن الأمير: ما لقيته بعد وإن كان قد رآه، وإذا أذن له في الدخول عليه يقول: لقيته، وإن كان ضريراً، ويقال: لقي فلان جهداً شديداً ولقيت من فلان الداهية، ولاقى فلان حمامه، وكل ذلك يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: 12]، وهذا إنما يصح في حق الجسم ولا يصح على الله تعالى.
17. المراد من الرجوع إلى الله تعالى الرجوع إلى حيث لا يكون لهم مالك سواه، وأن لا يملك لهم أحد نفعاً ولا ضرًا غيره، كما كانوا كذلك في أول الخلق فجعل مصيرهم إلى مثل ما كانوا عليه أولًا رجوعاً إلى الله من حيث كانوا في سائر أيام حياتهم قد يملك غيره الحكم عليهم ويملك أن يضرهم وينفعهم وإن كان الله تعالى مالكاً لهم في جميع أحوالهم.
18. احتج بهذه الآية فريقان من المبطلين:
أ. الأول: المجسمة فإنهم قالوا: الرجوع إلى غير الجسم محال، فلما ثبت الرجوع إلى الله وجب كون الله جسماً.
ب. الثاني: التناسخية فإنهم قالوا: الرجوع إلى الشيء مسبوق بالكون عنده، فدلت هذه الآية على كون الأرواح قديمة وأنها كانت موجودة في عالم الروحانيات.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/488.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ هذا استفهام معناه التوبيخ، والمراد في قول أهل التأويل علماء اليهود:
أ. قال ابن عباس: كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين: اثبت على الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل يريدون محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن أمره حق فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه.
ب. وعن ابن عباس أيضا: كان الأحبار يأمرون مقلديهم وأتباعهم باتباع التوراة وكانوا يخالفونها في جحدهم صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. وقال ابن جريج: كان الأحبار يحضون في طاعة الله وكانوا هم يواقعون المعاصي.
د. قالت فرقة: كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون.. والمعنى متقارب
هـ. وقال بعض أهل الإشارات: المعنى أتطالبون الناس بحقائق المعاني، وأنتم تخالفون عن ظواهر رسومها!
2. قوله تعالى: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي تتركون، والنسيان (بكسر النون) يكون:
أ. بمعنى الترك، وهو المراد هنا، وفي قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: 67]، وقوله: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [الانعام: 44]، وقوله: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة: 237]
ب. ويكون خلاف الذكر والحفظ، ومنه الحديث: نسي آدم فنسيت ذريته)، يقال: رجل نسيان (بفتح النون): كثير النسيان للشيء، وقد نسيت الشيء نسيانا، ولا تقل نسيانا (بالتحريك)، لان النسيان إنما هو تثنية نسا العرق.
3. أنفس: جمع نفس، جمع قلة، والنفس:
أ. الروح، يقال: خرجت نفسه، قال أبو خراش:
نجا سالم والنفس منه بشدقه... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
أي بجفن سيف ومئزر، ومن الدليل في أن النفس الروح قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: 42] يريد الأرواح في قول جماعة من أهل التأويل، وذلك بين في قول بلال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث ابن شهاب: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث زيد بن أسلم: إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا). رواهما مالك وهو أولى ما يقال به.
ب. النفس أيضا الدم يقال سالت نفسه قال الشاعر:
نبئت أن بني سحيم أدخلوا... أبياتهم تامور نفس المنذر
والتامور أيضا: الدم.
4. قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ توبيخ عظيم لمن فهم، و ﴿تَتْلُونَ﴾ : تقرؤون ﴿الْكِتَابِ﴾ : التوراة، وكذا من فعل فعلهم كان مثلهم، وأصل التلاوة الاتباع ولذلك استعمل في القراءة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه يقال: تلوته إذا تبعته تلوا وتلوت القرآن تلاوة، وتلوت الرجل تلوا إذا خذلته، والتلية والتلاوة (بضم التاء): البقية يقال: تليت لي من حقي تلاوة وتليه أي بقيت، وأتليت: أبقيت، وتتليت حقي إذا تتبعته حتى تستوفيه قال أبو زيد: تلى الرجل إذا كان بآخر رمق.
5. قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم، والعقل: المنع، ومنه عقال البعير لأنه يمنع عن الحركة ومنه العقل للدية لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني ومنه اعتقال البطن واللسان ومنه يقال للحصن: معقل، والعقل. نقيض الجهل والعقل ثوب أحمر تتخذه نساء العرب تغشي به الهوادج قال علقمة:
عقلا ورقما تكاد الطير تخطفه... كأنه من دم الأجواف مدموم
المدموم (بالدال المهملة) الأحمر وهو المراد هنا، والمدموم الممتلئ شحما من البعير وغيره ويقال: هما ضربان من البرود. قال ابن فارس: والعقل من شيات الثياب ما كان نقشه طولا وما كان نقشه مستديرا فهو الرقم، وقال الزجاج: العاقل من عمل بما أوجب الله عليه فمن لم يعمل فهو جاهل.
6. التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الامر بالبر، ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوما كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها وبخهم به توبيخا يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ الآية
7. الصبر: الحبس في اللغة وقتل فلان صبرا أي امسك وحبس حتى أتلف وصبرت نفسي على الشيء حبستها، والمصبورة التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت وهي المجثمة، وقال عنترة:
فصبرت عارفة لذلك حرة... ترسو إذا نفس الجبان تطلع
8. أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال: ﴿وَاصْبِرُوا﴾، يقال فلان صابر عن المعاصي، وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على صبر عن المعاصي، فقد صبر على الطاعة، هذا أصح ما قيل قال النحاس: ولا يقال لمن صبر على المصيبة: صابر إنما يقال صابر على كذا، فإذا قلت صابر مطلقا فهو على ما ذكرنا قال الله تعالى ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ) [الزمر: 10]
9. خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي له أخوه قثم ـ وقيل بنت له ـ وهو في سفر فاسترجع وقال: عورة سترها الله، ومئونة كفاها الله، وأجر ساقه الله، ثم تنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾، فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية.
10. فسرت الصلاة هنا ـ كذلك ـ بالدعاء، على عرفها في اللغة فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ [الأنفال 45] لأن الثبات هو الصبر، والذكر هو الدعاء.
11. فسر الصبر هنا ـ كذلك ـ بالصوم ومنه قيل لرمضان شهر الصبر، فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة.
12. اختلف المتأولون في عود الضمير من قوله: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ :
أ. قيل: على الصلاة وحدها خاصة لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم، والصبر هنا: الصوم فالصلاة فيها سجن النفوس، والصوم إنما فيه منع الشهوة فليس من منع شهوة واحدة أو شهوتين كمن منع جميع الشهوات، فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب، ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق فيتسلى بتلك الأشياء عما منع، والمصلى يمتنع من جميع ذلك فجوارحه كلها مقيدة بالصلاة عن جميع الشهوات، وإذا كان ذلك كانت الصلاة أصعب على النفس ومكابدتها أشد فلذلك قال: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾
ب. وقيل: عليهما، ولكنه كنى عن الأغلب، وهو الصلاة كقوله ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 34]، وقوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: 11]، فرد الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم وإلى التجارة لأنها الأفضل والاهم.
ج. وقيل: إن الصبر لما كان داخل في الصلاة أعاد عليها كما قال: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: 62] ولم يقل: يرضوهما لان رضا الرسول داخل في رضا الله عز وجل، ومنه قول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر الاس... ود ما لم يعاص كان جنونا
ولم يقل يعاصيا رد إلى الشباب لان الشعر داخل فيه.
د. وقيل: رد الكناية إلى كل واحد منهما لكن حذف اختصارا قال الله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ ) [المؤمنون: 50] ولم يقل آيتين ومنه قول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله... فإني وقيار بها لغريب
وقال آخر:
لكل هم من الهموم سعه... والصبح والمسي لا فلاح معه
أراد: لغريبان، لا فلاح معهم.
هـ. وقيل: على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة.
و. وقيل: على المصدر وهي الاستعانة التي يقتضيها قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾
ز. وقيل: على إجابة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه.
ح. وقيل: على الكعبة لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها.
13. ﴿كَبِيرَةً﴾ معناه ثقيلة شاقة خبر (إن) ويجوز في غير القرآن: وإنه لكبيرة ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ فإنها خفيفة عليهم.. قال أرباب المعاني إلا على من أيد في الأزل بخصائص الاجتباء والهدى.
14. الخاشعون جمع خاشع وهو المتواضع.. والخشوع: هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع، وقال قتادة: الخشوع في القلب وهو الخوف وغض البصر في الصلاة قال الزجاج: الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الإقواء هذا هو الأصل قال النابغة:
رماد ككحل العين لأيا أبينه... ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
ومكان خاشع: لا يهتدى له. وخشعت الأصوات أي سكنت. وخشعت خراشي صدره إذا ألقى بصاقا لزجا. وخشع ببصره إذا غضه. والخشعة: قطعة من الأرض رخوة وفي الحديث: كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد وبلدة خاشعة: مغبرة لا منزل بها.
15. مما قيل في حقيقة الخشوع:
أ. قال سفيان الثوري: سألت الأعمش عن الخشوع فقال: يا ثوري أنت تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع! سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع فقال: أعيمش! تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع! ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس! لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء وتخشع لله في كل فرض أفترض عليك.
ب. قال علي بن أبي طالب: الخشوع في القلب، وأن تلين كفيك للمرء المسلم وألا تلتفت في صلاتك.. فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا علو نفاق.
ج. قال سهل بن عبد الله: لا يكون خاشعا حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ [الزمر: 23]، وهذا هو الخشوع المحمود لان الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا، وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك، وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والإجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الإنسان.
16. قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ﴾ الذين في موضع خفض على النعت للخاشعين، ويجوز الرفع على القطع.
17. اختلف في معنى الظن هنا:
أ. قيل: في قول الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: 20] وقوله: ﴿فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ [الكهف: 53] قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج... سراتهم في الفارسي المسرد
ب. وقيل: إن الظن في الآية يصح أن يكون على بابه ويضمر في الكلام بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين ذكر المهدوي والماوردي، قال ابن عطية: وهذا تعسف.
18. أصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه وقد يوقع موقع اليقين كما في هذه الآية وغيرها لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر: أظن هذا إنسانا وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس بمعنى كهذه الآية والشعر وكقوله تعالى: ﴿فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾، وقد يجئ اليقين بمعنى الظن.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/366.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الهمزة في قوله ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ للاستفهام مع التوبيخ للمخاطبين، وليس المراد توبيخهم على نفس الأمر بالبر، فإنه فعل حسن مندوب اليه، بل بسبب ترك فعل البر المستفاد من قوله: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ مع التطهر بتزكية النفس والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاما للناس وتلبيسا عليهم، كما قال أبو العتاهية:
وصفت التّقى حتّى كأنّك ذو تقى... وريح الخطايا من ثيابك تسطع
2. قوله ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع وأشد توبيخ وأبلغ تبكيت: أي كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به وأنتم من أهل العلم العارفين بقبح هذا الفعل وشدّة الوعيد عليه، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه والآيات التي تقرؤونها من التوراة.
3. التلاوة: القراءة، وهي المراد هنا وأصلها الاتباع، يقال: تلوته: إذا تبعته؛ وسمي القارئ تاليا والقراءة تلاوة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض، على النسق الذي هو عليه.
4. قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ استفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم، وهو أشدّ من الأوّل وأشدّ.
5. أشد ما قرّع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير ولا يفعله من العلماء الذين هم غير عاملين بالعلم، فاستنكر عليهم:
أ. أوّلا أمرهم للناس بالبرّ مع نسيان أنفسهم في ذلك الأمر الذي قاموا به في المجامع ونادوا به في المجالس إيهاما للناس بأنهم مبلّغون عن الله ما تحملوه من حججه، ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم وائتمنهم عليه، وهم أترك الناس لذلك وأبعدهم من نفعه وأزهدهم فيه.
ب. ثم ربط هذه الجملة بجملة أخرى جعلها مبيّنة لحالهم وكاشفة لعوارهم وهاتكة لأستارهم، وهي أنهم فعلوا هذه الفعلة الشنيعة والخصلة الفظيعة على علم منهم ومعرفة بالكتاب الذي أنزل عليهم وملازمة لتلاوته، وهم في ذلك كما قال المعرّى:
وإنّما حمل التوراة قارئها... كسب الفوائد لا حبّ التّلاوات
ج. ثم انتقل معهم من تقريع إلى تقريع، ومن توبيخ إلى توبيخ فقال: إنكم لو لم تكونوا من أهل العلم وحملة الحجة وأهل الدراسة لكتب الله، لكان مجرد كونكم ممن يعقل حائلا بينكم وبين ذلك ذائدا لكم عنه زاجرا لكم منه، فكيف أهملتم ما يقتضيه العقل بعد إهمالكم لما يوجبه العلم.
6. العقل في أصل اللغة: المنع، ومنه عقال البعير، لأنه يمنعه عن الحركة، ومنه العقل في الدية لأنّه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني، والعقل نقيض الجهل:
أ. يصح تفسير ما في الآية هنا بما هو أصل معنى العقل عند أهل اللغة: أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المزرية.
ب. ويصحّ أن يكون معنى الآية: أفلا تنظرون بعقولكم التي رزقكم الله إياها حيث لم تنتفعوا بما لديكم من العلم.
7. البرّ: الطاعة والعمل الصالح، والبر: سعة الخير والمعروف، والبر: الصدق، والبر: ولد الثعلب، والبر: سوق الغنم، ومن إطلاقه على الطاعة قول الشاعر:
لا همّ ربّ إن يكونوا دونكا... يبرّك النّاس ويفجرونكا
أي يطيعونك ويعصونك.
8. النسيان بكسر النون هو هنا بمعنى الترك: أي وتتركون أنفسكم، وفي الأصل خلاف الذكر والحفظ: أي زوال الصورة التي كانت محفوظة عن المدركة والحافظة.
9. معنى النفس:
أ. الروح، ومنه قوله تعالى ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ يريد الأرواح، وقال أبو خراش:
نجا سالم والنفس منه بشدقه... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
ب. والنفس أيضا: الدم، ومنه قولهم: سالت نفسه، قال الشاعر:
تسيل على حدّ السّيوف نفوسنا... وليست على غير الظّبات تسيل
ج. والنفس: الجسد، ومنه:
نبّئت أنّ بني سحيم أدخلوا... أبياتهم تامور نفس المنذر
والتامور: البدن.
10. الصبر في اللغة: الحبس، وصبرت نفسي على الشيء: حبستها، ومنه قول عنترة:
فصبرت عارفة لذلك حرّة... ترسو إذا نفس الجبان تطلّع
11. المراد بالصبر هنا:
أ. قيل: استعينوا بحبس أنفسكم عن الشهوات وقصرها على الطاعات على دفع ما يرد عليكم من المكروهات.
ب. وقيل: الصبر هنا هو خاص بالصبر على تكاليف الصلاة، واستدل هذا القائل بقوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ وليس في هذا الصبر الخاص بهذه الآية ما ينفي ما تفيده الألف واللام الداخلة على الصبر من الشمول، كما أن المراد بالصلاة هنا جميع ما تصدق عليه الصلاة الشرعية من غير فرق بين فريضة ونافلة.
12. اختلف المفسرون في رجوع الضمير في قوله: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ :
أ. قيل: إنه راجع إلى الصلاة وإن كان المتقدم هو الصبر والصلاة، فقد يجوز إرجاع الضمير إلى أحد الأمرين المتقدم ذكرهما، كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ إذا كان أحدهما داخلا تحت الآخر بوجه من الوجوه، ومنه قول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر الأس... ود ما لم يعاص كان جنونا
ولم يقل: ما لم يعاصا بل جعل الضمير راجعا إلى الشباب، لأن الشعر الأسود داخل فيه.
ب. وقيل: إنه عائد إلى الصلاة من دون اعتبار دخول الصبر تحتها لأن الصبر هو عليها، كما قيل سابقا.
ج. وقيل: إن الضمير راجع إلى الصلاة وإن كان الصبر مرادا معها، لكن لما كانت آكد وأعم تكليفا وأكثر ثوابا كانت الكناية بالضمير عنها، ومنه قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾
د. وقيل: إن الضمير راجع إلى الأشياء المكنوزة، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ فأرجع الضمير هنا إلى الفضة والتجارة لمّا كانت الفضة أعم نفعا وأكثر وجودا، والتجارة هي الحاملة على الانقضاض، والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأوّل أن الصبر هناك جعل داخلا تحت الصلاة، وهنا لم يكن داخلا وإن كان مرادا.
هـ. وقيل: إن المراد الصبر والصلاة، ولكن أرجع الضمير إلى أحدهما استغناء به عن الآخر، ومنه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ أي ابن مريم آية وأمه آية، ومنه قول الشاعر:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله... فإنّي وقيّار بها لغريب
وقال آخر:
لكلّ همّ من الهموم سعة... والصّبح والمسي لا فلاح معه
و. وقيل: رجع الضمير إليهما بعد تأويلهما بالعبادة.
ز. وقيل: رجع إلى المصدر المفهوم من قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ وهو الاستعانة؛
ح. وقيل: رجع إلى جميع الأمور التي نهي عنها بنو إسرائيل.
13. الكبيرة: التي يكبر أمرها ويتعاظم شأنها على حاملها لما يجده عند تحملها والقيام بها من المشقة، ومنه ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾
14. استثنى سبحانه الخاشعين ـ مع كونهم باعتبار استعمال جوارحهم في الصلاة، وملازمتهم لوظائف الخشوع الذي هو روح الصلاة، وإتعابهم إتعابا عظيما في الأسباب الموجبة للحضور والخضوع ـ لأنهم لما يعلمونه من تضاعف الأجر وتوفر الجزاء والظفر بما وعد الله به من عظيم الثواب، تسهل عليهم تلك المتاعب، ويتذلل لهم ما يرتكبونه من المصاعب، بل يصير ذلك لذة لهم خالصة وراحة عندهم محضة، ولأمر ما هان على قوم ما يلاقونه من حرّ السيوف عند تصادم الصفوف، وكانت الأمنية عندهم طعم المنية حتى قال قائلهم:
ولست أبالي حين أقتل مسلما... على أيّ جنب كان في الله مصرعي
15. معنى قوله: ﴿مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ ملاقو جزائه، والمفاعلة هنا ليست على بابها، ولا أرى في حمله على أصل معناه من دون تقدير المضاف بأسا، وفي هذا مع ما بعده من قوله: ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ إقرار بالبعث وما وعد الله به في اليوم الآخر.
16. اختلف في معنى الظن هنا:
أ. قيل: عند الجمهور بمعنى اليقين، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ وقوله: ﴿فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾، وهو أولى، ومنه قول دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنّوا بألفي مدجّج... سراتهم في الفارسيّ المسرّد
ب. وقيل: إن الظن في الآية على بابه، ويضمر في الكلام بذنوبهم، فكأنهم توقعوا لقاءه مذنبين، ذكره المهدوي والماوردي.
17. أصل الظن: الشك مع الميل إلى أحد الطرفين، وقد يقع موقع اليقين في مواضع، منها هذه الآية.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/92.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾ أي على الوفاء بالعهد ﴿وَالصَّلَاةِ﴾ أي التي سرها خشوع القلب للرب، فإنها من أكبر العون على الثبات في الأمر.
2. أي استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم من طاعتي واتباع أمري وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري واتباع رسولي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصبر عليه والصلاة.
3. الآية متصلة بما قبلها. كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك.
4. ﴿وَإِنَّهَا﴾ الضمير للصلاة، وتخصيصها برد الضمير إليها لعظم شأنها واشتمالها على ضروب من الصبر، وجوّز عود الضمير على الاستعانة بهما.
5. ﴿لَكَبِيرَةً﴾ لشاقة ثقيلة كقوله تعالى: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ [الشورى: 13] ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ .
6. ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ أي محشورون إليه يوم القيامة للجزاء، والظنّ هنا بمعنى اليقين ومثله ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: 20]، قال ابن جرير: العرب قد تسمي اليقين ظنا نظير تسميتهم الظلمة سدفة والضياء سدفة والمغيث صارخا والمستغيث صارخا وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده، والشواهد على ذلك من أشعار العرب أكثر من أن تحصر ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ أي بعد الموت فيجازيهم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/302.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت اليهود تأمر سرًّا من أحبُّوه من أقربائهم ومن حلفائهم من الأوس والخزرج وأصهارهم ومراضعيهم ومَن سَأَلَهم من قريش وغيرهم من العرب باتِّباع محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ويقولون لهم: إنَّه رسول الله وهم لا يؤمنون فنزلت الآية الكريمة.
2. ﴿أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ أنواع الخير والطاعات وترك المحرَّمات والمكاره، والمراد: الإيمان بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ لأنَّه جامع لذلك، وللتوسُّع في الخير مع الله والأقارب والأجانب، كما هو أصل البِرِّ المأخوذ من البَرِّ ـ بالفتح ـ للفضاء الواسع ﴿وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ تتركونها عمدًا من البرِّ فلا تأمرونها به، والاستفهام توبيخ لهم أو إنكار لأن يصحَّ ذلك عقلاً أو شرعًا، ومحطُّه قوله: ﴿وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾.
3. ﴿وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ التوراةَ، وفيها النهي عن مخالفة القول العمل، فإنَّها صورة الجاهل بالشرع والخالي عن العقل إذ كان يعظ ولا يتَّعظ، وليس عدم العمل مسقطًا لفرض الأمر والنهي، فإن لم يعمل ولم يأمر ولم ينه فقد ترك فروضًا، وإن عمل ولم يأمر ولم ينه، أو أمر ونهى وترك العمل فقد ترك بعضها.
4. والنسيان مشترك بين الزوال عن الحافظة والترك عمدًا، وقيل: مجاز في الترك لأنَّه لازم ومسبَّب عن الزوال عنها، ونكتة التعبيرِ به التلويحُ إلى أنَّه لا يليق أن يصدر ذلك إلَّا لزوال عن الحافظة، يطَّلع ناس من أهل الجنَّة على ناس في النار فيقولون لهم: (كنتم تأمروننا بأعمال دخلنا بها الجنَّة) فيقولون: (كنَّا نخالف إلى غيرها).
5. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أي: فألا تعقلون قُبْحَ ذلك!؟ قدِّمت الهمزة على العاطف لتمام صدارتها، أو دخلت على معطوف عليه محذوف، وهكذا في جميع القرآن، أي: أتغفلون فلا تعقلون!.
6. ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ خطاب للمؤمنين لا لليهود؛ لأنَّه يليق بمن أذعن فيستكمل به، لا للشارد، ولا ينتفع الباقي على كفره بالصبر والصلاة، إلَّا أنَّه لا مانع من الخطاب لهم مراعاةً لقوله: ﴿أوْفُوا﴾ و﴿ءَامِنُوا﴾ و﴿اتَّقُونِ﴾ ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا﴾، ولا سيما أنَّ ما قبلُ وما بعدُ فيهم، والمراد: اطلبوا المعونة على عبادتكم ومباحكم.
7. ﴿بِالصَّبْرِ﴾ حبس النفس على الاجتهاد في العبادة، وعمَّا تشتهي من توسيع اللذَّات، وعلى المعاصي والمكاره، وعلى المصيبة، ويقال: من صبر على الطاعة فله ثلاثمائة درجة، أو عن المعصية فستُّمائة درجة، أو على المصيبة فتسعمائة، بين الدرجتين ما بين الأرض والسماء، ويقال: الصبر على الطاعة أعظم ثوابًا من الصبر على المصيبة، وعلى المعصية أعظم منهما، ولفظ ابن أبي الدنيا وأبي الشيخ عن عليٍّ: (الصبر ثلاثة: فصبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية؛ فمن صبر على المصيبة حتَّى يردَّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض؛ ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستَّمائة درجة، ما بين الدرجتين كما بين تخوم الأرض العليا إلى منتهى الأرضين؛ ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة، ما بين الدرجتين كما بين تخوم الأرضين إلى منتهى العرش مرَّتين).
8. ﴿وَالصَّلَاةِ﴾ قدَّم الصبر عليها لأنَّها لا تكون إلَّا بالصبر عن الكسل والملاذ الصارفة عنها وعلى وظائفها من الطهارة من الأنجاس، ورفع الأحداث والخشوع وإحضار القلب وسائر شروطها وشطورها؛ وأفردها بالذكر لأنَّها تنهى عن الفحشاء والمنكر إذا أُتي بها كما أمر به، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا اشتدَّ عليه أمر بادر إليها، والآية أنسب باليهود، فهم داخلون بالمعنى ولو على القول بأنَّ الخطاب لغيرهم؛ لأنَّهم منعهم عن الإيمان حبُّ الرئاسة والشهوات فأُمروا بالصبر، ومنه الصوم، أو المراد به الصوم، وهو ضعيف، وبالصلاة لأنَّها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتورث الخشوع.
9. ﴿وَإِنَّهَا﴾ أي: الصلاة؛ لأنَّها أقرب مذكور، إنَّ الاستعانة بالصبر والصلاة كقوله: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، وقوله تعالى: ﴿وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: 7]، أي: يرضى الشكر، أوْ إنَّ الأمور من قوله: ﴿اذْكُرُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾، والراجح الأوَّل.
10. ﴿لَكَبِيرَةٌ﴾ شاقَّة، كقوله تعالى: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمُ إِلَيْهِ﴾ [الشورى: 13]، أي: شقَّ عليهم، ﴿اِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ الساكِني الجوارح، الحاضِري القلوب، ميلاً إلى الطاعة، فلا تثقل عليهم، وإن ثقُلت فأقلُّ من ثقلها على غيرهم، لاعتيادهم أمثال ذلك، ورجائهم من الثواب ما يستحقر له مشاقَّهم، حتى إنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (جُعِلتْ قرَّةُ عيني في الصلاةِ)، ويقول: (أرِحنَا يا بِلالُ بالصلاة)، وصحَّ التفريغ لأنَّ (كبيرة) بمعنى لا تسهل، كما جاء بعد (أَبَى) بمعنى لم يُرد، أو هو منقطع، أي: لكن الخاشعون لا تكبر عليهم.
11. ﴿الذِينَ يَظُنُّونَ﴾ يعلمون، كما استعمل العلم بمعنى الظنِّ في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُومِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ [الممتحنة: 10].
12. ﴿أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ﴾ ملاقو حسابه بعد البعث أو ثوابه، وذلك حذف، أو ملاقوه بالحساب أو الثواب، فشبَّه المعاملة بالحساب أو الثواب بالحضور، وتعالى الله عن الحلول والجهات.
13. ﴿وَأَنَّهُمُ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ للجزاء، أو هذا مطلق رجوع لمطلق الحساب، وملاقاتهم هي على ثواب الصبر والصلاة فلا تكرير، فالظنُّ على ظاهره إذ لا يجزمون بالسعادة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/96.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. وبخ الله هؤلاء القوم على أنهم كانوا يأمرون الناس بالبر كالأخذ بالحق ومعرفته لأهله، وعمل الخير والوعد عليه بالسعادة مع الغفلة عن أنفسهم وعدم تذكيرها بذلك.
2. ما أجمل التعبير عن هذه الحالة بنسيان الأنفس؛ فان من شأن الانسان أن لا ينسى نفسه من الخير ولا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة، كأنه يقول: إذا كنتم موقنين بوعد الكتاب على البر ووعيده على تركه فكيف نسيتم أنفسكم ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ وتأمرون الناس باتباعه وتعرفون منه مالا يعرفه المأمورون؟ أفيعلمون مع نقص العلم بفائدة العمل، ولا تعملون على كمال العلم وسعته؟
3. لما كان هذا غير معقول قفى على استفهام التوبيخ بقوله ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ يعنى ألا يوجد فيكم عقل يحبسكم عن هذا السفه؟ فان من له مسكة من العقل لا يدعى كمال العلم بالكتاب والايمان اليقيني به والقيام بالإرشاد اليه: هذا كتاب الله، هذه وصايا الله، هذا أمر الله، قد وعد العامل به السعادة في الدنيا أو الآخرة أو كليهما، فخذوا به واستمسكوا بعراه، وحافظوا عليه، ـ ثم هو لا يعمل ولا يستمسك؟
4. مثل من كانت هذه حاله كمثل رجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه الأعلام والصوى بحيث لا يضل سالكه، ثم هو يسلك طريقا آخر مظلما طامس الأعلام وكلما لقى في طريقه شخصا نصح له أن لا يمشى معه، وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه، أو مثل ساغب يدعو الناس إلى المائدة الشهية، ويبيت على الجوع والطوى، أو صاد يدل العطاش على مورد الماء ولا يرد معهم إذا كان هذا لا يقع من صحيح العقل فكذلك أمر المؤمن بشعب الإيمان وعدم الائتمار بها، مع تذكرها وتلاوة كلام الله فيها. فلا بد لتعقل هذا من القول بأن الإيمان بالوعد على البر والوعيد على الفجور غير يقيني عند الآمر المخالف، ويؤيده أن القوم كانوا عقلاء في كسب المال وحفظ الجاه الدنيوي وإنما ضلوا من جهة الدين بأخذه على غير وجهه.
5. الخطاب عام لليهود الذين كان هذا حالهم وعبرة لغيرهم لأنه منبئ عن حال طبيعية للأمم في مثل ذلك الطور الذي كانوا فيه، ولذلك كان القرآن هداية للعالمين إلى يوم الدين، لا حكاية تاريخ يقصد بها هجاء الاسرائيليين، فلتحاسب أمة نفسها في أفرادها ومجموعها لئلا يكون حالها كحال من ورد النص فيهم فيكون حكمها عند الله كحكمهم، لأن الجزاء على أعمال القلوب والجوارح، لا لمحاباة الأشخاص والأقوام أو معاداتهم.
6. سؤال وإشكال: إن من يأمر غيره بالبر وينسى نفسه قد يكون متكلا في ترك العمل على الشفاعات والمكفرات، كالأذكار والصدقات، لا أنه يترك لعدم اليقين في الإيمان؛ وإذا أمر غيره بالبر مع هذا فذاك لأنه يلاحظ المكفرات في شأن نفسه ولا يلاحظها في شأن غيره، والجواب:
أ. إن العالم بالدين لا يخفى عليه أن حكم الله تعالى واحد عام، فكيف يحتم البر على غيره ويوهمه أنه لا يقربه من رضوان الله ويبعده من سخطه إلا هو، وينسى نفسه فلا يحتم عليها ذلك؟
ب. ثم كيف يجعل أن الشفاعات والأعمال الصالحة التي ورد أنها تكفر السيئات لا يصح أن تكون مثبطة عن عمل البر أو سببا لتركه لأنه خلاف المقصود من الدين؟
ج. فهل يكون فرع من فروع الدين هادما لأصوله وسائر فروعه؟
كل ذلك كان ينبغي أن يكون بعيدا عن العالم بالدين الذي يتلو كتاب الله تعالى.
7. هذا الضرب من الخذلان يعرض لأرباب الأديان عند فساد حال الأمم، فنبه الله تعالى عليه بهذا التعبير اللطيف وهو نسيان النفس مع تلاوة الكتاب، فكأن الزاعم أنه مؤمن ولا يعمل عمل الإيمان، نسى أنه هو الذي يزعم الإيمان، وصاحب هذا النسيان يمضى في العمل القبيح من غير فكر ولا روية بل انبعاثا مع الحظوظ والشهوات التي حكمها في نفسه، وملكها زمام عقله وحسه، ولكنه لا يلاحظها في غيره عندما يعرض عليه عمله السيء أو يراه معرضا عن عمل البر ولذلك يعظه ويذمه بعد ما بين سوء حالهم وأن عقلهم لم ينفعهم والكتاب لم يذكرهم، أرشدهم إلى الطريقة المثلى للانتفاع بالكتاب والعقل والعمل بالعلم النافع فان العمل السيء الذي سببه نسيان النفس ليس طبيعيا كالنفس لا يمكن دفعه ومقاومته بل هو اختياري وسببه عارض تمكن إزالته بما أرشد الله إليه.
8. أمر الله تعالى بالصبر وهو احتمال المكروه بنوع من الرضى والاختيار والتسليم، لأنه لو لم يكن كذلك لكان كما يقول الشاعر:
صبرت ولا والله مالي طاقة... على الصبر، لكنى صبرت على الرغم
9. الصبر الحقيقي المبنى على التسليم يحصل بتذكر وعد الله تعالى بالجزاء الحسن للصابرين على أعمال البر التي تشق على النفس، وعن الشهوات المحرمة التي تصبو إليها، وبتذكر أن المصائب من فعل الله وتصرفه في خلقه فيجب الخضوع له والتسليم لأمره، ومن عجيب أمر هذا الصبر: أنه يقي الانسان من الخسران متى حسن في كل شيء كما تفيده سورة (العصر) ويؤيده الاختبار، وقد اشتهر أن (من صبر ظفر)، وهو قوة من قوى النفس تدخل النظام في كل عمل من أعمالها.
10. الاستعانة بالصبر تكون بالالتفات إلى الاسباب التي تأفك الناس وتصرفهم عن صراط الشريعة كاتباع الشهوات، والولوع باللذات، والبعد عن المؤلمات، ثم بالقياس بينها وبين ما رغب الله فيه، أو أوعد بالعقاب على فعله، ثم بملاحظة أن ما أوعد الله تعالى به أولى بأن يتقى، وما وعد به أولى بأن يرجى ويطلب.
11. أما الاستعانة بالصلاة فهي أقرب إلى حصول المأمول وإرجاع النفس إلى الله تعالى لما لها من التأثير في الروح، ولكنها أشق على النفس الأمارة بالسوء.
12. ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ أي لثقيلة شديدة الوقع كقوله: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ إلا على المخبتين المتطامتة قلوبهم وجوارحهم لله تعالى، فهؤلاء هم الذين يستفيدون بالصلاة الصبر وكل الخلائق الحسنة لما تعطيه الصلاة من مراقبة الله تعالى، كما قال عز وجل ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
13. من خواص الصلاة الصبر ونفى الجزع، ومن خواصها النهى عن الفحشاء والمنكر، ومن خواصها الجود والسخاء ـ فالمصلى الحقيقي هو البار الحقيقي الذي لا يترك الحق لأجل شهوة، ولا لما يعرض له في معاملاته مع الخلق من خوف وخشية. هذا أثر صلاة الخاشعين بالإجمال، ولذلك قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾
14. ثم وصف الخاشعين وصفا يناسب المقام، ويظهر وجه الاستعانة به فقال: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ أي الذين يتوقعون لقاء الله تعالى يوم الحساب والجزاء وأنهم اليه راجعون بعد البعث لا مرجع لهم إلى غيره.
15. الإيمان بلقاء الله تعالى هو الذي يوقف المعتقد عند حدوده، ولو لم يكن الاعتقاد يقينيا، فان الذي يغلب على ظنه أن هذا الشيء ضار يجتنبه أو أنه نافع يطلبه، ولذلك اكتفى هنا بذكر الظن، وقد فُسر الظن باليقين لأنه الاعتقاد المنجى في الآخرة، لكن الاكتفاء هنا بالظن أبلغ في التقريع والتوبيخ كأن هؤلاء الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يقرؤون الكتاب لا يصل إيمانهم بالله وبكتابه إلى درجة الظن الذي يأخذ صاحبه بالاحتياط، بل هو تقليد عادى محض كالعادات القومية والوطنية فهو لا ينجى صاحبه في الآخرة.
__________
(1) تفسير المنار: 1/297.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ الخطاب موجه إلى حملة الكتاب من الأحبار والرهبان، فقد روى عن ابن عباس أن الآية نزلت في أحبار المدينة، كانوا يأمرون من نصحوه سرّا بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا يؤمنون به، وقال السّدى: إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وينهونهم عن معصيته وهم يفعلون ما ينهون عنه.
2. المراد من النسيان هنا الترك، لأن من شأن الإنسان ألا ينسى نفسه من الخير ولا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة، وعبر به عنه للمبالغة في عدم المبالاة والغفلة عما ينبغي أن يفعله، أي إذا كنتم موقنين بوعد الكتاب على البرّ ووعيده على تركه فكيف نسيتم أنفسكم؟
3. لا يخفى ما في هذا الأسلوب من التوبيخ والتأنيب الذي ليس بعده زيادة لمستزيد، فإن الآمر بما لا يأتمر به تكون الحجة عليه قائمة بلسانه.
4. ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ فتعرفون منه ما لا يعرفه من تأمرونهم باتباعه، والفرق عظيم بين من يفعل وينقصه العلم بفوائد ما يفعل، ومن يترك وهو عليم بمزايا ما يترك.
5. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أي أفلا عقل لكم يحبسكم عن هذا السفه، ويحذركم وخامة عاقبته، فإن من عنده أدنى مسكة من العقل لا يدّعى كمال العلم بالكتاب، ويقوم بالإرشاد إلى هديه، ويبين للناس سبيل السعادة باتباعه، ثم هو بعد لا يعمل به ولا يستمسك بأوامره ونواهيه.
6. هذا الخطاب وإن كان موجها إلى اليهود فهو عبرة لغيرهم، فلتنظر كل أمة أفرادا وجماعات في أحوالها، ثم لتحذر أن يكون حالها كحال أولئك القوم فيكون حكمها عند الله حكمهم، فالجزاء إنما هو على أعمال القلوب والجوارح لا على صنف خاص من الشعوب والأفراد.
7. بعد أن بين سبحانه سوء حالهم وذكر أن العقل لم ينفعهم والكتاب لم يذكّرهم، أرشدهم إلى الطريق المثلى، وهى الاستعانة بالصبر والصلاة فقال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾
8. الصبر الحقيقي إنما يكون بتذكر وعد الله بحسن الجزاء لمن صبر عن الشهوات المحرمة التي تميل إليها النفس، وعمل أنواع الطاعات التي تشقّ عليها، والتفكر في أن المصائب بقضاء الله وقدره، فيجب الخضوع له والتسليم لأمره.
9. الاستعانة به تكون باتباع الأوامر واجتناب النواهي بقمع النفس عن شهواتها وحرمانها لذاتها، وتكون بالصلاة لما فيها من النهى عن الفحشاء والمنكر، ولما فيها من مراقبة الله في السر والنجوى، وناهيك بعبادة يناجى فيها العبد ربه في اليوم خمس مرات، وقد روى أحمد أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وروى أن ابن عباس نعيت له بنت وهو في سفر فاسترجع ثم تنحى عن الطريق وصلّى ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: واستعينوا بالصبر والصلاة)
10. ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ أي وإن الصلاة لشاقة صعبة الاحتمال إلا على المخبتين لله الخائفين من شديد عقابه، وإنما لم تثقل على هؤلاء، لأنهم مستغرقون في مناجاة ربهم فلا يشعرون بشيء من المتاعب والمشاق، ومن ثم قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: وقرّة عيني في الصلاة)، لأن اشتغاله بها كان راحة له، وكان غيرها من أعمال الدنيا تعبا له ولأنهم مترقبون ما ادّخروا من الثواب فتهون عليهم المشاقّ، ومن ثم قيل للربيع ابن خيثم وقد أطال صلاته: أتعبت نفسك، قال راحتها أطلب؛ وقيل: من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية.
11. ثم وصف الخاشعين بأوصاف تقربهم إلى ربهم وتدعوهم للإخبات إليه. فقال: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ أي لا تثقل الصلاة على الخاشعين الذين يتوقعون لقاء ربهم يوم الحساب والجزاء، وأنهم راجعون إليه بعد البعث فيجازيهم بما قدموا من صالح العمل.
12. عبر بالظن للإشارة إلى أن من ظن اللقاء لا تشق عليه الصلاة، فما ظنك بمن يتيقنه، ومن ثم كان الاكتفاء بالظن أبلغ في التقريع والتوبيخ، فكأن هؤلاء الذين يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم لم يصل إيمانهم بكتابهم إلى درجة الظن الذي يأخذ صاحبه بالأحوط في أعماله.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/106.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ينكر الله تعالى عليهم ـ وبخاصة أحبارهم ـ أن يكونوا من الدعاة إلى الإيمان بحكم أنهم أهل كتاب بين مشركين، وهم في الوقت ذاته يصدون قومهم عن الإيمان بدين الله، المصدق لدينهم القديم: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ .
2. مع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل، فإنه في إيحائه للنفس البشرية، ولرجال الدين بصفة خاصة، دائم لا يخص قوما دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل.
3. إن آفة رجال الدين ـ حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة ـ أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؛ يأمرون بالخير ولا يفعلونه؛ ويدعون إلى البر ويهملونه؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه؛ ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود!
4. الدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها، وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولا جميلا، ويشهدون فعلا قبيحا؛ فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل؛ وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة؛ وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان؛ ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين.
5. إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيما واقعيا لما ينطق.. عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق.. إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها؛ وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها.. إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة.
6. المطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسلوك، ليست مع هذا أمرا هينا، ولا طريقا معبدا إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة، وإلى صلة بالله، واستمداد منه، واستعانة بهديه؛ فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره، أو عما يدعو إليه غيره.
7. الفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه؛ وقد يغالبها مرة ومرة ومرة؛ ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله؛ فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي، أقوى من كل قوي. قوي على شهوته وضعفه. قوي على ضروراته واضطراراته. قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه.
8. من ثم يوجه القرآن اليهود الذين كان يواجههم أولا، ويوجه الناس كلهم ضمنا، إلى الاستعانة بالصبر والاستعانة بالصلاة.: وفي حالة اليهود كان مطلوبا منهم أن يؤثروا الحق الذي يعلمونه على المركز الخاص الذي يتمتعون به في المدينة، وعلى الثمن القليل ـ سواء كان ثمن الخدمات الدينية أو هو الدنيا كلها ـ وأن يدخلوا في موكب الإيمان وهم يدعون الناس إلى الإيمان! وكان هذا كله يقتضي قوة وشجاعة وتجردا.
9. الاستعانة بالصبر تتكرر كثيرا؛ فهو الزاد الذي لا بد منه لمواجهة كل مشقة، وأول المشقات مشقة النزول عن القيادة والرئاسة والنفع والكسب احتراما للحق وإيثارا له، واعترافا بالحقيقة وخضوعا لها.
10. الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب.. صلة يستمد منها القلب قوة، وتحس فيها الروح صلة؛ وتجد فيها النفس زادا أنفس من أعراض الحياة الدنيا.. ولقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة، وهو الوثيق الصلة بربه الموصول الروح بالوحي والإلهام.. وما يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زادا للطريق، وريّا في الهجير، ومددا حين ينقطع المدد، ورصيدا حين ينفد الرصيد.
11. استعمال ظن ومشتقاتها في معنى اليقين كثير في القرآن وفي لغة العرب عامة، واليقين بالرجعة إليه وحده في كل الأمور.. هو مناط الصبر والاحتمال؛ وهو مناط التقوى والحساسية، كما أنه مناط الوزن الصحيح للقيم: قيم الدنيا وقيم الآخرة، ومتى استقام الميزان في هذه القيم بدت الدنيا كلها ثمنا قليلا، وعرضا هزيلا؛ وبدت الآخرة على حقيقتها، التي لا يتردد عاقل في اختيارها وإيثارها.
12. يجد المتدبر للقرآن في التوجيه الذي قصد به بنو إسرائيل أول مرة، توجيها دائما مستمر الإيحاء للجميع.
13. الغالب أن الضمير في إنها ضمير الشأن، أي إن هذه الدعوة إلى الاعتراف بالحق في وجه هذه العوامل كبيرة وصعبة وشاقة، إلا على الخاشعين الخاضعين لله، الشاعرين بخشيته وتقواه، الواثقين بلقائه والرجعة إليه عن يقين.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/69.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الخطاب هنا خاص لبنى إسرائيل، ولا تمنع خصوصيته من عموميته، وبهذا يكون الخطاب لكل من يحسن القول، ولا يحسن العمل، ويندب الناس إلى الخير، ويأمرهم به، ولا ينظر إلى نفسه، ولا يحملها على أخذ حظها من هذا الخير الذي يدعو إليه.. وفى ذلك ظلم للنفس، وخسران مبين.
2. ذمّ الله سبحانه من يسلك هذا المسلك المتناقض، من الناس، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، والقول المراد هنا هو ما كان على طريق الحق والخير، أما ما كان على غير هذا الطريق فالنكول عنه هو الخير والبر.
3. هذه دعوة إلى المؤمنين، الذين استجابوا الله والرسول، من أهل الكتاب وغيرهم ـ أن يستعينوا على التزام الصراط المستقيم بالصبر والصلاة، إذ أن هذين الأمرين ـ الصبر والصلاة ـ يمدّان المؤمن بالقوة التي تعينه على احتمال تكاليف العبادة، ومشقة الجهاد ومدافعة شهوات النفس وأهوائها.
4. قدّم الصبر على الصلاة، لأنه مطلوبها الذي يعين عليها، وعلى أدائها في أوقاتها.. وفى هذا يقول الله تعالى مخاطبا النبي الكريم: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾
5. خصّت الصلاة وحدها هنا بالذكر، من بين العبادات، لأنها رأس العبادات جميعها، وملاك الطاعات كلها، فمن أداها كاملة، في جلالها وخشوعها، سلكت به مسالك الخير والهدى، وحادت به عن طرق الضلال والآثام، إذ يقول الحق سبحانه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾
6. الضمير في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ يعود على الصلاة، وإنها لكبيرة ـ أي ثقيلة ـ إلا على ذوى القلوب المتفتحة للخير، المتقبلة له، أما ذوو القلوب القاسية المتحجرة، التي لا تنضح بخير، فأمرها ثقيل عليهم، لا يأتونها ـ إن أتوها ـ إلا في تكاسل، وفتور، أو في تكرّه وتبرّم!
7. الذي يفيض على القلب الخشية والخشوع، هو الإيمان بالله، وبلقاء الله يوم الجزاء في الآخرة، فذلك هو الذي يثبّت خطو المؤمن على طريق الإيمان، ويعينه على أداء الطاعات والعبادات!
8. في التعبير بالظن هنا: ﴿ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ﴾ إشارة دقيقة إلى أن الإيمان بالبعث وبلقاء الله إنما هو إيمان بالغيب، لا يستند إلى مدرك حسّىّ، ومن ثمّ كان الإيمان به واقعا في دائرة الظن المستيقن، أو اليقين المحفوف بالظن ـ ذلك هو أول درجات الإيمان ـ فإذا ما درج المؤمن في طريق الإيمان، مستعينا بالصبر والصلاة اطمأن قلبه، وجلت عنه وساوس الظنون، كما يقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
9. العطف بالواو بين الإيمان بالله واطمئنان القلوب، يبدو هنا وكأنه عطف بثمّ، كما يبدو ذلك من نظم الآية، ومن النّبرة الموسيقية لواو العطف بعد الواو في الفعل ﴿آمَنُوا﴾ .. حيث يقوم فاصل زمنى بين النطق بواو العطف، والتاء في الفعل ﴿تَطْمَئِنُّ﴾ .. هكذا: ﴿ آمَنُوا وَ.. تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/80.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في المخاطب بقوله: ﴿أَتَأْمُرُونَ﴾ :
أ. قيل: جميع بني إسرائيل الذين خوطبوا من قبل، فيقتضي أن هذه الحالة ثابتة لجميعهم أي أن كل واحد منهم تجده يصرح بأوامر دينهم ويشيعها بين الناس ولا يمتثلها هو في نفسه، وعلى هذا الوجه يكون المراد بالناس:
• إما المشركين من العرب، فإن اليهود كانوا يذكرون لهم ما جاء به دينهم، والعرب كانوا يحفلون بسماع أقوالهم، كما قال تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: 89]
• وإما أن يكون المراد من (الناس) من عدا الآمر كما تقول أفعل كما يفعل الناس، وكقوله: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران: 173] أي أيأمر الواحد غيره وينسى نفسه.
ب. وقيل: المقصود بهذا الخطاب فريقا منهم، فإن الخطاب الموجه للجماعات والقبائل يأخذ كل فريق ما هو حظه من ذلك الخطاب، فيكون المقصود أحبارهم وعلماءهم وهم أخص بالأمر بالبر، وعلى هذا الوجه يكون المراد بالناس: العامة من أمة اليهود أي كيف تأمرون أتباعكم وعامتكم بالبر وتنسون أنفسكم؟ ففيه تنديد بحال أحبارهم أو تعريض بأنهم يعلمون أن ما جاء به رسول الإسلام هو الحق فهم يأمرون أتباعهم بالمواعظ ولا يطلبون نجاة أنفسهم.
2. الاستفهام هنا للتوبيخ لعدم استقامة الحمل على الاستفهام الحقيقي، فاستعمل في التوبيخ مجازا بقرينة المقام، وهو مجاز مرسل، لأن التوبيخ يلازم الاستفهام، لأن من يأتي ما يستحق التوبيخ عليه من شأنه أن يتساءل الناس عن ثبوت الفعل له، ويتوجهون إليه بالسؤال، فينتقل من السؤال إلى التوبيخ، ويتولد منه معنى التعجيب من حال الموبخ، وذلك لأن الحالة التي وبخوا عليها حالة عجيبة لما فيها من إرادة الخير للغير وإهمال النفس منه، فحقيق بكل سامع أن يعجب منها.
3. ليس التعجب بلازم لمعنى التوبيخ في كل موضع، بل في نحو هذا مما كان فيه الموبخ عليه غريبا غير مألوف من العقلاء، فإذا استعمل الاستفهام في لازم واحد فكونه مجازا مرسلا ظاهر، وإذا استعمل في لازمين يتولد أحدهما من الآخر أو متقاربين فهو أيضا مجاز مرسل واحد لأن تعدد اللوازم لا يوجب تعدد العلاقة، ولا تكرر الاستعمال لأن المعاني المجازية مستفادة من العلاقة لا من الوضع فتعدد المجازات للفظ واحد أوسع من استعمال المشترك وأيّا ما كان فهو مجاز مرسل.
4. النسيان ذهاب الأمر المعلوم من حافظة الإنسان لضعف الذهن أو الغفلة ويرادفه السهو وقيل: السهو الغفلة اليسيرة بحيث يتنبه بأقل تنبيه، والنسيان زواله بالكلية وبعض أهل اللغة فسر النسيان بمطلق الترك وجعله صاحب (الأساس) مجازا، وهو التحقيق وهو كثير في القرآن.
5. النسيان هنا مستعار للترك عن عمد أو عن التهاون بما يذكر المرء في البر على نحو ما. قيل في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 5] أي وتتركون أنفسكم من ذلك أي من أمرها بالبر أو وتنسون أن تأمروا أنفسكم بالبر، وفي هذا التقدير يبقى النسيان على حقيقته لأنهم لما طال عليهم الأمد في التهاون بالتخلق بأمور الدين والاجتراء على تأويل الوحي بما يمليه عليهم الهوى بغير هدى صاروا ينسون أنهم متلبسون بمثل ما ينهون عنه، فإذا تصدوا إلى مواعظ قومهم أو الخطابة فيهم أو أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر كانوا ينهونهم عن مذام قد تلبسوا بأمثالها إلا أن التعود بها أنساهم إياها فأنساهم أمر أنفسهم بالبر لنسيان سببه، وقد يرى الإنسان عيب غيره لأنه يشاهده ولا يرى عيب نفسه لأنه لا يشاهدها، ولأن العادة تنسيه حاله، ودواء هذا النسيان هو محاسبة النفس، فيكون البر راجعا إلى جميع ما تضمنته الأوامر السابقة من التفاصيل فهم قد أمروا غيرهم بتفاصيلها ونسوا أنفسهم عند سماعها وذلك يشمل التصديق بدين الإسلام لأنه من جملة ما تضمنته التوراة التي كانوا يأمرون الناس بما فيها.
6. جملة: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ :
أ. يجوز أن تكون حالا من ضمير ﴿تَأْمُرُونَ﴾ أو يكون محل التوبيخ والتعجب هو أمر الناس بالبر بقيد كونه في حال نسيان.
ب. ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على ﴿تَأْمُرُونَ﴾ وتكون هي المقصودة من التوبيخ والتعجيب ويجعل قوله: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ﴾ تمهيدا لها على معنى أن محل الفظاعة الموجبة للنهي هي مجموع الأمرين، ولا يتوهم قصد النهي عن مضمون كلا الجملتين، إذ القصد هو التوبيخ على اتصاف بحالة فظيعة ليست من شيم الناصحين لا قصد تحريم فلا تقع في حيرة من تحير في وجه النهي عن ذلك ولا في وهم من وهم فقال: إن الآية دالة على أن العاصي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر كما نقل عنهم الفخر في (التفسير) فإنه ليس المقصود نهي ولا تحريم وإنما المقصود تفظيع الحالة، ويدل لذلك أنه قال في تذييلها ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ ولم يقل أفلا تتقون أو نحوه.
7. قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ جملة حالية قيد بها التوبيخ والتعجيب لأن نسيان أنفسهم يكون أغرب وأفظع إذا كان معهم أمران يقلعانه، وهما أمر الناس بالبر، فإن شأن الأمر بالبر أن يذكر الآمر حاجة نفسه إليه إذا قدر أنه في غفلة عن نفسه، وتلاوة الكتاب أي التوراة يمرون فيها على الأوامر والنواهي من شأنه أن تذكرهم مخالفة حالهم لما يتلونه.
8. قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ استفهام عن انتفاء تعقلهم استفهاما مستعملا في الإنكار والتوبيخ نزلوا منزلة من انتفى تعقله فأنكر عليهم ذلك، ووجه المشابهة بين حالهم وحال من لا يعقلون أن من يستمر به التغفل عن نفسه وإهمال التفكر في صلاحها مع مصاحبة شيئين يذكرانه، قارب أن يكون منفيا عنه التعقل.
9. فعل ﴿تَعْقِلُونَ﴾ منزل منزلة اللازم أو هو لازم، وفي هذا نداء على كمال غفلتهم واضطراب حالهم، وكون هذا أمرا قبيحا فظيعا من أحوال البشر مما لا يشك فيه عاقل.
10. البر: بكسر الباء، الخير في الأعمال في أمور الدنيا وأمور الآخرة والمعاملة، وفعله في الغالب من باب علم إلا البر في اليمن، فقد جاء من باب علم وباب ضرب، ومن الأقوال المأثورة البر ثلاثة: بر في عبادة الله وبر في مراعاة الأقارب وبر في معاملة الأجانب، وذلك تبع للوفاء بسعة الإحسان في حقوق هذه الجوانب الثلاثة.
11. الأنفس: جمع نفس ـ بسكون الفاء ـ وهي تطلق على:
أ. مجموع ذات الإنسان من الهيكل والروح كما هنا وباعتبار هذا التركيب الذي في الذات اتسع إطلاق النفس في كلام العرب تارة على جميع الذات كما في التوكيد نحو جاء فلان نفسه وقوله: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45] وقوله: ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 85]
ب. البعض كقول القائل أنكرت نفسي وقوله: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾
ج. الإحساس الباطني كقوله: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ [المائدة: 116] أي ضميري.
د. الروح الذي به الإدراك: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: 53]
12. ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ خطاب لبني إسرائيل بالإرشاد إلى ما يعينهم على التخلق بجميع ما عدد لهم من الأوامر والنواهي الراجعة إلى التحلي بالمحامد والتخلي عن المذمات.
13. لهذا الخطاب أحسن وقع من البلاغة، فإنهم لما خوطبوا بالترغيب والترهيب والتنزيه والتشويه ظن بهم أنهم لم يبق في نفوسهم مسلك للشيطان ولا مجال للخذلان وأنهم أنشئوا يتحفزون للامتثال والائتساء، إلا أن ذلك الإلف القديم يثقل أرجلهم في الخطو إلى هذا الطريق القويم، فوصف لهم الدواء الذي به الصلاح وريش بقادمتي الصبر والصلاة منهم الجناح.
14. الأمر بالاستعانة بالصبر لأن الصبر ملاك الهدى، فإن مما يصد الأمم عن اتباع دين قويم إلفهم بأحوالهم القديمة وضعف النفوس عن تحمل مفارقتها فإذا تدرعوا بالصبر سهل عليهم اتباع الحق، وأما الاستعانة بالصلاة فالمراد تأكد الأمر بها الذي في قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43] وهذا إظهار لحسن الظن بهم وهو طريق بديع من طرق الترغيب.
15. من المفسرين من زعم أن الخطاب في قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ للمسلمين على وجه الانتقال من خطاب إلى خطاب آخر، وهذا وهم لأن وجود حرف العطف ينادي على خلاف ذلك، ولأن قوله: ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ مراد به إلا على المؤمنين حسبما بينه قوله: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ الآية اللهم إلا أن يكون من الإظهار في مقام الإضمار وهو خلاف الظاهر مع عدم وجود الداعي، والذي غرهم بهذا التفسير توهم أنه لا يؤمر بأن يستعين بالصلاة من لم يكن قد آمن بعد وأي عجب في هذا؟ وقريب منه آنفا قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43] خطابا لبني إسرائيل لا محالة.
16. اختلف المفسرون في معاد ضمير ﴿إِنَّهَا﴾ :
أ. قيل: عائد إلى الصلاة، والمعنى إن الصلاة تصعب على النفوس لأنها سجن للنفس.
ب. وقيل: الضمير للاستعانة بالصبر والصلاة المأخوذة من ﴿اسْتَعِينُوا﴾ على حد ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]
ج. وقيل: راجع إلى المأمورات المتقدمة من قوله تعالى: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: 40] إلى قوله ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 45] وهذا الأخير مما جوزه صاحب (الكشاف) ولعله من مبتكراته وهذا أوضح الأقوال وأجمعها والمحامل مرادة.
17. المراد بالكبيرة هنا: الصعبة التي تشتق على النفوس، وإطلاق الكبر على الأمر الصعب والشاق مجاز مشهور في كلام العرب لأن المشقة من لوازم الأمر الكبير في حمله أو تحصيله قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ [البقرة: 143] وقال: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ [الأنعام: 35] الآية، وقال: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ [الشورى: 13]
18. قوله: ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ أي الذين اتصفوا بالخشوع، والخشوع لغة هو الانزواء والانخفاض قال النابغة: ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع.. أي زال ارتفاع جوانبه، والتذلل خشوع، قال جعفر بن عبلة الحارثي:
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم... لشيء ولا أني من الموت أفرق
وهو مجاز في خشوع النفس، وهو سكون وانقباض عن التوجه إلى الإباية أو العصيان.
19. وصف تعالى الخاشعين بأنهم الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون، وهي صلة لها مزيد اتصال بمعنى الخشوع، ففيها معنى التفسير للخاشعين، ومعنى بيان منشأ خشوعهم، فدل على أن المراد من الظن هنا الاعتقاد الجازم.
20. إطلاق الظن في كلام العرب على معنى اليقين كثير جدا، قال أوس بن حجر يصف صيادا رمى حمار وحش بسهم:
فأرسله مستيقن الظن أنه... مخالط ما بين الشراسيف جائف
وقال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنّوا بألفي مدجّج... سراتهم بالفارسي المسرج
فهو مشترك بين الاعتقاد الجازم وبين الاعتقاد الراجح.
21. الملاقاة والرجوع هنا مجازان عن الحساب والحشر أو عن الرؤية والثواب؛ لأن حقيقة اللقاء ـ وهو تقارب الجسمين، وحقيقة الرجوع وهو الانتهاء إلى مكان خرج منه المنتهى ـ مستحيلة هنا.
22. المقصود من قوله: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ التعريض بالثناء على المسلمين، وتحريض بني إسرائيل على التهمم بالاقتداء بالمؤمنين وعلى جعل الخطاب في قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ للمسلمين يكون قوله: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ تعريضا بغيرهم من اليهود والمنافقين.
23. الملاقاة مفاعلة من لقي، واللقاء الحضور كما في قوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: 37] والمراد هنا الحضور بين يدي الله للحساب أي الذين يؤمنون بالبعث، كما في قوله تعالى ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ [البقرة: 223] وقوله: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/459.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا خطاب لبنى إسرائيل في أمر يفعله علماؤهم، ويرضى به سائرهم، فيلامون جميعا عليه، وهو خطة يسير عليها أسلافهم، ويرضى عنها أخلافهم، فصح أن يخاطب بها جميعهم، إذ هو عيب فيهم سلفا وخلفا، وهو عيب الناس إذا ضعف وازع الدين، وغلب عليهم حب الدنيا، وهو أن يأمروا الناس بالحقائق الدينية، ويدعونهم إليها، ولا يأخذون بهديها، وتلك إحدى صفات النفاق، وهى شأن الذين يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون ما أنزل الله تعالى، فيكون قولهم مخالفا لفعلهم ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾
2. كان أحبار اليهود في كل أدوارهم عندما صار التدين شكلا لا روح فيه، ومظهرا لا حقيقة له كانوا يذكرون للناس حقائق دينية، لا يعملون بها، ويعلنون أمورا في نجواهم ينكرونها في جهرهم، فكانوا يقررون أن أوصاف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتبهم، وينكرونها أمام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه لكيلا يحاجوهم بها عند ربهم، وكأنه سبحانه وتعالى لا يعلم خفى أمرهم.. ولذا خاطبهم الله سبحانه وتعالى مستنكرا تلك الحال فيهم؛ لأن من فعلها منهم لم ينكرها سائرهم.
3. الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، أي أنه كان منهم، ويستنكره الله تعالى عليهم، وإنكار الواقع توبيخ، وبيان أنه لا يصح، ولا ينبغي أن يكون.
4. البر هو الخير، وهو ضد الإثم، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عرف الإثم بأنه (ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس.
5. النص استنكار لحالهم من أنهم يأمرون الناس بالخير، وينسون أنفسهم، أي يتركونها من غير توجيه إليه، ويكونون بمنزلة من ينسونها، ولا يفكرون في أمرها، مع أن دواعي التذكير والتفكر في ذات أنفسهم قائمة لأنهم يتلون الكتاب؛ ولذلك قال تعالى في هذا النص السامي: ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ أي وأنتم تجددون تلاوته آنا بعد آن، فالاستنكار للحال التي يجتمع فيها الأمر بالخير والحث عليه مع ترك أنفسهم لا تفعلها، وكأنهم نسوها ولم يذكروها، والمذكر دائم مستمر.
6. ليس الاستنكار للبر مجردا عما لابسه من حالهم، لأن الأمر بالبر في ذاته ليس بمستنكر، ولا يمكن أن يكون مستنكرا؛ لأنه دعوة إلى الحق، ولا تنكر الدعوة إلى الحق في ذاتها.
7. إن حالهم من دعوة إلى الحق مع نسيان أنفسهم، وتركه مع استمرار التذكير به، وكان ينبغي مع التذكير التذكر ـ لا يغفله الذين يفكرون ويعملون عقولهم؛ ولذا قال سبحانه: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ :
أ. والاستفهام هنا للتنبيه إلى مناقضة حالهم للعقل المدرك.
ب. والعقل: مصدر عقل بمعنى منع، ثم أطلق على ما يكون به الإدراك السليم لأنه يمنعه من القبيح، ويعقله ويقصره على الجميل.
ج. ومعنى الاستفهام، أن حالهم هي حال من لا عقل له ولا إدراك.
د. و(ألا) هنا للاستفهام والتنبيه إلى نفى ما وراءه.
هـ. والفاء فاء السببية أي بسبب هذه الحال يحكم عليهم بأنهم لا يعقلون.
و. وأخرت الفاء عن الهمزة لأن الاستفهام له الصدارة، فهي مؤخرة عن تقديم.
8. كيف تربى النفس على أن تكون متعظة قبل أن تعظ؟ ذكر الله سبحانه وتعالى الدواء؛ وهو الصبر، والصلاة، فقال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾
9. الاستعانة طلب العون، والمساعدة، وفى استعمال القرآن أنها إذا كانت للمعين تعدت بغير باء، كقوله تعالى: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وفى الدعاء (اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك)، وإذا كانت الاستعانة بما تكون به الإعانة كانت بالباء، فيقال نستعين بكذا لفعل كذا، وهكذا نجد بالاستقراء استعمال القرآن.
10. هنا الاستعانة بشيء ولذا تعدت بالباء فقال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ أي استعينوا على تربية نفوسكم لتكون متعظة فاعلة الخير، آمرة به ولا يتجافى فعلها عن قولها. ﴿بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾
11. الصبر ضبط النفس وسيطرة الإرادة، على الهوى، وسيطرة العقل على الشهوة، فإنه إذا سيطرت الإرادة والعقل والفكر المستقيم انقمعت الشهوات، وإذا انقمعت استقامت النفس، وكان التنسيق بين القول والعمل، وقذف الله في القلب بنور الحكمة، والقول الطيب، والعمل، وكل ما في الحياة يحتاج إلى الصبر، فالجهاد قوته في الصبر، وكما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، ونقص الأموال والأنفس والثمرات إنما يكون بالصبر. كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة]
12. أما الصلاة فإنها بما اشتملت عليه من ركوع وسجود وقراءة، وخشوع، واستحضار لعظمة الله تعالى وإحساس بأنه في حضرته وواقف بين يديه سبحانه وتعالى تنفعل نفسه في وجودها بحضرته، بأوامره، ونواهيه، وطلب مرضاته، ولقد قال تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ ولقد كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم (إذا حزبه أمر صلى) وكان يأمر بالصلاة، من كان به وجع ليصبر وينسى ألمه، فيقول صلّى الله عليه وآله وسلّم: قم فصل فإن الصلاة شفاء) لأنه يكون في مناجاة بينه وبين ربه، فينسى الدنيا وما فيها ينسى ألمه ووجعه، وهمومه.
13. الضمير في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا﴾ قيل إنه يعود إلى الضمير المنسبك من ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾، لأن الصبر والصلاة الحقيقية أمران كبيران خطيران عظيمان يسيران بالنفس في مدارج الكمال النفسي والروحاني، فيكون الانسجام بين القول والعمل، ولكن قد يقال إن المصدر غير موجود، والضمير يعود إلى أقرب مذكور، فعوده إلى الصلاة أقرب وأظهر، ولذلك قال الأكثرون إنه يعود إلى الصلاة.
14. لا شك أن الصلاة إذا أديت على وجهها باستحضار عظمة الله والشعور بأنه في حضرته سبحانه وتعالى، حتى كأنه يراه ويخاطبه بقرآنه عندما يتلو آياته، وأنه عندما يقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ يحس بأنه في حضرته، وأنه يخاطبه، وأنه يناجيه، فمقام ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مقام، لا يندرج فيه إلا الخاشعون.
15. الخاشع هو الخاضع المتطامن الساكن الذي لا يتحرك لشهوة، والخشوع مظهر الخضوع الذي يظهر في الأعضاء والجوارح، ولذلك يسند إليها فيقول تعالى: ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾ فالخشوع خضوع كامل في النفس والجسم، وأصله في القلب؛ وقال على كرم الله وجهه: الخشوع في القلب، وأن تلين نفسك للمرء المسلم، وألا تلتفت في صلاتك.
16. ذكر سبحانه أثر الخشوع في القلب والعقل والنفس، فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ .
17. عرف الله سبحانه وتعالى الخاشعين بأخص صفات المؤمن، وهو الإيمان بالغيب، لأنه فرق بين الإيمان والإسلام والزندقة، وإن أبلغ الإيمان بالغيب تأثيرا في النفس الخاشعة الإيمان بلقاء الله تعالى الذي يجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بجزاء ما يعمل، ولذلك ذكر إيمان الخاشعين بلقاء الله تعالى فقال تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾
18. الظن يطلق:
أ. بمعنى العلم الراجح، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾
ب. بمعنى اليقين: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾
19. التعبير عن العلم بالظن يفيد مع اليقين توقع الأمر المعلوم، فمعنى ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾، أنهم يتوقعون هذا اللقاء وقتا بعد آخر، فهم يؤمنون إيمانا صادقا بلقاء الله، ويترقبون ذلك اللقاء، وينتظرونه متوقعين له، فيقينهم يقين المتوقع المترقب، فيكون في قلوبهم دائما ويستعدون له بعمل صالح يقدمونه رجاء أن يغفر لهم وأن يتغمدهم برحمته، ويكفر عنهم سيئاتهم.
20. التعبير بـ ﴿رَبَّهُمْ﴾ فيه شعور بنعمه تعالى عليهم، لأنه هو الذي رباهم وأنشأهم وتعهدهم في الوجود، كما يتعهد المزارع زرعه بالسقي والإصلاح.. ويؤمنون مستيقنين متوقعين أنهم إليه وحده راجعون، وتقديم ﴿إِلَيْهِ﴾ للدلالة على أنه وحده الذي يرجعون إليه ويجزيهم بالإحسان إحسانا وأنه الغفور الرحيم.
21. قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ خطاب لبنى إسرائيل الحاضرين منهم والماضين باعتباره واقعا منهم في حاضرهم وماضيهم، وهو يصلح خطابا لبنى إسرائيل وغيرهم لما فيه من توجيه وتهذيب وإصلاح بين الناس، وبه تستقيم أمورهم في معاشهم ومعادهم.
22. إن الصبر والصلاة تجعلان النفس تتغلب على المحن، كما تتغلب على الإحن، فيلقى الله تعالى بقلب سليم، قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
23. الاستعانة بالصبر والصلاة ليست أمرا هينا لينا، ولكنها أمر عظيم خطير، لا يتلقاها إلا النفوس القوية ذات العزيمة الحازمة؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/216.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الاستعانة وهي طلب العون إنما يتم فيما لا يقوى الإنسان عليه وحده من المهمات والنوازل، وإذ لا معين في الحقيقة إلا الله سبحانه فالعون على المهمات مقاومة الإنسان لها بالثبات والاستقامة والاتصال به تعالى بالانصراف إليه، والإقبال عليه بنفسه، وهذا هو الصبر والصلاة، وهما أحسن سبب على ذلك، فالصبر يصغر كل عظيمة نازلة، وبالإقبال على الله والالتجاء إليه تستيقظ روح الإيمان، وتتنبه: أن الإنسان متك على ركن لا ينهدم، وسبب لا ينفصم.
2. في الكافي، عن الصادق عليه السلام قال كان علي إذا أهاله أمر فزع قام إلى الصلاة ـ ثم تلا هذه الآية: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾، وفي الكافي، أيضا عنه عليه السلام: في الآية، قال الصبر الصيام، وقال: إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم، إن الله عز وجل يقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾ يعني الصيام.. وروى مضمون الحديثين العياشي في تفسيره، وتفسير الصبر بالصيام من باب المصداق والجري.
3. في تفسير العياشي،: عن أبي الحسن عليه السلام: في الآية قال: الصبر الصوم، إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم، إن الله يقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، والخاشع الذليل في صلاته المقبل عليها، يعني رسول الله ص وأمير المؤمنين عليه السلام.. قد استفاد عليه السلام استحباب الصوم والصلاة عند نزول الملمات والشدائد، وكذا التوسل بالنبي والولي عندها، وهو تأويل الصوم والصلاة برسول الله وأمير المؤمنين.
4. قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، الضمير راجع إلى الصلاة، وأما إرجاعه إلى الاستعانة لتضمن قوله: ﴿اسْتَعِينُوا﴾ ذلك فينافيه ظاهرا قوله: ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، فإن الخشوع لا يلائم الصبر كثير ملائمة، والفرق بين الخشوع والخضوع مع أن في كليهما معنى التذلل والانكسار أن الخضوع مختص بالجوارح والخشوع بالقلب.
5. قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ هذا المورد، أعني مورد الاعتقاد بالآخرة على أنه مورد اليقين لا يفيد فيه الظن والحسبان الذي لا يمنع النقيض، قال تعالى: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾، ويمكن أن يكون الوجه فيه الأخذ بتحقق الخشوع، فإن العلوم التدريجية الحصول من أسباب تدريجية تتدرج فيها النفس المدركة من تنبه وشك، ثم ترجح أحد طرفي النقيض، ثم انعدام الاحتمالات المخالفة شيئا فشيئا حتى يتم الإدراك الجازم وهو العلم، وهذا النوع من العلم إذا تعلق بأمر هائل موجب لاضطراب النفس وقلقها وخشوعها إنما تبتدي الخشوع الذي معه من حين شروع الرجحان قبل حصول الإدراك العلمي وتمامه، ففي وضع الظن موضع العلم إشارة إلى أن الإنسان لا يتوقف على زيادة مئونة على العلم إن تنبه بأن له ربا يمكن أن يلاقيه ويرجع إليه وذلك كقول الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي مذحج... سراتهم في الفارسي المسرد
6. إنما يخوف العدو باليقين لا بالشك، ولكنه أمرهم بالظن لأن الظن يكفيهم في الانقلاع عن المخالفة، بلا حاجة إلى اليقين حتى يتكلف المهدد إلى إيجاد اليقين فيهم بالتفهيم من غير اعتناء منه بشأنهم، وعلى هذا فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾، وهذا كله لو كان المراد باللقاء في قوله تعالى: ﴿مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾، يوم البعث ولو كان المراد به ما سيأتي تصويره في سورة الأعراف إن شاء الله فلا محذور فيه أصلا.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/152.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ الهمزة للإنكار عليهم والتوبيخ، وهو منصبّ إلى نسيانهم أنفسهم، والبرّ ضد الفجور، وهو الإحسان وفعل الخير، ونسيان أنفسهم أنهم يغفلون عن أمرها بالبر؛ لأن أذهانهم موجّهة إلى الأغراض الدنيوية وما يدعو إليه الحسد والكبر من الكيد للمسلمين والطعن في الدين والتكذيب بآيات الله، فهم بمعزل عن أن يأمروا أنفسهم بالبر، كأنهم ناسون له أو هم ناسون له حقيقة.
2. ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ احتجاج عليهم بما يتلونه في التوراة من الوعد والوعيد والميثاق على الإيمان برسل الله وغير ذلك مما يدعوهم إلى أن يأمروا أنفسهم بالبر أو إلى أن يكونوا أبراراً.
3. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ تبكيت واحتجاج عليهم بالعقول؛ لأن من شأن العاقل أن ينصح لنفسه ويتدبر عواقب الأمور فيسعى لنفسه في عاقبة حسنة أي أن العقل يدعو إلى ذلك، وإذا كان العبد يرشد غيره ويغوي نفسه فكأنه لا يعقل.
4. التوبيخ لهم على الجمع بين الأمرين لا على أمر الناس بالبر، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ [فصلت: 51] فليس العيب الدعاء العريض، إنما التبكيت على الجمع بينه وبين الإعراض والنأي بالجانب، وقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [يونس: 22 ـ 23] فليس التبكيت على الدعاء لله خالصاً، بل على إضافة البغي إليه.
5. إذا أقر الإنسان بالحق في حالة كان حجة عليه في حال عناده، فإذا بُكِّتَ على عناده وقد أقر بالحق فالمقصود الاحتجاج عليه بإقراره، ونظيره لو قلت لرجل: كيف تصوم ولا تصلي؟ فأنت لا تعيب عليه الصيام وإنما تعيب عليه ترك الصلاة.
6. من الغلط الفاحش توهم أن الدعاء الخالص في حال الشدة معيب أو أمر الناس بالبر، إنما المعيب الشر وإضافته إلى الخير حجة عليه، وقد وجدت كتاباً لبعض المفسدين يدعو إلى ترك الدين كله إذا كان العبد لا يقوم به كله، نعم يمكن أن يكون أمرهم للناس بالبر لم يكن إلاَّ رياء وسمعة، وتقوية لمركزهم في عنادهم، وعلى هذا يكون منكراً عليهم نفس أمرهم للناس بالبر، وعلى هذا لا تكون هذه الآيات نظير الآيات المذكورة.
7. ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ على القيام بما أمرتم به من الإيمان بالكتاب وما إليه.
8. ﴿بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ ففيهما عون، ولعل العون في الصبر من حيث أن الصابر يتعود تحمل الشاق على النفس حتى تألفه نفسه، ومن حيث أن الله معه يعينه ويقوي إرادته، وأما الصلاة فلأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فبذلك تنهى عن الحسد والكبر ويسهل الإيمان.
9. ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ شاقة ثقيلة على أنفسهم، كقوله تعالى: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ [الشورى: 13] فالإيمان بالقرآن وما يلزم معه من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وسائر الشرائع الناسخة لدينهم الذي نشئوا عليه وتعصبوا له، ومصيرهم تابعين لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو من ولد إسماعيل، وقد كانت النبوءة والكتاب في بني إسرائيل، وأسباب غير ذلك تثقل من أجلها إجابتهم إلى ما دعاهم إليه من الإيمان بما أنزل على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتشغلهم عن ذلك بالكبر والحسد.
10. ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ الذين ذلّت قلوبهم لله، فلا يريدون إلاَّ ما يرضيه، ولا مجال في قلوبهم للكبر ولا للحسد.
11. ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ الظن هنا:
أ. قيل: بمعنى العلم، وهذا بعيد؛ لأن السياق يستدعي تحقيق إيمانهم الصحيح الذي يكون عن علم اليقين، فالتعبير بما يفيد ذلك هو المناسب للبلاغة المطابق لمقتضى الحال.
ب. وقيل: المراد أنه يكفي الظن في بعثهم على الطاعة والتقوى لعظم العقاب المحذور، وهذا لا يخلص من المشكلة؛ لأنهم قد وصفوا بالظن، فدل ذلك على أنه واقع منهم لا مجرد أنه مفروض مقدّر، والذي يصح مع إبقاء الكلمة على حقيقتها بدون معارضة للمقصود الذي هو المدح أن معنى قوله تعالى في هذه الآية: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ وقوله في (قصة أصحاب طالوت): ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ مصيرهم إليه في القريب العاجل، وهذا بواسطة استعمال (اسم الفاعل) في هذا المعنى، إما بطريقة أنه (اسم الفاعل) المستعمل للحال، وجعل القريب العاجل كأنه في الحال، فكأنه قال ملاقو الله في الحال، وإما لقرينة السياق، فكأنه قال ملاقو الله في القريب العاجل، وذلك أن من كان أمله في الحياة قصيراً استعد للآخرة ولم يبال بأغراض الدنيا، ولم يحرص على ترك الجهاد، بل يحرص على الشهادة.
12. نظير الآيتين في استعمال (اسم الفاعل) للقريب العاجل قوله تعالى: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ [الكهف: 53] فلا يبعد أن قد أيقنوا بدخولهم النار عند حضور الموت، وفي البرزخ وعند خروجهم من القبور، أو على الأقل ظنوا، فظنهم عند رؤية النار أنهم مواقعوها ظن الوقوع فيها في القريب العاجل، لا مجرد ظنهم أنهم سيقعون فيها، ولو تأخر وقوعهم فيها.
13. من استعمال (اسم الفاعل) للقريب العاجل، ما رواه الإمام أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) في قصة الإمام علي عليه السلام لما ضربه ابن ملجم ـ لعنه الله ـ قال: وروي عن عمرو بن ذي مرّ، قال قلت له يا أمير المؤمنين إنه خدش وليس بشيء؟ فقال عليه السلام: إني مفارقكم إني مفارقكم) ودعا بصحيفة ودواة وكتب وصيته)، فقوله عليه السلام: إني مفارقكم) معناه: في القريب العاجل، ويظهر: أن منه: قوله تعالى: ﴿إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ [العنكبوت: 31] ﴿إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ [العنكبوت: 34]، وقول امرئُ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
14. ظهر بهذا أن (اسم الفاعل) في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ من هذا القبيل، يؤكد ذلك قوله تعالى في (أصحاب طالوت): ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾ فانظر كيف كان قومه ثلاثة أقسام: قسم شربوا من النهر وهم الأكثر، وقسم بخلافهم، وقد ظنوا أنهم لا يطيقون قتال جالوت لقلة الباقين معه وكثرة قوم جالوت، وقسم ردوا عليهم قولهم: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا﴾ بقولهم: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ﴾، وهؤلاء هم الصفوة من المؤمنين، فكيف يصلح أن ينسب إليهم ظن البعث، كما قال الكفار: ﴿إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية: 32]؟ وكيف يصلح استعمال الظن بمعنى العلم وهم بيقينهم وإيمانهم أقوى من غيرهم؟ والمناسب أن يوصفوا بقوة الإيمان لا بعبارة توهم ضعف يقينهم، وكيف يؤتى بعبارة لا تؤتي سبب إقدامهم وشجاعتهم وتشجيعهم لأصحابهم؟ إن هذا لبعيد!.. أما إذا قلنا: المراد أنهم يظنون قرب لقائهم لله وقصر مدة بقائهم في الحياة الدنيا، فالمهِمّ عندهم الاستعداد للقاء الله، وأحسن الاستعداد الجهاد في سبيل الله والتعرض للشهادة في سبيل الله، ولذلك فهم مشتاقون إلى الإقدام ومشجعون لأصحابهم ليتمّ الغرض المطلوب حتى يفوزوا بالنصر أو الشهادة، فهذا المعنى هو المناسب للسياق.
15. كذلك لقاء الله. قال في (الكشاف) في تفسير قوله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ [التوبة: 77]: والمعنى: فخذلهم الله حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم، فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا)، وعن أمير المؤمنين عليه السلام لما كلموه في تقليله للفطور، لا يزيد على ثلاث لقم، فيقول الحسن عليه السلام: يا أبتِ لو زدت؟ فيقول: أحب أن ألقى الله خميصاً)، رواه الموفق بالله عليه السلام في كتاب (الاعتبار وسلوة العارفين)، وفي كلام الحسين عليه السلام: ألا ترون الحق لا يعمل به، والباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله ـ عزَّ وجل ـ) رواه المرشد بالله في (الأمالي)
16. ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ كما خلقهم في الدنيا ورزقهم وأمرهم ونهاهم يرجعون إليه ليجزيهم بما كانوا يكسبون، وليس مع رجوعهم إليه رجوع إلى غيره من شفيع أو ناصر أو معين، بل يرجعون إليه وحده ليحكم فيهم ما يريد.. فهم يخشونه ويسهل عليهم امتثال أمره بالإيمان بالكتاب، وبكل ما أمروا به؛ لأنهم موقنون به وهو في نظرهم قريب جدّاً لقصر آمالهم في الحياة واعتبارهم ما بعد الموت أوّل الرجوع إلى الله بأرواحهم، وما يكون من مجازاتها في حياة البرزخ، أو لأنهم يعتبرون توفّيَه لأنفسهم أول الرجوع إليه، وفي شعر الناصر الأطروش الحَسن بن علي عليه السلام ـ يعني نفسه ـ:
أناف على السبعين ذا العامُ رابع... ولا بدّ لي أني إلى الله راجع
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/106.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآية: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ تواجه اليهود بالواقع العملي المنحرف الذي كانوا يعيشونه في عصر الدعوة، فقد جعلوا من أنفسهم حماة الكتاب والشريعة، ودعاة الاستقامة على الحق، وقادة الناس إلى الخير، وذلك من خلال الدور الذي فرضوه لأنفسهم، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا خائنين لهذا الدور في ممارساتهم العملية، فكانوا بمنزلة الذين ينسون أنفسهم في حساب المسؤولية، فلا يعيشون القلق أمام قضية المصير في الدنيا والآخرة، بينما نراهم يثيرون قلق الناس وخوفهم من مواجهة ذلك في حياتهم العامة، وتلك هي الطريقة التي يفقد فيها الإنسان عقلانية التحرك ويستسلم لسذاجة العاطفة والغريزة فيما يقوم به من أعمال، لأن العاقل هو الذي يفكر في نجاة نفسه عندما يتحرك في إثارة الآخرين نحو نجاة أنفسهم.
2. قيمة العقل هي في إدراكه الفوارق العملية بين حسن الأشياء وقبحها، ثم الاتجاه نحو التطبيق العملي لمدركاته.
3. كلمة ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ ليست مجرد جملة اعتراضية يراد بها تصوير حالتهم أمام الارتباط بالكتاب، بل هي لفتة نقدية للواقع في معرض الإيحاء لهم بالاستغراق فيما يتلونه من آيات الله من أجل وعي أعمق وسلوك أفضل، لما في ذلك من التأنيب والتبكيت حيث يعيشون الغفلة العميقة عن أنفسهم في الموقف الذي يملكون فيه حضور الوحي الذي يهز الغفلة في أعماق النفس، بصرخة الحق ويقظته.
4. كلمة: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ تريد أن تثير في أنفسهم الشعور بأن المشكلة لديهم ليست مشكلة علم، ليصار إلى توجيههم نحو الأخذ بأسباب العلم، بل هي مشكلة تجميد للعقل في المسائل التي تدخل في حساب التمييز العملي بين الحسن والقبيح.
5. تريد الآية الكريمة أن تثير في نفوس العاملين في سبيل الدعوة إلى الله، بأسلوب التوبيخ والتأنيب، الشعور بضرورة التخلص من الازدواجية بين موقف الداعية وموقف المؤمن، للتوصل إلى الوحدة بين الكلمة والموقف، لأن ذلك يتصل بنجاح الدعوة عندما يعظ الداعية الناس بأقواله وأفعاله، وبشخصية الداعية عندما تستقيم خطاه في اتجاه خطوات فكره وإيمانه.. أمّا قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي من القضايا الواجبة التي لا ترتبط بالممارسة العملية لما يأمر به الإنسان ولما ينهى عنه كشرط للوجوب لتكون فريضة للمعصومين عمليا، لأن من واجب الإنسان أن يخوض صراع الإيمان والضلال على جبهتين:
أ. داخلية يصارع فيها الانحراف في خطواته.
ب. وخارجية يصارع فيها الضلال في حياة الآخرين.
6. على ضوء ذلك، كان الجهاد الأكبر جهاد النفس، والجهاد الأصغر جهاد أعداء العقيدة بالحرب، يسيران جنبا إلى جنب كفريضتين شرعيتين.. إن المسلمين الذين جاهدوا الكفار بالسلاح وجاهدوا الكفر بالدعوة، لم يكونوا معصومين، بل كانوا يعصون الله وينحرفون عن الخط في بعض الحالات ثم يرجعون إلى هداهم عندما ينتبهون ويتذكرون.
7. الآية ليست في معرض عدم جواز الجمع بين سلبية العمل وإيجابية الدعوة، بل هي في مقام التوبيخ والإثارة ضد هذا الواقع من أجل تصحيح السلوك واستقامة المسيرة، ليجتمع للداعية وعي الدعوة وسلامة التطبيق، لئلا يتخذ الآخرون من انحراف الداعية مبررا للعذر في الانحراف، ووسيلة لمحاربة الدعوة.
8. قد يواجه الإنسان في حياته العملية ضغط الشهوة، التي تلح عليه فيما يشبه الحريق الداخلي، كي يستسلم لنداء الغريزة، ويترك نداء الله، وقد يقع تحت ضغط الطمع، الذي يدعوه إلى أن يترك إيمانه ومبادئه للحصول على مال أو جاه، وقد يواجه الضغوط الخارجية التي تقتحم حياته لتهدد وجوده، فيستسلم لتأثيراتها المنحرفة بعيدا عن خط الله.. فكيف يواجه ذلك كله؟
9. إنّ هاتين الآيتين تستثيران في الإنسان إيمانه بالله من خلال الوسائل العملية للإيمان، ليثبت الإنسان على خط الحق في المنحدر الخطر، ويتحدث الله عن وسيلتين هما: الصبر والصلاة.
10. أما الصبر، فيمثل الموقف القوي الذي يحكم الإنسان فيه نفسه انطلاقا من إرادته وإيمانه، وهو من الأخلاق الإيجابية الإسلامية التي تبني للإنسان القاعدة النفسية القوية المتماسكة، التي تمنعه من الانهيار والانسحاق تحت وطأة نوازع الضعف البدنية والنفسية والخارجية، فيقوده ذلك إلى الالتزام بكل متطلبات الإيمان ومسئولياته، لأن الانحراف ينطلق غالبا من فقدان القوة الذاتية للإرادة، وقد ورد في الحديث المأثور: إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا جسد لمن لا رأس له، ولا إيمان لمن لا صبر له).
11. أما الصلاة، فهي معراج المؤمن إلى ربّه، تعرج فيها روحه وضميره وقلبه وفكره.. فتلتقي بالله في لحظات ابتهال وانفتاح، وتتصل بالمعاني الكبيرة الممتدة في رحاب الله. إن الإنسان إذا اتصل قلبه بالله انفتحت روحه على أخلاقه العظيمة التي أرادنا أن نتخلّق بها في الحياة؛ ومتى تحقّق للإنسان هذا الانفتاح، وعاش في هذه الأجواء الفسيحة، انخفض عنده مستوى الاهتمام بالقضايا الصغيرة، وعندها لن تثير في نفسه أيّ شيء مما اعتاد الناس أن يستثيروا به وجدانهم وحياتهم.
12. في ضوء ذلك، نستوحي أجواء الآية التي تتجه إلى المنحرفين عن الخط من اليهود وغيرهم لتقول لهم: إن مشكلتكم تتحدد في نقطتين أساسيتين من نقاط الضعف، فأنتم تنسون الله من جهة، وتضعفون أمام الضغوط والإغراءات من جهة أخرى، فإذا نسيتم الله استسلمتم للشيطان وفقدتم الأجواء الروحية التي توحي لكم بالخير والانفتاح على القضايا الكبيرة في الحياة، وتحوّلت الحياة لديكم إلى اهتمامات صغيرة محدودة تلاحق الصغائر التي تثير العداوة والبغضاء، وتبعث على الخصومة والنزاع.. وإذا ضعفتم أمام الإغراء والضغط الداخلي والخارجي، تركتم قيمكم وراء ظهوركم؛ فإذا هاجمتكم حبائل الشيطان ومكائده وعوامل الإغراء ونوازعه، فاستعينوا بالصبر لتحصلوا من خلاله على الإرادة القوية التي تثبت أقدامكم في الأرض، فتستقيم لكم قضاياكم ومبادئكم وأخلاقكم في خط الإيمان، وإذا نسيتم الله، فاستعينوا بالصلاة، لترتفعوا بروحكم إليه، فتعيشوا في أجوائه وتسبحوا في ألطافه ونعمائه.
13. إننا نستفيد من الآية تأكيد الجوانب العبادية كالصلاة والصوم، والعناصر النفسية الأخلاقية كالصبر ونحوه في بناء شخصية الإنسان المسلم، من أجل إبعاده عن أجواء الانحراف الفكري والعملي، لأن ذلك ما يحقق له قوة الاندفاع في الجانب العملي، ويعينه على مواصلة السير في الطريق المستقيم.
14. إننا نشعر بالحاجة إلى الإلحاح على ذلك في أساليبنا التوجيهية، وعدم الاكتفاء بالأساليب الفكرية التي تدفع الإنسان إلى الدخول في متاهات الجدل الفكري من دون أن يتحرك في الاتجاه العملي، لأن ذلك قد يفيد بالنسبة للأشخاص الذين يختلفون معك في أسس الإيمان، أما المؤمنون الذين انحرفوا عن الخط ولم ينحرفوا عن الإيمان، فإنهم يحتاجون إلى التربية العملية التي تهيئ لهم سبل الانضباط في نطاق تقوية إيمانهم، ولا فرق في ذلك بين المؤمنين التقليديين الذين يعيشون الإيمان الفطري، وبين المؤمنين الذين يحملون الإيمان، المشوب ببعض الانحرافات الطارئة.. فالأسلوب الأفضل معهم هو أسلوب التربية العملية التي تعمق ملكة الصبر والخشوع التي تربطهم بالله. أما أسلوب إثارة القضايا الفكرية التي يراد من خلالها تعميق الجانب الفكري من الإيمان، فقد يعطي عكس النتيجة عندما يؤدي ذلك إلى إثارة مشاكل جديدة في الإيمان، مما لم يكن داخلا في الحسبان؛ ولذلك فلا بد من الانتظار ريثما يقوي المؤمن ارتباطه بالله، فلا يزلزله عن الخط شيء من شبهة أو مشكلة فكرية.
15. ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ لعل المراد أنها ثقيلة على الناس الذين لا يعيشون روح الخشوع لله والخضوع لربوبيته، لأن صلاتهم تتحول إلى عبء ثقيل لا يدركون معناه، ولا يرتفعون إلى آفاقه، بل يمارسونها ـ لو مارسوها ـ كواجب جامد وضريبة مفروضة عليهم. أمّا الخاشعون الذين تخشع قلوبهم لذكر الله، وتتلذذ به، وترتاح إليه، فإنهم يقبلون عليها بكل ما في قلوبهم من حب وطمأنينة وانفتاح، وبكل ما في نفوسهم من التطلعات الروحية التي يحملونها إلى الله سبحانه في أمر دنياهم وآخرتهم، وبكل ما في ضمائرهم من شعور بالمسؤولية أمام الله فيما يفكرون به ويقومون به من عمل، وذلك عندما يعيشون الإيمان باليوم الآخر في عمق الإحساس بالعقيدة وروعة الإيمان بقضية المصير، فيتمثل ذلك في انضباطهم العملي، لأنهم ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾
16. نستفيد من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ التركيز على أسلوب الوعظ الذي يعتمد على التذكير بالآخرة في مجال الحث على العمل، وإرجاع الإنسان إلى الله، لأن لدى الإنسان منطقة شعورية ترتبط بالانفعال والعاطفة ولا ترتبط بالفكر المجرد، فقد لا يكفي في إثارتها الحديث عن حل الإسلام لمشاكل الحياة، وعن طبيعة الفلسفة التي تشمل مختلف النواحي الكونية، بل لا بد من ربط ذلك كله بقضية المصير، وموقف الإنسان من الله، ومواجهته له في يوم القيامة في لحظات الحساب الشامل الذي يحاسبه فيه على كل ما عمل من خير أو شر، فإن ذلك يحقق للنفس خشوعها الروحي بين يدي الله كوسيلة من وسائل خشوع حياته لله سبحانه.
17. إن الدراسة الواعية للأساليب القرآنية في الدعوة، تهدينا السبيل إلى ملاحظة التركيز العميق في القرآن على هذا الأسلوب، حيث لا نجد أية مناسبة للوعظ إلا وقد انطلق القرآن في استثارتها، والإفاضة فيها بمختلف الجوانب الفكرية والعاطفية، مما يدعونا إلى اعتباره طابعا إسلاميا مميزا في أسلوب الدعوة إلى الله.
18. الحديث عن لقاء الله لا يراد منه اللقاء الحسّي المادي، لأن الله لا يتجسد كما تتجسّد المخلوقات بالأشكال المادية، بل هو كناية عن يوم القيامة الذي يلتقي الناس فيه بالله، في حسابه وثوابه أو عقابه، باعتبار أنه اليوم الذي لا مظهر فيه لسلطة أحد ولو بالشكل، إلا لله، كما قال سبحانه: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: 19]، فكأنّ الإنسان يلتقي بالله هناك من خلال تمثل وجوده تعالى، من خلال الإحساس، على نحو أقوى بقدرته المطلقة.
19. السرّ في استبدال كلمة اليقين المناسبة للمقام، باعتبار أنها تمثل وضوح الرؤية لدى الإنسان، فتزيد من تقواه، بكلمة (الظن) هو أنه من الممكن إيراد الإيحاء بأن قضية الاستعداد للآخرة يكفي فيها الظن ولا يحتاج فيها إلى اليقين، لأن الإنسان يتحرك بشكل غريزي إلى دفع الضرر المحتمل أو المظنون عن نفسه، سواء في ذلك قضايا الدنيا والآخرة؛ وكأن الآية تريد أن تثير في الإنسان هذا الشعور بالحاجة إلى الانضباط من خلال الطبيعة الوقائية للأشياء إزاء الفكرة المحتملة، فلا يقف أمامها موقف اللامبالاة، بحيث لا يفكر في المسؤولية إلا من خلال الحاضر بعيدا عن تطلعات المستقبل وإمكاناته، وربما نستوحي ذلك من بعض أساليب أهل البيت في الحوار مع بعض الزنادقة حول الآخرة: إن يكن الأمر كما تقول ـ وليس كما تقول ـ نجونا ونجوت، وإن يكن الأمر كما نقول ـ وهو كما نقول ـ نجونا وهلكت)
. يقول الشاعر:
قال المنجم والطبيب كلاهما... لا تحشر الأجساد قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر... أو صح قولي فالخسار عليكما
20. اتبع القرآن هذا الأسلوب في أكثر من آية، فعبّر عن المؤمنين بأنهم يرجون لقاء ربهم ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾ [الكهف: 110]، ومن الطبيعي أن لا يكون هذا الأسلوب مقتصرا على إبقاء القضية في نطاق الاحتمال ليتجه العمل على أساس الاحتياط، بل هو وارد في اتجاه الإيحاء بالانطلاق منه إلى اليقين، من خلال إخراج الإنسان من أجواء اللامبالاة إلى أجواء المواجهة المسؤولة للفكر والعمل.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/19.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الخطاب لبني إسرائيل الذين ذكروا نعمة الله عليهم، وطولبوا بالوفاء بعهده، وخوطبوا بما خوطبوا به من الأوامر والنواهي، وهو اعتراض بين سابقه ولاحقه لأنه توبيخ توسط أو أمر، ومن دلائل كونه اعتراضا عدم اقترانه بالعاطف كما هو الغالب في الجمل الاعتراضية، وفائدته لفت أنظارهم، وشد انتباههم إلى ما هم متلبسون به من العيوب التي يجدر بمن كان مثلهم ـ في معرفة الحق والدعوة إليه وتلاوة الكتاب ـ أن يكون أنأى منها وأحذر، وهو من دواهي تدارك الأمر بامتثال ما وُجه إليهم من الأوامر، واجتناب ما خوطبوا به من النواهي لتكفير سيئاتهم؛ وتغطية سوآتهم، وبهذا تتضح مناسبة الآية لما قبلها.
2. هذا التوبيخ الذي يشمله التعجيب من شأنهم إن دل على شيء فإنما يدل على ما وصلوا غليه من الاستخفاف بما أوتوه من العلم، وحُمِّلوه من الأمانة، وأورثوه من الكتاب، فقد نأوا بأنفسهم عن تعاليمه وإن دعوا إلى ذلك غيرهم كأنهم غير محاسبين بما فيه ولا مسؤولين عن تهذيب أنفسهم وتربية عقولهم ووجدانهم بهداه، وهذا الذي أدى بهم إلى اتخاذ ما لديهم من علم الكتاب سلما للترقي إلى المناصب، ووسيلة لكسب الحطام.
3. النسيان خلو الذهن من أمر بعد الإلمام به، فمن لم يعرف شيئا من قبل لا يوصف بأنه ناسيه، ويطلق على الترك إطلاقا مجازيا لما فيه من إهمال المتروك كما هو الشأن في الناسي والمنسي، وعلى ذلك تحمل الآية كما يحمل قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾، فهؤلاء اشتغلوا بغيرهم فأمروه بالبر وأهملوا أنفسهم إذ لم يحملوها عليه.
4. سوّغ ابن عاشور أن يكون النسيان هنا حقيقيا لأنهم لما طال عليهم الأمد في التهاون بالتخلق بأمور الدين والاجتراء على تأويل الوحي بما يمليه عليهم الهوى بغير هدى صاروا ينسون أنهم متلبسون بمثل ما ينهون عنه فإذا تصدوا إلى مواعظ قومهم أو الخطابة فيهم، أو أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر كانوا ينهونهم هن مذام قد تلبسوا بأمثالها إلا أن تعود بها أنساهم إياها فأنساهم أمر أنفسهم بالبر لنسيان سببه، وقد يرى الإنسان عيب غيره لأنه يشاهده، ولا يرى عيب نفسه لأنه لا يشاهدها، ولأن العادة تنسيه حاله، ودواء هذا النسيان هو محاسبة النفس.
5. إذا كان محط الإنكار والتعجيب قوله: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ فإن في قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ إضافة توبيخ إلى توبيخ لأن الجدير بمن تلا كتاب الله فميز بنوره بين الحق والباطل، والرشد والضلال، أن يكون أسرع إلى الاستفادة بما فيه من خير، والاستنارة بما يحويه من الهدى، وذلك بإتباع أوامره، والكف عن زواجره، والوقوف عند الحدود التي رسمها.
6. التلاوة القراءة مأخوذة من تلا يتلو تلوا بمعنى تبع، وذلك أن التالي للكتاب يتبع آخره إثر أوله حتى يأتي على حروفه وكلماته فيستجمع ما فيه من المعاني، والمراد بالكتاب هنا التوراة التي حُملوها فلم يحملوها، أي لم يأتمروا بأمرها، فكان مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا، ومن عدم إتمارهم بما فيها إعراضهم عن الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع ما يتلونه في الكتاب من نعوته وأخباره.
7. في هذا التوبيخ تنبيه إلى أن التلاوة اللسانية إن لم يصحبها التأثر النفسي الذي يصدر عنه العمل بموجب ما يتلى ليست من ورائها جدوى إذ كل ما أنزله الله من كتاب إنما أنزله ليكون هدى للناس يقتادهم إلى صراط الله العزيز الحميد، فقرّاء القرآن من هذه الأمة الذين يقتصرون في تلاوتهم على تحسين الأنغام وتجويد الحروف ـ مع نسيانهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وإرشاداته ـ مندرجون فيمن يصدق عليهم هذا التقريع والإنكار.
8. قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ تقريع آخر لأن من شأن العقل تبصرة صاحبه بما ينفع وما يضر، وما يحمد وما يذم، والعاقل يشفق على نفسه من كل ما يرديها فلا ينساها مما يأمر به من غيرها من الصلاح والرشاد.
9. أصل العقل الحبس، ومنه عقال البعير لأنه يعقله ـ أي يحبسه ـ عن الانطلاق، وسمي به هذا النور الروحاني الذي أودعه الله في الإنسان فرفع به قدره، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا لأنه يعقل صاحبه عما فيه مضرته الحسية والمعنوية، ولولاه لكان الإنسان ـ لطغيان شهواته وتأجج غرائزه ـ أسوأ من السباع الفتاكة، وإنما جعله الله قيدا لما في الإنسان من طبائع مردية وقوى ذات خطر على صاحبها وعلى جنسه، فإذا ما استخدم العقل تحولت هذه الطبائع والقوى من الضر إلى النفع، ومن التدمير إلى التعمير، والنفس الإنسانية ذات مطامح شتى، فهي تطمح بطبعها إلى وفرة المال، وقوة السلطان والعلو على الغير، فلولا كفكفة العقل لها لسعت في الأرض فسادا، وأهلكت الحرث والنسل لأجل إشباع رغبتها وتوفير مطالبها، فإن العاقل عندما يحس بما يترتب على إيثار هوى النفس من مخاطر شخصية واجتماعية، وعواقب سيئة دنيوية وأخروية يركن إلى السلامة، ويميل إلى الموادعة.
10. قد كان لهؤلاء المخاطبين من العقل ما يمكنهم به زجر أنفسهم عن الهوى، وردعها عن الفساد، غير أن عقولهم لم تقترن بتوفيق الله فآثروا ما يظنونه مصلحة ويتوهمونه منفعة على أوامر الله تعالى مع قيام حجة الحق عليهم بما أودعوه من عقل وأوتوه من كتاب، ولو لم تكن لهم عقول لما كان لتكليفهم معنى، ولا للإنكار عليهم موضع فإن خطاب الله مرفوع عن غير العقلاء.
11. ما حكاه الله عن أهل النار من قولهم: ﴿ لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا من أصحاب السعير ﴾ محمول على العقل الهادي إلى الحق، ويدل عليه اقترانه بالسمع في النفي مع أنهم كانوا ذوي سمع في الدنيا.
12. لفظة البر دالة على السعة وضعا كالبَرِّ ـ بالفتح ـ وتستعمل في توسعة الخلق والإحسان في المعاملة، ومفهومها الشرعي يرادف التقوى بدليل قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾، وقوله بعد ذكر خصال البر: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، فتندرج تحته العقيدة الناصعة، والأعمال الصالحة، سواء كانت من شعائر الله، أو المعاملات الأسرية والاجتماعية، أو الأحوال النفسية كما هو واضح في قوله عز من قائل: ﴿ ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ﴾، وأحسن ما يقال إن البر شامل لكل ما فيه خير للإنسان عاجلا أو آجلا.
13. هذا التوبيخ لا يعني أن الفاجر غير مكلف بالمعروف والنهي عن المنكر فإنهما فرضان لا يسقطان في الفجور، وقد وهم من زعم أن الفاجر ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن فجوره لا يسقط عنه واجبا، ولا يمنعه من إحسان، وقد أجاد سعيد بن جبير في قوله: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن المنكر.
14. محل الاستنكار والتوبيخ في الآية هو نسيان أنفسهم مما يأمرون به غيرهم، وليس أمرهم الناس بالبر وإنما مثلها مثل قول القائل: أتعرف الله وتعصيه؟ أو تصوم ولا تصلي؟ فإن الإنكار واقع على المعصية، وترك الصلاة دون معرفة الله والصوم.
15. إنما كانت هذه الحالة فظيعة ـ وإن كان إهمال الإنسان نفسه من عمل البر مذموما ولو لم يأمر به غيره ـ لأن أمر غيره به دليل على انتباهه له ومعرفته بجدواه، ويلام العالم ما لا يلام الجاهل ويعنف الذاكر ما لا يعنف الغافل، وبهذا يتضح لك أن الواو في ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ للحال، كما يتضح لك بعد تجويز ابن عاشور أن تكون عاطفة وأن يكون معطوفا ـ وهو ﴿ تنسون أنفسكم ﴾ ـ هو المقصود من التوبيخ والتعجيب، والمعطوف عليه ـ وهو ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ﴾ ـ تمهيدا لها على معنى أن محل الفظاعة الموجبة للنهي هي مجموع الأمرين.
16. لم يخرج الخطاب عن مواجهة بني إسرائيل وإن قال من قال إنه هنا للمسلمين وهو القول الذي صدره قطب الأئمة في التيسير، ومنشؤه توهم قائليه أن الأمر بالصبر والصلاة يتنافى مع الحالة التي كان عليها بنو إسرائيل إذ لا فائدة لهم مما أُمروا به مع إصرارهم على عدم الإيمان بنبوة النبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد أنكر أكثر المفسرين ـ كالفخر الرازي في المتقدمين، وابن عاشور في المتأخرين ـ هذا القول لما يلزمه من تفكيك النظم الشريف، واستند ابن عاشور أيضا في إنكاره إلى أن وجود حرف العطف ينادي على خلافه، وأن قوله: ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، مراد به إلا على المؤمنين حسبما بينه قوله: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ الآية، اللهم إلا أن يكون من الإظهار في مقام الإضمار وهو خلاف الظاهر مع عدم وجود الداعي، وأتبع ذلك قوله: والذي غرهم بهذا التفسير توهم أنه لا يؤمر بأن يستعين بالصلاة من لم يكن قد آمن بعد، وأي عجب في هذا وقريب منه آنفا قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ خطابا لبني إسرائيل لا محالة)
17. صدق وأجاد ابن عاشور في نفيه العجب عن كون هذا الخطاب لبني إسرائيل، وإنما العجب من التعامي عما دلت عليه الآيتان وغيرهما من أن الكفار مخاطبون بالعبادات وسائر فروع الشريعة خطابهم بأصل الإيمان.
18. إنما طولبوا أن يستعينوا على ما أمروا به بالصبر لأن الصبر أعظم وسيلة لهم إلى القدرة على تخطي الحواجز الحائلة بينهم وبين الدخول في الإسلام وإيمانهم بالنبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن أهم هذه الحواجز تلك الأنانية المستحكمة في نفوسهم التي جعلتهم ينظرون إلى شعوب العالم نظرة المتقزز المستهين، ولا يرون في عير أنفسهم أهلية لقيادة البشر إلى مقامات الزلفى من الله سبحانه، وألفتهم التلاعب بآيات الله كما يلي عليهم الهوى وتقتضيه ـ في نظرهم ـ مصالحهم، وحرصهم البالغ على جمع الثراء بمختلف وسائل الاستغلال من غير تمييز بين حلالها وحرامها، وغير ذلك مما اعتادوه قرونا حتى صار جزءا من طبيعتهم المأفونة وسمة من سماتهم البارزة، وما أصعب التغلب على العادات عند من لم يتسلح باليقين ويتدرع بالصبر.
19. ذهب بعضهم إلى أن الصبر هنا بمعنى الصوم، وقصارى حجتهم عطف الصلاة عليه، والصلاة أنسب قرنها بالصيام، وهو قول ضعيف وحجة واهية، فإن حصر الصبر في الصوم تقييد لمطلق لفظه في بعض ما يدل عليه، وقد علمتم ضرورة التَّقَوّي بالصبر لاحتمال هذه التكاليف، فلا داعي لهذا التقييد الذي لم يصدر إلا عن وهم، وما أحوج الصلاة نفسها إلى سياج سميك من الصبر يحميها من هجمات العوارض المختلفة نفسية كانت أو فعلية، وأنّى للمصلي إن لم يكن صبورا على حبس عقله وقلبه، وفكره ووجدانه، وسمعه وبصره، على ما هو مقبل عليه من ذكر الله، ومنع جوارحه عما اعتادته من التلفت والحركات.
20. إذا كانت الصلاة نفسها لا تخلو من الصبر لعدم الوفاء بحقها دونه، فإن عطفها عليه إنما هو من باب عطف الخاص على العام، وقد خصصت بالذكر من بين سائر الأعمال المتوقفة على الصبر كالصوم والحج والجهاد لأجل أهميتها، لأنها عمود الدين، ولعمق أثرها في نفوس المصلين.
21. قدم عليها الصبر لأن مفهومه الأساسي ترك الجزع بينما مدلول الصلاة فعلي، ومن الأمثلة السائرة (التخلي قبل التحلي) أي التخلي عن النقائص والمذام قبل التحلي بالكمالات والمحامد، والإنسان لا يكون للخير أهلا، وللفضيلة خدنا حتى يتجرد من الشر والرذيلة.
22. الذين فسروا الصبر بالصوم ذهبوا إلى تقديمه على الصلاة لأن تأثيره في إزالة ما لا ينبغي وتأثيرها في حصول ما ينبغي ـ وهي عين المناسبة المذكورة من قبل ـ ولأن في هذا الترتيب ترقيا من الكامل إلى الأكمل وتدرجا من الشاق إلى الأشق، فإن الصوم إن توقف على الصبر لأجل منع النفس فيه عن شهوة الأكل، وشهوة الشرب وشهوة الوقاع، فإن الصلاة أدعى إليه لضرورة الامتناع فيها من جميع الشهوات كإرسال النظر وإصغاء السمع وإطلاق الفكر وتحريك الجوارح، ولذلك كانت أقوى العوامل في إمداد النفس بالطاقات على احتمال التكاليف، ولذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يلجأ إلى الصلاة إذا ما ضاقت عليه حلقات الأحداث.
23. ذهب بعض المفسرين إلى أن الصبر المطلوب هنا هو الصبر على أعمال الصلاة ومطالبها، واستدل بقوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ وهو رأي واهِ لأن ما استدلّ به لا ينافي طلب الصبر في مطلق الحالات وعلى كل التكاليف، وفسر آخرون الصلاة هنا بالدعاء مع حمل الصبر على مفهومه العام، وعلى هذا فالآية من باب قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾، لأن الثبات من الصبر والدعاء من جملة الذكر، وأنتم تعلمون أن حمل الألفاظ الشرعية في كلام الله وكلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على معانيها اللغوية التي نقلها الشرع عنها لا يصار إليه إلا بدليل، فحمل الصلاة هنا على الدعاء لا داعي إليه لا سيما وأن الأدلة ظاهرة ـ من الشرع والواقع ـ على أن الصلاة من أهم العوامل في الثبات على الخير والتجرد عن ضده.
24. اختلف في الضمير من قوله: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ :
أ. قيل: هو عائد إلى الصلاة لأنه أقرب مذكور، وبه قال جماعة منهم القطب في الهيميان والتيسير.
ب. وقيل: عائد إلى الصبر والصلاة معا، وإنما أفرد وأنث رعاية للأغلب وهو الصلاة، ونحوه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، حيث أعيد الضمير إلى الفضة لأنها الأغلب في التداول عند العرب آنذاك، وقوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ إذ أعيد الضمير إلى التجارة أنها الأفضل والأهم.
ج. وقيل: لما كانت الصلاة نفسها مشتملة على الصبر أعيد إليها الضمير لفظا مع قصدهما معا، ونحوه قوله عز وجل: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ حيث أفرد الضمير ـ مع أن معاده إليهما لدخول رضى الرسول في رضى الله.
د. وقيل: هو من باب الاكتفاء نحو قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾، وهما آيتان، وكذا قول الشاعر: فإني وقيار بها لغريب)، وقول آخر: والصبح والمسا لا فلاح معه) والأصل لغريبان، ومعهما.
هـ. وقيل: عائد إلى العبادة المفهومة من ذكر الصبر والصلاة.
و. وقيل: عوده إلى جميع المأمورات المتقدمة من قوله: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ إلى قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾
ز. وقيل: بعوده إلى الاستعانة التي يقتضيها قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ على حد قوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾
ثم أقوال أخرى هي من الضعف بمكان لا أجد داعيا إلى ذكرها، والمتبادر هو الرأي الأول وكفى بالتبادر شاهدا.
25. يطلق الكبير على الشاق لأن احتمال الكبير أشق على النفس من احتمال الصغير سواء كان الكبر حسيا أم معنويا، ومن هذا الباب قوله تعالى: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾، وهذا هو المعنى المراد هنا، وإنما شقت الصلاة على غير الخاشعين لما تستلزمه من حبس المصلي ظاهره وباطنه عن الالتفات إلى غير ما هو مقبل عليه وتقييد الجوارح عن حركاتها المألوفة، فهي عبادة يشترك فيها الجسم والروح، والعقل والقلب، ولا تدع مجالا للاشتغال بغيرها حال أدائها.
26. الخشوع الشرعي هو تذليل النفس لله تعالى وحبسها عن التمرد على طاعته والعصيان لأوامره ونواهيه مع استشعارها عظمته التي لا تكتنه، وكبرياءه التي لا تحد، وفسر ابن عباس الخاشعين بالمصدقين، ومجاهد بالمؤمنين، وأبو العالية بالخائفين، ومقاتل بالمتواضعين، والضحاك بالخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده، وأغلب هذه التفاسير من باب تفسير الشيء بلوازمه.
27. إنما لم تشق الصلاة على الخاشعين لأنهم يباشرونها وضمائرهم مرتاحة ونفوسهم مشتاقة إلى مناجاة المحبوب والتقرب إليه في مقامات الزلفى، فيجدون فيها من اللذة ما لا يجده أهل الدنيا في أبهج أوقاتهم وأعظم ملاذهم، وإذا كان من شأن عامة الناس أن يحسوا بارتياح نفسي عندما يتقربون إلى ملوك الدنيا ويجالسوهم ويسمعون أحاديثهم، فما بالكم بأهل الله وخاصته عندما يتمتعون بلذيذ مناجاته ويرجون مع ذلك كريم وعده ويتقون أليم وعيده.
28. وصف الله الخاشعين بقوله: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾، ولقاء ربهم يراد به الحشر إليه للحساب، والرجوع إليه، والانقلاب إلى ما أعده للناس من ثواب أو عقاب، وفسر بعضهم الرجوع بالموت واللقاء بالحشر أو الجزاء، ويضعف تفسير الرجوع بالموت ذكره بعد ذكر الإماتة في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، وأولى ما يفسر به القرآن القرآن نفسه.
29. حمل بعضهم المفاعلة المفهومة من قوله ﴿مُلَاقُوهُ﴾ على أنها فعل واحد وهو معروف وضعا، ومنه عافاك الله، وقاتله الله، ورده ابن عطية بأن لقى يتضمن معنى لاقى وليست كذلك الأفعال كلها بل على خلاف فاعل في المعنى.
30. استدلّ بعض القائلين بجواز الرؤية على الله ـ تعالى الله عن ذلك ـ بهذه الآية على معتقده، وجمل اللقاء على الرؤية الدعاة، وأجيب بأن تفسير اللقاء بالرؤية ليس له أساس من الوضع اللغوي ولا الاصطلاح الشرعي، فالأعمى مثلا يقول لقيت فلانا إذا حضر عنده مع كونه غير راء له، وفي القرآن ما ينقض هذا الزعم لكثرة ورود اللقاء فيه لغير معنى الرؤية من ذلك قوله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾، ومدعو الرؤية يزعمون أنها شرف يخص الله به المؤمنين وليس للمنافقين منه نصيب، وقوله عز من قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ مع أن الخطاب ليس للمؤمنين وحدهم، وقوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾، وفي حديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان)، والرؤية المزعومة تتناسب مع الرضى والرحمة، لا مع الغضب والعذاب، وشاع على ألسنة المسلمين ـ بل وسائر المتدينين ـ قولهم في من مات لقى الله ولا يعنون بذلك رؤيته، وكثيرا ما يقول القائل لقيت من هذا الأمر جهدا، إذا تكلفه مع أن الرؤية هنا متعذرة، ومثل ذلك في قولهم لاقى الحمام.
31. مع دحض هذا الجواب لكل شبهة في الموضوع تكلف الفخر الرازي رده متشبثا بما هو أوهى من نسج العنكبوت، وحاصل كلامه أن الملاقاة لغة عبارة عن اتصال الجسمين بالتماس، ولما كانت الملاقاة بين الجنسين المدركين سببا لحصول الإدراك فحيث امتنعت المماسة وجب حمله على الإدراك لأن إطلاق لفظ السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز فثبت أنه يجب حمل لفظ اللقاء على الإدراك، وخروج بعض الصور لدليل خاص عما تقتضيه هذه القاعدة غير قادح، فبما أن المنافق لا يرى ربه حمل قوله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾، على لقاء حسابه وحكمه للضرورة الداعية إلى ذلك، وبما أن هذا الإضمار على خلاف الدليل لا يصار إليه إلا مع الضرورة، ولا ضرورة في قوله: ﴿إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ حتى يصرف اللفظ عن ظاهره أو تضمر هذه الزيادة، وما أعجب صدور هذه السفسطة من مثل الفخر الرازي على علو كعبه ورسوخ قدمه في العلم، وأعجب ما في الأمر الاجتراء البين على تفسيره لقاء الله بإدراكه مع توفر الأدلة العقلية والنقلية على استحالة إدراك ذات الله سبحانه، وكفى بقوله عز وجل: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ نصا صريحا في الموضوع، وإذا لم تكن في ذلك حجة فليس يصح في الأذهان شيء، وتتابع التعبير بلقاء الله في مواضع مختلفة من الكتاب، حيث لا يجوز تفسيره بالرؤية عند الجميع دليل قاطع على أن له معنى سوى الرؤية، وهو لقاء الحكم أو الجزاء وحمله على هذا المعنى هو المتعين لاتفاقه مع دلائل العقل والنقل.
32. أصل الظن الوقوف بين طرفي الأمر سلبا وإيجابا مع ترجيح أحدهما، ومن حيث أن اليوم الآخر لا مساغ للشك فيه والإيمان به أحد ركائز العقيدة في الإسلام، فسر أكثر السلف والخلف الظن هنا باليقين، واستدلوا له بقوله تعالى: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾، فإن المقام مقام يقين وليس مقام تردد، وقوله عز من قائل حكاية لما يقوله الفائز يوم الحساب: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ فإنه كان على يقين من ذلك.
33. ذكر ابن عطية أن الظن يكون بمعنى اليقين فيما لو كان محسوسا، فلا يقال في رجل مَرثيٍ حاضر أظن هذا إنسانا وإنما يستعمل كذلك فيما لم يخرج إلى الحس بعد.
34. أبقى جماعة من أهل التفسير ظن هنا على بابها، وحمل ذلك على كونهم يلحظون دائما من أنفسهم التقصير في ذات الحق تعالى، فيظنون أنهم سوف يلاقونه بأوزارهم وهو مما يزيد قلوبهم وجلا ونفوسهم خشوعا، وخلاصة ذلك أنهم لا يأمنون سوء الخاتمة مع مراعاتهم عظم المقام وكثرة التقصير، واختار محمد عبده أن التعبير بالظن دون اليقين هنا لإفادة التقريع والتوبيخ لأولئك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.
__________
(1) تفسير الخليلي: 3/179.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثمة منطلقان أساسيان للتغلب على الصعاب والمشاكل، أحد هما داخلي، والآخر خارجي، أشارت الآية إلى هذين المنطلقين بعبارة (الصبر) و(الصلاة). فالصبر هو حالة الصمود والاستقامة والثبات في مواجهة المشاكل، والصلاة هي وسيلة الارتباط بالله حيث السند القويّ المكين.
2. كلمة (الصبر) فسرت في روايات كثيرة بالصوم، لكنها لا تنحصر حتما، بل الصوم أحد المصاديق الواضحة البارزة للصبر، لأن الإنسان يحصل في ظل هذه العبادة الكبرى على الإرادة القوية والإيمان الراسخ والقدرة على التحكم في الميول والرغبات.
3. التوجه إلى الصلاة والتضرّع إلى الله سبحانه يمنح الإنسان طاقة جديدة تجعله قادرا على مواجهة المشاكل، وفي كتاب (الكافي) عن الصادق عليه السّلام: كان عليّ عليه السّلام إذا هاله أمر فزع إلى الصّلاة ثمّ تلا هذه الآية: واستعينوا بالصّبر والصّلاة)
4. نعم، الصلاة تربط الإنسان بالقدرة اللامتناهية التي لا يقهرها شيء، وهذا الإحساس يبعث في الإنسان قوّة وشهامة على تحدّي المشاكل والصعاب.
5. ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾
6. عبارة (لقاء الله) وردت مرارا في القرآن الكريم، وتعني بأجمعها الحضور على مسرح القيامة، ومن البديهي أن المقصود بلقاء الله ليس هو اللقاء الحسّي، كلقاء أفراد البشر مع بعضهم، لأن الله ليس بجسم، ولا يحده مكان، ولا يرى بالعين، بل المقصود:
أ. مشاهدة آثار قدرة الله وجزاءه وعقابه ونعمه وعذابه على ساحة القيامة، كما ذهب إلى ذلك جمع من المفسرين.
ب. أو إن المقصود الشهود الباطني والقلبي، لأن الإنسان يصل درجة كأنه يرى الله ببصيرته أمامه، بحيث لا يبقى في نفسه أي شك وترديد، وهذه الحالة قد تحصل للأفراد نتيجة الطّهر والتقوى والعبادة وتهذيب النفس في هذه الدنيا، وفي (نهج البلاغة) نقرأ: أن (ذعلب اليماني) وهو من فضلاء أصحاب الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام، سأل عليا هل رأيت ربّك؟ أجابه علي: أفأعبد ما لا أرى!؟ وحين طلب ذعلب مزيدا من التوضيح قال الإمام: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان)، وهذا الشهود الباطني ينجلي للجميع يوم القيامة، ولا يبقى أحد إلّا وقد آمن إيمانا قاطعا، لوضوح آثار عظمة الله وقدرته في ذلك اليوم.
7. كلمة (يظنّون) من مادة (ظنّ) وقد تأتي بمعنى اليقين، وفي هذا الموضع تعني الإيمان واليقين القطعي، لأن الإيمان بلقاء الله والرجوع إليه، يحيي في قلب الإنسان حالة الخشوع والخشية والإحساس بالمسؤولية، وهذا أحد آثار تربية الإنسان على الإيمان بالمعاد، حيث تجعل هذه التربية الفرد مائلا دوما أمام مشهد المحكمة الكبرى، وتدفعه إلى النهوض بالمسؤولية وإلى الحق والعدل.
8. يحتمل أن يكون استعمال (الظن) في الآية للتأكيد، أي أن الإنسان لو ظنّ بالآخرة فقط، فظنه كاف لأن يصده عن ارتكاب أي ذنب، وهو تقريع لعلماء اليهود وتأكيد على أنهم لا يمتلكون إيمانا باليوم الآخر حتى على مستوى الظن، فلو ظنوا بالآخرة لأحسّوا بالمسؤولية، وكفّوا عن هذه التحريفات!
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/194.