...

📥 للتعريف بالكتاب وتحميله

📥 للبحث في الآيات القرآنية وعناوينها

اختر جزءا من الكتاب:

اختر عنوانا من الكتاب:

79. حدود الصوم والاعتكاف

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈79⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 187]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لا اعتكاف إلا بالصوم(1)..

2. روي أنّه قال: لا أرى الاعتكاف إلاّ في المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو مسجد جامع، ولا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلاّ لحاجة لا بد منها، ثم لا يجلس حتى يرجع، والمرأة مثل ذلك(2)..

__________

(1) عيون أخبار الإمام الرضا: 2/38/103.

(2) الكافي: 4/176/2.

عائشة:

روي عن معاذة: أن امرأة سألت عائشة (ت 57 هـ) عن وصال صيام رسول الله، فقالت: أتعملين كعمله؛ فإنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكان عمله نافلة!؟ ثم قالت عائشة: أما أنا ـ فوالله ـ ما صمت ليلا قط؛ إن الله قال ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾(1)..

__________

(1) أبو يعلى في مسنده: ٨/٥٨.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء؛ منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فأنزل الله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾، يعني: انكحوهن(1)..

2. روي أنّه قال: الدخول، والتغشي، والإفضاء، والمباشرة، والرفث، واللمس، والمس: هذا الجماع، غير أن الله حيي كريم، يكني بما شاء عما شاء(2)..

3. روي عن نافع بن الأزرق، أنه قال له: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُم﴾ قال هن سكن لكم، تسكنون إليهن بالليل والنهار قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت نابغة بن ذبيان وهو يقول(3).:

çإذا ما الضجيع ثنى عطفها... تثنت عليه فكانت لباساé

4. روي أنّه قال: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن(4)..

5. روي أنّه قال: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُم﴾ ليلة القدر(5)..

6. روي أنّه قال: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُم﴾ الولد(6)..

7. روي أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ قال بياض النهار من سواد الليل، وهو الصبح إذا انفلق قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول أمية(7).:

çالخيط الأبيض ضوء الصبح منغلق... والخيط الأسود لون الليل مكمومé

8. روي أنّه قال: ﴿الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾، يعني: الليل من النهار، فأحل لكم المجامعة، والأكل، والشرب حتى يتبين لكم الصبح، فإذا تبين الصبح حرم عليهم المجامعة والأكل والشرب حتى يتموا الصيام إلى الليل، فأمر بصوم النهار إلى الليل، وأمر بالإفطار بالليل(8)..

9. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ﴾ الآية، هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو غير رمضان، فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا ونهارا، حتى يقضي اعتكافه(9)..

10. روي عن أبي الضحى، أن رجلا قال لابن عباس: متى أدع السحور إذا شككت، فقال ابن عباس: كل ما شككت حتى يتبين لك(10)..

11. روي أنّه قال: هما فجران؛ فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئا، ولكن الفجر الذي يستبين على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب(11)..

12. روي أنّه قال: إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه، ويستأنف(12)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٢٣٦.

(2) عبد الرزاق في مصنفه: ١٠٨٢٦.

(3) الدرّ المنثور: الطستي.

(4) ابن جرير: ٣/٢٣٣.

(5) ابن جرير: ٣/٢٤٦.

(6) ابن جرير: ٣/٢٤٥.

(7) الأثر عند الطستي ـ كما في الإتقان: ٢/٩٢ ـ: ٩٣.

(8) ابن جرير: ٣/٢٤٩.

(9) ابن جرير: ٣/٢٦٨.

(10) ابن أبي شيبة: ٣/٢٥ ـ: ٢٦.

(11) عبد الرزاق: ٣٧٦٥.

(12) ابن أبي شيبة: ٣/٩٢.

البراء:

روي عن البراء بن عازب (ت 72 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، فكان رجال يخونون أنفسهم؛ فأنزل الله: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُم﴾(1)..

2. روي أنّه قال: قال كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كان الرجل صائما، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر؛ لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، فكان يومه ذاك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، فغلبته عينه، فنام، وجاءت امرأته، فلما رأته نائما قالت: خيبة لك؛ أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فنزلت هذه الآية: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾، ففرحوا بها فرحا شديدا(2)..

__________

(1) البخاري: ٤٥٠٨.

(2) البخاري: ١٩١٥.

سهل:

روي عن سهل بن سعد (ت 91 هـ) أنّه قال: أنزلت: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾، ولم ينزل: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾؛ فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما؛ فأنزل الله بعد: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾، فعلموا أنه إنما يعني: الليل والنهار(1)..

__________

(1) البخاري: ١٩١٧.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنه ذكر عنده الوصال، فقال: فرض الله الصوم بالنهار، فقال: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾؛ فإذا جاء الليل فأنت مفطر، فإن شئت فكل، وإن شئت فلا(1)..

__________

(1) ابن أبي شيبة: ٣/٨٣ ـ: ٨٤.

السجاد:

روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: والله لقضاء حاجته ـ يعني: الأخ المؤمن أحب إلى الله عز وجل من صيام شهرين متتابعين واعتكافهما في المسجد الحرام(1)..

2. روي عن ميمون بن مهران (ت 117 هـ) أنّه قال: كنت جالسا عند الإمام السجاد فأتاه رجل فقال له: يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنّ فلانا له علي مال ويريد أن يحبسني، فقال: والله، ما عندي مال فأقضي عنك، قال فكلّمه، قال فلبس نعله، فقلت له: يا ابن رسول الله أنسيت اعتكافك؟ فقال له: لم أنس ولكني سمعت أبي يحدث عن جدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال من سعى في حاجة أخيه المسلم فكأنّما عبد الله عز وجل(2)..

__________

(1) ثواب الاعمال: 175/1.

(2) ورد في الأصل: تسعة آلاف سنة.. وهو معارض بأحاديث أخرى تذكر جزاء أقل بكثير.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: كانوا يجامعون وهم معتكفون، حتى نزلت: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾(1)..

__________

(1) ابن أبي شيبة: ٣/٩٢.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ إذا تسحر الرجل وهو يرى أن عليه ليلا، وقد كان طلع الفجر؛ فليتم صومه؛ لأن الله يقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ﴾، وإذا أكل وهو يرى أن الشمس قد غابت ولم تغب فليقضه؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾(1)..

2. روي أنّه قال فيمن أفطر ثم طلعت الشمس: يقضي؛ لأن الله يقول: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾(2)..

__________

(1) سعيد بن منصور في سننه: ٢/٧٠١.

(2) ابن أبي شيبة: ٣/٢٤.

طاووس:

روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنّه قال: الدخول، واللمس، والمسيس: الجماع، والرفث في الصيام: الجماع، والرفث في الحج: الإغراء به(1)..

__________

(1) عبد الرزاق في مصنفه: ١٠٨٢٨.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ قال الليل من النهار(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٢٤٨.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه كتب بعضهم إلى الإمام الباقر: جعلت فداك، اختلف مواليك في صلاة الفجر فمنهم من يصلي إذا طلع الفجر الأول المستطيل في السماء، ومنهم من يصلي إذا اعترض في أسفل الأرض واستبان، وذكر الحديث إلى أن قال فكتب بخطه: الفجر ـ رحمك الله ـ الخيط الأبيض، وليس هو الأبيض صعداء، ولا تصل في سفر ولا حضر حتى تتبينه ـ رحمك الله ـ فإن الله لم يجعل خلقه في شبهة من هذا، فقال: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187] فالخيط الأبيض هو الفجر الذي يحرم به الأكل والشرب في الصيام، وكذلك هو الذي يوجب الصلاة(1)..

2. روي أنّه قال: إذا اعتكف يوما ولم يكن اشترط فله أن يخرج ويفسخ الاعتكاف، وإن أقام يومين ولم يكن اشترط فليس له أن يفسخ اعتكافه حتى تمضي ثلاثة أيام(2)..

3. روي أنّه قال: من اعتكف ثلاثة أيام فهو يوم الرابع بالخيار إن شاء زاد ثلاثة أيام أُخر، وإن شاء خرج من المسجد، فإن أقام يومين بعد الثلاثة فلا يخرج من المسجد حتى يتم ثلاثة أيام أُخر(3)..

4. روي أنّه قال: المعتكف لا يشم الطيب، ولا يتلذذ بالريحان، ولا يماري، ولا يشتري، ولا يبيع(3)..

__________

(1) التهذيب: 2/36.

(2) الكافي: 4/177/3.

(3) الكافي: 4/177/4.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُم﴾ وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾: فهما علمان وحدان بينان، فلا يمنعكم أذان مؤذن مراء أو قليل العقل من سحوركم؛ فإنهم يؤذنون بهجيع من الليل طويل، وقد يرى بياض ما على السحر يقال له: الصبح الكاذب، كانت تسميه العرب، فلا يمنعكم ذلك من سحوركم، فإن الصبح لا خفاء به، طريقة معترضة في الأفق، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الصبح، فإذا رأيتم ذلك فأمسكوا(2)..

3. روي أنّه قال: كان المسلمون في أول ما فرض عليهم الصيام إذا رقدوا لم يحل لهم النساء، ولا الطعام، ولا الشراب بعد رقادهم، فكان قوم يصيبون من ذلك بعد رقادهم، فكانت تلك خيانة القوم أنفسهم، فتاب عليهم بعد ذلك، وأحل ذلك إلى طلوع الفجر، وقال: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُم﴾(3)..

__________

(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٧١.

(2) ابن جرير: ٣/٢٤٩.

(3) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٩٦.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: (﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾: الرّفث: الجماع، والرّفث: التعريض بذكر الجماع وهو الإعراب.. ومثل قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ والفسوق: المعاصي.. والجدال: المراء، أن تماري صاحبك حتّى تغيظه،(1)..

2. روي أنّه قال: (﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ ويقال لامرأة الرّجل: هي لباس، وفراش وإزاره، أولاده، ومحل إزاره،(1)..

3. روي أنّه قال: (﴿ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾ معناه اطلبوا الولد.. وقال: بعضهم: ليلة القدر.. ويقال: الرّخصة التي كتب الله لكم،(1)..

4. روي أنّه قال: (﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾: فالخيط: اللّون.. والأبيض منه.. والأسود منه: هو سواد اللّيل،(1)..

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 95.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾، بياض النهار من سواد الليل(1)..

2. روي عن سماعة، قال سألت الإمام الصادق عن قوم صاموا شهر رمضان، فغشيهم سحاب أسود عند غروب الشمس، فظنوا أنه ليل فأفطروا، ثم إن السحاب انجلى فإذا الشمس، فقال: على الذي أفطر قضاء ذلك اليوم، إن الله عز وجل يقول: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾(2)..

3. روي أنّه قال في قوم صاموا شهر رمضان، فغشيهم سحاب أسود عند غروب الشمس، فرأوا أنه الليل، فأفطر بعضهم، ثم إن السحاب انجلى فإذا الشمس، قال: على الذي أفطر صيام ذلك اليوم، إن الله عز وجل يقول: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، فمن أكل قبل أن يدخل الليل فعليه قضاؤه، لأنه أكل متعمدا(2)..

4. روي أنّه قال: كان الأكل والنكاح محرمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم، يعني كل من صلى العشاء ونام ولم يفطر ثم انتبه، حرم عليه الإفطار، وكان النكاح حراما في الليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقال له: خوات بن جبير الأنصاري، أخو عبد الله بن جبير، الذي كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكله بفم الشعب يوم احد مع خمسين من الرماة، ففارقه أصحابه وبقي في أثني عشر رجلا، فقتل على باب الشعب، وكان أخوه هذا خوات بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا، وكان صائما مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الخندق، فجاء إلى أهله حين أمسى، فقال: عندكم طعام؟ فقالوا: لا تنم حتى نصنع لك طعاما فأبطأت عليه أهله بالطعام، فنام قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لأهله: قد حرم علي الأكل في هذه الليلة، فلما أصبح حضر حفر الخندق، فأغمي عليه، فرآه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فرق له، وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان، فأنزل الله عز وجل: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُم﴾ الآية، فأحل الله تبارك وتعالى النكاح بالليل في شهر رمضان، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر، لقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ ـ قال ـ: هو بياض النهار من سواد الليل(3)..

5. روي أنّه سئل عن رجلين قاما في شهر رمضان، فقال أحدهما: هذا الفجر، وقال الآخر: ما أرى شيئا، قال: ليأكل الذي لم يستيقن الفجر، وقد حرم الأكل على الذي زعم قد رأى، إن الله يقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾(4)..

6. روي أنّه سئل عن قوم صاموا شهر رمضان فغشيهم سحاب أسود عند غروب الشمس، فرأوا أنه الليل فأفطر بعضهم، ثم إن السحاب انجلى فإذا الشمس، فقال: على الذي أفطر صيام ذلك اليوم، إن الله عز وجل يقول: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187] فمن أكل قبل أن يدخل الليل فعليه قضاؤه لأنه أكل متعمدا(5)..

7. روي أنّه سئل عن رجل صام، ثم ظن أن الشمس قد غابت وفي السماء غيم فأفطر، ثم إن السحاب انجلى فإذا الشمس لم تغب، فقال: قد تم صومه ولا يقضيه(6)..

8. روي أنّه سئل عن رجل صائم ظن أن الليل قد كان، وأن الشمس قد غابت، وكان في السماء سحاب فأفطر، ثم إن السحاب انجلى فإذا الشمس لم تغب، فقال: تم صومه ولا يقضيه(7)..

9. روي أنّه قال: وقت سقوط القرص ووجوب الإفطار من الصيام أن تقوم بحذاء القبلة وتتفقد الحمرة التي ترتفع من المشرق، فإذا جازت قمة الرأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الإفطار وسقط القرص(8)..

10. روي أنّه قال: إذا غابت الشمس فقد حل الإفطار ووجبت الصلاة(9)..

11. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187]: سقوط الشفق(10)..

12. روي أنّه قال: لا اعتكاف إلا بصوم في مسجد الجامع(11)..

13. روي أنّه قال: لا يصلح العكوف في غيرها ـ يعني: غير مكة ـ إلا أن يكون في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو في مسجد من مساجد الجماعة(12)..

14. روي أنّه قال: لا يكون اعتكاف إلاّ في مسجد جماعة(13)..

15. روي أنّه سئل عن الاعتكاف، فقال: لا يصلح الاعتكاف إلاّ في المسجد الحرام، أو مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو مسجد الكوفة، أو مسجد جماعة، وتصوم ما دمت معتكفاً(14)..

16. روي أنّه سئل عن الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها، فقال: لا اعتكاف إلاّ في مسجد جماعة قد صلى فيه إمام عدل صلاة جماعة، ولا بأس أن يعتكف في مسجد الكوفة والبصرة ومسجد المدينة ومسجد مكة(15)..

17. روي أنّه قال: لا اعتكاف إلاّ بصوم، وفي المصر الذي أنت فيه(16)..

18. روي أنّه قال: لا يكون الاعتكاف أقل من ثلاثة أيام(17)..

19. روي أنّه سئل عن معتكف أتى أهله، فقال: عليه ما على الذي أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا(18)..

20. روي أنّه قال: لا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلاّ لحاجة لا بد منها، ثم لا يجلس حتى يرجع، ولا يخرج في شيء إلاّ لجنازة، أو يعود مريضا، ولا يجلس حتى يرجع، واعتكاف المرأة مثل ذلك(19)..

21. روي أنّه سئل : إنّي أُريد أن أعتكف، فماذا أقول؟ وماذا أفرض على نفسي؟ فقال: لا تخرج من المسجد إلاّ لحاجة لا بد منها، ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى مجلسك(20)..

22. روي أنّه قال: ولا يخرج المعتكف من المسجد إلا في حاجة(21)..

23. روي أنّه قال: ليس للمعتكف أن يخرج من المسجد إلاّ إلى الجمعة أو جنازة أو غائط(22)..

24. روي أنّه قال: المعتكف بمكة يصلي في أي بيوتها شاء، سواء عليه صلى في المسجد أو في بيوتها(23)..

25. روي أنّه قال: المعتكف بمكة يصلي في أي بيوتها شاء، والمعتكف بغيرها لا يصلي إلا في المسجد الذي سماه(24)..

26. روي أنّه قال: المعتكف بمكة يصلي في أي بيوتها شاء سواء عليه صلى في المسجد أو في بيوتها.. ولا يصلي المعتكف في بيت غير المسجد الذي اعتكف فيه إلاّ بمكة فإنّه يعتكف بمكة حيث شاء لأنها كلها حرم الله(21)..

27. روي أنّه قال: ينبغي للمعتكف إذا اعتكف أن يشترط كما يشترط الذي يحرم(17)..

28. روي أنّه قال: اشترط على ربك في اعتكافك كما تشترط في إحرامك أن يحلك من اعتكافك عند عارض إن عرض لك من علة تنزل بك من أمر الله تعالى(25)..

29. روي أنّه قال: إذا مرض المعتكف أو طمثت المرأة المعتكفة فإنّه يأتي بيته ثم يعيد إذا برئ ويصوم(26)..

30. روي أنّه سئل عن المعتكفة إذا طمثت، فقال: ترجع إلى بيتها، فإذا طهرت رجعت فقضت ما عليها(27)..

31. روي أنّه قال: من سعى في حاجة أخيه المسلم فاجتهد فيها فأجرى الله على يديه قضاها كتب الله عز وجل له حجة وعمرة، واعتكاف شهرين في المسجد الحرام وصيامهما(28)..

__________

(1) الكافي: 4/98.

(2) الكافي: 4/100.

(3) تفسير القمّي: 1/66.

(4) تفسير العيّاشي: 1/83.

(5) الكافي: 4/100/2.

(6) التهذيب: 4/270/816.

(7) التهذيب: 4/271/817.

(8) الكافي: 4/100/1.

(9) من لا يحضره الفقيه: 1/142/622.

(10) مستطرفات السرائر: 51/17.

(11) من لا يحضره الفقيه: 2/119/516.

(12) التهذيب: 4/291/885.

(13) التهذيب: 4/290/881.

(14) الكافي: 4/176/3.

(15) الكافي: 4/176/1.

(16) منتهى المطلب: 2/633.

(17) الكافي: 4/177/2.

(18) التهذيب: 4/292/888.

(19) من لا يحضره الفقيه: 2/122/529.

(20) من لا يحضره الفقيه: 2/122/528.

(21) التهذيب: 4/293/891.

(22) الكافي: 4/178/1.

(23) من لا يحضره الفقيه: 2/121/522.

(24) من لا يحضره الفقيه: 2/121/523.

(25) التهذيب: 4/289/878.

(26) من لا يحضره الفقيه: 2/122/530.

(27) من لا يحضره الفقيه: 2/123/536.

(28) الكافي: 2/158/7.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾ يعني: أمره للناس، وأمر الاعتكاف؛: ﴿لَعَلَّهُم﴾ يعني: لكي: ﴿يَتَّقُونَ﴾ المعاصي في الاعتكاف(1)..

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٦٥.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال (﴿تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُم﴾: تظلمون أنفسكم(1)..

__________

(1) تفسير سفيان الثوري: ص٥٧.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ من هذه الحدود الأربعة، فقرأ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُم﴾، فقرأ حتى بلغ: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، وكان أبي، وغيره من مشيختنا يقولون هذا، ويتلونه علينا(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٢٦٧.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ سماه‏ ﴿لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ الليل مضاف إلى يومه، كأنه قال ليلة يوم الصوم، وإن لم يكن فيها صوم في الحقيقة؛ لانتظار الصيام فيها بالنهار، على ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ قال: (منتظر الصلاة ما دام ينتظرها في الصلاة)، وكذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ أضاف الصوم إلى الشهر يدخل فيه الليل والنهار؛ لأن اسم الشهر يجمع الليل والنهار جميعا.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾:

أ. قيل‏: ﴿الرَّفَثُ﴾ الجماع، وهو قول ابن عباس.

ب. وقيل‏: ﴿الرَّفَثُ﴾ هو حاجات الرجال إلى النساء من نحو الجماع، والمس، والتقبيل وغيره.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾:

أ. قيل‏: هن ستر لكم عما لا يحل، وأنتم ستر لهن أيضا، يعف الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل.

ب. وقيل‏: هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن، يسكن الزوج بالزوجة، والزوجة بالزوج، وهو كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ [النبأ: 10] أي سكنا، ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ [غافر: 61]، ويحتمل: أن يكون أحدهما لباس الآخر بالليالي.

4. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾، ﴿تَخْتَانُونَ﴾ وتخونون واحد، قيل‏: نزلت الآية في شأن عمر، وذلك أن الناس إذا صاموا، ثم نام أحد منهم، حرم عليهم الطعام والجماع حتى يفطر من الغد، فواقع عمر امرأته يوما بعد ما نام أو نامت، فغدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره بذلك، فنزل قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي تظلمون؛ لأن كل خائن ظالم نفسه، فتاب الله عليه وعفا عنه، ثم رخص لهم المباشرة بقوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ على الرخصة، هو على الإباحة، لا على الأمر به.

5. ﴿وَابْتَغُوا﴾ أي اتبعوا، ﴿مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ قيل فيه بوجوه:

أ. قيل‏: ﴿مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ من الولد.

ب. وقيل‏: ﴿مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ من ليلة القدر، وما فيه من نزول الرحمة.

ج. وقيل‏: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ من الرخصة، والإباحة في الجماع في ليلة الصيام، والأكل بعد النوم وهو كما جاء: (من لم يقبل رخصنا كما يقبل عزائمنا، فليس منّا)

6. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾:

أ. ذكر عن عدى بن حاتم‏، أنّه قال كنت أضع خيطين تحت وسادتي بعد نزول هذه الآية: أحدهما أبيض، والآخر أسود، فكنت انظر فيه متى ما تبين لي إلى أن أتيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأخبرته، فقال: (إن وسادك لعريض)، يعنى أن الفجر هو المتعرض في الأفق.

ب. وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنّه قال (لا يغرنكم الفجر المستطيل، إنما الفجر المستطير في الأفق)، وروى أنّه قال (الفجر فجران: فجر مستطيل في السماء، وفجر مستطير في الأفق، هو الذي يحرم الطعام على الصائم ويحل الصلاة)

ج. وروى أنّه قال (لا يغرنكم أذان بلال‏، فإنه إنما يؤذن بالليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم)

د. وفى بعض الأخبار قال (لا يغرنكم أذان بلال عن سحوركم، فإنه إنما يؤذن بليل)، أو كلام نحو هذا.

7. الأصل في هذا: أن الله عزّ وجل جعل حد الصيام من وقت تبين النهار إلى وقت غيبوبة الشمس وأباح من وقت غيبوبة الشمس إلى وقت تبين النهار، الطعام، والشراب، والجماع تخفيفا منه.

8. اختلف أهل التأويل في معنى المباشرة في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾

أ. قيل‏: (المباشرة) عنى الله به: الجماع وما دون الجماع، فإنما نهوا عنها.

ب. وقيل: (المباشرة) كناية عن الجماع.

9. قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ فيه أدلة من أوجه:

أ. الآية، كأنها نزلت في نازلة بلوا بها، لا أن كانوا يباشرون نساءهم في المساجد؛ لأن المساجد كانت أجل عندهم من أن يجعلوها مكانا لوطء النساء، ولكنه أن الاعتكاف‏: هو اللبث في مكان، يأخذ الحق في نفسه عند عكوفه في المسجد وخروجه منه، فذكر أن العكوف نفسه يحرم الجماع في الأحوال كلها، ليس كالصوم الذي يحرم حالا دون حال في الوقت الذي لم يكونوا فيها، ليعلموا أن حكم المقام في المساجد أخذ لهم وليسوا هم‏ فيها، ولو لم يكن شرطا في ذلك لكان قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ﴾ كافيا إذ لم يكونوا في المساجد وقت لحوق النهى للمباشرة.

ب. وفيه دليل أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، حيث خص المساجد دون غيرها من الأمكنة.

ج. وفيه دليل أن المعتكف قد يخرج من معتكفه‏، لكنه لا يخرج إلا لما لا منه، على ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنه كان لا يخرج إلا لحاجة الإنسان)، وحاجة الإنسان يحتمل وجهين:

يحتمل: لما يرفع إليه من الحوائج.

ويحتمل: حاجة الإنسان: الحاجة المعروفة التي لا يحتمل قضاؤها في المسجد.

10. فى قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ دليل أن الاعتكاف يكون في جميع المساجد؛ لأنه عم المساجد، وما روى: أن (لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام) إن ثبت، فهو على التناسخ؛ لأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم اعتكف في مسجد المدينة، فدل فعله أنه منسوخ.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾:

أ. قيل‏: ﴿تِلْكَ﴾ المباشرة معصية، ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ في الاعتكاف، فحد الأمر ألا تقربوها.

ب. وقيل: إنه جعل لكل طاعة وأمر ونهى حدّا وغاية، فلا يجاوز ولا يقصر عنه.

ج. وقيل‏: ﴿تِلْكَ﴾ فرائض الله.

د. وقيل: ﴿تِلْكَ﴾ سنن الله، وكان الأول أقرب.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/50.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. معنى قوله عز وجل: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ الآية: أي علم الله أنكم كنتم خائنين لأنفسكم، غير ناصحين لها من عذاب ربكم، وإنما كانت خيانتهم لأنفسهم عندما حرم الله وطء النساء في شهر رمضان، ولم يطلقه في ليل ولا نهار، فعصوا الله ثم تابوا، فنسخ الله ذلك وأحلهن في وقت الإفطار.

2. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ الخيط الأبيض هو الفجر والخيط الأسود هو الليل، قال الشاعر: (الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق)

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 281.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ الرفث قال ابن عباس أنّه قال (الجماع، وقوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ شبهت باللباس قيل من حيث تحصنها بنفسه كما يحصن لباسه فيراها أهلاً لملاقاته وقيل لأنه يسكن إليها ويستتر بها عن الأمور التي تنفر النفس عنه كما يستتر بلباسه عن كشف ما ينفر الطبع عن كشفه.

2. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ تظلمون أنفسكم وقيل تخونون في الجماع لأنه الذي سبق ذكره وبتأخر ذكره ولا بد أن يكون من بعضهم والمعنى جامعتم على وجه محظور.

3. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ نزلت في أناس من الصحابة كانوا يعكفون في المسجد فإذا عرضت لأحدهم حاجة إلى أهله خرج وجامعها ثم اغتسل وعاد إلى المسجد فنهوا عن ذلك.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/97.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ كان ابن مسعود يقرأ الرفث والرفوث جميعا، وهو الجماع في قوله، وأصله فاحش القول، كما قال العجاج: (عن اللغا ورفث الكلام)، فيكنى به عن الجماع، لأنه إذا ذكر في غير موضعه كان فحشا.

2. في قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ تأويلات:

أ. أحدها: بمنزلة اللباس، لإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه، يستتر به كالثوب الملبوس، كما قال النابغة الجعدي:

çإذا ما الضجيج ثنى عطفها...تثنت عليه فصارت لباساé

ب. الثاني: أنهم لباس يعني السكن لقوله تعالى‏ ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ [النبأ: 10] أي سكنا، وهذا قول مجاهد وقتادة والسدي.

çورب أسراب حجيج كظّم‏...عن اللغا ورفث التكلم‏é

3. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ سبب هذه الخيانة التي كان القوم يختانون أنفسهم، شيئان:

أ. أحدهما: إتيان النساء.

ب. الثاني: الأكل والشرب، وذلك أن الله تعالى أباح في أول الإسلام الأكل والشرب والجماع في ليل الصيام قبل نوم الإنسان، وحرّمه عليه بعد نومه، حتى جاء عمر بن الخطاب ذات ليلة من شهر رمضان، يريد امرأته، فقالت له: إني قد نمت، وظن أنها تعتل عليه، فوقع بها، وجاء أبو قيس بن صرمة، وكان يعمل في أرض له، فأراد الأكل، فقالت له امرأته: نسخّر لك شيئا، فغلبته عيناه، ثم أحضرت إليه الطعام، فلم يأكل منه فلما أصبح لاقى جهدا، وأخبر عمر وأبو قيس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بما كان منهما، فأنزل الله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾

4. في قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: العفو عن ذنوبهم.

ب. الثاني: العفو عن تحريم ذلك بعد النوم.

5. ثم قال تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ يريد به الجماع، لأن أصل المباشرة من إلصاق البشرة بالبشرة، وكان ذلك منه بيانا لما كان في جماع عمر.

6. في قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: طلب الولد، وهو قول مجاهد، وعكرمة، والسدي.

ب. الثاني: ليلة القدر، وهو قول ابن عباس، وكان يقرأ واتّبعوا ما كتب الله لكم.

ج. الثالث: ما أحل الله تعالى لكم ورخص فيه، وهذا قول قتادة.

7. ثم قال تعالى فيما كان من شأن أبي قيس بن صرمة: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ اختلف في المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود، على ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: ما رواه سهل بن سعد قال لما نزلت‏ ﴿كُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ‏ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعد ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار.

ب. الثاني: أنه يريد بالخيط الأبيض ضوء النهار، وهو الفجر الثاني، وبالخيط الأسود سواد الليل قبل الفجر الثاني، وروى الشعبي عن عدي بن حاتم: أنه عمد إلى خيطين أبيض وأسود، وجعلهما تحت وسادته، فكان يراعيهما في صومه، ثم أخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (إنّك لعريض الوسادة، إنّما هو بياض النّهار وسواد اللّيل)، وسمّي خيطا، لأن أول ما يبدو من البياض ممتد كالخيط، قال الشاعر:

çالخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق‏...والخيط الأسود لون الليل مكتوم‏é

والخيط في كلامهم عبارة عن اللون.

ج. الثالث: ما حكي عن حذيفة بن اليمان أن الخيط الأبيض ضوء الشمس، وروي نحوه عن عليّ وابن مسعود، وقد روى‏ زر بن حبيش عن حذيفة قال كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يتسحر وأنا أرى مواقع النبل، قال قلت بعد الصبح؟ قال هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس، وهذا قول قد انعقد الإجماع على خلافه، وقد روى سوادة بن حنظلة عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يمنعنّكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق)، وروى الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان‏ قال قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الفجر فجران، فالّذي كأنّه ذنب السرحان لا يحرّم شيئا، وأمّا المستطير الّذي يأخذ الأفق فإنّه يحلّ الصّلاة ويحرّم الطّعام)

8. الفجر: مصدر من قولهم فجر الماء يفجر فجرا، إذا جرى وانبعث، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: (فجر) لانبعاث ضوئه، فيكون زمان الصوم المجمع على تحريم الطعام والشراب فيه وإباحته فيما سواه: ما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس، روى عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن قال (أعظم الصّائمين أجرا أقربهم من اللّيل والنّهار إفطارا)

9. ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ يعني به غروب الشمس.

10. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: عني بالمباشرة الجماع، وهو قول الأكثرين.

ب. الثاني: ما دون الجماع من اللمس والقبلة، قاله ابن زيد ومالك.

11. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ أي ما حرم، وفي تسميتها حدود الله وجهان:

أ. أحدهما: لأن الله تعالى حدها بالذكر والبيان.

ب. الثاني: لما أوجبه في أكثر المحرمات من الحدود.

12. في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: يعني بآياته علامات متعبداته.

ب. الثاني: أنه يريد بالآيات هنا الفرائض والأحكام.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/245.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. الرفث الجماع هاهنا بلا خلاف، وفي قراءة ابن مسعود (فلا رفوث)، وقيل: أصله فاحش القول فكنّى به عن الجماع قال العجاج: (عن اللّغا ورفث التكلم‏)، والرفث والترفث: قول الفحش يقال رفث يرفث رفثاً.

2. روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام كراهية الجماع في أول ليلة من كل شهر، إلا أول ليلة من شهر رمضان لمكان الآية، والأشبه أن يكون المراد بليلة الصيام ليالي الشهر كله، وإنما ذكر بلفظ التوحيد، لأنه اسم جنس يدلّ على التكثير.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾:

أ. قيل: أنهن يصرن بمنزلة اللباس، كما قال النابغة الجعدي:

إذا ما الضجيع ثنى عطفه‏...تثنت عليه فكانت لباسا

ب. وقال قوم: معناه هنّ سكن لكم، كما قال ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ أي سكناً، واللباس الثياب التي من شأنها أن تستر الأبدان، ويشبه بها الأغشية فيقال لبّس السيف بالحلية.

4. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ معناه أنهم كانوا لما حرم عليهم الجماع في شهر رمضان بعد النوم، خالفوا في ذلك فذكرهم الله بالنعمة في الرخصة التي نسخت تلك الفريضة.

5. سؤال وإشكال: أليس الخيانة انتقاض الحق على جهة المساترة، فكيف يساتر نفسه؟ والجواب: عنه جوابان:

أ. أحدهما: أن بعضهم كان يساتر بعضاً فيه فصار كأنه يساتر نفسه، لأن ضرر النقص والمساترة داخل عليه.

ب. الثاني: أنه يعمل عمل المساتر له فهو يعمل لنفسه عمل الخائن له.

6. الخيانة: يقال: خانه يخونه خوناً وخيانة، وخونه تخويناً، واختانه اختياناً، وتخوّنه تخوناً، والتخون: التنقص، والتخون: تغيير الحال الى ما لا ينبغي و﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾: مشارفة النظر الي ما لا يحل، وأصل الباب منع الحق.

7. ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ أي قبل توبتكم.

8. في قوله تعالى: ﴿وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: غفر ذنبكم.

ب. الثاني: أزال تحريم ذلك عنكم، وذلك عفو عن تحريمه عليهم.

9. ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ أي جامعوهن، ومعناه الاباحة دون الأمر، والمباشرة إلصاق: البشرة بالبشرة، وهي ظاهر أحد الجلدين بالآخر.

10. في قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: قال الحسن، وغيره: يعني طلب الولد.

ب. الثاني: قال قتادة: يعني الحلال الذي بيّنه الله في الكتاب.

11. الابتغاء: الطلب للبغية.

12. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ إباحة للأكل والشرب ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ﴾ أي يظهر، والتبين: تميز الشيء الذي يظهر للنفس على التحقيق‏.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾:

أ. قيل: يعني بياض الفجر من سواد الليل.

ب. وقيل: خيط الفجر الثاني مما كان في موضعه من الظلام.

ج. وقيل النهار من الليل، فأول النهار طلوع الفجر الثاني لأنه أوسع ضياء، قال أبو داوود.

çفلما أضاءت لنا سدفة...ولاح من الصبح خيط أناراé

د. وروي عن حذيفة، والأعمش، وجماعة: أن الخيط الأبيض: هو ضوء الشمس، وجعلوا أول النهار طلوع الشمس، كما أن آخره غروبها بلا خلاف في الغروب.

أكثر المفسرين على القول الأول، وعليه جميع الفقهاء، لا خلاف فيه بين الأمة اليوم.

14. الخيط: في اللغة معروف يقال خاط يخيط خياطة، فهو يخيط، وخيّطه تخييطاً، والخيط: القطيع من النعام، ونعامة خيطاء: قيل: خيطها طول قصبتها، وعنقها، وقيل: اختلاط سوادها ببياضها، وكلاهما يحتمل، فالأول، لأنه كالخيط الممدود، و الثاني: لأنه كاختلاط خيوط بيض بسود، والمخيط الابرة، ونحوها مما يخاط به.

15. الأبيض: نقيض الأسود، والبياض ضد السواد يقال: أبيض، وابياض ابيضاضاً وبيّضه تبييضاً، وتبيّض تبيضاً، وبيضة الطير، وبيضة الحديد، وبيضة الإسلام مجتمعه، وابتاضوهم أي استأصلوهم، لأنهم اقتلعوا بيضهم وأصل الباب البياض.

16. أسود، واسوادّ اسوداداً، وسوده تسويداً، وتسود تسوداً، وساوده‏ سواداً: أي ساده سواداً، لأن الخفاء فيه كخفاء الشخص في سواد الليل، وسواد العراق: سمي به لكثرة الماء، والشجر الذي تسودّ به الأرض، وسواد كل شيء شخصه، والأسود من الحبة يجمع أساود، وسويداء القلب، وسوداؤه دمه الذي فيه في قول: ابن دريد، وقيل حبة القلب، لأنه في سواد من الظلمة، وساد سؤدداً، فهو سيد، لأنه ملك السواد الأعظم، والمسود: الذي قد ساده غيره.

17. قوله تعالى: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ يحتمل معنيين:

أ. أحدهما: أن يكون بمعنى التبعيض، لأن المعنى من الفجر، وليس الفجر كله، هذا قول ابن دريد.

ب. الثاني: بمعنى تبين الخيط، كأنه قال الخيط الذي هو الفجر.

18. ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ الليل هو بعد غروب الشمس، وعلامة دخوله على الاستظهار سقوط الحمرة من جانب المشرق، وإقبال السواد منه، وإلا فإذا غابت الشمس مع ظهور الآفاق في الأرض المبسوطة وعدم الجبال، والرواسي، فقد دخل الليل.

19. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ﴾ قولان هاهنا:

أ. قال ابن عباس، والضحاك، والحسن، وقتادة، وغيرهم: أراد به الجماع.

ب. وقال ابن زيد، ومالك: أراد الجماع، كلما كان دونه من قبلة، وغيرها، وهو مذهبنا(2)..

20. ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ الاعتكاف ـ عندنا ـ هو اللبث في أحد المساجد الأربعة: المسجد الحرام أو مسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو مسجد الكوفة أو مسجد البصرة، للعبادة من غير اشتغال بما يجوز تركه من أمور الدنيا، وله شرائط ـ ذكرناها في كتب الفقه وأصله اللزوم، قال الطرماح:

çفبات بنات الليل حولي عكفاً...عكوف البواكي بينهن صريع‏é

وقال الفرزدق:

çترى حولهن المعتفين كأنهم‏...على صنم في الجاهلية عكف‏é

21. الحدّ في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ على وجوه: أحدها: المنع، يقال: حدّه عن كذا حدّا أي منعه، والحدّ حدّ الدار، والحدّ الفرض من حدود الله أي فرائضه، الحد الجلد للزاني، وغيره، والحد: حد السيف، وما أشبهه، والحد في الحلق: الحدة، والحد: الفرق بين الشيئين، والحد منتهى الشيء، وحد الشراب: صلابته، وإحداد المرأة على زوجها: امتناعها من الزينة والطيب، وإحداد السيف: إشحاذه، وإحداد النظر الى الشيء التحديق إليه، والحديد معروف، وصانعه الحداد، والحداد السجان، والاستحداد حلق الشيء بالحديد، وحاددته: عاصيته، ومنه قوله تعالى‏ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ وأصل الباب المنع، والحدّ: نهاية الشيء التي تمنع أن يدخله ما ليس منه، وأن يخرج عنه ما هو منه.

22. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بأحكام الاعتكاف، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

23. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. وقيل أن هذه الآية نزلت في شأن أبي قيس بن صرمه، فكان يعمل في أرض له، فأراد الأكل، فقالت امرأته: يصلح لك شيئاً فغلبت عيناه، ثم قدمت إليه الطعام، فلم يأكل، فلما أصبح لاقى جهداً، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك، فنزلت هذه الآية.

ب. وروي أن عمراً أراد أن يوقع زوجته في الليل، فقالت: إني نمت فظن أنها تعتل عليه، فوقع عليها، ثم أخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك من الغد، فنزلت الآية فيهما.

ج. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنها نزلت في خوات بن جبير مثل قصة أبي قيس بن صرمه، وأنه كان ذلك يوم‏ الخندق، وروي عن أبي جعفر عليه السلام حديث أبي قيس سواء.

24. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ يعني ما بين لهم من الأدلة على ما أمرهم به، ونهاهم عنه، لكلي يتقوا معاصي، وتعدي حدوده التي أمرهم الله بها، ونهاهم عنها، وأباحهم إياها، وفي ذلك دلالة على أنه تعالى: أراد التقوى من جميع الناس الذين بين لهم هذه الحدود.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/132.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الرفث: الجماع، والرفث والترفث: القول الفحش، قال ابن عباس: إن الله تعالى كريم يكني.

ب. السواد والبياض لونان كل واحد منهما أصل بنفسه.

ج. اللباس معروف، وهو كل ما يلبس، وشبه المرأة به؛ لأنها بمنزلة اللباس.

د. المباشرة: المجامعة، وسمي بذلك لتلاصق بشرة كل واحد منهما بصاحبه.

هـ. الخيانة: ضد الأمانة، وأصله من النقص، وهو الخون أيضًا، والتخون التنقص، يقال: خان واختان، وتسمى المائدة خوانًا؛ لأنه يتخون ما عليه، أي يتنقص، ورجل خائنة إذا بولغ في صفته بالخيانة، وحد الخيانة انتقاص الحق على جهة المساترة، ومنه قيل للأسد: خَوَّان.

و. الاعتكاف: العكوف، أصله اللزوم يقال: عكفت بالمكان إذا أقمت به ملازمًا له، ومنه: ﴿يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ﴾ والاعتكاف: هو حبس النفس في المسجد على عبادة الله تعالى بشرط العزم، وترك ما يبطله، فالاسم شرعي فيه معنى اللغة.

ز. الحد: أصله المنع، ومنه سمي البواب حدادًا، ومنه الإحداد، وحد الدار والحدود سمي بذلك؛ لأنه يمنع من ارتكاب ما يستحق به الحدّ.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. كان في الصوم الأول يحل الطعام والشراب ما لم يرقدوا، أو يصلوا العشاء، فإذا فعل أحدهما حرم عليه إلى الليلة الثانية، فجاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واختلفوا في اسمه، فقيل: أبو صِرْمَة، عن معاذ، وقيل: قيس بن صرمة، عن البراء، وقيل: أبو قيس ابن صرمة، عن السدي وعكرمة، وقيل: صرمة بن شاس، عن مقاتل، وقيل: أبو قيس صرمة، عن الكلبي، وقيل: صرمة بن أنس، فقال: عملت في النخل نهاري أجمع حتى أمسيت، فأتيت أهلي لتطعمني فأبطأت فنمت فأيقظتني، وقد حرمت عليّ الأكل، وقد أمسيت، وقد جهدني الصوم، فقال عمر: يا رسول الله، أعتذر إليك من مثله، رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء، فأتيت امرأتي، وقام رجال فاعترفوا بالذي سمعوا، فنزلت الآية ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾، عن ابن عباس والسدي.

ب. نزل قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ في ناس من الصحابة كانوا يعتكفون في المسجد، فإذا عرضت لأحدهم حاجة إلى أهله خرج وجامعها، ثم اغتسل وعاد إلى المسجد، فنهوا عن ذلك، فنزلت الآية، عن ابن عباس وقتادة ومقاتل وغيرهم.

3. لما بَيَّنَ تعالى الصوم بين وقته، فقال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ هذا يقتضي تحريمًا متقدمًا أزاله عنهم، ويحتمل أن ذلك التحريم كان في شريعة من قبلنا، إلا أن المفسرين اتفقوا أن التحريم كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ، غير أبي مسلم فحمله على تحريم ذلك في النصارى، وأنه تعالى أحل ذلك للمسلمين، وإنما أوتي في ذلك من إنكاره النسخِ في القرآن حتى أداه ذلك في مواضع إلى تعسف شديد في التأويل.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الرَّفَثُ﴾:

أ. قيل: الجماع، عن ابن عباس وأكثر المفسرين.

ب. وقيل: إنها كلمة جامعة لحاجات الرجال إلى نسائهم، عن الأصم.

5. ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ شبهت باللباس:

أ. قيل: من حيث يخصها بنفسه كما يخص لباسه فيراها أهلاً لملاقاة بشرته.

ب. وقيل: لأنه يسكن إليها، ويستتر بها عن الأمور التي تنفر النفس عنه، كما يستتر بلباسه عن كشف ما ينفر الطبع عن كشفه.

ج. وقيل: لأن كل واحد منهما كان يلبس صاحبه على المحظور، ويستتر بصاحبه عن الناس، عن الأصم، وهذا تعسف شديد.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾:

أ. قيل: سكن لكم، عن ابن عباس.

ب. وقيل: كاللباس لكم يحل له أن تلابسه، عن أبي علي.

ج. وقيل: حلال لكم، عن الحسن.

7. ﴿عَلِمَ الله﴾ يعني علمه موجودا، فالوجود حادث لا علم الله؛ لأنه تعالى عالم لم يزل ولا يزال.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾:

أ. قيل: تظلمون أنفسكم، عن ابن عباس.

ب. وقيل: تخونون يعني في الجماع؛ لأنه الذي سبق ذكره، ويتأخر ذكره، فلا بد أن يكون وقع من بعضهم، والمعنى جامعتم على وجه محظور، فكأنه خان نفسه من حيث أقدم على محظور.

ج. وقيل: تفعلون ما يضركم على وجه المساترة عن غيركم.

د. وقيل: خنتم أنفسكم حيث فوّتم ثوابه.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾:

أ. قيل: تبتم فقبل توبتكم.

ب. وقيل: رحمكم بأن رخص لكم فرجع بكم إلى الإباحة.

ج. وقيل: لطف لكم حتى تبتم.

10. سؤال وإشكال: إذا كان الخيانة الستر فكيف يساتر نفسه؟ والجواب:

أ. قيل: يستر بعضهم بعضًا.

ب. وقيل: يعمل على المساترة له.

ج. وقيل: لأن الجماع يقع على وجه المساترة.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَفَا عَنْكُمْ﴾:

أ. قيل: رخص ووسع عليكم.

ب. وقيل: غفر ذنوبكم، وصفح عنه.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾:

أ. قيل: جامعوهن، عن جماعة المفسرين.

ب. وقيل: الجماع فما دونه، عن الأصم.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ﴾:

أ. قيل: ليلة القدر، عن ابن عباس ومعاذ، وتقديره: كما أباح المباشرة بالليل ألزم العبادة ابتغاء هذه الليلة كيلا تفوته.

ب. وقيل: ابتغوا هذا المباح، وهو الجماع.

ج. وقيل: كتب إباحة، عن قتادة وابن زيد، كأنه قيل: كتب إباحته لكم.

د. وقيل: أراد به الولد، عن ابن عباس والحسن وأنس ومجاهد والضحاك وأبي علي، كأنه قيل: وابتغوا بالمباشرة الأولاد الذي هو سببه، كما كتبه في اللوح المحفوظ، وهذا أوجه؛ لأن الابتغاء هو الطلب، فإذا كان ما تقدم يمكن الطلب به وجب أن يكون المطلوب غيره.

14. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ أباحهما، كما أباح الجماع؛ لأن الحظر كان شملهما جميعًا ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ﴾ يظهر، وذلك بأن يعلم بأن الفجر بدأ أو ظهر أمارته بخبر أو امتداد وقت، فإن لم يظهر لحائل، فيحتاج إلى الاجتهاد، فإن غاب عن موضع مشاهدة تَحَرَّى.

15. ﴿الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ هي كناية عن بياض أول النهار، وسواد آخر الليل، وهذا هو الذي يجب أن يراعيه الصائم؛ لأن في آخر الليل سوادًا يبيح الإفطار، وفي أول النهار بياضًا يحرم ذلك، فيجب أن يتبينه ليقع الإفطار في موضعه، وإنما شبه ذلك بالخيط؛ لأن القدر الذي يحرم الإفطار من البياض يشبه الخيط، ولا اعتبار بالانتشار، فيزول به مثله من السواد، فابتداء الصوم من هذا الوقت.

16. ثم بَيَّنَ تعالى الانتهاء فقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، ولا خلاف في ذلك، وإن كان اختلفوا في أول الليل:

أ. فالذي عليه الفقهاء والمفسرون أن الاعتبار بغروب الشمس، وهو قول ابن عباس.

ب. وقيل: زوال آثار الشمس وظهور الظلام، وظهور كوكب من كواكب الليل.

17. ثم لما بَيَّنَ تعالى وقت تحريم المباشرة في الصوم أتبعه ببيان تحريمها في الاعتكاف كيلا يظن أن التحريم فيهما سواء، فقال تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ﴾ أطلق النهي ليعلم تحريمه ليلاً ونهارًا.

18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ﴾:

أ. قيل: المراد به الجماع، عن ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة وغيرهم.

ب. وقيل: الجماع وكل ما دونه من قُبلة ونحوها، عن ابن زيد ومالك بن أنس.

19. ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ أي ملازمون للمسجد معتكفًا، والاعتكاف عبادة كانت معروفة عندهم، قلذلك أطلق، وبَيَّنَ اختصاصه بالمساجد، واختلفوا فقيل:

أ. تحريم الجماع لأجل الاعتكاف، وهو الوجه؛ لأنه لا يحل خارج المسجد إذا خرج لحاجة.

ب. وقيل: لأجل المسجد.

20. ﴿تِلْكَ﴾ يعني الأحكام التي تقدمت في الصوم والاعتكاف وغيرها ﴿حُدُودُ الله﴾:

أ. قيل: شروطه، عن السدي.

ب. وقيل: فرائضه، عن شهر بن حوشب.

ج. وقيل: معاصي الله، عن الضحاك.

د. وقيل: ما منع الله منه، عن الزجاج.

هـ. وقيل: حرمات الله، عن الحسن.

و. وقيل: حدوده الفاصلة بين الحرام والحلال.

21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾:

أ. قيل: فلا تأتوها.

ب. وقيل: لا تقربوها بالمخالفة.

22. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ﴾ حججه ﴿لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾:

أ. أي: لكي يتقوا المعاصي، ويتمسكوا بالطاعات؛ لأن بها يتم التقوى.

ب. وقيل: لتتقوا الجماع في الاعتكاف.

23. تدل الآية الكريمة على:

أ. إباحة الأكل والشرب والجماع كل الليل.

ب. أن الجنابة لا تمنع صحة الصوم؛ لأنه أباح الجماع كل الليل، ولو منعه لما كان مباحًا، ولأنه إذا وقع الجماع آخر الليل وقع الغسل بالنهار.

ج. أن له أن يجامع ويأكل ما لم يعلم تقضِّي الليلِ، فيبطل قول من يقول: إذا شك في طلوع الفجر فأكل أو جامع بطل صومه.

د. أن ابتداء الصوم من حين الفجر، فإن أكل وقد طلع الفجر وهو يظن أنه لم يطلع وجب القضاء، ولا كفارة للشبهة، وكذلك إذا أفطر على ظن أنها غربت، ثم بَانَ خِلاَفُه قَضَى ولا كفارة، ومن أكل ناسيًا لا قضاء عليه، هذا قول أبي حنيفة وأصحابه وأكثر أهل العلم، وعن الحسن: لا قضاء في الوجوه الثلاثة، وقال مالك بن أنس: عليه القضاء في الناسي أيضًا، وقال واصل: لا قضاء في أول النهار، وعليه القضاء في آخره، كأنه يراعي الأصل.

هـ. جواز النية بعد الفجر؛ لأن ﴿ثُمَّ﴾ للتعقيب، كأنه إذا نوى بعد الفجر وَتَبَيَّنَهُ صح، خلاف ما يقوله الشافعي: إن النية من الليل شرط، ولا خلاف في أن الآية وردت في صوم رمضان.

و. تحريم الجماع في الاعتكاف ليلاً ونهارًا، ولا خلاف فيه، وإنما اختلفوا فيما دون الجماع من مباشرة وقُبلة، والفقهاء على أنه مباح إلا أن يُنزِل، فيبطل الاعتكاف، وحرمه مالك بن أنس.

ز. أن الاعتكاف عبادة ليصح بيان حكمه والمنع عن المباشرة لأجله، ولا خلاف فيه، وإنما اختلفوا في شرائطه.

ح. أن هذا الاسم شرعي؛ لأن أهل اللغة لم يعرفوا هذه الشرائط.

ط. أنه يختص بالمساجد، ثم اختلفوا، فالذي عليه الفقهاء جوازه في سائر المساجد، وعن مالك أنه يختص بالجامع، وعن حذيفة أنه يختص بثلاثة مساجد، وقد يسقط خلافه، فأما النساء فتعتكف في مسجد بيتها عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: لا يجوز، واختلفوا، فقيل: الصوم شرط، وهو قول أبي حنيفة ومالك بن أنس، وقال الحسن والشافعي: ليس بشرط، واختلفوا في أقله، فعند أهل العراق يوم واحد، لا يجوز أقل منه، وعن مالك بن أنس أقله عشرة أيام، وعن الشافعي ما شاء ساعة، قل أو كثر، ولا خلاف أن النية شرط في الاعتكاف.

24. قراءات وحجج:

أ. ظاهر القراءة [﴿الرَّفَثُ﴾]، وعن الأعمش ﴿الرفوث﴾، ومعناهما واحد.

ب. القراءة الظاهرة: ﴿الْمَسَاجِدَ﴾ على الجمع. وعن مجاهد: ﴿الْمَسْجِدَ﴾ على الواحد.

ج. ﴿وَابْتَغُوا﴾ بالغين معجمة، وعن معاذ: ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ من الاتباع.

25. ﴿مِنَ﴾ في قوله تعالى: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾:

أ. قيل: للتبعيض؛ لأن المعتبر بعض الفجر لا كله.

ب. وقيل: للتبيين، كأنه قيل: الخيط الأبيض الذي هو الفجر.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/774.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الرفث: الجماع ههنا بلا خلاف، وقيل: إن أصله القول الفاحش، فكنى به عن الجماع، قال العجاج: (عن اللغا ورفث التكلم)، قال الأخفش: إنما عديت بإلى في الآية لأنه بمعنى الإفضاء.

ب. اللباس: الثياب التي من شأنها أن تستر الأبدان ويشبه به الأغشية فيقال: لبس السيف بالحلية، والعرب تسمي المرأة لباسا وإزارا، قال الشاعر:

çإذا ما الضجيع ثنى عطفه...تثنت فكانت عليه لباساé

وقال:

çألا أبلغ أبا حفص رسولا...فدى لك من أخي ثقة إزاريé

قال أهل اللغة: معناه امرأتي.

ج. الإختيان: الخيانة، يقال: خانه يخونه خونا وخيانة، واختانه اختيانا، (وخائنة الأعين): مسارقة النظر إلى ما لا يحل، وأصل الباب: منع الحق.

د. المباشرة: إلصاق البشرة بالبشرة، وهي ظاهر الجلد.

هـ. الابتغاء: طلب البغية.

و. الخيط الأبيض: بياض الفجر.. والخيط الأسود: سواد الليل، فأول النهار: طلوع الفجر الثاني لأنه أوسع ضياء، قال أبو داود:

çفلما أضاءت لنا غدوة...ولاح من الصبح خيط أنارا é

ز. الخيط في اللغة معروف، يقال: خاطه يخيطه خيطا وخياطة، والخيط: القطيع من النعام، ونعامة خيطاء قيل: خيطها طول قصبها وعنقها.. وقيل: اختلاط سوادها ببياضها.

ح. السواد والبياض لونان كل واحد منهما أصل بنفسه.

ط. بيضة الاسلام: مجتمعه، وابتاضوهم أي: استأصلوهم بمعنى اقتلعوا بيضتهم.

ي. السواد والمساودة: المسارة لأن الخفاء فيه كخفاء الشخص في سواد الليل، وسواد العراق: سمي به لكثرة الماء والشجر الذي تسود به الأرض، وسواد كل شئ: شخصه،وسويداء القلب وسواده: دمه الذي فيه، وقيل: جبة القلب.

ك. العكوف والاعتكاف: أصله اللزوم، يقال: عكفت بالمكان أي: أقمت به ملازما له، قال الطرماح:

çفبات بنات الليل في الليل عكفا...عكوف البواكي بينهن صريعé

وهو في الشرع عبارة عن اللبث في مكان مخصوص للعبادة.

ل. الحد على وجوه: الحد: المنع، وحدود الله: فرائضه، قال الزجاج: هي ما منع الله من مخالفتها، والحد: جلد الزاني وغيره، والحد: حد السيف وغيره، والحد: حد الدار، والحد: فرق بين الشيئين، والحد: نهاية الشئ التي تمنع من أن يدخله ما ليس منه، أو أن يخرج عنه ما هو منه، وقال الخليل: الحد الجامع المانع،والحداد: البواب، قال الأعشى:

çفقمنا، ولما يصح ديكنا...إلى جونة عند حدادهاé

يعني: صاحبها الذي يحفظها ويمنعها، وكل من منع شيئا فهو حداد، ومن ذلك أحدت المرأة على زوجها معناه: امتنعت من الزينة، والحديد إنما سمي حديدا لأنه يمتنع به من الأعداء، فأصل الباب: المنع.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. روى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه، رفعه إلى أبي عبد الله، قال: كان الأكل محرما في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراما بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول الله يقال له مطعم بن جبير، أخو عبد الله بن جبير، الذي كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة، وفارقه أصحابه، وبقي في اثني عشر رجلا فقتل على باب الشعب، وكان أخوه هذا مطعم بن جبير شيخا ضعيفا، وكان صائما، فأبطأت عليه أهله بالطعام، فنام قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لأهله: قد حرم علي الأكل في هذه الليلة، فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه، فرآه رسول الله، فرق له، وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان، فأنزل الله هذه الآية ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾ فأحل النكاح بالليل في شهر رمضان والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر.

ب. اختلفت العامة في اسم هذا الرجل من الأنصار، فقال بعضهم: قيس بن صرمة، وقيل: أبو صرمة، وقيل: أبو قيس بن صرمة، وقيل: صرمة بن إياس،وقالوا: جاء إلى رسول الله فقال: عملت في النخل نهاري أجمع حتى إذا أمسيت، فأتيت أهلي لتطعمني، فأبطأت فنمت فأيقظوني وقد حرم علي الأكل، وقد أمسيت وقد جهدني الصوم، فقال عمر: يا رسول الله! أعتذر إليك من مثله، رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء، فاتيت امرأتي، وقام رجال واعترفوا بمثل الذي سمعوا،فنزلت الآية، عن ابن عباس والسدي.

3. ثم بين سبحانه وقت الصيام، وما يتعلق به من الأحكام، فقال: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾:

أ. قيل: أي: الجماع، وقال ابن عباس: إن الله سبحانه حيي يكني بما شاء، إن الرفث واللباس والمباشرة والإفضاء هو الجماع.

ب. وقال الزجاج: الرفث هو كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة.

4. هذا يقتضي تحريما متقدما أزيل عنهم.

5. المراد بليلة الصيام: الليلة التي يكون في غدها الصوم، وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله كراهية الجماع في أول ليلة من كل شهر، إلا أول ليلة من شهر رمضان، فإنه يستحب ذلك لمكان الآية.

6. الأشبه أن يكون المراد به ليالي الشهر كله، وإنما وحده لأنه اسم جنس يدل على الكثرة.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾:

أ. قيل: أي: هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن، كما قال ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ أي: سكنا، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة،والمعنى: تلابسونهن وتخالطونهن بالمساكنة أي: قل ما يصبر أحد الزوجين عن الآخر.

ب. وقيل: إنما جعل كل واحد منهما لباسا للآخر لانضمام جسد كل واحد منهما إلى جسد صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، فلما كانا يتلابسان عند الجماع سمي كل واحد منهما لباسا لصاحبه.

ج. وقال الربيع: هن فراش لكم، وأنتم لحاف لهن.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾:

أ. قيل: لما حرم عليهم الجماع والأكل بعد النوم، وخالفوا في ذلك، ذكرهم الله بالنعمة في الرخصة التي نسخت تلك التحريمة، فقال: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ بالمعصية أي، لا تؤدون الأمانة بالامتناع عن المباشرة.

ب. وقيل: معنى تختانون تنقصون أنفسكم من شهواتها، وتمنعونها من لذاتها باجتناب ما نهيتم عنه، فخففه الله عنكم.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾:

أ. قيل: أي: قبل توبتكم.

ب. وقيل: معناه فرخص لكم، وأزال التشديد عنكم.

10. في قوله تعالى: ﴿وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: غفر ذنوبكم.

ب. والآخر: أزال تحريم ذلك عنكم، وذلك عفو عن تحريمه عليهم.

11. ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ بالليل أي جامعوهن، لفظه أمر ومعناه الإباحة.

12. في قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أطلبوا ما قضى الله لكم من الولد، عن الحسن وأكثر المفسرين، وهو أن يجامع الرجل أهله، رجاء أن يرزقه الله ولدا يعبده، ويسبح له.

ب. والآخر: أطلبوا ما كتب الله لكم من الحلال الذي بينه في كتابه، فإن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه.

13. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ إباحة للأكل والشرب ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ﴾ أي: ليظهر ويتميز لكم على التحقيق ﴿الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾

14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾:

أ. قيل: أي: النهار من الليل، فأول النهار: طلوع الفجر الثاني.

ب. وقيل: بياض الفجر من سواد الليل.

ج. وقيل: بياض أول النهار من سواد آخر الليل، وإنما شبه ذلك بالخيط، لأن القدر الذي يحرم الإفطار من البياض يشبه الخيط فيزول به مثله من السواد، ولا اعتبار بالانتشار.

15. ﴿مِنَ﴾ في قوله تعالى: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ يحتمل معنيين:

أ. أحدهما: أن يكون بمعنى التبعيض، لأن المعنى من بعض الفجر، وليس الفجر كله، عن ابن دريد.

ب. والآخر: إنه للتبيين لأنه بين الخيط الأبيض فكأنه قال الخيط الأبيض الذي هو الفجر، وروي أن عدي بن حاتم قال للنبي: إني وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود فكنت أنظر فيهما، فلا يتبين لي؟ فضحك رسول الله حتى رؤيت نواجذه، ثم قال: يا بن حاتم! إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل، فابتداء الصوم من هذا الوقت.

16. ثم بين تعالى الانتهاء فقال: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ أي: من وقت طلوع الفجر الثاني، وهو المستطيل المعترض الذي يأخذ الأفق، وهو الفجر الصادق الذي يجب عنده الصلاة إلى وقت دخول الليل، وهو بعد غروب الشمس، وعلامة دخوله على الاستظهار سقوط الحمرة من جانب المشرق، وإقبال السواد منه، وإلا فإذا غابت الشمس مع ظهور الآفاق في الأرض المبسوطة، وعدم الجبال والروابي، فقد دخل الليل.

17. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ﴾ قولان ههنا:

أ. أحدهما: إنه أراد به الجماع، عن ابن عباس والحسن وقتادة.

ب. الثاني: إنه أراد الجماع، وكل ما دونه من قبلة وغيرها، عن مالك وابن زيد وهو مذهبنا(2).

18. ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ أي: معتكفون أي: لا تباشروهن في حال اعتكافكم في المساجد، والاعتكاف لا يصح عندنا إلا في أحد المساجد الأربعة: المسجد الحرام، ومسجد النبي، ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة، وعند سائر الفقهاء يجوز في سائر المساجد، إلا أن مالكا قال: إنه يختص بالجامع، ولا يصح الإعتكاف عندنا إلا بصوم، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وعند الشافعي يصح بغير صوم، وعندنا لا يكون إلا في ثلاثة أيام، وعند أبي حنيفة يوم واحد، وعند مالك عشرة أيام لا يجوز أقل منه، وعند الشافعي ما شاء، ولو ساعة واحدة.

19. في الآية دلالة على تحريم المباشرة في الإعتكاف ليلا ونهارا، لأنه علق المباشرة بحال الاعتكاف.

20. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ تلك إشارة إلى الأحكام المذكورة في الآية ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾:

أ. قيل: حرمات الله، عن الحسن.

ب. وقيل: معناه معاصي الله عن الضحاك.

ج. وقيل: ما منع الله منه، عن الزجاج.

21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾:

أ. قيل: أي: فلا تأتوها.

ب. وقيل: معناه تلك فرائض الله فلا تقربوها بالمخالفة.

22. ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثل هذا البيان الذي ذكر ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ أي: حججه وأدلته على ما أمرهم به، ونهاهم عنه ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي: لكي يتقوا معاصيه، وتعدي حدوده فيما أمرهم به، ونهاهم عنه، وأباحهم إياها، وفي هذا دلالة على أن الله تعالى أراد التقوى من جميع الناس.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/503.

(2) يقصد الإمامية.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾، أنّ الصحابة كانوا إذا نام الرجل قبل الأكل والجماع، حرّما عليه إلى أن يفطر، فجاء شيخ أصله من الأنصار وهو صائم إلى أهله، فقال: عشّوني، فقالوا: حتى نسخن لك طعاما، فوضع رأسه فنام، فجاؤوا بالطعام، فقال: قد كنت نمت، فبات يتقلّب ظهرا لبطن، فلمّا أصبح أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره، فقام عمر بن الخطّاب فقال: يا رسول الله! إني أردت أهلي الليلة، فقالت: إنها قد نامت، فظننتها تعتلّ، فواقعتها، فأخبرتني أنّها قد نامت، فأنزل الله تعالى في عمر بن الخطّاب: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾، وأنزل الله في الأنصاري: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾، هذا قول جماعة من المفسّرين، واختلفوا في اسم هذا الأنصاريّ على أربعة أقوال‏: أحدها: قيس بن صرمة، قاله البراء.. الثاني: صرمة بن أنس، قاله القاسم بن محمّد، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: صرمة بن مالك.. الثالث: ضمرة بن أنس.. الرابع: أبو قيس بن عمر.. وذكر القولين أبو بكر الخطيب.

2. ﴿الرَّفَثُ﴾ قال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء والحسن وابن جبير في آخرين: هو الجماع.

3. في قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنّ اللباس السّكن، ومثله‏ ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾، أي سكنا، وهذا قول ابن عباس وابن جبير ومجاهد وقتادة.

ب. الثاني: أنهنّ بمنزلة اللباس لإفضاء كلّ واحد ببشرته إلى بشرة صاحبه، فكنّى عن اجتماعهما متجرّدين باللّباس، قال الزجّاج: والعرب تسمّي المرأة: لباسا وإزارا، قال النّابغة الجعديّ:

çإذا ما الضّجيع ثنى جيدها... تثنّت فكانت عليه لباساé

4. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾، قال ابن قتيبة: يريد: تخونونها بارتكاب ما حرّم عليكم، قال ابن عباس: وعنى بذلك فعل عمر، فإنه أتى أهله، فلمّا اغتسل أخذ يلوم نفسه ويبكي.

5. ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾، أصل المباشرة: إلصاق البشرة بالبشرة، وقال ابن عباس: المراد بالمباشرة هاهنا الجماع.

6. في قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنه الولد، قاله ابن‏ عباس، والحسن، ومجاهد في آخرين، قال بعض أهل العلم: لمّا كانت المباشرة قد تقع على ما دون الجماع، أباحهم الجماع الذي يكون من مثله الولد، فقال: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾، يريد: الولد.

ب. الثاني: أنّ الذي كتب لهم الرّخصة، وهو قول قتادة، وابن زيد.

ج. الثالث: أنه ليلة القدر، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس.

د. الرابع: أنه القرآن، فمعنى الكلام: اتّبعوا القرآن، فما أبيح لكم وأمرتم به فهو المبتغى، وهذا اختيار الزجّاج.

7. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ﴾:

أ. قال عديّ بن حاتم: لمّا نزلت هذه الآية، عمدت إلى عقالين، أبيض وأسود، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أقوم في الليل ولا أستبين الأسود من الأبيض، فلمّا أصبحت؛ غدوت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبرته، فضحك وقال: (إن كان وسادك إذا لعريض، إنّما ذاك بياض النّهار من سواد اللّيل)

ب. وقال سهل بن سعد: نزلت هذه الآية: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾، ولم ينزل: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾، وكان رجال إذا أرادوا الصّوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبيّن له رؤيتهما، فأنزل الله بعد ذلك ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾، فعلموا أنّما يعني بذلك الليل والنهار.

8. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾، في هذه المباشرة قولان:

أ. أحدهما: أنها المجامعة، وهو قول الأكثرين.

ب. الثاني: أنها ما دون الجماع من اللّمس والقبلة، قاله ابن زيد، وقال قتادة: كان الرجل المعتكف إذا خرج من المسجد، فلقي امرأته باشرها إذا أراد ذلك، فوعظهم الله في ذلك.

9. الاعتكاف في اللغة: اللّبث، يقال: فلان معتكف على كذا، وعاكف، وهو فعل مندوب إليه، إلّا أن ينذره الإنسان، فيجب، ولا يجوز إلّا في مسجد تقام فيه الجماعات.

10. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾، قال ابن عباس: يعني: المباشرة ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾، قال الزجّاج: الحدود ما منع الله من مخالفتها، فلا يجوز مجاوزتها، وأصل الحدّ في اللغة: المنع، ومنه: حدّ الدّار، وهو ما يمنع غيرها من الدّخول فيها، والحدّاد في اللغة: الحاجب والبوّاب، وكلّ ما منع شيئا فهو حدّاد، قال الأعشى:

çفقمنا ولمّا يصح ديكنا... إلى جونة عند حدّادهاé

أي: عند ربّها الذي يمنعها إلا بما يريده، وأحدّث المرأة على زوجها، وحدّت فهي حادّ، ومحدّ: إذا قطعت الزّينة، وامتنعت منها، وأحددت النّظر إلى فلان: إذا منعت نظرك من غيره، وسمي الحديد حديدا، لأنه يمتنع به من الأعداء.

11. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾، أي: مثل هذا البيان الذي ذكر.

__________

(1) زاد المسير: 1/148.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. ذهب جمهور المفسرين إلى أن في أول شريعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، كان الصائم إذا أفطر حل له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام وأن لا يصلي العشاء الأخيرة، فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بهذه الآية.

ب. قال أبو مسلم الأصفهاني هذه الحرمة ما كانت ثابتة في شرعنا ألبتة، بل كانت ثابتة في شرع النصارى، والله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان ثابتا في شرعهم، وجرى فيه على مذهبه من أنه لم يقع في شرعنا نسخ ألبتة.

2. احتج الجمهور القائلون بنسخها على قولهم بوجوه:

أ. الأولى: أن قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 183] يقتضي تشبيه صومنا بصومهم، وقد كانت هذه الحرمة ثابتة في صومهم، فوجب بحكم هذا التشبيه أن تكون ثابتة أيضا في صومنا، وإذا ثبت أن الحرمة كانت ثابتة في شرعنا، وهذه الآية ناسخة لهذه الحرمة لزم أن تكون هذه الآية ناسخة لحكم كان ثابتا في شرعنا.

ب. الثانية: التمسك بقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ ولو كان هذا الحل ثابتا لهذه الأمة من أول الأمر لم يكن لقوله‏ ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ فائدة.

ج. الثالثة: التمسك بقوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ ولو كان ذلك حلالا لهم لما كان بهم حاجة إلى أن يختانون أنفسهم.

د. الرابعة: قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ ولولا أن ذلك كان محرما عليهم وأنهم أقدموا على المعصية بسبب الإقدام على ذلك الفعل، لما صح قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾

هـ. الخامسة: قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ ولو كان الحل ثابتا قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ فائدة.

و. السادسة: الروايات المنقولة في سبب نزول هذه الآية دالة على أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا.

3. أجاب أبو مسلم القائل بأن هذه الحرمة ما كانت ثابتة في شرعنا ألبتة، بل كانت ثابتة في شرع النصارى، والله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان ثابتا في شرعهم، عن هذه الدلائل:

أ. عن الأولى: ضعيفة لأنا بينا أن تشبيه الصوم بالصوم يكفي في صدقه مشابهتهما في أصل الوجوب.

ب. عن الثانية: ضعيفة أيضا لأنا نسلم أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرع من قبلنا، فقوله تعالى: ﴿أَحَلَّ لَكُمْ﴾ معناه أن الذي كان محرما على غيركم فقد أحل لكم.

ج. عن الثالثة: ضعيفة أيضا، وذلك لأن تلك الحرمة كانت ثابتة في شرع عيسى عليه السلام، وأن الله تعالى أوجب علينا الصوم، ولم يبين في ذلك الإيجاب زوال تلك الحرمة فكان يخطر ببالهم أن تلك الحرمة كانت ثابتة في الشرع المتقدم، ولم يوجد في شرعنا ما دل على زوالها فوجب القول ببقائها، ثم تأكد هذا الوهم بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، فإن مقتضى التشبيه حصول المشابهة في كل الأمور، فلما كانت هذه الحرمة ثابتة في الشرع المتقدم وجب أن تكون ثابتة في هذا الشرع، وإن لم تكن حجة قوية إلا أنها لا أقل من أن تكون شبهة موهمة فلأجل هذه الأسباب كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا، فلا جرم شددوا وأمسكوا عن هذه الأمور فقال الله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ وأراد به تعالى النظر للمؤمنين بالتخفيف لهم بما لو لم تتبين الرخصة فيه لشددوا وأمسكوا عن هذه الأمور ونقصوا أنفسهم من الشهوة، ومنعوها من المراد، وأصل الخيانة النقص، وخان واختان وتخون بمعنى واحد كقولهم: كسب واكتسب وتكسب، فالمراد من الآية: علم الله أنه لو لم يتبين لكم إحلال الأكل والشرب والمباشرة طول الليل أنكم كنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذاتها ومصلحتها بالإمساك عن ذلك بعد النوم كسنة النصارى.

د. عن الرابعة: ضعيفة لأن التوبة من العباد الرجوع إلى الله تعالى بالعبادة ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان، وأما العفو فهو التجاوز فبين الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما جعله ثقيلا على من قبلنا كقوله تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]

هـ. عن الخامسة: ضعيفة لأنهم كانوا بسبب تلك الشبهة ممتنعين عن المباشرة، فلما بين الله تعالى ذلك وأزال الشبهة فيه لا جرم قال: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾

و. عن السادسة: فضعيفة لأن قولنا: هذه الآية ناسخة لحكم كان مشروعا لا تعلق له بباب العمل ولا يكون خبر الواحد حجة فيه، وأيضا ففي الآية ما يدل على ضعف هذه الروايات لأن المذكور في تلك الروايات أن القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول، وذلك على خلاف قول الله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ لأن ظاهره هو المباشرة، لأنه افتعال من الخيانة، فهذا حاصل الكلام في هذه المسألة.

4. القائلون بأن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا، ثم إنها نسخت ذكروا في سبب نزول هذه الآية أنه كان في أول الشريعة يحل الأكل والشرب والجماع، ما لم يرقد الرجل أو يصل العشاء الآخرة، فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء إلى الليلة الآتية، فجاء رجل من الأنصار عشية وقد أجهده الصوم، واختلفوا في اسمه، فقال معاذ: اسمه أبو صرمة، وقال البراء: قيس بن صرمة، وقال الكلبي: أبو قيس بن صرمة، وقيل: صرمة بن أنس، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن سبب ضعفه فقال: يا رسول الله عملت في النخل نهاري أجمع حتى أمسيت فأتيت أهلي لتطعمني شيئا فأبطأت فنمت فأيقظوني، وقد حرم الأكل فقام عمر فقال: يا رسول الله أعتذر إليك من مثله، رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء الآخرة، فأتيت امرأتي، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: لم تكن جديرا بذلك يا عمر، ثم قام رجال فاعترفوا بالذي صنعوا فنزل قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾

5. قوله تعالى: ﴿لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. قال الواحدي: ليلة الصيام أراد ليالي الصيام فوقع الواحد موقع الجماعة، ومنه قول العباس بن مرداس:

çفقلنا أسلموا إنا أخوكم‏...فقد برئت من الأحن الصدورé

ب. فيه وجه آخر وهو أنه ليس المراد من‏ ﴿لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ ليلة واحدة، بل المراد الإشارة إلى الليلة المضافة إلى هذه الحقيقة.

6. الرفث: قال الليث: الرفث أصله قول الفحش، وأنشد الزجاج:

çورب أسراب حجيج كقلم‏...عن اللغا ورفث التكلم‏é

يقال رفث في كلامه يرفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح قال تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ [البقرة: 197].. فثبت أن الأصل في الرفث هو قول الفحش، ثم جعل ذلك اسما لما يتكلم به عند النساء من معاني الإفضاء، ثم جعل كناية عن الجماع وعن كل ما يتبعه.

7. سؤال وإشكال: لم كنى هاهنا عن الجماع بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [النساء: 21]، ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا﴾ [الأعراف: 189]، ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [النساء: 43]، ﴿دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء: 23]، ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ [البقرة: 223]، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [البقرة: 236]، ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ﴾ [النساء: 24]، ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ [البقرة: 222]، والجواب: السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإباحة كما سماه اختيانا لأنفسهم.

8. قال الأخفش: إنما عدى الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [النساء: 21]

9. ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾ يقتضي حصول الحل في جميع الليل لأن ﴿لَيْلَةُ﴾ نصب على الظرف، وإنما يكون الليل ظرفا للرفث لو كان الليل كله مشغولا بالرفث، وإلا لكان ظرف ذلك الرفث بعض الليل لأكله، فعلى هذا النسخ حصل بهذا اللفظ، وأما الذي بعده من قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ فذاك يكون كالتأكيد لهذا النسخ، وأما الذي يقول: إن قوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾ يفيد حل الرفث في الليل، فهذا القدر لا يقتضي حصول النسخ به فيكون الناسخ هو قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾

10. في تشبيه الزوجين باللباس في قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ وجوه:

أ. أحدها: أنه لما كان الرجل والمرأة يعتنقان، فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، سمي كل واحد منهما لباسا، قال الربيع: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن، وقال ابن زيد: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، يريد أن كل واحد منهما يستر صاحبه عند الجماع عن أبصار الناس.

ب. ثانيها: إنما سمي الزوجان لباسا ليستر كل واحد منهما صاحبه عما لا يحل، كما جاء في الخبر (من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه)

ج. ثالثها: أنه تعالى جعلها لباسا للرجل، من حيث إنه يخصها بنفسه، كما يخص لباسه بنفسه، ويراها أهلا لأن يلاقي كل بدنه كل بدنها كما يعمله في اللباس.

د. رابعها: يحتمل أن يكون المراد ستره بها عن جميع المفاسد التي تقع في البيت، لو لم تكن المرأة حاضرة، كما يستتر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار.

هـ. خامسها: ذكر الأصم أن المراد أن كل واحد منهما كان كاللباس الساتر للآخر في ذلك المحظور الذي يفعلونه، وهذا ضعيف لأنه تعالى أورد هذا الوصف على طريق الإنعام علينا، فكيف يحمل على التستر بهن في المحظور.

11. إنما وحد اللباس بعد قوله‏ ﴿هُنَّ﴾ لأنه يجري مجرى المصدر، وفعال من مصادر فاعل، وتأويله: هن ملابسات لكم(2)..

12. سؤال وإشكال: ما موقع قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ والجواب(3).: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، وهو أنه إذا حصلت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن، وضعف عليكم اجتنابهن، فلذلك رخص لكم في مباشرتهن.

13. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ يقال: خانه يخونه خونا وخيانة إذا لم يف له، والسيف إذا نبا عن الضربة فقد خانك، وخانه الدهر إذا تغير حاله إلى الشر، وخان الرجل الرجل إذا لم يؤد الأمانة، وناقض العهد خائن، لأنه كان ينتظر منه الوفاء فغدر، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ [الأنفال: 58] أي نقضا للعهد، ويقال للرجل المدين: إنه خائن، لأنه لم يف بما يليق بدينه، ومنه قوله تعالى: ﴿لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾ [الأنفال: 27] وقال: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنفال: 71] ففي هذه الآية سمى الله المعصية بالخيانة، قال الزمخشري: الاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة.

14. ذكر الله تعالى هاهنا أنهم كانوا يختانون أنفسهم، إلا أنه لم يذكر أن تلك الخيانة كانت في ماذا؟ فلا بد من حمل هذه الخيانة على شيء يكون له تعلق بما تقدم وما تأخر، والذي تقدم هو ذكر الجماع، والذي تأخر قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع، ثم هاهنا وجهان:

أ. أحدهما: علم الله أنكم كنتم تسرون بالمعصية في الجماع بعد العتمة والأكل بعد النوم وتركبون المحرم من ذلك وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه وقد خان الله، لأنه جلب إليها العقاب، وعلى هذا القول يجب أن يقطع على أنه وقع ذلك من بعضهم لأنه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم، لأن قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ إن حمل على ظاهره وجب في جميعهم أن يكونوا مختانين لأنفسهم، لكنا قد علمنا أن المراد به التبعيض للعادة والإخبار، وإذا صح ذلك فيجب أن يقطع على وقوع هذا الجماع المحظور من بعضهم، فمن هذا الوجه يدل على تحريم سابق وعلى وقوع ذلك من بعضهم، ولأبي مسلم أن يقول قد بينا أن‏ الخيانة عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بطاعة الله، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو خير للنفس وهذا أولى، لأن الله تعالى لم يقل: علم الله أنكم كنتم تختانون الله، كما قال ﴿لَا تَخُونُوا اللَّهَ﴾ [الأنفال: 27] ما قال ﴿كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ فكان حمل اللفظ على ما ذكرناه إن لم يكن أولى فلا أقل من التساوي وبهذا التقدير لا يثبت النسخ.

ب. الثاني: أن المراد: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة، ومعناه: أن الله يعلم أنه لو دام ذلك التكليف الشاق لوقعوا في الخيانة، وعلى هذا التفسير ما وقعت الخيانة.

15. يمكن أن يقال التفسير الأول أولى لأنه لا حاجة فيه إلى إضمار الشرط، وأن يقال بل الثاني أولى، لأن على التفسير الأول يصير إقدامهم على المعصية سببا لنسخ التكليف، وعلى التقدير الثاني: علم الله أنه لو دام ذلك التكليف لحصلت الخيانة فصار ذلك سببا لنسخ التكليف رحمة من الله تعالى على عباده حتى لا يقعوا في الخيانة.

16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾:

أ. معناه على قول أبي مسلم فرجع عليكم بالإذن في هذا الفعل والتوسعة عليكم.

ب. وعلى قول مثبتي النسخ لا بد فيه من إضمار تقديره: تبتم فتاب عليكم فيه.

17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَفَا عَنْكُمْ﴾:

أ. على قول أبي مسلم: معناه وسع عليكم أن أباح لكم الأكل والشرب والمعاشرة في كل الليل ولفظ العفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف‏، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق)، وقال:‏ (أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله)، والمراد منه التخفيف بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت ويقال: أتاني هذا المال عفوا، أي سهلا فثبت أن لفظ العفو غير مشعر بسبق التحريم.

ب. على قول مثبتي النسخ: قوله تعالى: ﴿عَفَا عَنْكُمْ﴾ لا بد وأن يكون تقديره: عفا عن ذنوبكم، وهذا مما يقوي أيضا قول أبي مسلم لأن تفسيره لا يحتاج إلى الإضمار، وتفسير مثبتي النسخ يحتاج إلى الإضمار.

18. ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ هذا أمر وارد عقب الخطر:

أ. فالذين قالوا: الأمر الوارد عقيب الخطر ليس إلا للإباحة، كلامهم ظاهر.

ب. أما الذين قالوا: مطلق الأمر للوجوب قالوا إنما تركنا الظاهر وعرفنا كون هذا الأمر للإباحة بالإجماع.

19. في قوله تعالى: ﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾ قولان:

أ. أحدهما: وهو قول الجمهور أنها الجماع، سمي بهذا الاسم لتلاصق البشرتين وانضمامهما، ومنها ما روي‏ أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى أن يباشر الرجل الرجل، والمرأة المرأة.

ب. الثاني: وهو قول الأصم: أنه الجماع فما دونه، وعلى هذا الوجه اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ فمنهم من حمله على كل المباشرات ولم يقصره على الجماع.

20. الأقرب أن لفظ المباشرة لما كان مشتقا من تلاصق البشرتين لم يكن مختصا بالجماع، بل يدخل فيه الجماع فيما دون الفرج، وكذا المعانقة والملامسة إلا أنهم إنما اتفقوا في هذه الآية على أن المراد به هو الجماع لأن السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم، ولأن الرفث المتقدم ذكره لا يراد به إلا الجماع إلا أنه لما كان إباحة الجماع تتضمن إباحة ما دونه صارت إباحته دالة على إباحة ما عداه، فصح هاهنا حمل الكلام على الجماع فقط، ولما كان في الاعتكاف المنع من الجماع لا يدل على المنع مما دونه صلح اختلاف المفسرين فيه، فهذا هو الذي يجب أن يعتمد عليه، على ما لخصه القاضي.

21. في قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ وجوه:

أ. أحدها: وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد بالمباشرة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها، ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل‏، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (تناكحوا تناسلوا تكثروا)

ب. ثانيها: أنه نهى عن العزل، وقد رويت الأخبار في كراهية ذلك وقال الشافعي: لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها ولا بأس أن يعزل عن الأمة، وروى عاصم عن زر بن حبيش عن علي ‏ أنه كان يكره العزل، وعن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها.

ج. ثالثها: أن يكون المعنى: ابتغوا المحل الذي كتب الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم ونظيره قوله تعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 222]

د. رابعها: أن هذا التأكيد تقديره: فالآن باشروهن وابتغوا هذه المباشرة التي كتبها لكم بعد أن كانت محرمة عليكم.

هـ. خامسها: وهو على قول أبي مسلم: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، يعني هذه المباشرة التي كان الله تعالى كتبها لكم وإن كنتم تظنوها محرمة عليكم.

و. سادسها: أن مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات بسبب الحيض والنفاس والعدة والردة فقوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ يعني لا تباشروهن إلا في الأحوال والأوقات التي أذن لكم في مباشرتهن.

ز. سابعها: أن قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ إذن في المباشرة وقوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ يعني لا تبتغوا هذه المباشرة إلا من الزوجة والمملوكة لأن ذلك هو الذي كتب الله لكم بقوله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المؤمنون: 6]

ح. ثامنها: قال معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء: يعني اطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب فيها إن وجدتموها، وجمهور المحققين استبعدوا هذا الوجه، وعندي أنه لا بأس به، وذلك هو أن الإنسان ما دام قلبه مشتغلا بطلب الشهوة واللذة، لا يمكنه حينئذ أن يتفرغ للطاعة والعبودية والحضور، أما إذا قضى وطره وصار فارغا من طلب الشهوة يمكنه حينئذ أن يتفرغ للعبودية، فتقدير الآية: فالآن باشروهن حتى تتخلصوا من تلك الخواطر المانعة عن الإخلاص في العبودية، وإذا تخلصتم منها فابتغوا ما كتب الله من الإخلاص في العبودية في الصلاة والذكر والتسبيح والتهليل وطلب ليلة القدر، ولا شك أن هذه الرواية على هذا التقدير غير مستبعدة.

22. في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ﴾ وجوه:

أ. أحدها: أن‏ ﴿كُتِبَ﴾ في هذا الموضوع بمعنى جعل، كقوله تعالى: ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ [المجادلة: 22] أي جعل، وقوله تعالى: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 53]، ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 156] أي اجعلها.

ب. ثانيها: معناه قضى الله لكم كقوله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ [التوبة: 51] أي قضاه، وقوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: 21]، وقوله تعالى: ﴿لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ [آل عمران: 154] أي قضى.

ج. ثالثها: أصله هو ما كتب الله في اللوح المحفوظ مما هو كائن، وكل حكم حكم به على عباده فقد أثبته في اللوح المحفوظ.

د. رابعها: هو ما كتب الله في القرآن من إباحة هذه الأفعال.

23. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ الفائدة في ذكرهما أن تحريمهما وتحريم الجماع بالدليل بعد النوم، لما تقدم احتيج في إباحة كل واحد منها إلى دليل خاص يزول به التحريم، فلو اقتصر تعالى على قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشرب، فقرن إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ لتتم الدلالة على الإباحة.

24. روي‏ أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ قال عدي بن حاتم: أخذت عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي، وكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما، فلم يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبرته فضحك، وقال (إنك لعريض القفا، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل)، وإنما قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنك لعريض القفا)، لأن ذلك مما يستدل به على بلاهة الرجل، ونقول: يدل قطعا على أنه تعالى كنى بذلك عن بياض أول النهار وسواد آخر الليل.

25. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ إشكال وهو أن بياض الصبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذب، لأنه بياض مستطيل يشبه الخيط، فأما بياض الصبح الصادق فهو بياض مستدير في الأفق فكان يلزم بمقتضى هذه الآية أن يكون أول النهار من طلوع الصبح الكاذب وبالإجماع أنه ليس كذلك، والجواب: أنه لولا قوله تعالى في آخر هذه الآية: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ لكان السؤال لازما، وذلك لأن الفجر إنما يسمى فجرا لأنه ينفجر منه النور، وذلك إنما يحصل في الصبح الثاني لا في الصبح الأول، فلما دلت الآية على أن الخيط الأبيض يجب أن يكون من الفجر، علمنا أنه ليس المراد منه الصبح الكاذب بل الصبح الصادق.

26. سؤال وإشكال: فكيف يشبه الصبح الصادق بالخيط، مع أن الصبح الصادق ليس بمستطيل والخيط مستطيل؟ والجواب: أن القدر من البياض الذي يحرم هو أول الصبح الصادق، وأول الصبح الصادق لا يكون منتشرا بل يكون صغيرا دقيقا، بل الفرق بينه وبين الصبح الكاذب أن الصبح الكاذب يطلع دقيقا، والصادق يبدو دقيقا، ويرتفع مستطيلا فزال السؤال، فأما ما حكي عن عدي بن حاتم فبعيد، لأنه يبعد أن يخفى على مثله هذه الاستعارة مع قوله تعالى: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾

27. لا شك أن كلمة ﴿حَتَّى﴾ لانتهاء الغاية، فدلت هذه الآية على أن حل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح، وزعم أبو مسلم الأصفهاني لا شيء من المفطرات إلا أحد هذه الثلاثة، فأما الأمور التي تذكرها الفقهاء من تكلف القيء والحقنة والسعوط فليس شيء منها بمفطر، قال: لأن كل هذه الأشياء كانت مباحة، ثم دلت هذه الآية على حرمة هذه الثلاثة على الصائم بعد الصبح، فبقي ما عداها على الحل الأصلي، فلا يكون شيء منها مفطرا والفقهاء قالوا إن الله تعالى خص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر لأن النفس تميل إليها، وأما القيء والحقنة فالنفس تكرههما، والسعوط نادر فلهذا لم يذكرها.

28. مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح بن جني أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال لم يكن له صوم، وهذه الآية تدل على بطلان قولهم لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلى انفجار الصبح لم يمكنه الاغتسال إلا بعد انفجار الصبح.

29. زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والجماع بعد طلوع الفجر، وقبل طلوع الشمس قياسا لأول النهار على آخره، فكما أن آخره بغروب القرص، وجب أن يكون أوله بطلوع القرص، وقال في الآية أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود النهار والليل، ووجه الشبهة ليس إلا في البياض والسواد، فإما أن يكون التشبيه في الشكل مرادا فهذا غير جائز لأن ظلمة الأفق حال طلوع الصبح لا يمكن تشبيهها بالخيط الأسود في الشكل ألبتة، فثبت أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود هو النهار والليل ثم لما بحثنا عن حقيقة الليل‏ في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ وجدناها عبارة عن زمان غيبة الشمس بدليل أن الله تعالى سمى ما بعد المغرب ليلا مع بقاء الضوء فيه فثبت أن يكون الأمر في الطرف الأول من النهار كذلك، فيكون قبل طلوع الشمس ليلا، وأن لا يوجد النهار إلا عند طلوع القرص، فهذا تقرير قول الأعمش، ومن الناس من سلم أن أول النهار إنما يكون من طلوع الصبح فقاس عليه آخر النهار، ومنهم من قال لا يجوز الإفطار إلا بعد غروب الحمرة، ومنهم من زاد عليه وقال: بل لا يجوز الإفطار إلا عند طلوع الكواكب، وهذه المذاهب قد انقرضت، والفقهاء أجمعوا على بطلانها فلا فائدة في استقصاء الكلام فيها.

30. ﴿الْفَجْرِ﴾ مصدر قولك: فجرت الماء أفجره فجرا، وفجرته تفجيرا، قال الأزهري: الفجر أصله الشق، فعلى هذا الفجر في آخر الليل هو انشقاق ظلمة الليل بنور الصبح، وأما في قوله تعالى: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ فقيل للتبعيض لأن المعتبر بعض الفجر لا كله، وقيل للتبيين كأنه قيل: الخيط الأبيض الذي هو الفجر.

31. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بمعنى الصبح، وأحكام الإفطار فيه، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

32. ﴿إِلَى﴾ في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ تحتمل وجهين:

أ. لانتهاء الغاية، وظاهر قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ أن الصوم ينتهي عند دخول الليل، وذلك لأن غاية الشيء مقطعه ومنتهاه، وإنما يكون مقطعا ومنتهى إذا لم يبق بعد ذلك.

ب. قد تجي‏ء هذه الكلمة لا للانتهاء كما قوله تعالى: ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: 6] إلا أن ذلك على خلاف الدليل، والفرق بين الصورتين أن الليل ليس من جنس النهار، فيكون الليل خارجا عن حكم النهار، والمرافق من جنس اليد فيكون داخلا فيه، وقال أحمد بن يحيى: سبيل إلى الدخول والخروج.

33. كلا الأمرين جائز، تقول: أكلت السمكة إلى رأسها، وجائز أن يكون الرأس داخلا في الأكل وخارجا منه، إلا أنه لا يشك ذو عقل أن الليل خارج عن الصوم، إذ لو كان داخلا فيه لعظمت المشقة ودخلت المرافق في الغسل أخذا بالأوثق، ثم سواء قلنا إنه مجمل أو غير مجمل، فقد ورد الحديث الصحيح فيه، وهو ما روى عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وقد غربت الشمس فقد أفطر الصائم)، فهذا الحديث يدل على أن الصوم ينتهي في هذا الوقت، فأما أنه يجب على المكلف أن يتناول عند هذا الوقت شيئا، فالدليل عليه ما روى الشافعي بإسناده عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عن الوصال، قيل: يا رسول الله تواصل، أي كيف تنهانا عن أمر أنت تفعله؟ فقال: (إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني)، وقيل فيه معان.

أ. أحدها: أنه كان يطعم ويسقى من طعام الجنة.

ب. الثاني: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (إني على ثقة من أني لو احتجت إلى الطعام أطعمني مواصلا)

وحكى محمد بن جرير الطبري عن ابن الزبير، أنه كان يواصل سبعة أيام، فلما كبر جعلها خمسا، فلما كبر جدا جعلها ثلاثا، فظاهر كلام الشافعي يدل على أن هذا النهي نهي تحريم، وقيل: هو نهي تنزيه، لأنه ترك للمباح، وعلى هذا التأويل صح فعل ابن الزبير، إذا عرفت هذا فنقول: إذا تناول شيئا قليلا ولو قطرة من الماء، فعلى ذلك هو بالخيار في الاستيفاء إلا أن يخاف المرء من التقصير في صوم المستأنف، أو في سائر العبادات، فيلزم حينئذ أن يتناول من الطعام قدرا يزول به هذا الخوف.

34. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿اللَّيْلَ﴾ فمن الناس من قال ﴿اللَّيْلَ﴾ آخر النهار على أوله، فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار الشمس، كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور آثار الشمس ثم هؤلاء منهم من اكتفى بزوال الحمرة، ومنهم من اعتبر ظهور الظلام التام وظهور الكواكب، إلا أن الحديث الذي رواه عمر يبطل ذلك وعليه عمل الفقهاء.

35. الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن التبييت والتعيين غير معتبر في صحة الصوم، قالوا: الصوم في اللغة هو الإمساك، وقد وجد هاهنا فيكون صائما، فيجب عليه إتمامه، لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ فوجب القول بصحته، لأن الإمساك حرج ومشقة وعسر وهو منفي بقوله تعالى: ﴿ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏﴾ [الحج: 78] وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185] ترك العمل به في الصوم الصحيح فيبقى غير الصحيح على الأصل.. ومقتضى هذا الدليل، أن يصح صوم الفرض بنية بعد الزوال إلا أنا قلنا: الأقل يلحق بالأغلب فلا جرم أبطلنا الصوم بنية بعد الزوال وصححنا نيته قبل الزوال.

36. الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن صوم النفل يجب إتمامه قالوا: لأن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ أمر وهو للوجوب، وهو يتناول كل الصيامات، والشافعية قالوا: هذا إنما ورد لبيان أحكام صوم الفرض، فكان المراد منه صوم الفرض.

37. ثم لما بين الله تعالى الصوم، وبين أن من حكمه تحريم المباشرة، كان يجوز أن يظن في الاعتكاف أن حاله كحال الصوم في أن الجماع يحرم فيه نهارا لا ليلا، فبين تعالى تحريم المباشرة فيه نهارا وليلا، فقال: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾

38. الاعتكاف اللغوي ملازمة المرء للشيء وحبس نفسه عليه، برا كان أو إثما، قال تعالى: ﴿يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ﴾ [الأعراف: 138] والاعتكاف الشرعي: المكث في بيت الله تقربا إليه، وحاصله راجع إلى تقييد اسم الجنس بالنوع بسبب العرف، وهو من الشرائع القديمة، قال الله تعالى: ﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ﴾ [البقرة: 125] وقال تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾(4)..

39. لو لمس الرجل المرأة بغير شهوة جاز، لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو معتكف، أما إذا لمسها بشهوة، أو قبلها، أو باشرها فيما دون الفرج، فهو حرام على المعتكف، وهل يبطل بها اعتكافه؟ للشافعي فيه قولان: الأصح أنه يبطل، وقال أبو حنيفة، لا يفسد الاعتكاف إذا لم ينزل، احتج من قال بالإفساد أن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين، فقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ﴾ منع من هذه الحقيقة، فيدخل فيه الجماع وسائر هذه الأمور، لأن مسمى المباشرة حاصل في كلها.

40. اتفقوا على أن شرط الاعتكاف ليس الجلوس في المسجد وذلك لأن المسجد مميز عن سائر البقاع من حيث إنه بني لإقامة الطاعات فيه، ثم اختلفوا فيه‏:

أ. فنقل عن علي ‏ أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام‏، والحجة فيه قوله تعالى: ﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ﴾ [البقرة: 125] فعين ذلك البيت لجميع العاكفين، ولو جاز الاعتكاف في غيره لما صح ذلك العموم.

ب. وقال عطاء: لا يجوز إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة، لما روى عبد الله بن الزبير أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي)

ج. وقال حذيفة: يجوز في هذين المسجدين وفي مسجد بيت المقدس‏، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)

د. وقال الزهري: لا يصح إلا في الجامع.

هـ. وقال أبو حنيفة: لا يصح إلا في مسجد له إمام راتب ومؤذن راتب.

و. وقال الشافعي: يجوز في جميع المساجد، إلا أن المسجد الجامع أفضل حتى لا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة، واحتج بهذه الآية لأن قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ عام يتناول كل المساجد.

41. ﴿تِلْكَ﴾ في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ لا يجوز أن يكون إشارة إلى حكم الاعتكاف لأن الحدود جمع ولم يذكر الله تعالى في الاعتكاف إلا حدا واحدا، وهو تحريم المباشرة، بل هو إشارة إلى كل ما تقدم في أول آية الصوم إلى هاهنا.

42. ﴿حُدُودُ﴾ قال الليث: حد الشيء مقطعه ومنتهاه قال الأزهري: ومنه يقال للمحروم محدود لأنه ممنوع عن الرزق ويقال للبواب: حداد لأنه يمنع الناس من الدخول وحد الدار ما يمنع غيرها من الدخول فيها، وحدود الله ما يمنع من مخالفتها والمتكلمون يسمون الكلام الجامع المانع: حدا، وسمي الحديد: حديدا لما فيه من المنع، وكذلك إحداد المرأة لأنها تمنع من الزينة إذا عرفت الاشتقاق فنقول: المراد من حدود الله محدوداته أي مقدوراته التي قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة.

43. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ فيه إشكالان:

أ. الأول: أن قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ إشارة إلى كل ما تقدم، والأمور المتقدمة بعضها إباحة وبعضها حظر فكيف قال في الكل‏ ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾

ب. الثاني: أنه تعالى قال في آية أخرى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: 229] وقال في آية المواريث‏ ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ [النساء: 14] وقال هاهنا: ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ فكيف الجمع بينهما؟

44. الجواب عن الإشكالين من وجوه:

أ. الأول: وهو الأحسن والأقوى أن من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق، فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الضلال، ثم بولغ في ذلك فنهى أن‏ يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق والباطل، لئلا يداني الباطل وأن يكون بعيدا عن الطرف فضلا أن يتخطاه كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه)

ب. الثاني: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني: لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ [الأسراء: 34]

ج. الثالث: أن الأحكام المذكورة فيما قبل وإن كانت كثيرة إلا أن أقربها إلى هذه الآية إنما هو قوله: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾، وقبل هذه الآية قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، وذلك يوجب حرمة الأكل والشرب في النهار، وقبل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾، وهو يقتضي تحريم مواقعة غير الزوجة والمملوكة وتحريم مواقعتهما في غير المأتي،وتحريم مواقعتهما في الحيض والنفاس والعدة والردة، وليس فيه إلا إباحة الشرب والأكل والوقاع في الليل، فلما كانت الأحكام المتقدمة أكثرها تحريمات، لا جرم غلب جانب التحريم، فقال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ أي تلك الأشياء التي منعتم عنها إنما منعتم عنها بمنع الله ونهيه عنها فلا تقربوها.

45. في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ وجوه:

أ. أحدها: المراد أنه كما بين ما أمركم به ونهاكم عنه في هذا الموضع، كذلك يبين سائر أدلته على دينه وشرعه.

ب. ثانيها: قال أبو مسلم: المراد بالآيات الفرائض التي بينها كما قال ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [النور: 1] ثم فسر الآيات بقوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ [النور: 2] إلى سائر ما بينه من أحكام الزنا، فكأنه تعالى قال كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما لزم.

ج. ثالثها: يحتمل أن يكون المراد أنه سبحانه لما بين أحكام الصوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بيانا شافيا وافيا، قال بعده: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ أي مثل هذا البيان الوافي الواضح الكامل هو الذي يذكر للناس، والغرض منه تعظيم حال البيان وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 5/268.

(2) الكلام هنا للواحدي.

(3) الكلام هنا للزمخشري.

(4) الكلام هنا للشافعي.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ لفظ ﴿أَحَلَّ﴾ يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ(2)..

2. خان واختان بمعنى من الخيانة، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم، ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب، وقال القتبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شي فلا يؤدي الأمانة فيه.

3. ﴿لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾ ليلة: نصب على الظرف، وهي اسم جنس فلذلك أفردت، والرفث: كناية عن الجماع لان الله عز وجل كريم يكني، قاله ابن عباس والسدي، وقال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وقاله الأزهري أيضا، وقال ابن عرفة: الرفث ها هنا الجماع، والرفث: التصريح بذكر الجماع والاعراب به، قال الشاعر:

çويرين من أنس الحديث زوانيا...وبهن عن رفث الرجال نفار‏é

وقيل: الرفث أصله قول الفحش، يقال: رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح، ومنه قول الشاعر:

çورب أسراب حجيج كظّم‏...عن اللغا ورفث التكلم‏é

وتعدى الرفث بإلى في قوله تعالى جده: ﴿الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾، وأنت لا تقول: رفثت إلى النساء، ولكنه جيء به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾، [النساء: 21]، ومن هذا المعنى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: 14]‏، وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا﴾ [التوبة: 35] أي يوقد، لأنك تقول: أحميت الحديدة في النار، ومنه قوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: 63] حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره، لأنك تقول: خالفت زيدا، ومثله قوله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43] حمل على معنى ﴿رَؤُوف﴾ في نحو ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوف رَحِيمٌ‏﴾ [التوبة: 128]، ألا ترى أنك تقول: رؤفت به، ولا تقول رحمت به، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية، ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي:

çحملت به في ليلة مزءودة...كرها وعقد نطاقها لم يحلل‏é

عدى حملت بالباء، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه، كما جاء في التنزيل: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ [الأحقاف: 15]، ولكنه قال حملت به، لأنه في معنى حبلت به.

4. ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ ابتداء وخبر، وشددت النون من ﴿هُنَّ﴾ لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر، ﴿وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ أصل اللباس في الثياب، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا، لانضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب، وقال النابغة الجعدي:

çإذا ما الضجيع ثنى جيدها...تداعت فكانت عليه لباساé

وقال أيضا:

çلبست أناسا فأفنيتهم‏...وأفنيت بعد أناس أناساé

وقال بعضهم: يقال لما ستر الشيء وداراه: لباس، فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل، كما ورد في الخبر، وقيل: لان كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس، وقال أبو عبيد وغيره: يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك، قال رجل لعمر بن الخطاب:

çألا أبلغ أبا حفص رسولا...فدى لك من أخي ثقة إزاري‏é

قال أبو عبيد: أي نسائي، وقيل نفسي، وقال الربيع: هن فراش لكم، وأنتم لحاف لهن، مجاهد: أي سكن لكم، أي يسكن بعضكم إلى بعض.

5. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم، كقوله تعالى: ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 85] يعني يقتل بعضكم بعضا، ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه.

6. قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ يحتمل معنيين:

أ. أحدهما: قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم.

ب. الآخر: التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة، كقوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ [المزمل: 20] يعني خفف عنكم، وقوله عقيب القتل الخطأ: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: 92] يعني تخفيفا، لان القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ [التوبة: 117] وإن لم يكن من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يوجب التوبة منه.

7. ﴿وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل، كقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله) يعني تسهيله وتوسعته، فمعنى ﴿عَلِمَ اللَّهُ﴾ أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ بعد ما وقع، أي خفف عنكم ﴿وَعَفَا﴾ أي سهل، و﴿تَخْتَانُونَ﴾ من الخيانة.

8. ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ كناية عن الجماع، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم، وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه، قال ابن العربي: (وهذا يدل على أن سبب الآية جماع عمر لا جوع قيس، لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال: فالان كلوا، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله)

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾:

أ. قال ابن عباس ومجاهد والحكم ابن عيينة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك: معناه وابتغوا الولد، يدل عليه أنه عقيب قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾

ب. وقال ابن عباس: ما كتب الله لنا هو القرآن، الزجاج: أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به.

ج. وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر.

د. وقيل: المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة، قاله قتادة، قال ابن عطية: وهو قول حسن.

هـ. وقيل: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ من الإماء والزوجات.

و. وقرا الحسن البصري والحسن بن قرة (واتبعوا) من الاتباع، وجوزها ابن عباس، ورجح ﴿ابْتَغَوُا﴾ من الابتغاء.

10. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ هذا جواب نازلة قيس، والأول جواب عمر، وقد ابتدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدم.

11. ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ حتى غاية للتبيين، ولا يصح أن يقع التبيين لاحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر، واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك:

أ. فقال الجمهور: ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنه ويسرة، وبهذا جاءت الاخبار ومضت عليه الأمصار، روى مسلم عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا ـ وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض ـ ولكن الذي يقول هكذا ـ ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه)، وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان‏ فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام) هذا مرسل.

ب. وقالت طائفة: ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت، روي ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش سليمان وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال.، وقال مسروق: لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت. وروى النسائي عن عاصم عن زر قال قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي الله قال: (كلوا واشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر) قال الدارقطني: قيس بن طلق ليس بالقوي، وقال أبو داوود: هذا مما تفرد به أهل اليمامة، قال الطبري: والذي قادهم إلى هذا أن الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس، وآخره غروبها.

12. مضى‏ الخلاف في هذا بين اللغويين، وتفسير رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك بقوله: (إنما هو سواد الليل وبياض النهار) الفيصل في ذلك، وقوله ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 184]، وروى الدارقطني عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له)، تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الاسناد، وكلهم ثقات، وروي عن حفصة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له)، رفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء، وروي عن حفصة مرفوعا من قولها، ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر، خلافا لقول أبي حنيفة، ذلك أن الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية، وقد وقتها الشارع قبل الفجر، فكيف يقال: إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز، وروى البخاري ومسلم عن‏ سهل بن سعد قال نزلت ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ ولم ينزل ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار، وعن عدي بن حاتم قال قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهما الخيطان؟ قال (إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين ـ ثم قال ـ لا بل هو سواد الليل وبياض النهار)، أخرجه البخاري.

13. سمي الفجر خيطا لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط، قال الشاعر:

çالخيط الابيض ضوء الصبح منفلق... والخيط الاسود جنح الليل مكتومé

والخيط في كلامهم عبارة عن اللون، والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث، وأصله الشق، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: فجرا لانبعاث ضوئه، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر، تسميه العرب الخيط الأبيض، كما بينا. قال أبو دواد الإيادي:

çفلما أضاءت لنا سدفة...ولاح من الصبح خيط أناراé

وقال آخر:

çقد كاد يبدو وبدت تباشره‏...وسدف الليل البهيم ساتره‏é

وقد تسميه أيضا الصديع، ومنه قولهم: انصدع الفجر، قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن معديكرب:

çترى السرحان مفترشا يديه‏...كأن بياض لبته صديع‏é

وشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال:

çإذا ما الليل كان الصبح فيه‏...أشق كمفرق الرأس الدهين‏é

ويقولون في الامر الواضح: هذا كفلق الصبح، وكانبلاج الفجر، وتباشير الصبح، قال الشاعر:

çفوردت قبل انبلاج الفجر...وابن ذكاء كامن في كفرé

14. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالكفارة بسبب الفطر في رمضان وغيرها، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

15. ﴿إِلَى اللَّيْلِ﴾ فيه ما يقتضي النهي عن الوصال، إذ الليل غاية الصيام، وقالته عائشة، وهذا موضع اختلف فيه:

أ. فمن واصل عبد الله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم، كان ابن الزبير يواصل سبعا، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه، قال: وكانت تيبس أمعاؤه، وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها.. واحتج من أجاز الوصال بأن قال إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، فخشي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو، ومع حاجتهم في ذلك الوقت، وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال: (لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)، فلما كمل الايمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم، واصل أولياء الله وألزموا أنفسهم أعلى المقامات.

ب. ظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا غابت الشمس من ها هنا وجاء الليل من، ها هنا فقد أفطر الصائم)، خرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى، ونهى عن الوصال، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: (لو تأخر الهلال لزدتكم) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا، أخرجه مسلم عن أبي هريرة، وفي حديث أنس: (لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم)، خرجه مسلم أيضا، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إياكم والوصال إياكم والوصال) تأكيدا في المنع لهم منه، وأخرجه البخاري، وعلى كراهية الوصال ـ لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الأبدان ـ جمهور العلماء، وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن فصل‏ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)، خرجه مسلم وأبو داوود، وفي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر) قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال (لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني)، قالوا: وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر، وهو الغاية في الوصال لمن أراده، ومنع من اتصال يوم بيوم، وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك.

16. ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الاعداء أولى، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات، والدليل على ذلك ما ذكرناه، وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما أخبر عن نفسه أنه واصل، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا: إنك تواصل، فأخبر أنه يطعم ويسقى، وظاهر هذه الحقيقة: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم يؤتى بطعام الجنة وشرابها.. وقيل: إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف.. وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها.. ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا، وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعو تعمقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم، وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله: (أطعم وأسقي) المعنى لكان مفطرا حكما، كما أن من اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطر حكما، ولا فرق بينهما، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، وعلى هذا الحد ما واصل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا أمر به، فكان تركه أولى.

17. ذكر هنا(3). بعض المباحث المرتبطة بمستحبات الإفطار، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

18. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ بين جل تعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف، وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك، فقال الحسن البصري والزهري: عليه ما على المواقع أهله في رمضان، فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة، وإن لم يقصد لم يكره، لان عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو معتكف، وكانت لا محالة تمس بدن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيدها، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر، قال أبو عمر: وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل، واختلفوا فيما عليه إن فعل، فقال مالك والشافعي: إن فعل شيئا من ذلك فسدا اعتكافه، قاله المزني، وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف: لا يفسد الاعتكاف من الوطي إلا ما يوجب الحد، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم.

19. ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ﴾ جملة في موضع الحال، والاعتكاف في اللغة: الملازمة، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه، قال الراجز: (عكف النبيط يلعبون الفنزجا)، وقال شاعر:

çوظل بنات الليل حولي عكفا...عكوف البواكي بينهن صريع‏é

ولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة الله مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم، وهو في عرف الشرع: ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع‏ مخصوص، وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه وأزواجه، ويلزمه إن ألزمه نفسه، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه.

20. أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، لقول الله تعالى ﴿فِي الْمَسَاجِدِ﴾، واختلفوا في المراد بالمساجد:

أ. فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوح من المساجد، وهو ما بناه نبيّ كالمساجد الحرام ومسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومسجد إيلياء، روى هذا عن حذيفة بن اليمان وسعد بن المسيب، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها.

ب. وقال آخرون: لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة، لان الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد، روى هذا عن على بن أبى طالب وابن مسعود، وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبى جعفر محمد بن على، وهو أحد قولي مالك.

ج. وقال آخرون: الاعتكاف في كل مسجد جائز، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبى قلابة وغيرهم، وهو قول الشافعي وأبى حنيفة وأصحابهما، وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن، وهو أحد قولي مالك، وبه يقول ابن علية وداوود بن على والطبري وابن المنذر، وروى الدارقطني عن الضحاك عن حذيفة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح)، قال الدارقطني: والضحاك لم يسمع من حذيفة.

21. ذكر هنا(4). بعض المباحث المرتبطة بالاعتكاف، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

22. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ أي هذه الأحكام حدود الله فلا تخالفوا، فـ ﴿تِلْكَ﴾ إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي، والحدود: الحواجز، والحد: المنع، ومنه سمى الحديد حديدا، لأنه يمنع من وصول السلاح إلى البدن، وسمي البواب والسبحان حدادا، لأنه يمنع من في الدار من الخروج منها، ويمنع الخارج من الدخول فيها، وسميت حدود الله لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج منها هو منها، ومنها سميت الحدود في المعاصي، لأنها تمنع أصحابهما من العود إلى أمثالها، ومنه سميت الحاد في العدة، لأنها تمتنع من الزينة.

23. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ أي كما بين هذه الحدود يبين جميع الأحكام لتتقوا مجاوزتها، والآيات: العلامات الهادية إلى الحق، و﴿لَعَلَّهُمْ﴾ ترج في حقهم، فظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره الله للهدى، بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من يشاء.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏2/315.

(2) ذكر هنا أحاديث وآثار في سبب النزول سبق ذكرها.

(3) تفسير القرطبي: ‏2/333.

(4) تفسير القرطبي: ‏2/334.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ فيه دلالة على أن هذا الذي أحلّه الله كان حراما عليهم، وهكذا كان كما يفيده السبب لنزول الآية.

2. الرفث: كناية عن الجماع، قال الزجّاج: الرّفث: كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وكذا قال الأزهري، ومنه قول الشاعر:

çويرين من أنس الحديث زوانيا...وبهنّ عن رفث الرّجال نفارé

وقيل: الرفث: أصله قول الفحش، رفث وأرفث: إذا تكلم بالقبيح، وليس هو المراد هنا، وعدّى الرفث بإلى لتضمينه معنى الإمضاء.

3. جعل النساء لباسا للرجال، والرجال لباسا لهنّ لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع، كالامتزاج الذي يكون بين الثوب ولابسه، قال أبو عبيدة وغيره: يقال للمرأة: لباس وفراش وإزار، وقيل: إنما جعل كلّ واحد منهما لباسا للآخر؛ لأنه يستره عند الجماع عن أعين الناس.

4. ﴿تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: تخونونها بالمباشرة في ليالي الصوم، يقال خان واختان بمعنى، وهما من الخيانة، قال القتبي: أصل الخيانة: أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه، انتهى، وإنما سمّاهم: خائنين لأنفسهم، لأن ضرر ذلك عائد عليهم.

5. ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ يحتمل معنيين: أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم، والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة كقوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ يعني: خفف عنكم، وكقوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ يعني: تخفيفا، وهكذا قوله تعالى: ﴿وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ يحتمل: العفو من الذنب، ويحتمل: التوسعة والتسهيل.

6. ﴿وَابْتَغُوا﴾ قيل: هو الولد، أي: ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح وهو حصول النسل، وقيل: المراد: ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه، قاله الزجاج وغيره؛ وقيل: ابتغوا الرخصة والتوسعة؛ وقيل: المراد: ابتغوا ما كتب لكم من الإماء والزوجات؛ وقيل غير ذلك مما لا يفيده النظم القرآني، ولا دلّ عليه دليل آخر، وقرأ الحسن البصري: واتبعوا بالعين المهملة من الإتباع.

7. ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ هو تشبيه بليغ، والمراد هنا بالخيط الأبيض: هو المعترض في الأفق، لا الذي هو كذنب السرحان، فإنه الفجر الكذاب الذي لا يحلّ شيئا ولا يحرمه، والمراد بالخيط الأسود: سواد الليل، والتبين: أن يمتاز أحدهما عن الآخر، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر.

8. ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ فيه التصريح بأن للصوم غاية هي الليل، فعند إقبال الليل من المشرق، وإدبار النهار من المغرب، يفطر الصائم ويحلّ له الأكل والشرب وغيرهما.

9. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ قيل: المراد بالمباشرة هنا الجماع؛ وقيل تشمل التقبيل واللمس إذا كان لشهوة، لا إذا كانا لغير شهوة، فهما جائزان كما قاله عطاء والشافعي وابن المنذر وغيرهم، وعلى‏ هذا يحتمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبّل، فتكون هذا الحكاية للإجماع مقيدة بأن يكونا لشهوة.

10. الاعتكاف في اللغة: الملازمة، يقال: عكف على الشيء: إذا لازمه.. ولما كان المعتكف يلازم المسجد قيل له: عاكف في المسجد، ومعتكف فيه، لأنه يحبس نفسه لهذه العبادة في المسجد، والاعتكاف في الشرع: ملازمة طاعة مخصوصة على شرط مخصوص، وقد وقع الإجماع على أنه ليس بواجب، وعلى أنه لا يكون إلا في مسجد، وللاعتكاف أحكام مستوفاة في كتب الفقه وشروح الحديث.

11. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ أي: هذه الأحكام حدود الله، وأصل الحدّ: المنع، ومنه سمي البوّاب والسجّان: حدادا، وسميت الأوامر والنواهي: حدود الله، لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج عنها ما هو منها، ومن ذلك سميت الحدود: حدودا؛ لأنها تمنع أصحابها من العود، ومعنى النهي عن قربانها: النهي عن تعدّيها بالمخالفة لها؛ وقيل: إن حدود الله هي محارمه فقط، ومنها المباشرة من المعتكف، والإفطار في رمضان لغير عذر، وغير ذلك مما سبق النهي عنه، ومعنى النهي عن قربانها على هذا واضح.

12. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾ أي: كما بين لكم هذه الحدود يبين لكم العلامات الهادية إلى الحق.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/215.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ إرشاد إلى ما شرعه في الصوم ـ بعد بيان إيجابه على من وجب عليه، وحاله معه حضرا أو سفرا، وعدّته ـ من إحلال غشيان الزوج ليلا، وكأنّ الصحابة تحرّجوا عن ذلك ظنّا أنّه من تتمّة الصوم، ورأوا أن لا صبر لأنفسهم عنه، فبيّن لهم أن ذلك حلال لا حرج فيه.

2. ﴿الرَّفَثُ﴾ أصله قول الفحش، وكنى به هنا عن الجماع وما يتبعه، كما كنى عنه في قوله: فَلَمَّا تَغَشَّاها [الأعراف: 189]، وقوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ [البقرة: 223]، فالله تعالى كريم يكني، وإيثار الكناية عنه ـ هنا ـ بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ـ عدا بقية الآيات ـ استهجانا لما وجد منهم قبل الإباحة، كما سماه اختيانا لأنفسهم، والكناية عما يستقبح ذكره بما يستحسن لفظه من سنن العرب، وللثعالبيّ في آخر كتابه (فقه اللغة) فصل في ذلك بديع، ثم إنّ المستعمل الشائع: رفث بالمرأة ـ بالباء ـ وإنما عدي هنا ب (إلى) لتضمنه معنى الإفضاء، كما في قوله: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [النساء: 21]

3. ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ قال الراغب: جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه سترا لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء، كما أن اللباس ستر يمنع أن يبدو منه السّوأة، وعلى ذلك كنى عن المرأة بالإزار، وسمّي النكاح حصنا لكونه حصنا لذويه عن تعاطي القبيح، وهذا ألطف من قول بعضهم: شبّه كل واحد من الزوجين ـ لاشتماله على صاحبه في العناق والضمّ ـ باللباس المشتمل على لابسه.. وقال الزمخشريّ: فإن قلت: ما موقع قوله:﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾؟ قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة، قلّ صبركم عنهن، وصعب عليكم اجتنابهنّ؛ فلذلك رخّص لكم في مباشرتهنّ.

4. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ استئناف آخر مبين لما ذكر من السبب وهو (اختيان النفس)، أي: قلة تصبيرها من نزوعها إلى رغيبتها، ومنه: خانته رجلاه إذا لم يقدر على المشي، أي: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو لم يحلّ لكم ذلك فأحلّه رحمة بكم ولطفا، وفي (الاختيان) وجه آخر وهو: أنّه عنى به مخالفة الحقّ بنقض العهد، أي: كنتم تظلمونها بذلك ـ بتعريضها للعقاب ـ لو لم يحلّ ذلك لكم، قالوا: والاختيان أبلغ من الخيانة ـ كالاكتساب من الكسب ـ ففيه زيادة وشدّة.

5. ثمّ أشار تعالى إلى لطفه بالمؤمنين بتخفيفه ما كان يغلّهم ويثقلهم ويخونهم لولا رحمته، بقوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ أي: عاد بفضله وتيسيره عليكم برفع الحرج في الرفث ليلا ﴿وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ أي: جاوز عنكم تحريمه، فـ (العفو) بمعنى التوسعة والتخفيف، ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ قال أبو البقاء: حقيقة (الآن) الوقت الذي أنت فيه؛ وقد يقع على الماضي القريب منك، وعلى المستقبل القريب وقوعه، تنزيلا للقريب منزلة الحاضر وهو المراد ـ هنا ـ لأنّ قوله ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ أي: فالوقت الذي كان يحرم عليكم الجماع فيه من الليل قد أبحناه لكم فيه؛ فعلى هذا (الآن) ظرف‏ لـ ﴿فباشروهنّ﴾، وقيل: الكلام محمول على المعنى، والتقدير: فالآن قد أبحنا لكم أن تباشروهنّ، ودلّ على المحذوف لفظ الأمر الذي يراد به الإباحة، فعلى هذا، (الآن) على حقيقته، وأصل (المباشرة) إلصاق البشرة بالبشرة، كني بها عن الجماع الذي يستلزمها وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ تأكيد لما قبله، أي: ابتغوا هذه الرخصة التي أحلّها لكم.

6. ﴿كُتب﴾ هنا، إمّا بمعنى جعل كقوله ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ [المجادلة: 22]، أي: جعل، وقوله ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 53]، ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 156]، أي: أجعلها، أو بمعنى قضى، كقوله: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ [التوبة: 51]، أي: قضاه، وقوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة: 21]، وقوله: ﴿لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ [آل عمران: 154]، أي: قضي.

7. في الآية إشارة في تحرّي النكاح إلى لطيفة، وهي(2).: أن الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح لبقاء نوع الإنسان إلى غاية، كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، فحقّ الإنسان أن يتحرّى بالنكاح ما جعل الله له على حسب ما يقتضيه العقل والديانة، فمتى تحرّى به حفظ النفس وحصن النفس على الوجه المشروع، فقد ابتغى ما كتب الله له، وإلى هذا أشار من قال عنى الولد.

8. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ أباح تعالى الأكل والشرب ـ مع ما تقدّم من إباحة الجماع ـ في أيّ الليل شاء الصائم إلى أن يتبيّن ضياء الصباح من سواد الليل، وشبّها بخيطين: أبيض وأسود، لأنّ أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتدّ معه من غبش الليل، كالخيط الممدود.

9. ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود، لأن بيان أحدهما بيان للثاني، وقد رفع بهذا البيان الالتباس الذي وقع أول أمر الصيام.. عن عدّي بن حاتم قال لما نزلت ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ قال له عديّ: يا رسول الله! إنّي أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود، أعرف الليل من النهار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن وسادك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار)، قال ابن كثير: ومعنى قوله: (إن وسادك لعريض) أي: إن كان يسع تحته الخيطين المرادين من هذه الآية؛ فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب، وجاء في بعض هذه الألفاظ: إنك لعريض القفا، ففسّره بعضهم بالبلادة ـ وهو ضعيف ـ بل يرجع إلى هذا؛ لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضا عريض.

10. في الإتيان بلفظ التفعّل في قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ﴾ إشعار بأنه لا يكفي إلّا التبيّن الواضح لا تباشير الضوء، وقد روى مسلم عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يغرّنّكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا)

11. ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ﴾ أي: صرم كلّ يوم‏ ﴿إِلَى اللَّيْلِ﴾ أي: إلى ظهور الظلمة من قبل المشرق وذلك بغروب الشمس، وكلمة (إلى) تفيد أنّ الإفطار عند غروب الشمس، كما جاء في (الصحيحين) عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم، قال ابن القيّم: أي أفطر حكما وإن لم ينوه، أو دخل في وقت فطره، كما في: أصبح وأمسى، وقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يعجل الفطر ويحضّ عليه، كما في (الصحيحين): لا يزال‏ الناس بخير ما عجلوا الفطر، وروى أحمد عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: يقول الله عزّ وجلّ: إنّ أحبّ عبادي إليّ أعجلهم فطرا، ورواه الترمذيّ‏ وقال: حديث حسن غريب، وعن أنس بن مالك‏ قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يفطر، قبل أن يصلّي، على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء، رواه الترمذيّ، وقال: حسن غريب، وروى أحمد عن ليلى، امرأة بشير بن الخصاصية، قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عنه وقال: يفعل ذلك النصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله ثمّ أتمّوا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا.

12. لهذا ورد في الأحاديث الصحيحة، النهي عن الوصال، وهو أن يصل يوما بيوم ولا يأكل بينهما شيئا، ففي (الصحيحين) عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لا تواصلوا، قالوا: إنك تواصل، قال: لست كأحد منكم، إنّي أطعم وأسقى ـ أو إنّي أبيت أطعم وأسقى، قال الترمذيّ: وفي الباب عن عليّ، وأبي هريرة، وعائشة وابن عمر، وجابر، وأبي سعيد، وبشير بن الخصاصية، أي: فالنهي عنه قد ثبت من غير وجه، نعم! من أحبّ أن يواصل إلى السحر فله ذلك، كما في حديث‏ أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر، قالوا: فإنّك تواصل يا رسول الله، قال لست كهيئتكم، إنّي أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني.. والمراد بهذا الطعام والشراب، ما يغذّيه الله به من المعارف، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته، وقرة عينه بقربه، وتنعّمه بحبّه، والشوق إليه؛ وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلب، ونعيم الأرواح، وقرّة العين، وبهجة النفوس والروح والقلب، بما هو أعظم غذاء، وأجوده، وأنفعه، وقد يقوي هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدّة من الزمان، ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيوانيّ، ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرّت عينه بمحبوبه، وتنعّم بقربه والرضاء عنه، وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كلّ وقت، ومحبوبه حفيّ به، معتزّ بأمره، مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له، أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحبّ؟ فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجلّ منه، ولا أعظم، ولا أجمل، ولا أكمل، ولا أعظم إحسانا، إذا امتلأ قلب المحبّ بحبّه، وملك حبّه جميع أجزاء قلبه وجوارحه، وتمكّن حبه منه أعظم تمكّن؟ وهذا حاله مع حبيبه، أفليس هذا المحبّ عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا ونهارا؟ ولهذا قال إنّي أظلّ عند ربي يطعمني ويسقيني، ولو كان ذلك طعاما وشرابا للفم ـ كما قيل ـ لما كان صائما، فضلا عن كونه مواصلا، كذا في (زاد المعاد)، وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف، أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة، وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم، لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة، قال ابن كثير: ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشاديّ من باب الشفقة، كما جاء في حديث عائشة: رحمة لهم، فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشّمون ذلك ويفعلونه، لأنهم كانوا يجدون قوة عليه.

13. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غيره، فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا أو نهارا حتى يقضي اعتكافه، وقال الضحاك: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء، وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد: أنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية، قال ابن أبي حاتم: روي عن ابن مسعود ومحمد بن كعب، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وقتادة، والضحاك، والسدّيّ، والربيع ابن أنس، ومقاتل قالوا: لا يقربها وهو معتكف، قال ابن كثير: وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء: أنّ المعتكف يحرم عليه النساء مادام معتكفا في مسجده، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بدّ له منها فلا يحلّ له أن يثبت فيه إلّا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك ـ من قضاء الغائط أو الأكل ـ وليس له أن يقبّل امرأته، ولا أن يضمّها إليه، ولا أن يشتغل بشيء سوى اعتكافه، ثم قال ابن كثير: المراد بالمباشرة، الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك، فأمّا معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به، فقد ثبت في (الصحيحين) عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدني إليّ رأسه فأرجله وأنا حائض، وكان لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإنسان، وفي (الصحيحين) أيضا: أنّ صفية أم المؤمنين كانت تزور النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو معتكف في المسجد، فتتحدّث عنده ساعة ثمّ ترجع إلى منزلها، فيقوم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ليمشي معها حتى يبلغها دارها، وذلك في الليل.

14. ظاهر ذكر المساجد يقتضي جواز الاعتكاف في كلّ مسجد(2)..

15. في ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام، كما ثبت في السنة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ أنّه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عزّ وجلّ، ثم اعتكف أزواجه‏ من بعده، ثم إنّ حقيقة الاعتكاف هو المكث في بيت الله تقربا إليه، وهو من الشرائع القديمة.

16. في هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم في الاعتكاف(3).: لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفا وعلى جمعيته على الله، ولمّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شعث القلب لا يلمّه إلّا الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثا، ويشتتّه في كلّ واد، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، أو يعوقه ويوقفه ـ اقتضت رحمة العزيز الرحيم لعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوّقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضرّه ولا يقطعه من مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه، عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محلّ هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهمّ به كلّه، والخطرات كلّها بذكره، والفكرة في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيكون أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق، فيعدّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم، ولما كان المقصود إنما يتم مع الصوم شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان، ولم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه اعتكف مفطرا قط، بل قد قالت عائشة: لا اعتكاف إلّا بصوم، ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلّا مع الصوم، ولا فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا مع الصوم.

17. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ يعني: تلك الأحكام التي ذكرت في الصيام والاعتكاف من تحريم الأكل والشرب والجماع، وشبّه تلك الأحكام بالحدود الحاجزة بين الأشياء لكونها حاجزة بين الحق والباطل، فإن من عمل بها كان في حيز الحق، ومن خالفها وقع في الباطل، ونهى عن قربها كيلا يداني الباطل فضلا أن يتخطى إليه، فالنهي عن مكان القرب من الحدود التي هي الأحكام، كناية عن النهي عن قرب الباطل، لكون الأول لازما للثاني، وبذلك يحصل الجمع بين هذه الآية وآية ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: 229]، ويندفع التنافي، وقوله‏ ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ أبلغ من‏ ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق التصريح.

18. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ أي: كما بيّن ما أمركم به ونهاكم عنه ـ في هذا الموضع ـ يبين للناس ما شرعه لهم على لسان نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ المحارم فيعرفون كيف يطيعون ويهتدون، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى‏ عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وإِنَّ اللهَ بِكُمْ لرَؤُوف رَحِيمٌ‏﴾ [الحديد: 9]

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/42.

(2) الكلام هنا للراغب.

(3) الكلام هنا لابن القيّم.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ حقيقة ليالي الصوم، وأضيفت للصوم مع أنَّه لا صوم في الليل بل في النهار لاتِّصالها بنهارها بعدها، ولأنَّ نية الصوم في الليل، أو باعتبار ما قبل نزول هذه الآية من وجوب صوم ما بقي من الليل بعد صلاة العشاء، أو النوم، وهو متعلِّق بقوله: ﴿الرَّفَثُ﴾ ولو كان منحلًّا إلى حرف المصدر والفعل للتوسُّع في الظروف لا بـ (أُحِلَّ)؛ لأنَّ نزول الإحلال ليس في ليلة رفث مخصوصة، ولا كلِّ ليلة رفث، إلَّا بتأويل: أثبت لكم كلَّ ليلة الرفث، أي: يوقع ثبوته في كلِّ ليلة، وهو بمعنى الجماع، وعدِّي بـ (إِلَى) كما قال: ﴿إِلَى نِسَآئِكُمْ﴾ لتضمُّنه معنى الإفضاء المستعمل مع النساء غالبًا بمعنى الجماع، وهو جمع نسوة، أو لا مفرد له، يقال: أفضى إلى امرأته، أي: جامعها، قال: ﴿وَقَدَ اَفْضَىٰ بَعْضُكُمُ إِلَىٰ بَعْضٍ﴾ [النساء: 21].

2. ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ يمنع كلٌّ من الزوجين الآخر من الزنى بالفرج والعين والقلب واللسان واليد والرجل والإمناء باليد، بكونه فيه كفاية للآخر، كما يمنع الثوب انكشاف العورة، ويقيه من حرِّ جهنَّم وبردها كما يمنع الثوب الحرَّ والبرد عن البدن، ويحتاج كلٌّ للآخر كما يحتاج للثوب، ويخالط كلٌّ الآخر بالالتصاق كالثوب مع البدن، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من تزوَّج فقد أحرز ثلثي دينه)، وقدَّم كونهنَّ لباسًا لأنَّهم أشدُّ احتياجًا إليهنَّ؛ لأنَّهم أقلُّ صبرًا عن الجماع منهنَّ، وهنَّ أشدُّ حبًّا للجماع إلَّا أنَّهنَّ أكثر صبرًا وأشدُّ حياء، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا خيرَ في النساءِ، ولا صبرَ عنهنَّ، يغلِبن كريمًا، ويغلِبُهنَّ لئيم، وأُحبُّ أن أكون كريمًا مغلوبًا، ولا أحبُّ أن أكون لئيمًا غالبًا).

3. ﴿عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ﴾ أَوْكَدُ من (تخونون)؛ لأنَّ من معاني (افتعل) العلاج والمبالغة، ولكثرة الحروف، والمعنى: تعرضون للعقاب وحرمان الثواب، ﴿أَنفُسَكُمْ﴾ بالجماع بعد النوم أو بعد صلاة العشاء، وقد حرِّم ذلك ليلة الصوم، والمعنى: تختانون أنفسكم في الجملة طبعًا لا في خصوص الجماع وقت تحريمه، بل هذا داخل في الجملة، ولهذا قال: ﴿كُنتُمْ﴾، ويحتمل أن يريد خصوص ذلك الجماع، أخبر الله بعد وقوعه أنَّه عالم به حين كان.

4. وذلك أنَّ عمر وكعب بن مالك وغيرهما جامعوا وقت لا يجوز، وهو ما بعد أن ينام، فإذا نام حرم عليه الجماع والأكل والشرب إلى الليلة التي بعد، وقد سَمر عمر عنده صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ووجد رائحة طيِّبة عند زوجه، وقالت: قد نمتُ، وقال: ما نمتِ، واعتذروا للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فنزل ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ الآية.

5. ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ إذْ تبتم من هذه الكبيرة، أو تبتم فتاب عليكم، أي: قبل توبتكم، قال عمر: يا رسول الله، أعتذر إلى الله وإليك من هذه الخطيئة، إنِّي رجعت إلى أهلي بعدما صلَّيت العشاء، فوجدت رائحة طيِّبة، فسوَّلت لي نفسي فجامعتها، وهذه توبة، وكلُّهم تابوا، ﴿وَعَفَا عَنكُمْ﴾ أزال العقاب كما تعفو الريح الأثر، أي: تزيله؛ أو (تاب عليكم): أزال التحريم، و(عفا): غفر لكم ما فعلتم.

6. ﴿فَالَانَ﴾ اسم الإشارة، ظرف زمان مبنيٌّ موضوع على (الْ)؛ وقيل: (ال) للحضور، وهي المفيدة له، ويقال: أصله: آنَ، فعلاً ماضيًا بمعنى حضر، ثمَّ جعل اسمًا وهو ظرف بمعنى الزمان الحاضر إلى قيام الساعة، أي: باشروهنَّ في الزمان كلِّه متى شئتم بعدما أبحت لكم، فصحَّ أن يعلَّق بقوله: ﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾ فليس اسمًا لوقت النزول فقط؛ لأنَّ وقت النزول انقطع والأمر لِمَا بعد، أو يقال معنى (بَاشِرُوهُنَّ): أبحنا لكم مباشرتهنَّ بعد الحضر، فيكون الآن لوقت النزول على هذا الوجه، وعبَّر هنا بالمباشرة عن الجماع، وهنالك بالرفث لأنَّه هنا حلال بخلافه هنالك فإنَّه فعل محرَّم قبيح، وسمِّي مباشرة لأنَّ فيه إلصاق البشرة، أي: الجلدة بالجلدة غالبًا، بل لو لم يكن إلَّا فرج في فرج، ففيه مسُّ جلد الفرج بجلد الفرج.

7. ﴿وَابْتَغُواْ﴾ اطلبوا ﴿مَا كَتَبَ﴾ في اللوح المحفوظ أو قدَّره ﴿اللهُ لَكُمْ﴾ معشر المسلمين من الولد إجمالاً، إذ ليس لكلِّ فرد ولد، بل الولد لبعض دون بعض، فتعبَّدهم بأن يطلب كلُّ واحد ولدًا، ويرجو أن يكون مِمَّن قدِّر له ولد فيثاب على الدعاء، وعلى أنَّه كان له ولد مطيع لله نافع له بعد موته مثلا لنيته، أو المعنى دونكم وما أباح لكم من الجماع، وخذوا منه ما شئتم، أو ذلك كلُّه، وهكذا يكون الجماع بقصد تحصين النفس عن الزنى، وبقصد طلب ولد مسلم لا اللذَّة وحدها كالبهيمة، فتضمَّنت الآية النهي عن الجماع في الدبر إذ لا ولد منه، والنهي عن العزل وهو صبُّ الماء خارجًا هربًا عن الولد، ولا يعزل عن الحرَّة إلَّا بإذنها خلافًا لمن أجازه، ولا سيما من أجازه عند فساد الزمان، وجاز عن الأمة المتزوِّجة بإذن مالكها، وقيل: بإذنها، وعن السريَّة بلا إذن، ولفظ (ما) لعموم الجماع والولد، وإن كان للولد فلأنَّ النطفة وما قبل نفخ الروح غير عاقل.

8. ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ﴾ الليل كلَّه متى شئتم، لا ما قبل صلاة العشاء أو النوم فقط، والأكل واجب كما إذا خيف الموت بالجوع، أو مضرَّة في بدنه أو للحمل، وجائز إذا جاع دون ذلك، وحرام كأكل الحرام والميتة، والأكل على الشبع، إلَّا لعق الأصابع والصحفة فإنَّه جائز على الشبع، وإلَّا ماءَ زمزم، ومكروه كَريبةٍ في طعام من جهة المعاملة، وفي نفسه كالحيوان المكروه، ومستحبٌّ كأكل الحلو عند الإفطار في المغرب، والإفطار به صبح عيد الفطر، والإفطار ضحًى بزيادة الكبد.

9. ﴿حَتَّى﴾ غاية للأكل والشرب لا لهما وللجماع، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (مَن أصبحَ جُنبًا أصبحَ مُفْطِرًا) فيجب الكفُّ عنه إذا لم يبق ما يتطهَّر فيه.

10. ﴿يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الَابْيَضُ﴾ الضياء الشبيه بالخيط الأبيض ﴿مِنَ الْخَيْطِ الَاسْوَدِ﴾ من بقيَّة الليل السواد الشبيه بالخيط الأسود، متعلِّق بـ (يَتَبَيَّنَ)، ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ حال من الخيط الأبيض، و(مِنْ) للبيان، كأنَّه قيل: والخيط الأبيض هو الفجر، أو للتبعيض اعتبارًا لكون الفجر اسمًا للكلِّ والبعض، فإن أريد به الكلُّ فتبعيضيَّة، وإن أريد به الجزء فبيانيَّة، كما أنَّه إذا قلنا: اسم لكلِّه، فإنَّها بيانيَّة لتقدير مضاف، أي: وهو بعض الفجر، ولم يبيِّن الخيط الأسود بقوله: من بقيَّة الليل، أو قوله من الغبش، اكتفاءً ببيان الخيط الأبيض لأنَّ بيانه بيان له، ولم يعكس لأنَّ غالب أحكام الصوم من حرمة المباشرة والأكل والشرب مرتبطة بالفجر لا بالليل، وبيان الشيء بيان لضدِّه.

11. والمراد بالخيط الأسود: طرف الظلمة المتَّصل بالفجر، فلا يشكل اتِّساع الظلمة حتَّى يكون كخيط، أو سمَّاها كلَّها خيطًا لمشاكلة ما هو كخيط، وهو الفجر، ومعلوم أنَّ الله لا يأمر الناس بأكل التراب وغير المغذِّي إلَّا ما كان دواء، وأكل التراب حرام، فيلتحق به ما أشبهه، فليس الله يقول لنا: كلوا التراب وغيره حتَّى يتبيَّن لكم.. إلخ، فليس ما لا يغذِّي مفطرًا للصائم؛ لأنَّه لم يدخل في الآية، هذا قلته من جانب من يقول: لا يفطر إلَّا المغذِّي، ولم أر مَن ذَكَرَ مثلَه، ومشهور المذهب خلافه.

12. ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ﴾ من الفجر ﴿إِلَى اللَّيْلِ﴾ والأمر للوجوب ولو في صوم النفل لوجوب الوفاء وتحريم إبطال العمل، إلَّا ما أجازه الشرع، كما إذا استثنى من الليل، أو اعترض له أخوه في الله بالإفطار فيما يقال، وفي الآية نفي الوصال.

13. نزلت الآية في صرمة بن قيس، صنعت له زوجه طعامًا فأخذه النوم من شدَّة تعبه في أرضه نهارًا فأيقظته، فامتنع من الأكل بعد النوم، ففي نصف النهار من الليلة غُشِيَ عليه، وَلَمَّا أفاق أتى النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره، فنزلت، وكان رجال يربطون في أرجلهم الخيط الأبيض والخيط الأسود ويأكلون حتَّى يمتازا، وذلك قبل أن ينزل: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾، وكذا جعل عديٌّ عقالاً أبيض وعقالاً أسود في وسادته، وجعل ينظر ولا يتبيَّن له الأمر فغدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ وسادَكَ لَعَرِيضٌ ـ أو إنَّك لعَريضُ القفا ـ ذلك سوادُ الليلِ وبياضُ النهارِ)، ثمَّ نزل ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ كما فهمه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أو نزلت قبل إخباره.

14. ولا تلتبس الآية بالفجر الكاذب لأنَّه يعقبه سواد، ولأنَّ معه خيطان أسودان لا واحد، وليس في الآية تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنَّ الآية موكولة إلى الفهم، فيفهم (مِنَ الْفَجْرِ) قبل نزوله ولو لم يفهمه بعض، وقيل: نزل ذلك قبل رمضان، ففيه تأخير البيان عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة وهو جائز، ولكنَّ نزولها قبل رمضان لم يصحَّ، ولا يقال: الآية خطاب بظاهرها من نحو العقالين ثمَّ نسخ ذلك الحكم بقوله: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ لأنَّ قوله: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ نزل مع ما قبله بمرَّة، ولأنَّ الخطاب على المجاز وهو واجب، ولو لم يتفطَّن له نحو عديٍّ.

15. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ أي: مقيمون فيما إذا اعتكفتم فيها، فلا جماع ليلاً أيضًا كما لا جماع نهارًا، لا في بيوتكم ولا في المساجد، سواء أَعتكفتم بالصوم، ـ وهو واجب في الاعتكاف ولو في غير رمضان، وهو مذهبنا ـ أم بغير صوم في غير رمضان، ويجوز الاعتكاف في كلِّ مسجد لهذه الآية، وأفضلها ما فيه الجماعة والجمعة والأذان، وخصَّه بعض بما فيه ذلك، وبعض بالمساجد الثلاثة، وبعض بالمسجد الحرام ومسجد المدينة، وبعض بالمسجد الحرام، ولا يصحُّ اعتكاف دون ثلاثة أيَّام، ولا اعتكاف بلا صوم، وأجيز يوم ولو بلا صوم، لما روي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ليس على المعتكف صيام، إلَّا أن يجعله على نفسه)، ويفسد بالجماع.

16. ﴿تِلْكَ﴾ الأحكام من المباشرة في الاعتكاف والوطء بلا ابتغاء بل لقصد اللذَّة، والأكل والشرب بعد الفجر، ﴿حُدُودُ اللهِ﴾ حدَّها لعباده ليقفوا عندها، ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ لا تفعلوها ﴿كَذَالِكَ﴾ أي: كما بيَّن لكم تلك الأحكام ﴿يُبَيِّنُ اللهُ ءَايَاتِهِ للنَّاسِ﴾ المراد: الآيات مطلقًا، أو الآيات الدالَّة على الأحكام كما يدلُّ له قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ المحرَّماتِ من ترك المفروضات، وفعل الممنوعات.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/324.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. بعد هذا عاد الى سرد بقية احكام الصيام فقال:‏ ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ روي في سبب نزول هذه الآية ان الصحابة كانوا اذا أفطروا يأكلون ويشربون ويتغشون النساء الى وقت النوم فاذا نام أحدهم ثم استيقظ من الليل صام ولو كان في أول الليل، وروي ان أهل الكتاب كانوا يصومون كذلك وأن الصحابة فهموا من قوله تعالى‏ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أن التشبيه يتناول كيفية الصوم فوقع لبعضهم ان وقع على امرأته في الليل بعد النوم فشكا ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولبعضهم أن نام قبل أن يفطر ثم استيقظ فواصل الصوم الى اليوم الثاني وكان عاملا فأضواه الجوع حتى غشي عليه فذكر خبره للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت.

2. قال بعض المفسرين: هذه الآية ناسخة لقوله‏ ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ وقال بعضهم: لا نسخ هنا فان التشبيه ليس من كل وجه وإنما هو في الفرضية لا في الكيفية، وهذه الآية متصلة بما قبلها متممة لاحكام الصوم مبينة لما امتاز به صومنا من الرخصة التي لم تكن لمن قبلنا، وهذا ما اختاره محمد عبده وقال: اذا صح ما ورد في سبب النزول فهو يدل على انه عندما فرض الصيام كان كل انسان يذهب في فهمه مذهبا كما يؤديه اليه اجتهاده ويراه أحوط وأقرب الى التقوى، ولذلك قالوا فيما رووه من اتيان عمر أهله بعد النوم ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: (لم تكن حقيقا بذلك يا عمر)

أ. أما الرواية الاولى فعند أحمد وأبي داوود والحاكم من طريق عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فاذا ناموا امتنعوا، ثم ان رجلا من الانصار يقال قيس بن صرمة (بكسر الصاد) صلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح مجهودا وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر له ذلك فأنزل الله‏ ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ الى قوله‏ ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ قال في لباب النقول: هذا الحديث مشهور عن ابن أبي ليلى لكنه لم يسمع من معاذ وله شواهد، وذكر حديث قيس بن صرمة عن البراء عند البخاري ـ وأخرجه ابو داوود أيضا في الصوم والترمذي في التفسير ـ وقول البراء عند البخاري لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله‏ ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ الآية.

ب. وأما حديث عمر فهو ما رواه عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عند احمد وابن جرير وابن أبي حاتم قال كان الناس في رمضان اذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر من عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد سمر عنده فأراد امرأته فقالت إني قد نمت قال ما نمت، ووقع عليها وصنع كعب مثل ذلك فغدا عمر الى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره فنزلت.. فأنت ترى في هذه الروايات اضطرابا ففي بعضها انهم كانوا يرون مقاربة النساء محرمة في ليالي رمضان كأنهره على الاطلاق وفي الآخرى أنهم كانوا يعدونها كالأكل والشرب لا تحرم إلا بعد النوم في الليل.

3. أقرب ما يمكن أن يخرج عليه الجمع بين الروايتين اختلاف اجتهاد الصحابة في ذلك بحمل كل رواية على طائفة وإلا تعارضتا وسقط الاحتجاج بهما، وهذا الجمع يوافق ما قاله محمد عبده فتعين ان اجتهادهم لم يكن حكما قرآنيا فيقال انه نسخ بالآية، وإنما هو اجتهاد أوقعهم فيه الاجمال فجاءت هذه الآية بالبيان.. وقوله‏ ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ لا يقتضي أنه كان محرما بل يكفي فيه أن يتوهم ان من كمال الصيام أو من شروطه عدم الاكل بعد النوم وعدم مقاربة النساء بعده أو مطلقا، وهو كقوله تعالى‏ ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ﴾ ولم يكن قد سبق نص في تحريمه.

4. اقرار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم على ذلك الاجتهاد كان جريا على سنته في اجازة عمل كل أحد باجتهاده فيما يحتمل الاجتهاد من النصوص من غير إلزام لاحد به اذ لم يكن يلزم الامة كلها الا العمل بالنص القطعي الدلالة كما يأتي بيانه في تحريم الخمر والميسر.

5. ليلة الصيام هي الليلة التي يصبح منها المرء صائما.

6. الرفث الى النساء هو الافضاء اليهن ومباشرتهن، وأصله الافصاح بما ينبغي أن يكنى عنه مما يقع بين الرجل وامرأته، يقال رفث في كلامه اذا فحش وأفصح بذكر الوقاع وشؤونه أو حادث النساء في ذلك، وقال الازهري الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة، وحقق الراغب أن الرفث كلام متضمن لما يستقبح من ذكر الوقاع ودواعيه، وجعل كناية عنه في الآية تنبيها على جواز دعائهن الى ذلك ومكالمتهن‏ فيه، وعدي بإلى لتضمنه معنى الافضاء، وقد علمنا القرآن النزاهة في التعبير عن هذا الامر عند الحاجة الى الكلام فيه بما ذكر من الكنايات اللطيفة، كقوله‏ ﴿لامَسْتُمُ النِّساءَ أَفْضى‏ بَعْضُكُمْ إِلى‏ بَعْضٍ‏ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ﴾ وقال بعض المفسرين قد ذكر هنا اللفظ الصريح والسبب في ذلك استهجان ما وقع منهم، وهذا غلط فان الكلمة بمعنى ما لا يحسن التصريح به من شأن الرجل مع المرأة وليست هي من الالفاظ الصريحة في ذلك، فالمعنى أحل لكم ذلك الامر الذي لا ينبغي التصريح به، وان قال محمد عبده: والصواب انه جيء باللفظ على خلاف ما جرت عليه سنة الكتاب للإشارة الى استهجانه في شهر الصوم وان حل فهو من الحلال المكروه على الجملة.

7. ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ قول مستأنف سيق لبيان سبب الحكم أي اذا كان بينكم وبينهن هذه الملابسة والمخالطة فان اجتنابهن عسر عليكم فلهذا رخص لكم في مباشرتهن ليلة الصيام قاله صاحب الكشاف واختاره محمد عبده، فهو يرى أن لفظ لباس هنا مصدر لابسه بمعنى خالطه وعرف دخائله، لا بمعنى ما ورد من اطلاق اللباس والازار على المرأة، وقال ابن عباس معناه هن سكن لكم وأنتم سكن لهن، وذهب كثير من المفسرين الى أنه كناية عن المعانقة.. وقال بعضهم انه كناية عن الستر المقصود من اللباس لان كلا من الزوجين ستر للآخر واحصان له، وهو بمعنى الغشيان والتغشي من ألفاظ الكناية عن وظيفة الزوجية.

8. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي تنتقصونها بعض ما أحل الله لها من اللذات توهما ان من قبلكم كان كذلك، فيكون بمعنى التخون أي النقص من الشيء أو معناه تخونون أنفسكم إذ تعتقدون شيئا ثم لا تلتزمون العمل به، فهو مبالغة من الخيانة، التي هي مخالفة مقتضى الامانة، ولم يقل تختانون الله كما قال‏: ﴿لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾ للإشعار بأن الله تعالى لم يحرم عليهم بعد النوم في الليل ما حرمه على الصائم في النهار، وإنما ذهب بهم اجتهادهم إلى ذلك فهم قد خانوا أنفسهم في اعتقادها فكانوا كمن يتغشى امرأته ظانا أنها أجنبية، فعصيانه بحسب اعتقاده لا بحسب الواقع.

9. فهم على أي حال كانوا عاصين بما فعلوا محتاجين الى التوبة والعفو ولذلك قال‏: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾، فان كان ذنبهم تحريم ما أباح الله لهم في ليالي الصوم أو التورع عنه ليوافق صيامهم صيام أهل الكتاب من كل وجه فتفسر التوبة بالرجوع عليهم ببيان الرخصة بعد ذكر فرض الصيام مجملا، والتشبيه فيه مبهما، ويكون العفو عن الخطأ في الاجتهاد الذي أدى الى التضييق على النفس وإيقاعها في الحرج، وإن كان الذنب هو مخالفة الاعتقاد بأن كانوا فهموا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو من قوله تعالى:‏ ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ تحريم ملامسة النساء ليلا مطلقا أو تحريمه كالأكل والشرب بعد النوم في الليل، فالتوبة على ظاهر معناها، أي ان الله قبل توبتكم، وعفا عن خيانتكم أنفسكم.

10. ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ المباشرة هنا كناية عن المباضعة الزوجية وحقيقتها مس كلّ بشرة الآخر أي ظاهر جلده، فهي كالملامسة في حقيقتها وكنايتها وهي من نزاهة القرآن، والمعنى فالآن باشروهن إذ أحل لكم الرفث اليهن بالنص الصريح النافي لما فهمتم من الاجمال في كتابة الصيام عليكم، فالأمر بالمباشرة للإباحة الناسخة أو النافية لذلك الحظر فهي كالأمر بالشيء بعد النهي عنه، واطلبوا بمباشرتهن ما قدره لجنسكم في نظام الفطرة من جعل المباشرة سببا للنسل ـ أو ما عسى أن يكون كتبه لكل منكم، بأن تكون مباشرتكم بقصد إحياء سنة الله تعالى في الخليقة، زاد بعضهم: لا لمحض شهوة النفس واللذة التي يشارككم فيها البهائم وهو يشعر أن التمتع باللذة الزوجية مذموم إذا لم يكن لأجل النسل، وليس بصحيح على إطلاقه فان الزوجين المحرومين من الاولاد أو اللذين رزقا بعض الاولاد ثم انقطع نتاجهما لا يذم ولا يكره لهما الاستمتاع بالمباشرة الزوجية بغير إفراط بل هو مطلوب لإحصان كل منهما للآخر وصده عن الحرام، ولما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم للفقراء: (وفي بضع أحدكم صدقة) قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟) قالوا: نعم، قال: (فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)، والحديث في صحيح مسلم.. وقيل ان العبارة تتضمن النهي عن المباشرة المحرمة فإنها لا يقصد بها الولد سواء كانت بالزنا أو غيره، وليس ببعيد.

11. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ أي ويباح لكم الاكل والشرب كالمباشرة عامة الليل حتى يتبين لكم بياض الفجر فمتى تبين وجب الصيام، وما أحسن التعبير عن أول طلوع الفجر بالخيطين، والخيط الابيض هو أول ما يبدو من الفجر الصادق، فمتى أسفر لا يظهر وجه لتسميته خيطا، فما ذهب اليه بعض السلف كالأعمش من أن ابتداء الصوم من وقت الاسفار تنافيه عبارة القرآن‏(2)..

12. إن ما كتبته أولا وبينت به مذهب الجمهور في تحديد نهار الصيام يبني على ما كان من تشبيه العرب أول الصبح بالخيط كقول بعضهم:

çولما تبدت لنا سدفة...ولاح من الصبح خيط أناراé

ومنه قول كمال الدين بن النبيه الشاعر في الخمرة وهو من التشبيه العقيم‏

çوتريك خيط الصبح مفتولا إذا...صبت من الراووق في الطاسات‏é

ولكن هذا التشبيه يصدق بالفجر الكاذب وهو الضوء المستطيل، ولا يظهر في الخيط الاسود إلا بتكلف أو بطريق التغليب، وصح أن بعض الصحابة فهموا أولا ان الخيطين على حقيقتهما حتى بين لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انهما النهار والليل يتميز احدهما من الآخر، ففي الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال انزلت‏ ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ ولم ينزل‏ ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ فكان رجال إذا ارادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الابيض والخيط الاسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ فعلموا انه انما يعني الليل والنهار، وهذا الحديث مشكل باستبعاد تأخر نزول هذا البيان، وزعم بعضهم انه نزل بعد سنة من نزول الآيات والعمدة في الباب حديث عدي بن حاتم المرفوع المتفق عليه الذي قدمه عليه البخاري قال لما نزلت‏ ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكرت له ذلك فقال (إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار) زاد في رواية: فضحك وقال (ان كان وسادك إذا لعريضا ان كان الخيط الابيض والاسود تحت وسادتك) ورواية مسلم (ان وسادك لعريض طويل) ويحمل قول عدي في الآية: لما نزلت ـ على علمه بنزولها لتأخر إسلامه عنه، ورواية الامام احمد توضح هذا فإنه روى عنه انه لما علمه صلّى الله عليه وآله وسلّم الصلاة والصيام قال له فكل‏ ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ قال فأخذت خيطين الخ الحديث، قال الحافظ في شرح حديث سهل من الفتح: ومعنى الآية حتى يظهر بياض النهار من سواد الليل، وهذا البيان يحصل بطلوع الفجر الصادق ففيه دلالة على أن ما بعد الفجر من النهار، وقال أبو عبيد المراد بالخيط الاسود الليل وبالخيط الابيض الفجر الصادق والخيط اللون (ثم قال): واستدل بالآية والحديث على أن غاية الاكل والشرب طلوع الفجر فلو طلع الفجر وهو يأكل أو يشرب نزع تم صومه، وفيه اختلاف بين العلماء ولو أكل ظانا أن الفجر لم يطلع لم يفسد صومه عند الجمهور لان الآية دلت على الاباحة إلى أن يحصل التبين.

13. الاقتصار على الاكل والشرب في بيان آخر الليل دون المباشرة وحكمها حكمهما يشعر بكراهتها في آخر وقت الاباحة الذي تتلوه صلاة الفجر المندوب التغليس بها.

14. ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ فهم من غاية وقت الاكل والشرب في الجملة السابقة مبدأ الصيام، وذكر في هذه غايته وهي ابتداء الليل بغروب قرص الشمس وما يلزمه من ذهاب شعاعها عن جدران البيوت والمآذن، ولا يلزم أهل الاغوار والقيعان ذهاب شعاعها عن شناخيب الجبال العالية بعيدة كانت أو قريبة، وإنما العبرة بمغيب الشمس في أفقهم الذي يتلوه إقبال الليل، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا أدبر النهار وأقبل الليل وغابت الشمس فقد أفطر الصائم) متفق عليه، وزاد فيه البخاري (من ههنا) عند ذكر الليل والنهار والاشارة الى المغرب والمشرق ـ وللمباني العصرية الشامخة في بلاد أمريكا حكمها في ذلك، وأنت ترى ان هذا التحديد جاء بأسلوب الاطناب لأنه بيان للإجمال بعد وقوع الخطأ فيه، وإنما أخر البيان إلى وقت الحاجة اليه ليكون أوقع في النفس، وأظهر في رحمة الشارع الحكيم.

15. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ هذا استثناء من عموم إباحة المباشرة، والمقام مقام بيان وإيضاح لا يبقى معه للإبهام ولا للإيهام مجال، أي ولا تباشروا النساء حال عكوفكم في المساجد للعبادة، فالمباشرة تبطل الاعتكاف ولو ليلا كما تبطل الصيام نهارا.

16. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ الاشارة إلى الاحكام التي تقدمت كلها، وسميت حدودا لأنها حددت الاعمال وبينت أطرافها وغاياتها حتى إذا تجاوزها العامل خرج عن حد الصحة وكان عمله باطلا ـ والحد طرف الشيء وما يفصل بين شيئين، أو حدود الله محارمه المبينة بالنهي عنها أو بتحديد الحلال المقابل لها، وقيل: إنها خاصة هنا بمباشرة النساء في نهار رمضان أو في حال الاعتكاف في المساجد ولو ليلا.

17.﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾:

أ. هو أبلغ في التحذير من قوله في آية أخرى:‏ ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ لأنه يرشد إلى الاحتياط، فمن قرب من الحد أو شك ان يعتديه، كالشاب يداعب امرأته في النهار، يوشك أن لا يملك إربه فيقع في المباشرة المحرمة أو يفسد صومه بالإنزال فالقرب من الحد يتحقق باستباحة أقصى ما دونه كالاستمتاع من الزوج بما دون الوقاع وكالمبالغة في المضمضة للصائم، وتعديه يتحقق بالوقوع فيما بعده، فالنهي عن الاول يفيد كراهته وشدة تحريم ما بعده، ولم ينهنا الله في كتابه عن قرب حدوده إلا في هذه الآية وفي الزنا ومال اليتيم، وقد تعدد فيه الوعيد على تعديها، وهذان من كبائر الاثم التي قلما يسلم من قربها من الوقوع فيها، وفي معنى الاول النهي عن قرب النساء في الصيام والاعتكاف، فتخصيص النهي بها ظاهر، فان حمل على عموم أحكام الصيام كان فيه دليل على استحباب الامساك الاحتياطي قبل الفجر وبعد الغروب ولكن هذا قد يعارض الامر بتعجيل كل منهما وسيأتي بيانه.

ب. وقال بعضهم: معناه لا تقربوها بالتأويل والتحريف ولا بالهوى والرأي بل اقبلوها كما هي، وهذا يشير إلى تخطئة أولئك الصحابة بما كان من اجتهادهم واتباع آراء أنفسهم في أمر ديني يجب فيه الاتباع المحض، كأنه قال لا ينبغي لكم أن تتجاوز والمنصوص في العبادات لأنها مما لا مجال للرأي فيه بل عليكم فيها بالاتباع المحض، فما أمرتم به فخذوا، وما سكت عنه فذروا، وفي هذا المعنى حديث: (ان الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) رواه ابو داوود والترمذي والنسائي والدارقطني من حديث ابي ثعلبة الخشني، وفي رواية زيادة (رحمة بكم من غير نسيان) في تعليل السكوت.

18. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي على هذا النحو من بيان أحكام الصيام في أوله وآخره وحقيقته وعزيمته ورخصته وفائدته وحكمته، يبين الله آياته للناس أتم البيان وأكمله، ليعدهم للتقوى، والتباعد عن الوهم والهوى‏.

19. ذكر هنا(3). بعض المباحث الفقهية، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/174.

(2) علق رشيد رضا على هذا بقوله: (هذا ما كتبته أولا وهو غير دقيق وسأفصل المسألة في الاستدرك والايضاح الذي تراه بعد تمام تفسير الآية، وقد نقلنا قوله إلى المسألة التالية).

(3) تفسير المنار: ‏2/182.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. بعد أن ذكر أن الصوم فرض علينا كما فرض على من قبلنا، لأنه يعدّنا للهداية وتقوى الله، ثم ذكر الأعذار المبيحة للفطر، أردف ذلك ذكر بقية أحكام الصوم، فبيّن أن صومنا امتاز برخصة لم تكن لمن قبلنا، ثم بيّن بدء مدة الصوم ونهايته، ثم ذكر حرمة قربان النساء مدة الاعتكاف في المساجد، ثم ختمها ببيان أن الله يبين الأحكام للناس لأجل أن يتقوه ويخشوا عقابه.

2. روى أحمد وأبو داوود والحاكم عن معاذ بن جبل: أن الناس كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له قيس بن صرمة صلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح مجهودا، وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر له ذلك فأنزل الله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾.. وهذا يدل على أنه حين فرض الصيام كان كل إنسان يذهب في فهمه مذهبا كما يؤديه إليه اجتهاده ويراه أحوط وأقرب للتقوى، حتى نزلت هذه الآية.

3. ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ أي أحلّ لكم ليلة الصيام قربان نسائكم، وقد علّمنا الله النزاهة في التعبير عن هذا الأمر حين الحاجة إلى الكلام فيه بعبارات مبهمة كقوله تعالى: ﴿لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾، ﴿أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾، ﴿دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ﴾

4. ثم بيّن سبب هذا الحكم فقال: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ أي رخص لكم في مباشرتهنّ ليلة الصيام لما بينكم وبينهن من مثل هذه المخالطة والمعاشرة التي تجعل من العسير عليكم أن تجتنبوهنّ وتجعل من الصعب الصبر عنهنّ.

5. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي علم الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم، إذ تعتقدون شيئا ثم لا تلتزمون العمل به، إذ قد ذهب بهم اجتهادهم إلى أنهم يحرمون على أنفسهم بعد النوم في الليل ما يحرم على الصائم في النهار، لكنهم قد خانوا أنفسهم بحسب اعتقادهم فهم عاصون بما فعلوا.

6. ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ أي فقبل توبتكم وعفا عن خيانتكم أنفسكم، إذ خالفتم ما كنتم تعتقدون حين فهمتم من قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ تحريم ملامسة النساء ليلا، أو تحريمها بعد النوم كتحريم الأكل والشرب.

7. ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أي فالآن إذ أحلّ لكم الرفث إليهنّ بالنصّ الصريح، باشروهن واطلبوا بتلك المباشرة ما قدر لهذا الجنس بمقتضى الفطرة من جعل المباشرة سببا للنسل، ولإحصان كل منهما الآخر وصده عن الحرام، ومن ثم‏ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم للفقراء (وفي بضع أحدكم صدقة، فقالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ قالوا بلى، قال فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)

8. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ أي ويباح لكم الأكل والشرب والمباشرة عامة الليل، حتى يظهر بياض النهار من سواد الليل، ويتبين بطلوع الفجر الصادق.

9. استدل الأئمة بالآية على صحة صوم من أصبح جنبا، لأن المباشرة أبيحت إلى طلوع الفجر، والصائم لا يمكنه الاغتسال إلا بعده، وعلى أنه إذا طلع الفجر وهو يأكل أو يشرب فنزع تم صومه، وعلى أنه لو أكل ظانّا أن الفجر لم يطلع صحّ صومه.

10. وبعد أن ذكر مبدأ الصيام في الجملة السابقة ذكر غايته فقال: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ أي ثم استمروا في صيامكم إلى ابتداء الليل بغروب قرص الشمس وما يلزمه من ذهاب شعاعها عن جدران البيوت والمآذن، ويتلو ذلك إقبال الليل، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا أدبر النهار وأقبل الليل وغابت الشمس فقد أفطر الصائم)

11. ثم استثنى من عموم إباحة المباشرة التي تفهم من قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ منع المباشرة حين الاعتكاف كما أشار إلى ذلك بقوله: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ أي ولا تباشروا النساء حال عكوفكم‏ في المساجد للعبادة، فإن المباشرة تبطل الاعتكاف ولو ليلا كما تبطل الصيام نهارا.

12. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ أي إن هذه الأحكام المشتملة على الإيجاب والتحريم والإباحة هي حدود الله وأحكامه فلا تقربوها، إذ من قرب من الحد أوشك أن يتعداه كالشاب يداعب امرأته في النهار يوشك ألا يملك إربه، فيقع في المباشرة المحرّمة، أو يفسد صومه بالإنزال، فالاحتياط يقتضى ألا يقرب الحدّ حتى لا يتجاوزه بالوقوع فيما بعد، ومن ثم‏ جاء في الحديث: (إن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه)، فالتحذير في هذه الآية أشد منه في الآية الآخرى (تلك حدود الله فلا تعتدوها) والله لم ينه عن قرب حدوده إلا في هذه الآية وفي الزنا وفي مال اليتيم، ولكن تعدّد فيه الوعيد على تعديها.

13. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي على هذا الطريق السوىّ من بيان أحكام الصيام في أوله وآخره، وعزيمته ورخصته، وفائدة مشروعيته وحكمته، يبين الله آياته للناس ليعدّهم لتقواه ويباعدهم عن الهوى.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/78.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ثم يمضي السياق يبين للذين آمنوا بعض أحكام الصيام، فيقرر لهم حل المباشرة للنساء في ليلة الصوم ما بين المغرب والفجر، وحل الطعام والشراب كذلك، كما يبين لهم مواعيد الصوم من الفجر إلى الغروب، وحكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد.

2. في أول فرض الصوم كانت المباشرة والطعام والشراب تمتنع لو نام الصائم بعد إفطاره، فإذا صحا بعد نومه من الليل ـ ولو كان قبل الفجر ـ لم تحل له المباشرة ولم يحل له الطعام والشراب، وقد وقع أن بعضهم لم يجد طعاما عند أهله وقت الإفطار، فغلبه النوم، ثم صحا فلم يحل له الطعام والشراب فواصل، ثم جهد في النهار التالي وبلغ أمره إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما وقع أن بعضهم نام بعد الإفطار أو نامت امرأته، ثم وجد في نفسه دفعة للمباشرة ففعل وبلغ أمره إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبدت المشقة في أخذ المسلمين بهذا التكليف، فردهم الله إلى اليسر وتجربتهم حاضرة في نفوسهم، ليحسوا بقيمة اليسر وبمدى الرحمة والاستجابة.. ونزلت هذه الآية، نزلت تحل لهم المباشرة ما بين المغرب والفجر.

3. ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾.. والرفث مقدمات المباشرة، أو المباشرة ذاتها، وكلاهما مقصود هنا ومباح.. ولكن القرآن لا يمر على هذا المعنى دون لمسة حانية رفافة، تمنح العلاقة الزوجية شفافية ورفقا ونداوة، وتنأى بها عن غلظ المعنى الحيواني وعرامته، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾.. واللباس ساتر وواق.. وكذلك هذه الصلة بين الزوجين، تستر كلّا منهما وتقيه، والإسلام الذي يأخذ هذا الكائن الإنساني بواقعه كله، ويرتضي تكوينه وفطرته كما هي، ويأخذ بيده إلى معارج الارتفاع بكليته.. الإسلام وهذه نظرته يلبي دفعة اللحم والدم، وينسم عليها هذه النسمة اللطيفة، ويدثرها بهذا الدثار اللطيف.. في آن.

4. ويكشف لهم عن خبيئة مشاعرهم، وهو يكشف لهم عن رحمته بالاستجابة لهواتف فطرتهم: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾.. وهذه الخيانة لأنفسهم التي يحدثهم عنها، تتمثل في الهواتف الحبيسة، والرغبات المكبوتة؛ أو تتمثل في الفعل ذاته، وقد ورد أن بعضهم أتاه.. وفي كلتا الحالتين لقد تاب عليهم وعفا عنهم، مذ ظهر ضعفهم وعلمه الله منهم.. فأباح لهم ما كانوا يختانون فيه أنفسهم: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾

5. لكن هذه الإباحة لا تمضي دون أن تربط بالله، ودون توجيه النفوس في هذا النشاط لله أيضا: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾.. ابتغوا هذا الذي كتبه الله لكم من المتعة بالنساء، ومن المتعة بالذرية، ثمرة المباشرة، فكلتاهما من أمر الله، ومن المتاع الذي أعطاكم إياه، ومن إباحتها وإباحتها يباح لكم طلبها وابتغاؤها، وهي موصولة بالله فهي من عطاياه، ومن ورائها حكمة، ولها في حسابه غاية، فليست إذن مجرد اندفاع حيواني موصول بالجسد، منفصل عن ذلك الأفق الأعلى الذي يتجه إليه كل نشاط.

6. بهذا ترتبط المباشرة بين الزوجين بغاية أكبر منهما، وأفق أرفع من الأرض ومن لحظة اللذة بينهما، وبهذا تنظف هذه العلاقة وترق وترقى.. ومن مراجعة مثل هذه الإيحاءات في التوجيه القرآني وفي التصور الإسلامي ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم الذي يبذل لترقية هذه البشرية وتطويرها، في حدود فطرتها وطاقتها وطبيعة تكوينها، وهذا هو المنهج الإسلامي للتربية والاستعلاء والنماء، المنهج الخارج من يد الخالق، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.

7. كما أباح الله تعالى المباشرة أباح الطعام والشراب في الفترة ذاتها: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾.. أي حتى ينتشر النور في الأفق وعلى قمم الجبال، وليس هو ظهور الخيط الأبيض في السماء وهو ما يسمى بالفجر الكاذب، وحسب الروايات التي وردت في تحديد وقت الإمساك نستطيع أن نقول: إنه قبل طلوع الشمس بقليل، وإننا نمسك الآن وفق المواعيد المعروفة في قطرنا هذا قبل أوان الإمساك الشرعي ببعض الوقت.. ربما زيادة في الاحتياط.. قال ابن جرير ـ بإسناده ـ عن سمرة بن جندب: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض، حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر).. ثم رواه من حديث شعبة وغيره عن سواد بن حنظلة عن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكنه الفجر المستطير في الأفق).. والفجر المستطير في الأفق يسبق طلوع الشمس بوقت قليل.. وكان بلال يبكر في الأذان لتنبيه النائم، وكان ابن أم مكتوم يؤذن متأخرا للإمساك، وإلى هذا كانت الإشارة إلى أذان بلال..

8. ثم ذكر الله تعالى حكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد، والاعتكاف ـ بمعنى الخلوة إلى الله في المساجد.، وعدم دخول البيوت إلا لضرورة قضاء الحاجة، أو ضرورة الطعام والشرابـ يستحب في رمضان في الأيام الأخيرة، وكانت سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في العشر الأواخر منه.. وهي فترة تجرد لله، ومن ثم امتنعت فيها المباشرة تحقيقا لهذا التجرد الكامل، الذي تنسلخ فيه النفس من كل شيء، ويخلص فيه القلب من كل شاغل: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾.. سواء في ذلك فترة الإمساك وفترة الإفطار.

9. في النهاية يربط الأمر كله بالله على طريقة القرآن في توجيه كل نشاط وكل امتناع، كل أمر وكل نهي، كل حركة وكل سكون: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾.. والنهي هنا عن القرب.. لتكون هناك منطقة أمان، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، والإنسان لا يملك نفسه في كل وقت؛ فأحرى به ألا يعرض إرادته للامتحان بالقرب من المحظورات المشتهاة، اعتمادا على أنه يمنع نفسه حين يريد، ولأن المجال هنا مجال حدود للملاذ والشهوات كان الأمر: ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾.. والمقصود هو المواقعة لا القرب، ولكن هذا التحذير على هذا النحو له إيحاؤه في التحرج والتقوى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾.. وكذلك تلوح التقوى غاية يبين الله آياته للناس ليبلغوها، وهي غاية كبيرة يدرك قيمتها الذين آمنوا، المخاطبون بهذا القرآن في كل حين.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/175.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. نجد عند المفسرين أقوالا كثيرة في هذه الآية، وفى نسخها بآية ونسخها لآية، وغير ذلك من الوجوه التي لم نرض عنها، وقد أدلينا بما أرانا الله فيها، والله هو الموفق والمعين.

2. الرفث: ضرب من اللهو والعبث، والمراد به هنا مخالطة النساء والخلوة بهن، ولما كان الصوم في صميمه حرمانا من شهوات النفس ولذاذاتها، وانقطاعا بها عن كل ما من شأنه أن يشبع هوى النفس ويرخى لها الزمام فيما تحب لما كان هذا هو شأن الصوم، فقد أحس المسلمون عندما فرض عليهم الصوم وبدؤوا يؤدون هذه الفريضة، أن اتصالهم بنسائهم، وإطلاق أنفسهم‏ على طبيعتها معهنّ، هو مما يجرح صيامهم، ويلقى ظلالا من العبث على هذا، الجدّ الجادّ الذي هم فيه، الأمر الذي لا يتفق أوله مع آخره، ولا يلتقى فيه ليله مع نهاره.. وقد امتدّ هذا الشعور إلى الطعام والشراب كذلك، فتحرّج كثير منهم أن يستبيح لنفسه الطعام والشراب على امتداد الليل كله، وإنما الذي له هو أن يفطر فيما بين المغرب والعشاء، ثم يمسك بعد ذلك حتى مغرب اليوم التالي، بل إن كثيرا منهم كان لا يفطر، اليومين، والثلاثة، بل يواصل الصوم.

3. وعلى هذا فإن الموقف لم يكن واضحا أول عهد المسلمين بالصوم، بين الإنسان ونفسه، أو بين عزيمته وواقع أمره، ومعطيات تجربته، وخاصة فيما يتصل بالاتصال بالمرأة، إذ كيف يكون اتصال ولا يكون شيء من المداعبة والملاعبة؟ وكيف يكون فيها الجدّ وهى الغريزة الحيوانية التي لم يستطع الإنسان أن يستعلى عليها من غرائز الحيوان الكامن فيه؟ فإذا غلب الإنسان على أمره في هذا الموقف ووقع منه ما لا بد أن يقع من عبث في سكرة من سكرات نفسه، عاد فانتزعها من هذا الذي هي فيه من عبث، وحاول أن يردّها إلى الجدّ، وهذا في الواقع خيانة للنفس، وسلب لحق من حقوقها الطبيعية، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة في قول الحق جلّ وعلا: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾

4. ولهذا جاء قول الله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ حاسما لهذا الموقف، رافعا عن الصائمين الحرج، فيما يقع بينهم وبين نسائهم من رفث.

5. وانظر في قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ وفى قوله بعد ذلك: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ تجد كيف ألقى سبحانه وتعالى على هذا الرفث ستارا جميلا رفيقا، يستر به ما يكون بين الزوجين‏ في حال اتصالهما، فلا يطلع أحد على ما يكون بينهما، ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ أي ستر لكم كما يستر الثوب لابسه، ﴿وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ تسترون ما يكون منهن من رفث!

6. فى قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ بيان لتلك الحال التي كان يعانيها الصائمون من صراع بين الطبيعة النفسية الغالبة، وبين السموّ الروحي، الذي يريد أن يبلغه الصائمون بصيامهم، وأن يتجنّبوا الرفث الذي يقع بين الزوجين.

7. فى قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ إظهار لرحمة الله بهم وفضله عليهم: إذ عاد عليهم برحمته، حين أطلق نفوسهم من هذا الحرج الذي كانوا يعيشون معه، في همّ وقلق.

8. فى قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ إشارة إلى إباحة اتصال الصائمين بنسائهم على الوجه الذي يكون بينهم في غير أيام الصوم، وإنك لتجد في قوله سبحانه: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ ما يشير إلى إيذان بصورة جديدة للصوم، على غير الوجه الذي كان قائما عليه..

9. فى قوله تعالى: ﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾ معنى غير الذي يعطيه (ارفثوا معهن) إذ المباشرة هي الاتصال المطلق الذي تحدد صفته حسب تصرف الإنسان، وحسب الحال الذي يكون عليه، وليس كذلك الرفث الذي يحمل معه عند المباشرة شيئا من اللهو والعبث.. فالأمر بالمباشرة إذ يعنى رفع الحرج، يعنى مع ذلك أن يلتزم الإنسان القصد والاعتدال، وأن يتألف هذا الحيوان الذي يكمن فيه، وأن يذكر في تلك الحال أنه إنسان!

10. أما قوله سبحانه: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ فيشير إلى ما ينبغي أن يكون مقصدا في المباشرة بين الرجل والمرأة وهو طلب الولد، والأخذ بالأسباب المفضية إلى ما قدر الله للزوجين من ذرية.. فليست المباشرة قضاء الشهوة وإشباع الغريزة، وإنما هي مطلب كريم، ورسالة سامية، ينظر إليها الإنسان من خلال المشاركة في عمران الحياة، ونماء الإنسان وحمل المسئولية في تقديم الإنسان الصالح في بناء المجتمع! وهذا ما؟ للمباشرة معنى يرتفع بها عن الرفث الحيواني، والعبث الماجن.

11. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ صيانة لتلك الفترة التي نوى فيها المسلم الاعتكاف‏ في بيت من بيوت، والانقطاع للعبادة الخالصة لله، من أن يدخل عليها شيء من لهو النفس يذهب بثمرة هذه الرياضة، التي أخذ الإنسان بها نفسه لفترة محدودة الزمن، فهي أشبه بيوم من أيام الصوم ـ فرضا أو تطوعا ـ لا يحلّ فيه أن يتحلل من صومه، فللعبادات حرمتها، فإذا أوجب الإنسان على شيئا منها، وجب أن يؤديه على الوجه الأكمل له، وإلا أثم من حيث الأجر والمثوبة.

12. فى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ تحذير من اختراق الحدود التي أقامها الله سبحانه وتعالى لحرماته، وجعلها حمى لتلك الحرمات، والهاء في قوله‏ ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ ضمير يرجع إلى تلك الحدود، بمعنى أن الإنسان الإلمام بالحدود المطيفة بالحرمات، أو يدنو منها، مخافة أن تزلّ فيقع فيما حرم الله، وفى الحديث: (من حام حول الحمى يوشك يواقعه)

13. هذا، وحدود الله قد تضرب على أشياء فرض تحريمها، أو تقام على أمور أباحها وأجاز الأخذ بها، وسبحان من أحكم آياته، وتفرد بكلماته، فجاء بها معجزة قاهرة، تعنو لجلالها وجوه العالمين، وتخرس لبيانها ألسنة المخلوقين:

أ. ففي الحدود التي تحتوى في داخلها المحرمات كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ جاء النهى هكذا: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ أي بالتزام الوقوف خارج تلك الدائرة، حيث أن ما وراءها من مقابل هذا المنهىّ عنه هو المطلق المباح، والاقتراب من تلك الدائرة اقتراب من خطر!

ب. وفى الحدود التي تضمّ المباحات، حيث يكون الناس معها في داخل الدائرة، يجيء النهى هكذا: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ أي ألزموا هذه الدائرة ولا تخرجوا عنها إلى ما يقابل هذه المباحات، مما هو خارج تلك الحدود! فإن الخروج عن تلك الدائرة وقوع في محظور:

استمع إلى قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، فالآية هنا تشريع لإباحة الطلاق، ولكن هذه الإباحة ليست على إطلاقها، بل هي داخل حدود مرسومة، فمن تجاوز هذه الحدود، وخرج عنها فهو معتد ظالم!.

وانظر قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ (الطلاق: 1) تجد أنها على سمت الآية السابقة.. إنها تقيم حدود الله على أمر مباح، ولكنه قائم على وصف خاص داخل هذه الحدود، فمن تجاوز به هذا الحد، وخرج به عن تلك الصفة فقد ظلم نفسه!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/204.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. انتقال في أحكام الصيام إلى بيان أعمال في بعض أزمنة رمضان قد يظن أنها تنافي عبادة الصيام، ولأجل هذا الانتقال فصلت الجملة عن الجمل السابقة.

2. ذكروا لسبب نزول هذه الآية كلاما مضطربا غير مبيّن(2)... فنزلت هذه الآية بسبب تلك الأحداث، فقيل: كان ترك الأكل ومباشرة النساء من بعد النوم أو من بعد صلاة العشاء حكما مشروعا بالسّنة ثم نسخ، وهذا قول جمهور المفسرين، وأنكر أبو مسلم الأصفهاني أن يكون هذا نسخا لشيء تقرر في شرعنا، وقال: هو نسخ لما كان في شريعة النصارى.

3. ما شرع الصوم إلّا إمساكا في النهار دون الليل فلا أحسب أن الآية إنشاء للإباحة، ولكنها إخبار عن الإباحة المتقررة في أصل توقيت الصيام بالنهار، والمقصود منها إبطال شيء توهمه بعض المسلمين وهو أن الأكل بين الليل لا يتجاوز وقتين وقت الإفطار ووقت السحور وجعلوا وقت الإفطار هو ما بين المغرب إلى العشاء، لأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلّا أكلة السحور وأنهم كانوا في أمر الجماع كشأنهم في أمر الطعام، وأنهم لما اعتادوا جعل النوم مبدأ وقت الإمساك الليلي‏ ظنوا أن النوم إن حصل في غير إبانة المعتاد يكون أيضا مانعا من الأكل والجماع إلى وقت السحور وإن وقت السحور لا يباح فيه إلّا الأكل دون الجماع؛ إذ كانوا يتأثمون من الإصباح في رمضان على جنابة، وقد جاء في (صحيح مسلم) أن أبا هريرة كان يرى ذلك يعني بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لعل هذا قد سرى إليهم من أهل الكتاب كما يقتضيه ما رواه محمد بن جرير من طريق السدي، ولعلهم التزموا ذلك ولم يسألوا عنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولعل ذلك لم يتجاوز بعض شهر رمضان من السنة التي شرع لهم فيها صيام رمضان فحدثت هذه الحوادث المختلفة المتقاربة، وذكر ابن العربي في (العارضة) عن ابن القاسم عن مالك كان في أول الإسلام من رقد قبل أن يطعم لم يطعم من الليل شيئا فأنزل الله: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ فأكلوا بعد ذلك.

4. قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ﴾ دليل على أن القرآن نزل بهذا الحكم لزيادة البيان؛ إذ علم الله ما ضيق به بعض المسلمين على أنفسهم وأوحى به إلى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا يشير إلى أن المسلمين لم يفشوا ذلك ولا أخبروا به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولذلك لا نجد في روايات البخاري والنسائي أن الناس ذكروا ذلك لرسول الله إلّا في حديث قيس بن صرمة عند أبي داوود ولعله من زيادات الراوي، فأما أن يكون ذلك قد شرع ثم نسخ فلا أحسبه، إذ ليس من شأن الدين الذي شرع الصوم أول مرة يوما في السنة ثم درّجه فشرع الصوم شهرا على التخيير بينه وبين الإطعام تخفيفا على المسلمين أن يفرضه بعد ذلك ليلا ونهارا فلا يبيح الفطر إلّا ساعات قليلة من الليل.

5. ليلة الصيام الليلة التي يعقبها صيام اليوم الموالي لها جريا على استعمال العرب في إضافة الليلة لليوم الموالي لها إلّا ليلة عرفة فإن المراد بها الليلة التي بعد يوم عرفة.

6. الرّفث في (الأساس) و(اللسان) أن حقيقته الكلام مع النساء في شئون الالتذاذ بهن، ثم أطلق على الجماع كناية، وقيل هو حقيقة فيهما وهو الظاهر، وتعديته بإلى ليتعين المعنى المقصود وهو الإفضاء.

7. ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ جملة مستأنفة كالعلة لما قبلها أي أحل لعسر الاحتراز عن ذلك، ذلك أن الصوم لو فرض على الناس في الليل وهو وقت الاضطجاع لكان الإمساك عن قربان النساء في ذلك الوقت عنتا ومشقة شديدة ليست موجودة في الإمساك عن قربانهن في النهار؛ لإمكان الاستعانة عليه في النهار بالبعد عن المرأة، فقوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ استعارة بجامع شدة الاتصال حينئذ وهي استعارة أحياها القرآن، لأن العرب كانت اعتبرتها في قوله: لابس الشيء الشيء، إذا اتصل به لكنهم صيروها في خصوص‏ زنة المفاعلة حقيقة عرفية فجاء القرآن فأحياها وصيّرها استعارة أصلية جديدة بعد أن كانت تبعية منسية وقريب منها قول امرئ القيس: (فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل)‏

8. ﴿تَخْتَانُونَ﴾ قال الراغب: (الاختيان مراودة الخيانة) بمعنى أنه افتعال من الخون وأصله تختونون فصارت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وخيانة الأنفس تمثيل لتكليفها ما لم تكلف به كأنّ ذلك تعزير بها؛ إذ يوهمها أن المشقة مشروعة عليها وهي ليست بمشروعة، وهو تمثيل لمغالطتها في الترخص بفعل ما ترونه محرما عليكم فتقدمون تارة وتحجمون أخرى كمن يحاول خيانة فيكون كالتمثيل في قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ﴾ [البقرة: 9]، والمعنى هنا أنكم تلجئونها للخيانة أو تنسبونها لها، وقيل: الاختيان أشد من الخيانة كالاكتساب والكسب كما في (الكشاف)، وهو استعمال كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [النساء: 107]

9. ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ الأمر للإباحة، وليس معنى قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ﴾ إشارة إلى تشريع المباشرة حينئذ، بل معناه فالآن اتضح الحكم فباشروهن ولا تختانوا أنفسكم.

10. الابتغاء الطلب، وما كتبه الله: ما أباحه من مباشرة النساء في غير وقت الصيام أو اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد تحريضا للناس على مباشرة النساء عسى أن يتكون النسل من ذلك، وذلك لتكثير الأمة وبقاء النوع في الأرض.

11. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ عطف على‏ ﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾، والخيط سلك الكتان أو الصوف أو غيرهما يلفق به بين الثياب بشدة بإبرة أو مخيط، يقال خاط الثوب وخيّطه، وفي خبر قبور بني أميّة أنهم وجدوا معاوية في قبره كالخيط، والخيط هنا يراد به الشعاع الممتد في الظلام والسواد الممتد بجانبه قال أبو دؤاد من شعراء الجاهلية:

çفلمّا أضاءت لنا سدفة...ولاح من الصّبح خيط أناراé

12. ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ من ابتدائية أي الشعاع الناشئ عن الفجر، وقيل بيانية وقيل تبعيضية وكذلك قول أبي دؤاد (من الصبح) لأن الخيط شائع في السلك الذي يخاط به فهو قرينة إحدى المعنيين للمشترك، وجعله في (الكشاف) تشبيها بليغا، فلعله لم يثبت عنده اشتهار إطلاقه على هذا المعنى في غير بعض الكلام، كالآية وبيت أبي دؤاد، وعندي أن القرآن ما أطلقه إلّا لكونه كالنص في المعنى المراد في اللغة الفصحى دون إرادة التشبيه لأنه ليس بتشبيه واضح.

13. جيء في الغاية بحتى وبالتّبيّن للدلالة على أن الإمساك يكون عند اتضاح الفجر للناظر وهو الفجر الصادق، ثم قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ﴾ تحديد لنهاية وقت الإفطار بصريح المنطوق؛ وقد علم منه لا محالة أنه ابتداء زمن الصوم، إذ ليس في زمان رمضان إلّا صوم وفطر وانتهاء أحدهما مبدأ الآخر فكان قوله تعالى: ﴿أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ بيانا لنهاية وقت الصيام ولذلك قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا﴾ ولم يقل ثم صوموا لأنهم صائمون من قبل.

14. ﴿إِلَى اللَّيْلِ﴾ غاية اختير لها (إلى) للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس لأن إلى لا تمتد معها الغاية بخلاف حتى، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل.

15. ﴿ثُمَّ﴾ في عطف الجمل للتراخي الرتبي وهو اهتمام بتعيين وقت الإفطار، لأن ذلك كالبشارة لهم، ولا التفات إلى ما ذهب إليه أبو جعفر الخباز السمرقندي من قدماء الحنفية من الاستدلال بثم في هاته الآية على صحة تأخير النية عن الفجر احتجاجا لمذهب أبي حنيفة من جواز تأخير النية إلى الصحوة الكبرى، بناء على أن ثم للتراخي وأن إتمام الصيام يستلزم ابتداءه، فكأنه قال ثم بعد تبيين الخيطين من الفجر صوموا أو أتموا الصيام إلى الليل فينتج معنى صوموا بعد تراخ عن وقت الفجر وهو على ما فيه من التكلف والمصير إلى دلالة الإشارة الخفيفة غفلة عن معنى التراخي في عطف (ثم) للجمل.

16. هذا، وقد رويت قصة في فهم بعض الصحابة لهذه الآية وفي نزولها مفرقة، فروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال (لما نزلت‏ ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت انظر في الليل فلا يستبين لي الأبيض من الأسود فغدوت على رسول الله فذكرت له ذلك فقال رسول الله: (إن وسادك لعريض)، وفي رواية: (إنك لعريض القفا، إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار)، ورويا عن سهل بن سعد قال نزلت: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ ولم ينزل‏ ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾، فيظهر من حديث سهل بن سعد أن مثل ما عمله عدي بن حاتم قد كان عمله غيره من قبله بمدة طويلة، فإن عديا أسلم سنة تسع أو سنة عشر، وصيام رمضان فرض سنة اثنتين ولا يعقل أن يبقى المسلمون سبع أو ثماني سنين في مثل هذا الخطأ، فمحل حديث سهل بن سعد على أن يكون ما فيه وقع في أول مدة شرع الصيام، ومحمل حديث عدي بن حاتم أن عديا وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه من تقدموه، فإن الذي عند مسلم عن عبد الله بن إدريس عن حصين عن الشعبي عن عدي أنّه قال لما نزلت: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾، فهو قد ذكر الآية مستكملة، فيتعين أن يكون محمل حديث سهل بن سعد على أن ذلك قد عمله بعض الناس في الصوم المفروض قبل فرض رمضان أي صوم عاشوراء أو صوم النّذر وفي صوم التّطوع، فلما نزلت آية فرض رمضان وفيها ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ علموا أن ما كانوا يعملونه خطأ، ثم حدث مثل ذلك لعدي بن حاتم.

17. حديث سهل لا شبهة في صحة سنده إلّا أنه يحتمل أن يكون قوله فيه ولم ينزل‏ ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ وقوله فأنزل الله بعد ذلك‏ ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ مرويا بالمعنى فجاء راويه بعبارات قلقة غير واضحة، لأنه لم يقع في (الصحيحين) إلّا من رواية سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد فقال الراوي: (فأنزل بعد ـ أو بعد ذلك ـ من الفجر) وكان الأوضح أن يقول فأنزل الله بعد: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾، وأيّا ما كان فليس في هذا شيء من تأخير البيان، لأن معنى الخيط في الآية ظاهر للعرب، فالتعبير به من قبيل الظاهر لا من قبيل المجمل، وعدم فهم بعضهم المراد منه لا يقدح في ظهور الظاهر، فالذين اشتبه عليهم معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود، فهموا أشهر معاني الخيط وظنوا أن قوله تعالى: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ متعلق بفعل‏ ﴿يَتَبَيَّنَ﴾ على أن تكون (من) تعليلية أي يكون تبينه بسبب ضوء الفجر، فصنعوا ما صنعوا ولذلك‏ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعدي بن حاتم‏ (إنّ وسادك لعريض ـ أو إنك لعريض القفا) كناية عن قلة الفطنة وهي كناية موجهة من جوامع كلمه عليه السلام.

18. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ﴾ عطف على قوله تعالى: ﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾ لقصد أن يكون المعتكف صالحا، وأجمعوا على أنه لا يكون إلّا في المسجد لهاته الآية، واختلفوا في صفة المسجد فقيل: لا بد من المسجد الجامع وقيل: مطلق مسجد وهو التحقيق وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، وأحكامه في كتب الفقه وليست من غرض هذا المفسر.

19. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾، تذييل بالتحذير من مخالفة ما شرع إليه من أحكام الصيام، فالإشارة إلى ما تقدم، والإخبار عنها بالحدود عيّن أن المشار إليه هو التحديدات المشتمل عليها الكلام السابق وهي قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ﴾ وقوله: ﴿إِلَى اللَّيْلِ‏ وأَنْتُمْ عاكِفُونَ‏﴾ من كل ما فيه تحديد يفضي تجاوزه إلى معصية، فلا يخطر بالبال دخول أحكام الإباحة في الإشارة مثل: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ ومثل‏ ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾

20. الحدود الحواجز ونهايات الأشياء التي إذا تجاوزها المرء دخل في شيء آخر، وشبهت الأحكام بالحدود لأن تجاوزها يخرج من حل إلى منع وفي الحديث‏ (وحدّ حدودا فلا تعتدوها)

21. ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ نهى عن مقاربتها الموقعة في الخروج منها على طريق الكناية لأن القرب من الحد يستلزم قصد الخروج غالبا كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: 152]، ولهذا قال تعالى في آيات أخرى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: 229]، كما سيأتي هنالك وفي معنى الآية حديث‏ (من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه)

22. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ تقدم نظيره في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143] أي كما بين الله أحكام الصيام يبين آياته للناس أي جميع آياته لجميع الناس، والمقصد أن هذا شأن الله في إيضاح أحكامه لئلا يلتبس شيء منها على الناس.

23. ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾، أي إرادة لاتقائهم الوقوع في المخالفة، لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهتدوا لطريق الامتثال، أو لعلهم يلتبسون بغاية الامتثال والإتيان بالمأمورات على وجهها فتحصل لهم صفة التقوى الشرعية، إذ لو لم يبين الله لهم لأتوا بعبادات غير مستكملة لما أراد الله منها؛ وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان وغير مؤاخذيم بإثم التقصير إلّا أنهم لا يبلغون صفة التقوى أي كمال مصادفة مراد الله تعالى، فلعل يتقون على هذا منزل منزلة اللازم لا يقدّر له مفعول مثل‏ ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، وهو على الوجه الأول محذوف المفعول للقرينة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/179.

(2) ذكر بعض الأحاديث التي تذكر سبب النزول، والتي سبق ذكرها.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ)في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. بعد ذلك أخذ القرآن الكريم يبين بعض أحكام الصيام يشرح وقته، وإزالة بعض الأوهام، فقال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾

2. فهم بعض الناس أن اتصال الرجل بأهله في ليل رمضان كان ممنوعا ثم أحل، وفهم ذلك من قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ فالإحلال لا يكون إلا في موضع كان محرما، وقد نسخ التحريم، وإن ذلك ظن الذين يفرطون في ذكر الناسخ والمنسوخ في القرآن.

3. الصحيح أن ﴿أَحَلَّ﴾ تدل على أن الرفث إلى النساء حلال قد أحله الله تعالى، وذكر بالبناء للمجهول للدلالة على أنه حلال من قبل ومن بعد، وإنه قد جاءت الروايات عن الصحابة بأن بعضهم حسب أنه بمجرد نوم أحدهم ينته وقت الفطر، ويبتدئ وقت الصوم‏، ويظن من يأتي امرأته بعد أن‏ ينام أنه قد انتهك حرمة الصوم، فرد الله تعالى ذلك الزعم بقوله تعالت حكمته: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾ والرفث ذكر ما يكون بين الرجل والمرأة من جماع ومقدماته ونحو ذلك من القول، وهو هنا كناية عن الجماع كما يكنّى بلفظ لامستم النساء عن الجماع، وكذلك بلفظ لمستم، وقول الله تعالى‏ ﴿إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ لتضمّن الرفث معنى الإفضاء إلى النساء بجماعهن كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء]

4. وقد بين الله تعالى صلة الرجل بامرأته بأدق عبارة وأرق قول، فقال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ اللباس ما يستر البدن للرجل والمرأة، فالعلاقة بين الزوجين تجعل الزوجة كأنها لباس لزوجها تستره، وتمس جسمه وتكون منه بمنزلة الشعار والدثار، وهو لها كأنه لباس يسترها، ويكون منها بمنزلة الشعار والدثار يلامس جسمها جسمه، فتكون المشاعر التي تثير وتهيج، وإن هذا اللفظ يدل على الحاجة الحسية من الرجل لامرأته، ومن المرأة لزوجها، والحاجة النفسية والرباط الروحي الذي يربط بينهم بالمودة والرحمة، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم‏]

5. بين الله تعالى أنهم كانوا يكلفون أنفسهم ما لم يكلفوا، فكانوا يمتنعون عن مباشرة النساء ظانين أن ذلك غير حلال لهم فقال تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي تخونون باستباحة ما أحل الله لكم إذ تضطرون بحكم العلاقة الشرعية والإنسانية أن يكون منكم لأزواجكم ما يظنونه ممنوعا، وهو غير ممنوع فتاب عليكم من هذا الظن وبين لكم أنه حلال.

6. قال تعالى آمرا بإباحة المباشرة، وحدا لميقات الصوم:‏ ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ المباشرة كناية عن الجماع، ككناية الملامسة، والرفث إليهن، ولكنها أقرب إلى الصراحة من الملامسة والمس.

7. ابتغاء ما كتب الله تعالى هو ابتغاء الولد حفظا للنسل، وعمارة للكون بالإنسان الذي هو الخليفة في هذه الأرض، فالنكاح ما شرعه الله تعالى إلا لابتغاء ذلك لا لمجرد الشهوة، وإن الله تعالى قد أودع غرائز الإنسان ما ينوط به تكليفه، فأودع فيه الشهوة ليسهل وجود النسل وتكاثره، وإن الأسرة تكليف شديد، ويتعلق به تبعات كثيرة من تربية الأولاد، والإنفاق وحضانتهم، وحمله كرها ووضعه كرها، وحمله وهنا على وهن، وغير ذلك من المشاق الظاهرة ولولا الشهوة الدافعة ما تزوج ولا تزوجت، ولكن الله تعالى لحكمته، ولما كتبه من البقاء للإنسان ركب فيه هذه الغريزة الجنسية لتدفعه إلى الزواج راغبا ولطلب الولد محبا، والذين يدعون إلى الحد من النسل وأن تكون الشهوة للشهوة لا لطلب الولد، محاربون للفطرة، وينحدرون إلى درك دون الإنسان، بل دون الحيوان.

8. ذكر الله تعالى نعمة الولد، وقال: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أي ما قدر الله تعالى لكم من ولد وهذا إشارة إلى أن الولد؛ رزق كتبه الله تعالى لكم، فأكرموه؛ لأنه عطاء الله واحفظوه لأنه أمانته التي كتبها لكم وائتمنكم عليها.

9. حدّ الله تعالى ميقات الإفطار والصوم، فقال تعالت كلماته: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾، والخيط الأبيض هو خيط الفجر يشق السماء بنور كالخط ثم ينتشر ذلك الخط شيئا فشيئا حتى يختفى الظلام ويكون النهار.. والخيط الأسود ما يكون حول ذلك الخط الأبيض من ظلام.

10. ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ (من) هنا بيانية أي أن الخطين يبدوان في الفجر وهو ابتداء النهار وهو ابتداء الصوم؛ ولذا قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ أي إلى غروب الشمس، فالخط الأبيض في سواد الليل هو نهاية الأكل والشرب وكل المباحات في الإفطار وابتداء المنع بالصيام حتى يكون الغروب، وبذلك حد الوقت للإفطار وللصوم معا.

11. في العشرة الأخيرة من رمضان يستحب الاعتكاف في المسجد بأن يبقى فيه متعبدا متنسكا لا يخرج منه إلا لحاجة ضرورية ويعود فور زوالها ويمنع من النساء؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾، وبهذا أشار سبحانه وتعالى إلى استحسان الاعتكاف وهو سنة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

12. بهذا البيان الحكيم قد حد الله تعالى ما يحل وما لا يحل ووقت الحل ووقت الصوم، وحد ميعاد الصوم وميعاد الفطر؛ ولذلك قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ فالتزموها ولا تقاربوا الابتداء ولا الانتهاء، أو لا تقربوها بمعنى لا تعتدوا عليها فتمتنعوا حيث لا يجوز المنع كالامتناع عن الأكل والشرب.

13. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي كذلك البيان الذي بين فيه الصوم ورخصه وعزائمه وحدوده وما يجوز فيه وما لا يجوز ولا بيان كهذا البيان، يبين الله تعالى الأحكام والتكليفات رجاء أن يتقوا الله تعالى ويجعلوا وقاية بينهم وبين غضبه سبحانه وتعالى وينالون رضوانه، فقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ لعل فيه للرجاء، والرجاء من العباد لا من الله تعالى؛ لأن الرجاء معنى لا يليق بذات الله العلية الذي جل علمه وتنزهت ذاته، وهذا يفيد أن كل التكليفات الشرعية وخصوصا العبادات لتربية النفس المؤمنة على التقوى، وإيداع المهابة من الله تعالى في قلوب العباد فلا يجترئون فينتهكوا حرمات الشهر الذي عظمه الله تعالى، وجعله مباركا، وأنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/565.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾، أي يجوز للصائم أن يأتي امرأته في ليلة الصيام، وليلة الصيام تشمل جميع ليالي رمضان، ولا تختص بليلة دون أخرى، ولا بجزء من الليلة دون جزء، للإطلاق وعدم التقييد.

2. كنّى الله سبحانه بالرفث عن الجماع تنزيها في التعبير، كما كنّى عنه في آيات أخر باللمس والإفضاء والدخول والغشيان والمقاربة، قال تعالى: ﴿لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾، ﴿أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾، ﴿دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾، ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا﴾، ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، قال ابن عباس: ان الله حيي يكني بما شاء.

3. ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾، قال بعض المفسرين: اللباس هنا كناية عن المعانقة، وقال الرازي: ان الربيع قال المراد هن فراش لكم، وأنتم لحاف لهن.. وهذا تماما كترجمة بعض المستشرقين: هن بنطلون لكم وأنتم بنطلون لهن.. والصحيح ان اللباس هنا مصدر لابس، بمعنى خالط، والقصد بيان حكمة الترخيص في مباشرة النساء ليلة الصيام، وهي ان شدة المخالطة والمعاشرة بين الزوجين تجعل من العسير على الرجل أن يصبر عن امرأته.

4. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾، الخطاب للبعض لا للكل، ونستكشف من لفظ الخيانة والتوبة والعفو ان البعض قد صدرت عنه معصية لله، ونستكشف نوع هذه المعصية من قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾، إذ المفهوم منه انه قد أحل لكم من الآن مباشرة نسائكم، ولازم هذا ان المباشرة كانت محرمة من قبل، ثم صارت حلالا.

5. قال أكثر المفسرين: ان الله أحل للصائم في أول الشريعة أن يأكل ويشرب ويجامع في ليلة الصيام بشرط أن لا ينام، أو يصلي صلاة العشاء، فإذا نام في الليل أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع، حتى تدخل الليلة التالية، وان بعض الصحابة لم يتقيد بهذا الشرط، وجامع امرأته بعد ان استيقظ من‏ رقاده، ثم ندم، واعترف للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بذنبه، فنزلت الآية.. ومهما يكن، فان للنفس ميولا لا يملك الإنسان كبح جماحها في كثير من الأحيان، فيشبعها مستخفيا من الناس، أو محرفا دين الله، فالأفضل تحليل الشيء المرغوب، ان كان هناك وجه للتحليل، كي لا يتمادى الإنسان في الغي، وتجره المعصية الأولى الى المعصية مرات ومرات، وبالتالي الى الاستخفاف واللامبالاة بالدين واحكام الله.

6. ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ من التمتع بالنساء ليلة الصيام الذي كان محرما عليكم من قبل، ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾، أي أبيح لكم الأكل والشرب، كما أبيح لكم الجماع من أول الليل، حتى مطلع الفجر، وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الفجر فجران: فأما الذي كأنه ذنب السرحان، فإنه لا يحل شيئا، ولا يحرمه، واما المستطيل الذي يأخذ في الأفق ـ أي ينتشر فيه ـ فإنه يحل الصلاة، ويحرم الطعام)

7. ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، مبدأ الصيام أول الفجر، ومنتهاه أول الليل، ويدخل الليل بمجرد مغيب الشمس، ولكن مغيبها لا يعرف بمواراتها عن العيان، بل بارتفاع الحمرة من المشرق، لأن المشرق مطل على المغرب، وعلى هذا تكون الحمرة المشرقية انعكاسا لنور الشمس، وكلما أوغلت الشمس في المغيب تقلص هذا الانعكاس، أما ما نسب الى الشيعة من أنهم يؤخرون صلاة المغرب والإفطار في رمضان حتى تشتبك النجوم فهو كذب وافتراء، فقد قيل للإمام الصادق عليه السلام: (ان أهل العراق يؤخرون المغرب حتى تشتبك النجوم)، قال: (هذا من عمل عدو الله أبي الخطاب)

8. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾، في كتب الفقه باب خاص، اسمه باب الاعتكاف، وفي الغالب يذكره الفقهاء بعد باب الصوم، ومعنى الاعتكاف في الشرع أن يقيم الإنسان في المسجد الجامع ثلاثة أيام بليلتين على الأقل صائما، على أن لا يخرج من المسجد إلا لحاجة ماسة، ويعود بعد قضائها مباشرة، ويحرم على المعتكف مباشرة النساء ليلا ونهارا، حتى التقبيل واللمس بشهوة.. والنهي هنا متعلق بمباشرة النساء إطلاقا في المسجد وخارجه، فإذا خرج المعتكف من المسجد، وجامع ليلا، واغتسل، ثم رجع الى المسجد فقد ارتكب محرما، وعليه كفارة من أفطر في شهر رمضان متعمدا: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو اطعام ستين مسكينا.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/289.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ الإحلال‏ بمعنى الإجازة، وأصله من الحل مقابل العقد، والرفث‏ هو التصريح بما يكنى عنه مما يستقبح ذكره، من الألفاظ التي لا تخلو عنها مباشرة النساء، وقد كني به هاهنا عن عمل الجماع وهو من أدب القرآن الكريم وكذا سائر الألفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة والدخول والمس واللمس والإتيان والقرب كلها ألفاظ مستعملة على طريق التكنية، وكذا لفظ الوطء والجماع وغيرهما المستعملة في غير القرآن ألفاظ كنائية وإن أخرج كثرة الاستعمال بعضها من حد الكناية إلى التصريح، كما أن ألفاظ الفرج والغائط بمعناهما المعروف اليوم من هذا القبيل، وتعدية الرفث بإلى لتضمينه معنى الإفضاء على ما قيل.

2. ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ الظاهر من‏ اللباس‏ معناه المعروف، وهو ما يستر به الإنسان بدنه، والجملتان من قبيل الاستعارة فإن كلا من الزوجين يمنع صاحبه عن اتباع الفجور وإشاعته بين أفراد النوع فكان كل منهما لصاحبه لباسا يواري به سوأته ويستر به عورته، وهذه استعارة لطيفة، وتزيد لطفا بانضمامها إلى قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾، فإن الإنسان يستر عورته عن غيره باللباس، وأما نفس اللباس فلا ستر عنه فكذا كل من الزوجين يتقي به صاحبه عن الرفث إلى غيره، وأما الرفث إليه فلا لأنه لباسه المتصل بنفسه المباشر له.

3. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ الاختيان والخيانة بمعنى، وفيه معنى النقص على ما قيل، وفي قوله تعالى: ﴿أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ﴾، دلالة على معنى الاستمرار، فتدل الآية على أن هذه الخيانة كانت دائرة مستمرة بين المسلمين منذ شرع حكم الصيام، فكانوا يعصون الله تعالى سرا بالخيانة لأنفسهم، ولو لم تكن هذه الخيانة منهم معصية لم ينزل التوبة والعفو، وهما وإن لم يكونا صريحين في سبق المعصية لكنهما، وخاصة إذا اجتمعا، ظاهران في ذلك، وعلى هذا فالآية دالة على أن حكم الصيام كان قبل نزول الآية حرمة الجماع في ليلة الصيام، والآية بنزولها شرعت الحلية ونسخت الحرمة كما ذكره جمع من المفسرين، ويشعر به أو يدل عليه قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ إذ لولا حرمة سابقة كان حق الكلام أن يقال: فلا جناح عليكم أن تباشروهن أو ما يؤدي هذا المعنى، وهو ظاهر.

4. وربما يقال: إن الآية ليست بناسخة لعدم وجود حكم تحريمي في آيات الصوم بالنسبة إلى الجماع أو إلى الأكل والشرب، بل الظاهر كما يشعر به بعض الروايات المروية من طرق أهل السنة والجماعة، أن المسلمين لما نزل حكم فرض الصوم وسمعوا قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ الآية، فهموا منه التساوي في الأحكام من جميع الجهات، وقد كانت النصارى كما قيل: إنما ينكحون ويأكلون ويشربون في أول الليل ثم يمسكون بعد ذلك فأخذ بذلك المسلمون، غير أن ذلك صعب عليهم، فكان الشبان منهم لا يكفون عن النكاح سرا مع كونهم يرونه معصية وخيانة لأنفسهم، والشيوخ ربما أجهدهم الكف عن الأكل والشرب بعد النوم، وربما أخذ بعضهم النوم فحرم عليه الأكل والشرب بزعمه فنزلت الآية فبينت أن النكاح والأكل والشرب غير محرمة عليهم بالليل في شهر رمضان، وظهر بذلك: أن مراد الآية بالتشبيه في قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ التشبيه في أصل فرض الصوم لا في‏ خصوصياته، وأما قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ فلا يدل على سبق حكم تحريمي بل على مجرد تحقق الحلية كما في قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ﴾ المائدة ـ 96 إذ من المعلوم أن صيد البحر لم يكن محرما على المحرمين قبل نزول الآية، وكذا قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾، إنما يعني به أنهم كانوا يخونون بحسب زعمهم وحسبانهم ذلك خيانة ومعصية، ولذا قال: ﴿تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ ولم يقل: تختانون الله كما قال: ﴿لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾، مع احتمال أن يراد بالاختيان النقص، والمعنى علم الله أنكم كنتم تنقصون أنفسكم حظوظها من المشتهيات من نكاح وغيره، وكذا قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾، غير صريح في كون النكاح معصية محرمة هذا.

5. ذلك خلاف ظاهر الآية فإن قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾، وإن لم تكن صريحة في النسخ غير أن لها كمال الظهور في ذلك، مضافا إلى قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾.. إذ لو لم يكن هناك إلا جواز مستمر قبل نزول الآية وبعدها لم يكن لهذا التعبير وجه ظاهر، وأما عدم اشتمال آيات الصوم السابقة على هذه الآية على حكم التحريم فلا ينافي كون الآية ناسخة، فإنها لم تبين سائر أحكام الصوم، أيضا مثل حرمة النكاح والأكل والشرب في نهار الصيام، ومن المعلوم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قد بينه للمسلمين قبل نزول هذه الآية، فلعله كان قد بين هذا الحكم فيما بينه من الأحكام، والآية تنسخ ما بينه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن لم تشتمل كلامه تعالى على ذلك.

6. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ يدل على سبب تشريع جواز الرفث فلا بد أن لا يعم الناسخ والمنسوخ لبشاعة أن يعلل النسخ بما يعم الناسخ والمنسوخ معا وإن قلنا: إن هذه التعليلات الواقعة في موارد الأحكام حكم ومصالح لا علل، ولا يلزم في الحكمة أن تكون جامعة ومانعة كالعلل فلو كان الرفث محرما قبل نزول الآية ثم نسخ بالآية المحللة لم يصلح تعليل نسخ التحريم بأن الرجال لباس للنساء وهن لباس لهم، والجواب:

أ. أولا إنه منقوض بتقييد قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ بقوله تعالى: ﴿لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ مع أن‏ حكم اللباس جار في النهار كالليل وهو محرم في النهار.

ب. ثانيا: أن القيود المأخوذة في الآية من قوله تعالى: ﴿لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾، وقوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾، تدل على علل ثلاث مترتبة يترتب عليها الحكم المنسوخ والناسخ فكون أحد الزوجين لباسا للآخر يوجب أن يجوز الرفث بينهما مطلقا، ثم حكم الصيام المشار إليه بقوله تعالى: ﴿لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾، والصيام‏ هو الكف والإمساك عن مشتهيات النفس من الأكل والشرب والنكاح يوجب تقييد جواز الرفث وصرفه إلى غير مورد الصيام، ثم صعوبة كف النفس عن النكاح شهرا كاملا عليهم ووقوعهم في معصية مستمرة وخيانة جارية يوجب تسهيلا ما عليهم بالترخيص في ذلك ليلا، وبذلك يعود إطلاق حكم اللباس المقيد بالصيام إلى بعض إطلاقه وهو أن يعمل به ليلا لا نهارا، والمعنى والله أعلم: أن إطلاق حكم اللباس الذي قيدناه بالصيام ليلا ونهارا وحرمناه عليكم حللناه لكم لما علمنا أنكم‏ ﴿تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ فيه وأردنا التخفيف عنكم رأفة ورحمة، وأعدنا إطلاق ذلك الحكم عليه في ليلة الصيام وقصرنا حكم الصيام على النهار فأتموا الصيام إلى الليل.

7. الحاصل: أن قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾، وإن كان علة أو حكمة لإحلال أصل الرفث إلا أن الغرض في الآية ليس متوجها إليه، بل الغرض فيها بيان حكمة جواز الرفث ليلة الصيام، وهو مجموع قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَعَفَا عَنْكُمْ﴾، وهذه الحكمة مقصورة على الحكم الناسخ ولا يعم المنسوخ قطعا.

8. ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾، أمر واقع بعد الحظر فيدل على الجواز، وقد سبقه قوله تعالى: في أول الآية: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ والمعنى (فمن الآن تجوز لكم مباشرتهن)

9. الابتغاء هو الطلب، والمراد بابتغاء ما كتب الله هو طلب الولد الذي كتب الله سبحانه ذلك على النوع الإنساني من طريق المباشرة، وفطرهم على طلبه بما أودع فيهم من شهوة النكاح والمباشرة، وسخرهم بذلك على هذا العمل، فهم يطلبون بذلك ما كتب الله لهم وإن لم يقصدوا ظاهرا إلا ركوب الشهوة ونيل اللذة كما أنه تعالى كتب لهم بقاء الحياة والنمو بالأكل والشرب وهو المطلوب الفطري وإن لم يقصدوا بالأكل والشرب إلا الحصول على لذة الذوق والشبع والري، فإنما هو تسخير إلهي، وأما ما قيل: إن المراد بما كتب الله لهم الحل والرخصة فإن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، فيبعده: أن الكتابة في كلامه غير معهودة في مورد الحلية والرخصة.

10. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾، الفجر فجران، فجر أول يسمى بالكاذب لبطلانه بعد مكث قليل وبذنب السرحان لمشابهته ذنب الذئب إذا شاله، وعمود شعاعي يظهر في آخر الليل في ناحية الأفق الشرقي إذا بلغت فاصلة الشمس من دائرة الأفق إلى ثمانية عشر درجة تحت الأفق، ثم يبطل بالاعتراض فيكون معترضا مستطيلا على الأفق كالخيط الأبيض الممدود عليه وهو الفجر الثاني، ويسمى الفجر الصادق لصدقه فيما يحكيه ويخبر به من قدوم النهار واتصاله بطلوع الشمس، ومن هنا يعلم:

أ. أن المراد بالخيط الأبيض هو الفجر الصادق، وأن كلمة ﴿مِنَ﴾، بيانية وأن قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ﴾ من قبيل الاستعارة بتشبيه البياض المعترض على الأفق من الفجر، المجاور لما يمتد معترضا معه من سواد الليل بخيط أبيض يتبين من الخيط الأسود.

ب. أن المراد هو التحديد بأول حين من طلوع الفجر الصادق، فإن ارتفاع شعاع بياض النهار يبطل الخيطين فلا خيط أبيض ولا خيط أسود.

11. ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، لما دل التحديد بالفجر على وجوب الصيام إلى الليل بعد تبينه استغنى عن ذكره إيثارا للإيجاز، بل تعرض لتحديده بإتمامه إلى الليل، وفي قوله تعالى: ﴿أَتِمُّوا﴾ دلالة على أنه واحد بسيط وعبادة واحدة تامة من غير أن تكون مركبة من أمور عديدة كل واحد منها عبادة واحدة، وهذا هو الفرق بين التمام والكمال حيث إن الأول انتهاء وجود ما لا يتألف من أجزاء ذوات آثار والثاني انتهاء وجود ما لكل من أجزائه أثر مستقل وحده، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾، فإن الدين مجموع الصلاة والصوم والحج وغيرها التي لكل منها أثر يستقل به، بخلاف النعمة على ما سيجيء بيانه إن شاء الله في الكلام على الآية.

12. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾، العكوف والاعتكاف‏ هو اللزوم والاعتكاف بالمكان الإقامة فيه ملازما له، والاعتكاف عبادة خاصة من أحكامها لزوم المسجد وعدم الخروج منه إلا لعذر والصيام معه، ولذلك صح أن يتوهم جواز مباشرة النساء في ليالي الاعتكاف في المسجد بتشريع جواز الرفث ليلة الصيام فدفع هذا الدخل بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾

13. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾، أصل‏ الحد هو المنع وإليه يرجع جميع استعمالاته واشتقاقاته كحد السيف وحد الفجور وحد الدار والحديد إلى غير ذلك، والنهي عن القرب من الحدود كناية عن عدم اقترافها والتعدي إليها، أي لا تقترفوا هذه المعاصي التي هي الأكل والشرب والمباشرة أو لا تتعدوا عن هذه الأحكام والحرمات الإلهية التي بينها لكم وهي أحكام الصوم بإضاعتها وترك التقوى فيها.

14. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بما يتوافق مع ما ذكره سابقا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/45.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ ﴿الرَّفَثُ﴾ يكون الكلام الذي يستحى منه لغير الزوجين، وهو كناية عن الجماع؛ لأنه من مقدماته، ولا يجب أن يجعل مجازاً؛ لأن من أدب الجماع تقديم بعض مقدماته.

2. ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ فهن بتحصينكم عن المعصية ستر لكم وأنتم ستر لهن بما يحصل لهن من الثبات على العفة باستغنائهن بالأزواج، ففي إباحة الرفث ليلة الصيام هذه المصلحة؛ لأنه يطول على الشباب الصبر إلى انسلاخ الشهر، ولذلك وقعت المخالفة ممن لم يصبر ليلة الصيام.

3. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ بإتيانهن ليلة الصيام حين كان محظوراً، وسمِّي خيانة؛ لأن الصوم أمانة عند المكلف، فالإفطار خيانة لله، ونسب الاختيان إلى أنفسهم لأن ضره عليهم ﴿وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [التغابن:6] والقصة ذكرها الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام، وذكر فيها: (أن الصيام كان لشهر رمضان، من أحكامه: أن لا ينكحوا النساء ليلاً ولا نهاراً حتى ينسلخ شهر رمضان، وقال فيها: فإن ناموا لم يجز لهم أكل ولا شرب حتى يكون من الغد عند دخول الليل)، ولعل ذلك كان معنى قول الله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ فكان الصيام النهار كله وبعض الليل من الأكل والشرب، والليل كله من الجماع، فكان الصيام الشهر كله ليلاً ونهاراً إلاَّ جزءاً من الليل للأكل والشرب فقط، وعلى هذا فقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ تخصيص لقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ أي نسخ لصيام بعض الليل.

4. ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ بنسخ تحريم الجماع في الليل، وبالهداية إلى التوبة ﴿وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ لتوبتكم من المعصية ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ في الليل كله، أي فالآن أبيح لكم ذلك، فالظرف للأمر، فهي من أدلة حدوث القرآن، والمباشرة كناية عن الجماع.

5. ﴿وَابْتَغُوا﴾ بالجماع ﴿مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ من الولد، بإتيانهن في محل التسبيب للولد وترك العزل، وهو يفيد: أن المشروع طلب تكثير المسلمين، كما في الحديث: (تناكحوا تكاثروا)، وذلك لأن في كثرة المسلمين قوّة لهم إذا اتحدوا، وهم وإن كانوا في عصر من العصور غير متَّحدين فإنهم إذا تكالب عليهم أعداؤهم قتلاً ونهباً وإهانة لا بد أن يضطر بعضهم إلى التوحد، فإذا كانوا كثيراً حصلت القوة، ولا يبعد أن تكون بينهم وبين الكفار حروب طاحنة يُستعمل فيها سلاح الإبادة، فإذا كان النسل كثيراً كانوا خلفاً من الماضين وقوة باقية للإسلام، أما إذا كان النسل محدداً فهو معرض للنقص بالأمراض والحوادث مع أن من الناس من لم يتزوج أو زوجته عاقر أو يموت أولادها بطناً بعد بطن، فإذا أجحفت الحرب بعدد المسلمين كان البدل قليلاً، فإن استمروا على تحديد النسل قرناً بعد قرن فالخطر أعظم، وإن بدا لهم أن هذا الرأي غلط ويرفضوا تحديد النسل حين شاهدوا النقص والحاجة إلى الرجال كان تحصيل جيل بعد ذلك بطيئاً يحتاج إلى انتظار نحو عشرين سنة حتى يأتي الجيل الجديد، فربما غلبهم العدو قبل ذلك وحدد نسلهم اضطراراً، وما أرى تحديده فراراً من مؤنتهم إلاَّ غلطاً؛ لأن الله هو الرزاق، وإن اتسع العمل بسبب كثرتهم فسيكثر العاملون ويكثر استثمار خيرات الأرض بكثرتهم، وأرض الله واسعة لن تضيق بأهلها، والموت ينقصهم والحروب التي تأتي حيناً بعد حين تأخذ منهم ضحايا قد يكون بها عزة الباقين، وعلى الجملة: فالقرآن والسنة هما الحق، ومخالفتهما خلاف الصواب؛ لأن ﴿اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [التوبة:78] وهو يريد بالمؤمنين اليسر ولا يريد بهم العسر، فلو كان تكثير النسل يؤدي إلى العسر لكان أعلم بذلك، ولمَا حثّ عليه.

6. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ دليل على أن الصيام إنما هو من هذا الوقت من الفجر، وفي (أمالي أحمد بن عيسى) في (كتاب الصيام) من (رأب الصدع): عن قاسم بن إبراهيم، قال آخر وقت السحور: أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، والخيط الأبيض: هو الفجر المعترض، وإنما قيل الخيط لاختياطه، وهو اعتراضه.

7. ﴿يَتَبَيَّنَ﴾ أن يكون واضحاً لمن يرى، ومعنى ﴿يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ يتميز الخيط الأبيض بوضوحه من الخيط الأسود، أي من ظلام الليل الذي فوق الفجر المعترض الممتد من جهة الشمال إلى جهة الجنوب، والعكس، فهناك خيط أبيض ممتد يميناً وشمالاً وخيط أسود ممتد فوق الخيط الأبيض بامتداد الخيط الأبيض يتميز الأبيض من الأسود بتضادهما، وعلى هذا فليس المراد بهذا الخيط الضوء القوي الذي يفصل بينه وبين سواد الليل نور ضعيف، بل هو النور الضعيف المجاور لسواد الليل يتبين لمن يراه ويتميز له بمضادته لسواد الليل، ومعنى تبيُّنه: أن يراه الناظر إليه بغير تأمل، ويتميز له بغير تكلف، ويدخل في هذا من تبين له لكنه لم يتحققه لضعف بصره أو وجود غبار في الأفق أو غير ذلك من الموانع، فأما ضوء القمر فيحتمل اعتباره مانعاً كسائر الموانع، ويحتمل اعتباره منقصاً لسواد الليل المعين على رؤية الفجر ومعارضاً بنوره لنور الفجر الضعيف فهو باعتبار نقصه لسواد الليل ليس مانعاً وباعتبار معارضته لضوء الفجر قبل قوته يعتبر مانعاً، فالأحوط مراعاة الأمرين وأن لا يحكم بقياسه على حال عدم القمر بواسطة الساعة المعروفة التي تبين الساعات والدقائق بل يؤخر قليلاً أو ينتظر وضوحه بالتأمل بحيث يعرف أنه لولا القمر لكان واضحاً بدون تأمل والمراد بوضوحه هنا أن يكون معلوماً بالرؤية متيقناً في حال وجود القمر على أن في هذه الطريقة نظراً؛ لأن القمر آية الليل وهي أصيلة فيه، فليس لها حكم الموانع العارضة، فالأحوط: انتظار تبين الفجر بدون تأمل، وهذا للصلاة، فأما لترك المفطرات فالأحوط العمل بالطريقة الماضية لاحتمال أن عدم التبين سببه معارضة نور الفجر بنور القمر لا تخفيف سواد الليل، ومن الاحتياط للصيام العمل بالساعة في الفجر لاحتمال أن ضوء القمر أخفى ضوء الفجر بالغلبة عليه، وهذا إذا لم تكن الأيام في ازدياد الطول، فأما معه فإن الفجر يكون في اليوم الثاني أسرع منه في اليوم الأول فلا يتكل على الساعة.

8. ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ الصيام إلى الليل: الصيام إلى حضور الظلمة، وكون الصائم مظلماً أي داخلاً في الظلمة، بدليل قوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾ [يس:37] وعلى هذا فهي ناسخة لإجزاء الصيام إلى سقوط قرص الشمس كما نسخت ابتداء الصيام نسخت انتهاءه.

9. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ في عطف هذه على حكم الصيام في آيته إشعار بأن شهر الصوم مظنة الاعتكاف، ودلالة على تخصيص إباحة النساء ليلة الصيام بحال عدم الاعتكاف.

10. ﴿فِي الْمَسَاجِدِ﴾ دليل على جواز الاعتكاف في أي مسجد، وفي كون النهي عن المباشرة في حال الاعتكاف، المراد به لا يباشرها في البيت مثلاً دليل على أن الاعتكاف يكون لبثاً في المسجد مدة محدودة بالنية أو النذر حتى يتصور أن يخرج ويجامع في غير المسجد مع اعتباره معتكفاً في حال الجماع، وإنما قلت: إن النهي هنا متناول للجماع في غير المسجد لأن الجماع في المسجد لو كان هو المقصود لقال: (ولا تباشروهن في المساجد)؛ لأن الجماع في المسجد لا يختص تحريمه بحالة الاعتكاف؛ لأنه يؤدي إلى الجنابة والكون في المسجد في حال الجنابة اختياراً وعمداً، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (لا أحل المسجد لجنب ولا حائض) والروايات في هذا كثيرة في إخراج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه من المسجد وسد أبوابهم الشارعة إلى المسجد إلاَّ باب علي عليه السلام، وقال الشرفي في (المصابيح) في قول الله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾: (نزلت في ناس من الصحابة كانوا يعتكفون في المساجد، فإذا عرضت لأحدهم حاجة إلى أهله خرج وجامعها فنهوا)

11. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ يمكن أن الإشارة إلى حدود الصوم وإباحة الأكل والشرب والجماع وحد إباحة الجماع، ويمكن أن الإشارة موجهة إلى ما جاء في آيات الصيام وما صحبها، وهو أظهر؛ لأن هذه خاتمة الموضوع كله؛ ولأنها وقعت مخالفة من الماضين قبل الإسلام في حد الصيام حيث جعلوه في وقت غير الذي أمر الله به.

12. ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ تأكيد للنهي عن مخالفة تحديد الله سبحانه بإيجاب التزام العمل به والوقوف عنده وتحذير من التهاون به، وله صور منها: الإفطار قبل تحقق الليل، ومنها الأكل ونحوه في السحر بدون حذر من الأكل أو نحوه بعد طلوع الفجر، وذلك فيمن كان في منزل أو خلف جبل أو في حال الغمام أو نحو ذلك، ومنها: ملاعبة الزوجة في النهار، ومنها: استعمال ما هو مظنة النزول من الحلق مع الريق كالبردقان، فهذه كلها قرب للحد مظنة لتعديه.

13. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ في هذه الجملة ـ وقد تكررت ـ ترغيب في تعلم معاني القرآن ودفع لكيد الشيطان الذي يوسوس للإنسان أنه صعب عليه أو متعذر، فيشتغل بغيره ويتركه، وفيه ردّ على من يجعل فهمه خاصاً بالإمام أو بالشيخ؛ لأن قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ دليل على بطلان قولهم لأن الناس عام شامل لكل الناس، وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي باتباع آياته وامتثال أمره ونهيه.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/263.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الرَّفَثُ﴾: وأصله كلام متضمن لما يستقبح ذكره كالجماع ودواعيه وجعل كناية عنه، قال الطباطبائي في تفسيره: وهو من أدب القرآن الكريم، وكذا سائر الألفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة والدخول والمسّ واللمس والإتيان‏ والقرب، كلها ألفاظ مستعملة عن طريق التكنية)، ويمكن أن نلاحظ على ذلك، أن التعبير بهذه الكلمات الكنائية الإيحائية كان منطلقا من استعمالها في كلام العرب للدلالة على هذه المعاني الفاحشة، تماما كما هو التعبير بالكلمات الصريحة، وقد جاء في السيرة النبوية الشريفة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يتحدث عن الجماع بالكلمات الأكثر وضوحا عندما تمس الحاجة، مما يوحي أن مسألة الاستقباح تابعة للعرف الحضاري الذي يختلف بين مرحلة وأخرى، فإن الفحش في المعنى لا في الكلمة.

2. ﴿لِبَاسَ﴾: الثياب التي من شأنها أن تستر الأبدان، ولعل هذا التعبير ينطلق من استعارة لطيفة، فإن كلّا من الزوجين يمنع صاحبه من اتباع الفجور، فكأن كلّا منهما لباس لصاحبه بحيث يواري به سوأته، ومنه جعل التقوى لباسا باعتبار أنه يمنع الإنسان من إظهار عيوبه بإبعادها عن حياته، وقد يكون للتعبير وجه آخر.

3. ﴿تَخْتَانُونَ﴾: تخونون عن قصد واختيار، قال الزمخشري: والاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب، فيه زيادة وشدة)، أما الراغب فيقول في مفرداته: (والاختيان: مراودة الخيانة، ولم يقل: تخونون أنفسكم، لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان، فإن الاختيان تحرّك شهوة الإنسان لتحرّي الخيانة)

4. جاء في رواية علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه رفعه إلى أبي عبد الله ـ جعفر الصادق عليه السّلام ـ قال‏: (كان الأكل محرما في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراما بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقال له مطعم بن جبير، أخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله وكّله بفم الشّعب يوم أحد في خمسين من الرماة، وفارقه أصحابه وبقي في اثني عشر رجلا، فقتل على باب الشّعب، وكان أخوه هذا مطعم بن جبير شيخا ضعيفا وكان صائما، فأبطأت عليه أهله بالطعام، فنام قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لأهله: قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة، فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه، فرآه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فرقّ له، وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان، فأنزل الله هذه الآية فأحل النكاح بالليل في شهر رمضان والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر)

5. في هذه الآية تحديد للأوقات التي تحرم فيها العلاقة الجنسية على الصائمين، فقد ورد في بعض الأحاديث أنها كانت محرمة عليهم في الليل والنهار، وكان هذا التحريم حرجا عليهم حتى أن بعض الشباب كانوا يمارسونها سرا في الليل، فيجدون في أنفسهم الشعور المهين بالخيانة، فجاء هذا التحليل في هذه الآية ليرفع ذلك عنهم، في ما يأتي، ويتوب عليهم ويعفو عنهم في ما مضى.

6. ربما كان في جو الآية ـ كما ورد في أسباب النزول ـ ما يوحي بالتشجيع على هذه الممارسة، من أجل أن يفرّغ الصائمون أنفسهم من كل المشاعر الشهوانية التي تثقل وجدانهم، فتشغلهم عن روحانية الصوم وأسلوبه العملي في التربية على التقوى، لأن الله لا يريد للتقوى أن تتحرك في حياة الإنسان على أساس منهج القسر والضغط والشدة، الذي لا يترك مجالا للإنسان ليتنفس أو ينفتح أو يواجه الموقف من موقع الطبيعة البشرية، بل أرادها أن تنطلق على أساس الإرادة المرتكزة على الانفتاح على الشهوات من بعض الجهات، لتنغلق عنها في الآخرى التي حرمها الله، فيكون الالتزام بخط التحريم قريبا إلى طبيعة الإنسان في حركته في صعيد الواقع.

7. في ضوء هذا، كان الصوم في النهار أسلوبا واقعيا عمليا، لأنه لا يشل الحاجة الغريزية في الإنسان تماما، بل يترك لها المجال لتشبع جوعها في الليل، وبهذا جاءت الفقرة القرآنية في قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ للإيحاء بشدة العلاقة التي تربط الرجل والمرأة ببعضهما البعض، مما يوجب قلة الصبر عن الامتناع والاجتناب عن الحاجة الجنسية لأحدهما تجاه الآخر، وقد كنى عن الجماع بالرفث، لأن الرفث هو الإفصاح بما يجب أن‏ يكنى عنه، ولا يخلو الجماع من ذلك، كما في الكشاف‏.

8. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: تنقصونها حظها من اللذة بامتناعكم عن الجماع في الليل، وخيانة النفس تكون في ظلمها بمنعها عما ترتاح إليه، أو تكون بمعنى ممارسة المعصية تمردا على التحريم الذي كان مفروضا في ليالي الشهر بالإضافة إلى نهاراته، فلا تؤدون الأمانة الإلهية بالامتناع عن الجماع، ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ تخفيفا لما اشتد عليكم، بإباحته لكم أو بالغفران لكم‏ ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ بالليل لتحصلوا على حاجتكم الجنسية من دون تحريم ولا حرج، والأمر هنا بمعنى الإباحة لا الوجوب، لأنه وارد بعد التحريم مما يكون قرينة على أن المراد به رفع التحريم، لا الوجوب.

9. ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ الظاهر منه الولد باعتباره الغاية من العمل الجنسي غالبا، بالإضافة إلى قضاء الشهوة، أو للتشجيع على التناسل واعتباره غاية مطلوبة لذلك، وهناك احتمال آخر وهو أن المراد: اطلبوا ما كتب الله لكم من الحلال الذي بيّنه بكتابه، فإن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن يؤخذ بعزائمه.

10. ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ فقد أباح الله لكم ذلك في الليل، ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ﴾ أي: يظهر ويتميز لكم على التحقيق في وضوح الرؤية، ﴿الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ﴾ وهو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود، ﴿مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ ما يمتد معه من غبش الليل، كما في الكشاف‏ ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ الذي يبدأ طلوعه بالبياض، الذي يبدو في الأفق.

11. ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ هذا تحديد لنهاية موعد الصيام، وعدم تشريع صوم الوصال الذي يصل به الصائم ليله بنهاره بنية واحدة.

12. ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ هذا استثناء من جواز الجماع والمباشرة في ليل الصوم، فإنه لا يجوز للإنسان المعتكف في المسجد أن يمارس ذلك، سواء كان ذلك في شهر رمضان أو في غيره، والاعتكاف عبادة خاصة، يحبس الإنسان فيها نفسه في المسجد للعبادة، فلا يخرج إلا لضرورة، ومن شروطها الصوم، والاستمرار فيها ثلاثة أيام، وأحكامها مذكورة في كتب الفقه.

13. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ إن في هذه الآية إشارة إلى أن المحرمات هي حدود الله التي يجب أن يقف الناس عندها فلا يقربوها بممارستها والإقبال عليها، وربما كان المقصود بحدود الله هي شرائعه في ما أحل وفي ما حرّم، فتكون الآية كناية عن الوقوف عند الحاجز بين الحلال والحرام، لئلا يصل الإنسان إلى الانتهاك للمحرمات كما ورد في بعض الكلمات المأثورة: (المحرمات حمى الله، فمن حام حول الحمى أو شك أن يرتع فيه)

14. ربما كان التعبير بكلمة: ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ بدلا من ﴿ولا تتعدّوها﴾ للإيحاء بعدم الاكتفاء بتركها بل بالابتعاد عنها، قال الزمخشري في الكشاف: (فإن قلت: كيف قيل: ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ مع قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾!؟ قلت: من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيّز الحق، فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيّز الباطل، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيّزي الحق والباطل لئلا يداني الباطل، وأن يكون في الواسطة متباعدا عن الطرف فضلا عن أن يتخطّاه)

15. لا بد للإنسان من أن يعي جيدا كيف يثير الله أمامه حدوده التي لا يريد له أن يتجاوزها ويتمرد عليها، من أجل أن يفهمها ويعرف كيف ينفذ إرادة الله في ما يرضيه وما يسخطه، ليكون ذلك باعثا له على الالتزام والانضباط وبناء شخصيته على الأسس الشرعية التي تعطيه صفة التقوى في كل مجالات حياته الخاصة والعامة، وهذا ما يجب أن نتوفر عليه في مجالات التوجيه والتربية في بناء الشخصية الإسلامية، وذلك بالتأكيد على الجانب الشرعي في قضايا الإنسان الصغيرة والكبيرة معرفة وتطبيقا، لأن الاكتفاء بالمفاهيم العامة يجعل الإنسان غارقا في الضباب، بعيدا عن الحدود الفاصلة بين الحق والباطل، والكفر والإسلام.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/47.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. روي أن الأكل كان محرّما في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراما بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقال له مطعم بن جبير شيخا ضعيفا، وكان صائما، فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لأهله: قد حرّم عليّ الأكل في هذه الليلة، فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه، فرآه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فرقّ له، وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّا في شهر رمضان، فأنزل الله هذه‏ الآية فأحلّ النّكاح بالليل في شهر رمضان، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر.

2. ثم تذكر الآية سبب الحكم فتقول: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾، واللباس يحفظ الجسم من الحر والبرد وأنواع الأخطار من جهة، ويستر عيوب الجسم من جهة أخرى، أضف إلى أنه زينة للإنسان، وتشبيه الزوج باللباس يشمل كل هذه الجوانب، الزوجان يحفظ كل منهما الآخر من الانحراف والعيوب، ويوفّر كل منهما سبل الراحة والطمأنينة للآخر، وكل منهما زينة للآخر.

3. هذا التعبير يوضّح غاية الارتباط المعنوي بين الرجل والمرأة ومساواتهما في هذا المجال، فالتعبير جاء للرجل كما جاء للمرأة بدون تغيير.

4. ثم يبين القرآن سبب تغيير هذا القانون الإلهي ويقول: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾، فالله سبحانه وسّع عليكم الأمر وخفّفه، وجعل فيه رخصة بلطفه ورحمته، كي‏ لا تتلوثوا بالذنوب.

5. ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾، وهذا الأمر لا يعني طبعا الوجوب، بل هو رخصة بعد المنع، أو هو بتعبير الأصوليين (الأمر عقيب الخطر)، ويدل على الجواز.

6. عبارة ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ إشارة إلى أن الاستفادة من هذه الرخصة الكائنة في مسير قوانين الخلقة وحفظ النظام وبقاء النسل لا مانع فيها.

7. ثمّ تبيّن الآية الحكم الثاني وتقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾، للمسلم ـ إذن ـ أن يأكل ويشرب في الليل، حتى إذا طلع الفجر يمسك.

8. وتبين الآية الحكم، الثالث: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، هذه الجملة تأكيد على حظر الأكل والشرب والنكاح في أيّام شهر رمضان للصائمين، وتشير إلى أن الحظر يبدأ من طلوع الفجر وينتهي عند الليل.

9. تطرح الآية بعد ذلك الحكم الرّابع وتقول: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾، هذا الحكم يرتبط بالاعتكاف، وهو شبيه بالاستثناء من الحكم السابق، ففي الاعتكاف الذي لا تقلّ مدّته عن ثلاثة أيّام، لا يحق للمعتكف الصائم أن يباشر زوجته لا في الليل ولا في النهار.

10. في ختام الآية عبارة تشير إلى كل ما ورد فيها من أحكام تقول: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ لأن الاقتراب من الحدود يبعث على الوسوسة، وقد يدفع الإنسان إلى تجاوز الحدود والوقوع في الذنب، نعم، ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾

11. بعد أن ذكرت الآية الكريمة بعض أحكام الصوم والاعتكاف، عبّرت عن هذه الأحكام بالحدود الإلهية، وهي الحدود بين الحلال والحرام.. بين الممنوع والمباح، ومن الملفت للنظر أن الآية لم تقل لا تتجاوزوا هذه الحدود، بل قالت: ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾، لأن الاقتراب منها يؤدي إلى إثارة الوساوس، وقد يؤدي أحيانا إلى تجاوز هذه الحدود، لذلك نهى الإسلام عن الولوج في مناطق تؤدي إلى انزلاق الإنسان في المحرمات، كالنهي مثلا عن الاشتراك في مجالس شرب الخمر حتى مع عدم التلوث بالخمرة، أو النهي عن الاختلاء بالمرأة الأجنبية.

12. هذا النهي ورد في النصوص الإسلامية تحت عنوان (حماية الحمى)، ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إنّ حمى الله محارمه، فمن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه)، من هنا فالمتقون لا يجنّبون أنفسهم الوقوع في المحرمات فحسب، بل يسعون إلى عدم الاقتراب من حافّة الحرام.

13. العكوف والاعتكاف أصله اللزوم، يقال: عكفت بالمكان، أي أقمت به ملازما له، وهو في الشرع اللبث في المساجد للعبادة، وأقلّه ثلاثة أيّام يصوم خلالها المعتكف ويكفّ عن بعض المباحات، وهذه العبادة لها الأثر العميق على تصفية الروح والقرب من الله، وذكرت كتب الفقه آدابها وشروطها، هذه العبادة مستحبة، وقد تتخذ أحيانا في ظروف استثنائية طابع الوجوب، في الآية التي نبحث فيها ورد ذكر أحد شروط الاعتكاف وهو حظر النكاح ليلا ونهارا، وهذه الإشارة جاءت لارتباطها بمسألة الصوم.

14. الفجر في الأصل شقّ الشيء شقا واسعا، وسمّي الصبح فجرا لأنه فجر الليل، وعبّرت الآية عن الفجر أيضا بأسلوب ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾، ومن الظريف‏ أن (عدي بن حاتم) قال للنبي: إني وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود فكنت أنظر فيهما فلا يتبين لي، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى رؤيت نواجذه ثم قال (يا ابن حاتم إنّما ذلك بياض النّهار وسواد اللّيل فابتداء الصّوم من هذا الوقت)، وهذا التعبير يوضّح أيضا الفرق بين الصبح الصادق والصبح الكاذب: لأنّ الفجر فجران: الفجر الكاذب وهو على شكل عمود من الضوء يظهر في السماء كذنب السرحان (الثعلب)، وبعده يظهر الفجر الصادق وهو بياض شفّاف أفقي يظهر في أفق السماء كخيط أبيض يظهر إلى جوار الخيط الأسود، وهذا هو الصبح الصادق وبه يتعلق حكم الصوم والصلاة، ولا يشبه الفجر الكاذب.

15. التقوى، هي الأوّل والآخر: في أوّل آية ترتبط بأحكام الصوم ورد ذكر التقوى على أنها الهدف النهائي للصوم، وفي آخر آية أيضا وردت عبارة ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ وهذا يؤكد أن كل مناهج الإسلام وسيلة لتربية الروح والتقوى والفضيلة والإرادة والإحساس بالمسؤولية.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏1/537.

80. المال والباطل والحكام

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈80⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ قال إنها لمحكمة ما نسخت، ولا تنسخ إلى يوم القيامة(1)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٢٠.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: أيما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه، وإن أخذ هدية كان غلولا، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك(1)..

__________

(1) عقاب الأعمال: 310/1.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، فيخاصمهم فيه إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل حراما(1)..

2. روي أنّه قال: أنه كان يكره أن يبيع الرجل الثوب ويقول لصاحبه: إن كرهته فرد معه دينارا، فهذا مما قال الله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ﴾: باليمين الكاذبة، يقطع بها مال أخيه(3)..

4. روي أنّه قال: لما أنزل الله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو من أفضل أموالنا؛ فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكف الناس عن ذلك؛ فأنزل الله بعد ذلك: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١](4)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٢٦٩ ـ: ٢٧٠.

(2) ابن جرير: ٦/٦٢٢ ـ: ٦٢٣.

(3) تفسير البغوي: ١/٢١١.

(4) ابن أبي حاتم: ١/٣٢٠ – ٣٢١.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا﴾ يعني: طائفة، ﴿مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يعني: تعلمون أنكم تدعون الباطل(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، يعني: بالظلم، وذلك أن امرأ القيس بن عابس، وعبدان بن أشوع الحضرمي اختصما في أرض، وأراد امرؤ القيس أن يحلف؛ ففيه نزلت: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾(2)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٢١ ـ: ٣٢٢.

(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٢١.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾: لا تخاصم وأنت ظالم(1)..

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٢٢.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: هو أن يكون على الرجل لصاحبه حق، فإذا طالبه به دعاه إلى الحاكم، فيحلف له، ويذهب بحقه(1)..

2. روي أنّه قال: هو الرجل يأكل مال الرجل ظلما، ويجحده إياه، ثم يأتي به إلى الحكام، والحكام إنما يحكمون بالظاهر؛ فإذا حكم له استحله بحكمه(2)..

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٨٣.

(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٠٣.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قد علم الله أنه يكون حكام يحكمون بغير الحق، فنهي أن يتحاكموا إليهم، لأنهم لا يحكمون بالحق، فتبطل الأموال(1)..

2. روي أنّه قال: إن الرجل إذا أصاب مالا من حرام لم يقبل منه حج ولا عمرة ولا صلة رحم(2)..

3. روي أنّه سئل عن الغلول، فقال: كل شيء غل من الامام فهو سحت، وأكل مال اليتيم وشبهه سحت، والسحت أنواع كثيرة منها أجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ والمسكر والربا بعد البينة، فأما الرشا في الحكم فإن ذلك الكفر بالله العظيم جل اسمه وبرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم(3)..

4. روي أنّه سئل عن أعمال الظلمة، فقال: لا ولا مدة قلم، إن أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينه مثله، أو حتى يصيبوا من دينه مثله(4)..

__________

(1) تفسير القمّي: 1/67.

(2) أمالي الطوسي: 2/293.

(3) الكافي: 5/126/1.

(4) الكافي: 5/106/5.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم، فإن قضاءه لا يحل لك شيئا كان حراما عليك(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾، وكان يقال: من مشى مع خصمه وهو له ظالم؛ فهو آثم حتى يرجع إلى الحق، واعلم ـ يا ابن آدم ـ أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما، ولا يحق لك باطلا، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى ويشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب، واعلموا أنه من قد قضي له بالباطل فإن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا(2)..

__________

(1) عبد الرزاق: ١/٧٢.

(2) ابن جرير: ٣/٢٧٧.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ﴾ معناه طائفة(1)..

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 95.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، أما: ﴿الْبَاطِلَ﴾ يقول: يظلم الرجل منكم صاحبه، ثم يخاصمه ليقطع ماله وهو يعلم أنه ظالم، فذلك قوله: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٢٧٨.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ)

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ كانت قريش تقامر الرجل بأهله وماله، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك(1)..

2. روي أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾، فقال: إن الله عز وجل قد علم أن في الامة حكاما يجورون، أما إنه لم يعن حكام أهل العدل، ولكنه عنى حكام أهل الجور.. إنه لو كان لك على رجل حق، فدعوته إلى حكام أهل العدل، فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له، لكان ممن حاكم إلى الطاغوت، وهو قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ [النساء: 60](2)..

3. روي أنّه سئل عن الرجل منا يكون عنده الشيء يتبلغ به وعليه دين، أيطعمه عياله حتى يأتي الله عز وجل بميسرة فيقضي دينه، أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان وشدة المكاسب، أو يقبل الصدقة، فقال: يقضي بما عنده دينه، ولا يأكل أموال الناس إلا وعنده ما يؤدي إليهم حقوقهم، إن الله عز وجل يقول: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم﴾، ولا يستقرض على ظهره إلا وعنده وفاء، ولو طاف على أبواب الناس فردوه باللقمة واللقمتين والتمرة والتمرتين، إلا أن يكون له ولي يقضي عنه، فيقضي دينه وعدته، ليس منا من ميت إلا جعل الله له وليا يقوم في عدته ودينه من بعده(3)..

4. روي أنّه قال: إذا رأيت الرجل يخرج من ماله في طاعة الله فاعلم أنه أصابه من حلال، وإذا أخرجه في معصية الله فاعلم أنه أصاب من حرام(4)..

5. روي أنّه سئل عن الرجل يخرج ثم يقدم علينا وقد أفاد المال الكثير، فلا ندري اكتسبه من حلال أو حرام، فقال: إذا كان ذلك فانظر في أي وجه يخرج نفقاته، فإن كان ينفق فيما لا ينبغي مما يأثم عليه فهو حرام(5)..

6. روي أنّه قال: تشوفت الدنيا لقوم حلالا محضا فلم يريدوها فدرجوا، ثم تشوفت لقوم حلالا وشبهة فقالوا: لا حاجة لنا في الشبهة، وتوسعوا في الحلال، ثم تشوفت لقوم حراما وشبهة فقالوا: لا حاجة لنا في الحرام وتوسعوا في الشبهة، ثم تشوفت لقوم حراما محضا فيطلبونها فلا يجدونها والمؤمن يأكل في الدنيا بمنزلة المضطر(6)..

7. روي أنّه قال في قول الله عزّوجلّ: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23]: إن كانت أعمالهم لأشد بياضا من القباطي، فيقول الله عزّوجلّ لها: كوني هباء، وذلك أنهم كانوا إذا شرع لهم الحرام أخذوه(7)..

8. روي أنّه قال: السحت ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومهر البغي، والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن(8)..

9. روي أنّه سئل عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحول من منزله فيسكنه، فقال: لا بأس به(9)..

10. روي أنّه سئل عن الرجل يريد أن يشترى دارا أو أرضا أو خادما، ويجعل له جعلا قال لا بأس به(10)..

__________

(1) الكافي: 5/122.

(2) الكافي: 7/411.

(3) الكافي: 5/95.

(4) الكافي: 5/311/33.

(5) الكافي: 5/311/34.

(6) الكافي: 5/125/6.

(7) الكافي: 5/126/10.

(8) الكافي: 5/126/2.

(9) التهذيب: 6/375/1095.

(10) التهذيب: 6/385/1145.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ يعني: ظلما، يقول: لا يدلين أحدكم بخصومة في استحلال مال أخيه وهو يعلم أنه مبطل، فذلك قوله سبحانه: ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا﴾ يعني: طائفة: ﴿مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنكم تدعون الباطل(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، وذلك أن امرأ القيس بن عابس وعبدان بن أشوع الحضرمي اختصما في أرض، فكان امرؤ القيس المطلوب، وعبدان الطالب، فلم يكن لعبدان بينة، وأراد امرؤ القيس أن يحلف، فقرأ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [آل عمران: ٧٧] ـ يعني: عرضا يسيرا من الدنيا ـ إلى آخر الآية، فلما سمعها امرؤ القيس كره أن يحلف، ولم يخاصمه في أرضه، وحكمه فيها؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾... فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنما أنا بشر مثلكم، فلعل بعضكم أعلم بحجته، فأقضي له وهو مبطل)، ثم قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أيما رجل قضيت له بمال امرئ مسلم فإنما هي قطعة من نار جهنم أقطعها فلا تأكلوها)(1)..

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٦٥.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾، يقول: يكون أجدل منه، وأعرف بالحجة، فيخاصمه في ماله بالباطل ليأكل ماله بالباطل، وقرأ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم﴾ [النساء: ٢٩]، قال هذا القمار الذي كان يعمل به أهل الجاهلية(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٢٧٨.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ الحكام: القضاة.. وهو أن يعلم الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي، فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي يحكم له به إذ قد علم أنه ظالم(1)..

__________

(1) التهذيب: 6/219.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ هذا أمر من الله عز وجل لجميع من عرفه، وقبل أمره ونهيه: ألا يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، ولا ينفقونها في ما لا يرضي الله، ولا يستعينون بها على معصيته، وأن يفعلوا فيها ما أمرهم به من طرق الصلاح، مثل: الزكاة، والصدقة، والإنفاق في سبيل الله، وصلة الرحم، وما كان من سبيل الطاعة ـ لله فيه رضاء، ولديه لمن فعله جزاء.

2. قوله سبحانه: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ هو: ما يفعله الناس الآن، وما هم عليه من رشوة الحاكم والعطاء له، حتى يحيف معهم على المحكوم عليه، فيسلم إليهم عند ذلك ما لم يملكوه، ولا بحق أخذوه، وقد رأينا أشرارا من الناس على القضاء، فيتحاكم إلى الحاكم منهم رجلان، فيكون مع أحدهما سعة وجدة، فيرشي الحاكم، فيحكم له على الآخر الفقير، ويظلمه ويتعدى عليه، فيأخذ مالا يملك بحكم ظالم مسترشي، حكم له بما لا يملكه؛ فقد أدلى بماله إلى هذا الحاكم الظالم، وأكل به أموال الناس جورا وظلما، وتعديا وغشما؛ فهذا معنى الآية.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/88.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾:

أ. قيل‏: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولا تدلوا بها إلى الحكام، وقراءة أبىّ‏: (فلا تدلوا بها إلى الحكام)، وجهان: على إضمار لا؛ كقوله: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ [البقرة: 42]، أي ولا تكتموا الحق.

ب. وقيل: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ بما تلبسوا على الحكام، وتقيموا على ذلك حججا باطلة، على ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنّه قال: (إنكم تختصمون إلىّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه المسلم فكأنما قضيت له بقطعة من النار)

2. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ جعل مال أخيه كماله، ونفس أخيه كنفسه بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]، فإذا أكل مال أخيه بالباطل لزمه مثله، جعل كأكل ماله بباطل، وجعل قتل نفس أخيه بالباطل كقتل نفسه بالباطل؛ لأنه إذا قتله بباطل قتل به.

3. من الناس من استدلّ بهذا على أبى حنيفة فيما يقول بمضي العقد إذا شهد الشهود على ذلك عند الحاكم، وقضى به، ثم ظهر أن الشهود شهود زور؛ حيث قال ﴿وَلَا تَأْكُلُوا﴾ وكما روى من الوعيد للأخذ مكان ما أخذ قطعة من نار، فإذا لم يحل ذلك لم يمض العقد، غير أن الأصل عندنا في كل ما لو اجتمع الخصمان على ذلك بسبب جعل ذلك لهما، فإذا قضى الحاكم بذلك السبب نفذ.

4. ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يعنى: طائفة من أموال الناس.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/59.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ أي ولا تدلوا بها عند الحكام وتلقوا بها عندهم، ولا تجادلوا عندهم بالظلم، ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(1)..

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 282.

الديلمي:

قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ المعنى لا تأكلوا أموال بعضكم بعضاً بالظلم والعدوان، ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ أي لا تلقوا بها إلى القضاة بأن يدفع إلى الحاكم رشوة ليحكم له ويذهب بمال أخيه حراماً(1)..

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/98.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: بالغصب والظلم.

ب. الثاني: بالقمار والملاهي.

2. قوله تعالى: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: مأخوذ من إدلاء الدلو إذا أرسلته.

ب. ويحتمل وجها ثانيا معناه: وتقيموا الحجة بها عند الحاكم، من قولهم: قد أدلى بحجته إذا قام بها.

3. في هذا المال قولان:

أ. أحدهما: أنه الودائع وما لا تقوم به بينة من سائر الأموال التي إذا جحدها، حكم بجحوده فيها.

ب. الثاني: أنها أموال اليتامى التي هو مؤتمن عليها.

4. قوله تعالى: ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: لتأكلوا بعض أموال الناس بالإثم، فعبر عن البعض بالفريق.

ب. الثاني: على التقديم والتأخير، وتقديره: لتأكلوا أموال فريق من الناس بالإثم.

5. في (أكله) ثلاثة أوجه:

أ. أحدها: بالجحود.

ب. الثاني: بشهادة الزور.

ج. الثالث: برشوة الحكام.

6. قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: وأنتم تعلمون أنها للناس.

ب. الثاني: وأنتم تعلمون أنها إثم.

7. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في امرئ القيس الكندي، وعبدان بن ربيعة الحضرمي، وقد اختصما في أرض كان عبدان فيها ظالما وامرؤ القيس مظلوما، فأراد أن يحلف، فنزلت هذه الآية، فكفّ عن اليمين.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/249.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن يكون ذلك على جهة الظلم، نحو الخيانة، والسرقة، والغصب، ويكون التقدير لا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل كأكل مال نفسة بالباطل، ومثله‏ ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ ومعناه لا يلمز بعضكم بعضاً، وقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ والمعنى لا يقتل بعضكم بعضا.

ب. الثاني:لا تأكلوه على وجه الهزء واللعب، مثل ما يوجد في القمار والملاهي ونحوها، لأن كل ذلك من أكل المال بالباطل، وقال أبو جعفر عليه السلام ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ يعني باليمين الكاذبة يقتطعون بها الأموال، وقال أبو عبد الله عليه السلام: علم الله أنه سيكون في هذه الأمة حكام يحكمون بخلاف الحق، فنهى الله المؤمنين أن يتحاكموا إليهم، وهم يعلمون أنهم لا يحكمون بالحق.

2. ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ فالحكم هو الخبر الذي يفصل به بين الخصمين يمنع كل واحد من منازعة الآخر، وقيل في معناه قولان:

أ. أحدهما: قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: إنه الوديعة وما تقوم به بيّنة.

ب. الثاني:قال الجبائي: في مال اليتيم الذي في يد الأوصياء، لأنه يدفعه إلى‏ الحاكم إذا طولب به، ليقتطع بعضه، ويقوم له في الظاهر حجة.

3. يقال أدلى فلان بالمال الى الحاكم إذا دفعه إليه، وأدلى فلان بحقه وحجته: إذا هو احتج بها وأحضرها، ودلوت الدلو في البئر أدلوها: إذا أرسلتها في البئر، وأدليتها إدلاء: إذا انتزعتها من البئر، ومنه قوله تعالى: ﴿فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾ أي انتزعها، وقال صاحب العين: أدليتها إذا أرسلتها أيضاً، وأدلى الإنسان شيئاً في مهوى، ويتدلى هو بنفسه، والدالية معروفة.

4. موضع (تدلو) يحتمل أمرين:

أ. أحدهما: أن يكون جزماً على النهى، وعطفاً على قوله: ﴿لَا تَأْكُلُوا﴾

ب. الثاني:أن يكون نصباً على الظرف، ويكون نصبها بإضمار أن كقول الشاعر:

çلا تنه عن خلق وتأتي مثله‏...عار عليك إذا فعلت عظيم‏é

لا تجمع بينهما، والأول أجود.

5. قيل في اشتقاق (تدلو) قولان:

أ. أحدهما: أن التعلق بسبب الحكم كتعلق الدلو بالسبب الذي هو الحبل.

ب. الثاني:أنه يمضي فيه من غير تثبت، كمضى الدّلو في الإرسال من غير تثبت.

6. الباطل هو ما تعلق بالشيء على خلاف ما هو به، خبراً كان أو اعتقاداً أو تخيلا أو ظنّاً.

7. الفريق: القطعة المعزولة من الشيء.

8. الإثم الفعل الذي يستحق به الذم.

9. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ معناه إنكم تعلمون أن ذلك التفريق من المال‏ ليس بحق لكم لأنه أشد في الزجر، وفي الآية دلالة على أن تفرقة الحاكم بشهادة الزور غير جائزة، ولا يستباح به النكاح لأحد الشاهدين كما لا يحلّ ذلك في المال.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/139.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)..:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. أدلى فلان بالمال إلى الحاكم إذا رفعه إليه، وأدلى بحجته: احتج بها، والدلو معروف، ومنه: أَدْلَى دَلْوَهُ وأصله: إرسال الدلو في البئر، يقال: أدليت الدلو: ألقيتها في البئر، ودلوته: استخرجته، واختلفوا مم أخذ: ﴿وَتُدْلُوا﴾:

قيل: إن التعلق بسبب الحكم كتعلق الدلو بالسبب الذي هو الحبل.

وقيل: إنه يمضي فيه من غير تثبيت كمضيِّ الدلو في الإرسال.

ب. الحاكم والقاضي والفتّاح واحد، وجمعه حكام.

ج. أصل الباطل: الذاهب الزائل، يقال: بطل: إذا ذهب.

2. قيل: نزلت الآية في امرئ القيس بن عامر الكندي وعيدان الحضرمي اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أرض فأراد أن يحلف امرؤ القيس، وهو المطلوب، فنزل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله﴾ فلم يحلف، وحَكَّمَ عيدان، فنزل قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا﴾ الآية.

3. ثم بَيَّنَ تعالى شرعه من شرائع الإسلام نسقًا على ما تقدم من إباحة الأكل مبينًا ما يحل منه، وما لا يحل، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾:

أ. قيل: لا يأكل بعضكم مال بعض بالظلم والغصب كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أي بعضكم بعضًا.

ب. وقيل: لا تأكلوا أموالكم بِاللهوواللعب كما يؤخذ في القمار والملاهي.

ج. وقيل: لا تكسبوا المال بالباطل أي بالأسباب المحرمة.

د. وقيل: لا تأكلوها بالمعاصي والرشا.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ أي لا تلقوا بها إلى القضاة:

أ. قيل: الودائع وما لا يقوم عليه بينة، عن ابن عباس والحسن وقتادة.

ب. وقيل: هو مال اليتيم في يد الأوصياء يرفعه إلى الحاكم إذا طولب به ليقطع بعضه ويقوم له في الظاهر حجة، عن أبي علي.

ج. وقيل: يقيم شهادة الزور، عن الكلبي.

د. وقيل: هو أن يحلف ليُذْهِبَ حَقَّهُ، عن الحسن.

هـ. وقيل: هو أن يدفع إلى الحاكم رشوة ليحكم به، ويذهب بالمال حرامًا.

و. والصحيح أن يحمل على الجميع؛ لأنها أكل بالباطل.

5. ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا﴾ قطعة ﴿مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ﴾ بالحرام الذي يستحق عليه العقاب، فأكله إثم ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾:

أ. قيل: تعلمون أن ذلك لا يحل لكم، وأنتم مبطلون، وهذا أشد في الزجر.

ب. وقيل: تعلمون ما عليكم في أخذه من العقوبة.

6. تدل الآيات الكريمة على:

أ. تحريم أكل مال الغير من غير رضاه نحو الغصب والسرقة ونحوها؛ لأن كله أكل بالباطل.

ب. تحريمه وإن كان برضاه إذا كان بجهة محرمة كالربا والقمار ومهر البغي وكسب النائحة والمغنية وحُلْوَانِ الكاهن؛ لأن جميعها يدخل في أنها أكل بالباطل.

ج. أن سائر التصرفات فيها محظور كما يحرم الأكل؛ لأنه لو حل سائر التصرفات لحل الأكل أيضًا، وإنما خص الأكل بالذكر؛ لأنه معظم الانتفاع، يدل عليه أن من الأموال ما لا يصح أكله فلا بد من حمله على ما ذكرنا.

د. تحريم أكل مال نفسه في وجه يحرم كشرب الخمر والإنفاق في الفسوق؛ فلذلك أكده بقوله: ﴿بِالْبَاطِلِ﴾

هـ. قوله: ﴿وَتُدْلُوا﴾ يحتمل الرفع، ويحتمل الدفع، وكل ممنوع عنه إذا كان بالباطل.

و. أن حكم الحاكم في الأموال لا يحل ولا يحرم، وقد وردت السنة والإجماع عليه، واختلفوا هل تدل الآية على مثل ذلك في العقود والفسوخ كالنكاح والطلاق والبيع والإقالة:

فمنهم من قال: تدل ـ والحكم في الجميع واحد ـ في أن حكم الحاكم لا يؤثر، وهو قول أهل المدينة والشافعي.

ومنهم من قال: لا تدل، والعقود خلاف الأموال، فينفذ حكمه ظاهرًا وباطنًا، وهو قول أبي حنيفة وجماعة قالوا: للحاكم ولاية في العقود دون الأموال ويؤيدون بذلك خبر عَلِيٍّ حين قال: (شاهداك زوجاك) لَمَّا قالت الخصم: إنهما شهدا بالزور فزوجني منه.

ز. إثبات حُكَّامِ، وأن لحكمهم تأثيرًا لولاه لم يكن للرفع إليهم ولا حكمهم توصلاً إلى أكل مال الغير معنى.

ح. وجوب إقامة الأئمة؛ لأنهم الحكام، أو الحكام من قبلهم.

ط. يدل قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ على أن الإقدام على المعصية مع العلم أعظم، وكذلك مع التمكن من العلم، وإن كان للعلم الضروري خصوصية في ذلك.

7. ﴿وَتُدْلُوا﴾ قيل: محله جزم بالنهي، كأنه قيل: ولا تدلوا، وكذلك في حرف أُبيٍّ بإثبات: ﴿لَا﴾، وقيل: موضعه نصب، ثم اختلفوا فقيل: على الظرف، وقيل بإضمار: ﴿إِنَّ﴾ الخفيفة، وقيل: نصب على الجواب بالواو، عن الأخفش.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/781.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)..:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الباطل: الذاهب الزائل، يقال: بطل إذا ذهب، وقيل: الباطل هو ما تعلق بالشئ على خلاف ما هو به، خبرا كان أو اعتقادا أو ظنا أو تخيلا.

ب. الحكم هو الذي يفصل بين الخصمين، يمنع كل واحد من منازعة الآخر.

ج. يقال: أدلى فلان بحجته إذا أقامها، وهو من قولهم أدليت الدلو في البئر إذا أرسلتها، ودلوتها إذا أخرجتها، فمعنى قولهم أدلى بحجته: أرسلها، وأتى بها على صحة، وفي تشبيه الخصومة بإرسال الدلو في البئر وجهان أحدهما:

إنه تعلق بسبب الحكم، كتعلق الدلو بالسبب الذي هو الحبل.

الثاني: إنه يمضي فيه من غير تثبيت، كمضي الدلو في الإرسال من غير تثبيت.

د. الفريق: القطيعة المعزولة من الجملة سواء كان من الناس، أو من غيرهم، والإثم: الفعل الذي يستحق به الذم

2. ثم بين سبحانه شريعة من شرائع الاسلام، نسقا على ما تقدم من بيان الحلال والحرام، فقال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾:

أ. قيل: أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بالغصب والظلم والوجوه التي لا تحل، كقوله ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أي ولا يقتل بعضكم بعضا.

ب. وقيل: معناه لا تأكلوا أموالكم باللهو واللعب، مثل ما يؤخذ في القمار والملاهي، لأن كل ذلك من الباطل.

ج. وروي عن أبي جعفر أنه يعني بالباطل اليمين الكاذبة، يقتطع بها الأموال.

د. وروي عن أبي عبد الله قال: كانت قريش يقامر الرجل في أهله وماله، فنهاهم الله.

هـ. والأولى حمله على الجميع، لأن الآية تحتمل الكل.

3. ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾، وتلقوا بها إلى القضاة، وقيل فيه أقوال:

أ. أحدها: إنه الودائع، وما لا يقوم عليه بينة، عن ابن عباس والحسن وقتادة.

ب. ثانيها: إنه مال اليتيم في يد الأوصياء، لأنهم يدفعونه إلى الحكام إذا طولبوا به، ليقطعوا بعضه، وتقوم لهم في الظاهر حجة، عن الجبائي.

ج. ثالثها: إنه ما يؤخذ بشهادة الزور، عن الكلبي.

د. الأولى أن يحمل على الجميع.

4. ﴿لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم﴾ أي لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالفعل الموجب للإثم، بان يحكم الحاكم بالظاهر، وكان الأمر في الباطن بخلافه، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أن ذلك الفريق من المال ليس بحق لكم، وأنتم مبطلون، وهذا أشد في الزجر، وقال أبو عبد الله عليه السلام: علم الله أنه سيكون في هذه الأمة حكام يحكمون بخلاف الحق، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يتحاكموا إليهم، وهم يعلمون أنهم لا يحكمون بالحق، وهذا يدل على أن الإقدام على المعصية مع العلم، أو مع التمكن من العلم، أعظم.

5. ﴿وَتُدْلُوا﴾: محله جزم على النهي عطفا على قوله ﴿وَلَا تَأْكُلُوا﴾،ويحتمل أن يكون نصبا على الظرف، ويكون نصبه بإضمار ﴿إِنَّ﴾ كقول الشاعر:

çلا تنه عن خلق، وتأتي مثله،...عار عليك إذا فعلت عظيمé

أي: لا تجمع بينهما

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/506.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. سبب نزولها: أنّ امرأ القيس بن عابس وعبدان الحضرميّ، اختصما في أرض، وكان عبدان هو الطّالب ولا بيّنة له، فأراد امرؤ القيس أن يحلف، فقرأ عليه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، فكره أن يحلف، ولم يخاصم في الأرض، فنزلت هذه الآية، هذا قول جماعة، منهم: سعيد بن جبير.

2. معنى الآية: لا يأكل بعضكم مال بعض، كقوله: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾، قال القاضي أبو يعلى: والباطل على وجهين:

أ. أحدهما: أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه، كالسّرقة، والغصب، والخيانة.

ب. الثاني: أن يأخذه بطيب نفسه، كالقمار، والغناء، وثمن الخمر، وقال الزجّاج: الباطل: الظّلم.

3. ﴿وَتُدْلُوا﴾ أصله في اللغة من: أدليت الدّلو: إذا أرسلتها لتملأها، ودلوتها؛ إذا أخرجتها، ومعنى أدلى فلان بحجّته: أرسلها، وأتى بها على صحّة، فمعنى الكلام: تعملون على ما يوجبه إدلاء الحجّة، وتخونون في الأمانة، وأنتم تعلمون أنّ الحجّة عليكم في الباطن.

4. في هاء ﴿بِهَا﴾ قولان:

أ. أحدهما: ضعيف، أنّها ترجع إلى الأموال، كأنّه قال لا تصانعوا ببعضها جورة الحكّام.

ب. الثاني: أنّها ترجع إلى الخصومة.

5. سؤال وإشكال: كيف أعاد ذكر الأكل فقال: ﴿ولا تَأْكُلُوا لِتَأْكُلُوا﴾؟ والجواب: أنه وصل اللفظة الأولى بالباطل، والثانية بالإثم، فأعادها للزّيادة في المعنى، ذكره ابن الأنباريّ.

__________

(1) زاد المسير: 1/152.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. الحكم الثامن من الأحكام المذكورة في هذه السورة: حكم الأموال‏، وقد مثلوا قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ﴾ بقوله: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: 11] وهذا مخالف لها، لأن أكله لمال نفسه بالباطل يصح كما يصح أكله مال غيره.

2. ذكر أبو حامد الغزالي في كتاب الإحياء أصناف المال من حيث الحرمة، فذكر أن المال إنما يحرم لمعنى في عينه أو لحال في جهة اكتسابه:

أ. الأول: الحرام لصفة في عينه.. والأموال إما أن تكون من المعادن أو من النبات، أو من الحيوانات:

أما المعادن وهي أجزاء الأرض فلا يحرم شيء منه إلا من حيث يضر بالأكل، وهو ما يجري مجرى السم.

أما النبات فلا يحرم منه إلا ما يزيل الحياة والصحة أو العقل، فمزيل الحياة السموم، ومزيل الصحة الأدوية في غير وقتها، ومزيل العقل الخمر والبنج وسائر المسكرات.

أما الحيوانات فتنقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل، وما يحل إنما يحل إذا ذبح ذبحا شرعيا ثم إذا ذبحت فلا تحل بجميع أجزائها بل يحرم منها الفرث والدم، وكل ذلك مذكور في كتب الفقه.

ب. الثاني: ما يحرم لخلل من جهة إثبات اليد عليه، فأخذ المال إما أن يكون باختيار المتملك، أو بغير اختياره كالإرث، والذي باختياره إما أن يكون مأخوذا من المالك كأخذ المعادن، وإما أن يكون مأخوذا من مالك، وذلك إما أن يؤخذ قهرا أو بالتراضي، والمأخوذ قهرا إما أن لسقوط عصمة الملك كالغنائم أو لاستحقاق الأخذ كزكوات الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم، والمأخوذ تراضيا إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصدق والأجرة، وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية فيحصل من هذا التقسيم أقسام ستة:

الأول: ما يؤخذ من غير مالك كنيل المعادن، وإحياء الموت، والاصطياد، والاحتطاب، والاستقاء من الأنهار، والاحتشاش، فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصا بذي حرمة من الآدميين.

الثاني: المأخوذ قهرا ممن لا حرمة له، وهو الفيء، والغنيمة، وسائر أموال الكفار والمحاربين، وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منه الخمس، وقسموه بين المستحقين بالعدل، ولم يأخذوه من كافر له حرمة وأمان وعهد.

الثالث: ما يؤخذ قهرا باستحقاق عند امتناع من عليه فيؤخذ دون رضاه، وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق، وتم وصف المستحق واقتصر على القدر المستحق.

الرابع: ما يؤخذ تراضيا بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط اللفظين؛ أعني الإيجاب والقبول مما يعتد الشرع به من اجتناب الشرط المفسد.

الخامس: ما يؤخذ بالرضا من غير عوض كما في الهبة والوصية والصدقة إذا روعي شرط المعقود عليه، وشرط العاقدين، وشرط العقد، ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره.

السادس: ما يحصل بغير اختياره كالميراث، وهو حلال إذا كان الموروث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال، ثم كان ذلك بعد قضاء الدين، وتنفيذ الوصايا، وتعديل القسمة بين الورثة، وإخراج الزكاة والحج والكفارة إن كانت واجبة، فهذا مجامع مداخل الحلال، وكتب الفقه مشتملة على تفاصيلها فكل ما كان كذلك كان مالا حلالا، وكل ما كان بخلافه كان حراما.

3. المال إما أن يكون لغيره أو له:

أ. فإن كان لغيره كانت حرمته لأجل الوجوه الستة المذكورة.

ب. وإن كان له فأكله بالحرام أن يصرف إلى شرب الخمر والزنا واللواط والقمار أو إلى السرف المحرم.

4. كل هذه الأقسام داخلة تحت قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ وقد كرر الله تعالى هذا النهي في مواضع من كتابه فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً﴾ [النساء: 29]، وقال: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ [النساء: 10]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 278]، ثم قال ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: 279]، ثم قال ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ‏﴾ [البقرة: 279]، ثم قال ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 275] جعل آكل الربا في أول الأمر مؤذنا بمحاربة الله، وفي آخره متعرضا للنار.

5. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا﴾ ليس المراد منه الأكل خاصة، لأن غير الأكل من التصرفات كالأكل في هذا الباب لكنه لما كان المقصود الأعظم من المال إنما هو الأكل وقع التعارف فيمن ينفق ماله أن يقال أنه‏ أكله فلهذا السبب عبر الله تعالى عنه بالأكل.

6. ﴿الْبَاطِلَ﴾ في اللغة الزائل الذاهب، يقال: بطل الشيء بطولا فهو باطل، وجمع الباطل بواطل، وأباطيل جمع أبطولة، ويقال: بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو.

7. ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ الإدلاء مأخوذ من إدلاء الدلو، وهو إرسالك إياها في البئر للاستقاء يقال، أدليت دلوي أدليها إدلاء فإذا استخرجتها قلت دلوتها قال تعالى: ﴿فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾ [يوسف: 19]، ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل أدلاء، ومنه يقال للمحتج: أدلى بحجته، كأنه يرسلها ليصير إلى مراده كإدلاء المستقي الولد ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلان يدلى إلى الميت بقرابة أو رحم، إذا كان منتسبا إليه فيطلب الميراث بتلك النسبة، طلب المستحق بالدلو الماء، إذا عرفت هذا فنقول: أنه داخل في حكم النهي، والتقدير: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولا تدلوا إلى الحكام، أي لا ترشوها إليهم لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالباطل.

8. في تشبيه الرشوة بالإدلاء وجهان:

أ. أحدهما: أن الرشوة رشاء الحاجة، فكما أن الدلو المملوء من الماء يصل من البعيد إلى القريب بواسطة الرشاء فالمقصود البعيد يصير قريبا بسبب الرشوة.

ب. الثاني: أن الحاكم بسبب أخذ الرشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبت كمضي الدلو في الإرسال.

9. ذكر المفسرون وجوها للإدلاء:

أ. أحدها: قال ابن عباس والحسن وقتادة: المراد منه الودائع وما لا يقوم عليه بينة.

ب. ثانيها: أن المراد هو مال اليتيم في يد الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحاكم ليبقى عليهم بعضه.

ج. ثالثها: أن المراد من الحاكم شهادة الزور، وهو قول الكلبي.

د. رابعها: قال الحسن: المراد هو أن يحلف ليذهب حقه.

هـ. خامسها: هو أن يدفع إلى الحاكم رشوة، وهذا أقرب إلى الظاهر، ولا يبعد أيضا حمل اللفظ على الكل، لأنها بأسره أكل بالباطل.

10. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وأنتم تعلمون أنكم مبطلون، ولا شك أن الإقدام على القبيح مع العلم بقبحه أقبح، وصاحبه بالتوبيخ أحق، روي عن أبي هريرة أنّه قال اختصم رجلان إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: عالم بالخصومة وجاهل بها، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للعالم، فقال من قضى عليه: يا رسول الله والذي لا إله إلا هو إني محق فقال: إن شئت أعاوده، فعاوده فقضى للعالم، فقال المقضي عليه مثل ما قال أولا ثم عاوده ثالثا، ثم قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من اقتطع حق امرئ مسلم بخصومته فإنما اقتطع قطعة من النار)، فقال العالم المقضي له: يا رسول الله إن الحق حقه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من اقطع بخصومته وجد له حق غيره فليتبوأ مقعده من النار)

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 5/279.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ﴾ قيل: إنه نزل في عبدان ابن أشوع الحضرمي، ادعى ملا امرئ القيس الكندي واختصما إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنكر امرؤ القيس وأراد أن يحلف فنزلت الآية، فكف عن اليمين وحكم عبدان في أرضه ولم يخاصمه.

2. الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، كهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك، ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما باع لان الغبن كأنه هبة.

3. أضيفت الأموال إلى ضمير المنتهى لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه، كما قال ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾، وقال قوم: المراد بالآية ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ أي في الملاهي والقيان والشرب والبطالة، فيجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين.

4. من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقتضى القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضى بالظاهر، وهذا إجماع في الأموال، وإن كان عند أبى حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنا، وإذا كان قضاء القاضي لا يغير حكم الباطن في الأموال فهو في الفروج أولى، وروى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار ـ في رواية ـ فليحملها أو يذرها)، وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء، وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن، وسواء كان ذلك في الأموال والدماء والفروج، إلا ما حكى عن أبى حنيفة في الفروج، وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما لعدالتهما عنده فإن فرجها يحل لمتزوجها ـ ممن يعلم أن القضية باطل ـ بعد العدة، وكذلك لو تزوجها أحد الشاهدين جاز عنده، لأنه لما حلت للأزواج في الظاهر كان الشاهد وغيره‏ سواء، لان قضاء القاضي قطع عصمتها، وأحدث في ذلك التحليل والتحريم في الظاهر والباطن جميعا، ولولا ذلك ما حلت للأزواج، واحتج بحكم اللعان وقال: معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب، الذي لو علم الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما، فلم يدخل هذا في عموم قوله عليه السلام: (فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه) الحديث.

5. هذه الآية مستمك كل مؤالف ومخالف في كل حكم يدعونه لأنفسهم بأنه لا يجوز، فيستدل عليه بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، فجوابه أن يقال له: لا نسلم أنه باطل حتى تبينه بالدليل، وحينئذ يدخل في هذا العموم، فهي دليل على أنه الباطل في المعاملات لا يجوز، وليس فيها تعيين الباطل.

6. ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ الباطل في اللغة: الذاهب الزائل، يقال: بطل يبطل بطولا وبطلانا، وجمع الباطل بواطل، والأباطل جمع البطولة، وتبطل أي اتبع اللهو، وأبطل فلان إذا جاء بالباطل، وقوله تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ﴾ قال قتادة: هو إبليس، لا يزيد في القرآن ولا ينقض، وقوله: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ يعنى الشرك، والبطلة: السحرة.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾:

أ. قيل: يعنى الوديعة وما لا تقوم فيه بينة، عن ابن عباس والحسن.

ب. وقيل: هو مال اليتيم الذي في أيدي الأوصياء، يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقطع بعضه وتقوم له في الظاهر حجة.

8. ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ قال الزجاج: تعملون ما يوجبه ظاهر الأحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق، يقال: أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به، تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر، يقال: أدلى دلوه: أرسلها، ودلاها: أخرجها، وجمع الدلو والدلاء: أدل ودلاء ودلى، والمعنى في الآية:

أ. قيل: لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الأدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة، وهو كقوله: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾، وهو من قبيل قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن،

ب. وقيل: المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها، فالياء الزاق مجرد، قال ابن عطية: وهذا القول يترجح، لان الحكام مظنة الرشاء إلا من عصم وهو الأقل، وأيضا فإن اللفظين متناسبان: تدلوا من إرسال الدلو، والرشوة من الرشاء، كأنه يمد بها ليقضى الحاجة، ويقوى هذا قوله: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا﴾ تدلوا في موضع جزم عطفا على تأكلوا كما ذكرنا، وفى مصحف أبى (ولا تدلوا) بتكرار حرف النهى، وهذه القراءة تؤيد جزم ﴿تُدْلُوا﴾ في قراءة الجماعة، وقيل: ﴿تُدْلُوا﴾ في موضع نصب على الظرف، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه (أن) مضمرة، الهاء في قوله ﴿بِهَا﴾ ترجع إلى الأموال، وعلى القول الأول إلى الحجة ولم يجر لها ذكر، فقوى القول الثاني لذكر الأموال.

9. في الصحاح: (والرشوة معروفة، والرشوة بالضم مثله، والجمع رشى ورشى، وقد رشاه يرشوه، وارتشى: أخذ الرشوة، واسترشى في حكمه: طلب الرشوة عليه)، فالحكام اليوم عين الرشاء لا مظنته، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

10. ﴿لِتَأْكُلُوا﴾ نصب بلام كي، ﴿فَرِيقًا﴾ أي قطعة وجزاء، فعبر عن الفريق بالقطعة والبعض، والفريق: القطعة من الغنم تشذ عن معظمها، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير لتأكلوا أموال فريق من الناس.

11. ﴿بِالْإِثْمِ﴾ معناه بالظلم والتعدي، وسمي ذلك إثما لما كان الإثم يتعلق بفاعله، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي بطلان ذلك وإثمه، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية.

12. اتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو كثر أنه يفسق بذلك، وأنه محرم عليه أخذه، خلافا لبشر بن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا: إن المكلف لا يفسق إلا بأخذ مائتي درهم، ولا يفسق بدون ذلك، وخلافا لابن الجبائي حيث قال إنه يفسق بأخذ عشرة دراهم، ولا يفسق بدونها، وخلافا لابن الهذيل حيث قال يفسق بأخذ خمسة دراهم، وخلافا لبعض قدرية البصرة حيث قال يفسق بأخذ درهم فما فوق، ولا يفسق بما دون ذلك، وهذا كله مردود بالقرآن والسنة وباتفاق علماء الامة، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) الحديث، متفق على صحته.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏2/338.

المنصور بالله:

قال الإمام القاسم بن محمد (ت 1029 هـ): ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ لا تأخذوها، وتذهبوا بها، وتفوتوها على أهلها(1)..

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/89.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. هذا يعمّ جميع الأمة وجميع الأموال، لا يخرج عن ذلك إلا ما ورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه، فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل، ومأكول بالحلّ لا بالإثم، وإن كان صاحبه كارها كقضاء الدين إذا امتنع منه من هو عليه، وتسليم ما أوجبه الله من الزكاة ونحوها، ونفقة من أوجب الشرع نفقته، والحاصل: أن ما لم يبح الشرع أخذه من مالكه؛ فهو مأكول بالباطل، وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغيّ، وحلوان الكاهن، وثمن الخمر.

2. الباطل في اللغة: الذاهب الزائل، وقوله: ﴿وَتُدْلُوا﴾ مجزوم عطفا على تأكلوا، فهو من جملة المنهي عنه، يقال: أدلى الرجل بحجته؛ أو بالأمر الذي يرجو النجاح به؛ تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر، يقال: أدلى دلوه: أرسلها، والمعنى: أنكم لا تجمعوا بين أكل الأموال بالباطل وبين الإدلاء بها إلى الحكام بالحجج الباطلة.

3. في هذه الآية دليل أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام، ولا يحرم الحلال، من غير فرق بين الأموال والفروج، فمن حكم له القاضي بشيء؛ مستندا في حكمه إلى شهادة زور؛ أو يمين فجور؛ فلا يحلّ له أكله، فإن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وهكذا إذا رشى الحاكم فحكم له بغير الحق؛ فإنه من أكل أموال الناس بالباطل، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم الحاكم لا يحلّل الحرام ولا يحرّم الحلال، وقد روي عن أبي حنيفة ما يخالف ذلك، وهو مردود، لكتاب الله تعالى ولسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما في حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حقّ أخيه بشيء فلا يأخذه فإنّما أقطع له قطعة من النار) وهو في الصحيحين وغيرهما.

4. ﴿فَرِيقًا﴾ أي: قطعة أو جزءا أو طائفة، فعبّر بالفريق عن ذلك، وأصل الفريق: القطعة من الغنم تشذ عن معظمها، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: لتأكلوا أموال فريق من الناس بالإثم، وسمي الظلم والعدوان: إثما، باعتبار تعلقه بفاعله.

5. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي: حال كونكم عالمين أن ذلك باطل ليس من الحق في شيء، وهذا أشدّ لعقابهم وأعظم لجرمهم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/217.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ قال ابن جرير: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، فجعل بذلك آكل مال أخيه بالباطل كالآكل مال نفسه بالباطل، ونظير ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: 11]، وقوله‏ ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]، بمعنى: لا يلمز بعضكم بعضا ولا يقتل بعضكم بعضا، لأنه تعالى جعل المؤمنين إخوة، وكذلك تفعل العرب تكني عن أنفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها لأن أخا الرجل عندها كنفسه؛ فتأويل الكلام: ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل، وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه.

2. ﴿بَيْنَكُمْ﴾: إما ظرف لـ ﴿تَأْكُلُوا﴾ بمعنى: لا تتناولوها فيما بينكم بالأكل، أو حال من (الأموال) أي: لا تأكلوها كائنة بينكم ودائرة بينكم.

3. ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ في موضع نصب ب ﴿تَأْكُلُوا﴾ أي: لا تأخذوها بالسبب بالباطل ـ أي الوجه الذي لم يبحه الله تعالى ـ ويجوز أن يكون حالا من (الأموال) أي: لا تأكلوها متلبسة بالباطل، أو من الفاعل في (تأكلوا) أي: لا تأكلوها مبطلين أي متلبسين بالباطل.

4. ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ أي: تخاصموا بها ـ أي: بأموالهم ـ إلى الحكام؛ مجزوم عطفا على النهي، ويؤيده قراءة أبيّ (ولا تدلوا) بإعادة (لا الناهية) والإدلاء: مأخوذ من إدلاء الدلو وهو إرسالها في البئر للاستقاء ثم استعير لكلّ إلقاء قول أو فعل توصّلا إلى شيء؛ ومنه يقال للمحتجّ: أدلى بحجّته، كأنه يرسلها ليصير إلى مراده، كإدلاء المستقي الدلو ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلان يدلي إلى الميت بقرابة أو رحم، إذا كان منتسبا إليه، فيطلب الميراث بتلك النسبة ف (الباء) صلة الإدلاء تجوزا به عن الإلقاء كما ذكرنا، والمعنى: لا تلقوا أمرها ـ والحكومة فيها ـ إلى الحكام، أو لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ليعينوكم على اقتطاع أموال الناس.

5. لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ الراشي والمرتشي والرائش ـ وهو الواسطة الذي يمشي بينهما ـ رواه أهل السنن، وذلك لأن وليّ الأمر إذا أكل هذا السحت ـ أعني الرشوة المسماة بالبرطيل، وتسمى أحيانا بالهدية وغيرها ـ احتاج أن يسمع الكذب من الشهادة الزور وغيرها مما فيه إعانة على الإثم والعدوان؛ ووليّ الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هذا مقصود الولاية، وإذا كان الوالي يمكّن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضدّ المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوّك فأعان عدوّك عليك، وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد به في سبيل الله فقاتل المسلمين.

6. ﴿الْحُكَّامِ﴾: جمع حاكم وهو منفذ الحكم بين الناس كالحكم، محرّكة، ﴿لِتَأْكُلُوا﴾ أي: بواسطة حكمهم الفاسد، وبالتحاكم إليهم ﴿فَرِيقًا﴾ أي: طائفة وقطعة ﴿مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ﴾ بما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة وحكمهم الفاسد، فإنه لا يفيد الحلّ والظلم، فـ (الباء) للسببية، متعلّقها ﴿لِتَأْكُلُوا﴾، وجوز كونها للمصاحبة، فالمجرور حال من فاعل ﴿لِتَأْكُلُوا﴾ أي: متلبسين بالإثم.

7. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي: أنكم على الباطل، وارتكاب المعصية ـ مع العلم بقبحها ـ أقبح، وصاحبه أحق بالتوبيخ، فالتقييد لكمال تقبيح حالهم، قال الراغب: أي: إن خفي ظلمكم على الناس فإنه لا يخفى عليكم، تنبيها على أنّ الاعتبار بما عليه الأمر في نفسه، وما علمتم منه لا بما يظهر.

8. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بما يتوافق مع ما ذكره سابقا.

9. دلّت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أنّ حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر، فلا يحل في نفس الأمر حراما هو حلال، ولا يحرم باطلا هو حلال، وإنما هو ملزم في الظاهر، فإن طابق في نفس الأمر فذاك، وإلّا فللحاكم أجره، وعلى المحتال وزره، ولهذا قال تعالى في آخر الآية ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي: تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه في كلامكم، قال قتادة: اعلم يا بني آدم..! أنّ قضاء القاضي لا يحل حراما، ولا يحقّ لك باطلا، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب، واعلموا أنّ من قضى له بباطل أنّ خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضى به للمبطل على المحق في الدنيا.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/52.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَاكُلُواْ أَمْوَالَكُم﴾ أي: لا يأكلْ بعضكم مال بعض لقوله: ﴿أَمْوَالَكُم﴾، إذ لا يُنهى الإنسان عن أكل ماله، ولقوله: ﴿بَيْنَكُمْ﴾ ثابتة بينكم، معتبرة بأخذك منه وبأخذه منك.

2. ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ الوجه الباطل، وهو الطريق الذي يبطل، أي: لا يجيز العقل الصحيح استعماله ولا الشرع، أو يجيزه ولا يجيزه الشرع، كالرشوة والربا، وما يؤخذ على الزنى أو الكهانة، وكالسرقة والقمار والغصب، والتطفيف وأجرة الغناء وثمن الخمر والملاهي، وشهادة الزور والخيانة في الأمانة، والمراد بالأكل الأخذ ولو بلا إتلاف؛ لأنَّ حبس المال عن مالكه بلا حقٍّ حرام، فيدخل الإتلاف بالأكل في البطن، وإعطاؤها وإفسادها بالأولى، وإذا أكل بعضهم مال الآخر ولم يأكل الآخر ماله فقد دخل في الآية؛ لأنَّ كلَّ واحد نهي أن يأكل مال الآخر، وهذا معنى الآية، وإن قلنا معناها: جمع الأكْليْنِ أن تأكل ماله ويأكل مالك، فأكل أحدهما مال الآخر دون أن يأكل الآخر ماله مستفاد من النصِّ.

3. ﴿وَتُدْلُواْ بِهَا﴾ تلقوها، والباء صلة للتأكيد وللسببيَّة، أي: لا تتوصَّلوا بها إلى الحكَّام، أو للآلة، والعطف على (تَاكُلُوا)، أي: ولا تدلوا، أو الفعل منصوب والواو للمعيَّة، والأوَّل أولى لأنَّه صريح في النهي عن كلٍّ من الأكل والإدلاء، ﴿إِلَى الْحُكَّامِ﴾، أي: ولا تدلوا بحكومتها بظاهر الأمر أو بحكم الجور، فحُذف المضاف، ويدلُّ لذلك قوله: ﴿إِلَى الْحُكَّامِ﴾، إذ لا معنى لإلقائها إليهم، وإنَّما المراد الترافع بها إليهم بخصام الفجور ليأخذها أو بعضَها، أو يثقل الخصامُ على صاحبها فيتركها، أو لا تلقوها رشوة إليهم، وأصل الإدلاء: إرسال الدلو في البئر، ثمَّ استعمل لمطلق التوصُّل إلى الشيء.

4. ﴿لِتَاكُلُواْ﴾ لتأخذوا ﴿فَرِيقًا﴾ طائفة، هي كلُّ ما خاصم فيه أو بعضه، وعلى كلِّ حال هي من أموال الناس كما قال: ﴿مِنَ اَمْوَالِ النَّاسِ بِالاِثْمِ﴾ بسبب الإثم، فيتعلَّق بـ (تَاكُلُوا)، أو معه فيتعلَّق بمحذوف حال من الواو، والإثم: هو نفس شهادة الزور، واليمين الكاذبة، فإنَّ شهادة الزور إثم لشاهدها، ولا يحلُّ للمشهود له الأكل بها ﴿وأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنَّه لا حقَّ لكم في ذلك ودعواكم باطلة، وارتكاب الشيء مع عدم العلم بأنَّه معصية قبيح، ومع العلم أقبح.

5. وفي الآية أنَّ حكم الحاكم لا يُحلُّ باطلا، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّما أنا بشر مثلُكم، وإنَّكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم يكون ألحَنَ بحجَّته من بعضٍ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حقِّ أخيه، فلا يأخذنَّه فإنَّما أقطع له قطعة من نار)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من حكمت له بحقِّ صاحبه فإنَّما أجذوا له جَذوة من نار).

6. نزلت الآية في شأن أرض في يد امرئ القيس الكندي، ـ من كندة بن ثور، قبيلة من اليمن ـ يدَّعيها عَبْد الحضرميُّ ـ وفي رواية: ربيعة بن عبدان الحضرميُّ ـ ولا بيِّنة له، فحكم صلّى الله عليه وآله وسلّم على امرئ القيس باليمين، فأراد أن يحلف، فقرأ صلّى الله عليه وآله وسلّم : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ الآية [آل عمران: 77]، فترك اليمين، فسلَّم الأرض إلى عبدان، وأرضًا أخرى مكان ما أكل من غلَّتها، وذلك هو الحقُّ، وعن أبي حنيفة: حكم الحاكم نافذ ظاهرًا وباطنًا، فهو كعقد عقده، ولعلَّه لا يصحُّ عنه ذلك إلَّا حيث لا يصل المحكوم له إلى إدراك ذلك، وإلَّا كان ذلك منه تحنُّفًا عن الحقِّ إلى الضلال، وَأَمَّا ما روي عن عليٍّ أنَّ رجلاً خطب امرأة هو دونها فأبت، فأقام شاهدين، فقال: قد زوَّجك الشاهدان، فمعناه أنَّك زوجه في الحكم الظاهر لشهادة الشاهدين، والغيب لله سبحانه.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/331.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. الكلام كما تقدم في سرد الاحكام العملية، ولما فرغ من احكام الصيام وفيها حكم اكل الانسان مال نفسه في وقت دون وقت مهد لحكم اكل مال غيره بذكر لحدود العامة والنهي عن قربها، ثم قال‏ ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾

2. الخطاب لعامة المكلفين والمراد لا يأكل بعضكم مال بعض، واختار لفظ ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ وهو يصدق بأكل الانسان مال نفسه للإشعار بوحدة الامة وتكافلها، وللتنبيه على ان احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك، لان استحلال التعدي واخذ المال بغير حق يعرض كل مال للضياع والذهاب، ففي هذه الاضافة البليغة تعليل للنهي، وبيان لحكمة الحكم، كأنه قال لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، لان ذلك جناية على نفس الآكل، من حيث هو جناية على الامة التي هو احد اعضائها، لا بد ان بصيبه سهم من كل جناية تقع عليها، فهو باستحلاله مال غيره يجرّئ غيره على استحلال اكل ماله عند الاستطاعة، فما ابلغ هذا الايجاز! وما اجدر هذه الكلمة بوصف الاعجاز.

3. في الاضافة معنى آخر قاله بعضهم: وهو التنبيه على انه يحب على الانسان ان ينفق مال نفسه في سبيل الحق وان لا يضيعه في سبل الباطل المحرمة، ونظر فيه آخر بما رضيه محمد عبده فقال: انه صحيح في ذاته ولكن فهمه من الآية بعيد لقوله‏ ﴿بَيْنَكُمْ﴾ فهو صريح في ان المراد ما يقع به التعامل بين اثنين فأكثر.

4. المراد بالأكل مطلق الاخذ والتعبير عن الاخذ بالأكل معروف في اللغة تجوزوا فيه قبل نزول القرآن، ومنشؤه ان الاكل اعم الحاجات من المال واكثرها، وان كان بعض الناس يفضل غير الاكل من الاهواء ينفق فيه المال، فان هذا لا ينفي ان الحاجة إلى الاكل وتقويم البنية اعظم وأعم، وأكثر ما يستعمل أكل المال في مقام أخذه بالباطل وقد يستعمل في غيره‏.

5. الباطل هو ما لم يكن في مقابلة شيء حقيقي، وهو من البطل والبطلان، أي الضياع والخسار، فقد حرمت الشريعة أخذ المال بدون مقابلة حقيقية يعتد بها، ورضاء من يؤخذ منه، وكذلك إنفاقه في غير وجه حقيقي نافع‏، قال محمد عبده: ومن ذلك تحريم الصدقة على القادر على كسب يكفيه وإن تركه حتى نزل به الفقر اعتمادا على السؤال، ونقول انها كما حرمت إعطاءه حرمت عليه الاخذ إذا هو أعطاه معط، فلا يحل لمسلم أن يقبل صدقة وهو غير مضطر اليها، ولا للمضطر إلا إذا كان عاجزا عن إزالة اضطراره بسعيه وكسبه‏.

6. أبلغ من هذا وذاك ما ذكره الفقهاء من انه لا يجب على العاري الذي لا يجد ما يستر عورته في الصلاة أن يستعير ثوبا يصلي فيه أو يقبله صدقة ممن يبذله له لما في ذلك من المنة التي لا يكلفه الاسلام احتمالها، وله أن يصلي عاريا.

7. ومنه تحريم الربا لأنه أكل لأموال الناس بدون مقابل من صاحب المال المعطي، ومثل لذلك بما يقع في الناس كثيرا من أكل الربا أضعافا مضاعفة، وفرق بينه وبين السلم، فروح الشريعة تعلمنا بمثل هذه الآية أنه يطلب من الانسان أن يكتسب المال من الطرق الصحيحة المسروعة التي لا تضر أحدا.

8. إنما أجمل وأوجز القرآن في الباطل لأنه من الامور المعروفة للناس بوجوهه الكثيرة، وحسب المسلم أن يكف عن كل ما يعتقد أنه باطل، على انه بين هذا الاجمال في أمور قد تخفى على الناس كالادلاء إلى الحكام الآتي وكتحريم الربا اي ربا الفضل المنهي عنه في الحديث دون ربا النسيئه المحرم بنص القرآن فهو لا خفاء في بطلانه لأنه زيادة في المال لأجل التأخير في اجل الدين الذي استهلك لا لمنفعة جديدة.

9. يدخل في هذا الباب التعدي على الناس بغصب المنفعة بأن يسخر بعضهم بعضا في عمل لا يعطيه عليه أجرا، أو ينقصه من الاجر المسمى أو أجر المثل، ويدخل فيه سائر ضروب التعدي والغش والاحتيال كما يقع من السماسرة فيما يذهبون فيه من مذاهب التلبيس والتدليس، إذ يزينون للناس السلع الرديئة، والبضائع المزجاة، ويسولون لهم فيورطونهم، وكل من باع أو اشترى مستعينا بإيهام الآخر ما لا حقيقة له ولا صحة بحيث لو عرف الخفايا وانقلب وهمه علما لما باع أو لما اشترى فهو آكل لماله بالباطل، ومن هؤلاء الموهمين باعة التولات والتناجيس‏ والتمائم، وكذا العزائم وختمات القرآن والعدد المعلوم من سورة (يس) أو بعض الاذكار، وقد بلغ من هزؤ هؤلاء بالدين ان كان بعض المشهورين منهم يبيع سورة (يس) لقضاء الحاجات‏ او لرحمة الاموات يقرؤها مرات كثيرة، ويعقد لكل مرة عقدة في خيط يحمله حتى إذا ما جاءه طالب ابتياع القراءة وأخذ منه الثمن بعد المساومة يحل له من تلك العقد، بقدر ما يطلب من العدد، ذكر هذه الواقعة محمد عبده في الدرس، وقد كنا نسمع عن رؤساء بعض النصارى نحو هذا في بيع العبادة التي يسمونها القداديس فنسخر منهم، حتى علمنا اننا قد اتبعنا سنتهم شبرا بشبر حتى دخلنا في جحر الضب الذي دخلوه‏.

10. قال محمد عبده: ان كل أجر يؤخذ على عبادة فهو أكل لأموال الناس بالباطل وقد مضى الصدر الاول ولم يكن أحذ الاجر على عبادة ما معروفا، ولا يوجد في كلام أهل القرن الاول والثاني كلمة تشعر بذلك، ثم لا يعقل أن تحقق العبادة وتحصل بالأجرة، لان تحققها انما يكون بالنية وإرادة وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته بامتثال أمره، ومتى شاب هذه النية شائبة من حظ الدنيا خرج العمل عن كونه عباده خالصة لله، والله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصا من الحظوظ والشوائب‏.

11. ورد على لسان الشارع تسمية مثل هذا العمل شركا ففي حديث مسلم وغيره (قال الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركهـ إذا كان يوم القيامة أتي بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله لملائكته: اقبلوا هذا وألقوا هذا، فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا إلا خيرا، فيقول نعم لكن كان لغيري، ولا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي) وفي رواية يقولون (ما كتبنا إلا ما عمل) الخ وفي حديث أحمد والترمذي وابن ماجه (إذا جمع الله الاولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عنده فان الله أغنى الشركاء عن الشرك)

12. إنما يظهر تأويل مثل هذا فيمن قصد العبادة والاجر معا بحيث لو لم يستأجر للقراءة (مثلا) لقرأ، وأما من لا يقصد إلا الاجرة فاذا لم تكن لا يقرأ تلك الختمة أو العدد من السورة أو الذكر فأمره أقبح، وذنبه أكبر، وعمله باطل لا يعتد به شرعا، فدافع الاجر عليه خاسر لماله، وآخذه منه خاسر لمآله، ومثل قصد الاجرة المالية الرياء فإنه منفعة معنوية.

13. فرّق بعض الفقهاء بين قراءة القرآن وتعليمه، فأجاز أخذ الاجرة على‏ تعليمه كتعليم العلم لان الاشتغال بالتعليم يصد عن التفرغ للكسب من الوجوه الآخرى، فاذا لم نجز المعلم بتعسر علينا ان نجد من يتصدى لتعليم الاولاد، وليس زمننا كزمان السلف يتفرغ فيه الناس لنشر العلم وافادته تعبدا لله وتقربا اليه‏

14. قال محمد عبده: من علم العلم والدين بالأجرة فهو كسائر الصناع والاجراء لا ثواب له على أصل العمل بل على إتقانه والاخلاص فيه والنصح لمن يعلمهم.. وينبغي للمعلم الذي يعطى راتبا من الاوقاف الخيرية أن يأخذ إذا كان محتاجا لأجل سد الحاجة لا بقصد الاجرة على التعليم، وبذلك يكون عابدا لله تعالى بالتعليم نفسه، وعلامته أن يستعفف إذا هو استغنى، فلا يأخذ من الوقف شيئا ـ وقالوا في المؤذن مثل ما قالوا في معلم القرآن ويأتي فيه من القصد والنية ما ذكر في المعلم، ولا خلاف في عدم جواز أخذ الاجرة على جواب السائل عن مسألة دينية تعرض له إذ الاجابة فريضة على العارفين وكتمان العلم محرم عليهم.

15. جملة القول ان أكل اموال الناس بالباطل يتحقق في كل اخذ للمال بغير رضى من المأخوذ منه لا شائبة للجهل أو الوهم أو الغش أو الضرر فيه، ومما تعرض فيه هذه الشوائب كلها أو اكثرها قراءة القرآن بالأجرة لأجل الموتى أو دفع ضرر الجن أو غيره عن الاحياء، والذي يعطي الاجرة عليها يجهل ذلك، ويتوهم انها تكون سببا لنفع الميت أو الحي أو دفع ضرر العذاب في الآخرة أو الجن في الدنيا (مثلا) والجاهل بالشرع في المسألة عرضة لقبول الايهام والغش من الدجالين والمحتالين ـ وليس كذلك إقراء القرآن في البيوت لأجل اتعاظ اهلها وتقوية شعور الايمان بسماعه، بل هذا كتعليم العلم الذي بسطناه آنفا، وينبغي ان يكون كرام القراء بغير صفة الأجرة.

16. ذكر الله تعالى الاكل مجملا عاما ثم بين نوعا منه خصه بالنهي عنه مع دخوله في العام لما يقع من الشبهة فيه لبعض الناس اذ يعتقد بعضهم أن الحاكم الذي هو نائب الشارع في بيان الحق ومنفذ الشرع اذا حكم لإنسان بشيء ولو بغير حق فانه‏ يحلّ له ولا يكون من الباطل فقال تعالى‏: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ أي ولا تلقوا بها الى الحكام رشوة لهم‏ ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إبطالا لهذا الاعتقاد ليعلم أن الحق لا يتغير بحكم الحاكم، بل هو ثابت في نفسه وليس على الحاكم الا بيانه وايصاله الى مستحقه بالعدل، بل قال محمد عبده: إن الحاكم عبارة عن شخص العدل الناطق بما لكل أحد منه، أي فاذا نطق بغير الحق خطأ أو اتباعا لهواه، فقد خرج عن حقيقته ومعناه، وتعريفه للمحكوم له غير ما يعرفه لا يغني عنه شيئا، وكذلك إلزام خصمه التنفيذ، نعم، ان كان المحكوم له بالباطل في الواقع يعتقد أنه صاحب الحق لشبهة عرضت له وحكم له الحاكم يكون معذورا فيما يأكله بحكمه، ولا يعذر اذا كان عالما بأنه غير محق لان حكم القاضي على الظاهر فقط.

17. نفت الآية الاشتباه(2). وبينت أن الاستعانة بالحكام على أكل المال بالباطل محرم لان الحكم لا يغير الحق في نفسه ولا يحله للمحكوم له به، ومع هذا قد اختلف علماؤنا في حكم القاضي هل هو على الظاهر فقط أم ينفذ ظاهرا وباطنا ويكون الاثم على القاضي وحده ان تعمد الجور دون المحكوم له، فالجمهور على أن حكم القاضي ينفذ ظاهرا فقط، وأبو حنيفة على أن حكم القاضي بنحو الطلاق وعقد النكاح أو فسخه ينفذ ظاهرا وباطنا وان كان الشهود زورا، وان حكمه بالمال لا ينفذ إلا ظاهرا فلا يحل للمحكوم له تناوله اذا لم يكن له، وأزيد المسألة وضوحا بالتمثيل فأقول يعني ان القاضي اذا حكم بفسخ النكاح أو التفريق بين الزوجين بشهادة زور حرم عليهما أن يعيشا معا عيشة الازواج، وإذا شهد شهود الزور بأن فلانا عقد على فلانة وحكم القاضي بصحة العقد حل للرجل المحكوم له أن يدخل بها بغير عقد اكتفاء بحكم القاضي الذي يعلم أنه بغير حق، وقد نقل النووي في شرح مسلم أن الشافعي حكى الاجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام، وقد علمت أن عليه الجمهور ومنهم صاحبا أبي حنيفة فلم يخالفاه الا لأنه ظهر لهما قوة دليل الجمهور، ومنه حديث أم سلمة عند الجماعة: مالك وأحمد والشيخين وأصحاب السنن وهو أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (إنما أنا بشر وانكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار) وروي بلفظ آخر بمعناه، والمنتصرون لابي حنيفة يقصرون الامر على الاموال لأنها الموضوع الذي وردت فيه الآية، والحديث كما تراه في لفظ الحديث، ولبعضهم فيهما من التحريف ما لا ينبغي أن يحكى، ورد الجمهور ذلك بالقاعدة المجمع عليها وهي أن الابضاع أولى بالاحتياط من الاموال فان لم يتناولها النص بلفظه تناولها بعلته بالأولى، وفي الآية والحديث عبرة لو كلاء الدعاوي الذين يدعون بالمحامين، فلا يجوز لمن يؤمن منهم بالله واليوم الآخر أن يقبل الوكالة في دعوى يعتقدان صاحبها مبطل ولا أن يستمر في محاولة اثباتها اذا ظهر له بطلانها في أثناء التقاضي، وإننا نراهم يعتمدون على خلابتهم في القول ولحنهم في الخطاب‏ ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾

18. من مباحث اللفظ في الآية أن الادلاء بمعني الالقاء، وقالوا انه في الاصل إلقاء الدلو واختير هذا التعبر لأنه يشعر بعدم الروية، هذا ما اقتصر عليه محمد عبده وفي التفسير الكبير للامام الرازي: إلقاء الدلو يراد به اخراج الماء، وإلقاء المال الى الحكام يراد به الحكم للملقي، وذكر وجها آخر بعيدا، والضمير في قوله تعالى: ﴿بِهَا﴾ قيل انه يرجع الى الاموال والمعنى لا تلقوها اليهم بالرشوة وقالوا إن الرشوة رشاء الحكم، وقيل ان المراد ولا تلقوا بحكومة الاموال الى الحكام.

19. الفريق من الشيء الجملة والطائفة منه، والاثم فسره بعضهم بشهادة الزور وبعضهم باليمين الفاجرة، وهو أعم من ذلك وان صح ما ذكروه في سبب نزول الآية وهو ما أخرجه ابن أبي حاتم من مراسيل سعيد بن جبير أن عبد الله بن أشوع الحضرمي وامرأ القيس بن عابس اختصما في أرض ولم تكن بينة فحكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يحلف امرؤ القيس، فهمّ به، فنزلت.

20. المراد بالعلم في قوله (تعلمون) ما يشمل الظن وهو احتراس عمن يأكل معتقدا أنه حقه، ولذلك أمثلة وفروع لا تحصى، ذكر محمد عبده منها مثل ما اذا علم زيد أن أباه أودع له وديعة كذا عند فلان الذي مات فطالب ولد الميت بذلك وكان هذا يعتقد أن أباه تركه تراثا فمن حكم له به منهما لا يقال انه أكله بالاثم‏.

21. ذكر محمد عبده في تفسير الآية ما عليه المسلمون في هذا العصر، ولا سيما في بلاد مصر، من كثرة التقاضي والخصام، والادلاء الى الحكام، حتى ان منهم من لا يطالب غريمه بحقه الا بواسطة المحكمة، ولعله لو طالبه لما احتاج الى التقاضي، ومنهم من يحاكم الآخر لمحض الانتقام والايذاء وان أضر بنفسه.

22. كم من ثروة نفدت، وبيوت خربت، ونفوس أهينت، وجماعة فرقت، وما كان لذلك من سبب الا الخصام، والادلاء بالمال الى الحكام، ولو تأدب هؤلاء الناس بآداب الكتاب الذي ينتسبون اليه لكان لهم من هدايته ما يحفظ حقوقهم، ويمنع تقاطعهم وعقوقهم، ويحل فيهم التراحم والتلاحم، محل التزاحم والتلاحم، وإنك ترى من أذكيائهم من يزعم أنهم عن هدي الدين أغنياء، وقد عموا عما أصابهم بتركه من الارزاء، فهم بالفسق عنه يتنابذون ويتحاسدون، ويتنافذون ويتنافدون، ويحسبون أنهم على شيء الا أنهم هم الكاذبون.‏

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/195.

(2) الكلام هنا لمحمد عبده.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. لما كان الكلام في الآية السالفة في الصيام وأحكامه، وفيه حلّ أكل الإنسان مال نفسه في وقت دون وقت، ناسب أن يذكر هنا حكم أكل الإنسان مال غيره.

2. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ أي لا يأكل بعضكم مال بعض، وسماه ماله إشعارا بوحدة الأمة وتكافلها، وتنبيها إلى أن احترام مال غيرك احترام وحفظ لمالك، كما أن التعدي على مال غيرك جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها، ولا بد أن يصيبه سهم من كل جناية تقع عليها، إذ هو باستحلال مال غيره يجرّئ غيره على استحلال أكل ماله إذا كان في طاقته، والباطل كلمة معروفة المعنى عند الناس بوجوهها الكثيرة ويدخل فيها:

أ. الربا لأنه أكل لأموال الناس بدون مقابل من صاحب المال المعطى.

ب. الأموال التي تلقى إلى الحكام رشوة لهم.

ج. الصدقة على القادر على الكسب الذي يكفيه.

د. أخذ القادر على الكسب صدقة، فلا يحلّ لمسلم أن يقبل صدقة وهو غير مضطر إليها.

هـ. باعة التمائم والعزائم وختمات القرآن والعدد المعلوم من سورة يس لقضاء الحاجات أو رحمة الأموات.

و. التعدي على الناس بغصب المنفعة، بأن يسخر بعضهم بعضا في عمل لا يعطيه عليه أجرا، أو ينقصه من الأجر المسمى أو أجر المثل.

ز. ضروب الغشّ والاحتيال كما يقع من السماسرة من التلبيس والتدليس، فيزينون للناس السلع الرديئة والبضائع المزجاة، ويورطونهم في شرائها، ويوهمونهم ما لا حقيقة له، بحيث لو عرفوا الخفايا ما باعوا وما اشتروا.

ح. الأجر على عبادة من العبادات كالصلاة والصوم، لأن العبادة إنما تكون بالنية وإرادة وجه الله تعالى ابتغاء لمرضاته وامتثالا لأمره، فمتى شاب هذا حظ من حظوظ الدنيا خرج العمل عن كونه عبادة، إذ لا يقبل الله من الأعمال إلا ما أريد به رضاه فحسب، ودافع الأجر عليها خاسر لماله، وآخذه خاسر لمآله.

ط. ومن علّم العلم والدين بالأجر، فهو كسائر الصناع والأجراء لا ثواب له على أصل العمل، بل على إتقانه والإخلاص فيه، ولا يجوز أخذ الأجر على جواب السائل عن فتوى دينية تعرض له، إذ الإجابة فريضة على أهل الذكر العارفين، وكتمان العلم محرم عليهم.

3. الخلاصة ـ أنه ينبغي للإنسان أن يطلب الكسب من الطرق المشروعة التي لا تضر أحدا.

4. ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ أي ولا تلقوا بأموالكم إلى الحكام رشوة لهم.

5. ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي لتأخذوا بعضا من أموال غيركم بوساطة يمين فاجرة، أو شهادة زور، أو نحو ذلك مما تثبتون به أنكم على حقّ فيما تدّعون، وأنتم تعلمون أنكم على الباطل مرتكبون المعصية، فإن الاستعانة بالحكام على أكل الأموال بالباطل حرام، إذ الحكم لا يغير الحق في نفسه، ولا يحله للمحكوم له، وحكم القاضي إنما ينفذ ظاهرا فقط، فهو لا يحلل الحرام، فإذا حكم القاضي بصحة عقد بأن فلانا عقد على فلانة بشهادة زور لا يحلّ له أن يدخل بها بغير عقد اكتفاء بحكم القاضي وهو يعلم أنه بغير حقّ، وهكذا الحال في الأموال والعقود المالية، والأصل في ذلك‏ حديث أم سلمة الذي رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن‏ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لمتخاصمين حضرا أمامه‏: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلىّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار)، فبكى الخصمان وقال كل واحد منهما: أنا حلّ لصاحبي، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اذهبا فتوخّيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه)، وقوله ألحن بحجته: أي أقدر عليها من صاحبه، والتوخي قصد الحق، والاستهام: الاقتراع أي اقصدا الحق فيما تصنعان من القسمة، وليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة من القسمة.

6. في الآية والحديث عبرة لوكلاء الدعاوى (المحامين) فلا ينبغي لمن يؤمن منهم بالله واليوم الآخر أن يقبل الوكالة في دعوى يعتقد أن صاحبها مبطل، ويعتمد في ذلك على خلابته في القول ولحنه في الخطاب.

7. الناظر إلى ما عليه المسلمون اليوم من غرامهم بالتقاضي والخصام والإدلاء إلى الحكام لمحض الإيذاء والانتقام وإن أضرّ بنفسه، يعلم بعدهم عن فهم دينهم وهدى كتابهم، ومن ثم ساءت حالهم فنفدت ثرواتهم، وخربت بيوتهم، وفرّقت جماعاتهم، ولو تأدبوا بأدب الكتاب الذي إليه ينتسبون لكان لهم من هدايته ما يحفظ حقوقهم ويمنع تقاطعهم وعقوقهم، ولحلّ فيهم التراحم محل التزاحم، وقد بلغ من أمرهم أن ظنوا أنهم عن هدى الدين أغنياء، وعموا عما أصابهم لأجل هذا من الأرزاء.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/81.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. وفي ظل الصوم، والامتناع عن المأكل والمشرب، يرد تحذير من نوع آخر من الأكل: أكل أموال الناس بالباطل، عن طريق التقاضي بشأنها أمام الحكام اعتمادا على المغالطة في القرائن والأسانيد، واللحن بالقول والحجة، حيث يقضي الحاكم بما يظهر له، وتكون الحقيقة غير ما بدا له، ويجيء هذا التحذير عقب ذكر حدود الله، والدعوة إلى تقواه، ليظللها جو الخوف الرادع عن حرمات الله.

2. ذكر ابن كثير في تفسير الآية: (قال علي بن أبي طلحة وعن ابن عباس: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام، وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم، وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار، فليحملها أو ليذرها).. وهكذا يتركهم لما يعلمونه من حقيقة دعواهم، فحكم الحاكم لا يحل حراما، ولا يحرم حلالا، إنما هو ملزم في الظاهر، وإثمه على المحتال فيه.

3. وهكذا يربط الأمر في التقاضي وفي المال بتقوى الله، كما ربط في القصاص، وفي الوصية وفي الصيام، فكلها قطاعات متناسقة في جسم المنهج الإلهي المتكامل، وكلها مشدودة إلى تلك العروة التي تربط قطاعات المنهج كله.. ومن ثم يصبح المنهج الإلهي وحدة واحدة، لا تتجزأ ولا تتفرق، ويصبح ترك جانب منه وإعمال جانب، إيمانا ببعض الكتاب وكفرا ببعض.. فهو الكفر في النهاية، والعياذ بالله.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/177.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. في الآية السابقة على تلك الآية أقام الله سبحانه وتعالى حدّا على حرمة من حرماته، وهى مباشرة المعتكف في المسجد زوجه مدة اعتكافه، ونهى سبحانه عن الاقتراب من هذا الحدّ، وفى هذه الآية أدخل في تلك الحدود حرمة أخرى، هي حرمة المال، ونهى عن العدوان على هذه الحرمة.

2. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ هذه صورة من صور العدوان على المال، بما يجرى بين الناس من تسلط، أو نهب، أو سرقة، أو غش، أو احتيال، إلى غير ذلك مما لا بد للحاكم فيه.

3. هناك صورة أخرى للعدوان، وهى أن يستعان بالحاكم على هذا العدوان بأن يستمال إلى أحد الخصمين بالرشوة، وفى هذا يقول الله تعالى: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ أي تلقوا بها إلى الحكام‏ ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ والحكام هنا هم من يكون إليهم أمر الفصل فيما يقع بين الناس من خصومات، وبيدهم ردّ المظالم، ودفع العدوان.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/209.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ عطف جملة على جملة، والمناسبة أن قوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ [البقرة: 187] تحذير من الجرأة على مخالفة حكم الصيام بالإفطار غير المأذون فيه وهو ضرب من الأكل الحرام فعطف عليه أكل آخر محرم وهو أكل المال بالباطل، والمشاكلة زادت المناسبة قوة، وهذا من جملة عداد الأحكام المشروعة لإصلاح ما اختل من أحوالهم في الجاهلية، ولذلك عطف على نظائره وهو مع ذلك أصل تشريع عظيم للأموال في الإسلام.

2. كان أكل المال بالباطل شنشنة معروفة لأهل الجاهلية بل كان أكثر أحوالهم المالية فإن اكتسابهم كان من الإغارة ومن الميسر، ومن غصب القوي مال الضعيف، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام واليتامى، ومن الغرر والمقامرة، ومن المراباة ونحو ذلك، وكل ذلك من الباطل الذي ليس عن طيب نفس.

3. الأكل حقيقته إدخال الطعام إلى المعدة من الفم وهو هنا استعارة للأخذ بقصد الانتفاع دون إرجاع؛ لأن ذلك الأخذ يشبه الأكل من جميع جهاته، ولذلك لا يطلق على إحراق مال الغير اسم الأكل ولا يطلق على القرض والوديعة اسم الأكل، وليس الأكل هنا استعارة تمثيلية؛ إذ لا مناسبة بين هيئة آخذ مال غيره لنفسه بقصد عدم إرجاعه وهيئة الأكل كما لا يخفى.

4. الأموال جمع مال ونعرّفه بأنه (ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيّات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلا بكدح)، فلا يعد الهواء مالا، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالا، ولا التراب مالا، ولا كهوف الجبال وظلال الأشجار مالا، ويعد الماء المحتفر بالآبار مالا، وتراب المقاطع مالا، والحشيش والحطب مالا، وما ينحته المرء لنفسه في جبل مالا، والمال ثلاثة أنواع:

أ. النوع الأول ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيء وهو الأطعمة كالحبوب، والثمار، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده‏ ولركوبه قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النحل: 80] وقال: ﴿لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [غافر: 79] وقد سمت العرب الإبل مالا قال زهير: (صحيحات مال طالعات بمخرم‏).. وهذا النوع هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها، لأن المنفعة حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاملين ولا على اصطلاحات المنظمين، فصاحبه ينتفع به زمن السلم وزمن الحرب وفي وقت الثقة ووقت الخوف وعند رضا الناس عليه وعدمه وعند احتياج الناس وعدمه، وفي الحديث‏ (يقول ابن آدم مالي مالي وإنما مالك ما أكلت فأمريت أو أعطيت فأغنيت)، فالحصر هنا للكمال في الاعتبار من حيث النفع المادي والنفع العرضي.

ب. النوع الثاني: ما تحصل تلك الإقامة به وبما يكمله مما يتوقف نفعه عليه كالأرض للزرع وللبناء عليها، والنار للطبخ والإذابة، والماء لسقي الأشجار، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف ونحو ذلك، وهذا النوع دون النوع الثاني لتوقفه على أشياء ربما كانت في أيدي الناس فضنت بها وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أو خوف أو وعورة طريق.

ج. النوع الثالث: ما تحصل الإقامة بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضا لما يراد تحصيله من الأشياء، وهذا هو المعبّر عنه بالنّقد أو بالعملة، وأكثر اصطلاح البشر في هذا النوع على معدني الذهب والفضة وما اصطلح عليه بعض البشر من التعامل بالنحاس والودع والخرزات وما اصطلح عليه المتأخرون من التعامل بالحديد الأبيض وبالأوراق المالية وهي أوراق المصارف المالية المعروفة وهي حجج التزام من المصرف بدفع مقدار ما بالورقة الصادرة منه، وهذا لا يتم اعتباره إلّا في أزمنة السلم والأمن وهو مع ذلك متقارب الأفراد، والأوراق التي تروجها الحكومات بمقادير مالية يتعامل بها رعايا تلك الحكومات.

5. قولي في التعريف: حاصلا بكدح، أردت به أن شأنه أن يكون حاصلا بسعي فيه كلفة ولذلك عبرت عنه بالكدح وذلك للإشارة إلى أن المال يشترط فيه أن يكون مكتسبا والاكتساب له ثلاثة طرق:

أ. الطريق الأول: طريق التناول من الأرض قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29] وقال: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: 15] وهذا كالحطب والحشيش والصيد البري والبحري وثمر شجر البادية والعسل، وهذا قد يكون بلا مزاحمة وقد يكون بمزاحمة فيكون تحصيله بالسبق كسكنى الجبال والتقاط الكمأة.

ب. الطريق الثاني: الاستنتاج وذلك بالولادة والزرع والغرس والحلب، وبالصنعة كصنع الحديد والأواني واللباس والسلاح.

ج. الطريق الثالث: التناول من يد الغير فيما لا حاجة له به إما بتعامل بأن يعطي المرء ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه غيره ويأخذ من الغير ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه هو، أو بإعطاء ما جعله الناس علامة على أن مالكه جدير بأن يأخذ به ما قدّر بمقداره كدينار ودرهم في شيء مقوّم بهما، وإما بقوة وغلبة كالقتال على الأراضي وعلى المياه.

6. الباطل اسم فاعل من بطل إذا ذهب ضياعا وخسرا أي بدون وجه، ولا شك أن الوجه هو ما يرضي صاحب المال أعني العوض في البيوعات وحب المحمدة في التبرعات.

7. الضمائر في مثل: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾ إلى آخر الآية عامة لجميع المسلمين، وفعل: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا﴾ وقع في حيز النهي فهو عام، فأفاد ذلك نهيا لجميع المسلمين عن كل أكل.

8. في جميع الأموال، هنا جمعان جمع الآكلين وجمع الأموال المأكولة، وإذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل:

أ. أن يكون من مقابلة كل فرد من أفراد الجمع بكل فرد من أفراد الجمع الآخر على التوزيع نحو ركب القوم دوابهم وقوله تعالى: ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: 102]، ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [التحريم: 6]

ب. واحتمل أن يكون كذلك لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: 11]، وقوله‏ ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: 61]

ج. واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله: ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ [غافر: 9]، والتعويل في ذلك على القرائن.

9. علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني أي لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل؛ بقرينة قوله: ﴿بَيْنَكُمْ﴾؛ لأن بين تقتضي توسطا خلال طرفين، فعلم أن الطرفين آكل ومأكول منه والمال بينهما، فلزم أن يكون الآكل غير المأكول وإلّا لما كانت فائدة لقوله: ﴿بَيْنَكُمْ﴾

10. معنى أكلها بالباطل أكلها بدون وجه، وهذا الأكل مراتب:

أ. المرتبة الأولى: ما علمه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلا كالغصب والسرقة والحيلة.

ب. المرتبة الثانية: ما ألحقه الشرع بالباطل فبيّن أنه من الباطل وقد كان خفيا عنهم وهذا مثل الربا؛ فإنهم قالوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، ومثل رشوة الحكام، ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؛ ففي الحديث: (أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه)، والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي: هي خمسون حديثا.

ج. المرتبة الثالثة: ما استنبطه العلماء من ذلك، فما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل، والعلماء فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب من المالكية وتفصيله في الفقه.

11. قيل: إن هذه الآية نزلت في قضية عبدان الحضرمي وامرئ القيس فالكندي اختصما لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أرض فنزلت هذه الآية والقصة مذكورة في (صحيح مسلم) ولم يذكر فيها أن هذه الآية نزلت فيهما وإنما ذكر ذلك ابن أبي حاتم.

12. ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ عطف على‏ ﴿تَأْكُلُوا﴾ أي لا تدلوا بها إلى الحكام لتتوسلوا بذلك إلى أكل المال بالباطل، وخص هذه الصورة بالنهي بعد ذكر ما يشملها وهو أكل الأموال بالباطل؛ لأن هذه شديدة الشناعة جامعة لمحرمات كثيرة، وللدلالة على أن معطي الرشوة آثم مع أنه لم يأكل مالا بل آكل غيره، وجوز أن تكون الواو للمعية ﴿وَتُدْلُوا﴾ منصوبا بأن مضمرة بعدها في جواب النهي فيكون النهي عن مجموع الأمرين أي لا تأكلوها بينكم مدلين بها إلى الحكام لتأكلوا وهو يفضي إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الرشوة خاصة فيكون المراد الاعتناء بالنهي عن هذا النوع من أكل الأموال بالباطل، والإدلاء في الأصل إرسال الدلو في البئر وهو هنا مجاز في التوسل والدفع:

أ. فالمعنى على الاحتمال الأول، لا تدفعوا أموالكم للحكام لتأكلوا بها فريقا من أموال الناس بالإثم؛ فالإدلاء بها هو دفعها لإرشاء الحكام ليقضوا للدافع بمال غيره فهي تحريم للرشوة وللقضاء بغير الحق، ولأكل المقضي له مالا بالباطل بسبب القضاء بالباطل.

ب. والمعنى على الاحتمال الثاني لا تأكلوا أموالكم بالباطل في حال انتشاب الخصومات بالأموال لدى الحكام لتتوسلوا بقضاء الحكام، إلى أكل الأموال بالباطل حين لا تستطيعون أكلها بالغلب، وكأنّ الذي دعاهم إلى فرض هذا الاحتمال هو مراعاة القصة التي ذكرت في سبب النزول، ولا يخفى أن التقيد بتلك القصة لا وجه له في تفسير الآية، لأنه لو صح سندها لكان حمل الآية على تحريم الرشوة لأجل أكل المال دليلا على تحريم أكل المال بدون رشوة بدلالة تنقيح المناط.

13. على ما اخترناه الآية دلت:

أ. على تحريم أكل الأموال بالباطل.

ب. وعلى تحريم إرشاء الحكام لأكل الأموال بالباطل.

ج. وعلى أن قضاء القاضي لا يغير صفة أكل المال بالباطل.

د. وعلى تحريم الجور في الحكم بالباطل ولو بدون إرشاء، لأن تحريم الرشوة إنما كان لما فيه من تغيير الحق.

14. لا جرم أن هاته الأشياء من أهم ما تصدّى الإسلام لتأسيسه تغييرا لما كانوا عليه في الجاهلية فإنهم كانوا يستحلون أموال الذين لم يستطيعوا منع أموالهم من الأكل فكانوا يأكلون أموال الضعفاء قال صنّان اليشكري:

çلو كان حوض حمار ما شربت به‏...إلّا بإذن حمار آخر الأبد

لكنّه حوض من أودى بإخوته‏...ريب المنون فأمسى بيضة البلدé

15. أما إرشاء الحكام فقد كان أهل الجاهلية يبذلون الرّشا للحكام، ولمّا تنافر عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة إلى هرم بن قطبة الفزاري بذل كل واحد منهما مائة من الإبل إن حكم له بالتفضيل على الآخر فلم يقض لواحد منهما، بل قضى بينهما بأنهما كركبتي البعير الأدرم الفحل تستويان في الوقوع على الأرض فقال الأعشى في ذلك من أبيات:

çحكّمتموه فقضى بينكم‏...أزهر مثل القمر الباهر

لا يقبل الرّشوة في حكمه‏...ولا يبالي غبن الخاسرé

16. يقال إن أول من ارتشى من حكام الجاهلية هو ضمرة بن ضمرة النهشلي بمائة من الإبل دفعها إليه عباد بن أنف الكلب في منافرة بينه وبين معبد بن نضلة الفقعسي لينفّره عليه ففعل، ويقال إن أول من ارتشى في الإسلام يرفأ غلام عمر بن الخطاب رشاه المغيرة بن شعبة ليقدمه في الإذن بالدخول إلى عمر؛ لأن يرفأ لما كان هو الواسطة في الإذن للناس وكان الحق في التقديم في الإذن للأسبق، إذ لم يكن مضطرا غيره إلى التقديم كان تقديم غير الأسبق اعتداء على حق الأسبق فكان جورا وكان بذل المال لأجل تحصيله إرشاء ولا أحسب هذا إلّا من أكاذيب أصحاب الأهواء للغض من عدالة بعض الصحابة فإن صح ولا إخاله: فالمغيرة لم ير في ذلك بأسا؛ لأن الضر اللاحق بالغير غير معتد به، أو لعله رآه إحسانا ولم يقصد التقديم ففعله يرفأ إكراما له لأجل نواله، أمّا يرفأ فلعله لم يهتد إلى دقيق هذا الحكم.

17. الرشوة حرمها الله تعالى بنص هاته الآية؛ لأنها إن كانت للقضاء بالجور فهي لأكل مال بالباطل وليست هي أكل مال بالباطل فلذلك عطف على النهي الأول؛ لأن الحاكم موكّل المال لا آكل، وإن كانت للقضاء بالحق فهي أكل مال بالباطل؛ لأن القضاء بالحق واجب، ومثلها كل مال يأخذه الحاكم على القضاء من الخصوم إلّا إذا لم يجعل له شيء من بيت المال ولم يكن له مال فقد أباحوا له أخذ شيء معيّن على القضاء سواء فيه كلا الخصمين.

18. دلالة هذه الآية على أن قضاء القاضي لا يؤثر في تغيير حرمة أكل المال من قوله: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ﴾ فجعل المال الذي يأكله أحد بواسطة الحكم إثما وهو صريح في أن القضاء لا يحل حراما ولا ينفذ إلّا ظاهرا، وهذا مما لا شبهة فيه لولا خلاف وقع في المسألة، فإن أبا حنيفة خالف جمهور الفقهاء فقال بأن قضاء القاضي يحل الحرام وينفذ باطنا وظاهرا إذا كان بحل أو حرمة وادّعاه المحكوم له بسبب معين أي كان القضاء بعقد أو فسخ وكان مستندا لشهادة شهود وكان المقضي به مما يصح أن يبتدأ، هذا الذي حكاه عنه غالب فقهاء مذهبه وبعضهم يخصه بالنكاح، واحتج على ذلك بما روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت إجابته فادعى عليها عند عليّ أنه تزوجها وأقام شاهدين زورا فقضى عليّ بشهادتهما فقالت المرأة لما قضى عليها، إن كان ولا بد فزوجني منه فقال لها عليّ شاهداك زوجاك، وهذا الدليل بعد تسليم صحة سنده(2). لا يزيد على كونه مذهب صحابي وهو لا يعارض الأحوال الشرعية ولا الأحاديث المروية نحو حديث‏ (فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار)، على أن تأويله ظاهر وهو أن عليا اتهمها بأنها تريد بإحداث العقد بعد الحكم إظهار الوهن في الحكم والإعلان بتكذيب المحكوم له ولعلها إذا طلب منها العقد أن تمتنع فيصبح الحكم معلقا.

19. الظاهر أن مراد أبي حنيفة أن القضاء فيما يقع صحيحا وفاسدا شرعا من كل ما ليس فيه حق العبد أن قضاء القاضي بصحته يتنزل منزلة استكمال شروطه توسعة على الناس، فلا يخفى ضعف هذا ولذلك لم يتابعه عليه أحد من أصحابه.

20. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ حال مؤكدة لأن المدلي بالأموال للحكام ليأكل أموال الناس عالم لا محالة بصنعه، فالمراد من هذه الحال تشنيع الأمر وتفظيعه إعلانا بأن أكل المال بهذه الكيفية هو من الذين أكلوا أموال الناس عن علم وعمد فجرمه أشد.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/185.

(2) لا يمكن أن يصح هذا عن الإمام علي.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. بعد أن بين سبحانه وتعالى الصوم وما فيه من تهذيب النفس ـ بين سبحانه وتعالى أن من التهذيب النفسي أو بث التقوى في روح الجماعة الإسلامية نزاهة المال عن الخبث كنزاهة النفس؛ ولذا عطف على الأوامر والنواهي الخاصة بالصوم النهى عن أكل أموال الناس بالباطل، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾

2. الواو هنا عاطفة على ما سبق من إباحة ونهى، في قوله، ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ﴾ وما تبع ذلك من صيغة أمر تبيح الأكل والشرب، ونهى عن المباشرة، وجاء النهى بعد ذلك عن أكل مال الناس بالباطل؛ لأنه من جنس الأوامر والنواهي السابقة، فإذا كانت لنزاهة النفس وطهارتها، فالنهى عن أكل مال الناس بالباطل؛ لنزاهة النفس والمجتمع وطهارته من أسباب النزاع، فالنواهي تتدرج في النصوص الإسلامية في هذه الآيات من إبعاد نفوس الآحاد عن الأرجاس في العبادات، إلى النهى للجماعة كلها عما يفنى الجماعات من أخذ المال بالباطل؛ لأنه قتل لها كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء]، فأخذ أموال الناس بالباطل، وشيوع ذلك، واستمراؤه يقتل الأمة؛ لأنه يشيع فيها الفساد، ضياع الحقوق، وألا يحترم العدل، ويسود الظلم، وبذلك تفنى الأمم، وتذهب قوتها أمام من يتربص بها الدوائر.

3. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ أمر عام للجماعة الإسلامية، بأن يكون التعامل المالي بينها على أساس من احترام كل حق الآخرين، وألا يأخذ مالا إلا بحقه، فلا يأخذه بربا أو غش أو تدليس أو بميسر، أيا كان شكله، ولا بسرقة أو غصب.

4. عبر سبحانه وتعالى عن الأخذ بالأكل؛ لأن أظهر مظاهر الانتفاع بالمال الأكل حلالا أو حراما وهو أشد ما يطلب المال لأجله، ولأن الأكل إن لم يكن مصدره حلالا كان كالنار وتدخل بطن الآكل، وقال تعالى: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ للإشارة إلى أن مال الآحاد مال الأمة، إن نما قويت، وإن ضعف ضعفت، وإن كان حلالا كان طيبا، كان عزا، والإشارة إلى وجوب التعاون بين الناس في جعله لخير الجماعة، وتنميته لعمومها، وللناس كافة مع بقاء كل ملك كان على ملكيته لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه)

5. ﴿بَيْنَكُمْ﴾ أي متبادلا بينكم منتقلا من حيز إلى حيز بالحق، وفى ذلك إشارة إلى أنه لا يصح أن ينقل بينكم إلا بالحق، فلا يصح أن ينتقل من حيز إلى حيز إلا بالحق ولا يجوز أن ينتقل بالباطل، سواء أكان برضا كالربا، والبيوع الربوية وكالميسر، والعقود التي تشتمل عليه، وغير ذلك من العقود التي جاءت على غير ما أمر به الشرع، أم كانت بغير رضا صحيح كامل، كالغصب والسرقة والغش والتدليس والتغرير، فإن أخذ المال بهذا الشكل لا يجوز مطلقا؛ لأنه غير مبنى على علم صحيح فلا يكون الرضا كاملا.

6. قال تعالى بعد ذلك: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ﴾ هذا معطوف على النهى، فالنهى منصب على أكل مال المؤمنين بينهم، وعن‏ الإدلاء إلى الحكام، وقد وردت قراءة أبىّ بزيادة (لا)، وهى أقرب إلى أن تكون تفسيرا، ومهما يكن فإن النهى ثابت عن الإدلاء، كالنهى عن الأكل؛ لأنه ينته إلى أكل للمال بالباطل، فالآية تنهى عن الأكل الظالم سواء أكان في ضمن التعامل الآثم بينكم، أم كان بالاستعانة بالحكام، بتضليل القضاء، أو بتحويل الحاكم عن الإنصاف بسحت من المال يقدم.

7. الإدلاء في أصله إلقاء الدلو في الماء ليحمل الماء إليه من البئر، أو من حفرة فيها ماء، ثم أطلق على إرسال أي شيء يأتي بما يفيد، وأطلق على الذي يحتج على غيره، أدلى بحجته لأنه أرسلها، ليأخذ الحق من غيره، ويقال أدلى بنسب إنما اتصل بالنسبة.

8. معنى أدلى إلى الحكام بالمال، أي أنهم يقدمونها للحكام الآثمين، من نسقه الذين يجلسون في مناصب القضاء، أو الحكام الذين يملكون العطاء والمنع، أو يملكون القسمة بين الناس، ومعنى الإدلاء بالمال على هذا تقديم المال لهؤلاء ليعدلوا بهم عن قسمة الحق إلى القسمة الضيزى التي تمنع الحق، وتقرر الباطل.

9. الرشوة لها صور شتى، فمرة تكون بإعطاء المال لتحول من هو في منصب القضاء عن العدل، أو بالإهداء، أو بالضيافة، أو بأداء الخدمات حلالها وحرامها، أو بمقارضة الظلم، كأن يظلم في قضية لمجلس في منصب القاضي، ليظلم في قضيته وكل ذلك استخدام للمال، أو ما يقوم مقامه من أداء أمور تقوم بمال أو لا تقوم بمال وفيها نفع واضح.

10. هذا تفسير قوله تعالى: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ﴾ أي أكلا متلبسا بالإثم، وأنتم تعلمون أنه إثم، لا حق لكم في أكله، وهذا تأكيد لمعنى الإثم والظلم وأكل أموال الناس بالباطل، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لعن الله الراشي والمرتشي)

11. هناك تخريج آخر لقوله تعالى: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ﴾ بأن المراد بالإدلاء بها الخصومة بشأنها، والترافع في أمرها، وأنت تعلم أنك آخذها بغير حق، ولكن لا حجة لخصمك على أن ما في يدك سلطانك عليه بالباطل، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير عن ابن عباس هذه الآية: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ في الرجل يكون عنده مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، فهؤلاء رشوا من هو في منصب القضاء، ولكن يضله ليأكل مقدارا من أموال الناس بالإثم، فكلمة فريق معناها مقدار قطعه من مال الناس، وهو يعلم أنه إثم.

12. هذان تخريجان لمعنى النص الكريم‏ ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ وإن الإدلاء لتحويل الحكام عن الحكم يكون بسحت من المال يقدم لحكام السوء، فيحولهم عن الحق إلى الباطل، وإما بحجة براقة، أو نقصان في دليل الخصم يتحولون به مخطئين من الحق إلى الباطل، ويصح الجمع بين التخريجين إذ لا معارضة بينهما، والحكام هم المنفذون للأحكام.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/569.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، الخطاب لجميع المكلفين، والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض، تماما كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾، أي لا يقتل بعضكم بعضا، وفيه اشعار بوحدة الانسانية وتكافلها، وانها بمنزلة الجسم الواحد، والفرد عضو من أعضائها يصيبه ما أصابها، وبالعكس.

2. المراد بالأكل مطلق التصرف في المال المأخوذ بطريق لا يقره الشرع، ولفظة ﴿بَيْنَكُمْ﴾ بالآية تخصصها وتقيدها بالمال المأخوذ عن طريق المعاملات المحرمة، كالمعاوضات الربوية، أو القائمة على محرم كالخمر والخنزير والميتة، أو الغش والاحتيال، وما الى ذلك مما لا يقره الشرع، ومثلها قوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾، أما حرمة المال المأخوذ بالسلب والغصب والسرقة واليمين الكاذبة، وما إلى ذاك فتستفاد من دليل آخر.. ومن أجل هذا استدلّ الفقهاء بالآيتين على بطلان كل معاملة حرم الله المال المأخوذ بسببها، وهذه الآية تدل دلالة صريحة وواضحة على ان الإسلام يقر الملكية الفردية.

3. ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ﴾، تدلوا عطف على لا تأكلوا، والمراد بالإثم هنا الرشوة بقرينة السياق، والمعنى المقصود هو النهي عن رشوة الحكام للوصول الى أكل أموال الناس.

4. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، أي لا ترتكبوا هذا الإثم وأنتم عالمون بقبحه، وليس من شك ان الاقدام على القبيح مع العلم أقبح من الاقدام مع الشبهة.. وفي الحديث: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)، فبالأولى إذا كان عالما بالتحريم.

5. الرشوة من أعظم المحرمات، حتى على الحكم بالحق، فقد لعن الله ورسوله الراشي والمرتشي والماشي بينهما بالرشوة، وفي رواية ان الرشوة كفر بالله العظيم، وفي ثانية انها شرك.

6. قال الحنفية: ان حكم القاضي الفاسق نافذ، فقد جاء في متن الكتاب المعروف بابن عابدين: (الفاسق أهل للشهادة، فيكون أهلا للقضاء)، وفي فتح القدير: (الوجه تنفيذ حكم كل من ولاه سلطان ذو شوكة، وان كان جاهلا فاسقا، وهو ظاهر المذهب عندنا)، وأجمع الشيعة الإمامية كلمة واحدة على ان الفاسق لا يجوز أن يتولى القضاء، وان حكمه لا ينفذ إطلاقا بالغا ما بلغ من العلم.. وتشدد جماعة من الفقهاء الإمامية، حيث ذهبوا الى ان صاحب الحق لا يجوز له أن يرفع دعواه الى غير القاضي العادل، حتى ولو انحصر تحصيل حقه بهذا الترافع، بحيث لولاه لذهب هدرا وضياعا، وإذا خالف صاحب الحق، ورجع الى القاضي غير العادل، وحكم له هذا بالحق فلا يجوز لصاحبه أن يأخذ الشيء المحكوم به، وان كان حقا، عملا بقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (فإنما يأخذه سحتا، وان كان حقا ثابتا له)، وقال أكثر الفقهاء الإمامية: ان لصاحب الحق أن يستعين بغير العادل للحصول على حقه إذا انحصر بالرجوع اليه، بحيث لا يجد وسيلة سواه من غير فرق بين أن يكون الحق دينا أو عينا، لأن دفع الضرر عن النفس جائز، وقد يجب، ولا يتم الا بالرجوع الى غير العادل، كما هو المفروض، فيكون جائزا أو واجبا، أما الإثم والحرام فهو على من امتنع عن دفع الحق، لا على من أخذ حقه.

7. إذا تحاكم اثنان عند الحاكم المجتهد العادل، وحكم لغير صاحب الحق، لعجز هذا عن الإثبات فلا يجوز للخصم المحكوم له أن يأخذ الشيء المحكوم به، لأن حكم الحاكم لا يغير الواقع، وينفذ ظاهرا، لا واقعا، قال الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: (انما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ، وأنتم تختصمون الي، ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض، فاقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له شيئا من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار)، لكن أبا حنيفة قال بعكس ذلك تماما، فقد نقل عنه صاحب تفسير المنار عند التعرض لهذه الآية انه قال: إذا حكم القاضي بفسخ النكاح بين الزوجين اعتمادا على شهادة الزور حرم عليهما معا ان يعيشا عيشة الأزواج، وإذا شهد شهود زور بأن فلانا عقد على فلانة، وحكم القاضي بصحة العقد حل للرجل المحكوم له أن يدخل بها بغير عقد اكتفاء بحكم القاضي الذي يعلم انه بغير حق.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/292.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، المراد بالأكل الأخذ أو مطلق التصرف مجازا، والمصحح لهذا الإطلاق المجازي كون الأكل أقرب الأفعال الطبيعية التي يحتاج الإنسان إلى فعلها وأقدمها فالإنسان أول ما ينشأ، وجوده يدرك حاجته إلى التغذي ثم ينتقل منه إلى غيره من الحوائج الطبيعية كاللباس والمسكن والنكاح ونحو ذلك، فهو أول تصرف يستشعر به من نفسه، ولذلك كان تسمية التصرف والأخذ، وخاصة في مورد الأموال، أكلا لا يختص باللغة العربية بل يعم سائر اللغات.

2. المال‏ ما يتعلق به الرغبات من الملك، كأنه مأخوذ من الميل لكونه مما يميل‏ إليه القلب.

3. والبين‏ هو الفصل الذي يضاف إلى شيئين فأزيد.

4. والباطل‏ يقابل الحق الذي هو الأمر الثابت بنحو من الثبوت.

5. في تقييد الحكم، أعني قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾ بقوله: ﴿بَيْنَكُمْ﴾، دلالة على أن جميع الأموال لجميع الناس وإنما قسمه الله تعالى بينهم تقسيما حقا بوضع قوانين عادلة تعدل الملك تعديلا حقا يقطع منابت الفساد لا يتعداه تصرف من متصرف إلا كان باطلا، فالآية كالشارحة لإطلاق قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾

6. في إضافة الله تعالى الأموال إلى الناس إمضاء منه لما استقر عليه بناء المجتمع الإنساني من اعتبار أصل الملك واحترامه في الجملة من لدن استكن هذا النوع على بسيط الأرض على ما يذكره النقل والتاريخ، وقد ذكر هذا الأصل في القرآن بلفظ الملك والمال ولام الملك والاستخلاف وغيرها في أزيد من مائة مورد ولا حاجة إلى إيرادها في هذا الموضع، وكذا بطريق الاستلزام في آيات تدل على تشريع البيع والتجارة ونحوهما في بضعة مواضع كقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾، وقوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها﴾، وغيرها، والسنة المتواترة تؤيده.

7. ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا﴾ الإدلاء هو إرسال الدلو في البئر لنزح الماء كني به عن مطلق تقريب المال إلى الحكام ليحكموا كما يريده الراشي، وهو كناية لطيفة تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إلى من يريده، والفريق‏ هو القطعة المفروقة المعزولة من الشيء، والجملة معطوفة على قوله: ﴿تَأْكُلُوا﴾ فالفعل مجزوم بالنهي.

8. يمكن أن يكون الواو بمعنى مع والفعل منصوبا بأن المقدرة، والتقدير مع أن تأكلوا فتكون الآية بجملتها كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد، وهو النهي عن تصالح الراشي والمرتشي على أكل أموال الناس بوضعها بينهما وتقسيمها لأنفسهما بأخذ الحاكم ما أدلى به منها إليه وأخذ الراشي فريقا آخر منها بالإثم وهما يعلمان أن ذلك باطل غير حق.

9. في الكافي، عن الصادق عليه السلام في الآية: كانت تقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم‏ الله عن ذلك.. وفي الكافي، أيضا عن أبي بصير قال‏ قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قول الله عز وجل في كتابه: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾، قال: يا أبا بصير إن الله عز وجل قد علم أن في الأمة حكاما يجورون، أما أنه لم يعن حكام أهل العدل، ولكنه عنى حكام أهل الجور، يا أبا محمد لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل ـ فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا لهـ لكان ممن يحاكم إلى الطاغوت وهو قول الله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾.. وفي المجمع، قال: روي عن أبي جعفر عليه السلام يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقطع بها الأموال.. وهذه مصاديق والآية مطلقة.

10. كل ما بين أيدينا من الموجودات المكونة، ومنها النبات والحيوان والإنسان، فإنه يتصرف في الخارج عن دائرة وجوده مما يمكن أن ينتفع به في إبقاء وجوده لحفظ وجوده وبقائه، فلا خبر في الوجود عن موجود غير فعال، ولا خبر عن فعل يفعله فاعله لا لنفع يعود إليه، فهذه أنواع النبات تفعل ما تفعل لتنتفع به لبقائها ونشوئها وتوليد مثلها، وكذلك أقسام الحيوان والإنسان تفعل ما تفعل لتنتفع به بوجه ولو انتفاعا خياليا أو عقليا، فهذا مما لا شبهة فيه.

11. هذه الفواعل التكوينية تدرك بالغريزة الطبيعية، والحيوان والإنسان بالشعور الغريزي أن التصرف في المادة لرفع الحاجة الطبيعية والانتفاع في حفظ الوجود والبقاء لا يتم للواحد منها إلا مع الاختصاص بمعنى أن الفعل الواحد لا يقوم بفاعلين (فهذا حاصل الأمر وملاكه) ولذلك فالفاعل من الإنسان أو ما ندرك ملاك أفعاله فإنه يمنع عن المداخلة في أمره والتصرف فيما يريد هو التصرف فيه، وهذا أصل الاختصاص الذي‏ لا يتوقف في اعتباره، إنسان وهو معنى اللام الذي في قولنا لي هذا ولك ذلك، ولي أن أفعل كذا ولك أن تفعل كذا.

12. يشهد به ما نشاهده من تنازع الحيوان فيما حازه من عش أو كن أو وكر أو ما اصطاده أو وجده، مما يتغذى به أو ما ألفه من زوج ونحو ذلك، وما نشاهده من تشاجر الأطفال فيما حازوه من غذاء ونحوه حتى الرضيع يشاجر الرضيع على الثدي، ثم إن ورود الإنسان في ساحة الاجتماع بحكم فطرته وقضاء غريزته لا يستحكم به إلا ما أدركه بأصل الفطرة إجمالا، ولا يوجب إلا إصلاح ما كان وضعه أولا وترتيبه وتعظيمه في صورة النواميس الاجتماعية الدائرة، وعند ذلك يتنوع الاختصاص الإجمالي المذكور أنواعا متفرقة ذوات أسام مختلفة فيسمى الاختصاص المالي بالملك وغيره بالحق وغير ذلك.

13. وهم وإن أمكن أن يختلفوا في تحقق الملك من جهة أسبابه كالوراثة والبيع والشراء والغصب بقوة السلطان وغير ذلك، أو من جهة الموضوع الذي هو المالك كالإنسان الذي هو بالغ أو صغير أو عاقل أو سفيه أو فرد أو جماعة إلى غير ذلك من الجهات، فيزيدوا في بعض، وينقصوا من بعض، ويثبتوا لبعض وينفوا عن بعض، لكن أصل الملك في الجملة مما لا مناص لهم عن اعتباره، ولذلك نرى أن المخالفين للملك يسلبونه عن الفرد وينقلونه إلى المجتمع أو الدولة الحاكمة عليهم وهم مع ذلك غير قادرين على سلبه عن الفرد من أصله ولن يقدروا على ذلك فالحكم فطري، وفي بطلان الفطرة فناء الإنسان.

14. سنبحث في ما يتعلق بهذا الأصل الثابت من حيث أسبابه كالتجارة والربح والإرث والغنيمة والحيازة، ومن حيث الموضوع كالبالغ والصغير وغيرهما في موارد يناسب ذلك إن شاء الله العزيز.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/52.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ هذه عامة لكل وسيلة لأخذ مال أحد الذين آمنوا مخالفة للحق كالرشوة ومهر البغي وكسب المغنّية وحلوان الكاهن وكل معاملة محرمة، ومن الباطل ما جعل سبباً بواسطة التغرير أو الكذب أو الإكراه، وليس سبباً شرعياً يحل به المال؛ لأنه يعمه اسم البطلان؛ لأن ما كان بالكذب أو التغرير ليس سبباً، وإنما ظن المعطي أنه سبب، وهو في الواقع باطل وغير مرضي عنده، لو انكشفت له الحقيقة، وأما الإكراه فهو ظلم ولا تصح المعاملة به لفقدان الرضى من المكره، فما ترتب عليه من بيع أو غيره فهو باطل داخل في عموم الآية، ومن الباطل معاشات الظلمة التي تعطى لمن يعينهم أو يكف عن معاونة أهل الحق أو عن القيام بالقسط، فإعطائهم إياها باطل فهم يأكلونها بالباطل.

2. ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ أصل الإدلاء: يكون إبداء الحجة، كإبراز شهادة عادلة، واستعمل فيما يسلم من المال إلى الحكام توصلاً إلى أكل مال الغير، سواء كان الغرض أن يحكم الحاكم للراشي، أو أن يترك الحكم لصاحب الحق بحيث يتمكن الطامع من أكل ماله، فالآية الكريمة شاملة للأمرين.

3. ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ قال الشرفي في (المصابيح) في تفسير ﴿فَرِيقًا﴾ (قطعة) وهو مناسب لما في (مفردات الراغب) من اشتقاق الفريق من الفَرْق لفصله عن الفريق الآخر، والأرجح: أنه عبارة عن جملة من المال مأخوذة من مال المسلم؛ لأن الرشوة لا تدفع إلى الحاكم لأخذ التافه الحقير الذي هو أقل من الرشوة، فالفريق عبارة عن مقدار مرغوب فيه ولو شيئاً واحداً في معنى جملة من المال لغلاء ثمنه، ولأنه جملة مؤلفة من أبعاضه الثمينة، فالنهي عنه لأنه مظنة الوقوع بسبب الرغبة فيه.

4. ﴿بِالْإِثْمِ﴾ أي بالجعالة التي هي إثم، وهو يعم الرشوة والهدية لهذا الغرض، وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي تعلمون أن الله حرم ذلك فتجرؤون على معصيته.

5. في هذه الآية ـ وغيرها من القرآن كثير ـ دلالة على بطلان الاشتراكية بمعنى أن الأموال كلها مشتركة لا يختص فرد بشيء منها، ودلالة على أن أكل أموال الناس بدعوى الاشتراكية محرم؛ لأنه أكل لها بالباطل.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/268.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. المناسبة بين معنى الكلمة وبين المقام ـ وهو إعطاء المال إلى الحكام ـ هو استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثل لحال الماء في البئر بالنسبة إلى من يريده، كما يقول صاحب الميزان‏.

2. جاء في الكافي عن الصادق عليه السّلام في الآية: كانت قريش تقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم الله عز وجل عن ذلك‏.. وفي الكافي عن أبي بصير قال‏: قلت لأبي عبد الله (جعفر الصادق عليه السّلام) قول الله ـ عز وجل ـ في كتابه: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾؟ فقال: يا أبا بصير إن الله ـ عز وجل ـ قد علم أن في الأمة حكاما يجورون، إلّا أنه لم يعن حكام أهل العدل، ولكنه عنى حكام الجور، يا أبا محمد أنه لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له، لكان ممن حاكم إلى الطاغوت، وهو قول الله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ [النساء: 60].. وفي المجمع قال روي عن أبي جعفر محمد الباقر عليه السّلام‏: (يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقتطع بها الأموال)

3. هذا المنهج في التفسير جاء وفق الأسلوب الذي اتبعه أئمة أهل البيت عليهم السّلام في التفسير بالمصداق للإشارة إلى المفردات التي ينطبق عليها العنوان العام، من دون تخصيص الآية بهذا المورد أو ذاك، وهذا ما نلاحظه في هذه الروايات التي فسرت الباطل بالقمار تارة واليمين الكاذبة أخرى، كما استوحت الرواية الثانية من الآية قضية التحاكم إلى حكام الجور والامتناع عن التحاكم إلى حكام العدل، لأن أولئك قد يحكمون بغير الحق بالرشوة التي قد يطلبها الحاكم ويقدمها المرتشي إليه.

4. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ أي: لا يتملك أيّ واحد منكم المال الذي لا يستحقه، وذلك من خلال الوسائل غير الشرعية التي لا يرضها الشرع ولا يقبلها العقلاء، سواء كان ذلك بالغصب والظلم أو القمار ونحوه، فإن مسألة الحق في المال خاضعة لأسباب معينة جرى عليها العقلاء في الواقع الاجتماعي والاقتصادي في المعاملات العامة والخاصة، وأمضاها الشارع أو لم يردع عنها، مما يجعل الوسائل الآخرى تقع في حيّز الباطل الذي يحرم أكل‏ المال والاستيلاء عليه من جهته.

5. ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ أي: تلقوا بها إلى القضاة الذين ينظرون في قضايا الناس لإصدار الأحكام فيها، وذلك قد يكون برشوة الحاكم الجائر المنحرف للحكم بالباطل، وقد يكون بتقديم القضايا للمحاكم من خلال الحجة الباطلة، والبينة الكاذبة، والضغط القاسي، واليمين الكاذبة، للوصول إلى أخذ المال من غير حق بفعل الأساليب غير المشروعة، وقد روى المفسرون عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال للخصمين‏: (إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم ألحن‏، ثم ليحلّل كل واحد منكما صاحبه)

6. ربما كان الظاهر من سياق الآية ـ على ما يخطر بالبال ـ أن المشكلة تتصل بالإدلاء بالأموال إلى الحكام، بحيث تكون المسألة اتفاقا بين الاكل والحاكم للحكم بالباطل بواسطة الرشوة ونحوها، لأن الآية تدل على الإدلاء بالأموال إلى الحاكم بمعنى تقريبها منه وجعلها في تصرفه، ليحكم بها على مزاجه من خلال ما يقدم اليه منها من الحصة أو الرشوة، وهذا هو المستفاد من رواية الإمام الصادق عليه السّلام الثانية التي ذكرناها في صدر تفسير الآية وفي ضوء هذا لا مجال للاستدلال بالحديث المروي عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على عنوان الآية والله العالم.

7. ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ﴾ من خلال الوسائل غير المشروعة في الاستيلاء عليه، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ واقع الحال الذي يوحي إليكم بأنكم على الباطل من دون أية شبهة، مما يجعل جريمتكم أكبر لأن ارتكاب الحرام مع العلم أكثر خطورة وأعظم قبحا من ارتكابه مع الشك.

8. هذا تشريع جديد، يضاف إلى التشريعات الإسلامية التي يراد من خلالها تنظيم الواقع الاجتماعي للمسلمين، ولكنه تشريع يتعلق بالعلاقات المالية بينهم، فإن الإسلام يقرّ الملكية الفردية التي تقتضي اختصاص كل فرد بحصته من المال الذي أعده الله وخلقه للإنسان، ولكنه نظم له طريقة الاختصاص والتملك بطرق شرعية خاصة، فأحل له ذلك بأسباب وحرم عليه بأسباب أخرى، واعتبر كل سبب لا يقره الشرع باطلا لا يحقق ملكا ولا يبيح تصرفا، ونهى الإنسان عن كل علاقة باطلة بكل ما تستتبعه من أوضاع وتكاليف، وكنّى عن ذلك بالأكل باعتبار أن الأكل يمثل أولى الحاجات الطبيعية التي يقبل عليها الإنسان في وجوده لحفظ حياته، وربما كان التعبير بـ ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ إشارة إلى أن المال للجماعة، ولكن الله جعل لكل فرد منه حصة خاصة يتصرف فيه بما يريد مما لا يسيء إلى مصلحة الآخرين، الأمر الذي يؤكد الصفة العامة للمال من موقع تأكيده على الصفة الخاصة على أساس أن لكل منهما وظيفة ودورا لا يتعداه ولا يسيء في حركته العملية للآخر.

9. لا بد لنا في هذا المجال من مواجهة كل علاقاتنا المالية بالوعي الشرعي الذي يميز بين الحق والباطل فيها، في ما أباحه الله وما حرمه منها، وذلك في ما يستحدثه الناس من التشريعات المالية في توزيع المال من جهة، وفي أخذه من أصحابه من جهة أخرى، كما نراه في تشريعات التأميم في‏ الأوضاع الثورية التي قد تتفجر بها التطورات السياسية، وفي ما ينحرف به السلوك في مجالات التطبيق الفردي والجماعي، فإن على المسلم أن لا يندفع مع التيارات المتحركة في الساحة بعيدا عن حكم الله، انطلاقا من الحالات الانفعالية في الثورة على الظلم والظالمين، فإن تحطيم الظلم لا يمكن أن يحصل بظلم جديد آخر، بل لا بد من أن ينطلق من موقع العدل المتمثل بالتشريع الإسلامي.

10. تعرضت الآية في حركة التطبيق العملي لهذا الخط، إلى ما يتعارف بين الناس من بذل الأموال لحكام الجور على طريق الرشوة، من أجل أن يحكموا لهم بالباطل في ما يتنازعون فيه من قضايا الأموال والحقوق، وما يقدمونه ضد بعضهم البعض من دعاوى باطلة، فإن الآية تشجب هذا السلوك وتنبّه الناس إلى أن لا يقدموا أموالهم إلى الحكام على سبيل الرشوة، من أجل أن يأكلوا فريقا من أموال الناس بالطرق غير الشرعية التي لا يكسب الإنسان منها إلا الإثم والعذاب عند الله، الذي يعلمونه حقا في ما أوحاه الله إلى أنبيائه ورسله.

11. في الآية لفتة موحية إلى الحكام بطريق غير مباشر، في أن يمتنعوا عن أخذ ذلك، باعتبار ما فيه من تزييف للحق بالباطل ومن الحكم بالمال إلى غير مستحقه، مما يؤدي بهم إلى عذاب الله من جهة وإلى ضمان المال من جهة أخرى، وقد وردت الأحاديث الكثيرة التي تفيد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال:‏ (لعن الله الراشي والمرتشي والماشي بينهما) بالرشوة، وفي بعضها أن الرشوة كفر بالله العظيم‏، وفي بعضها أنها شرك‏.

12. قد يكون من بين الموارد التي تشملها هذه الآية ـ ولو بالإيحاء ـ ما يتعارف عليه بعض الناس من توكيل بعض المحامين، ليدافعوا عن الدعاوي‏ الباطلة، وليجدوا لهم مخرجا من القانون يمكنهم من خلاله ربح الدعوى على الإنسان البريء أو المظلوم، وقد يكون من بينها ما يلجأ إليه بعض الناس من الرجوع إلى القانون الوضعي المدني، الذي يحلل للناس بعض ما حرمه الله، كما في القوانين التي تساوي بين الذكر والأنثى في الميراث، وذلك للحصول على الحصة التي لا يحلها الشرع من المال، فإن ذلك أكل للمال بالباطل من جهة، وإدلاء بالمال إلى الحكام ولو بالواسطة من جهة أخرى، في ما يتعلق بالمحامين الذين يحرم عليهم أخذ الأجرة على ذلك كما يحرم على الآخرين دفعها إليهم، لأن ذلك باطل بباطل.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/54.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. هذه الآية الكريمة تشير إلى أحد الأصول المهمّة والكليّة للاقتصاد الإسلامي الحاكمة على مجمل المسائل الاقتصاديّة، بل يمكن القول إنّ جميع أبواب الفقه الإسلامي في دائرة الاقتصاد تدخل تحت هذه القاعدة ولذا نلاحظ أنّ الفقهاء العظام تمسّكوا بهذه الآية في مواضع كثيرة في الفقه الإسلامي وهو قوله تعالى‏ ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾

2. المراد من (الباطل) في هذه الآية الشريفة ذكر له عدّة تفاسير:

أ. ذهب أحدها إلى أنّ معناه الأموال الّتي يستولي عليها الإنسان من طريق الغصب والعدوان.

ب. وذهب آخرون أنّ المراد هو الأموال الّتي يحصل عليها الشّخص من القمار وأمثاله.

ج. ويرى ثالث أنّها إشارة إلى الأموال الّتي يكتسبها الشخص بواسطة القسم‏ الكاذب (وأشكال الحيل في المعاملات والعقود التّجاريّة)

3. الظاهر أنّ مفهوم الآية عام يستوعب جميع ما ذكرنا من المعاني للباطل لأنّ الباطل يعني الزّائل وهو شامل لما ذكر من المعاني، فلو ورد في بعض الرّوايات ـ كما عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّ معناه (القسم الكاذب) أو ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام في تفسيره ب (القمار) فهو في الواقع من قبيل المصاديق الواضحة له، فعلى هذا يكون كلّ تصرّف في أموال الآخرين من غير الطريق المشروع مشمولا لهذا النهي الإلهي، وكذلك فهكذا أنّ جميع المعاملات الّتي لا تتضمّن هدفا سليما ولا ترتكز على أساس عقلائي فهي مشمولة لهذه الآية.

4. نفس هذا المضمون ورد في سورة النساء مع توضيح أكثر حيث تخاطب المؤمنين:‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾، إنّ استثناء التّجارة المقترنة مع التراضي هو في الواقع بيان لمصداق بارز للمعاملات المشروعة والمباحة، فلا تنفي الهبة والميراث والهديّة والوصيّة وأمثالها، لأنّها تحقّقت عن طريق مشروع وعقلائي.

5. الملفت للنظر أنّ بعض المفسّرين قالوا: أنّ جعل هذه الآية بعد آيات الصوم علامة على وجود نوع من الارتباط بينهما، فهناك نهي عن الأكل والشرب من أجل أداء عبادة إلهيّة، وهنا نهي عن أكل أموال الناس بالباطل الّذي يعتبر أيضا نوع من الصوم ورياضة النفوس، فهما في الواقع فرعان لأصل التقوى، ذلك التقوى الّذي ورد في الآية بعنوان الهدف النّهائي للصوم‏.

6. لا بدّ من ذكر هذه الحقيقة وهي أنّ التعبير بـ (الأكل) يعطي معنا واسعا حيث‏ يشمل كلّ أنواع التصرّفات، أي أنه تعبير كنائي عن أنواع التصرّفات، و(الأكل) هو أحد المصاديق البارزة له.

7. ثم يشير الله تعالى إلى نموذج بارز لأكل المال بالباطل والّذي يتصوّر بعض الناس أنّه حقّ وصحيح لأنّهم أخذوه بحكم الحاكم فيقول: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، (تدلوا) من مادّة (إدلاء)، وهي في الأصل بمعنى إنزال الدلو في البئر لإخراج الماء، وهو تعبير جميل للموارد الّتي يقوم الإنسان فيها بتسبيب الأسباب لنيل بعض الأهداف الخاصّة، وهناك احتمالان في تفسير هذه الجملة:

أ. الأول: هو أن يكون المراد أن يقوم الإنسان بإعطاء قسم من ماله إلى القضاة على شكل هديّة أو رشوة (وكليهما هنا بمعنى واحد) ليتملّك البقيّة، فالقرآن يقول: إنّكم بالرّغم من حصولكم على المال بحكم الحاكم أو القاضي ظاهرا، ولكنّ هذا العمل يعني أكل للمال بالباطل، وهو حرام.

ب. الثّاني: أن يكون المراد أنّكم لا ينبغي أن تتحاكموا إلى القضاة في المسائل الماليّة بهدف وغرض غير سليم، كأن يقوم أحد الأشخاص بإيداع أمانة أو مال ليتيم لدى شخص آخر من دون شاهد، وعند ما يطالبه بالمال يقوم ذلك الشخص بشكايته لدى القاضي، وبما أنّ المودع يفتقد إلى الشاهد فسوف يحكم القاضي لصالح الطرف الآخر، فهذا العمل حرام أيضا وأكل للمال بالباطل.

8. لا مانع من أن يكون لمفهوم الآية هذه معنا واسعا يشمل كلا المعنيين في جملة (لا تدلوا)، بالرغم من أنّ كلّ واحد من المفسرين ارتضى أحد هذين الاحتمالين.

9. الملفت للنظر أنّه‏ ورد حديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (إنّما أنا بشر وإنّما يأتيني الخصم فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له فإن قضيت له بحق مسلّم فإنّما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها) أي لا تتصوروا أنه من أمواله ويحل له أكله لأن رسول الله حكم له بهذا المال، بل هي قطعة من نار.

10. من الأوبئة الاجتماعية التي ابتلي بها البشر منذ أقدم العصور وباء الارتشاء، وكانت هذه الظاهرة المرضيّة دوما من موانع إقامة العدالة الاجتماعية ومن عوامل جرّ القوانين لصالح الطبقات المقتدرة، بينما سنّت القوانين لصيانة مصالح الفئات الضعيفة من تطاول الفئات القوية عليهم، الأقوياء قادرون بما يمتلكونه من قوّة أن يدافعوا عن مصالحهم، بينما لا يملك الضعفاء إلّا أن يلوذوا بالقانون ليحميهم، ولا تتحقّق هذه الحماية في جوّ الارتشاء، لأنّ القوانين ستصبح ألعوبة بيد القادرين على دفع الرشوة، وسيستمر الضعفاء يعانون من الظلم والاعتداء على حقوقهم.

11. لهذا شدّد الإسلام على مسألة الرشوة وأدانها وقبّحها واعتبرها من الكبائر، فهي تفتّت الكيان الاجتماعي، وتؤدي إلى تفشّي الظلم والفساد والتمييز بين الأفراد في المجتمع الإنساني، وتصادر العدالة من جميع مؤسّساته.

12. جدير بالذكر أنّ قبح الرشوة قد يدفع بالراشين إلى أن يغطّوا رشوتهم بقناع من الأسماء الأخرى كالهدية ونظائرها، ولكن هذه التغطية لا تغيّر من ماهيّة العمل شيئا، والأموال المستحصلة عن هذا الطريق محرّمة غير مشروعة، وهذا (الأشعث بن قيس) يتوسّل بهذه الطريقة، فيبعث حلوى لذيذة إلى بيت‏ أمير المؤمنين علي عليه السّلام أملا في أن يستعطف الإمام تجاه قضية رفعها إليه، ويسمّي ما قدّمه هديّة، فيأتيه جواب الإمام صارما قاطعا، قال: (هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟.. والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وأنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعليّ ونعيم يفنى ولذّة لا تبقى!؟)

13. الإسلام أدان الرشوة بكلّ أشكالها، وفي السيرة أنّ واحدا ممّن ولّاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل رشوة قدّمت إليه بشكل هدية، فقال له الرسول: (كيف تأخذ ما ليس لك بحق!؟) قال كانت هدية يا رسول الله، قال: (أرأيت لو قعد أحدكم في داره ولم نولّه عملا أكان الناس يهدونه شيئا!؟)

14. من أجل أن يصون الإسلام القضاة من الرشوة بكلّ أشكالها الخفيّة وغير المباشرة، أمر أن لا يذهب القاضي بنفسه إلى السوق للشراء، كي لا يؤثّر فيه بائع من الباعة فيبيعه بضاعة بثمن أقل، ويكسب على أثرها تأييد القاضي في المرافعة.. أين المسلمون اليوم من هذه التعاليم الدقيقة الصارمة الهادفة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بشكل حقيقيّ عمليّ في الحياة!؟ إن مسألة الرشوة مهمّة في الإسلام إلى درجة أن الإمام الصادق عليه السّلام يقول عنها: (وأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم)، وورد في الحديث النبوي المعروف: (لعن الله الراشي والمرتشي والماشي بينهما)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/6.

81. الأهلة والحج والأبواب

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈81⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 189]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾، فقال: هي مواقيت الشهر: هكذا وهكذا وهكذا ـ وقبض إبهامه ـ فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين(1)..

2. روي عن الأصبغ بن نباتة، قال كنت جالسا عند الإمام علي فجاءه ابن الكواء، فقال: يا أمير المؤمنين، من البيوت في قول الله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾؟ فقال: نحن البيوت التي أمر الله بها أن تؤتى من أبوابها، نحن باب الله وبيوته التي يؤتى منها، فمن بايعنا وأقر بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها، ومن خالفنا وفضل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها(2)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٢٨٢.

(2) الاحتجاج: 227.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها، ويرونه برا، فقال: ﴿الْبِرُّ﴾، ثم نعت البر، وأمر بأن يأتوا البيوت من أبوابها(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ إنما البر أن تتقوا الله(2)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٢٨٨.

(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٢٤.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله: ﴿مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾، قال في عدة نسائهم، ومحل دينهم، وشروط الناس، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول الشاعر وهو يقول(1).:

çوالشمس تجري على وقت مسخرة... إذا قضت سفرا استقبلت سفراé

2. روي أنّه قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾: نزلت في معاذ بن جبل، وثعلبة بن عنمة، وهما رجلان من الأنصار، قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم، ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، لا يكون على حال واحد؟ فنزلت: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾، قل: هي مواقيت للناس في حل دينهم، ولصومهم، ولفطرهم، وعدة نسائهم، والشروط التي تنتهي إلى أجل معلوم(2)..

3. روي أنّه قال: سأل الناس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الأهلة؛ فنزلت هذه الآية: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ يعلمون بها حل دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم(3)..

4. روي أنّه قال: أن رجالا من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدهم من عدوه شيئا أحرم فأمن، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته، واتخذ نقبا من ظهر بيته، فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة كان بها رجل محرم كذلك، وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دخل بستانا فدخله من بابه، ودخل معه ذلك المحرم، فناداه رجل من ورائه: يا فلان، إنك محرم، وقد دخلت مع الناس! فقال: يا رسول الله، إن كنت محرما فأنا محرم، وإن كنت أحمس فأنا أحمس، فأنزل الله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ إلى آخر الآية، فأحل للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها(4)..

5. روي أنّه قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذات يوم وهو محرم من باب بستان قد حرث، فأبصره رجل من غير الحمس، يقال له: قطبة بن عامر بن حديدة، أحد بني سلمة، فأتبع بصره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا رسول الله، رضيت بدينك وهديك وسنتك، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ الآية(5)..

__________

(1) مسائل نافع بن الأزرق: ص١٩٦.

(2) أبو نعيم في معرفة الصحابة: ١/٤٩٣ ـ: ٤٩٤.

(3) ابن جرير: ٣/٢٨٢.

(4) ابن جرير: ٣/٢٨٧.

(5) أبو نعيم في المعرفة: ٤/٢٣٤٥.

البراء:

روي عن البراء بن عازب (ت 72 هـ) أنّه قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره؛ فأنزل الله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾(1).

__________

(1) البخاري: ٦/٢٦.

جابر:

روي عن جابر بن عبد الله (ت 78 هـ) أنّه قال: كانت قريش تدعى: الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في بستان إذ خرج من بابه، وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله، إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وإنه خرج معك من الباب، فقال له: (ما حملك على ما صنعت؟)، قال رأيتك فعلت؛ ففعلت كما فعلت، قال (إني رجل أحمس)، قال له: فإن ديني دينك، فأنزل الله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ الآية(1)..

__________

(1) الحاكم: ١/٦٥٧.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾، يعني: المؤمنين، يحذرهم(1)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٢٤.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: صم حين يصوم الناس، وأفطر حين يفطر الناس، فإن الله جعل الأهلة مواقيت(1)..

2. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا رأى الهلال استقبل القبلة وكبر ثم قال هلال رشد، اللهم أهله علينا بيمن وإيمان، وسلامة وإسلام، وهدى ومغفرة، وعافية مجللة، ورزق واسع، إنك على كل شيء قدير(2)..

3. روي أنّه قال: كان الإمام علي إذا كان بالكوفة، يخرج والناس معه يتراءى هلال شهر رمضان، فإذا رآه قال اللّهمّ أهلّه علينا بالأمن والإِيمان، والسلامة والإِسلام، وصحّة من السّقم، وفراغ لطاعتك من الشّغل، وأكفنا بالقليل من النّوم، يا رحيم(3)..

4. روي أنّه قال: رأى السجاد يوما هلال شهر رمضان، فوقف، وقال: أيّها الخلق المطيع، الدّائب السّريع، المتردّد في فلك التّقدير، المتصرّف في منازل التّدبير، آمنت بمن نوّر بك الظّلم، وأوضح بك البهم، وجعلك آية من آيات ملكه، وعلامة من علامات سلطانه، فحدّ بك الزّمان، وامتهنك بالزّيادة والنقصان، والطّلوع والأُفول، والإنارة والكسوف، في كلّ ذلك أنت له مطيع، وإلى إرادته سريع، سبحانه ما أعجب ما أظهر من أمرك، وألطف ما صنع في شأنك، جعلك مفتاح شهر حادث، لأمر حادث، جعلك هلال بركة لا تمحقها الأيام، وطهارة لا تدنّسها الآثام، هلال أمن من الآفات، وسلامة من السيئات، هلال سعد لا نحس فيه، ويمن لا نكد فيه، ويسر لا يمازجه عسر، وخير لا يشوبه شر، هلال أمن وإيمان، ونعمة وإحسان، اللّهمّ صلّ على محمد وآله، واجعلنا من أرضى من طلع عليه، وأزكى من نظر اليه، وأسعد من تعبّد لك فيه، ووفّقنا اللّهمّ فيه للطّاعة والتوبة، واعصمنا من الآثام، وأوزعنا فيه شكر النّعمة، وألبسنا فيه جنن العافية، وأتمم علينا لاستكمال طاعتك فيه المنّة، إنك أنت المنّان الحميد، وصلى الله على محمد وآله الطّيبين، واجعل لنا فيه عونا، على ما ندبتنا إليه من مفترض طاعتك، وتقبّلها إنّك الأكرم من كلّ كريم، والأرحم من كلّ رحيم(4)..

5. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾: يعني أن يأتي الأمر من وجهه، أي الأمور كان(5)..

6. روي أنّه قال عن هذه الآية: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾، فقال: آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أبواب الله وسبيله، والدعاة إلى الجنة، والقادة إليها، والأدلاء عليها إلى يوم القيامة(1)..

7. روي أنّه قال: من أتى آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أتى عينا صافية، تجري بعلم الله، ليس لها نفاد ولا انقطاع، ذلك بأن الله لو شاء لأراهم شخصه حتى يأتوه من بابه، ولكن جعل آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أبوابه التي يؤتى منها، وذلك قوله عز وجل: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾(6)..

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/86.

(2) أمالي الطوسي: 2/109.

(3) إقبال الأعمال: ص18.

(4) الإِقبال: ص17.

(5) المحاسن: 224/143.

(6) مختصر بصائر الدرجات: 54.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: سألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لم جعلت الأهلة؟ فأنزل الله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ الآية، فجعلها لصوم المسلمين، ولإفطارهم، ولمناسكهم، وحجهم، ولعدة نسائهم، ومحل دينهم، في أشياء، والله أعلم بما يصلح خلقه(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ﴾ الآية كلها، كان هذا الحي من الأنصار في الجاهلية إذا أهل أحدهم بحج أو عمرة لا يدخل دارا من بابها، إلا أن يتسور حائطا تسورا، وأسلموا وهم كذلك؛ فأنزل الله في ذلك ما تسمعون، ونهاهم عن صنيعهم ذلك، وأخبرهم أنه ليس من البر صنيعهم ذلك، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها(2)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٢٨٠، وتفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٠٤.

(2) ابن جرير: ٣/٢٨٦.

القرظي:

روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، يقول: لعلكم تفلحون غدا إذا لقيتموني(1)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٢٥.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾: لصومهم وفطرهم وحجهم(1)..

2. روي أنّه سئل عن الأهلة، فقال: هي الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر، قيل: أرأيت إن كان الشهر تسعة وعشرين، أيقضى ذلك اليوم؟، قال لا، إلا أن يشهد ثلاثة عدول، فإنهم إن شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك، فإنه يقضى ذلك اليوم(2)..

3. روي أنّه قال: الأوصياء هم أبواب الله عز وجل التي يؤتى منها، ولولاهم ما عرف الله عز وجل، وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه(3)..

__________

(1) التهذيب: 4/166.

(2) تفسير العيّاشي: 1/85.

(3) الكافي: 1/149.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا رأى الهلال قال: أيها الخلق المطيع، الدائب السريع، المتصرف في ملكوت الجبروت بالتقدير، ربي وربك الله، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والاسلام والإحسان، وكما بلغتنا أوله فبلغنا آخره، واجعله شهرا مباركا تمحو فيه السيئات، وتثبت لنا فيه الحسنات، وترفع لنا فيه الدرجات، يا عظيم الخيرات(1)..

__________

(1) عيون أخبار الإمام الرضا: 2/71/329.

الهادي إلى الحق:

قال الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾: يقول جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: مواقيت لأحكامهم، وما جعل الله عليهم من فرائضهم، من صومهم وزكاتهم وحجهم، وغير ذلك من أسبابهم(1)..

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/89.

المرتضى:

قال الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ): ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ هذا أمر من الله سبحانه للمؤمنين في آتيان البيوت من أبوابها، وتأديب لهم؛ وذلك لما أمرهم الله عز وجل بالاستئذان على أهل البيوت قبل دخولها، وقبل فتح أبوابها ـ كانوا يرون أن إتيانها من ظهورها أقرب لهم إلى الله، فطلبوا بذلك الفضل، فنهاهم الله عن ذلك، وأمرهم بإتيانها من أبوابها من بعد أن يستأنسوا ويسلموا على أهلها(1)..

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/90.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. قوله تعالى: ﴿يسألونك عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ أي سألوك عن الأهلة.

ب. ويحتمل: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ من بعد، فإن كان على هذا ففيه دليل رسالته؛ لأنه كان كما أخبر من السؤال له.

2. معنى السؤال عن الأهلة هو أنهم لما رأوا الشمس تطلع دائما على حالة واحدة، ورأوا القمر مختلف الأحوال من الزيادة والنقصان، فحملهم ذلك على السؤال عن حال القمر، فأخبر ـ عزّ وجل ـ أنه جعل الهلال معرفا للخلق الأوقات والآجال والمدد ومعرفة وقت الحج؛ لأنه لو جعل معرفة ذلك بالأيام لاشتد حساب ذلك عليهم، ولتعذر معرفة السنين والأوقات بالأيام، فجعل ـ عزّ وجل ـ بلطفه وبرحمته، الأهلة ليعرفوا بذلك الأوقات والآجال، ويعرفوا وقت الحج، ووقت الزكاة؛ طلبا للتخفيف والتيسير عليهم.

3. ﴿هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ جعل الأهلة كلها وقتا للحج، ولهذا قال أصحابنا: إنه يجوز الإحرام في الأوقات كلها، على ما يجوز بقاء الإحرام في الأوقات كلها، وأما أفعال الحج: فإنها لا تجوز إلا في وقت فعل الحج، وهو قوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: 197]، فإنما هي على أفعال فيه، دليله قوله: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ [البقرة: 197]، ولا تفرض من الحج في غير الإحرام؛ دل أنه عنى به أفعال الحج، وقد جاء: أنه سمى الإحرام على الانفراد حجّا، وسمى الطواف بالبيت حجّا، والوقوف حجّا، وقال: (الحج عرفة) وسمى الذبح حجّا، حيث قال: (أفضل الحج‏ العج والثج)، وإنما سمى كلّا منها حجّا؛ لما جعل لها أوقاتا معلومة يؤدى فيها، وأما الإحرام فإنه جعل الأشهر كلها وقتا له بقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾

4. ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ لا معنى لعطف هذا على الأول إلا على إضمار السؤال، كأنهم سألوه عن الأهلة وعن إتيان البيوت من ظهورها، فأخبر: أن ليس البر في إتيان البيوت من ظهورها، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ثم اختلف في قصة هذا الكلام:

أ. قال بعضهم‏: إن بعض العرب إذا أحرم أحدهم لم يدخل بيته من بابه، ولكن يدخل من ظهر البيت؛ مخافة تغطية الرأس إذا دخل من بابه.

ب. وقيل: إن بعض العرب إذا خرج أحدهم لحاجة ولم يقض حاجته، فرجع لم يدخل البيت من بابه، ولكن يدخل من وراء ظهره، يكره دخول بيت غير منجح ـ يتطيرون به ـ ويتفاءلون قضاءها ثانيا، فقال الله عزّ وجل: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ﴾ فيما تصنعون، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ واتبع أمر الله، وانتهى عما نهى عنه، ويأتى‏ ﴿الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾

ج. ويحتمل: أن يكون على التمثيل والرمز، ليس على التحقيق؛ كقوله: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [آل عمران: 187]، وكقوله: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [البقرة: 101]، فهو ليس على حقيقة الطرح وراء الظهر، ولكن كانوا لا يسمعون كلام الله ولا يعبئون به، وكذلك كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يسمعونه ولا يكترثون إليه، فأخبر أنه كالمنبوذ والمطروح وراء الظهر لما لم يعملوا به؛ فعلى ذلك الأول، أخبر أنه‏ ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ في ترك اتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والائتمار بأمره، أي ليس فعل البر مخالفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أمروا بإتيان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من عند على، رضى الله تعالى عنه، على ما جاء أنّه قال (أنا مدينة العلم وعلى بابها)، فمن أراد الدخول في البيت، لا بد من أن يأتي الباب فيدخل من الباب، لكن الجواب لقولهم على قدر ما تأولوا ـ أنه ذكر البيوت، وذكر الأبواب أيضا والبيوت كثيرة، والأبواب كذلك أيضا، فعلىّ وغيره من الصحابة من نحو أبى بكر، وعمر، وعثمان، فيه شرع سواء؛ ألا ترى أنّه قال (أنا مدينة الحكمة)، والمدينة لا يعرف لها باب واحد، بل يكون لها أبواب؛ فدل أن تأويلهم في على، خاصة، لا يصح، وبالله العصمة(2)..

5. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي اتقوا الله ولا تعصوه، ولا تتركوا أمره، وانتهوا عن مناهيه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/60.

(2) سنرى الرد على هذا في محله من السلسلة مع التنبيه إلى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خص عليا بكونه بابا، ولم يصف غيره بذلك، ولذلك صار كون غيره بابا محلا للظن، والعاقل لا يترك القطعي إلى الظني.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾: لما حرم الله تغطية الرأس في الإحرام كانوا لا يدخلون البيوت ولا يتسوره أحدهم، فأمرهم الله أن يأتوا البيوت من أبوابها.. وروي عن العالم في تفسير هذا الآية: أنهم إنما فعلوا ذلك عندما أمر الله بالأذن فكانوا يدعون بالإذن من ظهور البيوت(1)..

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 282.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ سبب نزولها، أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة، وهما من الأنصار، سألا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن زيادة الأهلة ونشأتها، فنزلت هذه الآية، وأخذ اسم الهلال من استهلال الناس برفع أصواتهم عند رؤيته.

2. المواقيت: مقادير الأوقات لديونهم وحجهم، ويريد بالأهلة شهورها، وقد يعبّر عن الهلال بالشهر لحلوله فيه، قال الشاعر:

çأخوان من نجد على ثقة...والشهر مثل قلامة الظّفر

حتى تكامل في استدارته‏...في أربع زادت على عشرé

3. في قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ ستة أقاويل:

أ. أحدها: أن سبب نزول ذلك، ما روى داوود عن قيس بن جبير: أن‏ الناس كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطا من بابه، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دارا، وكان رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن أيوب، فجاء فتسور الحائط على رسول الله، فلما خرج من باب الدار خرج رفاعة، فقال رسول الله: (ما حملك على ذلك؟ فقال: يا رسول الله رأيتك خرجت منه فخرجت منه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّي رجل أحمس فقال: إن تكن أحمس فديننا واحد، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ الآية، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، وعطاء، وقوله: أحمس يعني من قريش، كانوا يسمّون (الحمس) لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا، والحماسة الشدة، قال العجاج: (وكم قطعنا من قفاف حمس)، أي شداد.

ب. الثاني: عنى بالبيوت النساء، سمّيت بيوتا للإيواء إليهن، كالإيواء إلى البيوت، ومعناه: لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهن، وأتوهن من حيث يحل من قبلهن، قاله ابن زيد.

ج. الثالث: أنه في النسيء وتأخير الحج به، حين كانوا يجعلون الشهر الحلال حراما بتأخير الحج، والشهر الحرام حلالا بتأخير الحج عنه، ويكون ذكر البيوت وإتيانها من ظهورها مثلا لمخالفة الواجب في الحج وشهوره، والمخالفة إتيان الأمر من خلفه، والخلف والظهر في كلام العرب واحد، حكاه ابن بحر.

د. الرابع: أن الرجل كان إذا خرج لحاجته، فعاد ولم ينجح لم يدخل من بابه، ودخل من ورائه، تطيرا من الخيبة، فأمرهم الله أن يأتوا بيوتهم من أبوابها.

هـ. الخامس: معناه ليس البر أن تطلبوا الخير من غير أهله، وتأتوه من غير بابه، وهذا قول أبي عبيدة.

و. السادس: أنه مثل ضربه الله عزّ وجل لهم، بأن يأتوا البر من وجهه، ولا يأتوه من غير وجهه.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/250.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. البيوت والسيوح والغيوب والجيوب ـ بكسر أولها ـ شاميّ والكسائي، والأعشى لا يكسرون، الغيوب، ويكسرها حمزة، ويحيى إلا الجيوب، ويكسرها ابن كثير إلا الجيوب والغيوب، وابن فليح يكسرها كلها، وقالون يكسر منها البيوت فقط، وأبو عمرو يضمها كلها.

2. الأهلة جمع هلال وسمي الهلال، لرفع الصوت بذكره عند رؤيته، ومنه أهل بالحج: إذا رفع الصوت بالتلبية، واختلف أهل العلم الى كم يسمى هلالا:

فقال قوم: يسمى ليلتين هلالا من الشهر.

ومنهم من قال يسمى هلالا ثلاث ليال، ثم يسمى قمراً.

وقال الأصمعي: يسمى هلالا حتى يحّجر، وتحجيره: أن يستدير بخطة دقيقة.

ومنهم من قال يسمى هلالا حين يبهر ضوءه سواد الليل، فإذا غلب ضوءه، سمي قمراً، وذلك لا يكون إلا في الليلة السابعة.

وقال الزجاج: يسمى هلالا لليلتين.

واسم القمر الزبرقان، واسم دارته الهالة، والفخت اسم ضوءه، أو ظلمته على خلاف فيه، واسم ظله السمر، ومنه قيل: سمار الذين يتحدثون بالليل، وإنما اقتصر في جمعه على أهلّة، وهو لأدنى العدد، دون الفعل الذي هو للجمع الكثير، استثقالا له في التضعيف، كما قالوا، فيما ليس بمضعّف: حمار وأحمرة وحمر.

3. سؤال وإشكال: عما كان وقع السؤال من حال الأهلة؟ والجواب: قيل عن زيادتها ونقصانها، وما وجه الحكمة في ذلك، فأجيب بأن مقاديرها تحتاج إليه الناس في صومهم، وفطرهم، وحجهم وعدد نسائهم، ومحلّ ذنوبهم، وغير ذلك، وفيها دلالة واضحة على أن الصوم لا يثبت بالعدد، وأنه يثبت بالهلال، لأن العدد لو كان مراعى، لما أحيل في مواقيت الناس في الحج على ذلك بل أحيل على العدد.

4. ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ﴾ والميقات: هو مقدار من الزمان، جعل علماً لما يقدر من العمل، ومنه قوله تعالى: ﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ والتوقيت: تقدير الوقت، وقت توقيتاً، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ﴾ وكلما قدرت غاية، فهو موقت، والميقات: منتهى الوقت، ومنه قوله تعالى: ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ﴾ فالآخرة ميقات الخلق، والإهلال: ميقات الشهر، وإنما لم يصرف مواقيت، وصرف قوارير، لان قوارير فاصلة في رأس آية، فصرفت لتجري على طريقة واحدة في الآيات، كالقوافي، وليس ذلك تنوين الصرف.

5. في قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ وجهان:

أ. أحدهما: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ كما قلنا في قوله‏ ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾

ب. الثاني:على وقوع المصدر موقع الصفة، كأنه قال ولكن البار ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾:

أ. أحدهما: أنه كان قوم من الجاهلية إذا أحرموا، نقبوا في ظهر بيوتهم نقباً، يدخلون منه، ويخرجون، فنهوا عن التدين بذلك، وأمروا أن يأتوا البيوت من أبوابها، في قول ابن عباس، والبراء، وقتادة، وعطا.

ب. الثاني: قال قوم، واختاره الجبائي: إنه مثل ضربه الله لهم، ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ أي أتوا البر من وجهه الذي أمر الله به، ورّغب فيه، وهذا الوجه حسن، وروى جابر عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام في قوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ﴾ الآية، قال يعني أن يأتي الأمر من وجهه أي الأمور، وروى أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام مثل قول ابن عباس سواء.

ج. وقال قوم: أراد بالبيوت النساء، لأن المرأة تسمى بيتاً على ما بيناه فيما مضى، فكأنه نهى عن إتيان النساء في أدبارها، وأباح في قبلهنّ، والأولان أقوى وأجود.

7. الباب: هو المدخل، تقول منه: بوب تبويباً إذا جعله أبواباً، والبوّاب: الحاجب، لأنه يلزم الباب، والبابة القطعة من الشيء كالباب من الجملة.

8. سؤال وإشكال: أي تعلق لقوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ بسؤال القوم عن الأهلة؟ والجواب: لأنه لما بين ما فيه من وجه الحكمة، اقتضى لتعلموا على أمور مقدره، ولتجري أموركم على استقامة فإنما البرّ أن تطيعوا أمر الله.

9. من كسر (الباء) من البيوت، فلاستثقال الخروج من الضم الى الياء، ومن ضم غيوب وكسر البيوت، فلأن الغين لما كان مستعلياً، منع الكسر، كما منع الامالة.

10. الحج، هو قصد البيت الحرام، لأداء مناسك مخصوصة بها في وقت مخصوص، والبرّ: النفع الحسن، والظهر: الصفيحة المقابلة لصفيحة الوجه.

11. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ يعني واتقوا ما نهاكم الله عنه، وزهدكم فيه، لكي تفلحوا بالوصول الى ثوابه الذي ضمنه للمتقين.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/141.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)..:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الأهلة جمع هلال كرداء وأردية، وهو مأخوذ من رفع الصوت، ومنه استهل الصبي، وأهل بالحج إذا رفع صوته بالتلبية، وسمي الهلال هلالاً لرفع الصوت بذكره عند رؤيته، واختلف أهل اللغة، فمنهم من قال: يسمى لليلتين من الشهر هلالاً فقط، عن الزجاج، ومنهم من قال: لثلاث ليال يسمى هلالاً، ثم يسمى قمرًا، وقال الأصمعي: يسمى هلالاً حين يحجر، وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة، ومنهم من قال: يسمى هلالاً حين يبهر ضوؤه سواد الليل، وذلك في ليلة السابع.

ب. المواقيت: جمع ميقات، وهو مِفْعَالٌ من الوقت، وسواء قولك: وقت وميقات، كوعد وميعاد، والوقت: مقدار من الزمان.

ج. الظَّهر خلاف البطن.

د. أصل الحج: القصد ثم في الشرع جعل اسمًا لأفعال مخصوصة في أزمنة وأمكنة مخصوصة.

هـ. البر: النفع الحسن، ومنه البار.

2. سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الحكمة في زيادة القمر ونقصانه، واختلاف أحواله خلاف الشمس فَبَيَّنَ أن ذلك لما فيه من بيان الأوقات التي بها تتم مصالح الدين والدنيا، فأما الدين فالحج، والعمرة، والعدة، والصوم ونحوها، وأما الدنيا فلما فيه من معرفة الآجال ونحوها.

3. ثم بَيَّنَ تعالى شريعة أخرى تتضمن ذكر نعمة عظيمة فقال: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ يا محمد ﴿عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ تزيد وتنقص ﴿قُلْ هِيَ﴾ يعني الأهلة ﴿مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ أي وقت لهم في أمور دينهم ودنياهم ﴿وَالْحَجِّ﴾ وقت الحج، وأفعاله.

4. في قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ قولان:

أ. قيل: كان المحرمون لا يدخلون بيوتهم من أبوابها، ولكن من ظهورها، ونقبوا من ظهورها يدخلون ويخرجون فَنُهُوا عن ذلك، عن ابن عباس والبراء وقتادة وعطاء وجماعة من أهل التفسير:

وقيل: إلا الحُمْس هم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بنُ صعصعة وبنو نصر بن معاوية سُمُّوا حمسًا؛ لتشددهم في دينهم، والحماسة: الشدة، فكانوا لا يفعلون ذلك.

وقيل: بل كانت الحمس تفعل ذلك، عن الأصم وغيره.

وقال الزهري: كان ناس من الأنصار إذا أحرموا بالعمرة لم يَحُلْ بينهم وبين السماء شيء، ولا يدخلون من الباب، فنهوا عن ذلك.

ب. الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى يعني ائتوا البر من وجهه، وعلى ما أمر الله تعالى به، عن أبي علي، وقيل: أراد ما كان يفعله العرب من النسيء فنهوا عن ذلك، عن أبي مسلم.

5. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ المعاصي ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا الله﴾ يعني اتقوا معاصيه: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي لتفلحوا بأن تنالوا النعمة برضاه.

6. سؤال وإشكال: كيف يتصل قوله: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ بما قبله؟ والجواب: فيه قولان:

أ. الأول: ليس البر السؤال عن الأهلة، ولا أن تفعلوا هذه الأفاعيل، ولكن البر اتباع أمر الله، واتقاء معاصيه.

ب. الثاني: المراد به النسيء، عن أبي مسلم.

7. تدل الآيات الكريمة على:

أ. صانع مدبر حكيم حيث يزيد في القمر وينقص.

ب. نعمة فيها دينًا ودنيا على ما بينا من أمر الحج والعمرة والصيام، وآجال الديون والإجارات.

ج. يدل قوله: ﴿الْحَجِّ﴾ على إثبات عبادة الحج.

د. أن الاسم شرعي لتناوله أفعالاً مخصوصة لم يعرفها أهل اللغة.

هـ. يدل قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ على بطلان قول المرجئة حيث لا ينتفع بالبر إلا من اتقى الكبائر.

و. يدل قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ على بطلان قول الجبر؛ لأنه يدل أنه أراد من الجميع الفلاح.

8. قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وقالون عن نافع: ﴿الْبُيُوتِ﴾ بكسر الباء واستثقلوا الخروج من ضمة إلى ياء، والباقون بالضم على الأصل، وللقراء فيها ونظائرها نحو: بيوت وعيون وجيوبُ مذاهبَ واختلافُ رواية يطول تقصيها.

9. في الخبر عن البر وجهان:

أ. قيل: لكنَّ البرَّ برُّ مَنِ اتقى، فحذف لدلالة الكلام عليه.

ب. وقيل: وقع المصدر موقع الصفة كأنه قيل: ولكن البارَّ مَنِ اتقى.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/784.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)..:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الأهلة: جمع هلال، واشتقاقه من قولهم: استهل الصبي: إذا بكى حين يولد أو صاح، وقولهم: أهل القوم بالحج: إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، وإنما قيل هلال: لأنه حين يرى يهل الناس بذكره، يقال: أهل الهلال واستهل، ولا يقال أهل، ويقال: أهللنا الهلال، وأهللنا شهر كذا أي: دخلنا فيه، وقد اختلف في تسميته هلالا كم يسمى، ومتى يسمى قمرا؟

فقال بعضهم: يسمى هلالا ليلتين من الشهر، ثم لا يسمى هلالا إلى أن يعود في الشهر الثاني.

وقال آخرون: يسمى هلالا ثلاث ليال، ثم يسمى قمرا.

وقال بعضهم: يسمى هلالا حتى يحجر، وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة، وهذا قول الأصمعي.

وقال بعضهم: يسمى هلالا حتى يبهر ضوؤه سواد الليل، ثم يقال قمر، وهذا يكون في الليلة السابعة.

واسم القمر عند العرب الزبرقان، واسم دارته الهالة، واسم ضوئه الفخت.

ب. الميقات مقدار من الزمان، جعل علما لما يقدر من العمل، والتوقيت: تقدير الوقت، وكلما قدرت غايته فهو موقت، والميقات: منتهى الوقت، والآخرة: ميقات الخلق،والإهلال: ميقات الشهر.

ج. البر: النفع الحسن.

د. الظهر: الصفحة القابلة لصفحة الوجه.

هـ. الباب: المدخل، يقول منه بوبه تبويبا: إذا جعله أبوابا، والبواب: الحاجب، لأنه يلزم الباب، والبابة: القطعة من الشئ، كالباب من الجملة.

2. ثم بين الله تعالى شريعة أخرى، فقال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ أي: أحوال الأهلة في زيادتها ونقصانها، ووجه الحكمة في ذلك ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ أي: هي مواقيت يحتاج الناس إلى مقاديرها في صومهم، وفطرهم، وعدد نسائهم، ومحل ديونهم وحجهم، فبين سبحانه أن وجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه، ما تعلق بذلك من مصالح الدين والدنيا، لأن الهلال لو كان مدورا أبدا مثل الشمس، لم يمكن التوقيت به.

3. فيه أوضح دلالة على أن الصوم لا يثبت بالعدد، وأنه يثبت بالهلال لأنه سبحانه نص على أن الأهلة هي المعتبرة في المواقيت، والدلالة على الشهور، فلو كانت الشهور إنما تعرف بطريق العدد، لخص التوقيت بالعدد، دون رؤية الأهلة، لأن عند أصحاب العدد، لا عبرة برؤية الأهلة في معرفة المواقيت.

4. في قوله تعالى: ﴿وليس البر بأن تأتوا البيوت من طهورها﴾ وجوه:

أ. أحدها: إنه كان المحرمون لا يدخلون بيوتهم من أبوابها، ولكنهم كانوا ينقبون في ظهر بيوتهم أي: في مؤخرها نقبا يدخلون ويخرجون منه، فنهوا عن التدين بذلك، عن ابن عباس وقتادة وعطا، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام:

وقيل: إلا أن الحمس وهو قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة، كانوا لا يفعلون ذلك، وإنما سموا حمسا لتشددهم في دينهم، والحماسة: الشدة.

وقيل: بل كانت الحمس تفعل ذلك، وإنما فعلوا ذلك حتى لا يحول بينهم وبين السماء شيء.

ب. ثانيها: إن معناه ليس البر أن تأتوا البيوت من غير جهاتها، وينبغي أن تأتوا الأمور من جهاتها أي الأمور كان، وهو المروي عن جابر، عن أبي جعفر.

ج. ثالثها: إن معناه ليس البر طلب المعروف من غير أهله، وإنما البر طلب المعروف من أهله.

5. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ قد مضى معناه، وقال أبو جعفر: آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أبواب الله وسبله، والدعاة إلى الجنة، والقادة إليها، والأدلاء عليها إلى يوم القيامة،وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنا مدينة العلم، وعلي بابها، ولا تؤتى المدينة إلا من بابها،ويروى: أنا مدينة الحكمة.

6. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ معناه: واتقوا ما نهاكم الله عنه، وزهدكم فيه لكي تفلحوا بالوصول إلى ثوابه الذي ضمنه للمتقين.

7. اختلف في وجه اتصال قوله: ﴿ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها﴾ بقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾:

أ. قيل: إنه لما بين أن الأهلة مواقيت للناس والحج، وكانوا إذا أحرموا يدخلون البيوت من ورائها، عطف عليها قوله ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾

ب. وقيل: إنه لما بين أن أمورنا مقدرة بأوقات، قرن به قوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ أي: فكما أن أموركم مقدرة بأوقات، فلتكن أفعالكم جارية على الاستقامة باتباع ما أمر الله به، والانتهاء عما نهى عنه، لأن اتباع ما أمر به، خير من اتباع ما لم يأمر به

8. قرأ ابن كثير وابن ذكوان والكسائي: البيوت والشيوخ وأخواتهما بكسر أوائلها، إلا الغيوب، وقرأ حمزة وحماد ويحيى عن عاصم: كلها بالكسر إلا الجيوب، وقالون: يكسر منها البيوت فقط، والباقون بالضم،الحجة: من كسر أوائل هذه الكلمات إنما فعل ذلك لأجل الياء، أبدل من الضمة الكسرة، لأن الكسرة أشد موافقة للياء من الضمة لها، كما كسر الفاء من عيينة ونييب في تصغير عين وناب، وإن لم يكن في أبنية التصغير على هذا الوزن، لتقريب الحركة مما بعدها، ومن ضمها فعلى الأصل لأنها فعول.

9. قوله: ﴿لِلنَّاسِ﴾ في موضع رفع صفة لمواقيت، تقديره هي مواقيت كائنة للناس، والباء في قوله ﴿بِأَنْ تَأْتُوا﴾ مزيدة لتأكيد النفي وأن تأتوا في موضع الجر بالباء، والجار والمجرور في موضع النصب بأنهما خبر ليس، وقوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ قيل فيه وجهان أحدهما أن تقديره: ولكن البر من اتقى، كما قلناه في قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر﴾ والآخر: إن تقديره ولكن البار من اتقى، وضع المصدر موضع الصفة،النزول: روي أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله! إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة، فأنزل الله هذه الآية، وقال قتادة: ذكر لنا أنهم سألوا رسول الله: لم خلقت هذه الأهلة؟ فانزل الله هذه الآية.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/508.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾، هذه الآية من أوّلها إلى قوله: ﴿وَالْحَجِّ﴾، نزلت على سبب، وهو أنّ رجلين من الصّحابة قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو دقيقا، ثم يزيد ويمتلئ حتى يستدير ويستوي، ثمّ لا يزال ينقص ويدقّ حتى يعود كما كان؟ فنزلت: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾، هذا قول ابن عباس‏.

2. من قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ إلى آخرها يدلّ على سبب آخر: وهو أنّهم كانوا إذا حجّوا، ثمّ قدموا المدينة، لم يدخلوا من باب، ويأتون البيوت من ظهورها، فنسي رجل، فدخل من باب، فنزلت: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ هذا قول البراء بن عازب.

3. فيما كانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها لأجله أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنهم كانوا يفعلون ذلك لأجل الإحرام، قاله ابن عباس، وأبو العالية، والنّخعيّ، وقتادة، وقيس النّهشليّ.

ب. الثاني: لأجل دخول الشّهر الحرام، قاله البراء بن عازب.

ج. الثالث: أنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا همّ أحدهم بالشيء فاحتبس عنه؛ لم يأت بيته من بابه حتى يأتي الذي كان همّ به، قاله الحسن.

د. الرابع: أنّ أهل المدينة كانوا إذا رجعوا من عيدهم فعلوا ذلك، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه.

4. إنّما سألوه عن وجه الحكمة في زيادة الأهلّة ونقصانها، فأخبرهم أنها مقادير لما يحتاج الناس إليه في صومهم وحجّهم وغير ذلك، والأهلّة: جمع هلال، وكم يبقى الهلال على هذه التّسمية؟ فيه للعرب أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنّه يسمّى هلالا لليلتين من الشّهر.

ب. الثاني: لثلاث ليال، ثم يسمّى قمرا.

ج. الثالث: إلى أن يحجر، وتحجيره: أن يستدير بخطّة دقيقة، وهو قول الأصمعيّ.

د. الرابع: إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل.

5. حكى هذه الأقوال ابن السّريّ واختار الأوّل، قال واشتقاق الهلال من قولهم: استهلّ الصبيّ: إذا بكى حين يولد، وأهلّ القوم بالحجّ: إذا رفعوا أصواتهم بالتّلبية، فسمّي هلالا لأنّه حين يرى يهلّ النّاس بذكره.

6. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾، وقد سبق بيانه، واختلف القرّاء في البيوت وما أشبهها، قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائيّ بكسر باء (البيوت) وعين (العيون) وغين (الغيوب)، وروي عن نافع أنه ضمّ باء (البيوت) وعين (العيون) وغين (الغيوب) وجيم (الجيوب) وشين (الشيوخ)، وروى عنه قالون أنه كسر باء (البيوت)، وقرأ أبو عمرو، وأبو جعفر بضمّ الأحرف الخمسة، وكسرهنّ جميعا حمزة، واختلف عن عاصم، قال الزجّاج: من ضم (البيوت) فعلى أصل الجمع: بيت وبيوت، مثل: قلب وقلوب، وفلس وفلوس، ومن كسر، الياء بعد الباء، وذلك عند البصريين رديء جدا، لأنه ليس في الكلام فعول بكسر الفاء، وسمعت شيخنا أبا منصور اللّغويّ يقول: إذا كان الجمع على فعول، وثانيه ياء، جاز فيه الضّمّ والكسر، تقول: بيوت وبيوت، وشيوخ وشيوخ، وقيود وقيود.

__________

(1) زاد المسير: 1/153.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. نقل عن ابن عباس أنّه قال: (ما كان قوم أقل سؤالا من أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم سألوا عن أربعة عشر حرفا فأجيبوا)، ثمانية منها في سورة البقرة:

أ. أولها: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 186].

ب. ثانيها: هذه الآية، ثم الستة الباقية بعد في سورة البقرة، فالمجموع ثمانية في هذه السورة.

ج. التاسع: قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾ [المائدة: 4].

د. العاشر: في سورة الأنفال‏ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ [الأنفال: 1].

هـ. الحادي عشر: في بني إسرائيل‏ ﴿يسألونك عَنِ الرُّوحِ‏﴾ [الأسراء: 85] و.

و. الثاني عشر: في الكهف‏ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾ [الكهف: 83]

ز. الثالث عشر: في طه‏ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ﴾ [طه: 105]

ح. الرابع عشر: في النازعات‏ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾ [النازعات: 42]

2. لهذه الأسئلة ترتيب عجيب:

أ. 3. اثنان منها في الأول في شرح المبدأ فـ:

ب. الأول: قوله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ [البقرة: 186] وهذا سؤال عن الذات.

ج. الثاني: قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ وهذا سؤال عن صفة الخلاقية والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه.

د. 4. واثنان منها في الآخرة في شرح المعاد.

أحدهما: قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ﴾.

الثاني: قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ [الأعراف: 187]

5. نظير هذا أنه ورد في القرآن سورتان أولهما: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ [البقرة: 21]:

أ. أحدهما: في النصف الأول: وهي السورة الرابعة من سورة النصف الأول، فإن أولاها الفاتحة وثانيتها البقرة وثالثها آل عمران ورابعتها النساء.

ب. وثانيتهما: في النصف الثاني من القرآن وهي أيضا السورة الرابعة من سور النصف الثاني أولاها مريم، وثانيتها طه، وثالثتها الأنبياء، ورابعتها الحج.

6. ثم‏ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾:

أ. التي في النصف الأول تشتمل على شرح المبدأ فقال‏ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [النساء: 1]

ب. والتي في النصف الثاني تشتمل على شرح المعاد فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: 1] فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفية، وحكم مطوية لا يعرفها إلا الخواص من عبيده.

7. روي‏ أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم وكل واحد منهما كان من الأنصار قالا يا رسول الله: ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا، لا يكون على حالة واحدة كالشمس، فنزلت هذه الآية ويروى أيضا عن معاذ أن اليهود سألت عن الأهلة.

8. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ ليس فيه بيان إنهم عن أي شيء سألوا، لكن الجواب كالدال على موضع السؤال، لأن قوله: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ يدل على أن سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغير حال الأهلة في النقصان والزيادة، فصار القرآن والخبر متطابقين في أن السؤال كان عن هذا المعنى.

9. الأهلة جمع هلال وهو أول حال القمر حين يراه الناس، يقال له: هلال ليلتين من أول الشهر ثم يكون قمرا بعد ذلك، وقال أبو الهيثم: يسمى القمر ليلتين من أول الشهر هلالا، وكذلك ليلتين من آخر الشهر، ثم يسمى ما بين ذلك قمرا، قال الزجاج: فعال يجمع في أقل العدد على أفعلة، نحو مثال وأمثلة، وحمار وأحمرة، وفي أكثر العدد يجمع على فعل مثل حمر لأنهم كرهوا في التضعيف فعل، نحو هلل وخلل، فاقتصروا على جمع أدنى العدد.

10. ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ المواقيت جمع الميقات بمعنى الوقت كالميعاد بمعنى الوعد، وقال بعضهم الميقات منتهى الوقت، قال الله تعالى: ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ﴾ [الأعراف: 142] والهلال ميقات الشهر، ومواضع الإحرام مواقيت الحج لأنها مواضع ينتهي إليها، ولا تصرف مواقيت لأنها غاية المجموع، فصار كأن الجمع يكرر فيها فإن قيل: لم صرفت قوارير؟ قيل: لأنها فاصلة وقعت في رأس آية، فنون ليجري على طريقة الآيات، كما تنون القوافي، مثل قوله: (أقل اللوم عاذل والعتابن)‏

11. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بحقيقة المواقيت فلكيا بناء على المعلومات التي كانت في عصره، وليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

12. سؤال وإشكال: الفاعل المختار لم خصص القمر دون الشمس بهذه الاختلافات، والجواب: لعلماء الإسلام في هذا المقام جوابان.

أ. أحدهما: أن يقال: إن فاعلية الله تعالى لا يمكن تعليلها بغرض ومصلحة، ويدل عليه وجوه:

أحدها: أن من فعل فعلا لغرض فإن قدر على تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة، فحينئذ يكون فعل تلك الواسطة عبثا، وإن لم يقدر فهو عاجز.

ثانيها: أن كل من فعل فعلا لغرض، فإن كان وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده فهو ناقص بذاته، مستكمل بغيره، وإن لم يكن أولى له لم يكن غرضا.

ثالثها: أنه لو كان فعله معللا بغرض فذلك الغرض إن كان محدثا افتقر إحداثه إلى غرض آخر، وإن كان قديما لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال، فلا جرم قالوا: كل شيء صنعه ولا علة لصنعه، ولا يجوز تعليل أفعاله وأحكامه ألبتة ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]

ب. الثاني: قول من قال لا بد في أفعال الله وأحكامه من رعاية المصالح والحكم، والقائلون بهذا المذهب سلموا أن العقول البشرية قاصرة في أكثر المواضع عن الوصول إلى أسرار حكم الله تعالى في ملكه وملكوته، وقد دللنا على أن القوم إنما سألوا عن الحكمة في اختلاف أحوال القمر، فالله سبحانه وتعالى ذكر وجوه الحكمة فيه:

وهو قوله: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾

وذكر هذا المعنى في آية أخرى وهو قوله: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [يونس: 5]

وقال في آية ثالثة ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [الإسراء: 12]

13. تفصيل القول فيه أن تقدير الزمان بالشهور فيه منافع بعضها متصل بالدين وبعضها بالدنيا:

أ. أما ما يتصل منها بالدين فكثيرة:

منها الصوم، قال الله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185]

ثانيها: الحج، قال الله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: 197]

ثالثها: عدة المتوفى عنها زوجها قال الله تعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234]

رابعها: النذور التي تتعلق بالأوقات، ولفضائل الصوم في أيام لا تعلم إلا بالأهلة.

ب. أما ما يتصل منها بالدنيا فهو كالمداينات والإجارات والمواعيد ولمدة الحمل والرضاع كما قال‏ ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: 15] وغيرها فكل ذلك مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر.

14. سؤال وإشكال: لا نسلم أنا نحتاج في تقدير الأزمنة إلى حصول الشهر، وذلك لأنه يمكن تقديرها بالسنة، مثل أن يقال: كلفتكم بالطاعة الفلانية في أول السنة، أو في سدسها، أو نصفها، وهكذا سائر الأجزاء، ويمكن تقديرها بالأيام مثل أن يقال: كلفتم بالطاعة الفلانية في اليوم الأول من السنة وبعد خمسين يوما من أول السنة، والجواب: أن ما ذكرتم وإن كان ممكنا إلا أن إحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام لأن الأهلة اثنا عشر شهرا، والأيام كثيرة، ومن المعلوم أن تقسيم جملة الزمان إلى السنين، ثم تقسيم كل سنة إلى الشهور، ثم تقسيم الشهور إلى الأيام، ثم تقسيم كل يوم إلى الساعات، ثم تقسيم كل ساعة إلى الأنفاس أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخبط، ولهذا قال سبحانه: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ [التوبة: 36] وهذا كما أن المصنف الذي يراعي حسن الترتيب يقسم تصنيفه إلى الكتب، ثم كل كتاب إلى الأبواب، ثم كل باب إلى الفصول ثم كل فصل إلى المسائل فكذا هاهنا الجواب عنه.

15. سؤال وإشكال: بتقدير أن يساعد على أنه لا بد مع تقدير الزمان بالسنة وباليوم تقديره بالقمر لكن الشهر عبارة عن دورة من اجتماعه مع الشمس إلى أن يجتمع معها مرة أخرى هذا التقدير حاصل سواء حصل الاختلاف في أشكال نوره أو لم يحصل، ألا ترى أن تقدير السنة بحركة الشمس وإن لم يحصل في نور الشمس اختلافا، فكذا يمكن تقدير الشمس بحركة القمر، وإن لم يحصل في نور القمر اختلاف، وإذا لم يكن لنور القمر مخالفة بحال ولا أثر في هذا الباب لم يجز تقديره به، والجواب: ما ذكرتم، إلا أنه متى كان القمر مختلف الشكل، كان معرفة أوائل الشهور وأنصافها وأواخرها أسهل مما إذا لم يكن كذلك.

16. أخبر جل جلاله أنه دبر الأهلة هذا التدبير العجيب لمنافع عباده في قوام دنياهم مع ما يستدلون بهذه الأحوال المختلفة على وحدانية الله سبحانه وتعالى وكمال قدرته، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190] وقال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا﴾ [الفرقان: 61] وأيضا لو لم يقع في جرم القمر هذا الاختلاف لتأكدت شبه الفلاسفة في قولهم: أن الأجرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها، فهو سبحانه وتعالى بحكمته القاهرة أبقى الشمس على حالة واحدة، وأظهر الاختلاف في أحوال القمر ليظهر للعاقل أن بقاء الشمس على أحوالها ليس إلا بإبقاء الله وتغير القمر في أشكاله ليس إلا بتغيير الله فيصير الكل بهذا الطريق شاهدا على افتقارها إلى مدبر حكيم قادر قاهر، كما قال ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44]

17. لما ظهر أن الاختلاف في أحوال القمر معونة عظيمة في تعيين الأوقات من الجهات التي ذكرناها نبه تعالى بقوله: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ على جميع هذه المنافع، لأن تعديد جميع هذه الأمور يقضي إلى الإطناب والاقتصار على البعض دون البعض‏ ترجيح من غير مرجح فلم يبق إلا الاقتصار على كونه ميقاتا فكان هذا الاقتصار دليلا على الفصاحة العظيمة.

18. في قوله تعالى: ﴿وَالْحَجِّ﴾ إضمار تقديره وللحج كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ [البقرة: 233] أي لأولادكم، وإفراد الحج بالذكر لا بد فيه من فائدة ولا يمكن أن يقال تلك الفائدة هي أن مواقيت الحج لا تعرف إلا بالأهلة، قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: 197] وذلك لأن وقت الصوم لا يعرف إلا بالأهلة، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، وأحسن الوجوه فيه ما ذكره القفال: وهو أن إفراد الحج بالذكر إنما كان لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه، وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء.

19. ذكروا في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ وجوها:

أ. أحدها: قال الحسن والأصم كان الرجل في الجاهلية إذا هم بشيء فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يأتيه من خلفه ويبقى على هذه الحالة حولا كاملا، فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيرا، وعلى هذا تأويل الآية ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها على وجه التطير، لكن البر من يتقي الله ولم يتق غيره ولم يخف شيئا كان يتطير به، بل توكل على الله تعالى واتقاه وحده، ثم قال ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي لتفوزوا بالخير في الدين والدنيا كقوله: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2، 3]، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4] وتمام التحقيق في الآية أن من رجع خائبا يقال: ما أفلح وما أنجح، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أن الواجب عليكم أن تتقوا الله حتى تصيروا مفلحين منجحين وقد وردت الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنهي عن التطير، وقال (لا عدوى ولا طيرة)، وقال‏ من (رده عن سفره تطير فقد أشرك)، أو كما قال وأنه كان يكره الطيرة ويحب الفأل الحسن وقد عاب الله تعالى قوما تطيروا بموسى ومن معه‏ ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [النمل: 47]

ب. الثاني: روي أنه في أول الإسلام كان إذا أحرم الرجل منهم فإن كان من أهل المدن نقب في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلما يصعد منه سطح داره ثم ينحدر، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء، فقيل لهم: ليس البر بتحرجكم عن دخول الباب، ولكن البر من اتقى.

ج. الثالث: أن‏ أهل الجاهلية إذا أحرم أحدهم نقب خلف بيته أو خيمته نقبا منه يدخل ويخرج إلا الحمس، وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر بن معاوية، وهؤلاء سموا حمسا لتشددهم في دينهم، الحماسة الشدة، وهؤلاء متى أحرموا لم يدخلوا بيوتهم ألبتة ولا يستظلون الوبر ولا يأكلون السمن والأقط، ثم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان محرما ورجل آخر كان محرما، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حال كونه محرما من باب بستان قد خرب فأبصره ذلك الرجل الذي كان محرما فاتبعه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: تنح عني، قال ولم يا رسول الله؟ قال دخلت الباب وأنت محرم فوقف ذلك الرجل فقال: إني رضيت بسنتك وهديك وقد رأيتك دخلت فدخلت فأنزل الله تعالى هذه الآية وأعلمهم أن تشديدهم في أمر الإحرام ليس ببر ولكن البر من‏ اتقى مخالفة الله وأمرهم بترك سنة الجاهلية فقال: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾

20. ذكروا في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ ثلاثة أوجه:

أ. الأول: وهو قول أكثر المفسرين حمل الآية على هذه الأحوال التي رويناها في سبب النزول، إلا أن على هذا التقدير صعب الكلام في نظم الآية، فإن القوم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الحكمة في تغيير نور القمر، فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك، وهي قوله: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ فأي تعلق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر، وبين هذه القصة، ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن هذا السؤال من وجوه:

أحدها: أن الله تعالى لما ذكر أن الحكمة في اختلاف أحوال الأهلة جعلها مواقيت للناس والحج، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها في الحج لا جرم تكلم الله تعالى فيه.

ثانيها: أنه تعالى إنما وصل قوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ بقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ لأنه إنما اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معا في وقت واحد ووصل أحد الأمرين بالآخر.

ثالثها: كأنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة فقيل لهم: اتركوا السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم لكم فإنكم تظنون أن إتيان البيوت من ظهورها بر وليس الأمر كذلك.

ب. الثاني: في تفسير الآية أن قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ مثل ضربه الله تعالى لهم، وليس المراد ظاهره، وتفسيره أن الطريق المستقيم المعلوم هو أن يستدل بالمعلوم على المظنون، فأما أن يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب وضد الحق، وإذا عرفت هذا فإنه قد ثبت بالدلائل أن للعالم صانعا مختارا حكيما، وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البريء عن العبث والسفه، ومتى عرفنا ذلك، وعرفنا أن اختلاف أحوال القمر في النور من فعله علمنا أن فيه حكمة ومصلحة، وذلك لأن علمنا بهذا الحكيم الذي لا يفعل إلا الحكمة يفيدنا القطع بأن فيه حكمة، لأنه استدلال بالمعلوم على المجهول، فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بالحكيم، فهذا الاستدلال باطل، لأنه استدلال بالمجهول على القدح في المعلوم إذا عرفت هذا، فالمراد من قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ يعني أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق، فقد أتيتم الشيء لا من البر ولا من كمال العقل إنما البر بأن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم المتيقن وهو حكمة خالقها على هذا المجهول فتقطعوا بأن فيه حكمة بالغة، وإن كنتم لا تعلمونها، فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح، وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم، وهذا طريق مشهور في الكناية فإن من أرشد غيره إلى الوجه الصواب يقول له: ينبغي أن تأتي الأمر من بابه وفي ضده يقال: إنه ذهب إلى الشيء من غير بابه قال تعالى: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [آل عمران: 187] وقال: ﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ﴾ [هود: 92] فلما كان هذا طريقا مشهورا معتادا في الكنايات، ذكره الله تعالى هاهنا، وهذا تأويل المتكلمين ولا يصح تفسير هذه الآية فإن تفسيرها بالوجه الأول يطرق إلى الآية سوء الترتيب وكلام الله منزه عنه.

ج. الثالث: في تفسير الآية ما ذكره أبو مسلم، أن المراد من هذه الآية ما كانوا يعلمونه من النسيء، فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله له فيحرمون الحلال ويحلون الحرام فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحج وشهوره.

21. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ تقديره: ولكن البر بر من اتقى فهو كقوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 177] وقد تقدم تقريره.

22. قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم، وقالون عن نافع البيوت: بكسر الباء لأنهم استثقلوا الخروج من ضمة باء إلى ياء، والباقون بالضم على الأصل وللقراء فيها وفي نظائرها نحو بيوت، وعيون، وجيوب: مذاهب واختلافات يطول تفصيلها.

23. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فقد بينا دخول كل واجب واجتناب كل محرم تحته‏ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لكي تفلحوا، والفلاح هو الظفر بالبغية، قالت المعتزلة، ومن وافقهم: وهذا يدل على إرادته تعالى الفلاح من جميعهم، لأنه لا تخصيص في الآية.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 5/281.

ابن حمزة:

قال الإمام عبد الله بن حمزة (ت 614 هـ): ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ الآية، ذلك أن قريشا ومن تابعها كانت قد أحدثت في الحج أمورا غير شرع إبراهيم، منها: أنهم لا يقفون في عرفة، ولا يطوفون إلا في باب الحرم، ولا يدخلون البيوت في وقت الإحرام من أبوابها؛ بل يتسورون من ظهورها، ويسمون نفوسهم الحمس، والحمس: الشدة، وربما خطب الرجل إليهم، فيقولون: لا نزوجك إلا أن يكون ولدك من أنبت حمسيا؛ فيعقدون على ذلك، فلما جاء الإسلام ـ شرفه الله سبحانه ـ أبطل ذلك، فكان رجل بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأنصار، أمه قرشية في الحج، فقال له الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أدخل تريد بيتا)، فقال: يا رسول الله، إني حميس.. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وأنا حمسي)، يريد: قرشيا، ثم دخل من يديه، فتبعه الرجل، ونزل القرآن الكريم بإبطال ذلك(1)..

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/90.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ هذا مما سأل عنه اليهود، واعترضوا به على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال معاذ: يا رسول الله، إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة، فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي ويستدير، ثم ينتقص حتى يعود كما كان؟ فأنزل الله هذه الآية، وقيل: إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الهلال وما سبب محاقه‏ وكماله ومخالفته لحال الشمس، قاله ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم.

2. ﴿عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ الأهلة جمع الهلال، وجمع وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا واحدا في شهر، غير كونه هلالا في آخر، فإنما جمع أحواله من الأهلة، ويريد بالأهلة شهورها، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلول فيه، كما قال:

çأخوان من نجد على ثقة...والشهر مثل قلامة الظفرé

وقيل: سمي شهرا لان الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه، ويطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر، وليلتين من أوله، وقيل: لثلاث من أوله، وقال الأصمعي: هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق، وقيل: بل هو هلال حتى يبهر بضوئه‏ السماء، وذلك ليلة سبع، قال أبو العباس: وإنما قيل له هلال لان الناس يرفعون أصواتهم بالأخبار عنه، ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه، واستهل وجهه فرحا وتهلل إذا ظهر فيه السرور، قال أبو كبير:

çوإذا نظرت إلى أسرة وجهه‏...برقت كبرق العارض المتهلل‏é

ويقال: أهللنا الهلال إذا دخلنا فيه، قال الجوهري: (وأهل الهلال واستهل على ما لم يسم فاعله، ويقال أيضا: استهل بمعنى تبين، ولا يقال: أهل ويقال: أهللنا عن ليلة كذا، ولا يقال: أهللناه فهل، كما يقال: أدخلناه فدخل، وهو قياسه): قال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره: ويقال: أهل الهلال واستهل وأهللنا الهلال واستهللنا.

3. قال علماؤنا: من حلف ليقضين غريمه أو ليفعلن كذا في الهلال أو رأس الهلال أو عند الهلال، ففعل ذلك بعد رؤية الهلال بيوم أو يومين لم يحنث، وجميع الشهور تصلح لجميع العبادات والمعاملات.

4. ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه، وهو زوال الاشكال في الآجال والمعاملات والايمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات والاكرية، إلى غير ذلك من مصالح العباد، ونظيره قوله الحق: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [الاسراء: 12] على ما يأتي‏، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [يونس: 5]، وإحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام.

5. بهذا الذي قررناه يرد على أهل الظاهر ومن قال بقولهم: إن المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة، واحتجوا بأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عامل اليهود على شطر الزرع والنخل ما بدا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من غير توقيت، وهذا لا دليل فيه، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لليهود: (أقركم فيها ما أقركم الله)، وهذا أدل دليل وأوضح سبيل على أن ذلك خصوص له، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه، وليس كذلك غيره، وقد أحكمت الشريعة معاني الإجارات وسائر المعاملات، فلا يجوز شي منها إلا على ما أحكمه الكتاب والسنة، وقال به علماء الامة.

6. ﴿مَوَاقِيتُ﴾ المواقيت: جميع الميقات وهو الوقت، وقيل: الميقات منتهى الوقت، و﴿مَوَاقِيتُ﴾ لا تنصرف، لأنه جمع لا نظير له في الآحاد، فهو جمع ونهاية جمع، إذ ليس يجمع فصار كأن الجمع تكرر فيها، وصرفت قوارير في قوله: ﴿قَوَارِيرَا﴾ [الإنسان: 16] لأنها وقعت في رأس آية فنونت كما تنون القوافي، فليس هو تنوين الصرف الذي يدل على تمكن الاسم.

7. ﴿وَالْحَجِّ﴾ بفتح الحاء قراءة الجمهور، وقرا ابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وفي قوله: ﴿حِجُّ الْبَيْتِ﴾ في [آل عمران: 97] في آل عمران، سيبويه: الحج كالرد والشد، والحج كالذكر، فهما مصدران بمعنى وقيل: الفتح مصدر، والكسر الاسم.

8. أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، وأنه لا يجوز النسي فيه عن وقته، بخلاف ما رأته العرب، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور، فأبطل الله قولهم وفعلهم، على ما يأتي بيانه في براءة إن شاء الله تعالى.

9. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالمواقيت، وخصوصا مواقيت الحج، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

10. ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ اتصل هذا بذكر مواقيت الحج لاتفاق وقوع القضيتين في وقت السؤال عن الأهلة وعن دخول البيوت من ظهورها، فنزلت الآية فيهما جميعا، وكان الأنصار إذا حجوا وعادوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، فإنهم كانوا إذا أهلوا بالحج أو العمرة يلتزمون شرعا ألا يحول بينهم وبين‏ السماء حائل، فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك، أي من بعد إحرامه من بيته، فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء، فكان يتسنم ظهر بيته على الجدران، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته، فكانوا يرون هذا من النسك والبر، كما كانوا يعتقدون أشياء نسكا، فرد عليهم فيها، وبين الرب تعالى أن البر في امتثال أمره، وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بالحج فإن كان من أهل المدر ـ يعني من أهل البيوت ـ نقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلما فيصعد منه وينحدر عليه، وإن كان من أهل الوبر ـ يعني أهل الخيام ـ يدخل من خلف الخيام الخيمة، إلا من كان من الحمس، وروى الزهري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرته ودخل خلفه رجل أنصاري من بني سلمة، فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لم دخلت وأنت قد أحرمت)، فقال: دخلت أنت فدخلت بدخولك، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إني أحمس) أي من قوم لا يدينون بذلك، فقال له الرجل: وأنا ديني دينك، فنزلت الآية، وقاله ابن عباس وعطاء وقتادة، وقيل: إن هذا الرجل هو قطبة بن عامر الأنصاري، والحمس: قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم‏ حمس أي شداد.

11. اختلفوا في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾:

أ. قيل ما ذكرنا في سبب النزول، وهو الصحيح، لما رواه البراء قال كان الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت من أبوابها، قال فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾، وهذا نص في البيوت حقيقة، خرجه البخاري ومسلم، أما تلك الأقوال فتؤخذ من موضع آخر لا من الآية.

ب. وقيل: إنه النسي وتأخير الحج به، حتى كانوا يجعلون الشهر الحلال حراما بتأخير الحج إليه، والشهر الحرام حلالا بتأخير الحج عنه، فيكون ذكر البيوت على هذا مثلا لمخالفة الواجب في الحج وشهوره، وسيأتي بيان النسي في سورة براءة إن شاء الله تعالى.

ج. وقال أبو عبيدة: الآية ضرب مثل، المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن اتقوا الله واسألوا العلماء، فهذا كما تقول: أتيت هذا الامر من بابه.

د. وحكى المهدوي ومكي عن ابن الأنباري، والماوردي عن ابن زيد أن الآية مثل في جماع النساء، أمر بإتيانهن في القبل لا من الدبر، وسمي النساء بيوتا للإيواء إليهن كالإيواء إلى البيوت، قال ابن عطية: وهذا بعيد مغير نمط الكلام.

هـ. وقال الحسن: كانوا يتطيرون، فمن سافر ولم تحصل حاجته كان يأتي بيته من وراء ظهره تطيرا من الخيبة، فقيل لهم: ليس في التطير بر، بل البر أن تتقوا الله وتتوكلوا عليه.

و. وقد قيل: إن الآية خرجت مخرج التنبيه من الله تعالى على أن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا ليشير به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا الله تعالى إليه، فعلى هذا يصح ما ذكر من الأقوال.

12. في هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب، قال ابن خويز منداد: إذا أشكل ما هو بر وقربة بما ليس هو بر وقربة أن ينظر في ذلك العمل، فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون، وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة، وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذكر حديث ابن عباس قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخطب إذا هو برجل قائم‏ في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هو أبو إسرائيل‏، نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه)، فأبطل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته، وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏2/342.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. الأهلة: جمع هلال، وجمعها: باعتبار هلال كل شهر، أو كل شهر، قال الأصمعي: هو هلال حتى يستدير ـ وقيل: هو هلال حتى ينير بضوئه السماء وذلك ليلة السابع، وإنما قيل له: هلال، لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه عند رؤيته، ومنه استهلّ الصبي: إذا صاح، واستهلّ وجهه وتهلّل: إذا ظهر فيه السرور.

2. ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ فيه بيان وجه الحكمة في زيادة الهلال ونقصانه، وأن ذلك لأجل بيان المواقيت التي يوقت الناس عباداتهم؛ ومعاملاتهم بها، كالصوم، والفطر، والحج، ومدّة الحمل، والعدّة والإجارات، والأيمان وغير ذلك، ومثله قوله تعالى: ﴿لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ والمواقيت: جمع الميقات، وهو الوقت.

3. ﴿وَالْحَجِّ﴾ بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها في جميع القرآن، قال سيبويه: الحج بالفتح كالردّ والشدّ، وبالكسر كالذكر: مصدران بمعنى؛ وقيل: بالفتح مصدر، وبالكسر الاسم، وإنما أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، ولا يجوز فيه النسيء عن وقته، ولعظم المشقة على من التبس عليه وقت مناسكه أو أخطأ وقتها أو وقت بعضها.

4. جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب، أعني قوله: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ﴾ من الأسلوب الحكيم، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب، تنبيها على أنه الأولى بالقصد، ووجه ذلك: أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ونقصانها، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة والنقصان لأجلها، لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل، وأحق بأن يتطلع لعلمه.

5. ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ وجه اتصال هذا بالسؤال عن الأهلة والجواب بأنها مواقيت للناس والحج: أن الأنصار كانوا إذا حجّوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه، لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز أن يحول بينه وبين السماء حائل، وكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم، وقال أبو عبيدة: إن هذا من ضرب المثل، والمعنى: ليس البرّ أن تسألوا الجهال، ولكن البرّ التقوى، واسألوا العلماء، كما تقول: أتيت هذا الأمر من بابه؛ وقيل: هو مثل في جماع النساء، وأنهم أمروا بإتيانهنّ في القبل لا في الدبر؛ وقيل غير ذلك.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/218.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. معنى كونها ﴿مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ معالم لهم في حلّ دينهم، ولصومهم، ولفطرهم، وأوقات حجهم، وأجائرهم، وأوقات الحيض وعدد نسائهم، والشروط التي إلى أجل، فكلّ هذا مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلّا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر زيادة ونقصا، ولهذا خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة، قال بعض المفسّرين: ثمرة الآية أنّ الأحكام الشرعية ـ كالزكاة والعدد للنساء والحمل تتعلق بشهور الأهلّة لا بشهور الفرس، أمّا ما تعلّق بالعقود والأفعال المتعلقة بفعل بني آدم فيتبع فيه العرف من حسابهم، بالأهلة أو بشهور الفرس، فهذا حكم، وذاك حكم آخر.

2. ذكر الله تعالى هذا المعنى في آيات، كقوله سبحانه: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [يونس: 5]، وقوله: ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [الإسراء: 12]، أي: من غير افتقار إلى مراجعة المنجّم وحساب الحاسب، رحمة منه تعالى وفضلا.

3. إفراد (الحج) بالذكر هنا تنويها بشأنه، وقال القفال: نكتة إفراده بيان أنّ الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه، وأنّه لا يجوز نقل الحجّ من تلك الأشهر إلى أشهر، كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء.

4. الجمهور على فتح حاء (الحجّ)؛ والحسن على كسرها في جميع القرآن، قال سيبويه هما مصدران كالردّ والذكر؛ وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم.

5. ﴿والأهلّة﴾ جمع هلال، وجمعه باختلاف زمانه، وهو: غرّة القمر إلى ثلاث ليال أو سبع، ثمّ يسمّى قمرا، وليلة البدر لأربع عشرة، قال أبو العباس: سمي الهلال هلالا لأنّ الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، وسمي بدرا لمبادرته الشمس بالطلوع كأنّه يعجلها المغيب، ويقال: سمّي بدرا لتمامه وامتلائه، وكلّ شيء تمّ فهو بدر.

6. الجواب على الرواية الثانية في سبب نزول الآية من الأسلوب الحكيم، وهو تلقّي السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره، تنبيها للسائل على أن ذلك الغير هو الأولى بحاله أو المهم له، فلمّا سألوا عن السبب الفاعليّ للتشكلات النورية في الهلال، أجيبوا بما ترى من السبب الغائي، تنبيها على أنّ السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم، لأنّ درك الأسباب الفاعلية لتلك التشكلات مبنيّ على أمور من علم الهيئة لا عناية للشرع بها، فلو أجيبوا: بأنّ اختلاف تشكلات الهلال، بقدر محاذاته للشمس، فإذا حاذاها طرف منه استنار ذلك الطرف، ثم تزداد المحاذاة والاستنارة حتى إذا تمت بالمقابلة امتلأ، ثمّ تنقص المحاذاة والاستنارة حتى إذا حصل الاجتماع أظلم بالكلية ـ لكان هذا الجواب اشتغالا بعلم الهيئة الذي لا ينتفع به في الدين، ولا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم، والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما بعث لبيان‏ ذلك، وقد روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من اقتبس علما من النجوم اقتبس بابا من السحر زاد ما زاد)، أخرجه أحمد وأبو داوود وابن ماجة عن ابن عباس، وقال عليّ: (من طلب علم النجوم تكهّن) وهو من العلم الذي‏ قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (علم لا ينفع، وجهل لا يضرّ)(2).

7. المقصود أنّ الجواب، على الرواية الثانية، من الأسلوب الحكيم، إشعارا بأنّ الأولى السؤال عن الحكمة فيه، قال السكاكيّ في (المفتاح): ولهذا النوع ـ أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر ـ أساليب متفنّنة، إذ ما من مقتضى كلام ظاهريّ إلّا ولهذا النوع مدخل فيه بجهة من جهات البلاغة، ترشد إليه تارة بالتصريح، وتارة بالفحوى، ولكلّ من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها، ولا كأسلوب الحكيم فيها، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب كما قال:

çأتت تشتكي عندي مزاولة القرى...،وقد رأت الضيفان ينحون منزلي‏

فقلت، كأني ما سمعت كلامها:..هم الضيف، جدّي في قراهم وعجّلي‏é

أو السائل بغير ما يتطلب كما قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ الآية قالوا في السؤال: ما بال الهلال يبدو دقيقا؟ فأجيبوا بما ترى، وكما قال ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: 215]، سألوا عن بيان ما ينفقون، فأجيبوا ببيان المصرف، ينزل سؤال السائل منزلة سؤال غير سؤاله، لتوخّي التنبيه له بألطف وجه على تعديه عن موضع سؤال هو أليق بحاله أن يسأل عنه، أو أهمّ له إذا تأمل، وأنّ هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقور، وأبرزه في معرض المسحور؛ وهل ألان شكيمة الحجاج لذلك الخارجيّ، وسلّ سخيمته، حتى آثر أن يحسن، على أن يسيء غير أن سحره بهذا الأسلوب؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله: (لأحملنك على الأدهم!) فقال متغابيا: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب! مبرزا وعيده في معرض الوعد، متوصلا أن يريه بألطف‏ وجه: أنّ أمرأ مثله ـ في مسند الإمرة المطاعة ـ خليق بأن يصفد لا أن يصفد، وأن يعد لا أن يوعد.

8. قال الراغب في (تفسيره) الباب معروف، وعنه استعير لمدخل الأمور المتوصل به إليها وقيل في العلم: باب كذا، وقد سئل عليه السلام عن زيادة القمر ونقصانه، فأنزل الله هذه الآية تنبيها على أظهر فائدته للحسّ، وأبينها له، ثمّ قال: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ أي: بأن تطلبوا الأمر من غير وجهه، وذلك أنّه يقال: أتى فلان البيت من بابه ـ إذا طلب الشيء من وجهه، وقال الشاعر: (أتيت المروءة من بابها)، وأتى البيت من ظهره: إذا طلب الأمر من غير وجهه، وجعل ذلك مثلا لسؤالهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عمّا هو ليس من العلم المختص بالنبوّة، وإنّ ذلك عدول عن المنهج، وذلك أنّ العلوم ضربان:

أ. دنيوي، يتعلق بأمر المعاش ـ كمعرفة الصنائع، ومعرفة حركات النجوم، ومعرفة المعادن، والنبات، وطبائع الحيوانات، وقد جعل لنا سبيلا إلى معرفته على غير لسان نبيّه عليه السلام.

ب. وشريعة: وهو البرّ، ولا سبيل إلى أخذه إلّا من جهته، وهو أحكام التقوى، فلمّا جاؤوا يسألون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، عمّا أمكنهم معرفته من غير جهته، أجابهم، ثمّ بيّن لهم أنّه ليس البرّ ترك المنهج في السؤال من النبيّ ما ليس مختصا بعلم نبوّته، ولكنّ البرّ هو مجرد التقوى: وذلك يكون بالعلم والعمل المختصّ بالدين.

9. قال أبو مسلم الأصفهانيّ: المراد من هذه الآية، ما كانوا يعملونه من النسيء، فإنهم كانوا يخرجون الحجّ عن وقته الذي عينه الله له، فيحرمون الحلال ويحللون الحرام، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحجّ وشهوره، أمّا ما رواه البخاري‏ وغيره عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجّوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه، فكأنه عيّر بذلك، فنزلت‏ ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ﴾ الآية، فالمراد، من نزولها في ذلك، صدقها عليه‏ حسبما رآه لا أنّ ذلك كان سبب نزولها، كما بيّنا مرارا معنى قولهم: نزلت الآية في كذا.

10. أشار، لهذا الراغب بعد حكايته هذه الرواية وما قاله أبو مسلم ـ بقوله: وكلّ ذلك لا يدفع أن تتناوله الآية، لكنّ الأليق أن تؤول الآية بما تقدم ذكره من أنّ معنى‏ ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ أي: تحروا في كلّ عمل إتيان الشيء من وجهه، تنبيها على أن ما يطلب من غير وجهه صعب تناوله، ثمّ قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ حثّا لنا أن نجعل تقوى الله شعارنا في كلّ ما نتحراه، وبيّن أنّ ذلك ذريعة إلى تحصيل الفلاح.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/54.

(2) هذه الأحاديث والآثار إن صحت فالمقصود منها علم الهيئة كما كان عليه في العصور السابقة لارتباطه بالتنجيم.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ يا محمَّد ﴿عَنِ الَاهِلَّةِ﴾ السائل: معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنم؛ فالجمع لأنَّ أقلَّ الجمع اثنان، أو مجازًا، أو لأنَّهما من قوم رضوا هذا السؤال، أو حكم على المجموع، قالا: يا رسول الله، يطلع دقيقًا ثمَّ ينمو حتَّى يكمل، ثمَّ ينقص حتَّى يكون على حال طلوعه أوَّلا ويذهب، لِمَ لَمْ يكن كالشمس بحال واحدة؟

2. وسمِّي هلالاً لأنَّه يرفع الصوت عند طلوعه أوَّلاً، ورفع الصوت إهلال، وهو هلال في الأولى: أو في الثانية: أيضًا أو في الثالثة معهما، أو هو هلال حتَّى يحجز بخطٍّ دقيق كما قال الأصمعيُّ، أو حتَّى يبهر ضوؤه سوادَ الليل، وغيَّى بعضهم ذلك بسبع ليال، قيل: وكذا في آخره هو هلال، ولا يصحُّ، وبين ذلك قمر، والمراد هنا مطلق هذا الكوكب كما رأيت في السؤال، يسمَّى قمرًا مطلقًا مجازًا أو اشتراكًا، وَأَمَّا جمع الهلال مع أنَّه واحد فباعتبار ليالي طلوعه، والسؤال لم يختصَّ بهلال دون آخر، والمضارع لإمكان تكرير السؤال، أو لتنزيل الماضي منزلة الحاضر، أو الماضي منزلة المستقبل، أو تنزيل حالة النزول منزلة ما قبل السؤال، وقيل: إنَّ السؤال من اليهود للصحابة يعتبر أنَّ سؤال الصحابة سؤال للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ لأنَّهم مستفيدون منه وسائلون له في كلِّ ما أرادوا.

3. ﴿قُلْ﴾ لهم: ﴿هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ لأمورهم الدنيويَّة والدينيَّة، كأَجَل الدَّين والإجارة والعدَّة والحيض والصوم والحجِّ، وقد ذكره الله، وليس من ذلك المزارع لأنَّها بسير الشمس وشهورها، وهذا جواب على مقتضى الظاهر؛ سألوا عن الحكمة في اختلاف تشكُّل القمر، فقال: حكمته أنَّه مواقيت للناس، إذ لو بقي على شكل واحد لم تتعدَّد الأشهر، وإن كان سؤالهم عن السبب في ذاته.

4. كان الجواب على خلاف مقتضى الظاهر إرشادًا لهم بأنَّ الأليق أن يسألوا عن الحكمة، والنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يبعثه الله لدقائق علم الهيئة بل للشرعيَّات، ولو أجابهم بالسبب لقال: ذلك لِقُرْبِه من الشمس وبعده، ولا بأس به لظهوره، ولا تأباه الشريعة، إلَّا أن تقول الشريعة: لا تجزموا بذلك، بل قولوه على الظنِّ، أو بأنَّ الله جعله سببًا لتولُّد ما يتولَّد، والله هو الخالق كما يخلق النبات بالماء، لكن لا دليل على هذا، وإنَّما ظهر بعضه في الشمس، والميقات آلة الحدِّ قياسًا، فذلك آلة ما يعرف بها الوقت، أو مكانه شذوذًا.

5. ﴿وَالْحَجِّ﴾ عطف على (النَّاسِ) باعتبار مضاف، أي: لأغراض الناس وللحجِّ، فذكْر الحجِّ بعد تعميم لمزيَّته في التوقيت، إذ الوقت أشدُّ لزومًا له، إذ لا يقضى إلَّا في وقت أدائه من قابل أو بعده، وسائر العبادات تقضى في كلِّ وقت حتَّى سائر الأوقات، تقضَى إذا فات وقتها بحسب الإمكان واللياقة، ولا يلزم إبقاؤها إلى وقتها من قابل، واستدلَّ بعضٌ بالآية على جواز الإحرام بالحجِّ في كلِّ السنة، وفيه بُعدٌ ومخالفة للسنَّة، بل هي دليل على أنَّه مخصوص بأشهر يحتاج إلى تمييزها، وإلَّا لم يحتج الكلام إلى ذكر الهلال مع الحجِّ، وَلَمَّا ذكر علِمنا أنَّه احتاج إلى جنس الشهر فبيَّنته السنَّة.

6. ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَاتُواْ البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا﴾ بعد إحرامكم بحجٍّ أو بعمرة بأن تُنقِّبوا البناء ونحوه، أو ترفعوا خلفا مخالفة لحالكم قبلُ، أو تدخلوا بسلَّم لئلَّا يستركم شيء عن السماء، وإذا دخلتم بذلك لحاجة وقفتم حيث لا يظلّكم شيء عن السماء، وترجعوا من ذلك، ذلكم بدعة مخالفة للشرع، والنقب إسراف.

7. ﴿وَلَكِنِ الْبِرُّ مَنِ اِتَّقَى﴾ مرَّ مثله وهو قوله: ﴿وَلَكِنِ الْبِرُّ مَنَ ـ امَنَ﴾ [الآية: 177]، أي: من اتَّقى عقاب الله بترك مخالفته وبترك هذه البدعة وسائر المعاصي، وذكر ذلك لأنَّهم سألوه أيضًا عن إتيان البيوت، ولم يذكره في السؤال استغناء بالجواب، مع أنَّه مِمَّا لا ينبغي السؤال عنه لظهور بطلانه، وإن لم يسألوا عنه فإنَّه ذكر لذكر الحجِّ، أو شبّه سؤالهم عمَّا لا يهمُّ ـ وهو الأهلَّة ـ وترك السؤال عمَّا يهمُّ من الأحكام بحالِ مَن ترك الدخول من الباب وعالَجَه من غيره.

8. ﴿وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنَ اَبْوَابِهَا﴾ بعد الإحرام كما قبله، أو باشِروا الأمور بوجوهها ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ تفوزون بالهداية إلى كلِّ برٍّ وبُغية، وإلى أنَّ في كلِّ أفعاله حكمة بالغة، وعن جابر بن عبد الله، كانت قريش تُدعى الحُمْس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت العرب والأنصار لا يدخلون من باب في الإحرام، فبيْنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في بستان إذ خرج من بابه، وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاريُّ، ـ وفي رواية: رفاعة بن ثالوث ـ فقالوا: يا رسول الله، إنَّ قطبة بن عامر ـ أو رفاعة بن ثالوث ـ رجل فاجر، وإنَّه خرج معك من الباب، فقال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: رأيتك فعلته ففعلت كما فعلتَ، قال: إنِّي رجل أحمسيٌّ، قال: فإنَّ ديني دينك، فنزلت: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَاتُوا،﴾ الآية، وعن البراء: كانت الأنصار إذا قدموا من سفر لم يدخل الرجل من الباب فنزلت الآية، والمراد اتَّقوا الله في شرع ما لم يشرِّعه، وفي تغيير أحكامه.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/333.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ذكر الله تعالى حكم الاموال عقب ذكر أحكام الصيام لما تقدم من المناسبة، والصيام عبادة موقوتة لا يتعدى فرضها شهر رمضان، والاموال وسيلة لعبادة الحج وهو يكون في الاشهر الحرم، ولعبادة القتال مدافعة عن الملة والامة وهي قد كانت ممنوعة في هذه الاشهر، فناسب أن يعقب بعد أحكام الصيام والاموال بذكر ما يشرع في الاشهر الحرم من الحج ومن القتال عند الاعتداء على المسلمين ويبدأ ذلك بذكر حكمة اختلاف الاهلة، قال:‏ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ أي مواقيت لهم في صيامهم وحجهم من العبادات، وفي نحو عدة النساء وآجال العقود من المعاملات، فان التوقيت بها يسهل على العالم بالحساب والجاهل به، وعلى أهل البدو والحضر، فهي مواقيت لجميع الناس، أما السنه الشمسية فان شهورها تعرف بالحساب فهي لا تصلح الا للحاسبين، ولم يقدروا على ضبطها الا بعد ارتقاء العلوم الرياضية بزمن طويل.

2. ورد في أسباب نزول الآية أن بعضهم سأل النبي عن الاهلة مطلقا وان بعضهم سأل لم خلقت؟ والروايتان عند ابن أبي حاتم، واخرج ابو نعيم وابن عساكر من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابي صالح عن ابن عباس ان معاذ بن جبل وثعلبة بن غنيمة قالا يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت وقد اشتهر هذا السبب لان علماء البلاغة يذكرونه في مطابقة الجواب للسؤال وعدمها، وزعموا ان مراد السائلين بيان السبب الطبيعي لهذا الاختلاف، وان الجواب إنما جاء ببيان الحكمة دون بيان العلة لأنه موضوع الدين، جريا على ما يسمى في البلاغة اسلوب الحكيم أو الاسلوب الحكيم، قال محمد عبده: كأنه قال كان عليكم ان تسألوا عن الحكمة والفائدة في اختلاف الاهلة ان لم تكونوا تعرفونها، وإلا فعليكم الاكتفاء بها وعدم مطالبة الشارع بما ليس من الشرع، ففي الكلام تعريض بأن سؤالهم في غير محله، ولو توجه هذا السؤال ممن يتعلم علم الفلك إلى أستاذه فيه لما عد قبيحا، ولا قيل انه في غير محله، ولكنه موجه من أمي إلى نبي لا إلى فلكي، فهو قبيح من هذا الوجه لا لذاته، وإلا لكان النظر في السموات والارض لأجل الوقوف على أسرار الخليقة وأسباب ما فيها من الآيات والعبر مذموما، وكيف يذم وقد أرشدنا الله تعالى اليه، وحثنا في كتابه عليه‏ ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ والآيات في هذا المعنى كثيرة.

3. الرواية عن ابن عباس ضعيفة، بل قالوا ان رواية الكلبي عن ابي‏ صالح هي أو هي الطرق عنه، على ان السؤال غير صريح في طلب بيان العلة، وحمله على طلب الحكمة والفائدة ولو مع العلة غير بعيد، فالمختار ان الجواب مطابق للسؤال، وقد بين محمد عبده بمناسبة القول المشهور في السؤال، وانه عن العلة ما بعث الانبياء لبيانه فهم يسألون عنه وما ليس كذلك فقال ما مثاله‏: العلوم التي نحتاج اليها في حياتنا على أقسام:

أ. منها ما لا نحتاج فيه إلى أستاذ كالمحسوسات والوجدانات فهذا هو (القسم الاول)

ب. ومنها ما لا نجد له أستاذا لأنه مما لا مطمع للبشر في الوصول اليه البتة وهو كيفية التكوين والايجاد الاول المعبر عنه بسر القدر يمكن للنباتي ان يعرف ما يتكون منه النبات، وكيف ينبت وينمو ويتغذى، وللطبيب ان يعرف كيفية تولد الحيوان والاطوار التي يتدرج فيها منذ يكون نطفة إلى ان يكون انسانا مستقلا عاقلا، ولكن لا يعرف نباتي ولا طبيب كيف وجدت أنواع النبات وانواع الحيوان أو مادتهما لاول مرة، ولا كيف وجد غيرهما من المخلوقات، ومن هنا تعلمون ان العلاقة بين الخالق والمخلوق من هذه الجهة ـ جهة الايجاد والخلق ـ لا يمكن اكتناهها، وكذلك لا يمكن اكتناه ذات الله تعالى وصفاته، وهذا هو (القسم الثاني)

ج. ومنها ما يتيسر للناس ان يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والصناعات والهيئة الفلكية، ومنها اسباب أطوار الهلال، وتنقله من حال إلى حال، أي المعبر عنه بقوله تعالى‏ ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ وهذا هو (القسم الثالث)

د. (القسم الرابع) ما يجب علينا للخالق العظيم الذي أودع في فطرنا الشعور بسلطانه وهدى عقولنا إلى الايمان به بما نراه من آياته في الآفاق وفي أنفسنا، فان هذا الشعور وهذه الهداية مبهمان لا سبيل لنا إلى تحديدهما من حيث ما يجب اعتقاده في الله تعالى وفي حكمة خلقنا ومراده منا وما يتمع ذلك من أمر مصيرنا ومن حيث ما يجب له من الشكر والعبادة، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته بطريق‏ صناعي أو كسب بشري، فقد وقعت الامم في الحيرة والخطأ في مسائله لجهلهم بالصلة والنسبة بين المخلوق والخالق، فمنهم من وصفه تعالى بما لا يصح ان يوصف به، ومنهم من توهم ان أعمالنا تفيده أو تؤلمه، وانه ينعم علينا أو ينتقم منا بالمصائب لأجل ذلك، ومنهم من توهم ان الحياة الآخرى تكون بهذه الاجساد والجزاء فيها يكون بهذا المتاع، فاخترعوا الادوية لحفظ أجسادهم ومتاعهم، واذا كان الانسان عاجزا عن تحديد ما يجب عليه ويحتاج اليه من الايمان بالله وبالحياة الآخرى وما يجب عليه في الحياة الاولى شكرا لله واستعدادا لتلك الحياة لان الحواس والعقل لا يدركان ذلك، فلا شك انه محتاج إلى عقل آخر يدرك به ما يعوز افراده من هذه الامور، وهذا العقل هو النبي المرسل‏

هـ. وبقي (قسم خامس) وهو ما يستطيع العقل البشري ادراك الفائدة منه، ولكنه عرضة للخطأ فيه دائما لما يعرض له من الاهواء والشهوات التي تلقي الغشاوة على الابصار والبصائر، فتحول دون الوصول إلى الحقيقة، أو تشبه النافع بالضار، وتلبس الحق بالباطل، مثال ذلك السعاية والمخل يدرك العقل ما فيه من الضرر والقبح ولكنه اذا رأى لنفسه فائدة من السعاية بشخص زينها له هواه فيراها حسنة من حيث يخفى عليه ضررها لذاتها، وكذلك شرب الخمر والحشيش قد يعرف الانسان مضرتهما في غيره ولكن الشهوة تحجبه عن ادراك ذلك في نفسه فيؤثر حكم لذته على حكم عقله الذي ينهاه عن كل ضار فصار محتاجا إلى معلم آخر ينصر العقل على الهوى، ووازع يكبح من جماح الشهوة ليكون على هدى‏.

4. ما يمكن للإنسان ان يصل اليه بنفسه، لا يطالب الانبياء ببيانه، ومطالبتهم به جهل بوظيفتهم وإهمال للمواهب والقوى التي وهبه الله إياها ليصل بها إلى ذلك، وكذلك لا يطالبون بما يستحيل على البشر الوصول اليه كقول بعض بني اسرائيل لموسى:‏ ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾، وأما ما كان ادراكه ممكنا، وكسبه بالحس والعقل متعذرا أو تحديده متعسرا، فهو الذي نحتاج فيه إلى هاد يخبر عن الله تعالى لنأخذه عنه بالإيمان والتسليم، ولذلك قلنا: (ان الرسول عقل للامة وهداية وراء هداية الحواس والوجدان والعقل‏)

5. لو كان من وظيفة النبي أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية لكان يجب ان تعطل مواهب الحس والعقل، وينزع الاستقلال من الانسان، ويلزم بأن يتلقى كل فرد من أفراده كل شيء بالتسليم، ولوجب ان يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم افرادها في كل زمن كل ما يحتاجون اليه من أمور معاشهم ومعادهم، وإن شئت فقل لوجب ان لا يكون الانسان هذا النوع الذي نعرفه، نعم ان الانبياء ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم في كل ما يزيد منافعهم ومعارفهم التي ترتقي بها نفوسهم، ولكن مع وصلها بالتنبيه على ما يقوي الايمان ويزيد في العبرة، وقد أرشدنا نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا في واقعة تأبير النخل إذ قال (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ومن ههنا كان السؤال عن حقيقة الروح خطأ وقد أمر الله نبيه ان يجيب السائلين بقوله‏: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ اي انها من المخلوقات التي لا يسأل النبي عنها كما كان السؤال عن علة اختلاف أطوار الاهلة خطأ لا تصح مجاراة السائل عليه بل عده القرآن من قبيل إتيان البيوت من ظهورها كما في تتمة الآية.

6. سؤال وإشكال: التاريخ من العلوم التي يسهل على البشر تدوينها والاستغناء بها عن الوحي فلماذا كثر سرد الاخبار التاريخية في القرآن وكانت في التوراة أكثر؟ والجواب: ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالها، وإنما هي الآيات والعبر تجلت في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم، لبيان سنن الله تعالى فيهم، انذارا للكافرين بما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وتثبيتا لقلبه وقلوب المؤمنين به (وسترى ذلك في محله إن شاء الله تعالى) ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفاصيلها، وإنما يذكر موضع العبرة فيها ﴿لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ﴾، وكل ما تراه في هذه التوراة التي عند القوم من القصص المسهبة والتاريخ المتصل من ذكر خلق آدم وما بعده فهي مما ألحق بالتوراة بعد موسى عليه السلام بقرون، بل كتب أكثر تواريخ العهد القديم بعد السبي ورجوع بني اسرائيل من بابل‏.

7. اذا كان ما ورد في السؤال عن الاهلة لم يصح سندا كما تقدم فلا ينفي ذلك ان السؤال قد وقع بالفعل، ولا ان الرواية التي قالوها هي في نفسها صحيحة، فما كل ما لم يصح سنده باطل، ولا كل ما صح سنده واقع، فرب سند قالوا انه صحيح لانهم لا يعرفون جارحا في أحد من رجاله وهو غير صحيح لان فيهم من خفي كذبه واستتر أمره، يدل على السؤال في الجملة قوله (يسألونك) ويستأنس لقول من قال إن السؤال كان على العلة والسبب قوله تعالى:‏ ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ فان فيه تعريضا بأن من يسأل النبي عما لم يبعث النبي لبيانه ولا يتوقف عرفاته على الوحي فهو في طلبه الشيء من غير مطلبه كمن يطلب دخول البيت من ظهره دون بابه، وبهذا التقرير يكون الاتصال والالتحام بين أجزاء الآية أحكم وأقوى.

8. لولا ان هذا مفيد لحكم من أحكام الحج الذي يعرف ميقاته بالأهلة لكان لا معنى له إلا تأديب السائلين بتمثيل ذلك السؤال بمثال لا يرتضيه عاقل، وهو اتيان البيوت من ظهورها، وإرشادهم إلى ما ينبغي أن ينبغي ان يستفيدوه وتحسينه لهم بجعله كاتيان البيوت من أبوابها، روى البخاري وابن جرير عن البراء قال كانوا اذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية وأخرج ابن ابي حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال كانت قريش تدعى الحمس‏ وكانوا يدخلون من الابواب في الاحرام، وكانت الانصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الاحرام، فبينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الانصاري فقالوا يا رسول الله إن قطبة ابن عامر رجل فاجر، وانه خرج معك من الباب، فقال له (ما حملك على ما فعلت؟) قال رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت، قال (اني رجل أحمسي) قال له فان ديني دينك فأنزل الله الآية وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه وعبد ابن حميد ما هو بمعناه، وذكر ابن جرير عن الزهري في سبب ذلك انهم كانوا يتحرجون من الدخول من الباب من أجل أن سقف الباب يحول بينهم وبين السماء.

9. بعد ان أعلمهم الله تعالى بخطئهم في ذلك بين لهم البر الحقيقي فقال:‏ ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي ان البر هو تقوى الله تعالى بالتخلي عن المعاصي والرذائل، وعمل الخير والتحلي بالفضائل، واتباع الحق واجتناب الباطل، فأتوا البيوت من أبوابها، وليكن باطنكم عنوانا لظاهركم بطلب الامور كلها من مواضعها، واتقوا الله رجاء ان تفلحوا في أعمالكم، وتبلغوا غاية آمالكم، فمن يتق الله يجعل له من أمره يسرا.

10. من مباحث اللفظ ان الاهلة جمع هلال وهو القمر في ليلتين أو ثلاث من أول الشهر على الاشهر، وقيل حتى يحجر اي يستدير بخط دقيق، وقيل حتى يبهر ضوءه سواد الليل وقدروا ذلك بسبع، وقالوا انه مأخوذ من استهل الصبي إذا صرخ حين الولادة، وذلك انهم كانوا يرفعون اصواتهم عند رؤيته للأعلام بها يقولون الهلال والله، وأهلّ الرجل رفع صوته عند رؤيته، وأهل بالحج رفع صوته بالتلبية وأهلّ بذكر الله وباسم الله، وأهل القوم واستهلوا رأوا الهلال.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/202.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. كان الكلام في الآيات السابقة في بيان حكم الصيام وذكر شهر رمضان، فناسب ذلك ذكر الأهلة، لأن الصوم والإفطار مقرونان برؤية الهلال كما جاء في الحديث: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)

2. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ أي يسألونك عن حكمة اختلاف الأهلة وفائدته، فأجبهم بأنها معالم للناس يوقتون بها أمورهم الدنيوية، فيعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم، وآجال عقودهم في المعاملات، ومعالم للعبادات المؤقتة، فيعرفون بها أوقاتها كالصيام والإفطار ولا سيما الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء، ولو كان الهلال ملازما حالا واحدة لم يتيسر التوقيت به.

3. التوقيت بالأهلة يسهل على العالم بالحساب والجاهل به، وعلى أهل البدو والحضر، والتوقيت بالسنة الشمسية لا يصلح إلا للحاسبين، وهؤلاء لم يقدروا على ضبطها إلا بعد ارتقاء العلوم بأزمان طوال.

4. العلوم التي نحتاج إليها في حياتنا على ضروب:

أ. ما لا حاجة لنا فيه إلى أستاذ كالمحسوسات والوجدانات.

ب. ما لا نجد له أستاذا إذ لا سبيل للبشر إلى الوصول إليه، ككيفية التكوين‏ والخلق الأول؛ فالطبيب يعرف كيف يولد الحيوان والأطوار التي يتدرج فيها منذ كان نطفة إلى أن صار إنسانا عاقلا؛ والنباتي يعرف ما تكوّن منه النبات، وكيف ينمو ويتغذى، ولكنّ كلا منهما عاجز أن يعرف كيف وجدت أنواع الحيوان والنبات، ولا مادتهما أول مرة، فالإيجاد والخلق لا يمكن اكتناههما، كما لا يمكن اكتناه ذات الله تعالى وصفاته.

ج. ما يتيسر للناس معرفته بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث كالعلوم الطبيعية والرياضية والزراعية والهيئة الفلكية كأسباب أطوار الهلال وتنقله من حال إلى حال وهو ما أشار إليه سبحانه بقوله: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾، ومثل هذا ينبغي ألا يطالب الأنبياء ببيانه، لأن ذلك جهل بوظيفتهم، وإهمال للقوى والمواهب التي وهبها الله تعالى للإنسان ليصل بها إلى ذلك، وإلا وجب حينئذ أن يتلقّى كل شيء بالتسليم، كما يجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم، وإن كان الأنبياء ينبهون الناس إجمالا إلى استعمال الحواس والعقول فيما يزيد منافعهم ويرقى إدراكهم وشعورهم، يرشد إلى ذلك‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في واقعة تأبير النخل‏ (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ومن حديث ذلك‏ أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم نهي أهل المدينة عن تأبير نخلهم‏: أي وضع طلع الذكر عليه فلم ينتج ثمرا جيدا، فرجعوا إليه فقال لهم هذه المقالة، والتاريخ الذي سيق في القرآن لم يذكر على أنه قصص وأخبار للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالها، بل سيق للعبر تتجلى في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم بيانا لسنة الله فيهم، وإنذارا للكافرين بما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتثبيتا لقلوب المؤمنين كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وما يروى في التوراة من التاريخ المفصل من ذكر خلق آدم وما بعده، فهو مما ألحق بالتوراة بعد موسى بقرون.

د. ما يجب علينا للخالق الذي هدى عقولنا إلى الإيمان بآياته التي نراها في الآفاق وفي أنفسنا، لكن هذه الهداية مبهمة تحتاج إلى التحديد من حيث معرفة ما يجب اعتقاده في الله تعالى وفي حكمة خلقنا، وما يتبع ذلك من وجوب الشكر والعبادة له، ومعرفة مصيرنا وحال الحياة الآخرى، ومثل هذا لا سبيل إلى معرفته بطريق الكسب البشري، وكثيرا ما وقعت الأمم في الخطأ والحيرة في فهم مسائله لجهلهم بالصلة بين الخالق والمخلوق؛ فمنهم من توهم أن الحياة الآخرى تكون بهذه الأجساد، والجزاء فيها يكون بهذا المتاع، ومن ثمّ اخترعوا الأدوية لحفظ أجسادهم ومتاعهم كالمصريين في عهد الفراعنة، لهذا كان الإنسان محتاجا إلى هاد يخبر عن الله تعالى لنأخذ عنه بالإيمان والتسليم ما لا يصل الحسّ والوجدان والعقل إلى إدراكه.

هـ. ما يستطيع العقل البشرى أن يصل إلى إدراك فائدته، لكنه عرضة للخطإ فيه، لما يعرض له من الشهوات والأهواء التي تلقى الغشاوة على البصائر والأبصار، فتحول بينه وبين الوصول إلى الحقيقة، أو تلبس الحقّ بالباطل أو تشبه النافع بالضار، فالخمر والحشيش يعلم الإنسان مضرتهما، لكن الشهوة تحجب ذلك عنه فيشربهما، ويؤثر حكم لذته في حكم عقله الذي ينهاه عن كل ضار، ومن ثمّ احتاج في هذا إلى معلم آخر ينصر العقل على الهوى، ويكبح جماح الشهوات ليكون على هدى وبينة من أمره.

5. لما ذكر الله تعالى مواقيت الحج ذكر ما كان من أفعالهم فيه قال: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ هذا إبطال لما كانوا يفعلونه في الجاهلية إذا هم أحرموا من إتيان البيت من ظهره وتحريم دخوله من بابه.

6. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ بعد أن أعلمهم بخطئهم في إتيان البيوت من ظهورها وظنهم أن ذلك من البرّ، بيّن لهم البرّ الحقيقي وأنه تقوى الله بالتخلي عن المعاصي والرذائل، والتحلي بالفضائل واتباع الحقّ وعمل الخير، فأتوا البيوت من أبوابها، وليكن باطنكم عنوانا لظاهركم، واتقوا الله رجاء أن تفلحوا في أعمالكم وتصلوا إلى غاية آمالكم، فالمتقون ملهمون إلى طريق الرشاد، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾

__________

(1) تفسير المراغي: 2/84.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. هذا الدرس ـ كسابقه ـ استطراد في بيان فرائض هذه الأمة وتكاليفها، ونظم حياتها، وأحكام شريعتها فيما بينها، وشريعتها مع غيرها من الأمم حولها.

2. يتضمن هذا الدرس بيانا عن الأهلة ـ جمع هلال ـ كما يتضمن تصحيحا لعادة جاهلية وهي إتيان البيوت من ظهورها بدلا من أبوابها في مناسبات معينة، ثم بيانا عن أحكام القتال عامة، وأحكام القتال في الأشهر الحرم، وعند المسجد الحرام خاصة، وفي النهاية بيانا لشعائر الحج والعمرة كما أقرها الإسلام وهذبها، وعدل فيها كل ما يمت إلى التصورات الجاهلية.

3. هكذا نرى هنا ـ كما رأينا في الدرس السابق ـ أحكاما تتعلق بالتصور والاعتقاد، وأحكاما تتعلق بالشعائر التعبدية، وأحكاما تتعلق بالقتال.. كلها تتجمع في نطاق واحد، وكلها يعقب عليها تعقيبات تذكر بالله وتقواه.

4. في موضوع إتيان البيوت من ظهورها يجيء تعقيب يصحح معنى البر، وأنه ليس في الحركة الظاهرة إنما هو في التقوى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.. وفي القتال بصفة عامة يوجههم إلى عدم الاعتداء، ويربط هذا بحب الله وكرهه، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.. وفي القتال في الشهر الحرام يعقب بتقوى الله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.. وفي الإنفاق يعقب بحب الله للمحسنين: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.. وفي التعقيب على بعض شعائر الحج يقول: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.. وفي التعقيب الآخر على بيان مواقيت الحج والنهي عن الرفث فيه والفسوق والجدال يقول: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾.. وحتى في توجيه الناس لذكر الله بعد الحج يجيء التعقيب: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾..

5. هكذا نجد هذه الأمور المتعددة مرتبطة ارتباطا وثيقا، ناشئا من طبيعة هذا الدين، الذي لا تنفصل فيه الشعائر التعبدية، عن المشاعر القلبية، عن التشريعات التنظيمية، ولا يستقيم إلا بأن يشمل أمور الدنيا وأمور الآخرة، وشئون القلب وشئون العلاقات الاجتماعية والدولية، وإلا أن يشرف على الحياة كلها، فيصرفها وفق تصور واحد متكامل، ومنهج واحد متناسق، ونظام واحد شامل، وأداة واحدة هي هذا النظام الخاص الذي يقوم على شريعة الله في كافة الشئون.

6. هناك ظاهرة في هذه السورة تطالعنا منذ هذا القطاع، تطالعنا في صورة مواقف يسأل فيها المسلمون نبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم عن شئون شتى، هي الشئون التي تصادفهم في حياتهم الجديدة، ويريدون أن يعرفوا كيف يسلكون فيها وفق تصورهم الجديد، ووفق نظامهم الجديد، وعن الظواهر التي تلفت حسهم الذي استيقظ تجاه الكون الذي يعيشون فيه:

أ. فهم يسألون عن الأهلة.. ما شأنها؟ ما بال القمر يبدو هلالا، ثم يكبر حتى يستدير بدرا، ثم يأخذ في التناقص حتى يرتد هلالا، ثم يختفي ليظهر هلالا من جديد؟

ب. ويسألون ماذا ينفقون؟ من أي نوع من مالهم ينفقون؟ وأي قدر وأية نسبة مما يملكون؟

ج. ويسألون عن القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام، هل يجوز؟

د. ويسألون عن الخمر والميسر ما حكمهما؟ وقد كانوا أهل خمر في الجاهلية وأهل ميسر! ويسألون عن المحيض؟ وعلاقتهم بنسائهم في فترته، ثم يسألون عن أشياء في أخص علاقاتهم بأزواجهم، وأحيانا تسأل فيها الزوجات أنفسهن.

7. وقد وردت أسئلة أخرى في موضوعات متنوعة في سور أخرى من القرآن أيضا.. وهذه الأسئلة ذات دلالات شتى:

أ. فهي أولا دليل على تفتح وحيوية ونمو في صور الحياة وعلاقاتها، وبروز أوضاع جديدة في المجتمع الذي جعل يأخذ شخصيته الخاصة، ويتعلق به الأفراد تعلقا وثيقا؛ فلم يعودوا أولئك الأفراد المبعثرين، ولا تلك القبائل المتناثرة، إنما عادوا أمة لها كيان، ولها نظام، ولها وضع يشد الجميع إليه؛ ويهم كل فرد فيه أن يعرف خطوطه وارتباطاته.. وهي حالة جديدة أنشأها الإسلام بتصوره ونظامه وقيادته على السواء.. حالة نمو اجتماعي وفكري وشعوري وإنساني بوجه عام.

ب. وهي ثانيا دليل على يقظة الحس الديني، وتغلغل العقيدة الجديدة وسيطرتها على النفوس، مما يجعل كل أحد يتحرج أن يأتي أمرا في حياته اليومية قبل أن يستوثق من رأي العقيدة الجديدة فيه، فلم تعد لهم مقررات سابقة في الحياة يرجعون إليها، وقد انخلعت قلوبهم من كل مألوفاتهم في الجاهلية، وفقدوا ثقتهم بها؛ ووقفوا ينتظرون التعليمات الجديدة في كل أمر من أمور الحياة.. وهذه الحالة الشعورية هي الحالة التي ينشئها الإيمان الحق، عندئذ تتجرد النفس من كل مقرراتها السابقة وكل مألوفاتها، وتقف موقف الحذر من كل ما كانت تأتيه في جاهليتها، وتقوم على قدم الاستعداد لتلقي كل توجيه من العقيدة الجديدة، لتصوغ حياتها الجديدة على أساسها، مبرأة من كل شائبة، فإذا تلقت من العقيدة الجديدة توجيها يقر بعض جزئيات من مألوفها القديم‏ تلقته جديدا مرتبطا بالتصور الجديد، إذ ليس من الحتم أن يبطل النظام الجديد كل جزئية في النظام القديم؛ ولكن من المهم أن ترتبط هذه الجزئيات بأصل التصور الجديد، فتصبح جزءا منه، داخلا في كيانه، متناسقا مع بقية أجزائه.. كما صنع الإسلام بشعائر الحج التي استبقاها، فقد أصبحت تنبثق من التصور الإسلامي، وتقوم على قواعده، وأنبتت علاقتها بالتصورات الجاهلية نهائيا.

ج. والدلالة الثالثة تؤخذ من تاريخ هذه الفترة؛ وقيام اليهود في المدينة والمشركين في مكة بين الحين والحين بمحاولة التشكيك في قيمة النظم الإسلامية، وانتهاز كل فرصة للقيام بحملة مضللة على بعض التصرفات والأحداث ـ كما وقع في سرية عبد الله بن جحش وما قيل من اشتباكها في قتال مع المشركين في الأشهر الحرم ـ مما كان يستدعي بروز بعض الاستفهامات والإجابة عليها، بما يقطع الطريق على تلك المحاولات؛ ويسكب الطمأنينة واليقين في قلوب المسلمين.. ومعنى هذه الدلالة أن القرآن كان دائما في المعركة، سواء تلك المعركة الناشئة في القلوب بين تصورات الجاهلية وتصورات الإسلام؛ والمعركة الناشئة في الجو الخارجي بين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين يتربصون بها من كل جانب.

8. هذه المعركة كتلك ما تزال قائمة، فالنفس البشرية هي النفس البشرية؛ وأعداء الأمة المسلمة هم أعداؤها.. والقرآن حاضر.. ولا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة المسلمة إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة، ليخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة.. وما لم يستيقن المسلمون من هذه الحقيقة فلا فلاح لهم ولا نجاح! وأقل ما تنشئه هذه الحقيقة في النفس.. أن تقبل على هذا القرآن بهذا الفهم وهذا الإدراك وهذا التصور، أن تواجهه وهو يتحرك ويعمل وينشئ التصور الجديد، ويقاوم تصورات الجاهلية، ويدفع عن هذه الأمة، يقيها العثرات، لا كما يواجهه الناس اليوم نغمات حلوة ترتل، وكلاما جميلا يتلى، وينتهي الأمر.. إنه لأمر غير هذا نزّل الله القرآن.. لقد نزله لينشئ حياة كاملة، ويحركها، ويقودها إلى شاطئ الامان بين الأشواك والعثرات، ومشقات الطريق؛ التي تتناثر فيها الشهوات كما تتناثر فيها العقبات، والله المستعان..

9. ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾.. مواقيت للناس في حلهم وإحرامهم، وفي صومهم وفطرهم، وفي نكاحهم وطلاقهم وعدتهم، وفي معاملاتهم وتجاراتهم وديونهم.. وفي أمور دينهم وأمور دنياهم على سواء.

10. سواء كان هذا الجواب ردا على السؤال الأول أو على السؤال الثاني، فهو في كلتا الحالتين اتجه إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد العلم النظري؛ وحدثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم وفي حياتهم ولم يحدثهم عن‏ الدورة الفلكية للقمر وكيف تتم وهي داخلة في مدلول السؤال: ما بال القمر يبدو هلالا.. إلخ، كذلك لم يحدثهم عن وظيفة القمر في المجموعة الشمسية أو في توازن حركة الأجرام السماوية، وهي داخلة في مضمون السؤال: لماذا خلق الله الأهلة؟ فما هو الإيحاء الذي ينشئه هذا الاتجاه في الإجابة؟

11. كان القرآن بصدد إنشاء تصور خاص، ونظام خاص، ومجتمع خاص.. كان بصدد إنشاء أمة جديدة في الأرض، ذات دور خاص في قيادة البشرية، لتنشئ نموذجا معينا من المجتمعات غير مسبوق؛ ولتعيش حياة نموذجية خاصة غير مسبوقة؛ ولتقر قواعد هذه الحياة في الأرض؛ وتقود إليها الناس.

12. الإجابة (العلمية) عن هذا السؤال ربما كانت تمنح السائلين علما نظريا في الفلك؛ إذا هم استطاعوا، بما كان لديهم من معلومات قليلة في ذلك الحين، أن يستوعبوا هذا العلم، ولقد كان ذلك مشكوكا فيه كل الشك، لأن العلم النظري من هذا الطراز في حاجة إلى مقدمات طويلة، كانت تعد بالقياس إلى عقلية العالم كله في ذلك الزمان معضلات، من هنا عدل عن الإجابة التي لم تتهيأ لها البشرية، ولا تفيدها كثيرا في المهمة الأولى التي جاء القرآن من أجلها، وليس مجالها على أية حال هو القرآن، إذ القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية، ولم يجيء ليكون كتاب علم فلكي أو كيماوي أو طبي.. كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يتلمسوا مخالفاته لهذه العلوم! إن كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله، إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية، وإن وظيفته أن ينشئ تصورا عاما للوجود وارتباطه بخالقه، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه؛ وأن يقيم على أساس هذا التصور نظاما للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته.. ومن بينها طاقته العقلية، التي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة، وإطلاق المجال لها لتعمل ـ بالبحث العلمي ـ في الحدود المتاحة للإنسان ـ وبالتجريب والتطبيق، وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج، ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال.

13. إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته: تصوره واعتقاده، ومشاعره ومفهوماته، وسلوكه وأعماله، وروابطه وعلاقاته.. أما العلوم المادية، والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته، بما أنها أساس خلافته في الأرض، وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه..

14. القرآن يصحح له فطرته كيلا تنحرف ولا تفسد، ويصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له؛ ويزوده بالتصور العام لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه، وتناسق تكوينه، وطبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه ـ وهو أي الإنسان أحد أجزائه ـ ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات والانتفاع بها في خلافته.. ولا يعطيه تفصيلات لأن معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتي.

15. إني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها.. كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه! إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها.. لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها.. والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان، والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه، بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي‏ يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه، وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط، يتركه القرآن يبحث ويجرب، ويخطئ ويصيب، في مجال العلم والبحث والتجريب، وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح.

16. كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانا عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه، وطبيعة التناسق بين أجزائه.. لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن، بفروض العقل البشري ونظرياته، ولا حتى بما يسميه (حقائق علمية) مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره.

17. إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة، أما ما يصل إليه البحث الإنساني ـ أيا كانت الأدوات المتاحة له ـ فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة؛ وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها.. فمن الخطأ المنهجي ـ بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته ـ أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري! هذا بالقياس إلى (الحقائق العلمية).. والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى (علمية)

18. من هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية؛ وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره؛ وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه.. وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها.. فهذه كلها ليست (حقائق علمية) حتى بالقياس الإنساني، وإنما هي نظريات وفروض، كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية، إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرا أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيرا أدق! ومن ثم فهي قابلة دائما للتغيير والتعديل والنقص والإضافة؛ بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب، بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة! وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة ـ أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا ـ تحتوي أولا على خطأ منهجي أساسي، كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم:

أ. الأولى: هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه، والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق، لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.

ب. الثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق ـ بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية ـ مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي، حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله؛ بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته، نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة! والثالثة: هي التأويل المستمر ـ مع التمحل والتكلف ـ لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل يوم يجد فيها جديد، وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا..

19. لكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات ـ ومن حقائق ـ عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن.. كلا! إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان، ولقد قال الله سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾.. ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله، وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا.

20. سؤال وإشكال: كيف؟ ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة؟ والجواب: هنا ينفع المثال: يقول القرآن الكريم مثلا: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾.. ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون.. الأرض بهيئتها هذه وببعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه، وبميل محورها هذا، وبتكوين سطحها هذا.. وبآلاف من الخصائص.. هي التي تصلح للحياة وتوائمها.. فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة.. هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ وتعميقه في تصورنا.. فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه.. وهكذا.. هذا جائز ومطلوب.. لكن الذي لا يجوز ولا يصح علميا، هذه الأمثلة الآخرى:

أ. يقول القرآن الكريم: ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾.. ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارون تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة، وأن هذه الخلية نشأت في الماء، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان.. فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية، لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن! لا.. إن هذه النظرية أولا ليست نهائية، فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائيا، وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر، ما يكاد يبطلها، وهي معرضة غدا للنقض والبطلان.. بينما الحقيقة القرآنية نهائية، وليس من الضروري أن يكون هذا معناها، فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة، وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها وهي أصل النشأة الإنسانية.. وكفى.. ولا زيادة..

ب. ويقول القرآن الكريم: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها).. فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس وهي أنها تجري.. ويقول العلم: إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلا في الثانية، ولكنها في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعا بسرعة 170 ميلا في الثانية.. ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية، إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان.. أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية ـ في أن الشمس تجري ـ وكفى.. فلا نعلق هذه بتلك أبدا.

ج. ويقول القرآن الكريم: (أَ ولَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ والْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما).. ثم تظهر نظرية تقول: إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها.. فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية، ونقول: هذا ما تعنيه الآية القرآنية! لا.. ليس هذا هو الذي تعنيه! فهذه نظرية ليست نهائية، وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي! أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة، وهي تحدد فقط أن الأرض فصلت عن السماء.. كيف؟ ما هي السماء التي فصلت عنها؟ هذا ما لا تتعرض له الآية.. ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع: إنه المدلول النهائي المطابق للآية!

21. حسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة، فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها، دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق.. وفرق بين هذا وذاك.

22. ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الارتباط بين شطري الآية يبدو أنه هو المناسبة بين أن الأهلة هي مواقيت للناس والحج، وبين عادة جاهلية خاصة بالحج هي التي يشير إليها شطر الآية الثاني.. في الصحيحين ـ بإسناده ـ عن البراء قال: (كان الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت، فجاء رجل منهم فدخل من قبل بابه، فكأنه عير بذلك، فنزلت: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها؛ ولكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى‏ وأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها).. ورواه أبو داوود عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم لم يدخل الرجل من قبل بابه.. فنزلت هذه الآية.

23. سواء كانت هذه عادتهم في السفر بصفة عامة، أو في الحج بصفة خاصة وهو الأظهر في السياق، فقد كانوا يعتقدون أن هذا هو البر ـ أي الخير أو الإيمان ـ فجاء القرآن ليبطل هذا التصور الباطل، وهذا العمل المتكلف الذي لا يستند إلى أصل، ولا يؤدي إلى شيء، وجاء يصحح التصور الإيماني للبر.. فالبر هو التقوى، هو الشعور بالله ورقابته في السر والعلن، وليس شكلية من الشكليات التي لا ترمز إلى شيء من حقيقة الإيمان، ولا تعني أكثر من عادة جاهلية، كذلك أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها، وكرر الإشارة إلى التقوى، بوصفها سبيل الفلاح: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

24. بهذا ربط القلوب بحقيقة إيمانية أصيلة ـ هي التقوى ـ وربط هذه الحقيقة برجاء الفلاح المطلق في الدنيا والآخرة؛ وأبطل العادة الجاهلية الفارغة من الرصيد الإيماني، ووجه المؤمنين إلى إدراك نعمة الله عليهم في الأهلة التي جعلها الله مواقيت للناس والحج.. كل ذلك في آية واحدة قصيرة.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/178.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. الذين لا يأخذون الأمور مأخذ الجدّ، يصرفون أكثر جهدهم في اللغو، ويقطعون أكثر حياتهم في المماحكة والجدل والعبث، والمنافقون هم دائما أبدا على تلك الصفة.. ينظرون إلى الأمور نظرة لاهية، ليقعوا منها على وجه من وجوه الخداع، يلبسونه في تلك الحال، ثم يلقونه ليلبسوا غيره في حالة أخرى.. وهكذا وفى موكب الدعوة الإسلامية كان المنافقون يعترضون سير هذا الموكب، ويقطعون عليه الطريق بتلك الأسئلة التي لا يراد بها كسب معرفة، ولا تعرف على حق، وإنما يقصد بها أولا وآخرا، التشويش على الدعوة، وشغلها بالجدل، والالتحام معها في معركة من اللغو، الذي لا محصّل له إلا صداع وضلال.

2. حمى الله الدعوة الإسلامية من أن تنزلق إلى هذا المنزلق، فكانت إجابة القرآن الكريم على تلك التساؤلات الخبيثة والمماراة المضللة ـ كانت إجابة مفحمة مفحمة رادعة فاضحة.

3. ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ ما بالها تظهر ثم تختفى؟ وما شأنها تتجدد كل عدد معلوم من الأيام؟ ثم لم تلبس كل يوم صورة جديدة؟ وتولد كل يوم ميلادا جديدا؟ ولو شاء القرآن أن يجيب على تلك الأسئلة الجواب المناسب لها، لأعطى الكلمة الحاسمة الفاصلة، ولكن هذا يفتح المجال للمناظرة والأخذ والرد، والقبول والرفض.. ثم أنّى للعقول ـ في كل عصر وفى كل مجتمع ـ أن تستوعب الحقيقة العلمية، وتقنع بها؟ إن غير هذا أولى بالقرآن، وأنفع للناس في مجال دعوته إلى الحق والخير!.

4. ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ ذلك هو الجواب الذي كان ينبغي أن يكون سؤال السائلين متجها إليه، باحثا عنه..: ﴿هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ فهذا هو بعض معطيات الأهلة للناس، يضبط بها رؤوس الشهور، ويوقف منها على أشهر الحج التي يقول الله عنها: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾

5. فى قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ تعقيب يستخلص الحكمة والعبرة من ثنايا الحدث والواقعة، وذلك من تمام الهدى الذي جاء القرآن الكريم به، وقامت الرسالة الإسلامية عليه، فليس من التزكية للنفس، والهداية للعقل، والاطمئنان للقلب، أن يلقى الإنسان الأمور من ظهورها، وأن ينظر إليها من ورائها، فذلك لا يطلعه منها إلا على ظلال وأشباح، أما إذا أراد أن يتعرف إليها، ويعرف وجه الحق منها، فليلقها مواجهة، ولينظر إليها نظرا قاصدا، فذلك هو الذي يدنيه من الحق، إن كان طالبا له، عن نية خالصة وقلب سليم.. وليس كذلك شأن المنافقين الذين لا يأتون الأمور إلا مواربة، ولا ينظرون إليها إلا بأبصار زائغة منحرفة!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/210.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ اعتراض بين شرائع الأحكام الراجعة إلى إصلاح النظام، دعا إليه ما حدث من السؤال، فقد روى الواحدي أنها نزلت بسبب أن أحد اليهود سأل أنصاريا عن الأهلة وأحوالها في الدقة إلى أن تصير بدرا ثم تتناقص حتى تختفي فسأل الأنصاري رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت هذه الآية، ويظهر أن نزولها متأخر عن نزول آيات فرض الصيام ببضع سنين؛ لأن آية: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ متصلة بها، وسيأتي أن تلك الآية نزلت في عام الحديبية أو عام عمرة القضية، فمناسبة وضعها في هذا الموضع هي توقيت الصيام بحلول شهر رمضان، فكان من المناسبة ذكر المواقيت لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أكمل وجه، ومن كمال النظام ضبط الأوقات، ويظهر أن هذه الآية أيضا نزلت بعد أن شرع الحج أي بعد فتح مكة، لقوله تعالى: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾

2. وابتدئت الآية بـ ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ لأن هنالك سؤالا واقعا عن أمر الأهلة، وجميع الآيات التي افتتحت بـ ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ هي متضمنة لأحكام وقع السؤال عنها فيكون موقعها في القرآن مع آيات تناسبها نزلت في وقتها أو قرنت بها، وروي أن الذي سأله عن ذلك معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة الأنصاري فقالا: ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، قال العراقي لم أقف لهذا السبب على إسناد.

3. جمع الضمير في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ مع أن المروي أن الذي سأله رجلان ـ نظرا لأن المسئول عنه يهم جميع السامعين أثناء تشريع الأحكام؛ ولأن من تمام ضبط النظام أن يكون المسئول عنه قد شاع بين الناس واستشرف كثير منهم لمعرفته سواء في ذلك من سأل بالقول ومن سأل في نفسه.

4. ذكر فوائد خلق الأهلة في هذا المقام للإيماء إلى أن الله جعل للحج وقتا من الأشهر لا يقبل التبديل وذلك تمهيدا لإبطال ما كان في الجاهلية من النسيء في أشهر الحج في بعض السنين.

5. السؤال: طلب أحد من آخر بذل شيء أو إخبارا بخبر، فإذا كان طلب بذل عدّي فعل السؤال بنفسه وإذا كان طلب إخبار عدي الفعل بحرف (عن) أو ما ينوب منابه.

6. تكررت في هذه السورة آيات مفتتحة بـ ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ وهي سبع آيات غير بعيد بعضها عن بعض، جاء بعضها غير معطوف بحرف العطف وهي أربع وبعضها معطوفا به وهي الثلاث الأواخر منها، وأما غير المفتتحة بحرف العطف فلا حاجة إلى تبيين تجردها عن العاطف؛ لأنها في استئناف أحكام لا مقارنة بينها وبين مضمون الجمل التي قبلها فكانت جديرة بالفصل دون عطف، ولا يتطلب لها سوى المناسبة لمواقعها، وأما الجمل الثلاث الأواخر المفتتحة بالعاطف فكل واحدة منها مشتملة على أحكام لها مزيد اتصال بمضمون ما قبلها فكان السؤال المحكي فيها مما شأنه أن ينشأ عن التي قبلها فكانت حقيقة بالوصل بحرف العطف كما سيتضح في مواقعها.

7. السؤال عن الأهلة لا يتعلق بذواتها إذ الذوات لا يسأل إلا عن أحوالها، فيعلم هنا تقدير وحذف أي عن أحوال الأهلة، فعلى تقدير كون السؤال واقعا بها غير مفروض فهو يحتمل السؤال عن الحكمة ويحتمل السؤال عن السبب:

أ. فإن كان عن الحكمة فالجواب بقوله: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ جار على وفق السؤال، وإلى هذا ذهب الزمخشري، ولعل المقصود من السؤال حينئذ استثبات كون المراد الشرعي منها موافقا لما اصطلحوا عليه؛ لأن كونها مواقيت ليس مما يخفى حتى يسأل عنه، فإنه متعارف لهم، فيتعين كون المراد من سؤالهم إن كان واقعا هو تحقق الموافقة للمقصد الشرعي.

ب. وإن كان السؤال عن السبب فالجواب بقوله: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ﴾ غير مطابق للسؤال، فيكون إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بصرف السائل إلى غير ما يتطلب، تنبيها على أن ما صرف إليه هو المهم له، لأنهم في مبدأ تشريع جديد والمسئول هو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وكان المهم لهم أن يسألوه عما ينفعهم في صلاح دنياهم‏ وأخراهم، وهو معرفة كون الأهلة ترتبت عليها آجال المعاملات والعبادات كالحج والصيام والعدة، ولذلك صرفهم عن بيان مسئولهم إلى بيان فائدة أخرى، لا سيما والرسول لم يجئ مبينا لعلل اختلاف أحوال الأجرام السماوية، والسائلون ليس لهم من أصول معرفة الهيئة ما يهيئهم إلى فهم ما أرادوا علمه بمجرد البيان اللفظي بل ذلك يستدعى تعليمهم مقدمات لذلك العلم، على أنه لو تعرض صاحب الشريعة لبيانه لبين أشياء من حقائق العلم لم تكن معروفة عندهم ولا تقبلها عقولهم يومئذ، ولكان ذلك ذريعة إلى طعن المشركين والمنافقين بتكذيبه، فإنهم قد أسرعوا إلى التكذيب فيما لم يطلعوا على ظواهره كقولهم: ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ [سبأ: 7، 8] وقولهم: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخرةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص: 7] وعليه فيكون هذا الجواب بقوله: ﴿هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر كقول الشاعر:

çأتت تشتكي منّي مزاولة القرى‏...وقد رأت الأضياف ينحون منزلي‏

فقلت لها لمّا سمعت كلامها...هم الضيف جدّي في قراهم وعجّلي‏é

وإلى هذا نحا صاحب (المفتاح) وكأنه بناه على أنهم لا يظن بهم السؤال عن الحكمة في خلق الأهلة لظهورها، وعلى أن الوارد في قصة معاذ وثعلبة يشعر بأنهما سألا عن السبب إذ قالا: (ما بال الهلال يبدو دقيقا)

8. الأهلة: جمع هلال وهو القمر في أول استقباله الشمس كل شهر قمري في الليلة الأولى والثانية، قيل والثالثة، ومن قال إلى سبع فإنما أراد المجاز، لأنه يشبه الهلال، ويطلق الهلال على القمر ليلة ست وعشرين وسبع وعشرين لأنه في قدر الهلال في أول الشهر، وإنما سمي الهلال هلالا لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم بالإخبار عنه ينادي بعضهم بعضا لذلك، وإن هلّ وأهلّ بمعنى رفع صوته كما تقدم في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 173]

9. ﴿مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ أي مواقيت لما يوقّت من أعمالهم فاللام للعلة أي لفائدة الناس وهو على تقدير مضاف أي لأعمال الناس، ولم تذكر الأعمال الموقّتة بالأهلة ليشمل الكلام كل عمل محتاج إلى التوقيت، وعطف الحج على الناس مع اعتبار المضاف المحذوف من عطف الخاص على العام للاهتمام به واحتياج الحج للتوقيت ضروري؛ إذ لو لم يوقّت لجاء الناس للحج متخالفين فلم يحصل المقصود من اجتماعهم ولم يجدوا ما يحتاجون إليه في أسفارهم وحلولهم بمكة وأسواقها؛ بخلاف الصلاة فليست موقتة بالأهلة، وبخلاف الصوم فإن توقيته بالهلال تكميلي له؛ لأنه عبادة مقصورة على الذات فلو جاء بها المنفرد لحصل المقصد الشرعي ولكن شرع فيه توحيد الوقت ليكون أخف على المكلفين، فإن الصعب يخف بالاجتماع وليكون حالهم في تلك المدة متماثلا فلا يشق أحد على آخر في اختلاف أوقات الأكل والنوم ونحوهما.

10. المواقيت جمع ميقات والميقات جاء بوزن اسم الآلة من وقّت وسمى العرب به الوقت، وكذلك سمي الشهر شهرا مشتقا من الشهرة، لأن الذي يرى هلال الشهر يشهره لدى الناس، وسمى العرب الوقت المعيّن ميقاتا كأنه مبالغة وإلّا فهو الوقت عينه، وقيل: الميقات أخص من الوقت، لأنه وقت قدّر فيه عمل من الأعمال، قلت: فعليه يكون صوغه بصيغة اسم الآلة اعتبارا بأن ذلك العمل المعيّن يكون وسيلة لتحديد الوقت فكأنه آلة للضبط والاقتصار على الحج دون العمرة لأن العمرة لا وقت لها فلا تكون للأهلة فائدة في فعلها.

11. مجيء ذكر الحج في هاته الآية، وهي من أول ما نزل بالمدينة، ولم يكن المسلمون يستطيعون الحج حينئذ لأن المشركين يمنعونهم ـ إشارة إلى أن وجوب الحج ثابت ولكن المشركين حالوا دون المسلمين ودونه‏، وسيأتي عند قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ في [سورة آل عمران: 97] وعند قوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: 197] في هذه السورة.

12. ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ معطوفة على‏ ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ وليست معطوفة على جملة ﴿هِيَ مَوَاقِيتُ﴾ لأنّه لم يكن مما سألوا عنه حتى يكون مقولا للمجيب، ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها أن سبب نزولها كان مواليا أو مقارنا لسبب نزول الآية التي قبلها وأن مضمون كلتا الجملتين كان مثار تردد وإشكال عليهم من شأنه أن يسأل عنه، فكانوا إذا أحرموا بالحج أو العمرة من بلادهم‏ جعلوا من أحكام الإحرام ألا يدخل المحرم بيته من بابه أو لا يدخل تحت سقف يحول بينه وبين السماء، وكان المحرمون إذا أرادوا أخذ شيء من بيوتهم تسنّموا على ظهور البيوت أو اتخذوا نقبا في ظهور البيوت إن كانوا من أهل المدر، وإن كانوا من أهل الخيام دخلوا من خلف الخيمة، وكان الأنصار يدينون بذلك، وأما الحمس فلم يكونوا يفعلون هذا، والحمس جمع أحمس والأحمس المتشدد بأمر الدين لا يخالفه، وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو نصر ابن معاوية ومدلج وعدوان وعضل وبنو الحارث بن عبد مناة، وبنو عامر بن صعصعة وكلهم من سكان مكة وحرمها ما عدا بني عامر بن صعصعة فإنهم تحمسوا لأن أمهم قرشية.

13. معنى نفي البر عن هذا نفي أن يكون مشروعا أو من الحنيفية، وإنما لم يكن مشروعا لأنه غلو في أفعال الحج، فإن الحج وإن اشتمل على أفعال راجعة إلى ترك الترفه عن البدن كترك المخيط وترك تغطية الرأس إلّا أنه لم يكن المقصد من تشريعه إعنات الناس بل إظهار التجرد وترك الترفه، ولهذا لم يكن الحمس يفعلون، ذلك لأنهم أقرب إلى دين إبراهيم، فالنفي في قوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ﴾ نفي جنس البر عن هذا الفعل بخلاف قوله المتقدم‏ ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ [البقرة: 177] والقرينة هنا هي قوله: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ ولم يقل هنالك: واستقبلوا أية جهة شئتم، والمقصود من الآيتين إظهار البر العظيم وهو ما ذكر بعد حرف الاستدراك في الآيتين بقطع النظر عما نفي عنه البر، وهذا هو مناط الشبه والافتراق بين الآيتين.

14. روى الواحدي في (أسباب النزول) أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أهلّ عام الحديبية من المدينة وأنه دخل بيتا وأن أحدا من الأنصار، قيل: اسمه قطبة بن عامر وقيل: رفاعة بن تابوت، كان دخل ذلك البيت من بابه اقتداء برسول الله فقاله له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لم دخلت وأنت قد أحرمت؟ فقال له الأنصاري: دخلت أنت فدخلت بدخولك فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إني أحمس فقال له الأنصاري: وأنا ديني دينك رضيت بهداك فنزلت الآية، فظاهر هذه الروايات أن الرسول نهى غير الحمس عن ترك ما كانوا يفعلونه حتى نزلت الآية في إبطاله، وفي (تفسير ابن جرير وابن عطية) عن السدي‏ ما يخالف ذلك وهو أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دخل بابا وهو محرم وكان معه رجل من أهل الحجاز فوقف الرجل وقال: إني أحمس فقال له الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: وأنا أحمس فنزلت الآية، فهذه الرواية تقتضي أن النبي أعلن إبطال دخول البيوت من ظهورها، وأن الحمس هم الذين كانوا يدخلون البيوت من ظهورها، وأقول: الصحيح من ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل فدخل من بابه فكأنّه عبّر بذلك هذه الآية، ورواية السدي وهم، وليس في الصحيح ما يقتضي أن رسول الله أمر بذلك ولا يظن أن يكون ذلك منه، وسياق الآية ينافيه.

﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ القول فيه كالقول في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر﴾ [البقرة: 177]، و﴿اتَّقَى﴾ فعل منزل منزلة اللازم؛ لأن المراد به من اتصف بالتقوى الشرعية بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات.

15. جرّ ﴿بِأَنْ تَأْتُوا﴾ بالباء الزائدة لتأكيد النفي بليس، ومقتضى تأكيد النفي أنهم كانوا يظنون أن هذا المنفي من البر ظنا قويا فلذلك كان مقتضى حالهم أن يؤكّد نفي هذا الظن.

16. ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ معطوف على جملة ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ﴾ عطف الإنشاء على الخبر الذي هو في معنى الإنشاء؛ لأن قوله: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ في معنى النهي عن ذلك فكان كعطف أمر على نهي.

17. هذه الآية يتعين أن تكون نزلت في سنة خمس حين أزمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الخروج إلى العمرة في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة والظاهر أن رسول الله نوى أن يحج بالمسلمين إن لم يصده المشركون، فيحتمل أنها نزلت في ذي القعدة أو قبله بقليل.

18. قرأ الجمهور (البيوت) في الموضعين في الآية بكسر الباء على خلاف صيغة جمع فعل على فعول فهي كسرة لمناسبة وقوع الياء التحتية بعد حركة الضم للتخفيف كما قرؤوا ﴿عُيُونٍ﴾ [الحجر: 45]، وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء على أصل صيغة الجمع مع عدم الاعتداد ببعض الثقل؛ لأنه لا يبلغ مبلغ الثقل الموجب لتغيير الحركة، قال ابن العربي في (العواصم): والذي أختاره لنفسي إذا قرأت أكسر الحروف المنسوبة إلى قالون إلّا الهمزة فإني أتركه أصلا إلّا فيما يحيل المعنى أو يلبسه ولا أكسر باء بيوت ولا عين عيون، وأطال بما في بعضه نظر، وهذا اختيار لنفسه بترجيح بعض القراءات المشهورة على بعض، وقد تقدم خلاف القراء في نصب‏ ﴿الْبَرُّ﴾ من قوله: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ [البقرة: 177] وفي تشديد نون‏ ﴿لَكِنِ﴾ من قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾

19. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي تظفرون بمطلبكم من البر: فإن البر في اتباع الشرع فلا تفعلوا شيئا إلا إذا كان فيه مرضاة الله ولا تتبعوا خطوات المبتدعين الذين زادوا في الحج ما ليس من شرع إبراهيم.

20. قيل في تفسير الآية وجوه واحتمالات أخرى كلها بعيدة:

أ. فقيل إن قوله‏ ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ﴾ مثل ضربه الله لما كانوا يأتونه من النسيء قاله أبو مسلم وفيه بعد حقيقة ومجازا ومعنى؛ لأن الآيات خطاب للمسلمين وهم الذين سألوا عن الأهلة، والنسيء من أحوال أهل الجاهلية، ولأنه يؤول إلى استعارة غير رشيقة.

ب. وقيل: مثل ضرب لسؤالهم عن الأهلة من لا يعلم وأمرهم بتفويض العلم إلى الله وهو بعيد جدا لحصول الجواب من قبل.

ج. وقيل: كانوا ينذرون إذا تعسر عليهم مطلوبهم ألّا يدخلوا بيوتهم من أبوابها فنهوا عن ذلك وهذا بعيد معنى، لأن الكلام مع المسلمين وهم لا يفعلون ذلك، وسندا، إذ لم يرو أحد أن هذا سبب النزول.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/191.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الشهر وهو الهلال هو حد ابتداء شهر رمضان، وحد انتهائه؛ ففي أوله برؤية هلاله، وفى آخره برؤية هلاله، فناسب بعد تمام ما أراد الله تعالى بيانه من الصوم أن أشار سبحانه إلى ما كان يدور على الألسنة خاصا بالأهلة بجوار ما ابتدعه الجاهليون من دخول البيوت من ظهورها في موسم الحج، فقال تعالت كلماته: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾

2. كان الناس من اليهود والمشركين، وبعض المسلمين يسألون عن أمور ليست من الدين وقد تكون عن الكون، وما يجرى فيه أمر الوجود، وما كانت الشريعة الإلهية لذلك، إنما هي لبيان ما يعبد الله تعالى به، وما يصلح به العباد في معاشهم، فليس منها لماذا كانت الشمس مضيئة كحجمها، والقمر نور يتغير حجمه من هلال كالخيط، ثم يزيد، حتى يصير بدرا، ثم يأخذ مرة ثانية في الضيق حتى يكون المحاق.

3. كانوا يسألون هذه الأسئلة، وهى في موضوعها معقولة من حيث علم الخلق والتكوين والبحث في أسرار الوجود، ولكنها ليست من أحكام الدين، وما يجب أن يبينه ويعلم الناس به، بل أمره إليهم يتعلمونه ويتعرفونه ويذاكرونه على أمور دنياهم، لا من أمور دينهم الذي به صلاح معاشهم ومعادهم، ولذلك لما سألوا هذه الأسئلة التي لا تتعلق بعلم الدين صرف الله تعالى نظرهم، وأخذهم إلى الناحية الدينية التي يجب أن يعرفوها ويدركوها، فقال تعالى: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ وهذا لفت لهم إلى أن الواجب أن يسألوا عن فوائدها في الدين والمعاملات، وهذا يقال عنه في علوم البلاغة الأسلوب الحكيم، وذلك هو أن يكون السؤال في غير موضعه فيجيب المسئول عن أمر آخر هو الذي ينبغي أن يكون السؤال فيه، ومن ذلك في القرآن الكريم: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة]، فيجيبهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأمر ربه: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة] إلى أخر الآية الكريمة، وكذلك هنا سألوا النبيّ عن الأهلة عن كونها، وبدوّها للناظر صغيرة ثم تكبر فأمر الله تعالى نبيه بأن يقول: ﴿هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾

4. ﴿هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ مواقيت للناس في معاملاتهم، وفى بيوعهم وفى ديونهم المؤجلة وإجاراتهم، ومزارعاتهم، ومساقاتهم وغير ذلك مما يجرى، وفيها تتبين مواقيت الحج، ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة] وبها تعين أوقات المناسك، ويضاف إلى ذلك مواقيت الصيام، إلى آخر ما هو معلوم في الدين وأعراف الناس.

5. جمع في الآية الأهلة وهى هلال واحد في كل الأوقات والشهور، ولكن لتغير حاله من ضمور فاتساع حتى يصير بدرا، ثم يصير كالعرجون القديم عدت هذه الصور أهلة، وإن كانت الحقيقة واحدة، والتغير في المنظر بسبب توسط الأرض بين الشمس والقمر في دورانها حولها.

6. القمر حساب يدل العرب في صفو الصحراء على أيام الشهر، ولقد قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [يونس‏]

7. بين سبحانه وتعالى أن الأمور يجب أن توضع في مواضعها، وأن يعلم أن البر هو التقوى، وليس المظاهر والأشكال، كما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله‏ لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾

8. قيل إن بعض العرب كان إذا أحرم، لا يدخل بيته من بابه وإنما يدخل من ظهره، قال ابن عباس في رواية عنه كان الناس في الجاهلية وفى أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج، فإن كان من أهل المدر (أي البيوت المبنية بالآجر) نقب في ظهر بيته نقبا، فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلما فيصعد منه ويحدر عليه، وإن كان من أهل الوبر (دار أهل الخيام) يدخل من خلف الخيمة، وقالوا إن الآية نزلت لإبطال هذه العادة التي كانت بقية من بقايا الجاهلية، وبين أن هذا ليس من الإسلام؛ لأن هذه أمور شكلية لم يأمر بها الله تعالى، وكل ما لم يأمر به الله تعالى ويتخذ على أنه عبادة يكون بدعة محرمة وخصوصا إن كان له صلة بالعبادة.

9. هذا هو التخريج الذي يتفق مع بعض المأثورات وإن كانت لم تثبت صحتها على وجه الجزم واليقين، وهناك تخريج آخر، وهو أن هذا الكلام تصوير للذين يسألون عن الأهلة، ولا يعنون بصلتها الشرعية من حيث إنها مواقيت للناس والحج، من حيث إنهم مثل الذين ينظرون إلى أمور من ظواهر الشرع، فلا يأتون الأمور من بابها، وهو ما يتعلق بالقلب فهم لم يدخلوا الأمور من بابها بتساؤلهم عن الأهلة، وأخذوها من غير بابها، وقد قال في ذلك الراغب في تفسيره قال الله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ بأن تطلبوا الأمر من غير وجهه، وذلك أنه يقال إن فلان أتى الأمر من غير وجهه، وجعل ذلك مثلا بسؤالهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لما هو ليس من العلم المختص بالنبوءات وإن ذلك عدول عن النهج، وذلك أن العلوم ضربان:

أ. دنيوي يتعلق بأمر المعاش لمعرفة الصنائع، ومعرفة حركات النجوم ومعرفة المعادن والنبات، وطبائع الحيوانات، وقد جعل سبيلا إلى معرفته على غير لسان نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. الثاني: شريعة وهو البر ولا سبيل لأخذه إلا من جهته، وهو أحكام التقوى ومؤدى ذلك أن قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ إلى آخر الآية رد على الذين سألوا عن أدوار الأهلة، إنهم طلبوا العلم الإسلامي من غير طريقه المرسوم كمن أتى البيت من ظهره لا من بابه، وإنه كان عليهم أن يسألوا عن البر في الشريعة لأنه المختص بالنبوة.

10. لذا قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ يتمثل فيمن اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها، فاسألوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يختص به، وهو تبليغ رسالة الله تعالى حتى ترشدوا وتدركوا لعلكم تفلحون، أي رجاء أن تفلحوا وتنالوا الفوز برضا الله تعالى، وهو التواب الرحيم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/573.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾، يحتمل هذا السؤال أمرين إذا نظرنا اليه مستقلا عن جوابه:

أ. الأول أن يكون السؤال عن السبب الطبيعي لاختلاف ما يبدو أولا من دقة الهلال: ثم تمامه بدرا، ثم يعود كما كان، وهكذا دواليك.

ب. الاحتمال الثاني أن يكون السؤال عن الحكمة في ذلك، لا عن السبب الطبيعي.

2. إذا نظرنا الى السؤال وجوابه معا، وهو ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ تعين أن يكون السؤال عن الحكمة فقط، دون السبب الطبيعي، وهذا هو الأرجح عملا بمبدإ مطابقة الجواب للسؤال.

3. قول من قال انهم سألوا عن السبب الطبيعي، وان الله سبحانه أمر نبيّه أن يجيبهم ببيان الحكمة تعريضا بأن سؤالهم في غير محله، لأنهم عاجزون عن إدراك السبب الطبيعي الذي يحتاج الى دراسة طويلة وعميقة، ومقدمات علمية كثيرة، وان الأجدر بهم أن يسألوا عن الحكمة والفائدة في اختلاف الاهلة، حيث يمكنهم فهمها وهضمها ـ أما هذا القول فمجرد احتمال لا يستند إلى دليل سوى الاستحسان.

4. سؤال وإشكال: ان الدليل موجود، وهو قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها﴾، لأن معناه ان سؤالكم عن السبب الطبيعي كمن يطلب دخول البيت من ظهره، أما سؤالكم عن الحكمة فهو كمن يطلب دخول البيت من بابه، والجواب:

أ. أولا: ان هذا اجتهاد في تأويل اللفظ، وليس تفسيرا لظاهر اللفظ..

ب. ثانيا: لقد ثبت ان هذه الجملة نزلت في ما كان يفعله أهل الجاهلية إذا أحرموا من إتيان البيت من ظهره.

5. مهما يكن، فان الله سبحانه أمر نبيه الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجيبهم بأن الحكمة من اختلاف الاهلة هي توقيت مصالحهم وأمورهم الدنيوية كالديون والإجارات، وأمورهم الدينية كالحج والصوم، وبكلمة ان الجواب يجري مجرى قوله تعالى: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾

6. ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾، قال أكثر المفسرين: ان أهل الجاهلية كان إذا أحرم أحدهم نقب نقبا في ظهر بيته ودخل منه، أو اتخذ سلما يصعد منه الى سطح البيت، وان كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء، وكان بعض المسلمين يفعل ذلك في أول الأمر، فنزلت الآية تبين لهم ان البر هو تقوى الله، وعمل الخير، والتخلي عن المعاصي والرذائل، لا بدخول البيوت من ظهورها، وما إلى ذلك من التقاليد التي تحجب العقل عن ادراك الحقيقة، ولا تمت إلى الدين والايمان بسبب.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/294.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. الأهلة جمع هلال ويسمى القمر هلالا أول الشهر القمري إذا خرج من تحت شعاع الشمس الليلة الأولى والثانية كما قيل، وقال بعضهم الليالي الثلاثة الأول، وقال بعضهم حتى يتحجر، والتحجر أن يستدير بخطة دقيقة، وقال بعضهم: حتى يبهر نوره ظلمة الليل وذلك في الليلة السابعة ثم يسمى قمرا ويسمى في الرابعة عشر بدرا، واسمه العام عند العرب الزبرقان، والهلال‏ مأخوذ من استهل الصبي إذا بكى عند الولادة أو صاح، ومن قولهم: أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، سمي به لأن الناس يهلون بذكره إذا رأوا.

2. المواقيت‏ جمع ميقات وهو الوقت المضروب للفعل، ويطلق أيضا: على المكان المعين للفعل كميقات أهل الشام وميقات أهل اليمن، والمراد هاهنا الأول.

3. في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ وإن لم يشرح أن السؤال في أمرها عما ذا: عن حقيقة القمر وسبب تشكلاتها المختلفة في صور الهلال والقمر والبدر كما قيل، أو عن حقيقة الهلال فقط، الظاهر بعد المحاق في أول الشهر القمري كما ذكره بعضهم، أو عن غير ذلك، ولكن إتيان الهلال في السؤال بصورة الجمع حيث قيل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ دليل على أن السؤال لم يكن عن ماهية القمر واختلاف تشكلاته إذ لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: يسألونك عن القمر لا عن الأهلة، وأيضا لو كان السؤال عن حقيقة الهلال وسبب تشكله الخاص كان الأنسب أن يقال: يسألونك عن الهلال إذ لا غرض‏ حينئذ يتعلق بالجمع، ففي إتيان الأهلة بصيغة الجمع دلالة على أن السؤال إنما كان عن السبب أو الفائدة في ظهور القمر هلالا بعد هلال ورسمه الشهور القمرية، وعبر عن ذلك بالأهلة لأنها هي المحققة لذلك فأجيب بالفائدة.

4. يستفاد ذلك من خصوص الجواب: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ فإن‏ المواقيت‏ وهي الأزمان المضروبة للأفعال، والأعمال إنما هي الشهور دون الأهلة التي ليست بأزمنة وإنما هي أشكال وصور في القمر.

5. بالجملة قد تحصل أن الغرض في السؤال إنما كان متعلقا بشأن الشهور القمرية من حيث السبب أو الفائدة فأجيب ببيان الفائدة وأنها أزمان وأوقات مضروبة للناس في أمور معاشهم ومعادهم فإن الإنسان لا بد له من حيث الخلقة من أن يقدر أفعاله وأعماله التي جميعها من سنخ الحركة بالزمان، ولازم ذلك أن يتقطع الزمان الممتد الذي ينطبق عليه أمورهم قطعا صغارا وكبارا مثل الليل والنهار واليوم والشهر والفصول والسنين بالعناية الإلهية التي تدبر أمور خلقه وتهديهم إلى صلاح حياتهم، والتقطيع الظاهر الذي يستفيد منه العالم والجاهل والبدوي والحضري ويسهل حفظه على الجميع إنما هو تقطيع الأيام بالشهور القمرية التي يدركه كل صحيح الإدراك مستقيم الحواس من الناس دون الشهور الشمسية التي ما تنبه لشأنها ولم ينل دقيق حسابها الإنسان إلا بعد قرون وأحقاب من بدء حياته في الأرض وهو مع ذلك ليس في وسع جميع الناس دائما، فالشهور القمرية أوقات مضروبة معينة للناس في أمور دينهم ودنياهم وللحج خاصة فإنه أشهر معلومات، وكان اختصاص الحج بالذكر ثانيا تمهيد لما سيذكر في الآيات التالية من اختصاصه ببعض الشهور.

6. ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ ثبت بالنقل أن جماعة من عرب الجاهلية كانوا إذا أحرموا للحج لم يدخلوا بيوتهم عند الحاجة من الباب بل اتخذوا نقبا من ظهورها ودخلوا منه فنهى عن ذلك الإسلام وأمرهم بدخول البيوت من أبوابها، ونزول الآية يقبل الانطباق على هذا الشأن، وبذلك يصح الاعتماد على ما نقل من شأن نزول الآية على ما سيأتي نقله، ولولا ذلك لأمكن أن يقال: إن قوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ﴾ إلى آخره، كناية عن النهي‏ عن امتثال الأوامر الإلهية والعمل بالأحكام المشرعة في الدين إلا على الوجه الذي شرعت عليه، فلا يجوز الحج في غير أشهره، ولا الصيام في غير شهر رمضان وهكذا وكانت الجملة على هذا متمما لأول الآية، وكان المعنى أن هذه الشهور أوقات مضروبة لأعمال شرعت فيها ولا يجوز التعدي بها عنها إلى غيرها كالحج في غير أشهره، والصوم في غير شهر رمضان وهكذا فكانت الآية مشتملة على بيان حكم واحد.

7. على التقدير الأول الذي يؤيده النقل فنفي البر عن إتيان البيوت من ظهورها يدل على أن العمل المذكور لم يكن مما أمضاه الدين وإلا لم يكن معنى لنفي كونه برا فإنما كان ذلك عادة سيئة جاهلية فنفى الله تعالى كونه من البر، وأثبت أن البر هو التقوى، وكان الظاهر أن يقال: ولكن البر هو التقوى، وإنما عدل إلى قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾، إشعارا بأن الكمال إنما هو في الاتصاف بالتقوى وهو المقصود دون المفهوم الخالي كما مر نظيره في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾

8. الأمر في قوله تعالى: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ ليس أمرا مولويا وإنما هو إرشاد إلى حسن إتيان البيوت من أبوابها لما فيه من الجري على العادة المألوفة المستحسنة الموافقة للغرض العقلائي في بناء البيوت ووضع الباب مدخلا ومخرجا فيها، فإن الكلام واقع موقع الردع عن عادة سيئة لا وجه لها إلا خرق العادة الجارية الموافقة للغرض العقلائي، فلا يدل على أزيد من الهداية إلى طريق الصواب من غير إيجاب، نعم الدخول من غير الباب بمقصد أنه من الدين بدعة محرمة.

9. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ قد عرفت في أول السورة أن التقوى من الصفات التي يجامع جميع مراتب الإيمان ومقامات الكمال، ومن المعلوم أن جميع المقامات لا يستوجب الفلاح والسعادة كما يستوجبه المقامات الأخيرة التي تنفي عن صاحبها الشرك والضلال وإنما تهدي إلى الفلاح وتبشر بالسعادة، ولذلك قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فأتى بكلمة الترجي، ويمكن أن يكون المراد بالتقوى امتثال هذا الأمر الخاص الموجود في الآية وترك ما ذمه من إتيان البيوت من ظهورها.

10. أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال: كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام ـ وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ـ فبينا رسول الله ص في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري ـ فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر وأنه خرج معك من البابـ فقال له: ما حملك على ما فعلت قال رأيتك فعلته ففعلته كما فعلت ـ قال إني رجل أحمس قال فإن: ديني دينك فأنزل اللهـ ﴿لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها﴾، وقد روي قريبا من هذا المعنى بطرق أخرى، والحمس‏ جمع أحمس كحمر وأحمر من الحماسة وهي الشدة سميت به قريش لشدتهم في أمر دينهم أو لصلابتهم وشدة بأسهم.. وظاهر الرواية أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قد أمضى قبل الواقعة الدخول من ظهور البيوت لغير قريش ولذا عاتبه بقوله: ما حملك على ما صنعت، وعلى هذا فتكون الآية من الآيات الناسخة، وهي تنسخ حكما مشرعا من غير آية هذا، ولكنك قد عرفت أن الآية تنافيه حيث تقول: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا﴾ وحاشا الله سبحانه‏ أن يشرع هو أو رسوله بأمره حكما من الأحكام ثم يذمه أو يقبحه وينسخه بعد ذلك وهو ظاهر.

11. عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ ـ قال: (يعني أن يأتي الأمر من وجهه أي الأمور كان)، وفي الكافي، عن الصادق عليه السلام: (الأوصياء هم أبواب الله التي منها يؤتى ولولا هم ما عرف الله عز وجل ـ وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه).. الرواية من الجري وبيان لمصداق من مصاديق الآية بالمعنى الذي فسرت به في الرواية الأولى، ولا شك أن الآية بحسب المعنى عامة وإن كانت بحسب مورد النزول خاصة، وقوله عليه السلام (ولولا هم ما عرف الله)، يعني البيان الحق والدعوة التامة الذين معهم، وله معنى آخر أدق.. والروايات في معنى الروايتين كثيرة.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/56.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ الأهلّة: جمع هلال، وهو ما يبدو من القمر في أول الشهر، ذكر الراغب في (مفرداته): (أنه يسمى هلالاً إذا كان في الليلة الأولى من الشهر والثانية)، والسؤال عن شأنه لأنه واضح أنه بعض القمر، كأنهم قالوا: لماذا يبدو ثم يكبر ويصير قمراً، ثم يصغر حتى يعود كالعرجون القديم، ثم يبدو هلالاً في أول الشهر وهكذا مستمراً، ولكون الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث والقرآن نزل لبيان المعارف الدينية كان الجواب ببيان ما فيه من حكمة ونعمة، لا بالجواب المطابق أن سبب ذلك ما يذكره علماء الفلك؛ لأن المهم التعريف بحكمة الله ونعمته وإن كان في ذلك الجواب آية لكنهم أحوج إلى بيان النعمة والحكمة مع أن الآيات المشاهدة تكفيهم.

2. ﴿مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ ينتفعون بها في معاملاتهم وأعمالهم مثل أجل الدين وأجل عمل الأجير وأجل العطلة وغير ذلك، وينتفعون بها لمعرفة أشهر ﴿الْحَجِّ﴾ ليسافروا للحج ويفعلوه في وقته بواسطة عدد الشهور من محرم إلى شهر الحجة.

3. ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ لأن الله لم يشرع ذلك، فليس قربة كما كانت الجاهلية تظن ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ أي عمل من اتقى ربه فأطاعه واجتنب معاصيه ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ تركاً للبدعة، ورفضاً لعمل الجاهلية ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لأن الفلاح لا سبيل إليه إلاَّ التقوى التي تنجي من النار وتبلغ أهلها الجنة.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/270.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. جاء في أسباب النزول في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ قال ابن عباس: إن معاذ بن جبل وثعلبة بن عنمة وهما رجلان من الأنصار، قالا يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدقّ حتى يكون كما كان، لا يكون على حالة واحدة؟ وسيأتي الحديث في الجانب التفسيري أن هناك اعتراضا على هذا الوجه من الاحتمال في الآية وقد ناقشنا في هذا الاعتراض.

2. وجاء في أسباب النزول ـ في ما رواه السيوطي في الدر المنثور ـ قال كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾

3. وجاء في تفسير الكشاف: (كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا ولا دارا ولا فسطاطا من باب، فإذا كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلما يصعد فيه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء، فقيل لهم: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ﴾ ليس البر بتحرجكم من دخول الباب‏ ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ بر ﴿مَنِ اتَّقَى﴾ ما حرم الله)

4. قد لا نجد مانعا من التسليم بنزول الآية في هذا المورد، ولكن سبب النزول لا يحدد مفهوم الآية بمورد نزولها، بل يكون منطلقا للفكرة العامة.

5. هذا أسلوب جديد من أساليب القرآن في التربية، وهو أسلوب إثارة السؤال من خلال ما يقدمه الآخرون من القضايا التي تدور في تفكيرهم، فيحاولون معرفتها بهذه الطريقة، وقد أراد الله للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يهتم بكل الأسئلة التي تطرح عليه، لأن من حق الناس عليه أن يبتدئهم بالمعرفة إذا لم يسألوه، وأن يجيبهم إذا توجهوا إليه بالسؤال، لأن الله قد أرسله من أجل أن يزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويفتح لهم أبواب المعرفة على أوسع مدى وأرحب مجال.

6. قد يكون هذا التأكيد على الأسئلة التي كانت توجّه إلى النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من المسلمين، والأجوبة التي كان يقدّمها إليهم، ونقل ذلك في القرآن، إيحاء بأن الإسلام ينفتح على كل علامات الاستفهام التي تدور في أذهان الناس في القضايا التي تشغل تفكيرهم في حياتهم الخاصة والعامة، فمن حق الناس أن يطلقوا كل الأسئلة أمام القيادة الإسلامية، حتى إذا كانت في مستوى النبوة المتمثلة بالنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن ذلك هو الذي يحرّك الإنسان في خطوات المعرفة، فقد ترد هناك بعض العناوين التي لا يملك الإنسان وضوح الفكرة فيها، وقد تنطلق بعض الأفكار المضادة للعقيدة، أو للشريعة، أو للموقف القيادي، أو للواقع العام، مما يثير التساؤل أو الرفض.. ولا بد للقيادة الفكرية والسياسية من الاستجابة لذلك كله بكل انفتاح ورحابة صدر وسعة أفق، بعيدا عن كل تشنّج أو انفعال، فليست هناك محرمات أمام أيّ سؤال لأن التحريم يعني سدّ باب المعرفة لدى الناس ممّن لا يملكون الوضوح فيه، فيتحول الإسلام إلى حالة معينة، متخلفة بعيدة عن أيّة إمكانات للتقدم والتطوير، ويجعل الناس يعيشون حالة التعبّد في خطوط الفكر في الوقت الذي يقتصر فيه التعبد على الجانب العبادي وبعض الجوانب العملية في التشريع، مع بعض الملاحظات التي تتحرك لتتحدث عن أسرار العبادة أو التشريع بطريقة قريبة إلى الوجدان.

7. إن الله سبحانه يتحدث دائما لنبيه عن أنه أنزل الكتاب عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم ليبين للناس: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: 64]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [إبراهيم: 4] ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ﴾ [النحل: 39]، وذلك يعني أن على النبي أو الإمام أو العالم الداعية، أن يدخل مع الناس في التفاصيل التي يختلفون فيها فتتعدد آراؤهم حولها، ليعطيهم الحكم الفاصل في ذاك الموضوع أو ذلك، لينطلق الناس في المعرفة على أساس من الوضوح في المبدأ والتفاصيل.

8. نلاحظ في الأسئلة التي بدأها القرآن في هذا الفصل، أنها لا تقتصر على جانب واحد، بل تتنوع فيها الموضوعات، فقد سألوا عن الأهلة، وماذا ينفقون، وعن القتال في الشهر الحرام، وعن الخمر والميسر، وعن اليتامى، وعن المحيض، وعما أحل لهم وأمثال ذلك مما يتصل بملاحظاتهم التأملية، وبأوضاعهم الإنفاقية والقتالية، وبما يشربون وما يلبسون، وبما يطرأ عليهم من حالات جسدية، وبما يتفشى بينهم من حالة اليتم والحرمان.. وسألوا عن الساعة وعن توقيتها، وعن الأنفال من يملكها، وعن الروح ما هي، وعن الجبال كيف يكون مصيرها عند نهاية الكون مما يتصل بالجو التأملي، وعن القلق المستقبلي والأشياء الموجودة في الطبيعة وعمق الذات الإنسانية.. فلا بد من أن تكون هناك حالات وأوضاع وأشياء أثارت هذه الأسئلة في أذهانهم مما بيّنه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يكن واضحا في تفاصيله، أو مما لم يبيّنه مما ترك للناس أمر السّؤال عنه ليبين لهم ذلك في الجواب.

9. إذا كان الله سبحانه يولي مثل هذه الأمور البسيطة الأهمية البالغة، فينزّل على نبيه الأجوبة عنها على حسب المستوى الذهني الذي كانوا يتمتعون به ليستريحوا إليه في ما يتأملونه أو يتعلمونه، فهل يمكن أمام ذلك، أن لا يحمّل الله رسله والدعاة إلى دينه المسؤولية في أن يستجيبوا للأسئلة الصعبة التي تتصل بالعقيدة في أصولها وتفاصيلها، وعلى الخطوط العامة للمفاهيم الإسلامية لا سيما في الحالات التي يعيش فيها الواقع الإسلامي الصراع بين الإسلام والتيارات الآخرى المضادّة أو في داخل الإسلام في اختلاف المذاهب الكلامية والفقهية، بحيث تتحرك من خلالها علامات الاستفهام في أكثر من موقع أو قضية مما يثيره الآخرون أو تفرضه أجواء الخلافات التي تثير الحيرة والقلق الفكري والروحي؟

10. إن حركة الجواب في السؤال تستطيع أن تؤصّل للإنسان عقيدته وتفكيره، وتملأ بالصفاء روحه وعقله، وتقوّي قدرته على المواجهة والدخول في ساحات الصراع، ليحمي مواقعه عندما تحتدم الأفكار وتعنف الكلمات.

11. قد نلاحظ أن أسلوب السؤال والجواب هو من أفضل الأساليب التربوية في تعميق الفكرة في وجدان الإنسان، لأنك في الجواب تحدث السائل عن نفسه عندما تعالج أسباب حيرته، فتفتح له أبواب المعرفة في ما يجهله، مما يجعله ينجذب إلى الكلمة انجذابا وجدانيا بفكره وشعوره، لأنها تمثل ردّ الفعل لكلمته، ومفتاح الحل لمشكلته، فلا يستسلم في انفتاحه على الجواب لأية حالة شرود أو ذهول أو غفلة، لأن الإنسان لا يسأل عادة إلّا عن الأشياء التي تضغط على وجدانه وتنطلق من عمق اهتماماته، بينما نجد هذا الإنسان لا يندفع بمثل هذا المستوى لسماع محاضرة أو درس أو نقاش بين اثنين.. فقد يقف موقف اللامبالاة، أو يستسلم لبعض الشرود الفكري أو الذهول الروحي، أو يبتعد عن الجو كليا من خلال قضايا أخرى أكثر أهمية من هذه القضية أو تلك.

12. لهذا نجد أن القرآن لم يكتف بالجواب عن الأسئلة التي يقدّمها الناس إلى النبي، بل بادر إلى أن يطرح الأسئلة على الآخرين، فقد تعددت الآيات التي فرضت الأسئلة التي لو أطلقت أمام الناس الذين قد يكفرون أو يشككون، لانطلق الجواب من عمق الفطرة في إجابة حاسمة تؤكد أصالة الإيمان في الفطرة كقاعدة للمنهج في حركة التفكير، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: 61]، وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: 63]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: 46]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [القصص: 71 ـ 72]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: 30]، إنها الأسئلة التي تقتحم على الإنسان ذاته في الحالة التي لا يعيش فيها العقدة المرضية التي توحي له بالجحود والعناد، بل يعيش فيها عفوية حركة ذاته مع الآخرين، لينطلق الجواب مع عفوية الحقيقة في أعماقه من خلال فطرته التي ترى الله في كل شيء.

13. تحدثنا بعض الآيات كيف يطرح الله الجواب التفصيلي عن علاقته بعباده انطلاقا من السؤال الذي يفرض أنهم يقدمونه إلى النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أو إلى كل داعية، لأن طبيعة الأمور في إيمانهم بالله تدعو إلى مثل هذا السؤال الذي يحاول أن يستشرف أسرار الغيب في الذات الإلهية المقدسة في ما لا يملكون الوسائل العادية للوصول إلى معرفته، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186]

14. لا بد للعاملين في حركة التربية والدعوة الإسلامية من أن يأخذوا بهذا الأسلوب التربوي في مناهجهم وأساليبهم، انطلاقا من المنهج القرآني الذي ينفتح على أقرب الطرق للوصول إلى عقل الإنسان وروحه في الدعوة والحركة.

15. اختلفت وجهة النظر عن المسؤول عنه في الآية، فاختار أكثر المفسرين أن مورده هو حالات القمر المختلفة، فإنه يبدو صغيرا ثم يكبر، ثم يصغر بعد ذلك، فأرادوا أن يفهموا السر في ذلك الاختلاف الذي يلفت النظر لدى كل إنسان، ولكن الجواب لم يكن على وفق السؤال، بل اتجه اتجاها آخر، وهو الحديث عن فوائد هذا الاختلاف، لأنه يحدد للناس مواقيتهم ومواعيدهم في ما يحتاجون إليه من تحديد الوقت في قضاياهم العامة والخاصة، ولا سيما في موضوع الحج الذي له موعد خاص ـ وقد ركز عليه لأهميته عندهم ـ وقال بعض المفسرين في التعليق على ذلك: إنهم لم يكونوا في مجال الاستفادة من المعرفة الفلكية، مما يجعل الدخول في ذلك اقتحاما في عملية لا تتسع لها أفكارهم من جهة، ولا تخدم حياتهم من جهة أخرى، ولهذا أعرض عن الجواب حول الموضوع، لينتقل إلى السؤال عن فوائد ذلك وحكمته في الحياة، من حيث إنها تضبط لهم مواقيتهم في أعمالهم، وتحدد لهم وقت الحج بالخصوص في الوقت الذي تتميز فيه عن الشهور الشمسية بسهولة تناول التاريخ القمري لكل الناس، لأنه لا يحتاج إلا إلى النظر والملاحظة، بينما يتوقف التاريخ الشمسي على الحساب، فلا يعرفه إلا الحاسبون، ويعقبون على ذلك بأن من مهمة الموجّه والمرشد أن لا يجيب عن كل الأسئلة، لأن بعضها لا يتصل بحياة الناس بالمستوى الكبير، بل ينبغي له أن يوجههم إلى القضايا المهمة التي يجب أن يسألوا عنها ليستفيدوا منها بشكل مباشر، وفي ضوء ذلك كان تفسيرهم للتعقيب القرآني اللاحق للجواب: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فقد ذكروا أنه دعوة إلى أن يواجه الإنسان القضايا من أبوابها ولا يواجهها من ظهورها، بالأسلوب الكنائي الذي عبر فيه عن ذلك بالبيوت.

16. انطلق هؤلاء المفسرون في هذه الاستفادة من الآية إلى ما روي (أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم‏ الأنصاري قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى‏ يعود كما بدأ، لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت)

17. ذهب بعض المفسرين ـ ومنهم صاحب تفسير الميزان ـ إلى أن (السؤال لم يكن عن ماهية القمر واختلاف تشكلاته، إذ لو كان كذلك، لكان الأنسب أن يقال: يسألونك عن القمر لا عن الأهلة، وأيضا لو كان السؤال عن حقيقة الهلال وسبب تشكله الخاص، لكان الأنسب أن يقال: يسألونك عن الهلال، إذ لا غرض حينئذ يتعلق بالجمع، ففي إتيان الأهلة بصيغة الجمع دلالة على أن السؤال إنما كان عن السبب أو الفائدة في ظهور القمر هلالا بعد هلال ورسمه الشهور القمرية، وعبّر عن ذلك بالأهلة لأنها هي المحققة لذلك، فأجيب بالفائدة)، أما تعليقنا على ذلك، فإننا لا نرى رأي صاحب الميزان في ما استفاده، لأنه استند إلى إتيان‏ ﴿الْأَهِلَّةِ﴾ بصيغة الجمع، بدعوى أنها لا تتناسب مع السؤال عن القمر أو الهلال، لكنا نرى أنه يكفي في ذلك تكرر الظاهرة في الزمن، بحيث إنها تلفت النظر دائما، مما يجعل السؤال عنها كشيء متكرر بصيغة الجمع.. ويؤكد ذلك أن السؤال كان عن الظاهرة، لا عن حقيقة القمر كما يوحي به كلامه في ما يستفيده من وجهة نظر الآخرين ونحن نستقرب ما ذكروه، لأنه هو المناسب للسؤال، وهو المتبادر من الآية فإن اختلاف الشهور وتعددها لا يلفت أنظارهم كحالة ذهنية صعبة، لأنه من الأمور التي يسيرون عليها في حياتهم، بل الذي يلفت النظر هو اختلاف حالات القمر ـ كما ورد في الرواية ـ أما لماذا كان الجواب بما يعرفونه، فلأن الآية أرادت أن ترشدهم إلى ما يجب أن يهتموا به من تنظيم أوقاتهم على حسب ما أراه الله لهم في ذلك، بما أوجده لهم من هذا التنظيم الكوني للوقت ليسيروا على هداه بطريقة منظمة مركزة، والله العالم بحقائق آياته.

18. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ في اختلاف أشكال القمر منذ خروجه من المحاق إلى أن ينتهي إليه، كيف كان صغيرا ثم يكبر ثم يعود صغيرا كما كان، كيف ذلك؟ ولماذا؟ وما الفرق بين القمر في هذا التنوع في حجمه وبين الشمس في بقائها على حالة واحدة في الوضع الطبيعي في القانون العام؟ ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ فللشمس وظيفة واحدة في النظرة العامة في رؤية الناس الحسية، وهي تحديد الليل في عملية الغروب والشمس، أما القمر، فإن وظيفته هي التوقيت المتحرك على مستوى الأيام في بداية الشهر ونصفه وآخره، وعلى مستوى الشهور، مما يفرض هذا النوع من الاختلاف، فهي مواقيت للناس في كل قضاياهم المتصلة بنظام حياتهم، وهي ميقات للحج الذي يمثل الاهتمام في الواقع الإسلامي وفي منطقة الدعوة، وهذا ما يفرض اختلاف الأوقات الذي يمكن أن يشير إليه اختلاف الشكل للقمر، والله العالم.

19. ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ فإن ذلك يخالف الوضع الطبيعي الذي تقتضيه الفطرة الإنسانية في حركتها في الواقع على حساب‏ الخصائص الذاتية المتمثلة في عناصر وجوده، إذا أراد الإنسان أن يدخل بيته أو بيوت الآخرين، فإن من الطبيعي بحسب نظام البيت أن يدخله من بابه الذي هو المدخل له، وإذا كان هذا هو المفروض في الواقع المادي للبيوت والأبواب، فإن من الممكن الاستيحاء المعنوي في القضايا الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، بأن ندخل إليها من مداخلها التي يمكن أن تكون نقطة البداية في التحرك نحوها، إن من جهة طبيعة القضية أو من ناحية الوسيلة التي توصل إليها، والأسلوب الذي يتمثل في طريقة التعامل معها.

20. ربما كانت الفقرة المذكورة (كناية عن النهي عن امتثال الأوامر الإلهية والعمل بالأحكام المشرّعة في الدين، إلّا على الوجه الذي شرّعت عليه، فلا يجوز الحج في غير أشهره، ولا الصيام في غير شهر رمضان، وهكذا.. وكانت الجملة على هذا متمّمة لأول الآية وكان المعنى: إن هذه الشهور أوقات مضروبة لأعمال شرّعت فيها، ولا يجوز التعدّي بها عنها إلى غيرها، كالحج في غير أشهره، والصوم في غير شهر رمضان، وهكذا، فكانت الآية مشتملة على بيان حكم واحد)، ولكننا نلاحظ على هذا الاحتمال أن الحديث عن الالتزام بالمواقيت لا يمثل أية مشكلة في الذهنية العامة للناس، فلا يفكر أحد أن يقوم بالعمل في غير وقته، كما لا يفكر مسلم بالإتيان بالحج في غير شهره، وبالصيام في غير شهر رمضان، الأمر الذي يجعل من إثارة هذا الموضوع في خصوصيته إثارة لأمر غير ذي موضوع، فيدخل في دائرة العبث ـ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ـ.

21. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ حيث تتحول التقوى إلى صورة إنسانية نموذجية في الواقع الإنساني، لينطلق الإنسان في مبادراته وأوضاعه وعلاقاته بالحياة وبالإنسان من موقع الخط الإسلامي المنفتح على وحي الله في أوامره ونواهيه التي تحمي الإنسان من نفسه، كما تحمي غيره منه، فيكون البر عنوانا للإنسان قبل أن يكون عنوانا للعمل، لأن قيمة العمل تتحدد بمقدار ما يكون تجسيدا للإنسان.

22. ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ التي تفتح لكم كل مواقعها وجنباتها، سواء في ذلك البيوت المادية أو الروحية والعملية، وربما كان من أظهر مصاديقها الأبواب التي تفتح شخصيات الناس، لأن لكل إنسان بابا تدخل منه إلى عقله وقلبه وحياته، مما يجعل من الضروري أن ندرس المدخل إلى عمق الشخصية في نقاط ضعفها وقوتها، وفي مستواها الثقافي، وتطلعاتها الروحية والمادية، فقد نلاحظ أن الكثير من المشاكل في المجتمعات الإنسانية انطلقت من عدم اكتشاف الأبواب الثقافية والروحية والاجتماعية التي تمثل المداخل الطبيعية إلى الواقع الداخلي للناس، مما يجعل الإنسان بعيدا عن الفهم الحقيقي لإنسانية الآخرين في أوضاعهم الخاصة والعامة.

23. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ وراقبوه في كل أموركم في ما تفعلون وتتركون، ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لأن التقوى التي تربط الإنسان بالله هي سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة.

24. من وحي الآية يمكننا أن نستوحي من الآية الفكرة التالية: وهي أن على الإنسان الذي يريد أن يجعل حياته في طريق البر، أن ينظر إلى الأشياء الأساسية التي ترتكز على دراسة واعية لخط التقوى الذي يدفع الإنسان إلى الانطلاق في مجال الالتزام بأوامر الله ونواهيه والوقوف عند حدوده، وفي ضوء ذلك يمكنكم أن تتجاوزوا هذا العمل الذي ألزمتم أنفسكم به بالدخول إلى البيوت من ظهورها في حال الإحرام، لأنه ليس أمرا مفروضا عليكم من الله، فيمكنكم أن تأتوا البيوت من أبوابها من دون أي خوف أو حرج إذا التزمتم بالتقوى في ما حرمه الله عليكم أو في ما أوجبه الله عليكم، ولكن التأمل في الآية يجعلنا نتجاوز ما ورد في هذه الروايات التي لم تثبت عندنا.

25. إن الظاهر في قضية قوله: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ أنها ليست واردة في مقام الرخصة بذلك، بل هي واردة في مقام تحديد الخط العام الذي يسير عليه الإنسان في حياته في كل ما يفيض فيه من حديث، أو يسأل عنه من أمر، أو ينطلق فيه من عمل، أو يتحرك نحوه من هدف.. وبذلك يكون مفاد الآية التأكيد على أن يتحرك الموقف العملي للإنسان من الوجه الذي يجب أن ينطلق منه، فإن الله قد جعل لكل شيء في الحياة بابا يدخل منه، فلكل غاية وسيلة معينة تنسجم مع طبيعتها وواقعها، ولكل فكرة أجواؤها التي تتحرك فيها، ولكل حركة قيادتها التي تتحرك من خلالها.. وبذلك تلتقي فكرة إتيان البيوت من أبوابها مع خط التقوى، كما أن إتيانها من ظهورها كناية عن الانطلاق من غير مواردها الشرعية بعيدا عن خط التقوى، ويكون البرّ وعدمه تابعا لذلك، ويؤيد هذا المعنى‏ ما روي عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه السّلام ـ في كتاب المحاسن للبرقي ـ في قوله تعالى: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ قال يعني أن يأتي الأمر من وجهه، أيّ الأمور كان‏ ويمكن أن يكون ذلك على سبيل الاستيحاء أو التطبيق لا على سبيل التفسير، ولعل هذا هو الأقرب إلى الأجواء القرآنية العامة، وهو الذي يجب أن نستوحيه في حياتنا العملية عندما نريد أن ننطلق في أي مجال للدعوة، فنتحرك معه بالأسلوب الذي يمكن أن يؤدي إلى الغاية، ويوصل إلى المطلوب من خلال دراسة الواقع‏ الفكري والعملي والمؤثرات التي تساهم في طبيعة الشخص أو الحالة، أو عندما نريد أن نعمل في أية حركة ثقافية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية..

26. إن علينا أن نواجه القضايا من بابها الذي ندخل من خلاله إلى كل المجالات التي تخلق من التحرك حالة واقعية تساهم في تحقيق فرص النجاح وتبتعد عن كل أسباب الفشل، سواء في ذلك جانب الفكرة، أو الوسيلة، أو الأسلوب، أو القيادة، أو طبيعة الساحة التي تنطلق فيها الحركة، أو الظروف الموضوعية التي تحيط بها، أو الخلفيات التي تكمن وراءها وهكذا في كل العناصر الحية التي تجعلنا نواجه الموقف من وجهه لا من ظهره، وذلك هو سبيل التقوى الذي يجعلنا نحسب حساب كلّ خطوة نخطوها على أساس رضى الله، الذي هو سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/61.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. روي أنّ معاذ بن جبل قال يا رسول الله إنّ اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلّة فأنزل الله هذه الآية، وقيل: إنّ اليهود سألوا رسول الله: لم خلقت هذه الأهلّة؟ فنزلت هذه الآية، لتقول إنّ للأهلّة فوائد ماديّة ومعنوية في نظام الحياة الإنسانية.

2. كما اتّضح من سبب نزول هذه الآية الشريفة من أنّ جماعة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الهلال وما يحصل عليه من تغييرات متدرّجة وعن أسبابها ونتائجها، فيجيب القرآن الكريم على سؤالهم بقوله‏ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾

3. (أهلّة) جمع (هلال) ويعني القمر في اللّيلة الاولى والثانية من الشهر، وقال بعضهم أنّ التسمية تطلق عليه لثلاث ليالي من أوّل الشّهر وبعد ذلك يسمّى (قمر)، وذهب بعضهم إلى أكثر من هذا المقدار، ويرى (الطبرسي) في مجمع البيان وآخرون من المفسّرين أنّ مفردة (الهلال) هي في الأصل من (استهلال الصبي) ويعني بكاء الطفل من بداية تولّده، ثمّ استعمل للقمر في بداية الشهر، وكذلك استعمل أيضا في قول الحجّاج في بداية مناسكهم: (لبيّك لبيّك)، بصوت عال، فيقال (أهلّ القوم بالحج) ولكن يستفاد من كلمات الرّاغب في المفردات عكس هذا المطلب وأنّ أصل هذه المفردة هو الهلال في بداية الشهر وقد استفيد منه (استهلال الصبي) أي بكائه عند ولادته.

4. يستفاد من جملة ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ الّتي هي فعل مضارع يدل على التكرار أنّ هذا السؤال قد تكرّر مرّات عديدة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثمّ تقول الآية ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ فما يحصل عليها من تغييرات منتظمة تدريجيّة، يجعل منها تقويما طبيعيا يساعد الناس على تنظيم أمورهم الحياتية القائمة على التوقيت وتحديد الزمن، وكذلك على تنظيم امور عباداتهم المحدّدة بزمان معيّن كالحجّ والصوم، والهلال هو المرجع في تعيين هذا الزمان، وبالاستهلال ينظّم الناس امور عبادتهم وشؤون دنياهم، هذا التقوىم الطبيعي ميسور لجميع البشر متعلّمهم وأمّيّهم، في جميع بقاع الأرض، وبموجبه يمكن تعيين أوّل الشهر ووسطه وآخره، بل كلّ يوم من أيّامه بدقّة، وواضح أنّ نظام الحياة الاجتماعية يحتاج إلى تقويم، أي إلى وسيلة تعيّن التاريخ الدقيق، ومن هنا وضع الله سبحانه هذا التقوىم الطبيعي للناس في كلّ‏ زمان ومكان.

5. من امتيازات قوانين الإسلام أنّ أحكامه قائمة عادة على المقاييس الطبيعية لأنّ هذه المقاييس متوفّرة لدى جميع الناس، ولا يؤثّر عليها مرور الزمان شيئا، أمّا المقاييس غير الطبيعية فليست في متناول يد الجميع ولم يستطع جميع البشر حتّى في زماننا هذا أن يستفيدوا من مقاييس عالمية موحّدة، لذلك نرى أنّ المقياس في الأحكام الإسلامية يقوم في الأطوال على أساس الشبر والخطوة والذراع والقامة، وفي الزمان على غروب الشمس وطلوع الفجر وزوال الشمس وروبة الهلال.

6. هنا يتّضح امتياز الأشهر القمريّة عن الشمسيّة، فالبرغم من أنّ كلا منهما يترتّب على حركات الكواكب السماويّة، ولكنّ الأشهر القمريّة قابلة للمشاهدة من الجميع، في حين أنّ الأشهر الشمسيّة لا يمكن تشخيصها إلّا بواسطة المنجميّن وبالوسائل الخاصّة لديهم، فيعرفون مثلا أنّ الشمس في هذا الشهر سوف تقع في مقابل أيّ صورة فلكيّة وأيّ برج سماوي.

7. سؤال وإشكال: هل أنّ الأشخاص الّذين سألوا عن الاهلّة كان هدفهم هو الاستفسار عن فائدة هذه التغيّرات أو السؤال عن كيفيّة ظهور الهلال وتكامله إلى مرحلة البدر الكامل؟ والجواب: ذهب بعض المفسّرين إلى الاحتمال الأوّل، والبعض الآخر ذهب إلى الثاني وأضاف: بما أنّ السؤال عن الأسباب وعلل التغييرات ليست ذات فائدة لهم ولعلّ فهم الجواب أيضا سيكون عسيرا على أذهانهم، فلهذا بيّن القرآن النتائج المترتبّة على تغييرات الهلال لكي يتعلّم الناس أن يتوجّهوا دوما صوب النتائج.

8. ثمّ إنّ القرآن أشار في هذه الآية وبمناسبة الحديث عن الحجّ وتعيين موسمه بواسطة الهلال الّذي ورد في أوّل الآية إلى إحدى عادات الجاهليّين‏ الخرافيّة في مورد الحجّ ونهت الآية الناس عن ذلك، حيث تقول: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ذهب كثير من المفسّرين إلى أن الناس في زمن الجاهليّة كانوا يمتنعون لدى لبسهم ثياب الإحرام من الدخول في بيوتهم من أبوابها ويعتقدون بحرمة هذا العمل، ولهذا السبب فإنّهم كانوا يفتحون كوّه وثقب خلف البيوت لكي يدخلوا بيوتهم منها عند إحرامهم، وكانوا يعتقدون أنّ هذا العمل صحيح وجيّد، لأنّه بمعنى ترك العادة والإحرام يعني مجموعة من تروك العادات فيكتمل كذلك بترك هذه العادة، ويرى بعضهم أنّ هذا العمل كان بسبب أنّهم لا يستظلّون بسقف في حال الإحرام، ولذلك فإنّ المرور من خلال ثقب الحائط بالقياس مع دخول الدار من الباب يكون أفضل، ولكنّ القرآن يصرّح لهم أنّ الخير والبر في التقوى لا في العادات والرّسوم الخرافيّة، ويأمر بعد ذلك فورا بأن يدخلوا بيوتهم من أبوابها.

9. هذه الآية لها معنى أوسع وأشمل، وذلك أنّ الإنسان لا بدّ له عندما يقدم على أيّ عمل من الأعمال سواء كان دينيا أو دنيويا لا بدّ له من أن يرده من طريق الصحيح لا من الطرق المنحرفة، كما ورد هذا المعنى في رواية جابر عندما سأل الإمام الباقر عليه السّلام عن ذلك‏.

10. هكذا يكون بأمكاننا العثور على ارتباط جديد بين بداية الآية ونهايتها، وذلك أنّ كلّ عمل لا بدّ أن يرده الإنسان من الطريق الصحيح، فالعبادة في الحجّ أيضا لا بدّ أن يبتدأ الإنسان بها في الوقت المقرّر وتعيينه بواسطة الهلال.

11. التفسير الثالث المذكور لهذه الآية هو أنّ الإنسان عندما يبحث عن الخيرات والبر لا بدّ أن يتوجّه صوب أهله ولا يطلبه من غير أهله، ولكنّ هذا التفسير يمكن إدراجه في التفسير الثاني حيث‏ ورد في روايات أهل البيت عليهم السّلام عن الإمام الباقر عليه السّلام:‏ (آل محمّد أبواب الله وسبله والدّعاة إلى الجنّة والقادة إليها والأدلّاء عليها إلى يوم القيامة)

12. وردت في 15 مورد من الآيات القرآنية جملة ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ وهذه علامة على‏ أنّ الناس يسألون من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مسائل مختلفة كرارا ومرارا، والملفت للنظر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مضافا إلى أنّه لا ينزعج من هذه الأسئلة، فإنه يستقبلهم بصدر رحب، ويجيب على أسئلتهم من خلال الآيات القرآنية، وأساسا فإنّ السؤال هو أحد حقوق الناس في مقابل القادة، وهذا الحقّ مشروع حتّى للأعداء أيضا، فبإمكانهم طرح اسئلتهم بشكل معقول، فالسؤال مفتاح حل المشكلات، والسؤال بوّابة العلوم، والسؤال وسيلة انتقال المعارف المختلفة.

13. طرح الأسئلة المختلفة في كلّ مجتمع علامة على التحرك الفكري والحضاري والثقافي للنّاس، ووجود كلّ هذه الأسئلة في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو علامة على تحرّك أفكار الناس في ذلك المحيط ضمن تعليمات القرآن الكريم والدين الإسلامي، فمن هنا يتّضح أنّ الأشخاص الّذين يعارضون طرح الأسئلة المنطقيّة في المجتمع يخالفون بذلك روح تعاليم الإسلام، وعملهم هذا مخالف لروح تعاليم الإسلام.

14. الحياة الفرديّة والاجتماعية لا يمكن لها أن تقوم من دون نظم صحيح، نظم في التخطيط، ونظم في المديريّة والإجراء، فمن خلال نظرة سريعة إلى عالم الخلق من المنظومات الشمسيّة في السماء إلى بدن الإنسان وبناء هيكله وأعضائه المختلفة ندرك جيدا هذا الأصل الشامل والحاكم على جميع المخلوقات، وعلى هذا الأساس جعل الله سبحانه وتعالى هذا النظم تحت اختيار الإنسان وقرّر أن تكون الحركات المنظّمة للكرة الأرضيّة حول نفسها وحول الشمس‏ وكذلك دوران القمر حول الأرض بانتظام وسيلة لتنظيم حياة الإنسان الماديّة والمعنويّة وترتيبها وفق برنامج معيّن.

15. لنفترض أنّ هذا النظم في الكون لم يكن موجودا ولم يكن لدينا مقياس معيّن لقياس الزّمان، فماذا سيحصل من اضطراب في حياتنا اليوميّة!؟ ولهذا فإنّ الله تعالى ذكر هذا النظم الزماني في الأجرام السماويّة بعنوان أحد المواهب المهمّة الإلهيّة للإنسان، ففي سورة يونس في الآية الخامسة يقول:‏ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا﴾ ﴿عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، ومثل ذلك ما ورد في سورة الإسراء الآية حول النظام الحاكم على اللّيل والنهار.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/11.

82. الجهاد والاعتداء والفتنة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈82⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 190 ـ 193]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

وننبه إلى أن الآثار التي أوردها المفسّرون في تفسير الآية عن سعد وابن عمر وغيرهما تعارض ما ورد في القرآن الكريم من الأمر بقتال البغاة، وما أخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من وجوب نصرة الإمام علي في وجه من يريد أن ينحرف بالإسلام وحاكميته، كما وضحنا ذلك في محال مختلفة.

وننبه كذلك إلى أننا لا نرى نسخ الآيات الكريمة، بل هي محكمة كسائر القرآن الكريم، ولذلك نتبنى قول كل من يفسرها على هذا الأساس، مع بيان أن المراد بقتال المشركين ليس لأجل شركهم، وإنما هو لأجل معارضتهم للحاكمية الإلهية، أو للحكومة العادلة، واستعمالهم العنف في ذلك، وهو ما يتطابق مع ما ورد في القرآن الكريم من النهي عن الإكراه في الدين.

سعد:

روي عن ظبيان، قال جاء رجل إلى سعد، فقال له: ألا تخرج تقاتل مع الناس؛ حتى لا تكون فتنة، فقال سعد: قد قاتلت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى لم تكن فتنة، فأما أنت وذا البطين تريدون أن أقاتل حتى تكون فتنة(1)..

__________

(1) الدرّ المنثور: ابن أبي حاتم.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ لا تقتلوا النساء، والصبيان، والشيخ الكبير، ولا من ألقى السلم وكف يده، فإن فعلتم فقد اعتديتم(1)..

2. روي أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله: ﴿ثَقِفْتُمُوهُم﴾، قال وجدتموهم، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول حسان(2).:

çفإما تثقفن بني لؤي... جذيمة إن قتلهم دواءé

3. روي أنّه قال: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ ويخلص التوحيد لله(3)..

4. روي أنّه قال: ﴿فَلَا عُدْوَانَ﴾: فلا سبيل، ولا حجة(4)..

5. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية ـ: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ـ في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة، وكانوا ألفا وأربعمائة، فساروا حتى نزلوا الحديبية، فصدهم المشركون عن البيت الحرام، فنحروا الهدي بالحديبية، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه ذلك على أن يخلى له بكل عام قابل ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت، ويفعل ما يشاء، فصالحهم رسول الله، ثم رجع من فوره ذلك إلى المدينة، فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا ألا يفي لهم قريش، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام، ويقاتلوهم، وكره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم؛ فأنزل الله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾(5)..

6. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم﴾، وقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، وقوله: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: ٤١]، وقوله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] هذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل، فليس لهم سلطان يقهر المشركين، فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين من يتجازى منهم أن يتجازى بمثل ما أوتي إليه، أو يصبر، أو يعفو، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، وأعز الله سلطانه؛ أمر الله المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، ولا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية، فقال: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: ٣٣]، يقول: ينصره السلطان حتى ينصفه من ظالمه، ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف، قد عمل بحمية الجاهلية، ولم يرض بحكم الله تعالى(6)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٢٩١.

(2) الطَّستيُّ ـ كما في الإتقان: ٢/٨٨.

(3) ابن أبي حاتم: ١/٣٢٨.

(4) تفسير الثعلبي: ٢/٨٩.

(5) الواحدي في أسباب النزول: ص٥٥.

(6) ابن جرير: ٣/٣١٠.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس صنعوا، وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فما يمنعك أن تخرج؟ قال يمنعني أن الله حرم دم أخي، قالا: ألم يقل الله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾؟ قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله(1)..

2. روي عن نافع، أن رجلا أتى ابن عمر، فقال: ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما، وتترك الجهاد في سبيل الله، وقد علمت ما رغب الله فيه؟ قال: يا ابن أخي، بني الإسلام على خمس؛ إيمان بالله ورسوله، والصلاة الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت، قال ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: ٩]، و: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، قال فعلنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان الإسلام قليلا، فكان الرجل يفتن في دينه؛ إما قتلوه، وإما يعذبوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة(2)..

3. روي عن سعيد بن جبير، قال: خرج علينا ابن عمر، فبدرنا رجل منا يقال له: حكم، فقال: يا أبا عبد الرحمن، كيف تقول في القتال؟ قال ثكلتك أمك، وهل تدري ما الفتنة؟ إن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقاتل المشركين، وكان الدخول فيه فتنة، وليس بقتالكم على الملك(3)..

4. روي أنّه قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فنهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن قتل النساء، والصبيان(4)..

__________

(1) البخاري: ٦/٢٦.

(2) البخاري: ٤٥١٤.

(3) ابن أبي حاتم: ١/٣٢٧.

(4) البخاري: ٤/٦١.

أنس:

روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا بعث جيشا قال انطلقوا بسم الله، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين(1)..

__________

(1) أبو داوود: 2614.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ هذه أول آية نزلت في القتال في المدينة، فلما نزلت كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقاتل من قاتله، ويكف عمن كف عنه(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، يعني: على من أبى أن يقول: لا إله إلا الله(2)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٢٥.

(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٢٨.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾: الفتنة التي أنتم مقيمون عليها أكبر من القتل(1)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٢٦.

عمر:

روي عن يحيى بن يحيى الغساني قال: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ) أسأله عن هذه الآية: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾، فكتب إلي: أن ذلك في النساء، والذرية، ومن لم ينصب لك الحرب منهم(1)..

__________

(1) ابن أبي شيبة: ١٢/٣٨٥.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾: فإن تابوا(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ لا تقاتلوا إلا من قاتلكم(2)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٢٩٩.

(2) تفسير مجاهد: ص٢٢٣.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾: هم من أبى أن يقول: لا إله إلا الله(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٠١.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال (قرأت في كتاب للإمام علي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب أن كل غازية غزت بما يعقب بعضها بعضا بالمعروف والقسط بين المسلمين فإنّه لا تجاز حرمة إلا بإذن أهلها، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وحرمة الجار على الجار كحرمة أمه وأبيه، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على عدل وسواء(1)..

__________

(1) الكافي: 5/31.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾، نسخ بعد ذلك، فقال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾: فأمر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم ألا يقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدؤوا فيه بقتال، ثم نسخها: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧]، نسخ هاتين الآيتين جميعا في براءة قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم﴾ [التوبة: ٥]، و: ﴿قاتلوا المشركين كافة﴾ [التوبة: ٣٦

3. روي أنّه قال: فلما نزلت: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم﴾ أنزل الله تعالى بعد: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، يعني: أرض الحرم كله، فنسخت هذه الآية، ثم رخص لهم: ﴿حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾(2)..

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾، فكان هذا كذا حتى نسخ، فأنزل الله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي: شرك، ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ قال حتى يقال: لا إله إلا الله، عليها قاتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإليها دعا، وذكر لنا: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول: (إن الله أمرني أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ قال وإن الظالم الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله، يقاتل حتى يقول: لا إله إلا الله(3)..

__________

(1) ابن أبي شيبة: ١٤/٣٥٢ ـ: ٣٥٣.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٦٨.

(3) النحاس في ناسخه: ص١١٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ معناه حيث لقيتموهم(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ فالفتنة ها هنا: الكفر، ويقال للكافر هذا رجل مفتون في دينه(1)..

3. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾: فالاعتداء الأول: هو ظلم، والثاني: هو جزاء وليس بظلم.. وقد اتفق اللفظان.. ومثل قوله عزوجل: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، فالسّيئة الأولى: ظلم، والثانية: جزاء، وليست بظلم ولا عدوان(2)..

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 95.

(2) تفسير الإمام زيد، ص 96.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾؛ فإن الله لا يحب العدوان على الظالمين، ولا على غيرهم، ولكن يقول: اعتدوا عليهم بمثل ما اعتدوا عليكم(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٠٣.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ الشرك أشد من القتل(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ فكانوا لا يقاتلونهم فيه، ثم نسخ ذلك بعد، فقال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾، يقول: حتى لا يعبد إلا الله، وذلك لا إله إلا الله؛ عليه قاتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإليه دعا، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)(3)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٢٩٤.

(2) ابن جرير: ٣/٢٩٦.

(3) ابن جرير: ٣/٣٠١.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيا ولا امرأة ولا تقطعوا شجرا إلا أن تضطروا إليها، وأيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا بالله(1)..

2. روي أنّه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا بعث أميرا له على سرية أمره بتقوى الله عزّ وجلّ في خاصة نفسه ثم في أصحابه عامة ثم يقول: اغز بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ولا متبتلا في شاهق، ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعا لأنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم مما يؤكل لحمه إلا ما لا بد لكم من أكله.. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن ينزلوا على حكم الله عزّ وجلّ فلا تنزل بهم ولكن أنزلهم على حكمكم ثم اقض فيهم بعد ما شئتم، فإنكم إن أنزلتموهم على حكم الله لم تدروا تصيبوا حكم الله فيهم أم لا، وإذا حاصرتم أهل حصن فإن آذنوك على أن تنزلهم على ذمة الله وذمة رسوله فلا تنزلهم ولكن أنزلهم على ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم كان أيسر عليكم يوم القيامة من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم(2)..

3. روي أنّه قال: ما بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عدوا قط ليلا(3)..

4. روي أنّه سئل عن المشركين، أيبتدئهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟ فقال: إذا كان المشركون يبتدئونهم باستحلاله، ثم رأى المسلمون أنهم يظهرون عليهم فيه، وذلك قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ والروم في هذه بمنزلة المشركين، لأنهم لم يعرفوا للشهر الحرام حرمة ولا حقا، فهم يبتدئون بالقتال فيه، وكان المشركون يرون له حقا وحرمة فاستحلوه، فاستحل منهم، وأهل البغي يبتدئون بالقتال(4)..

__________

(1) الكافي: 5/27/1.

(2) الكافي: 5/29/8.

(3) الكافي: 5/28/3.

(4) التهذيب: 6/142.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ يعني: الحرم، ﴿حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ إن قاتلوكم فاقتلوهم، كذلك جزاء الكافرين(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ عن قتالكم وأسلموا، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفر ما كان في شركهم إذا أسلموا(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم﴾، أي: حيث أدركتم في الحل والحرم، لما نزلت هذه الآية نسخها قوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، ثم نسختها آية السيف في براءة، فهي ناسخة ومنسوخة(3)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٢٦.

(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٢٧.

(3) تفسير الثعلبي: ٢/٨٨.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم﴾ يعني: أين أدركتموهم؛ في الحل، والحرم، ﴿وَأَخْرِجُوهُم﴾ من مكة: ﴿مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُم﴾ يعني: من مكة(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾، يعني: الشرك أعظم عند الله تعالى جرما من القتل، نظيرها: ﴿أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ [التوبة: ٤٩]، يعني: في الكفر وقعوا(2)..

3. روي أنّه قال: فلما نزلت: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم﴾ أنزل الله تعالى بعد: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، يعني: أرض الحرم كله، فنسخت هذه الآية، ثم رخص لهم: ﴿حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾(2)..

4. روي أنّه قال:: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ عن الشرك، ووحدوا ربهم؛: ﴿فَلَا عُدْوَانَ﴾ يعني: فلا سبيل: ﴿إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ الذين لا يوحدون ربهم، نظيرها في القصص [٢٨]: ﴿فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾، يعني: فلا سبيل علي(2)..

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٦٧.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٦٨.

الأوزاعي:

روي عن الأوزاعي (ت 157 هـ) أنّه قال: بلغني: أن هذه الآية منسوخة، قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد: ٤]، نسختها: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم﴾(1)..

__________

(1) الترمذي: ٣/٣٩٧.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾: فتنة الكفر(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم﴾ إلى آخر الآية، قد نسخ هذا، وقرأ قول الله: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦]، وهذه الناسخة، وقرأ: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ حتى بلغ: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم﴾ إلى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١ ـ ٥](2)..

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾، حتى يبدؤوكم، كان هذا قد حرم، فأحل الله ـ جل ثناؤه ـ ذلك له، فلم يزل ثابتا حتى أمره الله بقتالهم بعد(3)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٢٩٥.

(2) ابن جرير: ٣/٢٩٠.

(3) ابن جرير: ٣/٢٩٨.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ سَبِيلِ اللهِ: دينه وطاعته، أي في إظهار دينه:

أ. قيل: هي أول آية نزلت في الأمر بالقتال.

ب. وقيل: أول آية نزلت في الأمر بالقتال قوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [الحج: 39]

ج. ويحتمل: أنه أخبر كأنهم نهوا أولا ثم أذن لهم فقاتلوا فأنكر عليهم، فأنزل الله أنه أذن لهم إخبارا، فلا يدرى أيتهما أول.

2. لكن فيه الأمر بالقتال، والنهى عن الاعتداء هاهنا:

أ. قيل: هو نهى عن قتل الذراري والنساء والشيخ الفاني، على ما جاء أنه بعث سرية أوصى لهم ألا يقتلوا وليدا ولا شيخا.

ب. وقيل: نهاهم أن يقاتلوهم في الشهر الحرام إلا أن يبدأهم المشركون بالقتال، والله أعلم.

3. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ أي أنه لا يحب الاعتداء، لم يحب من اعتدى.

4. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ قيل: لفظ ﴿حَيْثُ﴾ يعبر عن المكان؛ ففيه إذن بقتلهم في جميع الأمكنة، وفى تعميم الأمكنة تعميم الأوقات، فهو على عموم المكان إلا فيما استثنى من المسجد الحرام مطلقا، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 217]، فالاستثناء فيه مقيد، فلا يخرج عن ذلك العام، ثم منهم من جعل لهم القتال في الحرم وفى أشهر الحج بظاهر هذه الآية، ومنهم من قال لا يقتل فيهما جميعا، وقال أصحابنا(2).: يقتل في الشهر الحرام، ولا يقتل في الحرم إلا أن يبدأهم بالقتال، فحينئذ يقتلهم، وكذلك يقولون فيمن قتل آخر ثم التجأ إلى الحرم: لم يقتل فيه، ولكن لا يؤاكل ولا يشارب ولا يجالس حتى يضطر فيخرج، فيقتل، وإذا قتل في الحرم يقتل، فعلى ذلك لا يقاتل في الحرم إلا أن يبدأهم بالقتال، فعند ذلك يحل القتل.

5. إنما لم يحل القتال في الحرم إلا أن يبدؤوهم به، وإن كان ظاهر قوله: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ يبيح القتل في الأمكنة كلها، بقوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ استثنى الحرم دون غيره من الأماكن، وأما قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: 217] ظاهر هذه الآية يحرم القتال في أشهر الحج، لكن فيه دليل حل القتال بقوله: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: 217]، يعنى بالفتنة الشرك، جعل القتل فيه كبيرا، ثم أخبر أن الشرك فيه أكبر وأعظم من القتل، فالأصل عندنا: أن الابتلاء إذا كان من وجهين يختار الأيسر منهما والأخف؛ فلذلك قلنا: إنه يختار القتل في الحرم على بقاء الفتنة ـ وهو الشرك ـ إذ هو أكبر وأعظم.

6. قوله تعالى: ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: وأَخْرِجُوهُمْ من مكة كما أَخْرَجُوكُمْ عام الحديبية.

ب. ويحتمل: أن أمرهم بأن يضيقوا عليهم ويضطروهم إلى الخروج كما فعل أهل مكة بهم.

ج. ويحتمل: الإخراج على ما جاء: (ألا لا يحجن مشرك بعد عامي هذا)

د. ويحتمل: أن يمنعوهم عن الدخول فيه؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: 28]، وكقوله: ﴿يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: 257]، المنع عن الشرك إخراجا.

7. ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾، أي الشرك أعظم جرما عند الله من القتل فيه.

8. ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ كما ذكرنا أن هذا وقوله: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾، كله يخرج على المجازاة لهم، وفيه لغة أخرى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ فإذا قتلونا لا سبيل لنا أن نقتلهم، فما معنى هذا؟ قيل: يحتمل قوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ﴾ أي إذا قتلوا واحدا منكم فحينئذ تقتلونهم، أو لا تقتلوهم حتى يبدؤوا هم بالقتل، أو أن يقول: لا تقتلوهم حتى يقتلوا بعضكم، فإذا فعلوا ذلك فحينئذ تقتلونهم.

9. قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أي هكذا جزاء من لم يقبل نعم الله، ولم يستقبلها بالشكر.

ب. ويحتمل: كذلك جزاء من بدأ بالقتال في الحرم أن يقتل.

10. قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ عن الشرك، وأسلموا يتغمدهم الله برحمته.

ب. ويحتمل: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ عن بدء القتال، وأسلموا، فإن الله يرحمهم ويغفر ذنوبهم.

11. قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ يحتمل وجوها:

أ. أنه أمرنا بالقتال مع الكفرة ليسلموا.

ب. ويحتمل: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ على وجه الأرض، أي تطهر من الشرك.

ج. وقال قوم: ﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ هاهنا العذاب، أي قاتلوا حتى لا يقدروا عليه كفار.

12. ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ أي ليكون‏ ﴿الدِّينَ﴾ دين الله في الأرض لا الشرك، و﴿الدِّينَ﴾ الحكم.

13. سؤال وإشكال: أيش الحكمة في قتل الكفرة، وهو في الظاهر غير مستحسن في العقل؟ والجواب: إنا نقاتلهم ليسلموا، ولا نقتلهم إلا أن يأبوا الإسلام، فإذا أبوا ذلك ثم لم نقتلهم لا يسلمون أبدا؛ لذلك قتلناهم، إذ في القتل ذهاب الفتنة.

14. سؤال وإشكال: إذا صار الدين كله لله، فلا ظالم هنالك، فما معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾؟ والجواب:

أ. قيل: يحتمل: أن لا عدوان إلا على الظالم الذي أحدث الظلم من بعد.

ب. ويحتمل: أن لا عدوان إلا على من بقى منهم مع الظلم.

15. سؤال وإشكال: فلم سمى عدوانا، والعدوان هو ما لا يحل؟ والجواب: لأنه جزاء العدوان، وإن لم يكن هو في الحقيقة عدوانا، فسمى باسمه كما سمى جزاء السيئة سيئة وإن لم يكن هو سيئة في الحقيقة؛ كقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، وكما سمى جزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن هو في الحقيقة اعتداء؛ فكذلك الأول.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/64.

(2) يقصد الحنفية.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. معنى قوله: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أي الضلال والشرك أشد عند الله من قتلهم وهلاكهم.

2. معنى قوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾: أي قاتلوهم حتى لا تكون بدعة ولا ضلالة ولا شرك ويكون الدين خالصاً.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 282.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ هذه الآية من آيات السيف مما رفعت أحكام المهادنة والمسالمة والإعراض عن المشركين، ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ والاعتداء هو قتل النسوان والصبيان ومن لا يقدر على القتال كالشيخ الفاني وأصحاب الصوامع من الرهبان.

2. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي حيث ظفرتم بهم، ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ يعني من مكة، ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ عنى بالفتنة الكفر لأنه يؤدي إلى الهلاك كما يؤدي إلى الفتنة.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/98.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها أول آية نزلت بالمدينة في قتال المشركين، أمر المسلمون فيها بقتال من قاتلهم من المشركين، والكف عمن كف عنهم، ثم نسخت بسورة براءة، وهذا قول الربيع، وابن زيد.

ب. الثاني: أنها ثابتة في الحكم، أمر فيها بقتال المشركين كافة، والاعتداء الذي نهوا عنه: قتل النساء والولدان، وهذا قول ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد.

2. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أن الاعتداء قتال من لم يقاتل.

ب. الثاني: أنه قتل النساء والولدان.

ج. الثالث: أنه القتال على غير الدّين.

3. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ يعني حيث ظفرتم بهم، ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ يعني من مكة، ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ يعني بالفتنة الكفر في قول الجميع، وإنما سمي الكفر فتنة، لأنه يؤدي إلى الهلاك كالفتنة.

4. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن ذلك منسوخ لأن الله تعالى قد نهى عن قتال أهل الحرم إلا أن يبدؤوا بالقتال، ثم نسخ ذلك بقوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، وهذا قول قتادة.

ب. الثاني: أنها محكمة وأنه لا يجوز أن نبدأ بقتال أهل الحرم إلا أن يبدؤوا بالقتال، وهذا قول مجاهد.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/252.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. القتال هو المقاتلة، وهو محاولة الفاعل لقتل من يحاول قتله، والتقاتل محاولة كلّ واحد من المتعاديين قتل الآخر، والخطاب بقوله‏ ﴿وَقَاتَلُوا﴾ متوجه الى المؤمنين، ولو قال (تقاتلوا) لكان أمراً للفريقين.

2. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. ذهب الحسن، وابن زيد، والربيع، والجبائي: الى أن هذه الآية منسوخة، لأنه قد وجب علينا قتال المشركين وإن لم يقاتلونا بقوله:‏ ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ وقوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾

ب. روي عن ابن عباس، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز: أنها غير منسوخة، وقال بعضهم: أمروا بقتال المقاتلين دون النساء، وقيل: إنهم أمروا بقتال أهل مكة، والأولى حمل الآية على عمومها إلا من أخرجه الدليل.

3. في قوله تعالى: ﴿تَعْتَدُوا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: لا تعتدوا بالقتال بقتال من لم تؤمروا بقتاله.

ب. الثاني:لا تعتدوا الى النساء، والصبيان، ومن قد أعطيتموه الأمان.

ج. الثالث: لا تعتدوا بالقتال على غير الدين.

4. سؤال وإشكال: إذا كان الاعتداء في قتال من لم يقاتلهم فكيف يجوز أن يؤمروا به فيما بعد؟ والجواب: إنما كان اعتداء من أجل أنه مجاوزة لما حده الله لهم مما فيه الصلاح للعباد، ولم يكن فيما بعد على ذلك، فجاز الأمر به.

5. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني دين الله، وهو الطريق الذي بيّنه للعباد، ليسلكوه على ما أمرهم به ودعاهم إليه.

6. ﴿لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ معناه لا يريد ثوابهم، ولا مدحهم، كما يحب ثواب المؤمنين، وقد بينا فيما مضى أن المحبة هي الارادة، وإنما قلنا إنها من جنس الارادة، لأن الكراهة تنافيها، ولا يصح اجتماعهما، ولأنها تتعلق بما يصح حدوثه لا كالإرادة، فلا يصح أن يكون محباً للإيمان كارهاً له، كما بينا في أن يكون مريداً له وكارها، وتعلق المحبة بأن يؤمن، كتعلق الارادة بأن يؤمن، وإنما اعتيد في المحبة الحذف، ولم يعتد ذلك في الارادة، فيقال: الله يحب المؤمن، ولا يقال: الله يريد المؤمن.

7. ﴿لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ظاهره يقتضي أنه يسخط عليهم، لأنه على وجه الذم لهم إذ لا يجوز أن يطلق على من لا ذنب له من الأطفال، والمجانين، والاعتداء مجاوزة الحق، وأصله المجاوزة، يقال: عدا إذا جاوز حدّه في الاسراع.

8. روي عن أئمتنا عليهم السلام أن قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ناسخ لقوله: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ وكذلك قوله: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ ناسخ لقوله‏ ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾

9. قرأ حمزة، والكسائي، (ولا تقتلوهم) (حتى يقتلوكم) (فان قتلوكم) كله بغير ألف، الباقون بألف في جميع ذلك.

10. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ لا تبدؤوهم بقتل ولا قتال حتى يبدؤكم، إلا أن القتل نقض بنية الحياة، والقتال محاولة القتل ممن يحاول القتل.

11. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾ أمر للمؤمنين بقتل الكفار ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾

12. يجوز في ﴿حَيْثُ﴾ ثلاثة أوجه: ضم الثاء، وفتحها، وكسرها:

أ. فالضم لشبهها بالغاية، نحو قبل وبعد، لأنه منع الاضافة الى المفرد مع لزوم معنى الاضافة له، فجرى لذلك مجرى قبل وبعد في البناء على الضم، ولا يجب مثل ذلك في (إذ) لأنها مبنية على الوقف، كما أنّ (مذ) لا يجب فيها ما يجب في منذ.

ب. والفتح، لأجل الياء، كما فتحت (أين، وكيف)

ج. والكسر فعلى أصل الحركة، لالتقاء الساكنين.

13. ﴿ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ تقول: ثقفته أثقفه ثقفاً: إذا ظفرت به، ومنه قوله: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ﴾ وثقفت الشيء ثقافة: إذا حذقته، ومنه اشتقاق الثقافة بالسيف، وقد ثقف ثقافة فهو ثقف، والثقاف حديدة تكون مع القواس، والرّماح يقوم بها المعوج، وثقف الشيء ثقفاً: إذا لزم، وهو ثقف إذا كان سريع‏ التعلم، وثقفته تثقيفاً: إذا قومته، وأصل الباب: التثقيف التقوىم.

14. ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ قال الحسن، وقتادة، ومجاهد، والربيع، وابن زيد، وجميع المفسرين: إنها الكفر، وأصل الفتنة الاختبار، فكأنه قال والكفر الذي يكون عند الاختبار أعظم من القتل في الشهر الحرام ووجه قراءة من قرأ (ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه) أنه جاء في كلام العرب إذا قتل بعضهم، قالوا: قتلنا، فتقديره حتى يقتلوا بعضكم.

15. ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ أي أخرجوهم من مكة كما أخرجوكم منها، وروى أن هذه الآية نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام، فعابوا المؤمنين بذلك فبيّن الله تعالى أن الفتنة في الدين أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام وإن كان محظوراً لا يجوز.

16. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ يعني عن كفرهم بالتوبة منه، في قول مجاهد، وغيره من المفسرين، والانتهاء الامتناع يقال: نهى نهياً، وأنهى إنهاء، وتناهى تناهياً، والنهي الزجر عن الفعل بصيغة (لا تفعل) والأمر الدعاء الى الفعل بصيغة (افعل) مع اعتبار الرتبة، والنهي الغدير يكون له الحاجز يمنع الماء أن يفيض، فالنهي بمنزلة المنع، ونهاية الشيء غايته، ونهية الوتد: الفرض، وهو الحزّ في رأسه الذي يمنع الحبل أن ينسلخ، لأنه ينهاه عن ذلك، والنهى: جمع نهية، وهي العقل، والتنهية وجمعها تناهي، وهي مواضع تنهبط، ويتناهى إليها ماء السماء، والإنهاء إبلاغ الشيء نهايته.

17. في الآية دلالة على أنه يقبل توبة القاتل عمداً، لأنه بيّن أنه يقبل توبة المشرك، وهو أعظم من القتل، ولا يحسن أن يقبل التوبة من الأعظم، ولا يقبل من الأقل.

18. سؤال وإشكال: ما معنى جواب الشرط، والله غفور رحيم وإن لم ينتهوا، والجواب: معناه فان الله غفور لهم رحيم بهم، ويجوز فان الله يغفر لهم، لأنه غفور رحيم، واختصر الكلام لدلالة ما تقدم على أنه في ذكرهم وإن الذي اقتضى انتهاءهم إنما هو ذكر المغفرة لهم، فكان الدلالة عليها بغير إفصاح عنها أحسن لما في ذلك من الإيجاز، والاحالة على الاستدلال لتمكين الاشعار لمتضمن الكلام، والمغفرة: تغطيه الذنب بما يصير به بمنزلة غير الواقع في الحكم.

19. ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ هذه الآية ناسخة للأولى التي تضمنت النهي عن القتال عند المسجد الحرام حتى يبدؤوا بالقتال فيه، لأنه أوجب قتالهم على كل حال حتى يدخلوا في الإسلام في قول الجبائي، والحسن، وغيره، وعلى ما حكيناه عن ابن عباس، وعمر ابن عبد العزيز: أن الأولى ليست منسوخة، فلا تكون هذه ناسخة بل تكون مؤكدة.

20. الفتنة الشرك في قول ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والربيع، وابن زيد، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، وإنما سمى الكفر فتنة، لأن الكفر يؤدي الى الهلاك كما تؤدي الفتن الى الهلاك، ولأن الكفر إظهار الفساد عند الاختبار، والفتنة إنما هي الاختبار، والدين هاهنا قيل في معناه قولان:

أ. أحدهما: الإذعان لله بالطاعة كما قال الأعشى:

çهو دانَ الرباب إذ كرِهوا هو الدّ...ين دراكا بغزوة وصيال‏é

ب. الثاني:الإسلام دون الكفر.

21. أصل الدين العادة في قول الشاعر:

çتقول إذا درأت لها وضيني...أهذا دينه أبدا ودينيé

وقال آخر:

çكدينك من أم الحو يرث قبلها...وجارتها أم الرباب بما سلé

وقد استعمل بمعنى الطاعة في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ واستعمل بمعنى الإسلام، لأن الشريعة فيه يجب أن تجري على عادة قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾

22. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ معناه امتنعوا من الكفر وأذعنوا بالإسلام، ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ أي فلا قتل عليهم، ولا قتل إلا على الكافرين المقيمين على الكفر، وسمي القتل عدواناً مجازاً من حيث كان عقوبة على العدوان، والظلم، كما قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ وكما قال:‏ ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ وكما قال: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا﴾ وحسن ذلك لازدواج الكلام، ومزاوجته هاهنا على المعنى، لأن تقديره‏ ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ عن العدوان، ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾

23. سؤال وإشكال: أيجوز أن تقول لا ظلم إلّا على الظالمين كما جاز ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾؟ والجواب: على القياس لا يجوز، لأن ذلك مجاز، والمجاز لا يقاس عليه ـ عند المحصّلين ـ لئلا تلتبس الحقيقة بالمجاز، وإنما جاز في المزاوجة، لأن الكلام‏ معه أبلغ، وأبلغ، كما قال عمرو بن شاس الأسدي:

çجزينا ذوى العدوان بالأمس فرضهم‏...قصاصاً سواء حذوك النعل بالنعل‏é

24. أصل الظلم الانتقاص، من قوله تعالى‏ ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ وحقيقة ما قدمنا ذكره من أنه ضرر محض لا نفع فيه يوفّي عليه عاجلا ولا آجلا ولا هو واقع على وجه المدافعة.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/144.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الاعتداء: مجاوزة الحد، ومنه عَدَا طَوْرَهُ أي جاوز حده.

ب. السبيل: الطريق، وسبيل الله: دينه وطريقه الذي بينه لعباده ليسلكوه.

ج. المحبة: الإرادة، ويستعمل بمعنى الشهوة.

د. ثقف: يقال: ثَقِفْتُهُ: ظفرت به، وقيل: وجدته، ومنه: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ﴾

هـ. الفتنة: أصلها الاختبار، ثم تنصرف على معانٍ، منها الابتلاء، ومنها العذاب، ومنها الصرف عن الدين، ومنها التخليص، والمراد ههنا قيل: الكفر، وقيل: العذاب، عن الكسائي.

و. الانتهاء: الامتناع مما وقع النهي عنه، وأصله من النهي، نهى نهيًا وانتهى انتهاء، والنهي: الزجر عن الفعل بصيغة لا تفعل مع كراهيته لذلك الفعل.

ز. الغفران: تغطية الذنب حتى يصيره كأنه لم يقع.

ح. العدوان: أصله مجاوزة الحد، وهو هاهنا توسع ومجاز، وتقديره: فلا نحب جزاء العدوان، وسمي الجزاء على الشيء باسمه، كقوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ﴾

ط. الفتنة: الكفر ههنا سمي بذلك؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك، كما تؤدي إليه الفتنة، عن أبي علي، وقيل: لأنه أظهر الفساد عند الاختبار.

ي. الدين: العادة، والدين: الطاعة، والدين: ما يتدين به.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: إنها أول آية نزلت في القتال، ثم نزل بعدها: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ عن ابن زيد والربيع.

ب. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في صلح الحديبية، وأن صالح قريشًا على أن يرجع عامه، ويعاود عامًا قابلا، ويُخْلُوا له مكة، فيطوف بالبيت، ويفعل ما يشاء، ويرجع من فوره إلى المدينة، فلما كان عامًا قابلا خرج هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا ألا تفي لهم قريش ويقاتلوهم، فكره أصحابه القتال في الحرم، وفي الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله﴾ محرمين، وفي الحرم من يقاتلكم، يعني قريشًا.

ج. روي أن بعض الصحابة كان قتل رجلاً من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المسلمين بذلك، فأنزل الله تعالى الآية مبينًا أن الفتنة في الدين أعظم من قتل بعض المشركين في الشهر الحرام وإن كان محظورا، عن أبي علي.

3. ثم بَيَّنَ تعالى أمر الجهاد وما فيه من التعبد، فقال تعالى: ﴿وَقَاتَلُوا﴾ يعني الكفار ﴿فِي سَبِيلِ الله﴾ أي في دينه.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾:

أ. قيل: المقاتلين دون النساء والصبيان.

ب. وقيل: أهل مكة.

ج. وقيل: من يقاتلكم.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾:

أ. قيل: لا تجاوزوا إلى قتل من لم تؤمروا بقتاله.

ب. وقيل: لا تعتدوا إلى قتل النساء والصبيان.

ج. وقيل: لا تعتدوا بالقتال على غير الدين.

د. وقيل: لا تعتدوا إلى قتال من يجنح إلى السلم، عن أبي مسلم.

6. ﴿إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ أي لا يريد مدحهم وإثابتهم كما يريد ذلك للمؤمنين.

7. ثم بين تعالى كيفية القتال فقال: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾ خطاب للمؤمنين، و﴿هُمْ﴾ كناية عن الكفار ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي وجدتموهم ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ يعني من مكة.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾:

أ. قيل: شركهم، عن الحسن وقتادة وغيرهم.

ب. وقيل: عذابهم، عن الكسائي، يعني: كفرهم أعظم من القتال في الشهر الحرام.

9. ﴿وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ﴾ أي بعضهم، وبالألف: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ﴾ أي في الحرم حتى يبدؤوكم بالقتال ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ﴾ بدؤوكم به: ﴿فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ يعني القتل.

10. ثم لما أوجب قتال الكفار بين حالهم بعد التوبة، فقال تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ امتنعوا عن كفرهم بالتوبة: ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾:

أ. قيل: يعني غفور يستر سيئاتهم، رحيم بهم يثيبهم في الجنة.

ب. وقيل: فيه حذف، وتقديره: فإن انتهوا بالتوبة، فإن الله يغفر لهم؛ لأنه غفور رحيم.

11. ثم بَيَّنَ تعالى غاية وجوب القتال، فقال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ﴾ أمر المؤمنين بقتال المشركين.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾:

أ. قيل: يعني شرك.

ب. وقيل: لا تكون حرب فتركوا القتال، عن أبي مسلم.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾:

أ. قيل: الطاعة والانقياد لأمره.

ب. وقيل: يكون الدين دين الإسلام فيظهر على جميع الأديان.

14. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ امتنعوا عن الكفر والشرك، ﴿فَلَا عُدْوَانَ﴾ أي: لا سبيل ولا جزاء.

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾:

أ. قيل: على المشركين، عن قتادة والربيع وعكرمة.

ب. وقيل: لا ابتداء بالقتال، عن مجاهد والسدي.

16. اختلفوا في نسخ الآية الكريمة:

أ. قيل: الآية منسوخة بقوله: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ عن الحسن وابن زيد وأبي علي.

ب. وقيل: محكمة، عن ابن عباس ومجاهد، وحملوه على أحد وجهين: إما أنه أراد ألّا يُقَاتَلَ النساء والصبيان، أو أراد قتال أهل مكة.

17. سؤال وإشكال: قتالهم مصلحة أم إعلامهم بأنا نقاتلهم؟ والجواب: كلاهما.

18. تدل الآيات الكريمة على المنع من الابتداء بالقتال في الحرم، وأنهم إذا بدؤوا به جاز بعد ذلك، ثم اختلفوا:

أ. فقيل: الآية منسوخة بقوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ عن قتادة والربيع.

ب. وقيل: قوله: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾ منسوخ بقوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ﴾، ثم هو منسوخ بقوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾

ج. وقيل: غير منسوخ، ولا يجوز ابتداء القتال في الحرم، عن مجاهد وأكثر أهل التفسير.

19. على ما ترتب الكلام لا نسخ فيه؛ لأنه يدل على وجوب القتال مع الكفار حيث كانوا، وقد بَدَؤُوا بالقتال، وكان يجوز أن يظن أنه لحرمة الحرم لا يجوز أن يقاتلهم وإن بَدَؤُوا، فأزال الشبهة في ذلك، ثم بَيَّنَ غاية وجوب القتال، وهو ألا يكون كفر، فتدل على أن مشركي العرب لا تؤخذ منهم الجزية، واختلفوا في مشركي العجم فتؤخذ منهم الجزية عند أبي حنيفة، ولا تؤخذ عند الشافعي.

20. تدل الآيات الكريمة على:

أ. وجوب القتال والجهاد، وأنها عبادة ولا خلاف فيه.

ب. أن القتال يجب في الدين، فيدخل فيه الكفار والبغاة.

ج. أن مجاوزة الأمر لا يجوز في الطاعات.

د. أن المصالح تختلف، فقبل الهجرة كانت المصلحة في الدعاء، وبعدها في القتال، وتدل على أن القتال مصلحة في الدين لنا ولهم.

هـ. يدل قوله: ﴿لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ على بطلان الجبر؛ لأنه لو أراد منهم الاعتداء لما جاز ألا يحبهم.

و. أن قتالهم يجب بشرط إقامتهم على الكفر، وأنه محظور إذا انتهوا.

ز. أن التوبة مقبولة من كل ذنب؛ لأن الكفر أعظم الذنوب، فيبطل قول من يقول: القاتل لا توبة له.

ح. بطلان القول بأن التائب لا يحتاج إلى مغفرة، وإنما يحتاج إليها المصِرُّ؛ لأنه تعالى بَيَّنَ أنه مع الانتهاء يغفر لهم.

ط. حسن القتال؛ لأن قوله: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾ أمر بالقتال، وما قتله بالقتال، وقد يجب القتال، ويحرم القتل، فبين تعالى جواز كلا الأمرين.

ي. وجوب إخراج الكفار من مكة بقوله: ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، ووردت السنة بذلك في قوله: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)

ك. أن كل من تاب زال وجوب قتله، ومن ثبت على كفره يجب قتاله، وكان يجوز أن يُظَنَّ أن بعضهم إذا تاب زالت المقاتَلَة، فَبَيَّنَ لكل واحد حكمًا بنفسه.

ل. أن العقوبة لا يستحقها إلا الظالم لنفسه، فيبطل قول من يقول: إنه غير مستحق، وإنه لا يحسن عقاب كل أحد.

م. يدل ظاهر الآية على وجوب القتال ما دام الكفر يبقى فتدل على أنه لا يؤخذ من مشركي العرب جزية، ولا خلاف أن المجوس تقبل منهم الجزية، واحتج بهم على أن مشركي العجم يجوز أخذ الجزية منهم، والشافعي جعلهم من أهل الكتاب.

21. قرأ حمزة والكسائي: (ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم) كله بغير ألف، والباقون جميع ذلك بألف، فالقتل نقض البنية الحيوانية على وجه يعقبه إزهاق الروح، والقتال: محاولة القتل فيما يحاول المقاتلة به، وهو في المصحف بغير ألف، كتب كذلك للإيجاز كما كتب الرحمن بغير ألف، وكذلك صالح وما أشبهه من حروف المد واللين لقوتها على التعبير.

22. ﴿حَيْثُ﴾: مبني على الضم، وبني عليه بسبب الغاية كـ: ﴿قَبْلِ﴾ و﴿بَعْدِ﴾، ويجوز فيه الفتح لأجل الياء كـ: ﴿أَيْنَ﴾ و﴿كَيْفَ﴾، ويجوز الكسر لالتقاء الساكنين، كـ (أمسِ)

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/787.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. القتال والمقاتلة: محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، والتقاتل: محاولة كل واحد من المتعاديين قتل الآخر.

ب. الاعتداء: مجاوزة الحد، يقال: عدا طوره: إذا جاوز حده.

ج. ثقفته أثقفه ثقفا وثقافة أي: وجدته، ومنه قولهم رجل ثقف لقف أي: يجد ما يطلبه، وثقف الرجل ثقافة فهو ثقف، وثقف ثقفا بالتحريك فهو ثقف: إذا كان سريع التعلم، والثقاف: حديدة يقوم بها الرماح المعوجة، والتثقيف: التقوىم.

د. الفتنة: أصلها الاختبار ثم ينصرف إلى معان:

منها الابتلاء نحو قوله: ﴿فتناك فتونا﴾ أي: ابتليناك ابتلاء على أثر ابتلاء.

ومنها: العذاب، كقوله: ﴿جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾

ومنها: الصد عن الدين، نحو قوله ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾

والمراد بها في الآية الشرك بالله وبرسوله

هـ. الانتهاء: الامتناع، والنهي: الزجر عن الفعل بصيغة لا تفعل مع كراهة الناهي لذلك الفعل، والأمر: الدعاء إلى الفعل بصيغة إفعل مع إرادة الآمر لذلك،والنهي: الغدير لمنعه الماء أن يفيض، والنهي: بمنزلة المنع، ونهاية الشئ: غايته، والنهى: جمع نهية، وهي العقل، والتناهي: هي المواضع التي تنهبط فيتناهى إليها ماء السماء واحدها تنهية، والإنهاء: إبلاغ الشئ الشئ نهايته.

و. المغفرة: تغطية الذنب بما يصير به بمنزلة غير الواقع في الحكم.

ز. الدين: ههنا الإذعان بالطاعة، كما في قول الأعشى:

çهودان الرباب إذ كرهوا...الدين دراكا بغزوة، وصيالé

وقيل: هو الاسلام، وأصل الدين: العادة، قال الشاعر:

çتقول إذا درأت لها وضيني:...أهذا دينه أبدا ودينيé

وقد استعمل بمعنى الطاعة في قوله: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾، وبمعنى الاسلام في قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ لأن الشريعة يجب أن يجرى فيها على عادة مستمرة.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة، وكانوا ألفا وأربعمائة، فصاروا حتى نزلوا الحديبية، فصدهم المشركون عن البيت الحرام، فنحروا الهدي بالحديبية، ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه، ويعود العام القابل، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت، ويفعل ما يشاء، فرجع إلى المدينة من فوره،فلما كان العام المقبل، تجهز النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم عن البيت الحرام، ويقاتلوهم، وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله هذه الآية.

ب. وعن الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه أول آية نزلت في القتال، فلما نزلت كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقاتل من قاتله، ويكف عمن كف عنه، حتى نزلت ﴿اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ فنسخت هذه الآية.

ج. نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام، فعابوا المؤمنين بذلك، فبين الله سبحانه أن الفتنة في الدين، وهو الشرك، أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام، وإن كان غير جائز.

3. ثم بين سبحانه أمر الجهاد، فقال مخاطبا للمؤمنين: ﴿وَقَاتَلُوا﴾ أي: الكفار ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: دين الله، وهو الطريق الذي بينه للعباد ليسلكوه على ما أمرهم به ودعاهم إليه.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾:

أ. قيل: أمروا بقتال المقاتلين دون النساء.

ب. وقيل: إنهم أمروا بقتال أهل مكة.

والأولى حمل الآية على العموم، إلا من أخرجه الدليل.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾:

أ. قيل: أي: ولا تجاوزوا من قتال من هو من أهل القتال، إلى قتال من لم تؤمروا بقتاله.

ب. وقيل: معناه لا تعتدوا بقتال من لم يبدأكم بقتال.

6. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ظاهره يقتضي أن يسخط عليهم، لأنه على جهة الذم لهم، وقد ذكرنا معنى المحبة لهم فيما مضى.

7. اختلف في الآية هل هي منسوخة أم لا:

أ. قال بعضهم: منسوخة على ما ذكرناه.

ب. وروي عن ابن عباس ومجاهد أنها غير منسوخة، بل هي خاصة في النساء والذراري.

ج. وقيل: أمر بقتال أهل مكة.

د. وروي عن أئمتنا عليهم السلام أن هذه الآية ناسخة لقوله: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ وكذلك قوله: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ ناسخ لقوله: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾

8. ثم خاطب الله تعالى المؤمنين، مبينا لهم كيفية القتال مع الكافرين، فقال: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾ أي: الكفار ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي: وجدتموهم، ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ يعني: أخرجوهم من مكة، كما أخرجوكم منها، ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أي: شركهم بالله وبرسوله، أعظم من القتل في الشهر الحرام.

9. سمي الكفر فتنة:

أ. قيل: لأن الكفر يؤدي إلى الهلاك، كما أن الفتنة تؤدي إلى الهلاك.

ب. وقيل: لأن الكفر فساد يظهر عند الاختبار.

10. ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ نهى عن ابتدائهم بقتال أو قتل في الحرم، حتى يبتدئ المشركون بذلك،﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ﴾ أي: بدأوكم بذلك ﴿فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ أن يقتلوا حيث ما وجدوا.

11. في الآية دلالة على وجوب اخراج الكفار من مكة، كقوله ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، والسنة قد وردت أيضا بذلك وهو قوله: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)

12. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ أي: امتنعوا من كفرهم بالتوبة منه، عن مجاهد وغيره، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فاختصر الكلام لدلالة ما تقدم من الشرط عليه، وفيه الدلالة على أنه يقبل توبة القاتل عمدا، لأنه بين، عز اسمه، أنه يقبل توبة المشرك، والشرك أعظم من القتل.

13. ثم بين تعالى غاية وجوب القتال، وقال يخاطب المؤمنين: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي: شرك، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد، وهو المروي عن الصادق عليه السلام، ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾:

أ. قيل: وحتى تكون الطاعة لله، والانقياد لأمر الله.

ب. وقيل: حتى يكون الاسلام لله أي: حتى لا يبقى الكفر، ويظهر الإسلام على الأديان كلها.

14. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ أي: امتنعوا من الكفر، وأذعنوا للاسلام، ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾:

أ. قيل: أي: فلا عقوبة عليهم، وإنما العقوبة بالقتل على الكافرين المقيمين على الكفر، فسمي القتل عدوانا من حيث كان عقوبة على العدوان، وهو الظلم، كما قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾، و﴿جزاء سيئة سيئة مثلها﴾، و﴿إن عاقبتم فعاقبوا﴾، وحسن ذلك لازدواج الكلام، والمزاوجة هنا إنما حصلت في المعنى، لأن التقدير: فإن انتهوا عن العدوان، فلا عدوان إلا على الظالمين، وهذا الوجه مروي عن قتادة والربيع وعكرمة.

ب. وقيل: معنى العدوان الابتداء بالقتال، عن مجاهد والسدي.

15. وقيل: بل المراد بها أنهم إذا ابتدأوا بالقتال في الحرم، يجب مقاتلتهم حتى يزول الكفر.

16. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. قيل: هذه الآية ناسخة للأولى التي تضمنت النهي عن القتال في المسجد الحرام، حتى يبدأوا بالقتال فيه، لأن فيها إيجاب قتالهم على كل حال، حتى يدخلوا في الاسلام، عن الحسن والجبائي.

ب. على ما ذكرناه في الآية الأولى، عن ابن عباس، أنها غير منسوخة، فلا تكون هذه الآية ناسخة، بل تكون مؤكدة.

17. قرأ حمزة والكسائي: ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم، فإن قتلوكم كل بغير ألف، والباقون بألف في جميع ذلك،الحجة: من قرأها بغير ألف فإنما اتبع المصحف لأنه كتب في المصاحف بغير الألف، ومن قرأ بالألف، فقال: إنما تحذف الألف في الخط كما في الرحمن

18. حيث: فيه ثلاث لغات: ضم الثاء وفتحها وكسرها:

أ. فالضم لشبهها بالغاية نحو قبل وبعد، لأنه منع الإضافة إلى المفرد مع لزومه معنى الإضافة إياه، فيجري لذلك مجرى قبل وبعد في البناء على الضم.

ب. والفتح، لأجل البناء، كما فتحت أين وكيف.

ج. والكسر: لأجل أنه الأصل في التحريك لالتقاء الساكنين، والجملة بعد ﴿حَيْثُ﴾ في موضع جر بإضافة ﴿حَيْثُ﴾ إليها في الموضعين، (وتقاتلوا) منصوب بإضمار أن، وهو صلة أن، والموصول والصلة في محل جر بحتى، وحتى: يتعلق بتقاتلوهم.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/510.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ سبب نزولها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما صدّ عن البيت، ونحر هديه بالحديبية، وصالحه المشركون على أن يرجع من العام المقبل؛ رجع، فلمّا تجهّز في العام المقبل؛ خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدّوهم ويقاتلوهم، وكره أصحابه القتال في الشّهر الحرام؛ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

2. ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾، أي: ولا تظلموا، وفي المراد بهذا الاعتداء أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنه قتل النساء والولدان، قاله ابن عباس، ومجاهد.

ب. الثاني: أنّ معناه: لا تقاتلوا من لم يقاتلكم، قاله سعيد بن جبير، وأبو العالية، وابن زيد.

ج. الثالث: أنه إتيان ما نهوا عنه، قاله الحسن.

د. الرابع: أنه ابتداؤهم بالقتال في الحرم في الشّهر الحرام، قاله مقاتل.

3. اختلف العلماء: هل هذه الآية منسوخة أم لا؟ على قولين:

أ. أحدهما: أنها منسوخة، واختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين:

أوّلها، وهو قوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، قالوا: وهذا يقتضي أنّ القتال يباح في حقّ من قاتل من الكفّار، ولا يباح في حقّ من لم يقاتل، وهذا منسوخ بقوله: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾

الثاني: أنّ المنسوخ منها: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾، ولهؤلاء في هذا الاعتداء قولان:

● أحدهما: أنه قتل من لم يقاتل.

● الثاني: أنه ابتداء المشركين بالقتال، وهذا منسوخ بآية السّيف.

ب. الثاني: أنها محكمة، ومعناها عند أرباب هذا القول: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، وهم الذين أعدّوا أنفسهم للقتال، فأمّا من ليس بمعدّ نفسه للقتال، كالرّهبان والشّيوخ الفناة، والزّمنى، والمكافيف، والمجانين، فإنّ هؤلاء لا يقاتلون؛ وهذا حكم باق غير منسوخ‏.

4. اختلف العلماء في أوّل آية نزلت في إباحة القتال على قولين:

أ. أحدهما: أنّها قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾، قاله أبو بكر، وابن عباس، وسعيد بن جبير، والزّهريّ.

ب. الثاني: أنها هذه الآية: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قاله أبو العالية، وابن زيد.

5. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾، أي: وجدتموهم، يقال: ثقفته أثقفه: إذا وجدته، قال القاضي أبو يعلى: قوله تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾، عامّ في جميع المشركين، إلّا من كان بمكّة، فإنهم أمروا بإخراجهم منها، إلّا من قاتلهم فإنّهم أمروا بقتالهم، يدلّ على ذلك قوله في نسق الآية: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾، وكانوا قد آذوا المسلمين بمكّة حتى اضطرّوهم إلى الخروج، فكأنّهم أخرجوهم.

6. في معنى الفتنة هنا قولان:

أ. أحدهما: أنها الشّرك، قاله ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وقتادة في آخرين.. فيكون معنى الكلام: شرك القوم أعظم من قتلكم إيّاهم في الحرم.

ب. الثاني: أنها ارتداد المؤمن إلى عبادة الأوثان، قاله مجاهد،، وعلى.. فيكون معنى الكلام: ارتداد المؤمن إلى الأوثان أشدّ عليه من أن يقتل محقّا.

7. ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ﴾ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾، وقرأ حمزة والكسائيّ وخلف: (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم)، بحذف الألف فيهنّ، وقد اتّفق الكلّ على قوله: ﴿فَاقْتُلُوهُمْ﴾، فاحتجّ من قرأ بالألف بقوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، واحتجّ من حذف الألف بقوله: ﴿فَاقْتُلُوهُمْ﴾

8. اختلف العلماء في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾، هل هو منسوخ أم لا؟

أ. ذهب مجاهد في جماعة من الفقهاء إلى أنه محكم وأنه لا يقاتل فيه إلّا من قاتل، ويدلّ على ذلك الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنه خطب يوم فتح مكّة، فقال: (يا أيّها النّاس! إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض، ولم تحلّ لأحد قبلي، ولا تحلّ لأحد بعدي، وإنّما أحلّت لي ساعة من نهار، ثم عادت حراما إلى يوم القيامة)، فبيّن صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه خصّ في تلك الساعة بالإباحة على سبيل التّخصيص، لا على وجه النّسخ، فثبت بذلك حظر القتال في الحرم، إلّا أن يقاتلوا فيدفعون دفعا، وهذا أمر مستمر الحكم غير منسوخ، وهذا القول هو الأصحّ.

ب. ذهب قتادة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، فأمر بقتالهم في الحلّ والحرم وعلى كلّ حال.

ج. وذهب الرّبيع بن أنس، وابن زيد، إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾

د. وزعم مقاتل إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾

9. ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾، قال مقاتل: أي: فقاتلوهم، ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾، فيه ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنّ معناه: فإن انتهوا عن شركهم وقتالكم.

ب. الثاني: عن كفرهم.

ج. الثالث: عن قتالكم دون كفرهم.

10. على القولين الأوّلين تكون الآية محكمة، ويكون معنى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ غفور لشركهم وجرمهم، وعلى القول الأخير؛ يكون في معنى قوله: ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قولان:

أ. أحدهما: غفور لكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم.

ب. الثاني: أنّ معناه: يأمركم بالغفران والرّحمة لهم، فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية السّيف.

11. ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة في آخرين: الفتنة هاهنا: الشّرك، ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾، قال ابن عباس: أي يخلص له التّوحيد.

12. العدوان: الظّلم، وأريد به هاهنا الجزاء، فسمّي الجزاء عدوانا مقابلة للشيء بمثله، كقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾، والظّالمون هاهنا المشركون، قاله عكرمة وقتادة في آخرين.

13. روي عن جماعة من المفسّرين، منهم قتادة، أنّ قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، منسوخ بآية السّيف، وإنّما يستقيم هذا إذا قلنا: إنّ معنى الكلام: فإن انتهوا عن قتالكم مع إقامتهم على دينهم، فأمّا إذا قلنا: إنّ معناه: فإن انتهوا عن دينهم؛ فالآية محكمة.

__________

(1) زاد المسير: 1/154.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. أمر الله تعالى بالاستقامة في الآية المتقدمة بالتقوى في طريق معرفة الله تعالى فقال: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ [البقرة: 189]، وأمر بالتقوى في طريق طاعة الله، وهو عبارة عن ترك المحظورات وفعل الواجبات فالاستقامة علم، والتقوى عمل، وليس التكليف إلا في هذين، ثم لما أمر في هذه الآية بأشد أقسام التقوى وأشقها على النفس، وهو قتل أعداء الله فقال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾

2. في سبب نزول الآيات الكريمة قولان:

أ. الأول: قال الربيع وابن زيد: هذه الآية أول آية نزلت في القتال، فلما نزلت كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقاتل من قاتل، ويكف عن قتال من تركه، وبقي على هذه الحالة إلى أن نزل قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: 5]

ب. الثاني: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج بأصحابه لإرادة الحج ونزل الحديبية وهو موضع كثير الشجر والماء فصدهم المشركون عن دخول البيت فأقام شهرا لا يقدر على ذلك ثم صالحوه على أن يرجع ذلك العام ويعود إليهم في العام القابل، ويتركون له مكة ثلاثة أيام حتى يطوف وينحر الهدي ويفعل ما شاء، فرضي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك وصالحهم عليه، ثم عاد إلى المدينة وتجهز في السنة القابلة، ثم خاف أصحابه من قريش أن لا يفوا بالوعد ويصدوهم عن المسجد الحرام وأن يقاتلوهم، وكانوا كارهين لمقاتلتهم في الشهر الحرام وفي الحرم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، وبين لهم كيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها، فقال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾

3. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي في طاعته وطلب رضوانه، روى أبو موسى‏ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عمن يقاتل في سبيل الله، فقال: هو (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ولا يقاتل رياء ولا سمعة)

4. اختلفوا في المراد بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ على وجوه:

أ. أحدها: وهو قول ابن عباس، المراد منه: (قاتلوا الذين يقاتلونكم إما على وجه الدفع عن الحج، أو على وجه المقاتلة ابتداء)، وهذا الوجه موافق لما رويناه عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية، وهو أقرب إلى الظاهر لأن ظاهر قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ يقتضي كونهم فاعلين للقتال، فأما المستعد للقتال والمتأهل له قبل إقدامه عليه، فإنه لا يوصف بكونه مقاتلا إلا على سبيل المجاز.

ب. ثانيها: قاتلوا كل من له قدرة وأهلية على القتال.

ج. ثالثها: قاتلوا كل من له قدرة على القتال وأهلية كذلك سوى من جنح للسلم، قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: 61]

5. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. من الناس من قال هذه الآية منسوخة، وذلك لأن هذه الآية دلت على أن الله تعالى أوجب قتال المقاتلين، ونهى عن قتال غير المقاتلين، بدليل أنّه قال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ ثم بعده: ولا تعتدوا هذا القدر، ولا تقاتلوا من لا يقاتلكم فثبت أن هذه الآية مانعة من قتال غير المقاتلين، ثم قال تعالى بعد ذلك: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [البقرة: 191] فاقتضى هذا حصول الأول في قتال من لم يقاتل، فدل على أن هذه الآية منسوخة.

ب. لقائل أن يقول: نسلم أن هذه الآية دالة على الأمر بقتال من لم يقاتلنا، لكن هذا الحكم ما صار منسوخا:

أما قول من قال بنسخها: إنها دالة على المنع من قتال من لم يقاتلنا، فهذا غير مسلم.

وأما قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ فهذا يحتمل وجوها أخر سوى ما ذكرتم، منها أن يكون المعنى: ولا تبدؤوا في الحرم بقتال، ومنها أن يكون المراد: ولا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من الذين بينكم وبينهم عهد، أو بالحيلة أو بالمفاجأة من غير تقديم دعوة، أو بقتل النساء والصبيان والشيخ الفاني، وعلى جميع هذه التقديرات لا تكون الآية منسوخة.

6. سؤال وإشكال: هب أنه لا نسخ في الآية، ولكن ما السبب في أن الله تعالى أمر أولا بقتال من يقاتل، ثم في آخر الأمر أذن في قتالهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا، والجواب: لأن في أول الأمر كان المسلمون قليلين، فكان الصلاح استعمال الرفق واللين والمجاملة، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع، وأقام من أقام منهم على الشرك، بعد ظهور المعجزات وتكررها عليهم حالا بعد حال، حصل اليأس من إسلامهم، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق.

7. احتج المعتزلة، ومن وافقهم بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ فقالوا: لو كان الاعتداء بإرادة الله تعالى وبتخليقه لما صح هذا الكلام، وجوابه قد تقدم.

8. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الخطاب فيه واقع على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن هاجر معه وإن كان الغرض به لازما لكل مؤمن، والضمير في قوله: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾ عائد إلى الذين أمر بقتلهم في الآية الأولى وهم الكفار من أهل مكة، فأمر الله تعالى بقتلهم حيث كانوا في الحل والحرم، وفي الشهر الحرام، وتحقيق القول أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام.

9. الثقف وجوده على وجه الأخذ والغلبة ومنه رجل ثقيف سريع الأخذ لأقرانه، قال:

çفإما تثقفوني فاقتلوني‏...فمن أثقف فليس إلى خلودé

10. نقل عن مقاتل أنّه قال إن الآية المتقدمة على هذه الآية، وهي قوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190] منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ ثم تلك الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: 193] وهذا الكلام ضعيف:

أ. أما قوله: إن قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ منسوخ بهذه الآية، فقد تقدم إبطاله.

ب. وأما قوله: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فهذا من باب التخصيص لا من باب النسخ.

ج. وأما قوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ منسوخ بقوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: 193] فهو خطأ أيضا لأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم ما نسخ بل هو باق فثبت أن قوله ضعيف ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متوالية تكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى.

11. الإخراج في قوله تعالى: ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: أنهم كلفوهم الخروج قهرا.

ب. الثاني: أنهم بالغوا في تخويفهم وتشديد الأمر عليهم، حتى صاروا مضطرين إلى الخروج.

12. صيغة (حيث) تحتمل وجهين:

أ. أحدهما: أخرجوهم من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة.

ب. الثاني: أخرجوهم من منازلكم، إذا عرفت هذا فنقول: أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يخرجوا أولئك الكفار من مكة إن أقاموا على شركهم إن تمكنوا منه، لكنه كان في المعلوم أنهم يتمكنون منه فيما بعد، ولهذا السبب أجلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كل مشرك من الحرم، ثم أجلاهم أيضا من المدينة، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)

13. في قوله تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ وجوه:

أ. أحدها: وهو منقول عن ابن عباس: أن المراد من الفتنة الكفر بالله تعالى، وإنما سمي الكفر بالفتنة لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج، وفيه الفتنة، وإنما جعل الكفر أعظم من القتل، لأن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم، والقتل ليس كذلك، والكفر يخرج صاحبه به عن الأمة، والقتل ليس كذلك فكان الكفر أعظم من القتل، وروي في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة كان قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام، فالمؤمنون عبوه على ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكان المعنى ليس لكم أن تستعظموا الإقدام على القتل في الشهر الحرام، فإن إقدام الكفار على‏ الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك.

ب. ثانيها: أن الفتنة أصلها عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش، ثم صار اسما لكل ما كان سببا للامتحان تشبيها بهذا الأصل، والمعنى: أن إقدام الكفار على الكفر وعلى تخويف المؤمنين، وعلى تشديد الأمر عليهم بحيث صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والوطن هربا من إضلالهم في الدين، وتخليصا للنفس مما يخافون ويحذرون، فتنة شديدة بل هي أشد من القتل الذي يقتضي التخليص من غموم الدنيا وآفاتها، وقال بعض الحكماء: ما أشد من هذا القتل الذي أوجبه عليكم جزاء غير تلك الفتنة.

ج. الثالث: أن يكون المراد من الفتنة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم، فكأنه قيل: اقتلوهم من حيث ثقفتموهم، واعلم أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه كقوله: ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ [التوبة: 52] وإطلاق اسم الفتنة على العذاب جائز، وذلك من باب إطلاق اسم السبب على المسبب، قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ [الذاريات: 13] ثم قال عقيبه: ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ [الذاريات: 14] أي عذابكم، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [البروج: 10] أي عذبوهم، وقال: ﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: 10] أي عذابهم كعذابه.

د. الرابع: أن يكون المراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام، أشد من قتلكم إياهم في الحرم، لأنهم يسعون في المنع من العبودية والطاعة التي ما خلقت الجن والإنس إلا لها.

هـ. الخامس: أن ارتداد المؤمن أشد عليه من أن يقتل محقا والمعنى: وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم وأسهل عليكم من أن ترتدوا عن دينكم أو تتكاسلوا في طاعة ربكم.

14. ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ هذا بيان لبقاء هذا الشرط في قتالهم في هذه البقعة خاصة، وقد كان من قبل شرطا في كل القتال وفي الأشهر الحرم.

15. قرأ حمزة والكسائي: (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم) كله بغير ألف، والباقون جميع ذلك بالألف، وهو في المصحف بغير ألف، وإنما كتبت كذلك للإيجاز، كما كتب: الرحمن بغير ألف، وكذلك: صالح، وما أشبه ذلك من حروف المد واللين، قال القاضي: القراءتان المشهورتان إذا لم يتناف العمل وجب العمل بهما، كما يعمل بالآيتين إذا لم يتناف العمل بهما، وما يقتضيه هاتان القراءتان المشهورتان لا تنافي فيه، فيجب العمل بهما ما لم يقع النسخ فيه، يروى أن الأعمش قال لحمزة: أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولا فبعد ذلك كيف يصير قاتلا لغيره؟ فقال حمزة: إن العرب إذا قتل رجل منهم قالوا قتلنا، وإذا ضرب رجل منهم قالوا ضربنا.

16. الحنفية تمسكوا بهذه الآية في مسألة الملتجئ إلى الحرم، وقالوا: لما لم يجز القتل عند المسجد الحرام بسبب جناية الكفر فلأن لا يجوز القتل في المسجد الحرام بسبب الذنب الذي هو دون الكفر كان أولى، وتمام الكلام فيه في كتب الخلاف.

17. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أوجب الله تعالى عليهم القتال على ما تقدم‏ ذكره، وكان يجوز أن يقدر أن ذلك القتال لا يزول وإن انتهوا وتابوا كما ثبت في كثير من الحدود أن التوبة لا تزيله، فقال تعالى بعد ما أوجب القتل عليهم: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ بين بهذا أنهم متى انتهوا عن ذلك سقط وجوب القتل عنهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38]

18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾:

أ. قال ابن عباس: فإن انتهوا عن القتال.. لأن المقصود من الإذن في القتال منع الكفار عن المقاتلة فكان قوله: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ محمولا على ترك المقاتلة.

ب. وقال الحسن: فإن انتهوا عن الشرك.. لأن الكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال، بل بترك الكفر.

19. الانتهاء عن الكفر لا يحصل في الحقيقة إلا بأمرين، أحدهما: التوبة، والآخر التمسك بالإسلام، وإن كان قد يقال في الظاهر لمن أظهر الشهادتين: إنه انتهى عن الكفر إلا أن ذلك إنما يؤثر في حقن الدم فقط، أما الذي يؤثر في استحقاق الثواب والغفران والرحمة فليس إلا ما ذكرنا.

20. دلت الآية الكريمة على أن التوبة من كل ذنب مقبولة، وقول من قال التوبة عن القتل العمد غير مقبولة خطأ، لأن الشرك أشد من القتل، فإذا قبل الله توبة الكافر فقبول توبة القاتل أولى، وأيضا فالكافر قد يكون بحيث جمع مع كونه كافرا كونه قاتلا، فلما دلت الآية على قبول توبة كل كافر دل على أن توبته إذا كان قاتلا مقبولا.

21. ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ قال قوم: هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: 191] والصحيح أنه ليس كذلك لأن البداية بالمقاتلة عند المسجد الحرام نفت حرمته أقصى ما في الباب أن هذه الصفة عامة ولكن مذهب الشافعي، وهو الصحيح أن العام سواء كان مقدما على المخصص أو متأخرا عنه فإنه يصير مخصوصا به.

22. في المراد بالفتنة هاهنا وجوه:

أ. أحدهما: أنها الشرك والكفر، قالوا: كانت فتنتهم أنهم كانوا يضربون ويؤذون أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة حتى ذهبوا إلى الحبشة ثم واظبوا على ذلك الإيذاء حتى ذهبوا إلى المدينة وكان غرضهم من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفارا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى: قاتلوهم حتى تظهروا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم فلا تقعوا في الشرك.

ب. ثانيها: قال أبو مسلم: معنى الفتنة هاهنا الجرم قال لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدؤوا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون عنده من أنواع المضار.

23. سؤال وإشكال: كيف يقال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ مع علمنا بأن قتالهم لا يزيل الكفر، وليس يلزم من هذا أن خبر الله لا يكون حقا؟ والجواب: من وجهين:

أ. الأول: أن هذا محمول على الأغلب لأن الأغلب عند قتالهم زوال الكفر والشرك، لأن من قتل فقد زال كفره، ومن لا يقتل يخاف منه الثبات على الكفر فإذا كان هذا هو الأغلب جاز أن يقال ذلك.

ب. الثاني: أن المراد قاتلوهم قصدا منكم إلى زوال الكفر، لأن الواجب على المقاتل للكفار أن يكون مراده هذا، ولذلك متى ظن أن من يقاتله يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه.

24. قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ يدل على حمل الفتنة على الشرك، لأنه ليس بين الشرك وبين أن يكون الدين كله لله واسطة، والمراد منه أن يكون تعالى هو المعبود المطاع دون سائر ما يعبد ويطاع غيره، فصار التقدير كأنه تعالى قال: (وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويثبت الإسلام، وحتى يزول ما يؤدي إلى العقاب ويحصل ما يؤدي إلى الثواب)، ونظيره قوله تعالى: ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ [الفتح: 16] وفي ذلك بيان أنه تعالى إنما أمر بالقتال لهذا المقصود.

25. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ المراد: فإن انتهوا عن الأمر الذي لأجله وجب قتالهم، وهو إما كفرهم أو قتالهم، فعند ذلك لا يجوز قتالهم، وهو كقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38]

26. في قوله تعالى: ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ ففيه وجهان:

أ. الأول: فإن انتهوا فلا عدوان، أي فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون على الكفر فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم على ما قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾

ب. الثاني: إن تعرضتم لهم بعد انتهائهم عن الشرك والقتال كنتم أنتم ظالمين فنسلط عليكم من يعتدي عليكم.

27. سؤال وإشكال: لم سمي ذلك القتل عدوانا مع أنه في نفسه حق وصواب؟ والجواب: لأن ذلك القتل جزاء العدوان فصح إطلاق اسم العدوان عليه كقوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، وقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾، وقوله: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [لقمان: 13]

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 5/288.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَقَاتَلُوا﴾ هذه الآية أول آية نزلت في الامر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [فصلت: 34]، وقوله: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ [المائدة: 13]، وقوله: ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ [المزمل: 10]، وقوله: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 22]، وما كان مثله مما نزل بمكة، فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ قاله الربيع بن أنس وغيره، وروي عن أبي بكر أن أول آية نزلت في القتال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [الحج: 39]، والأول أكثر، وأن آية الاذن إنما نزلت في القتال عامة لمن فاتل ولمن لم يقاتل من المشركين، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فلما نزل الحديبية بقرب مكة ـ والحديبية اسم بئر، فسمى ذلك الموضع باسم تلك البئر ـ فصده المشركون عن البيت، وأقام بالحديبية شهرا، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المستقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين، ورجع إلى المدينة، فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية، أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار، فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت‏ من ظهورها.

2. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. قيل: كان عليه السلام يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه، حتى نزل ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: 5] فنسخت هذه الآية، قاله جماعة من العلماء.

ب. وقال ابن زيد والربيع: نسخها ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة: 36] فأمر بالقتال لجميع الكفار.

ج. وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: هي محكمة، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم، قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر:

أ. فأما السنة فحديث ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان، رواه الأئمة.

ب. وأما النظر فإن فاعل لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى والشيوخ والاجراء فلا يقتلون، وبهذا أوصى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، إلا أن يكون لهؤلاء أذائه، أخرجه مالك وغيره.

3. ذكر هنا(2). بعض المباحث المرتبطة بأحكام النساء والصبيان وغيرهم في القتال، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

4. روى أشهب عن مالك أن المراد بقوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ أهل الحديبية أمروا بقتال من قاتلهم، والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين، أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه، ألا تراه كيف بينها في سورة براءة بقوله: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ [التوبة: 123] وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة، ممتد إلى غاية هي قوله عليه السلام: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم)، وقيل: غايته نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وهو موافق للحديث الذي قبله، لان نزوله من أشراط الساعة.

5. ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة، فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة، ومن أسر الاعتقاد بالباطل‏ ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب، وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق، وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، يعني دينا وإظهارا للكلمة، وقيل: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ أي لا تقاتلوا من لم يقاتل، فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار.

6. ﴿ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ يقال: ثقف يثقف ثقفا وثقفا، ورجل ثقف لقف: إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور، وفي هذا دليل على قتل الأسير.

7. ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ أي مكة، قال الطبري: الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش.

8. ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجوعكم بها إلى الكفر أشد من القتل، قال مجاهد: أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة، وقال غيره: أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشد من القتل الذي عيروكم به، وهذا دليل على أن الآية نزلت في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله واقد بن عبد الله التميمي في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، حسب ما هو مذكور في سرية عبد الله بن جحش.. قاله الطبري وغيره.

9. ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ الآية، للعلماء في هذه الآية قولان:

أ. أحدهما: أنها منسوخة، واختلفوا في الناسخ:

قال قتادة: الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5]

وقال مقاتل: نسخها قوله تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ ثم نسخ هذا قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، فيجوز الابتداء بالقتال في الحرم، ومما احتجوا به أن براءة نزلت بعد سورة البقرة بسنتين، وأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دخل مكة وعليه المغفر، فقيل: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: (اقتلوه)

وقال ابن خويز منداد: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ منسوخة، لان الإجماع قد تقرر بأن العدو لو استولى على مكة وقال: لأقاتلكم، وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال، فمكة وغيرها من البلاد سواء، وإنما قيل فيها: هي حرام تعظيما لها، ألا ترى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث خالد بن الوليد يوم الفتح وقال: (احصدهم بالسيف حتى تلقاني على الصفا) حتى جاء العباس فقال: يا رسول الله، ذهبت قريش، فلا قريش بعد اليوم، ألا ترى أنّه قال في تعظيمها: (ولا يلتقط لقطتها إلا منشد) واللقطة بها وبغيرها سواء.

ويجوز أن تكون منسوخة بقوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: 193]، قال ابن العربي: (حضرت في بيت المقدس ـ طهره الله ـ بمدرسة أبي عقبة الحنفي، والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم جمعة، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار، فسلم سلام العلماء وتصدر في صدر المجلس بمدارع‏ أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم، فقال القاضي مبادرا: سلوه ـ على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم ـ ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا؟ فأفتى بأنه لا يقتل، فاسأل عن الدليل، فقال قوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ قرئ (ولا تقتلوهم)، و﴿لا تُقاتِلُوهُمْ﴾ فإن قرئ (ولا تقتلوهم) فالمسألة نص، وإن قرئ ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ﴾ فهو تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا ظاهرا على النهي عن القتل، فاعترض عليه القاضي منتصرا للشافعي ومالك، وإن لم ير مذهبهما، على العادة، فقال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5]، فقال له الصاغاني: هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه، فإن هذه الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن، والتي احتججت بها خاصة، ولا يجوز لاحد أن يقول: إن العام ينسخ الخاص، فبهت القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام، قال ابن العربي‏: (فإن لجأ إليه كافر فلا سبيل إليه، لنص الآية والسنة الثابتة بالنهي عن القتال فيه، وأما الزاني والقاتل فلا بد من إقامة الحد عليه، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيقتل بنص القرآن.

ب. الثاني:أنها محكمة، قال مجاهد: الآية محكمة، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل، وبه قال طاووس، وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وفي الصحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لاحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة)

10. ما احتجوا به من قتل ابن خطل وأصحابه لا حجة فيه، فإن ذلك كان في الوقت الذي أحلت له مكة وهي دار حرب وكفر، وكان له أن يريق دماء من شاء من أهلها في الساعة التي أحل فيها القتال، فثبت وصح أن القول الأول أصح.

11. قال بعض العلماء: في هذه الآية دليل على أن الباغي على الامام بخلاف الكافر، فالكافر يقتل إذا قاتل بكل حال، والباغي إذا قاتل يقاتل بنية الدفع، ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح.

12. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ أي عن قتالكم بالإيمان فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدم، ويرحم كلا منهم بالعفو عما اجترم، نظيره قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38]

13. قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ﴾ أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع، على من رآها ناسخة، ومن رآها غير ناسخة قال: المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم: ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ﴾ والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار، دليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله‏ إلا الله)، فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر، لأنه قال ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي كفر، فجعل الغاية عدم الكفر، وهذا ظاهر.. وقال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم: الفتنة هناك الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين، واصل الفتنة: الاختبار والامتحان، مأخوذ من فتنت الفضة إذا أدخلتها في النار لتميز رديئها من جيدها.

14. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ أي عن الكفر، إما بالإسلام كما تقدم في الآية قبل، أو بأداء الجزية في حق أهل الكتاب، على ما يأتي بيانه في براءة، وإلا قوتلوا وهم الظالمون عدوان إلا عليهم، وسمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان، إذ الظلم يتضمن العدوان، فسمي جزاء العدوان عدوانا، كقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، [الشورى: 40]، والظالمون هم على أحد التأويلين: من بدأ بقتال، وعلى التأويل الآخر: من بقي على كفر وفتنة.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏2/348.

(2) تفسير القرطبي: ‏2/351.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعا قبل الهجرة لقوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾، وقوله: ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾، وقوله: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾، وقوله: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ونحو ذلك مما نزل بمكة؛ فلما هاجر إلى المدينة أمره الله سبحانه بالقتال، ونزلت هذه الآية؛ وقيل إن أوّل ما نزل قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ فلما نزلت الآية كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقاتل من قاتله، ويكفّ عمن كفّ عنه حتى نزل قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾

2. ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾، وقال جماعة من السلف: إن المراد بقوله: ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ من عدا النساء والصبيان والرهبان ونحوهم، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة، والمراد بالاعتداء عند أهل القول الأوّل: هو مقاتلة من يقاتل من الطوائف الكفرية، والمراد به على القول الثاني: مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه ممن تقدّم ذكره.

3. ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ يقال: ثقف يثقف ثقفا، ورجل ثقيف: إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور، قال في الكشّاف: والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة، ومنه رجل ثقف: سريع الأخذ لأقرانه، ومنه قول حسان:

çفإمّا يثقفنّ بني لؤيّ‏...جذيمة إنّ قتلهم دواءé

4. ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ أي: مكة، قال ابن جرير: الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش، انتهى، وقد امتثل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر ربه، فأخرج من مكة من لم يسلم عند أن فتحها الله عليه.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾:

أ. قيل: أي: الفتنة التي أرادوا أن يفتنوكم، وهي رجوعكم‏ إلى الكفر أشد من القتل.

ب. وقيل: المراد بالفتنة: المحنة التي تنزل بالإنسان في نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه.

ج. وقيل: إن المراد بالفتنة: الشرك الذي عليه المشركون، لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم، فأخبرهم الله أن الشرك الذي هم عليه أشد مما يستعظمونه.

د. وقيل: المراد: فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم.

والظاهر أن المراد: الفتنة في الدين بأي سبب كان، وعلى أي صورة اتفقت، فإنها أشد من القتل.

6. ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ الآية، اختلف أهل العلم في ذلك:

أ. فذهبت طائفة إلى أنها محكمة، وأنه لا يجوز القتال في الحرم إلا بعد أن يتعدى بالقتال فيه، فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة له، وهذا هو الحق.

ب. وقالت طائفة: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، ويجاب عن هذا الاستدلال بأن الجمع ممكن ببناء العام على الخاص، فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم، ومما يؤيد ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّها لم تحلّ لأحد قبلي، وإنّما أحلّت لي ساعة من نهار) وهو في الصحيح.

7. احتج القائلون بالنسخ: بقتله صلّى الله عليه وآله وسلّم لابن خطل، وهو متعلّق بأستار الكعبة، ويجاب عنه بأنه وقع في تلك الساعة التي أحلّ الله لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

8. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ أي: عن قتالكم ودخلوا في الإسلام، ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية، هي: أن لا تكون فتنة وأن يكون الدين لله، وهو الدخول في الإسلام، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحلّ قتاله، قيل: المراد بالفتنة هنا: الشرك، والظاهر أنها الفتنة في الدين على عمومها كما سلف.

9. ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ أي: لا تعتدوا إلّا على من ظلم وهو من لم ينته عن الفتنة، ولم يدخل في الإسلام، وإنما سمي جزاء الظالمين: عدوانا مشاكلة كقوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ وقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/221.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ المقاتلة في سبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين، وفي قوله: ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله، أي: كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم، كما قال ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التوبة: 36]

2. ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ أي: بابتداء القتال، أو بقتال من نهيتم عن قتاله، من النساء، والشيوخ، والصبيان، وأصحاب الصوامع، والذين بينكم وبينهم عهد، أو بالمثلة، أو بالمفاجأة من غير دعوة، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ أي: المتجاوزين حكمه في هذا وغيره.

3. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾ أي: الذين يقاتلونكم‏ ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي: وجدتموهم، ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ أي: من مكة، فإنّ قريشا أخرجوا المسلمين منها، والمسلمون أخرجوا المشركين يوم الفتح.

4. ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أي: المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان، يتعذب به، أشدّ عليه من القتل، أي: إنّ فتنتهم إيّاكم‏ في الحرم عن دينكم ـ بالتعذيب، والإخراج من الوطن، والمصادرة في المال ـ أشدّ قبحا من القتل فيه، إذ لا بلاء على الإنسان أشدّ من إيذائه على اعتقاده الذي تمكّن من عقله ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره، فالجملة دفع لما قد يقع من استعظام قتلهم في مثل الحرم، وإعلام بأنّ القصاص منهم بالقتل دون جرمهم بفتنة المؤمنين، لأن الفتنة أشد من القتل.

5. ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ لأنّ حرمته لذاته، وحرمة سائر الحرم من أجله، وهذا بمثابة الاستثناء من قوله تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾، ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ﴾ أي: فيه فلا تفتقرون إلى الفرار عن الحرم‏ ﴿فَاقْتُلُوهُمْ﴾ فيه إذ لا حرمة لهم لهتكهم حرمة المسجد الحرام‏ ﴿كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ لا يترك لهم حرمة كما لم يتركوا حرمة الله في آياته.

6. دلّت الآية على الأمر بقتال المشركين في الحرم، إذا بدؤوا بالقتال فيه، دفعا لصولتهم كما بايع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لمّا تألب عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ، ثم كفّ الله القتال بينهم فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ [الفتح: 24]، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لخالد ومن معه يوم الفتح‏: إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا.. فما عرض لهم أحد إلّا أناموه، وأصيب من المشركين نحو اثني عشر رجلا، كما في السيرة.

7. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ أي: عن القتال‏ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي: فكفّوا عنهم ولا تتعرّضوا لهم تخلقا بصفتي الحقّ تعالى المذكورتين وهما: المغفرة والرحمة، هذا ظاهر المساق، وقال بعضهم: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ أي: عن الشرك والقتال‏ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لما سلف من طغيانهم‏ ﴿رَحِيمٌ﴾ بقبول توبتهم وإيمانهم.

8. ﴿وَقَاتِلُوهُمْ﴾ أي: هؤلاء الذين نسبناهم إلى قتالكم وإخراجكم وفتنكم‏ ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ﴾ ـ أي: لا توجد في الحرم ـ ﴿فِتْنَةً﴾ أي: تقوّ بسببه يفتنون الناس عن دينهم، ويمنعونهم من إظهاره والدعوة إليه‏ ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ خالصا أي: لا يعبد دونه شيء في الحرم، ولا يخشى فيه غيره، فلا يفتن أحد في دينه، ولا يؤذى لأجله، وفي (الصحيحين) عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منيّ دماءهم وأموالهم إلّا بحق الإسلام، وحسابهم على الله.

9. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ عن قتالكم في الحرم‏ ﴿فَلَا عُدْوَانَ﴾ فلا سبيل لكم بالقتل‏ ﴿إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ المبتدئين بالقتل.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/58.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ ردَّ المشركون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن البيت عام الحديبيَّة من الحديبيَّة، وهي موضع فيه ماء وشجر، قاموا فيه ثلاثين يومًا وصالحوه على أن يرجع من قابل، وكانوا معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي، فلمَّا كان العام القابل تجهَّزوا بعمرة القضاء في ذي القعدة، وخافوا أن لا يفي المشركون بذلك، وأن يصدُّوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكرهوا القتال في الشهر الحرام فنزلت الآية، ودخلوا مكَّة معتمرين، فأقاموا بها ثلاث ليال، وقد فخروا حين ردُّوه، فأنصفه الله منهم فأدخله مكَّة في الشهر الذي ردُّوه فيه، سمِّيت عمرة القضاء لأنَّهم وعدوه بها فوافوا له بها، وذلك في العام السابع، وعَدُوه بها في العام السادس يوم الحديبيَّة، وفيها وقع قتالٌ خفيف بحجارة وسهام، والمسلمون ألف وأربعمائة.

2. وقدَّم (فِي سَبِيلِ اللهِ) ترغيبًا في الإخلاص لإعلاء الدين، والآية تدلُّ على أنَّه لا يجوز لهم قتالُ من لم يقاتلهم، وهذا المفهوم منسوخ بما نزل بعده، وهو قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: 5]، وقوله: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [البقرة: 191]، فتكون الآيتان على ما زعموا ناسخة سبعين آية نهى فيها عن القتال، وَأَمَّا قوله تعالى: ﴿اُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ [الحج: 39] فأوَّل آية نزلت في الإذن بالقتال، نزلت قبل هذه، وهي مثلها في أنَّه يقاتِلون من يقاتلهم، ونسخ المفهوم بناء على أنَّه حكم شرعيٌّ، ومعنى ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾: تتوقَّعون منهم القتال بأن أخذوا في أهبته.

3. ﴿وَلَا تَعْتَدُواْ﴾ تُجاوِزوا ما حدَّ لكم، بابتداء القتال، أو بقتل من لا يقاتِل، كالنساء والصبيان والرهبان والشيوخ والمُعاهد، وكلِّ من كفَّ يده، وبالقتال بلا دعوة، والمثلة، ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ عمومًا، وهو لعموم السلب، ولو تأخَّرت أداة العموم، وهي (ال) الاستغراقيَّة عن السلب، والمعنى: لا أحد منهم يحبُّ اللهُ له الخير.

4. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أخذتموهم أو ظفرتم بهم، أو أدركتموهم قادرين عليهم، ولو لم يَبْتَدِئُوكُم بالقتال، إلَّا عند المسجد الحرام فحتَّى يبدؤوكم.

5. كره المسلمون القتال في الشهر الحرام والبلد الحرام فأباحه الله لهم به، ﴿وَأَخْرِجُوهُم مِّن حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ موضع الإخراج وهو مكَّة، وسمِّي التسبُّب في الإخراج إخراجًا؛ لأنَّ أهل مكَّة ضيَّقوا على المسلمين بالضرب والحبس وإرادة ذلك، وإرادة القتل والمنع عن دين الله، فخرجوا لذلك، وكذا في قوله: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التِي أَخْرَجَتْكَ﴾ [محمَّد: 13]، أي: أخرجك أهلها على حذف مضاف، أو أسند الإخراج إليها لحلولهم فيها، ثمَّ إنَّ الإخراج منهم أيضًا مجاز، وقد أخرجهم المسلمون يوم الفتح، وقتلوا من قتلوا، أحلَّت ساعة من نهار، وكان فيها قتل لبعضهم، وبعد الساعة أمروا بالإخراج، أمرهم الله بقتل من أمكن قتله، وإخراج من لم يقتل بحسب الإمكان، ﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ الامتحان بالبليَّة، أو نفس البليَّة إذ من شأنها أن يمتحن بها، أو أن يعامل معاملة الامتحان بها، وذلك كالإخراج من الوطن:

çلَقتلٌ بحدِّ السيفِ أهونُ مَوقعا...على النفسِ من قَتلٍ بحدِّ فراقé

6. والحمل على الشرك، ولا سيما في الحرم، فإنَّ الإشراك فتنة للباقي عليه ولغيره، وكالصدِّ عن دين الله وعن المسجد الحرام، وكنفس الإشراك فإنَّه يؤدِّي إلى الظلم والفساد؛ وإشراك الإنسان أشدُّ عليه مضرَّة في الدنيا والآخرة من القتل؛ أو لا تتركوا قتلهم للبلد الحرام والشهر الحرام، فإنَّ شركهم فيهما أقبح إن ظهر لكم أنَّ القتل فيهما قبيح، كما قال:

7. ﴿أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ لاستمرار ضرر الإخراج ونحوه من المضارِّ، كمداومة الضرب والشتم، ولا يخفى أنَّ شركهم أعظم من القتل لهم في الحرم والإحرام، أو القتل لهم فيه الذي استعظموه من المسلمين أعظم من قتلهم المسلمين مطلقًا.

8. ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ﴾ لا تقاتلوا المشركين ابتداء، وصيغة التفاعل لكون البدء يستتبع قتالاً، والمعنى: لا تقتلوهم ﴿عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي: في الحرم ﴿حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ﴾ يَبتدِئُوكم ﴿فِيهِ﴾ أي: في المسجد الحرام، أي: في الحرم، وذلك أنَّ (عند) لموضع الحضور، وسائر الحرم حاضر الكعبة منه، ولكم قتالهم في غير الحرم ولو لم يبدؤوكم.

9. ﴿فَإِن قَاتَلُوكُمْ﴾ فيه، بدؤوكم بهيئة القتل، وقع القتل أم لم يقع، ﴿فَاقْتُلُوهُمْ﴾ فيه وفي غيره، اقصدوا قتلهم وعالجوه، ولو أتى عليهم كلِّهم، ولم يقل: (فقاتلوهم) كما هو مقتضى الظاهر مبالغة ووعدًا لهم بالنصر.

10. ونسخ تحريم القتال إلَّا إن بدؤوا به بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، وبقوله تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ على قول بتأخير نزوله عن قوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾، ونحو قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً﴾ [التوبة: 36]، أي: لا بقيد القتال في الحرم بدءًا، أيُّ الآي نزلت أوَّلاً فهي الناسخة، وما بعدها تقرير لها، والكلُّ مناف لحكم المنسوخ.

11. ﴿كَذَالِكَ﴾ الذي تفعلون بهم من الإخراج لهم من حيث أخرجوكم، وقتلهم حيث ثقفتموهم ﴿جَزَآءُ الْكَافِرِينَ﴾ المذكورين، فالظاهر في موضع المضمر للتصريح بموجب الجزاء وهو الكفر أو الجنس، فيدخلون أوَّلاً وبالذات.

12. ﴿فَإِنِ اِنتَهَوْاْ﴾ عن الشرك والقتال والصدِّ يغفر لهم ما قد سلف، أو فاقبلُوا عنهم، أو فانتهوا عن قتالهم، ونحو ذلك مِمَّا يصلح جوابًا، وناب عن الجواب علتُه كما قال: ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ أي: لأنَّ اللهَ ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لكلِّ تائب، وإن قدَّرنا: فإنَّ الله غفور رحيم لهم فهو الجواب لا علَّة له، وهذا الانتهاء المذكور عنهم مسبَّب عن قتال المسلمين لهم بدليل الفاء، ويجوز أن تكون ترتيبًا بلا تسبُّب إلَّا أنَّه قليل، وقاتل العمد تقبل توبته ولو موحِّدًا، ولا دليل لهذا في الآية لأنَّها في المشركين.

13. ﴿وَقَاتِلُوهُمْ﴾ عند المسجد الحرام وغيره، بدؤوكم أو لم يبدؤوكم، ﴿حَتَّى﴾ إلى، أو كي ﴿لَا تَكُونَ﴾ تثبتَ ﴿فِتْنَةٌ﴾ أي: شرك وصدٌّ وقتال منهم، ولا تقبل جزية لأنَّ الكلام في شرك العرب في الحرمين وما يليهما، وليسوا أهل الكتاب ولا مجوسًا، ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ﴾ كلُّه كما في الأنفال، ولم يذكره هنا لأنَّ الكلام هنا في أهل مكَّة خاصَّة، والدين: العبادة والتوحيد والاعتقادات، والأمور التي هي صواب وحقٌّ، يحكم بها ويؤمر بها وتُتَّخذ دينًا، ﴿لِلهِ﴾ لا يعبد سواه، ولا يعتبر شرع غيره من الأديان الباطلة، ولا تعتقد الألوهيَّة لغيره.

14. ﴿فَإِنِ اِنتَهَوْاْ﴾ عن الشرك والقتال والصدِّ فانتهوا عن قتالهم، أو فلا عدوان عليهم، كما قال: ﴿فَلَا عُدْوَانَ﴾ أي: لأنَّه لا عدوان ﴿إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ بالشرك والحرب والصدِّ غير المنتهين عن ذلك، والمنتهي ليس ظالمًا.

15. والعدوان: البغض والقصد بسوء، كالقتل والسبي والغنم، ولا يقال: العدوان الظلم والاعتداء معبَّرًا به عن الجزاء عليهما للمشاكلة، لأنَّا نقول: غير الظالم لا تسمَّى الإساءة إليه جزاء أيضًا، وفي قولنا: المعنى: لا تفعلوا ما هو في صورة الظلم مجازاة بمثله إلَّا على الظالمين تكلُّف.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/336.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. وردت هذه الآيات في الاذن بالقتال للمحرمين في الاشهر الحرم إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا، فهي متصلة بما قبلها اتم الاتصال لان الآية السابقة بينت ان الاهلة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة، وهو في اشهر هلالية مخصوصة كان القتال فيها محرما في الجاهلية، وأخرج الواحدي من طريق الكلبي عن ابي صالح عن ابن عباس ان هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وذلك ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صدّ عن الميت ثم صالحه المشركون فرضي على ان يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة ايام يطوف ويفعل ما يشاء، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا ان لا تفي لهم قريش وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام، فأنزل الله تعالى‏ ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ يقول: أيها المؤمنون الذين تخافون أن يمنعكم مشركو مكة عن زيارة بيت الله والاعتمار فيه نكثا منهم للعهد وفتنة لكم في الدين، وتكرهون أن تدافعوا عن أنفسكم بقتالهم في الاحرام والشهر الحرام، إنني أذنت لكم في القتال على انه دفاع في سبيل الله للتمكن من عبادته في بيته، وتربية لمن يفتنكم عن دينكم وينكث عهدكم، لا لحظوظ النفس وأهوائها، والضراوة بحب التسافك، فقاتلوا في هذه السبيل الشريفة من يقاتلكم‏.

2. ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ بالقتال فتبدأوهم ـ ولا في القتال فتقتلوا من لا يقاتل كالنساء والصبيان والشيوخ والمرضى أو من ألقى اليكم السلم وكف عن حربكم ـ ولا بغير ذلك من انواع الاعتداء كالتخريب وقطع الاشجار، وقد قالوا ان الفعل المنفي يفيد العموم، علل الاذن بأنه مدافعة في سبيل الله وسيأتي تفصيله في الآية التالية، وعلل النهي بقوله‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ أي ان الاعتداء من السيئات المكروهة عند الله تعالى لذاتها فكيف إذا كان في حال الاحرام، وفي ارض الحرم والشهر الحرام؟

3. ثم قال‏: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ اي اذا نشب القتال فاقتلوهم أينما أدركتموهم وصادفتموهم، ولا يصدنكم عنهم أنكم في أرض الحرم إلا ما يستثنى في الآية بشرطه‏ ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ أي من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة، فقد كان المشركون أخرجوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه المهاجرين منها بما كانوا يفتنونهم في دينهم، ثم صدوهم عن دخولها لأجل العبادة، فرضى النبي والمؤمنون على شرط أن يسمحوا لهم في العام القابل بدخولها لأجل النسك والاقامة فيها ثلاثة أيام كما تقدم، فلم يكن من المشركين الا ان نقضوا العهد، أليس من رحمة الله تعالى بعباده أن يقوي هؤلاء المؤمنين ويأذن لهم بأن يعودوا إلى وطنهم ناسكين مسالمين، وأن يقاوموا من يصدهم عنه من اولئك المشركين الخائنين؟ وهل يصح أن يقال فيهم انهم أقاموا دينهم بالسيف والقوة، دون الارشاد والدعوة؟ كلا لا يقول هذا إلا غر جاهل، أو عدو متجاهل.

4. ثم زاد التعليل بيانا فقال:‏ ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ اي ان فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم بالايذاء والتعذيب، والإخراج من الوطن، والمصادرة في المال، أشد قبحا من القتل، إذ لا بلاء على الانسان اشد من ايذائه واضطهاده وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكن من عقلة ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره.

5. الفتنة في الاصل مصدر فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما بالنار ليستخرج الزغل منهما، ويسمى الحجر الذي يختبرهما به أيضا فتانة (كجبانة) ثم استعملت للفتنة في كل اختبار شاق، وأشده الفتنة في الدين وعن الدين، ومنه قوله تعالى‏ ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ وغير ذلك من الآيات.

6. ما تقرر في هذه الآيات على هذا الوجه مطابق لقوله تعالى في سورة الحج‏ ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ الآيات، وهي اول ما نزل من القرآن في شرع القتال معللا بسببه مقيدا بشروطه العادلة.

7. فسر بعضهم الفتنة هنا وفي الآية الآتية بالشرك وجرى عليه الجلال، ورده محمد عبده يأنه يخرج الآيات عن سياقها، وذكره البيضاوي هنا بصيغة التضعيف [قيل‏] ورد قولهم أيضا ان هذه الآية ناسخة لما قبلها، وذلك انه كبر على هؤلاء أن يكون الاذن بالقتال مشروطا باعتداء المشركين، ولاجل أمن المؤمنين في الدين وأرادوا أن يجعلوه مطلوبا لذاته، وقال: ان هذه الآيات نزلت مرة واحدة في نسق واحد وقصة واحدة فلا معنى لكون بعضها ناسخا للآخر، وأما ما يؤخذ من العمومات فيها بحكم أن القرآن شرع ثابت عام فذلك شيء آخر.

8. ثم استثنى من الامر بقتل هؤلاء المحاربين في كل مكان أدركوا فيه المسجد الحرام فقال:‏ ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ أي ان من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا إلا أن يقاتل هو فيه وينتهك حرمته فلا أمان له حينئذ، ولما كان القتل في المسجد الحرام امرا عظيما يتحرج منه أكد الاذن فيه بشرطه ولم يكتف بما فهم من الغاية فقال:‏ ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ ولا تستسلموا لهم، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آثم.

9. ﴿كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ اي ان من سنة الله تعالى أن يجازي الكافرين مثل هذا الجزاء فيعذبهم قي مقابلة تعرضهم للعذاب بتعدي حدوده فيكونوا هم الظالمين لأنفسهم، وقرأ حمزة والكسائي: ولا تقتلوهم.. حتى يقتلوكم، فان قتلوكم فاقتلوهم، من قتل الثلاثي ويخرّج على أن قتل بعض الامة كقتل جميعها لتكافلها، والمراد حتى لا يقتلوا احدا منكم فان قتلوا أحدا فاقتلوهم وهو اسلوب عربي بليغ، ثم قال‏

10. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ عن القتال فكفوا عنهم، أو عن الكفر فان الله يقبل منهم، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يمحو عن العبد ما سلف، إذا هو تاب عما اقترف، ويرحمه فيما بقي، إذا هو أحسن واتقى، ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾

11. ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ عطف على (قاتلوا) في الآية الاولى فتلك بينت بداية القتال وهذه ببنت غايته وهي الا يوجد شيء من الفتنة في الدين، ولهذا قال محمد عبده: أي حتى لا تكون لهم قوة يفتنونكم بها ويؤذونكم لأجل الدين ويمنعونكم من اظهاره أو الدعوة اليه‏ ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ وفي آية سورة الانفال‏ ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله﴾ أي يكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يفتن لصده عنه ولا يؤذي فيه، ولا يحتاج فيه إلى الدهان والمداراة، أو الاستخفاء أو المحاباة، وقد كانت مكة إلى هذا العهد قرار الشرك، والكعبة مستودع الاصنام، فالمشرك فيها حر في ضلالته، والمؤمن مغلوب على هدايته.

12. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ أي في هذه المرة عما كانوا عليه‏ ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ أي فلا عدوان عليهم لأن العدوان انما يكون على الظالمين تأديبا لهم ليرجعوا عن ظلمهم، ففي الكلام ايجاز بالحذف، واستغناء عن المحذوف بالتعليل الدال عليه، ويجوز أن يكون المعنى فان انتهوا عما كانوا عليه من القتال والفتنة فلا عدوان بعد ذلك إلا على من كان منهم ظالما بارتكابه ما يوجب القصاص، أي فلا يحاربون عامة وإنما يؤخذ المجرم بجريمته.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/208.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. بعد أن ذكر الله تعالى في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم ولا سيما الحج، فهو يكون في أشهر هلالية خاصة كان القتال فيها محرما في الجاهلية؛ بين هنا أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر دفاعا عن دينكم، وتربية لمن يفتنكم عنه، وينكث العهد لا لحظوظ النفس وشهواتها وحبّ سفك الدماء، وقد روى عن ابن عباس‏ أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية؛ ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صدّ عن البيت، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا ألا تفي لهم قريش، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام، فأنزل الله الآية.

2. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ أي أيها المؤمنون الذين يخشون أن يمنعهم كفار قريش حين زيارة البيت الحرام والاعتمار فيه، نكثا منهم للعهد، وفتنة لهم في الدين، ويكرهون الدفاع عن أنفسهم بقتالهم في الإحرام والشهر الحرام، إني أذنت لكم في قتالهم إعزازا لدين الله وإعلاء لكلمته، لا لهوى النفس وشهواتها ولا حبّا في سفك الدماء.

3. ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ أي ولا تعتدوا بالقتال فتبدؤوهم به، ولا في القتال فتقتلوا من لا يقاتل من النساء والصبيان والشيوخ والمرضى، ولا من ألقى إليكم السلم وكفّ عن حربكم، ولا بغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الأشجار، فإنّ الاعتداء من السيئات التي يكرهها الله تعالى، ولا سيما حين الإحرام وفي أرض الحرم وفي الأشهر الحرم.

4. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي إذا نشب القتال بينكم وبينهم فاقتلوهم أينما أدركتموهم، ولا يصدنكم عنهم وجودكم في أرض الحرم.

5. ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ أي وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة، فإن المشركين أخرجوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه منها بما كانوا يفتنونهم في دينهم، وبعدئذ صدوهم عن دخولها للعبادة، فرضى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنون على شرط ألا يعارضوهم في دخولها العام القابل لأداء النسك والإقامة بها ثلاثة أيام ثم نقضوا العهد فكان من فضل الله ورحمته بالمؤمنين أن قوّى أمرهم وأذن لهم أن يعودوا إلى وطنهم ناسكين مسالمين، وأن يقاوموا من يصدهم عنه من أولئك المشركين الحانثين في عهودهم.

6. ثم ذكر العلة في الإذن بقتالهم فقال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أي إن فتنتهم إياكم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب‏ والإخراج من الوطن ومصادرة المال أشد قبحا من القتل فيه، إذ لا بلاء على الإنسان أشدّ من إيذائه واضطهاده وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره.

7. ثم استثنى من الأمر بقتل هؤلاء المحاربين في كل مكان أدركوا فيه المسجد الحرام فقال: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ أي إن من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا إلا أن يقاتل هو فيه وينتهك حرمته، فلا أمان له حينئذ.

8. ولما كان القتل في المسجد الحرام أمرا عظيما يتحرّج منه، أكد الإذن فيه بشرطه السابق فقال: ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ ولا تستسلموا لهم، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آثم.

9. ﴿كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ أي إنه قد جرت سنة الله بأن يجازى الكافرين مثل هذا الجزاء، ويعذبهم مثل ذلك العذاب؛ لأنهم قد تعرّضوا له بتعديهم الحدود التي شرعها، فهم الظالمون لأنفسهم، لأنهم قد بدؤوا بالعدوان، فيلقون جزاء ما صنعوا.

10. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي فإن كفّوا عن القتال أو عن الكفر فإن الله يقبل منهم عملهم، فهو رحيم بعباده يغفر لهم ما سبق من زلاتهم، ويمحو خطيئاتهم إذا هم تابوا عما اقترفوا، وأحسنوا واتقوا: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾

11. ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي وقاتلوهم حتى لا تكون لهم قوّة يفتنونكم بها في دينكم، ويؤذونكم في سبيله، ويمنعونكم من إظهاره والدعوة إليه، وجملة وقاتلوا الأولى بينت بدء القتال، وقاتلوهم إلخ بينت الغاية منه، وهى ألا يوجد شيء من الفتنة في الدين.

12. ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ أي ويكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يفتن بصده عنه ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج فيه إلى مداهنة ومحاباة، أو استخفاء ومداراة، وقد كان المسلمون في ابتداء الإسلام مغلوبين على أمرهم، والمشركون في ضلالتهم هم أصحاب الحول، وكانت مكة قرارة الشرك، والكعبة مستودع الأصنام، فأبى الله إلا أن يتمّ نوره، فمكّن للمؤمنين في الأرض، ففتحوا مكة وحطّموا تلك الأصنام، وكسروا اللات والعزّى ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾

13. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ أي فإن انتهوا عما كانوا عليه وأسلموا، فلا تعتدوا عليهم، لأن العقوبة والعدوان إنما تكون على الظالمين تأديبا لهم، ليرجعوا عن ظلمهم وغيهم.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/88.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. بعد ذلك يجيء بيان عن القتال بصفة عامة، وعن القتال عند المسجد الحرام وفي الأشهر الحرم بصفة خاصة، كما تجيء الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله، وهي مرتبطة بالجهاد كل الارتباط.

2. ورد في بعض الروايات أن هذه الآيات هي أول ما نزل في القتال، نزل قبلها الإذن من الله للمؤمنين الذين يقاتلهم الكفار بأنهم ظلموا، وأحس المؤمنون بأن هذا الإذن هو مقدمة لفرض الجهاد عليهم، وللتمكين لهم في الأرض، كما وعدهم الله في آيات سورة الحج: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وإِنَّ اللهَ عَلى‏ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللهُ، ولَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً، ولَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ وأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، ولِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾، ومن ثم كانوا يعرفون لم أذن لهم بأنهم ظلموا، وأعطيت لهم إشارة الانتصاف من هذا الظلم، بعد أن كانوا مكفوفين عن دفعه وهم في مكة، وقيل لهم: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾.. وكان هذا الكف لحكمة قدرها الله.. نستطيع أن نحدس بعض أسبابها على سبيل التقدير البشري الذي لا يحصى ولا يستقصى:

أ. وأول ما نراه من أسباب هذا الكف، أنه كان يراد أولا تطويع نفوس المؤمنين من العرب للصبر امتثالا للأمر، وخضوعا للقيادة، وانتظارا للإذن، وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة، يستجيبون لأول ناعق، ولا يصبرون على الضيم.. وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم الذي نيطت به هذه الأمة يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية، وتطويعها لقيادة تقدر وتدبر، وتطاع فيما تقدر وتدبر، حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب التي تعودت الاندفاع والحماسة والخفة للهيجاء عند أول داع.. ومن ثم استطاع رجال من طراز حمزة بن عبد المطلب في فتوته، وأمثاله من أشداء المؤمنين الأوائل أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة؛ وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا، وهي تقول لهم: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾.. ومن ثم وقع التوازن بين الاندفاع والتروي، والحماسة والتدبر، والحمية والطاعة.. في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم..

ب. والأمر الثاني الذي يلوح لنا من وراء الكف عن القتال في مكة.. هو أن البيئة العربية، كانت بيئة نخوة ونجدة، وقد كان صبر المسلمين على الأذى، وفيهم من يملك رد الصاع صاعين، مما يثير النخوة ويحرك القلوب نحو الإسلام؛ وقد حدث بالفعل عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم في شعب أبي طالب، كي يتخلوا عن حماية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه عندما اشتد الاضطهاد لبني هاشم، ثارت نفوس نجدة ونخوة، ومزقت الصحيفة التي تعاهدوا فيها على المقاطعة، وانتهى هذا الحصار تحت تأثير هذا الشعور الذي كانت القيادة الإسلامية في مكة تراعيه في خطة الكف عن المقاومة، فيما يبدو لنا من خلال دراسة السيرة كحركة.

ج. ومما يتعلق بهذا الجانب أن القيادة الإسلامية لم تشأ أن تثير حربا دموية داخل البيوت، فقد كان المسلمون حينذاك فروعا من البيوت، وكانت هذه البيوت هي التي تؤذي أبناءها وتفتنهم عن دينهم؛ ولم تكن هناك سلطة موحدة هي التي تتولى الإيذاء العام، ولو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك، لكان معنى هذا الإذن أن تقوم معركة في كل بيت، وأن يقع دم في كل أسرة.. مما كان يجعل الإسلام ـ في نظر البيئة العربية ـ يبدو دعوة تفتت البيوت، وتشعل النار فيها من داخلها.. فأما بعد الهجرة فقد انعزلت الجماعة المسلمة كوحدة مستقلة، تواجه سلطة أخرى في مكة، تجند الجيوش وتقود الحملات ضدها.. وهذا وضع متغير عما كان عليه الوضع الفردي في مكة، بالنسبة لكل مسلم في داخل أسرته.

3. هذه بعض الأسباب التي تلوح للنظرة البشرية من وراء الحكمة في كف المسلمين في مكة عن دفع الفتنة والأذى، وقد يضاف إليها أن المسلمين إذ ذاك كانوا قلة، وهم محصورون في مكة، وقد يأتي القتل عليهم لو تعرضوا لقتال المشركين، في صورة جماعة ذات قيادة حربية ظاهرة، فشاء الله أن يكثروا، وأن يتحيزوا في قاعدة آمنة، ثم أذن لهم بعد هذا في القتال.

4. على أية حال فقد سارت أحكام القتال بعد ذلك متدرجة وفق مقتضيات الحركة الإسلامية في الجزيرة (ثم خارج الجزيرة)، وهذه الآيات المبكرة في النزول قد تضمنت بعض الأحكام الموافقة لمقتضيات الموقف في بدء المناجزة بين المعسكرين الأساسيين، معسكر الإسلام ومعسكر الشرك، وهي في الوقت ذاته تمثل بعض الأحكام الثابتة في القتال بوجه عام، ولم تعدل من ناحية المبدأ إلا تعديلا يسيرا في سورة براءة.

5. لعله يحسن أن نقول كلمة مجملة عن الجهاد في الإسلام، تصلح أساسا لتفسير آيات القتال هنا، وفي المواضع القرآنية الآخرى، قبل مواجهة النصوص القرآنية في هذا الموضع بصفة خاصة:

أ. لقد جاءت هذه العقيدة في صورتها الأخيرة التي جاء بها الإسلام؛ لتكون قاعدة للحياة البشرية في الأرض من بعدها، ولتكون منهجا عاما للبشرية جميعها؛ ولتقوم الأمة المسلمة بقيادة البشرية في طريق الله وفق هذا المنهج، المنبثق من التصور الكامل الشامل لغاية الوجود كله ولغاية الوجود الإنساني، كما أوضحهما القرآن الكريم، المنزل من عند الله، قيادتها إلى هذا الخير الذي لا خير غيره في مناهج الجاهلية جميعا، ورفعها إلى هذا المستوي الذي لا تبلغه إلا في ظل هذا المنهج، وتمتيعها بهذه النعمة التي لا تعدلها نعمة، والتي تفقد البشرية كل نجاح وكل فلاح حين تحرم منها، ولا يعتدي عليها معتد بأكثر من حرمانها من هذا الخير، والحيلولة بينها وبين ما أراده لها خالقها من الرفعة والنظافة والسعادة والكمال.

ب. ومن ثم كان من حق البشرية أن تبلغ إليها الدعوة إلى هذا المنهج الإلهي الشامل، وألا تقف عقبة أو سلطة في وجه التبليغ بأي حال من الأحوال.

ج. ثم كان من حق البشرية كذلك أن يترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحرارا في اعتناق هذا الدين؛ لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة، فإذا أبى فريق منهم أن يعتنقه بعد البيان، لم يكن له أن يصد الدعوة عن المضي في طريقها، وكان عليه أن يعطي من العهود ما يكفل لها الحرية والاطمئنان؛ وما يضمن للجماعة المسلمة المضي في طريق التبليغ بلا عدوان..

د. فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها كان من حقهم ألا يفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة، لا بالأذى ولا بالإغراء، ولا بإقامة أوضاع من شأنها صد الناس عن الهدى وتعويقهم عن الاستجابة، وكان من واجب الجماعة المسلمة أن تدفع عنهم بالقوة من يتعرض لهم بالأذى والفتنة، ضمانا لحرية العقيدة، وكفالة لأمن الذين هداهم الله، وإقرارا لمنهج الله في الحياة، وحماية للبشرية من الحرمان من ذلك الخير العام.

هـ. وينشأ عن تلك الحقوق الثلاثة واجب آخر على الجماعة المسلمة؛ وهو أن تحطم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس في حرية، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها، وأن تظل تجاهد حتى تصبح الفتنة للمؤمنين بالله غير ممكنة لقوة في الأرض، ويكون الدين لله.. لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان، ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول؛ ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يبلغه، وأن يستجيب له، وأن يبقى عليه، وبحيث لا يكون في الأرض وضع أو نظام يحجب نور الله وهداه عن أهله ويضلهم عن سبيل الله، بأية وسيلة وبأية أداة.

6. في حدود هذه المبادئ العامة كان الجهاد في الإسلام، وكان لهذه الأهداف العليا وحدها، غير متلبسة بأي هدف آخر، ولا بأي شارة أخرى، إنه الجهاد للعقيدة، لحمايتها من الحصار؛ وحمايتها من الفتنة؛ وحماية منهجها وشريعتها في الحياة؛ وإقرار رايتها في الأرض بحيث يرهبها من يهم بالاعتداء عليها قبل الاعتداء؛ وبحيث يلجأ إليها كل راغب فيها لا يخشى قوة أخرى في الأرض تتعرض له أو تمنعه أو تفتنه، وهذا هو الجهاد الوحيد الذي يأمر به الإسلام، ويقره ويثيب عليه؛ ويعتبر الذين يقتلون فيه شهداء؛ والذين يحتملون أعباءه أولياء.

7. هذه الآيات من سورة البقرة في هذا الدرس كانت تواجه وضع الجماعة المسلمة في المدينة مع مشركي قريش الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم، وآذوهم في دينهم، وفتنوهم في عقيدتهم، وهي ـ مع هذا ـ تمثل قاعدة أحكام الجهاد في الإسلام.

8. تبدأ الآيات بأمر المسلمين بقتال هؤلاء الذين قاتلوهم وما يزالون يقاتلونهم، وبقتال من يقاتلهم في أي وقت وفي أي مكان، ولكن دون اعتداء: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.. وفي أول آية من آيات القتال نجد التحديد الحاسم لهدف القتال، والراية التي تخاض تحتها المعركة في وضوح وجلاء: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾.. إنه القتال لله، لا لأي هدف آخر من الأهداف التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة، القتال في سبيل الله، لا في سبيل الأمجاد والاستعلاء في الأرض، ولا في سبيل المغانم والمكاسب؛ ولا في سبيل الأسواق والخامات؛ ولا في سبيل تسويد طبقة على طبقة أو جنس على جنس.. إنما هو القتال لتلك الأهداف المحددة التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام، القتال لإعلاء كلمة الله في الأرض، وإقرار منهجه في الحياة، وحماية المؤمنين به أن يفتنوا عن دينهم، أو أن يجرفهم الضلال والفساد، وما عدا هذه فهي حرب غير مشروعة في حكم الإسلام، وليس لمن يخوضها أجر عند الله ولا مقام.

9. ومع تحديد الهدف، تحديد المدى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.. والعدوان يكون بتجاوز المحاربين المعتدين إلى غير المحاربين من الآمنين المسالمين الذين لا يشكلون خطرا على الدعوة الإسلامية ولا على الجماعة المسلمة، كالنساء والأطفال والشيوخ والعباد المنقطعين للعبادة من أهل كل ملة ودين.. كما يكون بتجاوز آداب القتال التي شرعها الإسلام، ووضع بها حدا للشناعات التي عرفتها حروب الجاهليات الغابرة والحاضرة على السواء.. تلك الشناعات التي ينفر منها حس الإسلام، وتأباها تقوى الإسلام، وهذه طائفة من أحاديث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ووصايا أصحابه، تكشف عن طبيعة هذه الآداب، التي عرفتها البشرية أول مرة على يد الإسلام:

أ. عن ابن عمر قال: (وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن قتل النساء والصبيان).. (أخرجه مالك والشيخان وأبو داوود والترمذي)

ب. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه).. (أخرجه الشيخان)

ج. وعن أبي هريرة قال: (بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (إن وجدتم فلانا وفلانا (رجلين من قريش) فأحرقوهما بالنار)، فلما أردنا الخروج قال (كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله تعالى فإن وجدتموهما فاقتلوهما).. (أخرجه البخاري وأبو داوود والترمذي)

د. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أعفّ الناس قتله أهل الإيمان).. (أخرجه أبو داوود)

هـ. وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري قال: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن النّهبى والمثلة).. (أخرجه البخاري)

و. وعن ابن يعلى قال: غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فأتى بأربعة أعلاج من العدو، فأمر بهم فقتلوا صبرا بالنبل، فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ينهي عن قتل الصبر، فوالذي نفسي بيده، لو كانت دجاجة ما صبرتها، فبلغ ذلك عبد الرحمن، فأعتق أربع رقاب‏، فقالوها، فلامني أصحابي، وقالوا: حرمتنا الغنيمة! فلما قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبروه بالذي صنعت، فدعاني فحسن لي ما صنعت، ثم قال لي: (إن الله تعالى‏ قد كتب لك بكل إنسان منهم كذا وكذا من الأجر).. (أخرجه أبو داوود)

ز. وعن بريدة قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى، وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال له: (اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا).. (أخرجه مسلم وأبو داوود والترمذي)

ح. وروى مالك عن أبي بكر أنّه قال في وصيته لجنده: (ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما)..

10. هذه هي الحرب التي يخوضها الإسلام؛ وهذه هي آدابه فيها؛ وهذه هي أهدافه منها.. وهي تنبثق من ذلك التوجيه القرآني الجليل: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.. وقد كان المسلمون يعلمون أنهم لا ينصرون بعددهم ـ فعددهم قليل ـ ولا ينصرون بعدتهم وعتادهم ـ فما معهم منه أقل مما مع أعدائهم ـ إنما هم ينصرون بإيمانهم وطاعتهم وعون الله لهم، فإذا هم تخلوا عن توجيه الله لهم وتوجيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد تخلوا عن سبب النصر الوحيد الذي يرتكنون إليه، ومن ثم كانت تلك الآداب مرعية حتى مع أعدائهم الذين فتنوهم ومثلوا ببعضهم أشنع التمثيل.. ولما فار الغضب برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأمر بحرق فلان وفلان (رجلين من قريش) عاد فنهى عن حرقهما، لأنه لا يحرق بالنار إلا الله.

11. ثم يمعن السياق في توكيد القتال لهؤلاء الذين قاتلوا المسلمين وفتنوهم في دينهم، وأخرجوهم من ديارهم، والمضي في القتال حتى يقتلوهم على أية حالة، وفي أي مكان وجدوهم، باستثناء المسجد الحرام، إلا أن يبدأ الكفار فيه بالقتال، وإلا أن يدخلوا في دين الله فتكف أيدي المسلمين عنهم، مهما كانوا قد آذوهم من قبل وقاتلوهم وفتنوهم: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾..

12. إن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية، ومن ثم فهي أشد من القتل، أشد من قتل النفس وإزهاق الروح وإعدام الحياة، ويستوي أن تكون هذه الفتنة بالتهديد والأذى الفعلي، أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضل الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج الله، وتزين لهم الكفر به أو الإعراض عنه، وأقرب الأمثلة على هذا هو النظام الشيوعي الذي يحرم تعليم الدين ويبيح تعليم الإلحاد، ويسن تشريعات تبيح المحرمات كالزنا والخمر، ويحسنها للناس بوسائل التوجيه؛ بينما يقبح لهم اتباع الفضائل المشروعة في منهج الله، ويجعل من هذه الأوضاع فروضا حتمية لا يملك الناس التفلت منها.

13. هذه النظرة الإسلامية لحرية العقيدة، وإعطاؤها هذه القيمة الكبرى في حياة البشرية.. هي التي تتفق مع طبيعة الإسلام، ونظرته إلى غاية الوجود الإنساني، فغاية الوجود الإنساني هي العبادة (ويدخل في نطاقها كل نشاط خير يتجه به صاحبه إلى الله)، وأكرم ما في الإنسان حرية الاعتقاد، فالذي يسلبه هذه الحرية، ويفتنه عن دينه فتنة مباشرة أو بالواسطة، يجني عليه ما لا يجني عليه قاتل حياته، ومن ثم يدفعه بالقتل.. لذلك لم يقل: وقاتلوهم، إنما قال ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾.. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾.. أي حيث وجدتموهم، في أية حالة كانوا عليها؛ وبأية وسيلة تملكونها ـ مع مراعاة أدب الإسلام في عدم المثلة أو الحرق بالنار، ولا قتال عند المسجد الحرام، الذي كتب الله له الأمن، وجعل جواره آمنا استجابة لدعوة خليله إبراهيم عليه السلام وجعله مثابة يثوب إليها الناس فينالون فيه الأمن والحرمة والسلام.. لا قتال عند المسجد الحرام إلا للكافرين الذين لا يرعون حرمته، فيبدؤون بقتال المسلمين عنده، وعند ذلك يقاتلهم المسلمون ولا يكفون عنهم حتى يقتلوهم.. فذلك هو الجزاء اللائق بالكافرين، الذين يفتنون الناس عن دينهم، ولا يرعون حرمة للمسجد الحرام، الذي عاشوا في جواره آمنين.

14. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ والانتهاء الذي يستأهل غفران الله ورحمته، هو الانتهاء عن الكفر، لا مجرد الانتهاء عن قتال المسلمين أو فتنتهم عن الدين، فالانتهاء عن قتال المسلمين وفتنتهم قصاراه أن يهادنهم المسلمون، ولكنه لا يؤهل لمغفرة الله ورحمته، فالتلويح بالمغفرة والرحمة هنا يقصد به إطماع الكفار في الإيمان، لينالوا المغفرة والرحمة بعد الكفر والعدوان.

15. ما أعظم الإسلام، وهو يلوح للكفار بالمغفرة والرحمة، ويسقط عنهم القصاص والدية بمجرد دخولهم في الصف المسلم، الذي قتلوا منه وفتنوا، وفعلوا بأهله الأفاعيل!

16. غاية القتال هي ضمانة ألا يفتن الناس عن دين الله، وألا يصرفوا عنه بالقوة أو ما يشبهها كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام، وتسلط عليهم فيه المغريات والمضلات والمفسدات، وذلك بأن يعز دين الله ويقوى جانبه، ويهابه أعداؤه، فلا يجرؤوا على التعرض للناس بالأذى والفتنة، ولا يخشى أحد يريد الإيمان أن تصده عنه قوة أو أن تلحق به الأذى والفتنة.. والجماعة المسلمة مكلفة إذن أن تظل تقاتل حتى تقضي على هذه القوى المعتدية الظالمة؛ وحتى تصبح الغلبة لدين الله والمنعة: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾..

17. إذا كان النص ـ عند نزوله ـ يواجه قوة المشركين في شبه الجزيرة، وهي التي كانت تفتن الناس، وتمنع أن يكون الدين لله، فإن النص عام الدلالة، مستمر التوجيه، والجهاد ماض إلى يوم القيامة، ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين، وتحول بينهم وبين سماع الدعوة إلى الله، والاستجابة لها عند الاقتناع، والاحتفاظ بها في أمان، والجماعة المسلمة مكلفة في كل حين أن تحطم هذه القوة الظالمة؛ وتطلق الناس أحرارا من قهرها، يستمعون ويختارون ويهتدون إلى الله.

18. هذا التكرار في الحديث عن منع الفتنة، بعد تفظيعها واعتبارها أشد من القتل.. هذا التكرار يوحي بأهمية الأمر في اعتبار الإسلام؛ وينشئ مبدأ عظيما يعني في حقيقته ميلادا جديدا للإنسان على يد الإسلام، ميلادا تتقرر فيه قيمة الإنسان بقيمة عقيدته، وتوضع حياته في كفة وعقيدته في كفة، فترجح كفة العقيدة.

19. كذلك يتقرر في هذا المبدأ من هم أعداء (الإنسان).. إنهم أولئك الذين يفتنون مؤمنا عن دينه، ويؤذون مسلما بسبب إسلامه، أولئك الذين يحرمون البشرية أكبر عنصر للخير ويحولون بينها وبين منهج الله.. وهؤلاء على الجماعة المسلمة أن تقاتلهم، وأن تقتلهم حيث وجدتهم‏ ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾

20. هذا المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام في أوائل ما نزل من القرآن عن القتال ما يزال قائما، وما تزال العقيدة تواجه من يعتدون عليها وعلى أهلها في شتى الصور.. وما يزال الأذى والفتنة تلم بالمؤمنين أفرادا وجماعات وشعوبا كاملة في بعض الأحيان.. وكل من يتعرض للفتنة في دينه والأذى في عقيدته في أية صورة من الصور، وفي أي شكل من الأشكال، مفروض عليه أن يقاتل وأن يقتل؛ وأن يحقق المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام، فكان ميلادا جديدا للإنسان.. فإذا انتهى الظالمون عن ظلمهم؛ وكفوا عن الحيلولة بين الناس وربهم؛ فلا عدوان عليهم ـ أي لا مناجزة لهم ـ لأن الجهاد إنما يوجه إلى الظلم والظالمين: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، ويسمى دفع الظالمين ومناجزتهم عدوانا من باب المشاكلة اللفظية، وإلا فهو العدل والقسط ودفع العدوان عن المظلومين.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/185.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. نحن على رأينا من أنه ليس في القرآن نسخ، وأن كتاب الله الذي في أيدينا لا نسخ فيه، وأن آياته كلها عاملة أبد الدّهر، وآيات القتال من الآيات التي أكثر المفسرون من القول بتوارد النسخ عليها! وهذا رأى ـ كما قلنا ـ لا نأخذ به ولا نقيم نظرنا عليه، فقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ ليس بالمنسوخ بالآية التي بعدها، كما يقول المفسّرون، ولا وجه لنسخه.. فالأمر بالقتال في سبيل الله قائم ما قامت الحياة، وإذا كان القتال يقوم بين الناس في وجوه كثيرة في سبل غير سبيل الله، فالقتال في سبيل الله أوجب القتال وأبرّه، وأعدله، وأكرمه، إذ كان ولا غاية له إلا الانتصار للحق، والتمكين له.. ثم إذا كان هذا القتال لم يكن مبادأة ولا هجوما، بل كان دفاعا وقصاصا، فهو القتال الذي لا بد منه، ولا بديل له، إن لم يطلبه الدين طلبته الدنيا.. ثم أيضا، إذا كان هذا القتال ـ مع مشروعيته دنيا وديانة، ومع حجزه عن المبادأة بالعدوان ـ غير متلبس بمجاوزة الحدّ في القصاص، فهو القتال الذي لا يحسم الشر غيره، ولا يقيم الأمن والسلام سواه..

2. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾، فهذه ثلاث دعائم من العدل، يقوم عليها هذا القتال: قتال في سبيل الله، بين الإيمان والشرك، ودفع لعدوان المشركين على المؤمنين، ووقوف بالقتال عن مجاوزة إلى اعتداء المؤمنين على المشركين! تلك هي الدعائم التي يقوم عليها قتال المسلمين أبدا مع مقاتليهم على أية ملة، وفى أي زمان ومكان.. فماذا ينسخ من تلك الدعائم، وما داعية نسخها؟ لا نجد جوابا مقنعا.

3. قوله تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾، هو من تمام البيان لهذه القضية، قضية القتال بين المسلمين ومشركي قريش، فحين يلتقى بهم المسلمون في ميدان القتال، فلا يتحرج المسلمون من قتلهم حيث التقوا بهم، من غير أن تعطفهم عليهم عاطفة قرابة أو نسب، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، أو إخوانهم، فلقد بدؤوا هم المسلمين بالعدوان، وأخرجوهم من ديارهم، وفتنوا بعضهم عن دينهم، ولا يزالون يفتنون من قدروا عليه منهم، بما يسلطون عليه من عذاب ونكال‏ ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ إذ المفتتن في دينه قد أصيب بما هو أشد وأنكى من القتل، قد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، فإذا كان القتال في المسجد الحرام، أي في البلد الحرام مكة، فلا يبدؤهم المسلمون بقتال فيه حتى يكون المشركون هم الذين بدؤوه، وعندئذ تحل حرمة الحرم، اقتصاصا ممن أحلوا حرمته: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾

4. قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ حسم لما بين هؤلاء المشركين وبين المسلمين من خلاف، وتصفية للشر الذي وقع بينهم، وذلك إذا انتهى هؤلاء المشركون عن شركهم، وأسلموا وجوههم لله.. عندئذ تنقطع أسباب القتال، وتزول آثاره، فلا ثارات، ولا ديات، ولا عداوة، بل يصبح الجميع إخوة، تجمعهم كلمة الإسلام، وتظللهم راية الإسلام.

5. فى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تطيب لخاطر الفريقين جميعا، فليغفر بعضهم لبعض، وليرحم بعضهم بعضا من حمل البغضة والعداوة، ولهم عند الله المغفرة الواسعة والرحمة الشاملة، فإن الله غفور رحيم.

6. هذا وقد نظرنا في تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ وحملناه على الانتهاء مما كانوا عليه من شرك ـ نظرنا في هذا إلى قوله تعالى‏ ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾، وهذا المعنى هو الذي يلتقى مع قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ حيث يغتسل المشركون الذين دخلوا في الإسلام من أدران شركهم بما يفضل الله عليهم به من مغفرته ورحمته.

7. قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ أمر بمقاتلة من بقي على شركه من مشركي مكة الذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات، لأنه ما دام المشركون قائمين فالفتنة قائمة، والفتنة هي قتل للمسلمين، وعلى هذا فلا مهادنة مع المشركين‏ ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾

8. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ أي فإن انتهوا عماهم فيه من شرك ودخلوا فى‏ دين الله، فقد دخلوا في السلم، لا ينالهم أحد بسوء إلّا من نكص على عقبه أو دخل الإسلام ليكيد له ولأهله.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/212.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. جملة ﴿وَقَاتَلُوا﴾ معطوفة على جملة ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ﴾ [البقرة: 189].. وهو استطراد دعا إليه استعداد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمرة القضاء سنة ست وتوقع المسلمين غدر المشركين بالعهد، وهو قتال متوقع لقصد الدفاع لقوله: ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، وهذه الآية أول آية نزلت في القتال وعن أبي بكر: أول آية نزلت في الأمر بالقتال قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ في [سورة الحج: 39] ورجحه ابن العربي بأنها مكية وآية سورة البقرة مدنية، وقد ثبت‏ في (الصحيح) أن رسول الله أرسل عثمان بن عفان إلى أهل مكة فأرجف بأنهم قتلوه فبايع الناس والرسول على الموت في قتال العدو ثم انكشف الأمر عن سلامة عثمان.

2. نزول هذه الآيات عقب الآيات التي أشارت إلى الإحرام بالعمرة والتي نراها نزلت في شأن الخروج إلى الحديبية ينبئ بأن المشركين كانوا قد أضمروا ضد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين، ثم أعرضوا عن ذلك لما رأوا تهيؤ المسلمين لقتالهم، فقوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 191] إرشاد للمسلمين بما فيه صلاح لهم يومئذ، ألا ترى أنه لما انقضت الآيات المتكلمة عن القتال عاد الكلام إلى الغرض الذي فارقته وذلك قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ [البقرة: 196]، الآيات على أنه قد وقع في صلح الحديبية ضرب مدة بين المسلمين والمشركين لا يقاتل فريق منهم الآخر فخاف المسلمون عام عمرة القضاء أن يغدر بهم المشركون إذا حلوا ببلدهم وألّا يفوا لهم فيصدوهم عن العمرة فأمروا بقتالهم إن هم فعلوا ذلك.

3. هذا إذن في قتال الدفاع لدفع هجوم العدو ثم نزلت بعدها آية براءة: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة: 36] ناسخة لمفهوم هذه الآية عند من يرى نسخ المفهوم ولا يرى الزيادة على النص نسخا، وهي أيضا ناسخة لها عند من يرى الزيادة على النص نسخا ولا يرى نسخ المفهوم، وهي وإن نزلت لسبب خاص فهي عامة في كل حال يبادئ المشركون فيه المسلمين بالقتال، لأن السبب لا يخصص.

4. عن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن هاته الآية محكمة لم تنسخ، لأن المراد بالذين يقاتلونكم الذين هم متهيئون لقتالكم أي لا تقاتلوا الشيوخ والنساء والصبيان، أي القيد لإخراج طائفة من المقاتلين لا لإخراج المحاجزين، وقيل: المراد الكفار كلهم، فإنهم بصدد أن يقاتلوا، ذكره في (الكشاف)، أي ففعل‏ ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ مستعمل في مقارنة الفعل والتهيؤ له كما تقدم في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ [البقرة: 180]

5. المقاتلة مفاعلة وهي حصول الفعل من جانبين، ولما كان فعلها وهو القتل لا يمكن حصوله من جانبين؛ لأن أحد الجانبين إذا قتل لم يستطع أن يقتل كانت المفاعلة في هذه المادة بمعنى مفاعلة أسباب القتل أي المحاربة، فقوله:‏ ﴿وَقَاتَلُوا﴾ بمعنى وحاربوا والقتال الحرب بجميع أحوالها من هجوم ومنع سبل وحصار وإغارة واستيلاء على بلاد أو حصون.

6. إذا أسندت المفاعلة إلى أحد فاعليها فالمقصود أنه هو المبتدئ بالفعل، ولهذا قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فجعل فاعل المفاعلة المسلمين ثم قال: ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ فجعل فاعله ضمير عدوهم، فلزم أن يكون المراد دافعوا الذين يبتدئونكم.

7. المراد بالمبادأة دلائل القصد للحرب بحيث يتبين المسلمون أن الأعداء خرجوا لحربهم وليس المراد حتى يضربوا ويهجموا؛ لأن تلك الحالة يفوت على المسلمين تداركها، وهذا الحكم عام في الأشخاص لا محالة، وعموم الأشخاص يستلزم عموم‏ الأحوال والأمكنة والأزمنة على رأي المحققين، أو هو مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: 191] تخصيصا أو تقييدا ببعض البقاع.

8. ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ أي لا تبتدؤوا بالقتال وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ تحذير من الاعتداء؛ وذلك مسالمة للعدو واستبقاء لهم وإمهال حتى يجيئوا مؤمنين، وقيل: أراد ولا تعتدوا في القتال إن قاتلتم ففسر الاعتداء بوجوه كثيرة ترجع إلى تجاوز أحكام الحرب والاعتداء الابتداء بالظلم وتقدم عند قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ آنفا.

9. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾، هذا أمر بقتل من يعثر عليه منهم وإن لم يكن في ساحة القتال، فإنّه بعد أن أمرهم بقتال من يقاتلهم عمّم المواقع والبقاع زيادة في أحوال القتل وتصريحا بتعميم الأماكن فإن أهمية هذا الغرض تبعث على عدم الاكتفاء باقتضاء عموم الأشخاص تعميم الأمكنة ليكون المسلمون مأذونين بذلك فكل مكان يحل فيه العدو فهو موضع قتال، فالمعنى واقتلوهم حيث ثقفتموهم إن قاتلوكم.

10. عطفت الجملة على التي قبلها وإن كانت هي مكملة لها باعتبار أن ما تضمنته قتل خاص غير قتال الوغى فحصلت المغايرة المقتضية العطف، ولذلك قال هنا: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾ ولم يقل: وقاتلوهم مثل الآية قبلها تنبيها على قتل المحارب ولو كان وقت العثور عليه غير مباشر للقتال وأنه من خرج محاربا فهو قاتل وإن لم يقتل.

11. ﴿ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ بمعنى لقيتموهم لقاء حرب وفعله كفرح، وفسره في (الكشاف) بأنه وجود على حالة قهر وغلبة.

12. ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ أي يحل لكم حينئذ أن تخرجوهم من مكة التي أخرجوكم منها، وفي هذا تهديد للمشركين ووعد بفتح مكة، فيكون هذا اللقاء لهذه البشرى في نفوس المؤمنين ليسعوا إليه حتى يدركوه وقد أدركوه بعد سنتين، وفيه وعد من الله تعالى لهم بالنصر كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ [الفتح: 27] الآية.

13. ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ تذييل وأل فيه للجنس تدل على الاستغراق في المقام الخطابيّ، وهو حجة للمسلمين ونفي للتبعة عنهم في القتال بمكة إن اضطروا إليه، والفتنة إلقاء الخوف واختلال نظام العيش وقد تقدمت عند قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ [البقرة: 102]، إشارة إلى ما لقيه المؤمنون في مكة من الأذى بالشتم والضرب والسخرية إلى أن كان آخره الإخراج من الديار والأموال، فالمشركون محقوقون من قبل فإذا خفروا العهد استحقوا المؤاخذة بما مضى فيما كان الصلح مانعا من مؤاخذتهم عليه؛ وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لتكرر إضرارها بخلاف ألم القتل، ويراد منها أيضا الفتنة المتوقعة بناء على توقع أن يصدوهم عن البيت أو أن يغدروا بهم إذا حلوا بمكة، ولهذا اشترط المسلمون في صلح الحديبية أنهم يدخلون العام القابل بالسيوف في قرابها، والمقصد من هذا إعلان عذر المسلمين في قتالهم المشركين وإلقاء بغض المشركين في قلوبهم حتى يكونوا على أهبة قتالهم والانتقام منهم بصدور حرجة حنقة، وليس المراد من الفتنة خصوص الإخراج من الديار، لأن التذييل يجب أن يكون أعم من الكلام المذيّل.

14. ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، الجملة معطوفة على جملة ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ التي أفادت الأمر بتتبع المقاتلين بالتقتيل حيثما حلّوا سواء كانوا مشتبكين بقتال المسلمين أم كانوا في حالة تنقل أو تطلع أو نحو ذلك لأن أحوال المحارب لا تنضبط وليست في الوقت سعة للنظر في نواياه والتوسم في أغراضه، إذ قد يبادره إلى اغتيال عدوه في حال تردده وتفكره، فخص المكان الذي عند المسجد الحرام من عموم الأمكنة التي شملها قوله: ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي إن ثقفتموهم عند المسجد الحرام غير مشتبكين في قتال معكم فلا تقتلوهم، والمقصد من هذا حفظ حرمة المسجد الحرام التي جعلها الله له بقوله: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: 97]، فاقتضت الآية منع المسلمين من قتال المشركين عند المسجد الحرام، وتدل على منعهم من أن يقتلوا أحدا من المشركين دون قتال عند المسجد الحرام‏ بدلالة لحن الخطاب أو فحوى الخطاب.

15. جعلت غاية النهي بقوله: ﴿حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ أي فإن قاتلوكم عند المسجد فاقتلوهم عند المسجد الحرام، لأنهم خرقوا حرمة المسجد الحرام فلو تركت معاملتهم بالمثل لكان ذلك ذريعة إلى هزيمة المسلمين، فإن قاتلوا المسلمين عند المسجد الحرام عاد أمر المسلمين بمقاتلتهم إلى ما كان قبل هذا النهي فوجب على المسلمين قتالهم عند المسجد الحرام وقتل من ثقفوا منهم كذلك.

16. في قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوهُمْ﴾ تنبيه على الإذن بقتلهم حينئذ ولو في غير اشتباك معهم بقتال، لأنهم لا يؤمنون من أن يتخذوا حرمة المسجد الحرام وسيلة لهزم المسلمين، ولأجل ذلك جاء التعبير بقوله: ﴿فَاقْتُلُوهُمْ﴾ لأنه يشمل القتل بدون قتال والقتل بقتال، فقوله تعالى: ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ﴾ أي عند المسجد الحرام فاقتلوهم هنالك، أي فاقتلوا من ثقفتم منهم حين المحاربة، ولا يصدكم المسجد الحرام عن تقصي آثارهم لئلا يتخذوا المسجد الحرام ملجأ يلجئون إليه إذا انهزموا.

17. احتار كثير من المفسرين في انتظام هذه الآيات من قوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 190] إلى قوله هنا: ﴿كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ حتى لجأ بعضهم إلى دعوى نسخ بعضها ببعض فزعم أن آيات متقارنة بعضها نسخ بعضا؛ مع أن الأصل أن الآيات المتقارنة في السورة الواحدة نزلت كذلك ومع ما في هاته الآيات من حروف العطف المانعة من دعوى كون بعضها قد نزل مستقلا عن سابقه وليس هنا ما يلجئ إلى دعوى النسخ، ومن المفسرين من اقتصر على تفسير المفردات اللغوية والتراكيب البلاغية وأعرض عن بيان المعاني الحاصلة من مجموع هاته الآيات.

18. أذن الله للمسلمين بالقتال والقتل للمقاتل عند المسجد الحرام ولم يعبأ بما جعله لهذا المسجد من الحرمة؛ لأن حرمته حرمة نسبته إلى الله تعالى فلما كان قتال الكفار عنده قتالا لمنع الناس منه ومناوأة لدينه فقد صاروا غير محترمين له ولذلك أمرنا بقتالهم هنالك تأييدا لحرمة المسجد الحرام.

19. قرأ الجمهور: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ ثلاثتها بألف بعد القاف، وقرأ حمزة والكسائي: (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم) بدون ألف بعد القاف، فقال الأعمش لحمزة أرأيت قراءتك هذه كيف يكون الرجل قاتلا بعد أن صار مقتولا؟ فقال حمزة: (إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا)، يريد أن الكلام على حذف مضاف من المفعول كقوله:

çغضبت تميم أن تقتّل عامر...يوم النسار فأعتبوا بالصّيلم‏é

والمعنى ولا تقتلوا أحدا منهم حتى يقتلوا بعضكم فإن قتلوا بعضكم فاقتلوا من تقدرون عليه منهم وكذلك إسناد (قتلوا) إلى ضمير جماعة المشركين فهو بمعنى قتل بعضهم بعض المسلمين لأن العرب تسند فعل بعض القبيلة أو الملة أو الفرقة لما يدل على جميعها من ضمير كما هنا أو اسم ظاهر نحو قتلتنا بنو أسد، وهذه القراءة تقتضي أن المنهي عنه القتل فيشمل القتل باشتباك حرب والقتل بدون ملحمة.

20. دلت الآية بالنص على إباحة قتل المحارب إذا حارب في الحرم أو استولى عليه لأن الاستيلاء مقاتلة؛ فالإجماع على أنه لو استولى على مكة عدو، وقال: لا أقاتلكم وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال؛ نقله القرطبي عن ابن خويزمنداد من مالكية العراق، قال ابن خويزمنداد: وأما قوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ فيجوز أن يكون منسوخا بقوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: 193]

21. اختلفوا في دلالتها على جواز قتل الكافر المحارب إذا لجأ إلى الحرم بدون أن يكون قتال وكذا الجاني إذا لجأ إلى الحرم فارا من القصاص والعقوبة فقال مالك: بجواز ذلك واحتج على ذلك:

أ. بأن قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ [التوبة: 5] الآية قد نسخ هاته الآية وهو قول قتادة ومقاتل بناء على تأخر نزولها عن وقت العمل بهذه الآية والعام المتأخر عن العمل ينسخ الخاص اتفاقا.

ب. وبالحديث الذي‏ رواه في (الموطأ) عن أنس بن مالك‏ (أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء أبو برزة فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اقتلوه)، وابن خطل هذا هو عبد العزى بن خطل التيمي كان ممن أسلم ثم كفر بعد إسلامه وجعل دأبه سب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والإسلام، فأهدر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم الفتح دمه، فلما علم ذلك عاذ بأستار الكعبة، فأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقتله حينئذ، فكان قتل ابن خطل قتل حد لا قتل حرب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد وضع المغفر عن رأسه وقد انقضت الساعة التي أحل الله له فيها مكة.

ج. وبالقياس وهو أن حرمة المسجد الحرام متقررة في الشريعة فلما أذن الله بقتل من قاتل في المسجد الحرام علمنا أن العلة هي أن القتال فيه تعريض بحرمته للاستخفاف، فكذلك عياذ الجاني به.

22. بمثل قول مالك قال الشافعي، لكن قال الشافعي إذا التجأ المجرم المسلم إلى المسجد الحرام يضيق عليه حتى يخرج فإن لم يخرج جاز قتله، وقال أبو حنيفة: لا يقتل الكافر إذا التجأ إلى الحرم إلّا إذا قاتل فيه لنص هاته الآية وهي محكمة عنده غير منسوخة وهو قول طاووس ومجاهد، قال ابن العربي في (الأحكام): حضرت في بيت المقدس بمدرسة أبي عقبة الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة فبينا نحن كذلك إذ دخل رجل عليه أطمار فسلم سلام العلماء وتصدر في المجلس، فقال القاضي الزنجاني: من السيد؟ فقال: رجل من طلبة العلم بصاغان سلبه الشطار أمس، ومقصدي هذا الحرم المقدس فقال القاضي الزنجاني: سلوه عن العادة في مبادرة العلماء بمبادرة أسئلتهم، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا؟ فأجاب بأنه لا يقتل، فاسأل عن الدليل فقال: قوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ فإن قرئ (ولا تقتلوهم) فالآية نص وإن قرئ (ولا تقاتلوهم) فهي تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا على النهي عن القتل فاعترض عليه الزنجاني منتصرا لمالك والشافعي وإن لم ير مذهبهما على العادة، فقال هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5] فقال الصاغاني: هذا لا يليق بمنصب القاضي، فإن الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن والتي احتججت بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول: إن العام ينسخ الخاص فأبهت القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام.

23. جواب هذا أن العام المتأخر عن العمل بالخاص ناسخ وحديث ابن خطل دل على أن الآية التي في براءة ناسخة لآية البقرة، وأما قول الحنفية وبعض المالكية: إن قتل ابن خطل كان في اليوم الذي أحل الله له فيه مكة فيدفعه أن تلك الساعة انتهت بالفتح وقد ثبت في ذلك الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد نزع حينئذ المغفر وذلك أمارة انتهاء ساعة الحرب، وقال ابن العربي في (الأحكام): الكافر إذا لم يقاتل ولم يجن جناية ولجأ إلى الحرم فإنه لا يقتل، يريد أنه لا يقتل القتل الذي اقتضته آية ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ وهو مما شمله قوله تعالى: ﴿لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‏﴾

24. ﴿كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾، الإشارة إلى القتل المأخوذ من قوله: ﴿فَاقْتُلُوهُمْ﴾ أي كذلك القتل جزاؤهم على حد ما تقدم في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143] ونكتة الإشارة تهويله أي لا يقل جزاء المشركين عن القتل ولا مصلحة في الإبقاء عليهم؛ وهذا تهديد لهم، فقوله:‏ ﴿كَذَلِكَ﴾ خبر مقدم للاهتمام وليست الإشارة إلى‏ ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 190] لأن المقاتلة ليست جزاء؛ إذ لا انتقام فيها بل القتال سجال يوما بيوم.

25. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي فإن انتهوا عن قتالكم فلا تقتلوهم؛ لأن الله غفور رحيم، فينبغي أن يكون الغفران سنة المؤمنين، فقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ جواب الشرط وهو إيجاز بديع؛ إذ كل سامع يعلم أن وصف الله بالمغفرة والرحمة لا يترتب على الانتهاء فيعلم أنه تنبيه لوجوب المغفرة لهم إن انتهوا بموعظة وتأييد للمحذوف، وهذا من إيجاز الحذف، والانتهاء: أصله مطاوع نهى يقال: نهاه فانتهى ثم توسع فيه فأطلق على الكف عن عمل أو عن عزم؛ لأن النهي هو طلب ترك فعل سواء كان الطلب بعد تلبس المطلوب بالفعل أو قبل تلبسه به قال النابغة:

çلقد نهيت بني ذبيان عن أقر...وعن تربّعهم في كل أصفارé

أي عن الوقوع في ذلك.

26. ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ عطف على جملة ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190] وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف هذه الجملة؛ لأنها مبينة لما أجمل من غاية الأمر بقتال المشركين ولكنها عطفت لما وقع من الفصل بينها وبين الجملة المبيّنة.

27. تضمنت الجمل السابقة من قوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 191] إلى هنا تفصيلا لجملة ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ لأن عموم‏ ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ تنشأ عنه احتمالات في الأحوال والأزمنة والبقاع، وقد انقضى بيان أحوال‏ البقاع وأفضت التوبة الآن إلى بيان تحديد الأحوال بغاية ألا تكون فتنة، فإذا انتهت الفتنة فتلك غاية القتال، أي إن خاسوا بالعهد وخفروا الذمة في المدة التي بينكم على ترك القتال فقد أصبحتم في حل من عهدهم فلكم أن تقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أخرى من بعد يفتنونكم بها، وحتى يدخلوا في الإسلام، فهذا كله معلق بالشرط المتقدم في قوله: ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: 191]، فإعادة فعل‏ ﴿وَقَاتِلُوهُمْ﴾ لتبنى عليه الغاية بقوله: ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ وبتلك الغاية حصلت المغايرة بينه وبين‏ ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهي التي باعتبارها ساغ عطفه على مثله، فـ (حتى) في قوله: ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ﴾ إما أن تجعل للغاية مرادفة إلى، وإما أن تجعل بمعنى كي التعليلية وهما متلازمان؛ لأن القتال لما غيي بذلك تعين أن الغاية هي المقصد، ومتى كانت الغاية غير حسية نشأ عن (حتى) معنى التعليل، فإن العلة غاية اعتبارية كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ﴾ [البقرة: 217]، وأيّا ما كان فالمضارع منصوب بعد (حتى) بأن مضمرة للدلالة على ترتب الغاية.

28. الفتنة تقدمت قريبا، والمراد بها هنا كالمراد بها هنالك، ولما وقعت هنا في سياق النفي عمت جميع الفتن فلذلك ساوت المذكورة هنا المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: 191]، فإعادة الفتنة منكرة هنا لا يدل على المغايرة كما هو الشائع بين المعربين في أن المعرفة إذا أعيدت نكرة فهي غير الأولى؛ لأن وقوعها في سياق النفي أفاد العموم فشمل جميع أفراد الفتنة مساويا للفتنة المعرفة بلام الاستغراق إلّا أنه استغراق عرفي بقرينة السياق فتقيد بثلاثة قيود بالقرينة أي حتى لا تكون فتنة منهم للمسلمين في أمر الدين وإلّا فقد وقعت فتن بين المسلمين أنفسهم كما في حديث: (ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلّا دخلته)

29. انتفاء الفتنة يتحقق بأحد أمرين: إما بأن يدخل المشركون في الإسلام فتنزل فتنتهم فيه، وإما بأن يقتلوا جميعا فتزول الفتنة بفناء الفاتنين، وقد يفرض انتفاء الفتنة بظهور المسلمين عليهم ومصير المشركين ضعفاء أمام قوة المسلمين، بحيث يخشون بأسهم، إلّا أن الفتنة لما كانت ناشئة عن التصلب في دينهم وشركهم لم تكن بالتي تضمحل عند ضعفهم، لأن الإقدام على إرضاء العقيدة يصدر حتى من الضعيف كما صدر من اليهود غير مرة في المدينة في مثل قصة الشاة المسمومة، وقتلهم عبد الله بن سهل الحارثي في خيبر، ولذلك فليس المقصود هنا إلّا أحد أمرين: إما دخولهم في الإسلام وإما إفناؤهم بالقتل، وقد حصل كلا الأمرين في المشركين ففريق أسلموا، وفريق قتلوا يوم بدر وغيره من الغزوات، ومن ثم قال علماؤنا: لا تقبل من مشركين العرب الجزية، ومن ثم فسر بعض المفسرين الفتنة هنا بالشرك تفسيرا باعتبار المقصود من المعنى لا باعتبار مدلول اللفظ.

30. ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ عطف على‏ ﴿لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ فهو معمول لأن المضمرة بعد ﴿حَتَّى﴾ أي وحتى يكون الدين لله، أي حتى لا يكون دين هنالك إلّا لله أي وحده، فالتعريف في الدين تعريف الجنس، لأن الدين من أسماء المواهي التي لا أفراد لها في الخارج فلا يحتمل تعريفه معنى الاستغراق.

31. اللام الداخلة على اسم الجلالة لام الاختصاص أي حتى يكون جنس الدين مختصا بالله تعالى على نحو ما قرر في قوله: ﴿الْحَمْدُ لله﴾ [الفاتحة: 2]، وذلك يؤول إلى معنى الاستغراق، ولكنه ليس عينه، إذ لا نظر في مثل هذا للأفراد، والمعنى: ويكون دين الذين تقاتلونهم خالصا لله لا حظ للإشراك فيه.

32. المقصود من هذا تخليص بلاد العرب من دين الشرك وعموم الإسلام لها؛ لأن الله اختارها لأن تكون قلب الإسلام ومنبع معينه فلا يكون القلب صالحا إذا كان مخلوط العناصر.

33. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، أي فإن انتهوا عن نقض الصلح أو فإن انتهوا عن الشرك بأن آمنوا فلا عدوان عليهم، وهذا تصريح بمفهوم قوله: ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190] واحتيج إليه لبعد الصفة بطول الكلام ولاقتضاء المقام التصريح بأهم الغايتين من القتال؛ لئلا يتوهم أن آخر الكلام نسخ أوله وأوجب قتال المشركين في كل حال.

34. ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ قائم مقام جواب الشرط لأنه علة الجواب المحذوف، والمعنى فإن انتهوا عن قتالكم ولم يقدموا عليه فلا تأخذوهم بالظنة ولا تبدؤوهم بالقتال، لأنهم غير ظالمين؛ وإذ لا عدوان إلّا على الظالمين، وهو مجاز بديع، والعدوان هنا إما مصدر عدا بمعنى وثب وقاتل أي فلا هجوم عليهم، وإما مصدر عدا بمعنى ظلم كاعتدى فتكون تسميته عدوانا مشاكلة لقوله: ﴿عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ كما سمي جزاء السيئة بالسوء سيئة، وهذه المشاكلة تقديرية.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/197.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1). نفس ما ذكره القرطبي، وما سبق ذكره، وقد قال الناشر في بيان سبب ذلك: بدءا من الآية 190: 193 من سورة البقرة ساقط من الأصل؛ وقد آثرنا استكماله من تفسير القرطبي، لما له من مركز الصدارة في مراجع المؤلف رحمه الله، وإتماما للفائدة بعيدا عن اجتهادٍ ربما لَا يرضاه المصنف رحمه الله تعالى. والله من وراء القصد.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/575.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. في مجمع البيان عن ابن عباس ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة وكانوا ألفا وأربعمائة، وحين وصلوا الحديبية صدهم المشركون عن البيت الحرام، فنحروا الهدي في الحديبية، ثم صالحهم المشركون على أن يرجعوا ويعودوا في العام المقبل.. فلما كان العام المقبل تجهز المسلمون لقضاء العمرة، ولكنهم خافوا ان لا تفي لهم قريش ويقاتلوهم، وكره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه قتال المشركين في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله هذه الآية، واذن لهم بالقتال، وقال جماعة: انها أول آية نزلت في القتال.

2. قال بعض الجدد من الذين يغارون على الإسلام، ويحاولون الذب عنه بكل وجه، حتى ولو خالف منهج القرآن، قالوا: ان الإسلام لا يجيز قتال أحد الا من أصر على القتال، وابتدأ به، وان الحروب الاسلامية في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كانت دفاعية، لا هجومية، واستدلوا بآيات، منها هذه الآية: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، ومنها: ﴿وقاتلوا المشركين كما يقاتلونكم كافة﴾.. والذي‏ دفعهم الى هذا القول ما يردده أعداء الإسلام من انه دين حرب، لا دين سلام متذرعين بحروب الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، والحق ان الإسلام أجاز القتال في موارد:

أ. منها الدفاع عن النفس.

ب. ومنها قتال أهل البغي، قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الآخرى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾

ج. ومنها: القتال للقضاء على الكفر بالله، قال تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾، وقال الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله، فان قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)، ولكن هذا النوع من الجهاد والقتال لا يجوز الا بإذن المعصوم أو نائبه تحرزا من الفوضى.

3. ان جواز القتال دفاعا عن النفس لا يدل على عدم الاذن بالقتال لغاية أخرى، كالقضاء على البغي والكفر.. ان الإسلام يجيز الحرب والقتال من أجل التدين بدين الحق والعدل، لأن الكفر عدوان بذاته في مفهوم الإسلام، ويحرم القتال من أجل استعباد الشعوب، ونهب مقدراتها، والسيطرة على أسواقها.. لقد أجاز الإسلام العنف للقضاء على الجرائم والآثام، والدفاع عن حقوق الإنسان وحريته وكرامته.. وأثار المستعمرون الحروب، وسفكوا الدماء، وسخروا العلم للتخريب والفناء من أجل النهب والسلب، وسيادة الظلم والعدوان.

4. هذا هو الجواب الصحيح الذي ينبغي أن يجاب به الذين يحاولون النيل من الإسلام ونبي الإسلام متذرعين بأنه دين القتال والسيف.. ان الإسلام ايجابي، لا سلبي.. انه حرب على كل من لا يدين بدين الحق والعدل، ويبغي في الأرض الفساد.. والكفر بالله ظلم وفساد في دين الإسلام وشريعته.

5. لا بد من الاشارة بهذه المناسبة الى ان فقهاء المذاهب الاسلامية كافة اتفقوا كلمة واحدة على ان كل من انتهك حرمات الله مستحلا لها ولسفك الدماء، ونهب الأموال المحرمة بضرورة الدين فهو والكافر بالله سواء، حتى ولو صلى وصام وحج الى بيت الله الحرام، بل ان هذا أسوأ حالا ممن كفر وحرم سفك الدماء ونهب الأموال، وكف أذاه عن الناس.. ان كلا منهما كافر ما في ذلك ريب، ولكن هذا كافر كف شره وأذاه عن عباد الله وعياله، وذاك كافر مسيء الى الله وعباده وعياله.. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خير الناس أنفع الناس للناس، وشر الناس من تخاف الناس من شره).. ومرة ثانية ان كل من أنكر حكما شرعيا ثبت بالبديهة الدينية واجماع المسلمين كافة فهو كافر بالاتفاق، وان تولد من أبوين مسلمين، ونطق بالشهادتين.

6. ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ أي لا تقاتلوا بدافع المنفعة الشخصية، بل قاتلوا بدافع انساني شريف، وقصد الذب عن الدين والحق، ولا تقتلوا النساء والأطفال والشيوخ والمرضى، ولا تخربوا العمار، وتقطعوا الأشجار.. وكل هذه التعاليم وما اليها قد وردت في السنة النبوية.

7. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾، أي اقتلوا الكافرين في أي زمان أو مكان كانوا إلا في المسجد الحرام فان القتال فيه محرم إلا أن يبتدئوا به.

8. سؤال وإشكال: ان الآية الأولى أمرت بقتال من يقاتل المسلمين، وهذه أطلقت ولم تقيد، فهل هذه ناسخة لتلك كما قيل؟ والجواب: لا نسخ، ومنذ قريب أشرنا الى أن جواز القتال دفاعا عن النفس لا يدل على عدم الاذن بالقتال لغاية أخرى، كالقضاء على الكفر والظلم، وبكلمة إذا قلت لإنسان: أنت طيب ليس معنى قولك هذا ان غيره ليس بطيب، فكذلك قوله تعالى: ﴿قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ‏﴾ ليس معناه لا تقاتلوا من لا يقاتلكم، أجل، لو قال لا تقاتلوا إلا من يقاتلكم لدل هذا الحصر على النفي.

9. ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾، أخرج مشركو مكة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه منها، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ورسوله، فأمر الله نبيه والمسلمين إن عادوا إلى مكة منتصرين ان يخرجوا منها من لا يؤمن بالله ورسوله، تماما كما فعل المشركون من قبل جزاء وفاقا، وقيل: ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخرج المشركين‏ من مكة بعد ان جاء نصر الله والفتح عملا بهذه الآية.

10. ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾، هذا تعليل لجواز قتل المشركين، والمراد بالفتنة الشرك، وعليه يكون المعنى انما جاز لكم قتل المشركين، لأن ذنب الشرك أشد قبحا من ذنب القتل، وفي بعض التفاسير ان الله سبحانه أراد بقوله: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ ان مشركي مكة في بدء الدعوة كانوا يفتنون من أسلم عن دينه بالإيذاء والتعذيب، والإخراج من الوطن، ومصادرة الأموال، وهذه الأعمال فتنة، وهي أشد قبحا من القتل، ومن أجل هذا جاز لكم قتلهم وإخراجهم من ديارهم.. ومهما يكن، فان المراد من لفظ الفتنة في القرآن الكريم غير النميمة ونقل الكلام، كما توهم الكثيرون.

11. ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾، هذا شرط لجواز القتال في الحرم الشريف الذي حرم الله القتال فيه إلا إذا انتهكت حرمته بالقتال.

12. ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾، لأنهم ابتدأوا وانتهكوا حرمة المسجد الحرام، والبادئ ليس بأظلم، بل هو وحده الظالم.

13. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، ورعاية السياق تقتضي أن يكون المعنى إن كفوا عن القتال عند المسجد الحرام فكفوا عنهم واغفروا لهم، لأن السبب الموجب لقتالهم هو ابتداؤهم بالقتال، فإن كفوا زال السبب، وقال كثير من المفسرين: المعنى ان تابوا عن الكفر وآمنوا بالله ورسوله، لأن الكافر لا يغفر الله له بترك القتال، بل بترك الكفر.. وهذا تحكم على الله جل وعلا، فإنه يغفر لمن يشاء، حتى ولو كان كافرا.. أجل، انه تعالى لا يعذب المحسن قطعا، لأنه عادل، ولكنه يعفو عن المسيء مهما كانت الاساءة، لأنه كريم رحيم.

14. ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ أي ان الجهاد من أجل الايمان بالله، والقضاء على الجحود واجب ما دام على وجه الأرض أثر للشرك والإلحاد، فإذا زال الإلحاد، وآمن الناس جميعا بالله سقط وجوب الجهاد.

15. تجمل الاشارة الى ان وجوب الجهاد من أجل انتشار الإسلام مشروط بإذن الإمام العادل، ولا يجوز بحال من غير أمره، أما الجهاد دفاعا عن الدين والنفس فان وجوبه مطلق غير مقيد بشيء.

16. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، أي فان انتهوا عن الكفر، وأسلموا فلا يحل قتالهم إلا بسبب موجب للقتل، وهو واحد من ثلاثة: كفر بعد ايمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/296.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. سياق الآيات الشريفة يدل على أنها نازلة دفعة واحدة، وقد سيق الكلام فيها لبيان غرض واحد وهو تشريع القتال لأول مرة مع مشركي مكة، فإن فيها تعرضا لإخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين، وللفتنة، وللقصاص، والنهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده، وكل ذلك أمور مربوطة بمشركي مكة، على أنه تعالى قيد القتال بالقتال في قوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ وليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم إن قاتلوكم وهو ظاهر، ولا قيدا احترازيا، والمعنى قاتلوا الرجال دون النساء والولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم، إذ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته، ويقال: لا تقاتله بل إنما الصحيح النهي عن قتله دون قتاله، بل الظاهر أن الفعل أعني يقاتلونكم، للحال والوصف للإشارة، والمراد به الذين حالهم حال القتال مع المؤمنين وهم مشركو مكة.

2. فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾، إذن ابتدائي للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط.

3. على أن الآيات الخمس جميعا متعرضة لبيان حكم واحد بحدوده وأطرافه ولوازمه:

أ. فقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، لأصل الحكم.

ب. وقوله تعالى: ﴿لا تَعْتَدُوا﴾ إلخ، تحديد له من حيث الانتظام.

ج. وقوله تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾ (إلخ)، تحديد له من حيث التشديد.

د. وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (إلخ)، تحديد له من حيث المكان.

هـ. وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ (إلخ)، تحديد له من حيث الأمد والزمان.

و. وقوله تعالى: ﴿الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ (إلخ)، بيان أن هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال والقتل ومعاملة بالمثل معهم.

ز. وقوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا﴾، إيجاب لمقدمته المالية وهو الإنفاق للتجهيز والتجهز.

4. فيقرب أن يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضا كما احتمله بعضهم، ولا أن تكون نازلة في شئون متفرقة كما ذكره آخرون، بل الغرض منها واحد وهو تشريع القتال مع مشركي مكة الذين كانوا يقاتلون المؤمنين.

5. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، وكونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم فإنما هو في الإسلام دفاع يحفظ به حق الإنسانية المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبينه، فإن الدفاع محدود بالذات، والتعدي خروج عن الحد، ولذلك عقبه بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾

6. ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ الاعتداء هو الخروج عن الحد، يقال عدا واعتدى إذا جاوز وحده، والنهي عن الاعتداء مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق، والابتداء بالقتال، وقتل النساء والصبيان، وعدم الانتهاء إلى العدو، وغير ذلك مما بينه السنة النبوية.

7. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿مِنَ الْقَتْلِ﴾، يقال ثقف ثقافة أي وجد وأدرك فمعنى الآية معنى قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، والفتنة هو ما يقع به اختبار حال الشيء، ولذلك يطلق على نفس الامتحان والابتلاء وعلى ما يلازمه غالبا وهو الشدة والعذاب على ما يستعقبه كالضلال والشرك، وقد استعمل في القرآن الشريف في جميع هذه المعاني، والمراد به في الآية الشرك بالله ورسوله بالزجر والعذاب كما كان يفعله المشركون بمكة بالمؤمنين بعد هجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقبلها، فالمعنى شددوا على المشركين بمكة كل التشديد بقتلهم حيث وجدوا حتى ينجر ذلك إلى خروجهم من ديارهم وجلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك، وما فعلوه أشد فإن ذلك منهم كان فتنة والفتنة أشد من القتل لأن في القتل انقطاع الحياة الدنيا، وفي الفتنة انقطاع الحياتين وانهدام الدارين.

8. ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ (إلخ)، فيه نهي عن القتال عند المسجد الحرام حفظا لحرمته ما حفظوه، والضمير في قوله: ﴿فِيهِ﴾ راجع إلى‏ المكان المدلول عليه بقوله عند المسجد.

9. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، الانتهاء الامتناع والكف، والمراد به الانتهاء عن مطلق القتال عند المسجد الحرام دون الانتهاء عن مطلق القتال بطاعة الدين وقبول الإسلام فإن ذلك هو المراد بقوله ثانيا: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ﴾، وأما هذا الانتهاء فهو قيد راجع إلى أقرب الجمل إليه وهو قوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ﴾، وعلى هذا فكل من الجملتين أعني قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ﴾، قيد لما يتصل به من الكلام من غير تكرار، وفي قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وضع السبب موضع المسبب إعطاء لعلة الحكم، والمعنى فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم.

10. ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾، تحديد لأمد القتال كما مر ذكره، والفتنة في لسان هذه الآيات هو الشرك باتخاذ الأصنام كما كان يفعله ويكره عليه المشركون بمكة، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾، والآية نظيرة لقوله تعالى: ﴿وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى‏ وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾، وفي الآية دلالة على وجوب الدعوة قبل القتال، فإن قبلت فلا قتال وإن ردت فلا ولاية إلا لله ونعم المولى ونعم النصير، ينصر عباده المؤمنين، ومن المعلوم أن القتال إنما هو ليكون الدين لله، ولا معنى لقتال هذا شأنه وغايته إلا عن دعوة إلى الدين الحق وهو الدين الذي يستقر على التوحيد.

11. يظهر من هذا الذي ذكرناه أن هذه الآية ليست بمنسوخة بقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ بناء على أن دينهم لله سبحانه وتعالى، وذلك أن الآية أعني قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، خاصة بالمشركين غير شاملة لأهل الكتاب، فالمراد، بكون الدين لله سبحانه وتعالى هو أن لا يعبد الأصنام ويقر بالتوحيد، وأهل الكتاب مقرون به، وإن كان ذلك كفرا منهم بالله بحسب الحقيقة كما قال تعالى: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ﴾، لكن الإسلام قنع منهم‏ بمجرد التوحيد، وإنما أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية لإعلاء كلمة الحق على كلمتهم وإظهار الإسلام على الدين كله.

12. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، أي فإن انتهوا عن الفتنة وآمنوا بما آمنتم به فلا تقاتلوهم فلا عدوان إلا على الظالمين، فهو من وضع السبب موضع المسبب كما مر نظيره في قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الآية، فالآية كقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾

13. الجهاد الذي يأمر به القرآن مر بمراحل:

أ. كان القرآن يأمر المسلمين بالكف عن القتال والصبر على كل أذى في سبيل الله‏ سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾، إلى قوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ﴾، وكان هذه الآية تشير إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾

ب. ثم نزلت آيات القتال:

فمنها آيات القتال مع مشركي مكة ومن معهم بالخصوص كقوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾

ومن الممكن أن تكون هذه الآية نزلت في الدفاع الذي أمر به في بدر وغيرها، وكذا قوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾، وكذا قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾

ومنها آيات القتال مع أهل الكتاب، قال تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾

ومنها آيات القتال مع المشركين عامة، وهم غير أهل الكتاب كقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، وكقوله تعالى: ﴿قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾

ومنها ما يأمر بقتال مطلق الكفار كقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾

14. جملة الأمر أن القرآن يذكر أن الإسلام ودين التوحيد مبني على أساس الفطرة وهو القيم على إصلاح الإنسانية في حياتها كما قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، فإقامته والتحفظ عليه أهم حقوق الإنسانية المشروعة كما قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾، ثم يذكر أن الدفاع عن هذا الحق الفطري المشروع حق آخر فطري، قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، فبين أن قيام دين التوحيد على ساقه وحياة ذكره منوط بالدفاع، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾، وقال تعالى في ضمن آيات القتال من سورة الأنفال: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾، ثم قال تعالى: بعد عدة آيات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، فسمى الجهاد والقتال الذي يدعى له المؤمنون محييا لهم، ومعناه أن القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الإسلام أو كان قتالا ابتدائيا كل ذلك بالحقيقة دفاع عن حق الإنسانية في حياتها ففي الشرك بالله سبحانه هلاك الإنسانية وموت الفطرة، وفي القتال وهو دفاع عن حقها إعادة لحياتها وإحياؤها بعد الموت.

15. من هناك يستشعر الفطن اللبيب: أنه ينبغي أن يكون للإسلام حكم دفاعي في تطهير الأرض من لوث مطلق الشرك وإخلاص الإيمان لله سبحانه وتعالى فإن هذا القتال الذي تذكره الآيات المذكورة إنما هو لإماتة الشرك الظاهر من الوثنية، أو لإعلاء كلمة الحق على كلمة أهل الكتاب بحملهم على إعطاء الجزية، مع أن آية القتال معهم تتضمن أنهم لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يدينون دين الحق فهم وإن كانوا على التوحيد لكنهم مشركون بالحقيقة مستبطنون ذلك، والدفاع عن حق الإنسانية الفطري يوجب حملهم على الدين الحق.

16. القرآن وإن لم يشتمل من هذا الحكم على أمر صريح لكنه يبوح بالوعد بيوم للمؤمنين على أعدائهم لا يتم أمره إلا بإنجاز الأمر بهذه المرتبة من القتال، وهو القتال لإقامة الإخلاص في التوحيد قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَدِينِ الْحَقِ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾، وأظهر منه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، وأصرح منه قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾، فقوله تعالى: ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ يعني به عبادة الإخلاص بحقيقة الإيمان بقرينة قوله تعالى: ﴿لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾، مع أنه تعالى يعد بعض الإيمان شركا، قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾، فهذا ما وعده تعالى من تصفية الأرض وتخليتها للمؤمنين يوم لا يعبد فيه غير الله حقا.

17. ربما يتوهم المتوهم أن ذلك وعد بنصر إلهي بمصلح غيبي من غير توسل بالأسباب الظاهرة لكن ينافيه قوله: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، فإن‏ الاستخلاف‏ إنما هو بذهاب بعض وإزالتهم عن مكانهم ووضع آخرين مقامهم ففيه إيماء إلى القتال.

18. على أن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ ـ على ما سيجيء في محله ـ يشير إلى دعوة حقة، ونهضة دينية ستقع عن أمر إلهي ويؤيد أن هذه الواقعة الموعودة إنما تقع عن دعوة جهاد.

19. بما مر من البيان يظهر الجواب عما ربما يورد على الإسلام في تشريعه الجهاد بأنه خروج عن طور النهضات الدينية المأثورة عن الأنبياء السالفين فإن دينهم إنما كان يعتمد في سيره وتقدمه على الدعوة، والهداية دون الإكراه على الإيمان بالقتال المستتبع للقتل والسبي والغارات، ولذلك ربما سماه بعضهم كالمبلغين من النصارى بدين السيف والدم وآخرون بدين الإجبار والإكراه، وذلك أن القرآن يبين أن الإسلام مبني على قضاء الفطرة الإنسانية التي لا ينبغي أن يرتاب أن كمال الإنسان في حياته هو ما قضت به وحكمت ودعت إليه، وهي تقضي بأن التوحيد هو الأساس الذي يجب بناء القوانين الفردية والاجتماعية عليه، وأن الدفاع‏ عن هذا الأصل بنشره بين الناس وحفظه من الهلاك والفساد حق مشروع للإنسانية يجب استيفاؤه بأي وسيلة ممكنة، وقد روعي في ذلك طريق الاعتدال، فبدأ بالدعوة المجردة والصبر على الأذى في جنب الله، ثم الدفاع عن بيضة الإسلام ونفوس المسلمين وأعراضهم وأموالهم، ثم القتال الابتدائي الذي هو دفاع عن حق الإنسانية وكلمة التوحيد ولم يبدأ بشيء من القتال إلا بعد إتمام الحجة بالدعوة الحسنة كما جرت عليه السنة النبوية، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، والآية مطلقة، وقال تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾

20. ما ذكروه من استلزامه الإكراه عند الغلبة فلا ضير فيه بعد توقف إحياء الإنسانية على تحميل الحق المشروع على عدة من الأفراد بعد البيان وإقامة الحجة البالغة عليهم، وهذه طريقة دائرة بين الملل والدول فإن المتمرد المتخلف عن القوانين المدنية يدعى إلى تبعيتها ثم يحمل عليه بأي وسيلة أمكنت ولو انجر إلى القتال حتى يطيع وينقاد طوعا أو كرها، على أن الكره إنما يعيش ويدوم في طبقة واحدة من النسل، ثم التعليم والتربية الدينيان يصلحان الطبقات الآتية بإنشائها على الدين الفطري وكلمة التوحيد طوعا.

21. أما ما ذكروه: أن سائر الأنبياء جروا على مجرد الدعوة والهداية فقط فالتاريخ الموجود من حياتهم يدل على عدم اتساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال كنوح وهود وصالح عليه السلام فقد كان أحاط بهم القهر والسلطنة من كل جانب، وكذلك كان عيسى عليه السلام أيام إقامته بين الناس واشتغاله بالدعوة وإنما انتشرت دعوته وقبلت حجته في زمان طرو النسخ على شريعته وكان ذلك أيام طلوع الإسلام.

22. على أن جمعا من الأنبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصه التوراة، والقرآن يذكر طرفا منه، قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، وقال تعالى ـ يقص دعوة موسى قومه إلى قتال العمالقة ـ: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾، إلى أن قال ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ إلى أن قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، إلى آخر قصة طالوت وجالوت، وقال تعالى في قصة سليمان وملكة سبإ: ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ إلى أن قال: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾، ولم يكن هذا الذي كان يهددهم بها بقوله: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ (إلخ)، إلا قتالا ابتدائيا عن دعوة ابتدائية.

23. لا ريب أن الاجتماع أينما وجد كاجتماع نوع الإنسان وسائر الاجتماعات المختلفة النوعية التي نشاهدها في أنواع من الحيوان فإنما هو مبني على أساس الاحتياج الفطري الموجود فيها الذي يراد به حفظ الوجود والبقاء، وكما أن الفطرة والجبلة أعطتها حق التصرف في كل ما تنتفع بها في حياتها من حفظ الوجود والبقاء كالإنسان يتصرف في الجماد والنبات والحيوان حتى في الإنسان بأي وسيلة ممكنة فيرى لنفسه حقا في ذلك وإن زاحم حقوق غيره من الحيوان وكمال غيره من النبات والجماد، وكأنواع الحيوان في تصرفاتها في غيرها وإذعانها بأن لها حقا في ذلك كذلك أعطتها حق الدفاع عن حقوقها المشروعة لها بحسب فطرتها إذ كان لا يتم حق التصرف بدون حق الدفاع فالدار دار التزاحم، والناموس ناموس التنازع في البقاء، فكل نوع يحفظ وجوده وبقاءه بالشعور والحركة يرى لنفسه حق الدفاع عن حقوقه بالفطرة، ويذعن بأن ذلك مباح له كما يذعن بإباحة تصرفه المذكور، ويدل على ذلك ما نشاهده في أنواع الحيوان: من أنها تتوسل عند التنازع بأدواتها البدنية الصالحة لأن تستعمل في الدفاع كالقرون والأنياب والمخالب والأظلاف والشوك والمنقار وغير ذلك، وبعضها الذي لم يتسلح بشيء من هذه الأسلحة الطبيعية القوية تستريح إلى الفرار أو الاستتار أو الخمود كبعض الصيد والسلحفاة وبعض الحشرات، وبعضها الذي يقدر على إعمال الحيل والمكائد ربما أخذ بها في الدفاع كالقرد والدب والثعلب وأمثالها.

24. الإنسان من بين الحيوان مسلح بالشعور الفكري الذي يقدر به على استخدام غيره في سبيل الدفاع كما يقدر عليه في سبيل التصرف للانتفاع، وله فطرة كسائر الأنواع، ولفطرته قضاوة وحكم، ومن حكمها أن للإنسان حقا في التصرف، وحقا في الدفاع عن حقه الفطري، وهذا الحق الذي يذعن به الإنسان بفطرته هو الذي يبعثه نحو المقاتلة والمقارعة في جميع الموارد التي يهم بها فيها في الاجتماع الإنساني دون حكم الاستخدام الذي يحكم به حكما أوليا فطريا فيستخدم به كل ما يمكنه أن يستخدمه في طريق منافعه الحيوية فإن هذا الحكم معدل بالاجتماع إذ الإنسان إذا أحس بحاجته إلى استخدام غيره من بني نوعه ثم علم بأن سائر الأفراد من نوعه أمثاله في الحاجة اضطر إلى المصالحة والموافقة على التمدن والعدل الاجتماعي بأن يخدم غيره بمقدار ما يستخدم غيره حسب ما يزنه الاحتياج بميزانه ويعدله الاجتماع بتعديله.

25. من هنا يعلم: أن الإنسان لا يستند في شيء من مقاتلاته إلى حكم الاستخدام والاستعباد المطلق الذي يذعن به في أول أمره فإن هذا حكم مطلق نسخه الإنسان بنفسه عند أول وروده في الاجتماع واعترف بأنه لا ينبغي أن يتصرف في منافع غيره إلا بمقدار يؤتي غيره من منافع نفسه، بل إنما يستند في ذلك إلى حق الدفاع عن حقوقه في منافعه فيفرض لنفسه حقا ثم يشاهد تضييعه فينهض إلى الدفاع عنه، فكل قتال دفاع في الحقيقة، حتى أن الفاتحين من الملوك والمتغلبين من الدول يفرضون لأنفسهم نوعا من الحق كحق الحاكمية ولياقة التأمر على غيرهم أو عسرة في المعاش أو مضيقة في الأرض أو غير ذلك فيعتذرون بذلك في مهاجمتهم على الناس وسفك الدماء وفساد الأرض وإهلاك الحرث والنسل.

26. فقد تبين: أن الدفاع عن حقوق الإنسانية حق مشروع فطري مباح الاستيفاء للإنسان نعم لما كان هذا حقا مطلوبا لغيره لا لنفسه يجب أن يوازن بما للغير من الأهمية فلا يقدم على الدفاع إلا إذا كان ما يفوت الإنسان بالدفاع من المنافع هو دون الحق‏ الضائع المستنقذ في الأهمية الحيوية، وقد أثبت القرآن أن أهم حقوق الإنسانية هو التوحيد والقوانين الدينية المبنية عليه كما أن عقلاء الاجتماع الإنساني على أن أهم حقوقها هو حق الحياة تحت القوانين الحاكمة على المجتمع الإنساني التي تحفظ منافع الأفراد في حياتهم.

27. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بما يتوافق مع ما ذكره سابقا.

28. أخرج البخاري وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر: أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فما يمنعك أن تخرج؟ قال: (يمنعني أن الله حرم دم أخي، قالا: ألم يقل الله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ قال قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ـ ويكون الدين لغير الله)، وقد أخطأ في معنى الفتنة وأخطأ السائلان، وقد مر بيانه، وإنما المورد من مصاديق الفساد في الأرض أو الاقتتال عن بغي ولا يجوز للمؤمنين أن يسكتوا فيه.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/60.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ لأنهم يقاتلونكم محاربة لدين الله وصدّاً عن سبيل الله، فقاتلوهم حماية لدين الله، وقصداً لإعلاء كلمة الله، وفيها دلالة على وجوب نية ذلك في القتال لا مجرد الدفاع، فإنه لا يكفي وإن كان حسناً، بل واجباً، بدليل قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ [آل عمران:167] لأن المقصود الاستعانة بهم على دفع العدو، وقد عرف منهم أنهم لا يريدون القتال في سبيل الله، فكأنه قيل: قاتلوا في سبيل الله، فإن لم تريدوا ذلك فادفعوا العدو، فليس المراد التخيير في التكليف الشرعي، وإنما المراد قاتلوا على أية حال، ولو لم يكن إلاَّ دفعاً للعدو، وهذا واضح.

2. الحاصل: أن قتال العدوّ لدفعه واجب، ونية الدفع لحماية الإسلام وإعلاء كلمة الله واجب، مع ذلك الواجب بدليل هذه الآية وغيرها، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ أي الذين قد اعتادوا قتالكم، فليس الأمر هنا مخصوصاً بحالة الدفاع، بل هو كقوله تعالى: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخراج الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [التوبة:13] وعلى هذا فالواجب قتالهم كما هو مفصل في سورة التوبة.

3. ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ بالقتال الذي نهيتم عنه كالقتال في الحرم بغير وجه، والقتال في الأشهر الحرم، وقتال من بينكم وبينهم ميثاق قبل النبذ، وقتال من لم يقاتلوكم ولم يظاهروا عليكم عدواً، ولم يطعنوا في الدين ولم يفتنوا مسلماً، وقتل النساء والصبيان والشيوخ العاجزين.

4. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ وهذا زجر عظيم؛ لأن أهل السياسة يطمعون في الهجوم على العدوّ حال غفلته وعدم استعداده ولا يتقيدون بنهي الله، فبيّن الله أنه لا يحبهم وأنه لا يرضى عملهم، فهم آثمون في ذلك.

5. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾ أي الذين أمر الله بقتالهم ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ حيث ظفرتم بهم ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ من البلد الذي كنتم فيه وهم فيه، فأخرجوكم منه بغير حق، إلاَّ أن تقولوا: ﴿رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج:40] فحيث قد أمكنكم إخراجهم وتطهير البلاد من رجسهم فأخرجوهم.

6. في الآيات الكريمة دلالة على أن الله أمر رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بقتال أهل مكة وإخراجهم، وقد روي في مكة خاصة أن الله حرمها ولم يأذن في القتال فيها لأحد إلاَّ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ساعة من نهار، وهذا معنى الحديث، وهو في (مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام) فأما غيره فلا يقاتل في الحرم إلاَّ دفاعاً وقصاصاً.

7. ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ فقد كان الكفار بمكة يفتنون من أسلم ويعذبونه ليرجع عن الإسلام إلى الكفر ولم يكن الكفار يرعون حرمة الحرم ويتركون الفتنة فيه رعاية لحرمته، فليس لهم أن ينكروا عليكم قتلهم فيه؛ لأن فتنتهم لمن أسلم أشد من القتل، فهم يستحقون القتل جزاءً، ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾

8. ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ أي في الحرم، و﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ الكعبة، وعنده حرمه، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾ [القصص:57] ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ وهم إذا قاتلوكم في الحرم هم المسؤولون عن هتك حرمة الحرم ﴿كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ أن يقتلوا.

9. سؤال وإشكال: ظاهر الآية هذه تحريم قتالهم في الحرم إذا لم يبدأوا بالقتال فيه، وظاهر الآية التي قبلها جواز ذلك؟ والجواب:

أ. أن الآية الأولى خاصة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالمهاجرين معه، بدليل قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ وقوله: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ فقد أباحها الله له كما في الحديث، والآية الثانية عامة لهم ولمن بعدهم، فالأصل تحريم القتال في الحرم إلاَّ دفاعاً أو قصاصاً، وتخصيص رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه من المهاجرين غير معارض لهذا الأصل؛ لأن المشركين قد بدأوهم حين قتلوا بعض من أسلم وفتنوا بعضاً وهموا بقتل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأخرجوه ومن معه من مكة.

ب. وجواب آخر ـ وهو أظهر ـ: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أذن له في قتالهم إلاَّ في الحرم، فلا يبدأهم بقتال، وله أن يدخل الحرم بقوته وجند الله معه كافّين عن القتال حتى يبدأهم الكفار بالقتال في الحرم، فالإذن الأول مطلق مقيد بهذه الآية، فإذا بدأوهم بالقتال في الحرم حل قتالهم فيه وأخرجوا منه، فكأنه قيل: أذن لكم في قتالهم وإخراجهم من مكة بأن تدخلوها ولا تبدأوهم بالقتال، فإذا بدأوكم وهم لا بدّ أن يبدؤوكم فاقتلوهم وأخرجوهم، وهذا لتكونوا قد رعيتم حرمة الحرم وقتلتم الذين يقاتلونكم وأخرجتموهم من حيث أخرجوكم.

10. سؤال وإشكال: ظاهر الآيتين جواز ذلك لمن بعدهم لو وقع لهم مثل ما وقع لهم بأن استولى الكفار على مكة وطردوا أولياءه المتقين منها أن يهجم إمام الحق عليها ويطهرها من الكفار بنفس الطريقة بدلالة الآيتين، وبدلالة قوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾ [الأنفال:34] فما الحل مع ورود الحديث المصرح باختصاص رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم!؟ والجواب: إذا كان إمام شرعي فهو أعلم بالحل، ولعله لا يتفق مثلما وقع في عهده صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل يكون مركز دولة الكفر خارج الحرم، أعني موضع الجيش والقوة لضيق مكة بكثرة السكان، فإذا كان كذلك كفى الإمام أن يهجم على مركز القوة، فإذا انتصر عليهم وبطلت دولتهم لم يحتج إلى قتالهم في الحرم فلا إشكال.

11. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ بأن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة كما دل عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال:38] وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة:5] فالانتهاء انتهاؤهم عن عداوة الإسلام وتوبتهم من محاربته بالدخول فيه كما ذكر في الآية، وهذا لأنهم ما داموا مصرين على محاربة الإسلام، فلم ينتهوا؛ لأن اسم محاربتهم للدين باق عليهم وحكمهم باعتيادهم لقتال المسلمين ثابت عليهم ما داموا مصرين غير تائبين منه، ومجرد تركهم للقتال مع بقاء الإصرار ليس انتهاء فلا يتحقق انتهاؤهم إلاَّ بالتوبة؛ لأن الإصرار في قلوبهم لا يذهب إلاَّ بالتوبة، فإذا تابوا ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفر لمن تاب، فلا مقاصة في القتال في الحرم السابق للتوبة.

12. ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ فهذه فائدتان لقتالهم مع الأولى في سبيل الله وتحقيق لغاية القتال الذي أمروا به، فالذين يقاتلون المسلمين يقاتلون حتى لا يُفتن مسلم بسبب إسلامه، وحتى لا يكون دين لغير الله.

13. الفوائد في قتالهم: أن المؤمن يحصل له أجر الجهاد في سبيل الله، وأجر دفع الفتنة لمن أسلم، وأجر إذهاب الدين لغير الله، ومن الدين لغير الله العمل بالقوانين المخالفة لشريعة الله، واتباع علماء السوء في تغيير الدين، وطاعة ولاة السوء في معصية الله، وأشباه ذلك.

14. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ تابوا عن قتالكم وعن فتنة من أسلم وعن الدين لغير الله كما مر في الأولى ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ فحيث قد تابوا فقد خرجوا عن كونهم ظالمين وصار قتالكم لهم عدواناً محرماً، والعدوان على الظالمين الجائزُ قتالُهم في الشهر الحرام إذا اعتدوا على المسلمين فيه.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/271.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. في هذه الآيات، يضع القرآن الخطوات الأولى لتشريع القتال في الإسلام، ويثير أمامنا الفكرة التي يستند عليها هذا التشريع في بداياته، فقد كانت قريش هي البادئة بالقتال والعدوان على المسلمين، فليس من الطبيعي أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمامها، ينادون بالسلام والمحبة والعفو والمغفرة، لأن مثل هذه المفاهيم الروحية الأخلاقية لا يفهمها المعتدون الذين يحركون سيوفهم في هوى أطماعهم وشهواتهم وظلمات أنفسهم، فلا بد من الحديث معهم باللغة التي يفهمونها جيدا، من موقع الجو الذي يعيشونه في اعتبار القوة أساسا للحق وللسيطرة، وكان الإسلام واقعيا في نظرته إلى طبيعة الموقف، فأذن للمسلمين في القتال في سبيل الله لمن يقاتلهم، ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ فلم يأذن لهم أن ينطلقوا من موقع الثأر الشخصي الذي يستجيب للنوازع الذاتية، التي قد تضعف وقد تقوى تبعا للحالة النفسية التي تحكم الواقع الداخلي للإنسان، بل أذن لهم أن يعتبروا الخط القتالي سائرا في سبيل الله، لأن هؤلاء يعملون على أساس إبعاد الناس‏ عن الله وعن سبيله، ومجابهة المؤمنين به، العاملين بطاعته، وأرادهم أن لا يعتدوا، بل أن يواجهوا الموقف بروحية الدفاع عن الحق وعن أصحابه، ليكون الإسلام هو القوة البديلة، لأن قوته لا تمثل خطرا على الحياة، بل هي على العكس من ذلك تدفع الخطر عن القيم الأصيلة للإنسان ابتداء من الحفاظ على وجوده الخيّر إلى كل خطوة من خطواته العملية الخيّرة في بناء الحياة.

2. ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ إن الكافرين هم الذين بدأوا العدوان والقتال، فليتحملوا نتائج أعمالهم وعدوانهم، وليتحرك المسلمون في اتجاه تهديم القوة الطاغية، وصنع القوة البديلة من مواقع الحق، وليلاحقوهم حيث وجدوهم، لأن ذلك هو السبيل لإذلالهم وإضعافهم والسيطرة عليهم.

3. ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي: وجدتموهم، وأدركتموهم، وتمكنتم من السيطرة عليهم، فكل الساحات التي يوجدون فيها هي ساحات حرب شرعية ضدهم، فلا مأمن لهم في أي مكان، ولا ملاذ لهم في أي ملجأ ليعيشوا الخوف الدائم الذي لا يترك لهم مجالا للشعور بالأمن في أي موقع من مواقع وجودهم.. إنه قانون المعاملة بالمثل، ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ فقد اضطهدوا المسلمين وأبعدوهم عن مكة حتى تفرقوا في بلاد الله في هجرات متعددة، فللمسلمين الحق في أن يعاملوهم بمثل ما عاملوهم به، ولم تكن قضيتهم قضية قتال للمسلمين وإخراجهم من ديارهم، بل كانت القضية هي ممارسة أقسى أنواع الضغوط ضد المسلمين من أجل فتنتهم عن دينهم تحت تأثير الضغوط الصعبة من التهديد والتعذيب والإغراء والإبعاد والتشريد.

4. ﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ عن الدين ـ في نظر الإسلام ـ ﴿أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾، لأن القتل يعني الموت الجسدي، بينما تمثل الفتنة عن الدين الموت الروحي الذي يفقد الإنسان معه نفسه، ويتحول إلى عنصر ضار للحياة بدلا من أن يكون عنصرا نافعا لها، مما يجعل من الجريمة جريمة تتصل بالجانب الشخصي للإنسان، وبالجانب العام لحياة المجتمع كله.

5. على ذلك الأساس أعطاها الإسلام طابع التحدي للحياة، لأنها تحمل التحدي لكل ما تحمله الحياة التي يريدها الله للإنسان من الخير الشامل، والمحبة المرتكزة على العدل، والتصور الإيجابي لكل ما يواجه الإنسان من مشكلات على أساس الفكر الواقعي الإنساني المسؤول الذي لا يهرب من المشكلة بل يواجهها بشجاعة، ولا يخضع للتاريخ بل يناقشه بمسؤولية، ولا يتعبد للمحدود، بشرا كان أو حجرا، بل يتمثل فيه سر إبداع الخالق المطلق بعيدا عن كل نظرة ذاتية خاشعة للمخلوق.. وهكذا يتحرر الإنسان في أجواء الدين السمح الذي يبني للإنسان شخصيته على أساس الحرية أمام كل شيء حوله، ليجعله عبدا لله وحده، ويركز للحياة قواعدها على أساس العدل الذي يتجاوز الطبقية للمساواة، والتمييز بين الناس للتنوع، ولتوزيع الفرص على أساس الأدوار التي تحتاجها الحياة.. وفي هذا الجو، أراد الإسلام للإنسان أن يقاتل الذين يحاربون فيه هذا التوجه الحر للحياة وهذه الحرية الخاشعة في محراب عبوديتها لله، ولا يعتبر الإسلام مثل هذا القتال عدوانا على الآخرين، بل دفاعا عن الإنسان والحياة ضد الذين يريدون قتل إنسانية الحياة في الإنسان.

6. إذا كانت الفتنة ـ وهي الصد عن الدين ـ تتمثل بالضغط النفسي، والتعذيب الجسدي، والتجويع الغذائي، والحصار الاقتصادي، ونحو ذلك مما مارسته قريش وحلفاؤها ضد المسلمين الذين دخلوا في الإسلام آنذاك من النساء والرجال، وكانت قمة ذلك ما قامت به ضد آل ياسر وبلال الحبشي وبني هاشم في حصار الشعب، وإلجاء المسلمين إلى الهجرة فرارا من شدة التعذيب، فإنها قد تتمثل في الأوضاع الفاسدة الضاغطة على الجو الأخلاقي العام، المانعة من السعي نحو إيجاد المجتمع المسلم في أخلاقيته وروحانيته ومناهجه الإسلامية بمختلف وسائل الاضطهاد الروحي، مما يدفع بالناس إلى الانحراف عن الحق، وقد يتمثل بمصادرة الحريات الفكرية والسياسية والإعلامية من قبل القوى المستكبرة لمصلحة تيارات مضادة كافرة، تتحرك في حرياتها الضاغطة على الدين وأهله، بحيث تمنع الجيل الجديد من الثبات على الإسلام، وتنحرف بالجيل الحاضر عن الخط المستقيم، سواء كان ذلك على مستوى الحكومات أم الشخصيات أم الأحزاب المستبدة.

7. ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ وجاءت هذه الآية لتدل على أن للمسجد الحرام حرمته الكبيرة عند الله، لأن الله جعله قاعدة السّلام للإنسان في الأرض، فلا يحل فيه القتال مهما أمكن الامتناع عن ذلك، ولا يجوز لأحد أن يبدأ أحدا بقتال فيه، ولكن الدفاع عن النفس حق مقدس، فللإنسان حق الوقوف بقوّة ضد الذين يقاتلونه في هذا المكان الآمن، لأن انتهاك الحرمة لم يكن من قبل المدافعين، بل من جانب المهاجمين، ولذلك فإن على المسلمين أن لا يشعروا بالحرج أمام حالة اضطرارهم للدفاع عن أنفسهم بقتال المشركين في المسجد الحرام، لأن ذلك‏ هو السبيل لحماية المسجد الحرام من القوة الطاغية الباغية التي تشوّه روحية المعاني الكبيرة في المسجد، وتهدّم أجواء السّلام في داخله، فلا بد من قتالهم وإبعادهم عنه حتى يخلو الجو للخير والمحبة والتقوى والسّلام في نهاية المطاف، ليستمر قاعدة للأمن لكل الناس في ظل الدعوة التي تؤمن بهذه الحقيقة، انطلاقا من إيمانها بالله في شريعته الممتدة في رحاب الحق والعدل والأمان.

8. كان المسلمون يتحرجون من ذلك في بعض المواقف التي كانت تتفجر بالحرب بينهم وبين قريش، وذلك في ما روي في مجمع البيان عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة، وكانوا ألفا وأربعمائة، فساروا حتى نزلوا الحديبية، فصدّهم المشركون عن البيت الحرام، فنحروا الهدي بالحديبية، ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه، ويعود العام القابل، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء، فرجع إلى المدينة من فوره، فلما كان العام المقبل تجهز النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن البيت الحرام، ويقاتلوهم، وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله هذه الآية..

9. من خلال هذه الآية نعرف واقعية الإسلام في التشريع في ما يحرمه ويحلله من أشياء، فإن حرمة الأشخاص والأمكنة والأزمنة تفرض نفسها على واقع التشريع والممارسة، ما دامت في حدودها الخاصة التي لا تصطدم بحرمة أشياء أعظم منها في مقياس القضايا الكبيرة، فإذا اصطدمت بها في بعض المواقف، بحيث كان الحفاظ عليها موجبا لسقوط الحرمة الأعظم وهي حرمة الإنسان المؤمن في نفسه ودينه، كان للمسلمين الحق في تجاوز الحرمات العظيمة أمام الحرمة الأعظم، على ما هي القاعدة الإسلامية التي يغلب فيها الجانب الأقوى في المصلحة على الجانب الأضعف، ومن هنا تأتي الاستثناءات التي تخرج بعض الأمور من القاعدة العامة في أي حكم شرعي، ولولا ذلك لأمكن للفئات الباغية أن تستغل حرمة بعض الأمكنة والأزمنة، لتحارب الإسلام في قوته انطلاقا من عدم قدرة المسلمين على الرد نظرا لحرمة الشهر أو المكان، مما يوجب تقدم تلك الفئات في مواقع القوة على الإسلام والمسلمين، وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾

10. لما كانت هذه الحالة التي يمارس فيها المسلمون القتال في المسجد الحرام دفاعا عن أنفسهم، استثناء، فلا بد من أن تقدّر بقدرها وذلك في مجال عدوانهم على المسلمين، ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ وكفّوا عن القتال في هذا المكان المقدس، فيجب أن يتوقف القتال عند ذلك لزوال السبب الذي أباحه في هذا المكان الحرام، ويمكن أن يكون التعليل بقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ على أساس وضع السبب موضع المسبب إعطاء لعلة الحكم ـ كما في تفسير الميزان ـ فإن غفران الله ورحمته هما الأساس في جواز أي عمل يريده الله في أي شأن من شؤون الحياة، أي يجوز لكم الامتناع عن قتالهم، لأنه لا يبقى بعد ذلك أي سبب له، فكان الله يغفر لكم ويرحمكم بالكف عنهم والله العالم.

11. ربما فسر قوله: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ بالانتهاء عن الكفر بالتوبة منه، فيكون قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ دالا على أن الله يقبل توبة المشرك ويغفر له ذلك ويرحمه بعده، ويكون مسلما، له ما لهم وعليه ما عليهم.

12. انطلقت الفكرة، لتجعل من قضية القتال ضد الشرك والمشركين قضية تدخل في حساب تهديم الأسس التي يرتكز عليها الفكر في قوته التي يحارب من خلالها الإسلام، ويضغط بها على حرية المسلمين ليفتنهم عن دينهم، ويقف على أساسها ضد كل تحرك للإسلام في العالم، إن القضية ليست نزاعا على مستوى الأشخاص أو القبائل أو الفئات المتخاصمة، لتحل على أساس الهدنة أو إنهاء النزاع في نطاق المعاهدات القائمة على التجميد المؤقّت للمشكلة، بل هي نزاع على مستوى رسالة الله التي أراد أن تقوم الحياة على قاعدتها الصلبة الممتدة بالحق والعدل، ولذا فإن وجودها يعتبر نقيض وجود الكفر الذي يعمل على العدوان والبغي والطغيان.. ولذلك فلا بد من قتال الشرك والمشركين، حتى لا يبقى هناك أساس للضغط الذي يفتن المؤمنين عن دينهم، وحتى يكون الدين كله لله، فلا يبقى للشيطان وللطاغوت موطئ قدم في الأرض، ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ من دون أي ضغط أو تهديد أو مصادرة للحرية، مما يمنع المسلمين عن ممارسة دينهم براحة وطمأنينة.

13. إن القضية هي قضية مصلحة الإنسان، فلا بد من الجهاد الشامل بشروطه الإسلامية الشرعية من أجل أن تبقى للإنسان حريته الحقيقة في الحياة القائمة على الحق والعدل، بعيدا عن أوهام الحرية في ظل سيادة الكفر والظلم والعدوان باسم حرية الفكر والموقف، ومن الواضح أن قضية الجهاد ليست قضية سيطرة سلطة غاشمة تضغط على إرادة الإنسان، فلا تمنحه الحرية ليناقش أو يحاور أو يسأل من أجل الوصول إلى الحقيقة الإيمانية، بل هي قضية تحديد حرية الكفر وتجميد دوره، وذلك بإعطاء الإنسان الحرية في الوصول إلى القناعة من خلال الحوار الإيجابي المنفتح في نطاق خاص، فإذا تمرّد كان الحق للحياة الرسالية أن تعبر عن نفسها بفرض سلطتها على الواقع من أجل الإنسان، وقد نعرف، من خلال دراسة الشروط الشرعية للجهاد، أنه لا يهدف دوما إلى تغيير عقيدة الإنسان بالقوة، بل نراه يحافظ على إبقاء الآخرين على عقيدتهم في ما يتصل بالديانات السماوية الآخرى إذا حافظوا على شروط العهد والذمة، أو في ما يتصل بالفئات الآخرى غير المؤمنة ـ في بعض الحالات ـ في نطاق المعاهدات التي تقتضي مصلحة الإسلام إقامتها معهم، إن القضية هي أن لا تكون هناك فتنة، وأن يكون الدين كله لله، بحيث تكون له الكلمة العليا في الأرض، فلا تبقى هناك كلمة للكفر في موقع السيادة الشاملة، وتلك هي قضية كل فكر ودين يريد أن يجعل الحياة على صورته.

14. ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، فسّر الانتهاء في هذه الآية بإيمانهم بالإسلام والابتعاد عن خط الكفر، فإنهم إذا أسلموا كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وذلك في‏ ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن ربي أمرني أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإن قالوها اعتصموا مني دماءهم وأموالهم).. وفي ضوء ذلك، يعتبر القتال بعد الإسلام مخصوصا بالظالمين الذين يعتدون على الناس ويبغون عليهم بغير الحق.

15. يمكن أن تكون الآية واردة في اتجاه آخر، وهو التأكيد على تحطيم قوة الكفر، وتركيز سيادة الدين وقوّته من خلال القتال الذي يحقق هذا الهدف، بالمستوى الذي لا يستطيع المشركون والكافرون معه الممارسة العدوانية على المسلمين، وذلك إما بالإيمان بعد الكفر، وإما بالمعاهدات التي تنظم قواعد السّلام القائم على احترام حرية المسلمين في دينهم وفي الدعوة إلى الدين، وعلى ضوء ذلك، لا تكون الآية واردة في مجال انتهائهم عن الكفر، بل عن الظلم والعدوان، وليس معنى ذلك أن الإسلام لا يبرر الجهاد من أجل تحطيم واقع الكفر في الحياة، بل كل ما نريد أن نقرره هو إمكانية أن يكون للآية معنى غير ما يذكره المفسرون.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/75.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ذكر بعض المفسرين سببين لنزول الآية الاولى من هذه الآيات الكريمة:

أ. الأوّل: إنّ هذه الآية هي أوّل آية نزلت في جهاد أعداء الإسلام وبعد نزول هذه الآية شرع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قتالهم إلّا الكفّار الّذين لم يكونوا في حرب مع المسلمين، واستمرّ هذا الحال حتّى نزل الأمر ﴿واقتلوا المشركين﴾ الّذي أجاز جهاد وقتال جميع المشركين‏.

ب. الثاني: من أسباب النزول ما ورد عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في صلح الحديبيّة، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة، وكانوا ألفا وأربعمائة، فساروا حتّى نزلوا الحديبيّة فصدّهم المشركون عن البيت الحرام، فنحروا الهدي بالحديبيّة، ثمّ صالحهم المشركون على أن يرجع النبي من عامه ويعود العام المقبل، ويخلوا له مكّة ثلاثة أيّام، فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء، فرجع إلى المدينة من فوره، فلمّا كان العام المقبل تجهّز النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدّوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله هذه الآية لتبيح للمسلمين القتال إن بدأهم المشركون به‏.

2. الظاهر أن شأن النزول الأوّل يناسب الآية الاولى، والثاني يناسب الآيات التالية، وعلى أية حال فإن مفهوم الآيات يدلّ على أنها نزلت جميعا بفاصلة قصيرة.

3. القرآن أمر في هذه الآية الكريمة بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه المسلمين، وأجازهم أن يواجهوا السلاح بالسلاح، بعد أن انتهت مرحلة صبر المسلمين على الأذى، وحلّت مرحلة الدفاع الدامي عن الحقوق المشروعة.

4. عبارة ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ توضّح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي، فالحرب ليست للانتقام ولا للعلوّ في الأرض والتزعم، ولا للاستيلاء على الأراضي، ولا للحصول على الغنائم.. فهذا كلّه مرفوض في نظر الإسلام.. حمل السلاح إنّما يصحّ حينما يكون في سبيل الله وفي سبيل نشر أحكام الله، أي نشر الحقّ والعدالة والتوحيد واقتلاع جذور الظلم والفساد والانحراف، وهذه هي الميزة التي تميّز الحروب الإسلامية عن ساير الحروب في العالم، وهذا الهدف المقدّس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ كيفيّة الحرب وكميّتها ونوع السلاح والتعامل مع الأسرى وأمثال ذلك بصبغة ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾

5. ﴿سَبِيلِ﴾ كما يقول الراغب في مفرداته أنها في الأصل تعني الطريق السهل، ويرى بعض أنه ينحصر في طريق الحقّ، ولكن مع الالتفات إلى أن هذه المفردة جاءت في القرآن الكريم تارة بمعنى طريق الحقّ، وأخرى طريق الباطل، فإن مرادهم قد يكون إطلاقها على طريق الحقّ مع القرائن.

6. لا شكّ أن سلوك طريق الحقّ ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي طريق الدين الإلهي مع احتوائه على مشاكل ومصاعب كثيرة إلّا أنه سهل يسير لتوافقه مع الفطرة والروح الإنسانية للأشخاص المؤمنين، ولهذا السبب نجد المؤمنين يستقبلون تلك الصعوبات برحابة صدر حتّى لو ادّى بهم إلى القتل والشهادة.

7. عبارة ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ تدلّ بصراحة أن هذا الحكم الشرعي يختّص بمن شهروا السلاح ضد المسلمين، فلا تجوز مقاتلة العدو ما لم يشهر سيفا ولم يبدأ بقتال باستثناء موارد خاصّة سيأتي ذكرها في آيات الجهاد.

8. ذهب جمع من المفسرين إلى أن مفهوم‏ ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ محدود بدائرة خاصّة، في حين أن مفهوم الآية عام وواسع، ويشمل جميع الذين يقاتلون المسلمين بنحو من الأنحاء.

9. يستفاد من الآية أيضا أن المدنيين ـ خاصّة النساء والأطفال ـ لا يجوز أن‏ يتعرّضوا لهجوم، فهم مصونون لأنّهم لا يقاتلون ولا يحملون السلاح.

10. ثمّ توصي الآية الشريفة بضرورة رعاية العدالة حتّى في ميدان القتال وفي مقابل الأعداء، وتقول: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾، فالحرب في الإسلام لله وفي سبيل الله، ولا يجوز أن يكون في سبيل الله اعتداء ولا عدوان، لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الأصول الخلقية في الحرب، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشدّ الافتقار، يوصي مثلا بعدم الاعتداء على المستسلمين وعلى من فقدوا القدرة على الحرب، أو ليست لديهم أصلا قدرة على الحرب كالشيوخ والنساء والأطفال، وهكذا يجب عدم التعرّض للمزارع والبساتين، وعدم اللجوء إلى المواد السامة لتسميم مياه شرب العدوّ كالسائد اليوم في الحروب الكيمياوية والجرثوميّة.

11. الإمام عليّ عليه السّلام يقول لافراد جيشه ـ كما ورد في نهج البلاغة ـ وذلك قبل شروع القتال في صفين: (لا تقاتلوهم حتّى يبدؤوكم فإنكم بجهد الله على حجّة، وترككم إيّاهم حتّى يبدؤوكم حجّة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبرا ولا تصيبوا معورا ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم)

12. الجدير بالذكر أن بعض المفسّرين ذهب طبقا لبعض الروايات أن هذه الآية ناسخة للآية التي تنهى عن القتال من قبيل‏ ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾، وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بالآية ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾، ولكن الصحيح أن هذه الآية لا ناسخة ولا منسوخة، لأن منع المسلمين من قتال الكفّار كان في زمن لم يكن للمسلمين القوّة الكافية، ومع تغيّر الظروف صدر الأمر لهم بالدفاع عن أنفسهم، وكذلك قتال المشركين فهو في الواقع استثناء من الآية، فعلى هذا يكون تغيير الحكم بسبب تغيير الظروف لا من قبيل النسخ ولا الاستثناء، ولكن القرائن تدلّ على أن النسخ في الروايات وفي كلمات القدماء له مفهوم غير مفهومه في العصر الحاضر، أي له معنى واسع يشمل هذه الموارد أيضا.

13. في الآية التالية الّتي تعتبر مكملّة للأمر الصادر في الآية السابقة تتحدّث هذه الآية بصراحة أكثر وتقول: إنّ هؤلاء المشركين هم الّذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وصبّوا عليهم ألوان الأذى والعذاب، فيجب على المسلمين أن يقتلوهم أينما وجدوهم، وأنّ هذا الحكم هو بمثابة دفاع عادل ومقابلة بالمثل، لأنّهم قاتلوكم وأخرجوكم من مكّة ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾، ثمّ يضيف الله تعالى‏ ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾

14. أمّا المراد من (الفتنة) ما هو؟ فهناك أبحاث عديدة بين المفسرين وأرباب اللّغة، فهذه المفردة في الأصل من (فتن) على وزن متن، ويقول الراغب في مفرداته أنّها تعني وضع الذهب في النار للكشف عن درجة جودته وأصالته، وقال البعض أنّ المعنى هو وضع الذهب في النار لتطهيره من الشوائب‏، وقد وردت مفردة الفتنة ومشتقاتها في القرآن الكريم عشرات المرّات وبمعان مختلفة:

أ. فتارة جاءت بمعنى الامتحان مثل‏ ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾

ب. وتارة وردت بمعنى المكر والخديعة في قوله تعالى‏ ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ﴾

ج. وتارة بمعنى البلاء والعذاب مثل قوله‏ ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾

د. وتارة وردت بمعنى الضّلال مثل قوله‏ ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾

هـ. وتارة بمعنى الشرك وعبادة الأوثان أو سد طريق الإيمان أمام الناس كما في الآية مورد البحث وبعض الآيات الواردة بعدها فيقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾

15. لكنّ الظاهر أنّ جميع هذه المعاني المذكورة للفتنة تعود إلى أصل واحد (كما في أغلب الألفاظ المشتركة)، لأنه مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ معنى الأصل هو وضع الذهب في النار لتخليصه من الشوائب فلهذا استعملت في كلّ مورد يكون فيه نوع من الشّدة، مثل الامتحان الّذي يقترن عادة بالشّدة ويتزامن مع المشكلات، والعذاب أيضا نوع آخر من الشّدة، وكذلك المكر والخديعة التي تتّخذ عادة بسبب أنواع الضغوط والشدائد، وكذلك الشرك وإيجاد المانع في طريق ايمان الناس حيث يتضمّن كلّ ذلك نوع من الشّدة والضغط.

16. الخلاصة أنّ عبادة الأوثان وما يتولّد منها من أنواع الفساد الفردي والاجتماعي كانت سائدة في أرض مكّة المكرّمة حيث لوّثت بذلك الحرم الإلهي الآمن، فكان فسادها أشد من القتل فلذلك تقول هذه الآية مورد البحث مخاطب‏ المسلمين: أنّه لا ينبغي لكم ترك قتال المشركين خوفا من سفك الدماء فإنّ عبادة الأوثان أشد من القتل.

17. أورد بعض المفسّرين احتمالا آخر، وهو أن يكون المراد من الفتنة هنا الفساد الاجتماعي من قبيل تبعيد المؤمنين من أوطانهم حيث تكون هذه الأمور أحيانا أشد من القتل أو سببا في قتل الأنفس والأفراد في المجتمع، فنقرأ في الآية من سورة الأنفال قوله تعالى‏ ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ أي إذا لم تقطعوا الرابطة مع الكفّار فسوف تقع فتنة كبيرة في الأرض وفساد عظيم.

18. ثمّ تشير الآية إلى مسألة أخرى في هذا الصدد فتقول: إنّ على المسلمين أن يحترموا المسجد الحرام دائما وأبدا، ولذلك لا ينبغي قتال الكفّار عند المسجد الحرام، إلّا أن يبدئوكم بالقتال‏ ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ لأنّهم عندما كسروا حرمة هذا الحرم الإلهي الآمن فلا معنى للسكوت حينئذ ويجب مقابلتهم بشدّة لكي لا يسيئوا الاستفادة من قداسة الحرم واحترامه.

19. ولكن بما أنّ الإسلام في منهجه التربوي للناس يقرن دائما الإنذار والبشارة معا، والثواب والعقاب كذلك، لكي يؤثّر في المسلمين تأثيرا سليما، فلذلك فسح المجال في الآية التالية للعودة والتوبة فقال‏ ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، أجل فلو أنّهم تركوا الشرك وأطفؤوا نيران الفتنة والفساد فسوف يكونون من إخوانكم، وحتّى بالنّسبة إلى الغرامة والتعوضيات الّتي تجب على سائر المجرمين بعد قيامهم للجريمة فإنّ هؤلاء المشركون معفون من ذلك ولا يشملهم هذا الحكم.

20. ذهب البعض إلى أنّ جملة ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ بمعنى ترك الشرك والكفر، وذهب البعض إلى أنّ المعنى هو ترك الحرب والقتال في المسجد الحرام أو أطرافه، ولكنّ الجمع بين هذين المعنيين ممكن أيضا.

21. الآية التالية تشير إلى هدف الجهاد في الإسلام وتقول: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾، ثمّ تضيف: فإن ترك هؤلاء المشركون عقائدهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة فلا تتعرّضوا لهم‏ ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، حسب الظاهر ذكر في هذه الآية ثلاثة أهداف للجهاد وهي:

أ. إزالة الفتنة.

ب. محو الشرك وعبادة الأوثان.

ج. التصدّي للظلم والعدوان.

22. يحتمل أن يكون المراد من الفتنة هو الشرك أيضا وعلى هذا يكون الهدف الأوّل والثاني واحدا، وهناك أيضا احتمال آخر وهو أنّ المراد من الظلم هنا هو الشرك أيضا كما ورد في الآية من سورة لقمان‏ ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الأهداف الثلاثة تعود إلى هدف واحد وهو التصدي للشرك وعبادة الأوثان والّذي يمثّل المصدر الأساس لكلّ أنواع الفتن والمظالم والعدوان.

23. ذهب البعض إلى أنّ الظلم في هذه الآية بمعنى الابتداء بالحرب أو القتال في الحرم الإلهي الآمن، ولكنّ الاحتمال الأوّل وهو أنّ المراد من الآية هو الأهداف الثلاثة المتقدّمة أقوى، فصحيح أنّ الشرك هو أحد مصاديق الفتنة، ولكنّ الفتنة لها مفهوم أوسع من الشرك، وصحيح أيضا أنّ الشرك أحد مصاديق الظلم، ولكنّ الظلم له مفهوم أوسع أيضا، فعند ما نرى تفسيره بالشرك أحيانا فهو لبيان المصداق.

24. على هذا الأساس لا يكون الجهاد في الإسلام لغرض التسلّط على البلدان والفتوحات، وليس لغرض تحصيل الغنائم، ولا بهدف تملّك الأسواق للتّجارة أو السيطرة على ثروات ومعادن البلدان الآخرى، أو من أجل غلبة العنصر القومي على آخر، فالهدف هو أحد الثلاثة المتقدّمة: إزالة الفتن والفوضى الّتي تؤدّي إلى سلب حريّة الناس وأمنهم، وكذلك محو آثار الشرك وعبادة الأوثان، وأيضا التصدّي للظّالمين والمعتدين والدفاع عن المظلومين.

25. نلاحظ في الكثير من المذاهب الوضعيّة المنحرفة أنّه لا وجود للجهاد لديهم إطلاقا، فكلّ ما فيه يدور حول محور النصائح والمواعظ الأخلاقية، حتّى أنّ البعض عندما يسمع بوجود مقالة الجهاد واستعمال القوّة كأحد الأركان المهمّة في التعاليم الإسلاميّة يتعجّب كثيرا على اقتران الدين بالحرب، لكن مع ملاحظة أنّ الحكّام الطواغيت والفراعنة وأمثالهم من النمروديّين والقارونيّين الّذين يعترضون دائما على دعوة الأنبياء الإصلاحيّة ويقفون بوجهها ولا يرضون إلّا بإزالة الدين الإلهي من الوجود يتّضح أنّ على المؤمنين والمتديّنين في الوقت الّذي يعتمدون على العقل والمنطق والأخلاق في تفاعلهم الاجتماعي مع الآخرين عليهم أن يتصدّوا لهؤلاء الظالمين والطّواغيت ويشقّوا طريقهم بالجهاد وتحطيم هذه الموانع والعوائق الّتي يقيمها حكّام الجور في طريقهم.

26. الجهاد هو من علامات الحياة لكلّ موجود ويمثّل قانونا عامّا في عالم الأحياء، فجميع الكائنات الحيّة أعم من الإنسان والحيوان والنبات تجاهد عوامل الفناء من أجل بقائها.

27. من افتخاراتنا نحن المسلمين أنّ ديننا يقرن المسائل الدينيّة بالحكومة ويعتمد على الجهاد كأحد أركان المنظومة العقائديّة لهذا الدين، غاية الأمر يجب ملاحظة أهداف هذا الجهاد الإسلامي، وهذا هو الّذي يفصل بيننا وبين الآخرين.

28. يصرّ البعض من المتغرّبين أنّ الجهاد الإسلامي منحصر في الجهاد الدفاعي ويحاولون توجيه جميع غزوات النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أو الحروب الّتي حدثت بعده في هذه الدائرة، في حين أنّه لا يوجد دليل على هذه المسألة، ولم تكن جميع غزوات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دفاعيّة، فمن الأفضل العودة إلى القرآن الكريم بدل هذه الاستنباطات الخاطئة لاستجلاء أهداف الجهاد من القرآن الكريم، تلك الأهداف المنطقيّة القابلة للعرض على الصّديق والعدو.

29. كما تقدّم في الآيات أعلاه أنّ الجهاد في الإسلام يتعقّب عدّة أهداف مباحة:

أ. الجهاد من أجل إطفاء الفتن، وبعبارة أخرى الجهاد الابتدائي من أجل التحرير، فنحن نعلم أنّ الله عزّ وجلّ قد أنزل على البشريّة شرائع وبرامج لسعادة البشر وتحريرهم وتكاملهم وإيصالهم إلى السعادة والرفاه، وأوجب على الأنبياء عليهم السّلام أن يبلّغوا هذه الشرائع والإرشادات إلى الناس، فلو تصوّر أحد الأفراد أو طائفة من الناس أنّ إبلاغ هذه‏ الشرائع للناس سوف يعيقه عن نيل منافعه الشخصيّة وسعى لإيجاد الموانع ووضع العصي في عجلات الدعوة الإلهيّة، فللأنبياء الحقّ في إزالة هذه الموانع بطريقة المسالمة أوّلا وإلّا فعليهم استخدام القوّة في إزالة هذه الموانع عن طريق الدّعوة لنيل الحريّة في التبليغ، وبعبارة أخرى: أنّ الناس في جميع المجتمعات البشريّة لهم الحقّ في أن يسمعوا مقالة منادي الحقّ وهم أحرار في قبول دعوة الأنبياء، فلو تصدّى فرد أو جماعة لسلب هذا الحقّ المشروع للناس وحرمانهم منه ومنعوا صوت الحقّ من الوصول إلى الناس ليحرّرهم من قيود الأسر والعبوديّة الفكريّة والاجتماعيّة، فلاتباع الدين الحقّ في الاستفادة من جميع الوسائل لتهيئة هذه الحريّة، ومن هنا كان (الجهاد الابتدائي) في الإسلام وسائر الأديان السماويّة ضروريّا، وكذلك إذا استخدم البعض القوّة والإرهاب في حمل جماعة من المؤمنين على ترك دينهم والعودة إلى الدين السابق لهم، فللمؤمنين الحقّ في الاستفادة من جميع الوسائل لرفع هذا الإكراه والإرهاب.

ب. الجهاد الدفاعي، هل من الصحيح أن يواجه الإنسان هجوما وعدوانا عليه ولا يدافع عن نفسه؟ أو أن يقوم جيش معتدي بالهجوم على بعض الشعوب الآخرى ولا تقوم تلك الشعوب بالدفاع عن نفسها وعن بلدها بل تقف موقف المتفرّج؟ هنا نجد أنّ جميع القوانين السماويّة والبشريّة تبيح للفرد أو الجماعة الدّفاع عن النفس والاستفادة ممّا وسعهم من قوّة في هذا السبيل، ويسمّى مثل هذا الجهاد ب (الجهاد الدفاعي) ومن ذلك غزوة الأحزاب واحد ومؤتة وتبوك وحنين ونظائرها من الحروب الإسلاميّة الّتي لها جنبة دفاعيّة، وفي هذا الزمان نجد أنّ الكثير من أعداء الإسلام يعتدون على المسلمين‏ ويشعلون نيران الحروب للسّيطرة على البلاد الإسلاميّة ونهب ثرواتها، فكيف يبيح الإسلام السكوت أمام هذا العدوان؟

ج. الجهاد لحماية المظلومين، ونلاحظ فرعا آخر من فروع الجهاد في الآيات القرآنية الكريمة، وهو الجهاد لحماية المظلومين، فتقرأ في الآية من سورة النساء وما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ والْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها واجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا واجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً، وعلى هذا الأساس فالقرآن يطلب من المسلمين الجهاد في سبيل الله وكذلك في سبيل المستضعفين المظلومين، وأساسا إنّ هاتين الغايتين متحدتان، ومع الأخذ بنظر الاعتبار عدم وجود قيد أو شرط في الآية أعلاه نفهم من ذلك وجوب الدفاع عن جميع المظلومين والمستضعفين في كلّ نقطة من العالم القريبة منها أو البعيدة، وفي الداخل أو الخارج، وبعبارة أخرى: إنّ حماية المظلومين في مقابل عدوان الظّالمين هو أصل في الإسلام يجب مراعاته، حتّى لو أدّى الأمر إلى الجهاد واستخدام القوّة، فالإسلام لا يرضى للمسلمين الوقوف متفرّجين على ما يرد على المظلومين في العالم، وهذا الأمر من الأوامر المهمّة في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة الّتي تحكي عن حقانيّة هذا الدّين.

د. الجهاد من أجل دحر الشرك وعبادة الأوثان الإسلام يدعو البشريّة إلى اعتناق الدّين الخاتم الأكمل وهو يحترم مع ذلك حريّة العقيدة، وبذلك يعطي أهل الكتاب الفرصة الكافية للتّفكير في أمر اعتناق الرّسالة الخاتمة، فإن لم يقبلوا بذلك فإنّه يعاملهم معاملة الأقليّة المعاهدة (أهل الذّمة) ويتعايش معهم تعايشا سلميّا ضمن شروط خاصّة بسيطة وميسورة، لكنّ‏ الشرك والوثنيّة ليسا بدين ولا عقيدة ولا يستحقّان الاحترام، بل هما نوع من الخرافة والحمق والانحراف ونوع من المرض الفكري والأخلاقي الّذي ينبغي أن يستأصل مهما كلّف الثمن.

30. كلمة حريّة العقيدة واحترام أفكار الآخرين تصدق في مواقع يكون لهذه العقيدة والأفكار على أقلّ تقدير أساس من الصحّة، أما الانحراف والخرافة والضلال فليست بأشياء تستحق الاحترام، ولذلك يأمر الإسلام بضرورة اقتلاع جذور الوثنيّة من المجتمع ولو كلّف ذلك خوض الحرب، وضرورة هدم آثار الشرك والوثنيّة بالطرق السلميّة أوّلا، فإن تعذّرت الطرق السلميّة فبالقوّة.

31. الإسلام يرى ضرورة تطهير الأرض من أدران الشرك والوثنيّة ويعد المسلمين بمستقبل مشرق للبشريّة في العالم تحت ظل حكومة التوحيد وزوال كلّ أنواع الشرك والوثنيّة.

32. وممّا تقدّم من ذكر أهداف الجهاد يتّضح أنّ الإسلام أقام الجهاد على أسس منطقيّة وعقلية، فلم يجعله وسيلة للتّسلّط والسيطرة على البلدان الآخرى وغصب حقوق الآخرين وتحميل العقيدة واستعمار واستثمار الشعوب الآخرى، ولكنّنا نعلم أنّ أعداء الإسلام وخاصّة القائمون على الكنيسة والمستشرقين المغرضين سعوا كثيرا لتحريف الحقائق ضد مسألة الجهاد الإسلامي، واتّهموا الإسلام باستعمال الشدّة والقوّة والسيف من أجل تحميل الإيمان به وتهجموا كثيرا على هذا القانون الإسلامي، والظّاهر أنّ خوفهم وهلعهم إنّما هو من تقدّم الإسلام المطرد في العالم بسبب معارفه السّاميّة وبرنامجه السّليم، ولهذا سعوا لإعطاء الإسلام صبغة موحشة كيما يتمكنّوا من الوقوف أمام انتشار الإسلام.

33. سؤال وإشكال: لماذا شرّع الجهاد في المدينة؟ والجواب: نعلم أنّ الجهاد وجب على المسلمين في السنّة الثانية بعد الهجرة، ولم يكن قد شرّع قبلها، والسبب واضح فهو يعود من جهة إلى قلّة عدد المسلمين في مكّة بحيث يكون الأمر بالكفاح المسلّح في مثل هذه الحالة هو الانتحار بعينه، ومن جهة أخرى كان العدو في مكّة قويّا جدّا، فمكّة في الواقع كانت مركز القوى المعادية للإسلام، ولم يكن بالإمكان حمل السّلاح فيها، أمّا حين قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة إزداد عدد المؤمنين واتسع نطاق الدّعوة داخل المدينة وخارجها، وتأسّست الحكومة الإسلاميّة الصالحة، وتهيّأت وسائل الجهاد ضدّ العدو على صعيد العدّة والعدد، وبما أنّ المدينة المنوّرة كانت بعيدة عن مكّة استطاع المسلمون في حالة من الأمن والطمأنينة أن يبنوا وجودهم ويعدّوا أنفسهم لمواجهة العدو والدفاع عن رسالتهم.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/18.

83. الحرمات والاعتداء والتهلكة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈83⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 194 ـ 195]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

حذيفة:

روي عن حذيفة بن اليمان (ت 36 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ هو ترك النفقة في سبيل الله مخافة العيلة(1)..

__________

(1) سفيان الثوري في تفسيره: ص٥٨.

النعمان:

روي عن النعمان بن بشير (ت 65 هـ) أنّه قال: كان الرجل يذنب، فيقول: لا يغفر الله لي، فأنزل الله: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾(1)..

__________

(1) ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير: ١/٣٣٢.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما سار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم معتمرا في سنة ست من الهجرة، وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة، وهو شهر حرام، حتى قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان معه من المسلمين، وأقصه الله منهم؛ نزلت في ذلك هذه الآية: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ هم المشركون، كانوا حبسوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذي القعدة عن البيت، ففخروا عليه بذلك، فرجعه الله في ذي القعدة، فأدخله الله البيت الحرام، واقتص له منهم(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ ترك النفقة في سبيل الله، أنفق ولو مشقصا(3)..

4. روي أنّه قال: ليس التهلكة أن يقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله(2)..

5. روي أنّه قال: ﴿التَّهْلُكَةِ﴾: عذاب الله(4)..

6. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، يقول: أنفقوا ما كان من قليل أو كثير، ولا تستسلموا، ولا تنفقوا شيئا فتهلكوا(5)..

7. روي أنّه قال: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ منسوخة، كان الله تعالى قد أطلق للمسلمين إذا اعتدى عليهم أحد أن يقتصوا منه، فنسخ الله تعالى ذلك، وصيره إلى السلطان، فلا يجوز لأحد أن يقتص من أحد إلا بأمر السلطان، ولا أن يقطع يد سارق، ولا غير ذلك(6)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٠٥.

(2) ابن جرير: ٣/٣٠٨.

(3) البيهقي في سننه: ٩/٤٥.

(4) ابن جرير: ٣/٣٢٥.

(5) ابن جرير: ٣/٣١٧.

(6) النحاس في ناسخه: ١/٥٢٦.

البراء:

روي عن البراء بن عازب (ت 72 هـ) أنه قيل له: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، هو الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يقتل؟ قال لا، ولكن هو الرجل يذنب الذنب، فيلقي بيديه، فيقول: لا يغفر الله لي أبدا(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٢٠.

السلماني:

روي عن عبيدة السلماني (ت 72 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ القنوط(1)..

2. روي أنّه قال: كان الرجل يذنب الذنب العظيم، فيلقي بيده، فيستهلك، فنهوا عن ذلك؛ فقيل: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾(2)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٢١.

(2) ابن جرير: ٣/٣٢٠ ـ: ٣٢٢.

المسيب:

روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) أنّه قال: لما أمر الله بالإنفاق قال رجال: أمرنا بالنفقة في سبيل الله، فإن أنفقنا أموالنا بقينا فقراء ذوي مسكنة، فقال الله: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾(1)..

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٩١.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾، يعني: المؤمنين يحذرهم، فلا تبدؤوهم بالقتال في الحرم، فإن بدأ المشركون فاعلموا: ﴿أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ يعني: متقي الشرك في النصر لهم، يخبرهم أنه ناصرهم(1)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٣٠.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾: أحصروا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذي القعدة عن البيت الحرام، فأدخله الله البيت الحرام العام المقبل، واقتص له منهم؛ فقال: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٠٧.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ فخرت قريش بردها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم الحديبية محرما في ذي القعدة عن البلد الحرام، فأدخله الله مكة من العام المقبل، فقضى عمرته، وأقصه ما حيل بينه وبين يوم الحديبية(1)..

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٢٤.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ أحسنوا الظن بالله يبر بكم(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٢٧.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، أمرهم أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يحسنوا فيما رزقهم الله(1)..

2. روي أنّه قال: أقبل نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه معتمرين في ذي القعدة، ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحديبية، فصدهم المشركون، فصالحهم نبي الله أن يرجع عامه ذلك حتى يرجع من العام المقبل، فيكون بمكة ثلاث ليال، ولا يدخلوها إلا بسلاح الراكب، ولا يخرج بأحد من أهل مكة، فنحروا الهدي بالحديبية، وحلقوا وقصروا، حتى إذا كان من العام المقبل أقبل نبي الله وأصحابه معتمرين في ذي القعدة، حتى دخلوا، فأقام بها ثلاث ليال، وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردوه يوم الحديبية، فأقصه الله منهم، وأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردوه فيه في ذي القعدة، فقال الله: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾(2)..

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٠٦.

(2) ابن جرير: ٣/٣٠٦.

القرظي:

روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾: إنهم منعوه بالحديبية، فحالوا بينه وبين البيت، فدخل [الإمام علي] الإمام علي (ت 40 هـ) قبل حجة الوداع بسنة، فأذن في مكة: لا يطف بالبيت عريان، ولا مشرك(1)..

2. روي أنّه قال: كان القوم في سبيل الله، فيتزود الرجل، فكان أفضل زادا من الآخر، أنفق البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء، أحب أن يواسي صاحبه؛ فأنزل الله: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾(2)..

__________

(1) الفاكهي في أخبار مكة: ٥/٧٨.

(2) ابن جرير: ٣/٣١٤.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ التّهلكة: الهلاك.. يقال هلاك وهلك.. وأراد به ترك النفقة في سبيل الله.. ويقال: أراد القنوط ومثله قوله: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾(1)..

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 96.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال في الآية: كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بغير نفقة، فإما يقطع بهم، وإما كانوا عيالا، فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة: أن يهلك رجال من الجوع والعطش ومن المشي، وقال لمن بيده فضل: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣١٨ ـ: ٣١٩.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبل الله ما كان أحسن ولا وفق، أليس يقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ يعني المقتصدين(1)..

2. روي أنّه قال: من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها، قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النساء: 29 ـ 30](2)..

__________

(1) الكافي: 4 لا: 53/7.

(2) من لا يحضره الفقيه: 3/374/1767.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَحْسَنُوا﴾ النفقة في سبيل الله؛: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ يعني: من أحسن في أمر النفقة في طاعة الله(1)..

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٧٠.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: حدثنا بعض أشياخنا في قول الله ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ أحسنوا بالله الظن(1)..

__________

(1) تفسير سفيان الثوري: ص٥٩.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾: إذا لم يكن عندك ما تنفق فلا تخرج بنفسك بغير نفقة وقوة؛ فتلقي بيديك إلى التهلكة(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾: عودوا على من ليس في يده شيء(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ حتى فرغ من الآية.. هذا كله قد نسخ، أمره أن يجاهد المشركين، وقرأ: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦]، وقرأ: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ [التوبة: ١٢٣] العرب، فلما فرغ منهم قال الله ـ جل ثناؤه ـ: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ حتى بلغ قوله: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] قال وهم الروم قال فوجه إليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(3)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣١٨.

(2) ابن جرير: ٣/٣٢٧.

(3) ابن جرير: ٣/٣٠٨.

الفضيل:

روي عن الفضيل بن عياض (ت 187 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ بإساءة الظن بالله، ﴿وَأَحْسَنُوا﴾ الظن بالله؛: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ الظن به(1)..

2. روي عن محمد بن ثابت: دخلنا على الفضيل بن عياض، فقال لنا: اعلموا أن العبد لو أحسن الإحسان كله، وكانت له دجاجة فأساء إليها؛ لم يكن من المحسنين(2)..

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٩٣.

(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٣٣.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

أ. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ هذا أمر من الله عز وجل للمؤمنين بترك الظلم والاعتداء، والأخذ بالحق في جميع الأشياء، وأن يفعلوا ما أطلق لهم سبحانه فعله، ولا يتعدوا إلى غيره؛ مثل ذلك: ظالم تعدى، فقطع يد رجل، فقد جار عليه وظلمه، وله أن يفعل به مثل ما فعل سواء، وليس له أن يقطع يديه، ولا أن يقتله كما يفعل سفهاء من الناس، فقد رأيناهم ربما جرح أحدهم جرحا؛ فيقتل فيه من جرحه.. ومن التعدي أيضا: أن يجرج إنسان إنسانا، فيستوفي من غيره؛ من ابن عمه أو ابنه أو قرابته، كما يفعل البادية والأعراب؛ وهذا من الظلم البين، ولذلك قال سبحانه: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، فأراد عز وجل: أن يؤخذ من الظالم القصاص، ويكافأ بعينه، ولا يؤخذ بجرمه غيره.

ب. وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا﴾، فأراد عز وجل بقوله: ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾: الأذن والحكم منه لولي المقتول أن يقتل قاتل قريبه، ومعنى ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ هو: أن لا يقتل نفسين بنفس، ولا يقتل من لم يقتله ولم يتعدى عليه؛ فقد أسرف في القتل، وصار ظالما بتعديه، محكوما بالقتل عليه، ومن قتل من أولياء المقتول قاتل قريبه فهو مصيب، وعند الله غير مذموم.

ج. وذلك قوله سبحانه: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾، يريد عز وجل: ألا يتعدوا بفعل لم يفعل بكم مثله، وهذه الآية التي استشهدناها فإنما نزلت في أمر حمزة رحمة الله عليه، وذلك أنه لما مثلت به قريش قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لئن أمكنني الله من قريش لأمثلن بسبعين رجلا منهم)، فأنزل الله سبحانه: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾، فقال ـ عليه وآله السلام ـ: (بل أصبر، بل أصبر)، فصفح وطلب ما عند الله من الأجر والثواب.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/92.

الناصر:

قال الإمام الناصر بن الإمام الهادي (ت 325 هـ): العدوان على وجهين في القرآن(1).:

أ. فالوجه الأول: قوله سبحانه: ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، يقول: لا سبيل إلا على الظالمين.

ب. والوجه الآخر: كقول موسى صلوات الله عليه في سورة القصص: ﴿أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾، يقول: فلا حجة علي.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/91.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. اختلف في قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾:

أ. قيل‏: خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في الشهر الحرام يريد مكة فصده المشركون عن دخولها، فجاء من عام قابل في الشهر الحرام فدخلها وأقام ثلاثا، وقضى عمرته التي فاتته في العام الأول، فسميت عمرة القضاء، فذلك تأويل قوله: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ هذه الثانية صارت قصاصا ب الأول.

ب. وقيل: إن فى الجاهلية كانوا يعظمون الشهر الحرام، ولا يقاتلون فيه، فلما أن ظهر الإسلام عظمه أهل الإسلام أيضا، ولم يقاتلوا فيه، حتى جعل الكفار يغيرون على أهل الإسلام ويستنصرون عليهم، حتى نسخ ذلك وأمروا بالقتال فيه بقوله: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة: 217]، كأنه قال ما هتكتم من حرمة الشهر قصاص لما هتكوا.

2. قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: ﴿وَاتَّقُوا﴾ مخالفة الله.

ب. أو: ﴿وَاتَّقُوا﴾ عذاب الله.

ج. ويحتمل: ﴿وَاتَّقُوا﴾ القتال في الحرم قبل أن يبدؤوا هم.

3. قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يعنى: مع المؤمنين جملة.

ب. ﴿أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ في النصر والمعونة لهم.

4. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ وجوه:

أ. قيل‏: أمر بالإنفاق ترتيبا على الخروج إلى الجهاد، وإلا فكلّ منفق على نفسه بما يعلم حاجته إليه، ولا يلقى نفسه في الهلاك من حيث منع الإنفاق.

ب. وقيل‏: في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ هو أن يذنب ذنبا ثم ييأس عن العفو عنه.

ج. وقيل: ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ أي لا تضنوا بالإنفاق مخافة الفوت في الوقت الثاني؛ فإنه يخلف لكم ما أنفقتم.

د. وقيل: ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ أي أعينوا أصحابكم، ولا تلقوهم إلى التهلكة بترك المعونة لهم بالإنفاق والتجهيز لهم.

هـ. وقيل: ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ أي تصدقوا، فإن فيه حياة أبدانكم وأنفسكم.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَحْسَنُوا﴾:

أ. قيل‏: ﴿وَأَحْسَنُوا﴾ إلى أصحابكم بالإعانة والتصدق.

ب. وقيل‏: ﴿وَأَحْسَنُوا﴾ الظن بالله في الإنفاق.

ج. وقيل: ﴿وَأَحْسَنُوا﴾ الظن بربكم في الخروج إلى الغزو.

د. ويحتمل: ﴿وَأَحْسَنُوا﴾ أي أسلموا، وعلى ذلك يخرج قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ يعنى: المؤمنين.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/68.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾: أي الشهر الحرام يجوز فيه القصاص فمن ظلم في الشهر الحرام، وكذلك جميع الحرمات يحل الاقتصاص فيها ممن ظلم واعتدى(1)..

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 282.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أحرم بالعمرة في ذي القعدة سنة ست فصده المشركون عن البيت فصالحهم على أن يقضي في عامه القابل في سنة سبع فرجع وتحلل فلما كان سنة سبع أخلت له قريش مكة فدخلها في شهر القعدة في الشهر الذي صدوهم فيه وقضى عمرته.

2. ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ يعني ذي القعدة لأنه من الأشهر الحرم الذي صدوكم فيه عن العمرة الذي اعتمرتم فيه وإنما سمي ذا القعدة لقعود العرب فيه عن القتال وقد قيل إن قوماً قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنهيت عن قتالنا في الأشهر الحرم؟ فقال: (نعم) فأرادوا يقاتلونه فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ أي من استحل قتالكم في الشهر الحرام فاستحلوا قتاله فيه.

3. ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني الجهاد، ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ والباء زائدة وتفسير الآية تهلكة الإنسان نفسه ويقدم بها في الهلكة من غير نكاية في العدو.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/98.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كان قد أحرم بالعمرة في ذي القعدة سنة ست، فصدّه المشركون عن البيت، فصالحهم على أن يقضي في عامه الآخر، فحل ورجع، ثم اعتمر قاضيا في ذي القعدة سنة سبع، وأحلّت له قريش مكة حتى قضى عمرته، فنزل قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ يعني ذا القعدة الذي قضى فيه العمرة من عامه وهو من الأشهر الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه، وهو ذو القعدة في العام الماضي، سمي ذو القعدة لقعود العرب فيه عن القتال لحرمته، ثم قال تعالى: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ لأن قريشا فخرت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين صدّته، فاقتص الله عزّ وجل له، وهذا قول قتادة والربيع بن زيد.

ب. الثاني: أن سبب نزولها أن مشركي العرب، قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنهيت يا محمد عن قتالنا في الشهر الحرام؟ فقال نعم، فأرادوا أن يقاتلوه في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ أي إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام، فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم، وهذا قول الحسن البصري.

2. ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني الجهاد، ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ في الباء قولان:

أ. أحدهما: أنها زائدة، وتقديره ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة.

ب. الثاني: أنها غير زائدة أي ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، والتهلكة والهلاك واحد.

3. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ ستة تأويلات:

أ. أحدها: أن تتركوا النفقة في سبيل الله تعالى، فتهلكوا بالإثم، وهذا قول بن عباس، وحذيفة.

ب. الثاني: أي لا تخرجوا بغير زاد، فتهلكوا بالضعف، وهذا قول زيد ابن أسلم.

ج. الثالث: أي تيأسوا من المغفرة عند ارتكاب المعاصي، فلا تتوبوا، وهذا قول البراء بن عازب.

د. الرابع: أن تتركوا الجهاد في سبيل الله، فتهلكوا، وهذا قول أبي أيوب الأنصاري.

هـ. الخامس: أنها التقحم في القتال من غير نكاية في العدو، وهذا قول أبي القاسم البلخي.

و. السادس: أنه عام محمول على جميع ذلك كله، وهو قول أبي جعفر الطبري.

4. في قوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: أنه عنى به الإحسان في أداء الفرائض، وهو قول بعض الصحابة.

ب. الثاني: وأحسنوا الظن بالقدر، وهو قول عكرمة.

ج. الثالث: عودوا بالإحسان على من ليس بيده شيء، وهذا قول زيد بن أسلم.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/253.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. أشهر الحرم أربعة: رجب، وهو فرد وثلاثة أشهر سرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، والمراد هاهنا: ذو القعدة، وهو شهر الصّد عام الحديبة، وإنما سمي الشهر حراماً، لأنه كان يحرم فيه القتال، فلو أن الرجل يلقى قاتل أبيه أو ابنه لم يعرض له بسبيل وسمي ذو القعدة، لقعودهم فيه عن القتال.

2. الشهر مرتفع بالابتداء، وخبره بالشهر الحرام، وتقديره: قتال الشهر الحرام أي في الشهر الحرام، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ويحتمل أن يكون تقديره: الشهر الحرام على جهة العوض لما فات من الحج في السنة الأولى.

3. في قوله تعالى: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ قولان:

أ. أحدهما: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ بالمراغمة بدخول البيت في الشهر الحرام، قال‏ مجاهد: لأن قريشاً فخرت بردها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يوم الحديبة ـ محرماً ـ في ذي القعدة ـ عن البلد الحرام، فأدخله الله عز وجل مكة في العام المقبل في ذي القعدة، فقضى عمرته، وأقصه بما حيل بينه وبينه يوم الحديبة، وهو معنى قول قتادة، والضحاك، والربيع، وابن زيد، وروي عن ابن عباس، وأبي جعفر محمد بن علي عليه السلام مثله.

ب. الثاني:﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ بالقتال في الشهر الحرام أي لا يجوز للمسلمين إلا قصاصاً، وقال الحسن: إن مشركي العرب قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام، قال نعم، فأراد المشركون أن يغزوه في الشهر الحرام، فيقاتلوه، فأنزل الله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ أي إن استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئاً، فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم، وبه قال الزجاج، والجبائي.

4. إنما جمع ﴿وَالْحُرُمَاتُ﴾ لأحد أمرين:

أ. أحدهما: إنه يريد حرمة الشهر، وحرمة البلد، وحرمة الإحرام.

ب. الثاني:كل حرمة تستحل، فلا يجوز إلا على وجه المجازاة.

5. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. في الناس من قال إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾

ب. وقال آخرون: ليست منسوخة، لأنه يجوز اجتماعه مع تلك الفريضة ـ وهو الأولى ـ لأنه لا دلالة على نسخها.

6. الحرام: هو القبيح الممنوع من فعله، والحلال: المطلق المأذون فيه.

7. القصاص: الأخذ للمظلوم من الظالم، من أجل ظلمه إياه.

8. سؤال وإشكال: كيف جاز قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ مع قوله‏ ﴿فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾، والجواب: الثاني ليس باعتداء على الحقيقة، وإنما هو على وجه المزاوجة، ومعناه المجازات على ما بينا، والمعتدي مطلقاً لا يكون إلا ظالماً لضرر قبيح، وإذا كان مجازاً فإنما يفعل ضرراً حسناً.

9. سؤال وإشكال: كيف قال بمثل ما اعتدى عليكم، والأول جور، والثاني عدل؟ والجواب: لأنه مثله في الجنس وفي مقدار الاستحقاق، لأنه ضرر، كما أن الأول ضرر، وهو على مقدار ما يوجبه الحق في كل جرم.

10. قيل إنّ عدا، واعتدى لغتان بمعنى واحد، ومثله قرب واقترب، وجلب واجتلب، وقال قوم: في افتعل مبالغة ليس في فعل.

11. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ يعنى بالنصرة لهم، كأنه قال ﴿أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ بالنصرة أو إن نصرة الله معهم، وأصل (مع) المصاحبة في المكان أو الزمان.

12. ثم أمر الله تعالى جميع المكلفين المتمكنين من الإنفاق في سبيل الله، فقال: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ أن ينفقوا في سبيله.

13. سبيل الله: هو كل طريق شرعه الله تعالى لعباده، ويدخل فيه الجهاد، والحج، وعمارة القناطر، والمساجد، ومعاونة المساكين، والأيتام، وغير ذلك.

14. الإنفاق: هو إخراج الشيء عن ملك مالكه إلى ملك غيره، لأنه لو أخرجه الى هلاك لم يسم إنفاقاً.

15. ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ معناه لا تطرحوا أنفسكم في الهلاك، بأن تفعلوا ما يؤدي إليه، وحقيقة الإلقاء تصير الشيء الى جهة السفل، وإنما يقال: ألقى عليه مسألة مجازاً، كما يقال: طرح عليه مسألة.

16. الباء في قوله بأيديكم يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: أن تكون زائدة كقولك‏ تعلقت زيداً، وتعلقت بزيد وجذبت الثوب، وجذبت بالثوب، وعلمته، وعلمت به، قال الشاعر:

çولقد ملأت على نصيب جلده‏...بمساءة إن الصديق يعاتب‏é

والمراد ملأت جلده مساءة.

ب. الثاني:أن يكون على أصل الكلام من وجهين:

أحدهما: أن كل فعل متعد إذا كني عنه أو قدر على المصدر دخلته الباء، كقولك ضربته ثم تكني عنه فتقول فعلت به، والآخر أن تقول: أوقعت الضرب به فجاء على أصل الأفعال المتعدية.

والوجه الآخر: أنه لما كان معناه: لا تهلكوا أنفسكم بأيديكم، فدخلت الباء ليدّل على هذا المعنى، وهو خلاف أهلك نفسه بيد غيره.

17. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ وجوه:

أ. أحدها: قال الحسن، وقتادة، ومجاهد، والضحاك، وهو المروي عن حذيفة، وابن عباس: إن معناها ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ بالامتناع من الإنفاق في سبيل الله.

ب. الثاني:ما روي عن البراء ابن عازب، وعبيدة السلماني: لا تركبوا المعاصي باليأس من المغفرة.

ج. الثالث: ما قال البلخي، من أن معناها: لا تتقحموا الحرب من غير نكاية في العدّو، ولا قدرة على دفاعهم.

د. الرابع: ما قاله الجبائي لا تسرفوا في الإنفاق الذي يأتي على النفس.

و الأولى حمل الآية على عمومها في جميع ذلك.

18. التهلكة، والهلاك واحد، وقيل: التهلكة: ما أهلكهم الله عنده، وأصل الهلاك الضياع، وهو مصدر ضاع الشيء بحيث لا يدري أين هو، ومنه يقال للكافر: هالك، وللميت: هالك، وللمعذب: هالك، والهلوك: المهواة البعيدة، لأن الذي يهوي فيها هالك، والهلوك: الفاجرة، والهلوك: المتحيرة، تشبيهاً بالهلوك: الفاجرة التي تمايل في مشيتها، تقول: هلك يهلك هلكا، وهلاكا، وأهلكه إهلاكا، وتهالك تهالكا، واهتلك اهتلاكا: إذا ألقى نفسه في المهالك، واستهلكه استهلاكا، وانهلك انهلاكا، إذا حمل نفسه على الأمر الصعب، والهالكي: الحداد، وأصل ذلك أن بني الهالك بن عمر، كانوا قيونا، فسمي بذلك كل قين: هالكياً، والتهلكة: كلما كان عاقبته الى الهلاك، والهالك: الفقير الذي بمضيعة.

19. الإحسان: هو الإفضال الى المحتاج، في قول زيد بن أسلم، وحدّ الإحسان هو إيصال النفع الحسن إلى الغير، وليس المحسن من فعل الفعل الحسن، لأن الله تعالى بفعل العقاب وهو حسن، ولا يقال: إنه محسن به، ولا يسمى مستوفي الدين محسناً، وإن كان حسناً، فان أطلق ذلك في موضع، فعلى وجه المجاز، وإنما اعتبرنا أن يكون النفع حسناً، لأن من أوصل نفعاً قبيحاً الى غيره لا يقال: إنه محسن اليه.

20. محبة الله للمحسنين: إرادة الثواب بهم والمنفعة لهم، وقال عكرمة: أحسنوا الظن بالله يراكم، وقال ابن زيد: أحسنوا بالعود على المحتاج، وروى عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبل الله ما كان أحسن ولا وفق لقوله‏ ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ يعني المقتصدين.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/150.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)..:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. سمي الشهر حرامًا؛ لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال ونحوه.

ب. الحرمات: جمع حرمة كظلمات وظلمة، وحجرات وحجرة، والحرمة: ما يجب حفظه، ويحرم هتكه.

ج. القصاص: المساواة، وهو أن يُفْعل به مثل ما فعل.

د. المعتدي: الظالم المجاوز للحد، وعدا واعتدى قيل: بمعنى، كقرب واقترب، وقيل: في ﴿افتعل﴾ مبالغة.

هـ. التهلكة: كل شيء يصير عاقبته إلى الهلاك، وأصل الهلاك الضياع، وهو أن يصير بحيث لا يدري أين هو، وقيل: التهلكة مصدر بمعنى الإهلاك، وقيل: ليس في كلام العرب مصدر على تفعُلة بضم العين إلا هذا.

و. الإحسان: النفع الحسن، ونقيضه الإساءة.

ز. الإنفاق: إخراج الشيء من ملكه إلى غيره.

ح. الإلقاء: تصيير الشيء إلى سفْلٍ ثم يستعمل في غيره، فيقال: ألقى عليه مسألة.

2. مما روي في سبب نزول الآيات الكريمة:

أ. قيل: نزل قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾، في عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج عام الحديبية للعمرة، فصده أهل مكة، ثم صالحوا على أن ينصرف، ويعود في العام القابل، فاعتمر فأنزل الله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ يعني ذا القعدة ـ سمي به لقعودهم عن الحرب ـ الذي دخلتم مكة فيه، واعتمرتم في سنة سبع بالشهر الحرام: ذي القعدة في السنة التي صده المشركون فيها عن البيت وهو سنة ست، فقال الحسن وأبو علي والزجاج: إن مشركي قريش قالوا: يا محمد، نُهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال: ﴿نِعْمَ﴾، وأرادوا أن يقاتلوه فأنزل الله تعالى الآية، يعني استحلوا منكم الشهر الحرام، فاستحلوا منهم.

ب. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾:

قيل: نزلت في البخل وترك الإنفاق في سبيل الله، عن ابن عباس والحسن وقتادة وعكرمة والأصم.

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: لما أمر الناس بالجهاد والحج كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿إذا أراد سفرًا نادى به ليأخذ الناس أهبة السفر فلما كان عام الحديبية﴾

وقيل: لما أمرهم بالحج أمرهم بذلك فقام ناس من الأعراب، وقالوا: كيف نجهز وما لنا زاد؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقيل: لما أمروا بالإنفاق قال أناس: أمرنا بالنفقة، فإن أنفقنا بقينا فقراء، فنزلت الآية، وقال: لا تخشوا العيلة بالإنفاق فإني رازقكم، عن سعيد بن المسيب ومقاتل.

وقيل عن أبي أيوب: فينا معشر الأنصار نزلت لما أعز الله دينه، ونصر رسوله، قلنا: لو رجعنا إلى أهلنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فالتهلكة الإقامة في الأهل والمال.

3. ثم بَيَّنَ تعالى القتال في الشهر الحرام، فقال تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾:

أ. قيل: هذا الشهر الحرام الذي اعتمرتم فيه بالشهر الذي، صُددتم.

ب. وقيل: القتال في الشهر الحرام بالقتال في الشهر الحرام.

4. في قوله تعالى: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ قولان:

أ. قيل: حرمة الشهر، وحرمة البلد، وحرمة الإحرام.

ب. وقيل: كل حرمة تستحل قصاصًا.

ج. قيل: دخوله المسجد محرمًا في سنة القضاء.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قِصَاصٌ﴾:

أ. قيل: لرده محرمًا في السنة الأولى.

ب. وقيل: قتالهم في الشهر الحرام قصاص لما تركوا من المحرمات.

6. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ أي ظلمكم ﴿فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ أي جازوه، والثاني ليس باعتداء، وإنما أتى به على مزاوجة الكلام، قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ﴾ قال الشاعر:

çأَلا لاَ يَجْهلنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِليِنَاé

7. ﴿بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ يعني مثله في مقدار الاستحقاق والجنس، وإن كان الأول جورا، والثاني عدلاً، كمن قَتَلَ قُتِلَ، والثاني عدل، والأول ظلم، إلا أنه مثله في الصفة والجنس والمقدار ﴿وَاتَّقُوا الله﴾ في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ بالنصرة لهم، أو نصرته معهم.

8. قيل: إن الآية الكريمة منسوخة بقوله: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ والصحيح أن لا نسخ فيه؛ لأنه يجوز اجتماعه مع تلك الفريضة، ولا يقال: كيف أمر بالاعتداء وهو قبيح؛ لأنا بينا أن المراد به الجزاء.

9. ثم لما أوجب الله تعالى القتال أمر بالإنفاق فيه، فقال: ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ يعني من أموالكم ﴿فِي سَبِيلِ الله﴾:

أ. قيل: في الجهاد وطريق الدين الذي شرعه لعباده، وهو الوجه؛ لاتساق الكلام.

ب. وقيل: في جميع أبواب البر.

ج. وقيل: في الحج.

10. ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ أي لا تهلكوا أنفسكم بأيديكم، وفيه أقوال:

أ. قيل: بترك الإنفاق في سبيل الله فيغلب عليكم العدو، عن ابن عباس وحذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.

ب. وقيل: بارتكاب المعاصي، واليأس من المغفرة، عن البراء بن عازب وعبيدة السلماني.

ج. وقيل: بالإسراف في الإنفاق الذي يأتي على النفس، عن أبي علي.

د. وقيل: بتقحم الحرب من غير نكاية في العدو، عن أبي هريرة والسفيان وأبي القاسم.

هـ. وقيل: بترك القتال، عن أبي أيوب وأبي مسلم.

و. وقيل: لا تنفقوا جميع أموالكم فتحتاجوا إلى السؤال.

ز. وقيل: في إساءة الظن بِالله عز وجل، وأحسنوا الظن به فإنه يحب من أحسن الظن به، عن الفضيل بن عياض.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَحْسَنُوا﴾:

أ. قيل: في فرائض الله، عن الأصم.

ب. وقيل: في الإنفاق على من يلزمكم مؤنته ونفقته.

ج. وقيل: أحسنوا إلى أنفسكم، فلا تلقوها في النار بارتكاب الكبائر.

د. وقيل: بالأعمال الحسنة والعبادات، عن أبي علي وأبي مسلم.

هـ. وقيل: أحسنوا في الإنفاق ولا تسرفوا، ولا تقتروا، عن القاضي، وهو الوجه؛ لاتصاله بما قبله: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ يريد إثابتهم.

12. سؤال وإشكال: أليس الحسين قاتل وحده؟ والجواب: فعله يحتمل وجهين(2).:

أ. أحدهما: أنه ظن أنهم لا يقتلونه لمكانه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. الثاني: غلب على ظنه أنه إن ترك قتالهم يقتلونه صبرًا، فكان القتال مع الجهاد أهون عليه.

13. سؤال وإشكال: متى قيل فلِمَ صالح الحسن معاوية مع كونه إمامًا ومع إنكار جماعة من أصحابه؟ والجواب: لأنه لما خرج وخالفه أصحابه واستأمن صاحب جيشه عبيد الله بن العباس إلى معاوية، وتشتت الأمر خاف على نفسه وعلى بقية المؤمنين من شيعته، وفي مثل هذه الحالة تجوز المصالحة.

14. تدل الآيات الكريمة على:

أ. جواز القتال في الشهر الحرام والبلد الحرام إذا بَدَؤُوا به،

ب. أن من قطع يد إنسان، أو عضوا من أعضائه ففيه القصاص.

ج. أن من غصب شيئًا وأتلفه يلزمه رد مثله، ثم المثل على وجهين: من طريق الصورة كذوات الأمثال، ومن طريق المعنى كالقِيم فيما لا مثل له.

د. جريان القصاص بين المسلم والذمي والحر والعبد خلاف ما يقوله الشافعي، قال القاضي: ويمكن أن يستدل به على جريان القصاص في الأطراف بين الحر والعبد على ما يقوله الشافعي، وهذا يبعد؛ لأنه تعالى أمر بذلك، واعتبر المماثلة، ولا مماثلة هناك بين طرف الذكر وطرف الأنثى، وكذلك الحر والعبد.

هـ. استدل بعضهم على أن من غصب ساحة وأدخلها في بنائه أنه يؤخذ، وذلك يبعد؛ لأنه أمر بمثله، وهو لم ينقض بِنَاهُ فلا ينقض بِنَاهُ أيضًا.

و. وجوب الإنفاق في الدين، وهو ما شرع في دينه كالزكاة والجهاد، ونفقة الأقارب والمحتاجين، ومعونة من يجب معونته، والإنفاق في الحج؛ لأن جميع ذلك إنفاق في سبيل الله.

ز. أن فرض الجهاد قد يكون بالمال، وقد يكون بالنفس.

ح. تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس، فيدخل فيه جميع ما ذكرنا من الوجوه في الآية.

ط. أن أمن الطريق شرط في أداء الحج وفي وجوبه.

ي. أن من خاف على نفسه من الصوم يجب الفطر.

ك. أن وجوب الصلاة قاعدًا إذا خاف على نفسه قائمًا، وعلى وجوب التيمم إذا خاف البرد، واتفقوا في السفر على ذلك، واختلفوا في الحضر.

ل. جواز الهزيمة في الجهاد إذا خاف على النفس.

م. جواز ترك الأمر بالمعروف إذا خاف؛ لأن كل ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة.

ن. جواز المصالحة مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين كما فعل رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم عام الحديبية، وكما فعله أمير المؤمنين علي بصفين، وكما فعل الحسن من مصالحة معاوية.

15. مسائل نحوية:

أ. الباء في قوله: ﴿بِأَيْدِيكُمْ﴾ قيل: زائدة، كقولهم: جذبت الثوب وبالثوب، وتعلقت زيدًا وبزيد، وقيل: ليست بزائدة، ولكنها على أصل الكلام من وجهين: أحدهما أن كل فعل متعد إذا كني عنه أو قدر على المصدر دخلته الباء كقوله: ضربته ثم يكنى عنه، فتقول: فعلت به، والآخر أن تقول: وقعت الضربة منه فجاء على الأفعال المتعدية، والوجه الثاني: أنه لما كان معناه لا تهلكوا أنفسكم بأيديكم دخلت الباء؛ لتدل على هذا المعنى، وهو خلاف أهلك نفسه بيد غيره.

ب. ﴿مَعَ﴾: حرف المقارنة، ومعناه ههنا مصاحبة النصرة للمتقين.

ج. خبر قوله: ﴿الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ فيه قولان:

الأول: قتال الشهر الحرام بقتال الشهر الحرام.

الثاني: الشهر الحرام بالشهر الحرام على جهة العوض لما فات من الحج في السنة الأولى.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/794.

(2) لا نرى صحة هذين الوجهين، وقد ذكرنا الوجوه الصحيحة في كتاب [الإمام الحسين وقيم الدين الأصيل].

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)..:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. إنما سمي الشهر الحرام: لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال ونحوه.

ب. الحرمات: جمع حرمة، وهي ما يجب حفظه، ويحرم هتكه، والحرام هو القبيح الممنوع من فعله، والحلال: المطلق المأذون فيه.

ج. القصاص: الأخذ للمظلوم من الظالم من أجل ظلمه إياه.

د. اعتدى عليه وعدي عليه، بمعنى، مثل قرب واقترب، وجلب واجتلب، وقيل: إن في افتعل مبالغة ليست في فعل

هـ. الانفاق إخراج الشئ عن ملكه إلى ملك غيره، لأنه لو أخرجه إلى هلاك لم يسم إنفاقا.

و. الإلقاء: تصيير الشئ إلى جهة السفل، وقد يقال ألقى عليه مسألة مجازا كما يقال: طرح عليه مسألة، وقد يقال لكل من أخذ في عمل: ألقى يديه إليه، وفيه قال لبيد:

çحتى إذا ألقت يدا في كافر،...وأجن عورات الثغور ظلامهاé

يعني الشمس أي: بدأت في المغيب، التهلكة والهلاك واحد.

ز. التهلكة مصدر بمعنى الهلاك، وليس في كلام العرب مصدر على تفعلة بضم العين إلا هذا، وقيل: التهلكة كل ما يصير عاقبته إلى الهلاك، وأصل الهلاك: الضياع، وهو مصير الشئ بحيث لا يدرى أين هو، ومنه يقال للكافر هالك، وللميت هالك، وللمعذب: هالك، والهلوك: الفاجرة، والهالكي: الحداد، وأصله أن بني الهالك بن عمرو كانوا قيونا، فنسب إليه كل قين.

ح. الإحسان: هو ايصال النفع الحسن إلى الغير، وليس المحسن من فعل الفعل الحسن، لأن مستوفي الدين لا يسمى محسنا، وإن كان فعله حسنا، ولا يقال إن القديم تعالى بفعل العقاب محسن، وإن كان العقاب حسنا، وإنما اعتبرنا النفع الحسن لأن من أوصل نفعا قبيحا إلى غيره لا يقال إنه محسن إليه.

2. ثم بين الله تعالى القتال في الشهر الحرام فقال: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ المراد بها ها هنا ذو القعدة، وهو شهر الصد عام الحديبية، والأشهر الحرم أربعة ثلاثة سرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد وهو رجب، كانوا يحرمون فيها القتال حتى لو أن رجلا لقي قاتل أبيه، أو أخيه، لم يتعرض له بسوء، وإنما قيل ذو القعدة: لقعودهم فيه عن القتال، وقيل في تقديره وجهان:

أ. أحدهما: إنه قتال شهر الحرام أي: في الشهر الحرام بقتال الشهر الحرام، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه.

ب. وقيل: إنه الشهر الحرام على جهة العوض لما فات في السنة الأولى، ومعناه: الشهر الحرام ذو القعدة الذي دخلتم فيه مكة، واعتمرتم وقضيتم منها وطركم في سنة سبع، بالشهر الحرام ذي القعدة الذي صددتم فيه عن البيت ومنعتم عن مرادكم في سنة ست.

3. في قوله تعالى: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ قولان:

أ. أحدهما: إن الحرمات قصاص بالمراغمة بدخول البيت في الشهر الحرام، قال مجاهد: لأن قريشا فخرت بردها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عام الحديبية محرما في ذي القعدة عن البلد الحرام، فأدخله الله مكة في العام المقبل في ذي القعدة، فقضى عمرته وأقصه بما حيل بينه وبينه وهو معنى قتادة والضحاك والربيع وعبد الرحمن بن زيد، وروي عن ابن عباس وأبي جعفر الباقر مثله.

ب. الثاني: إن الحرمات قصاص بالقتال في الشهر الحرام أي: لا يجوز للمسلمين إلا قصاصا، قال الحسن: إن مشركي العرب قالوا لرسول الله: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال: نعم، وإنما أراد المشركون أن يغروه في الشهر الحرام فيقاتلوه، فأنزل الله هذا أي: إن استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئا، فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم، وبه قال الزجاج والجبائي.

4. اختلف في سبب جمع الحرمات:

أ. قيل: إنما جمع الحرمات لأنه أراد حرمة الشهر، وحرمة البلد، وحرمة الإحرام.

ب. وقيل: لأن كل حرمة تستحل فلا يجوز إلا على وجه المجازاة.

5. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ أي: ظلمكم ﴿فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ أي: فجازوه باعتدائه وقابلوه بمثله، والثاني ليس باعتداء على الحقيقة، ولكن سماه اعتداء لأنه مجازاة اعتداء، وجعله مثله وإن كان ذلك جورا وهذا عدلا، لأنه مثله في الجنس، وفي مقدار الاستحقاق، ولأنه ضرر كما أن ذاك ضرر فهو مثله في الجنس والمقدار والصفة.

6. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فيما أمركم به، ونهاكم عنه ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ بالنصرة لهم، أو يريد أن نصرة الله معهم، وأصل ﴿مَعَ﴾ المصاحبة في المكان أو الزمان.

7. في هذه الآية دلالة على أن من غصب شيئا وأتلفه، يلزمه رد مثله، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة في ذوات الأمثال، ومن طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له.

8. ثم لما أوجب سبحانه القتال في سبيل الله، عقبه بذكر الانفاق فيه، فقال: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ معناه: وأنفقوا من أموالكم في الجهاد، وطريق الدين، وكل ما أمر الله به من الخير، وأبواب البر، فهو سبيل الله، لأن السبيل هو الطريق، فسبيل الله: الطريق إلى الله، وإلى رحمة الله وثوابه، إلا أنه كثر استعماله في الجهاد، لأن الجود بالنفس أقصى غاية الجود، والجهاد هو الأمر الذي يخاطر فيه بالروح، فكانت له مزية.

9. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ وجوه:

أ. أحدها: إنه أراد لا تهلكوا أنفسكم بأيديكم بترك الانفاق في سبيل الله، فيغلب عليكم العدو، عن ابن عباس، وجماعة من المفسرين.

ب. ثانيها: إنه عنى به لا تركبوا المعاصي باليأس من المغفرة، عن البراء بن عازب، وعبيدة السلماني.

ج. ثالثها: إن المراد لا تقتحموا الحرب من غير نكاية في العدو، ولا قدرة على دفاعهم، عن الثوري، واختاره البلخي.

د. رابعها: إن المراد ولا تسرفوا في الانفاق الذي يأتي على النفس، عن الجبائي، ويقرب منه ما روي عن أبي عبد الله: لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن ولا وفق لقوله سبحانه: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾:

أ. قيل: يعني: المقتصدين.

ب. وقال عكرمة: معناه أحسنوا الظن بالله يبر بكم.

ج. وقال عبد الرحمن بن زيد: وأحسنوا بالعود على المحتاج.

والأولى حمل الآية على جميع هذه الوجوه، ولا تنافي فيها.

11. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ دلالة على:

أ. تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس.

ب. جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف، لأن في ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة.

ج. جواز الصلح مع الكفار والبغاة، إذا خاف الإمام على نفسه، أو على المسلمين كما فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عام الحديبية، وفعله أمير المؤمنين عليه السلام بصفين، وفعله عليه السلام مع معاوية من المصالحة لما تشتت أمره، وخاف على نفسه وشيعته، فإن عورضنا بأن الحسين عليه السلام قاتل وحده؟ فالجواب: إن فعله يحتمل وجهين(2).:

أحدهما: إنه ظن أنهم لا يقتلونه لمكانه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

والآخر: إنه غلب على ظنه أنه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبرا، كما فعل بابن عمه مسلم، فكان القتل مع عز النفس والجهاد، أهون عليه.

12. اختلف في الباء في قوله تعالى: ﴿بِأَيْدِيكُمْ﴾:

أ. قيل: زائدة، كما يقال جذبت الثوب وبالثوب، وعلمته وعلمت به، وقال الشاعر:

çولقد ملأت على نصيب جلده...بمساءة إن الصديق يعاتبé

أي: ملأت جلده مساءة.

ب. وقيل: ليست الباء بزائدة ولكنها على أصل الكلام من وجهين:

أحدهما: إن كل فعل متعد إذا كني عنه، أو قدر على المصدر، دخلته الباء، تقول: ضربته، ثم تكني عنه فتقول: فعلت به، ويقال: أوقعت الضرب به، فجاء على أصل الأفعال للتعدية.

والآخر: إنه لما كان معناه لا تهلكوا أنفسكم بأيديكم، دخلت الباء لتدل على هذا المعنى وهو خلاف أهلك نفسه بيد غيره.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/514.

(2) لا نرى صحة هذين الوجهين، وقد ذكرنا الوجوه الصحيحة في كتاب [الإمام الحسين وقيم الدين الأصيل].

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ هذه الآية نزلت على سبب واختلفوا فيه على قولين:

أ. أحدهما: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أقبل هو وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي، فصدّهم المشركون، فصالحهم نبيّ الله على أن يرجع عنهم ثمّ يعود في العام المقبل، فيكون بمكّة ثلاث ليال، ولا يدخلها بسلاح، ولا يخرج بأحد من أهل مكّة، فلمّا كان العام المقبل؛ أقبل هو وأصحابه فدخولها، فافتخر المشركون عليه إذ ردّوه يوم الحديبية، فأقصّه الله منهم وأدخله مكّة في الشهر الذي ردّوه فيه، فقال: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وقتادة في آخرين، وأرباب هذا القول يقولون: معنى الآية: الشّهر الحرام الذي دخلتم فيه الحرم بالشّهر الحرام الذي صدّوكم فيه عام أوّل.

ب. الثاني: أنّ مشركي العرب قالوا للنبيّ عليه السّلام: أنهيت عن قتالنا في الشّهر الحرام؟ قال (نعم)، وأرادوا أن يفتّروه في الشهر الحرام، فيقاتلوه فيه، فنزلت هذه الآية، يقول: إن استحلّوا منكم شيئا في الشّهر الحرام، فاستحلّوا منهم مثله، هذا قول الحسن، واختاره إبراهيم بن السّريّ الزجّاج.

2. ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾: اقتصصت لكم منهم في ذي القعدة كما صدّوكم في ذي القعدة، وقال الزجّاج: الشهر الحرام، أي: قتال الشّهر الحرام بالشّهر الحرام، فأعلم الله عزّ وجلّ أنّ أمر هذه الحرمات لا تجوز للمسلمين إلا قصاصا، ثم نسخ ذلك بآية السّيف.

3. قيل: إنّما جمع الحرمات، لأنه أراد الشّهر الحرام بالبلد الحرام، وحرمة الإحرام.

4. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾، قال ابن عباس: من قاتلكم في الحرم فقاتلوه، وإنما سمّى المقابلة على الاعتداء اعتداء، لأنّ صورة الفعلين واحدة، وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية، قال الزجّاج: والعرب تقول: ظلمني فلان فظلمته، أي: جازيته بظلمه، وجهل فلان عليّ، فجهلت عليه.

5. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾، قال سعيد بن جبير: واتّقوا الله ولا تبدأوهم بقتال في الحرم.

6. قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، هذه الآية نزلت على سبب، وفيه قولان:

أ. أحدهما: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا أمر بالتّجهّز إلى مكّة، قال ناس من الأعراب: يا رسول الله! بما ذا نتجهّز؟ فو الله ما لنا زاد ولا مال! فنزلت، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: أن الأنصار كانوا ينفقون ويتصدّقون، فأصابهم سنة، فأمسكوا؛ فنزلت، قاله أبو جبيرة بن الضحاك.

7. السّبيل في اللّغة: الطّريق، وإنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد، لأنه السّبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدّين.

8. التّهلكة: بمعنى الهلاك، يقال: هلك الرجل يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة، قال المبرّد: وأراد بالأيدي: الأنفس؛ فعبّر بالبعض عن الكلّ، وفي المراد بالتّهلكة هاهنا أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنها ترك النّفقة في سبيل الله، قاله حذيفة، وابن عباس، والحسن، وابن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والضّحّاك.

ب. الثاني: أنها القعود عن الغزو شغلا بالمال، قاله أبو أيّوب الأنصاريّ.

ج. الثالث: أنها القنوط من رحمة الله، قاله البراء، والنّعمان بن بشير، وعبيدة.

د. الرابع: أنها عذاب الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.

9. في قوله تعالى: ﴿وَأَحْسَنُوا﴾، ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن معناه: أحسنوا الإنفاق، وهو قول أصحاب القول الأوّل.

ب. الثاني: أحسنوا الظّنّ بالله، قاله عكرمة، وسفيان، وهو يخرّج على قول من قال التّهلكة: القنوط.

ج. الثالث: أن معناه: أدّوا الفرائض، رواه سفيان عن أبي إسحاق.

__________

(1) زاد المسير: 1/157.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. لما أباح الله تعالى القتال وكان ذلك منكرا فيما بينهم، ذكر في هذه الآية ما يزيل ذلك، فقال: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ وفيه وجوه:

أ. أحدها: روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك‏ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج عام الحديبية للعمرة وكان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصده أهل مكة عن ذلك ثم صالحوه عن أن ينصرف ويعود في العالم القابل حتى يتركوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في العام القابل وهو في ذي القعدة سنة سبع ودخل مكة واعتمر، فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني إنك دخلت الحرم في الشهر الحرام، والقوم كانوا صدوك في السنة الماضية في هذا الشهر فهذا الشهر بذاك الشهر.

ب. ثانيها: ما روي عن الحسن أن الكفار سمعوا أن الله تعالى نهى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أن يقاتلهم في الأشهر الحرم، فأرادوا مقاتلته وظنوا أنه لا يقاتلهم، وذلك قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 217] فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان الحكم في هذه الواقعة، فقال: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ أي من استحل دمكم من المشركين في الشهر الحرام فاستحلوه فيه.

ج. ثالثها: ما ذكره قوم من المتكلمين وهو أن الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله، فكيف يمنعنا عن مقاتلتكم، فالشهر الحرام من جانبنا، مقابل بالشهر الحرام من جانبكم، والحاصل في الوجوه الثلاثة أن حرمة الشهر الحرام لما لم تمنعهم عن الكفر والأفعال القبيحة، فكيف جعلوه سببا في أن يمنع للقتال من شرهم وفسادهم.

2. ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ فالحرمات جمع حرمة، والحرمة ما منع من انتهاكه والقصاص المساواة، وفي هذه الآية تعود تلك الوجوه:

أ. أما على الوجه الأول: فهو أن المراد بالحرمات: الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام فقوله: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ معناه أنهم لما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد وقفتم حتى قضيتموه على زعمكم في سنة سبع.

ب. أما على الوجه الثاني: فهو أن المراد: إن أقدموا على مقاتلتكم فقاتلوهم أنتم أيضا، قال الزجاج: وعلم الله تعالى بهذه الآية أنه ليس للمسلمين أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء بل على سبيل القصاص، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية، وهو قوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: 191] وبما بعدها وهو قوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾

ج. أما على الوجه الثالث: فقوله: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ يعني حرمة كل واحد من الشهرين كحرمة الآخر فهما مثلان، والقصاص هو المثل فلما لم يمنعكم حرمة الشهر من الكفر والفتنة والقتال فكيف يمنعنا عن القتال.

3. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ المراد منه: الأمر بما يقابل الاعتداء من الجزاء والتقدير: فمن اعتدى عليكم فقابلوه.

4. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ أي بالمعونة والنصرة والحفظ والعلم، وهذا من أقوى الدلائل على أنه ليس بجسم ولا في مكان إذ لو كان جسما لكان في مكان معين، فكان إما أن يكون مع أحد منهم ولم يكن مع الآخر أو يكون مع كل واحد من المؤمنين جزء من أجزائه وبعض من أبعاضه تعالى الله عنه علوا كبيرا.

5. تعلق هذه الآية ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ بما قبلها من وجهين:

أ. الأول: أنه تعالى لما أمر بالقتال والاشتغال بالقتال لا يتيسر إلا بالآلات وأدوات يحتاج فيها إلى المال، وربما كان ذو المال عاجزا عن القتال وكان الشجاع القادر على القتال فقيرا عديم المال، فلهذا أمر الله تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفقراء الذين يقدرون على القتال.

ب. الثاني: يروى‏ أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ [البقرة: 194] قال رجل من الحاضرين: والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينفقوا في سبيل الله وأن‏ يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة تحمل في سبيل الله فيهلكوا، فنزلت هذه الآية على وفق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

6. الإنفاق هو صرف المال إلى وجوه المصالح، فلذلك لا يقال في المضيع: إنه منفق فإذا قيد الإنفاق بذكر سبيل الله، فالمراد به في طريق الدين، لأن السبيل هو الطريق، وسبيل الله هو دينه، فكل ما أمر الله به في دينه من الإنفاق فهو داخل في الآية سواء كان إنفاقا في حج أو عمرة أو كان جهادا بالنفس، أو تجهيزا للغير، أو كان إنفاقا في صلة الرحم، أو في الصدقات أو على العيال، أو في الزكوات والكفارات، أو عمارة السبيل وغير ذلك، إلا أن الأقرب في هذه الآية وقد تقدم ذكر الجهاد أنه يراد به الإنفاق في الجهاد، بل قال ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لوجهين:

أ. الأول: أن هذا كالتنبيه على العلة في وجوب هذا الإنفاق، وذلك لأن المال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز ونشط فيسهل عليه إنفاق المال.

ب. الثاني: أن هذه الآية إنما نزلت وقت ذهاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى مكة لقضاء العمرة، وكانت تلك العمرة لا بد من أن تفضي إلى القتال إن منعهم المشركون، فكانت عمرة وجهادا، واجتمع فيه المعنيان، فلما كان الأمر كذلك، لا جرم قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ولم يقل: وأنفقوا في الجهاد والعمرة.

7. ﴿التَّهْلُكَةِ﴾ قال أبو عبيدة والزجاج‏: الهلاك يقال: هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة: قال الخارزنجي: لا أعلم في كلام العرب مصدرا على تفعلة بضم العين إلا هذا، قال أبو علي: قد حكى سيبويه: التنصرة والتسترة، وقد جاء هذا المثال اسما غير مصدر، قال ولا نعلمه جاء صفة قال الزمخشري(: ويجوز أن يقال أصله التهلكة، كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر هكذا فأبدلت الضمة بالكسرة، كما جاء الجوار في الجوار)، إني لأتعجب كثيرا من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع، وذلك أنهم لو وجدوا شعرا مجهولا يشهد لما أرادوه فرحوا به، واتخذوه حجة قوية، فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة، أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها.

8. اتفقوا على أن الباء في قوله: ﴿بِأَيْدِيكُمْ﴾ تقتضي إما زيادة أو نقصانا:

أ. فقال قوم: الباء زائدة والتقدير: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة، وهو كقوله: جذبت الثوب بالثوب، وأخذت القلم بالقلم فهما لغتان مستعملتان مشهورتان، أو المراد بالأيدي الأنفس كقوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: 10] أو ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30] فالتقدير: ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة.

ب. وقال آخرون: بل هاهنا حذف، والتقدير: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾:

أ. قيل: إنه راجع إلى نفس النفقة، وذكروا فيه وجوها:

الأول: أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم، فيستولي العدو عليهم ويهلكهم، وكأنه قيل: إن كنت من رجال الدين فأنفق مالك في سبيل الله وفي طلب مرضاته، وإن كنت من رجال الدنيا فأنفق مالك في دفع الهلاك والضرر عن نفسك‏.

الثاني: أنه تعالى لما أمره بالإنفاق نهاه عن أن ينفق كل ماله، فإن إنفاق كل المال يفضي إلى التهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول والمشروب والملبوس فكان المراد منه ما ذكره في قوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الشورى: 67] وفي قوله: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: 29]

ب. وقيل: إنه راجع إلى غيرها، وذكروا فيه وجوها:

أحدها: أن يخلوا بالجهاد فيتعرضوا للهلاك الذي هو عذاب النار فحثهم بذلك على التمسك بالجهاد وهو كقوله: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42]

ثانيها: المراد من قوله: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ أي لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع، ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل، وإنما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل، فأما إذا كان آيسا من النكاية وكان الأغلب أنه مقتول فليس له أن يقدم عليه، وهذا الوجه منقول عن البراء بن عازب.

ونقل عن أبي هريرة أنّه قال في هذه الآية: هو الرجل يستقل بين الصفين.

ج. الثالث: أن يكون هذا متصلا بقوله: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ [البقرة: 194] أي فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه فإن الحرمات قصاص، فجازوا اعتداءهم عليكم ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال فإنكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة الوجه.

د. الرابع: أن يكون المعنى: أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إنا نخاف الفقر إن أنفقنا فنهلك ولا يبقى معنا شيء، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق، والمراد من هذا الجعل والإلقاء الحكم بذلك كما يقال جعل فلان فلانا هالكا وألقاه في الهلاك إذا حكم عليه بذلك الوجه.

هـ. الخامس: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ هو الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل فذاك هو إلقاء النفس إلى التهلكة فالحاصل أن معناه النهي عن القنوط عن رحمة الله لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية والإصرار على الذنب الوجه.

و. السادس: يحتمل أن يكون المراد وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط، وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلا يحبط ثوابه إما بتذكير المنة أو بذكر وجوه الرياء والسمعة، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 33]

10. من الناس من طعن في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ بأنه (الرجل يستقل بين الصفين)، واحتج عليه بوجوه:

أ. الأول: روي‏ أن رجلا من المهاجرين حمل على صف العدو فصاح به الناس فألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري نحن أعلم بهذه الآية، وإنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونصرناه وشهدنا معه المشاهد فلما قوي الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا وتصالحنا، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.

ب. الثاني: روى الشافعي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكر الجنة، فقال له رجل من الأنصار: أرأيت يا رسول الله إن قتلت صابرا محتسبا؟ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لك الجنة) فانغمس في جماعة العدو فقتلوه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن رجلا من الأنصار ألقى درعا كانت عليه حين ذكر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الجنة ثم انغمس في العدو فقتلوه.

ج. الثالث: روي‏ أن رجلا من الأنصار تخلف عن بني معاوية فرأى الطير عكوفا على من قتل من أصحابه، فقال لبعض من معه سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي، ففعل ذلك فذكروا ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال فيه قولا حسنا.

د. الرابع: روي أن قوما حاصروا حصنا، فقاتل رجل حتى قتل فقيل ألقى بيده إلى التهلكة فبلغ عمر بن الخطاب ذلك فقال: كذبوا أليس يقول الله تعالى‏ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 207]

11. لمن نصر تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ بأنه (الرجل يستقل بين الصفين)، أن يجيب عن هذه الوجوه بأنا نا إنما حرمنا إلقاء النفس في صف العدو إذا لم يتوقع إيقاع نكاية منهم، فإما إذا توقع فنحن نجوز ذلك، فلم قلتم أنه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع الوجه.

12. اختلفوا في أن المحسن في قوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ مشتق من ماذا، وفيه وجوه:

أ. الأول: أنه مشتق من فعل الحسن وأنه كثر استعماله فيمن ينفع غيره بنفع حسن من حيث أن الإحسان حسن في نفسه، وعلى هذا التقدير فالضرب والقتل إذا حسنا كان فاعلهما محسنا.

ب. الثاني: أنه مشتق من الإحسان، ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسنا إلا إذا كان فعله حسنا وإحسانا معا، فالاشتقاق إنما يحصل من مجموع الأمرين.

13. في قوله تعالى: ﴿وَأَحْسَنُوا﴾ وجوه:

أ. أحدها: قال الأصم: أحسنوا في فرائض الله.

ب. ثانيها: وأحسنوا في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته ونفقته، والمقصود منه أن يكون ذلك الإنفاق وسطا فلا تسرفوا ولا تقتروا، وهذا هو الأقرب لاتصاله بما قبله ويمكن حمل الآية على جميع الوجوه.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 5/293.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾:

أ. روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ومقسم والسدي والربيع والضحاك وغيرهم قالوا: نزلت في عمرة القضية وعام الحديبية، وذلك‏ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج معتمرا حتى بلغ الحديبية في ذي القعدة سنة ست، فصده المشركون كفار قريش عن البيت فانصرف، ووعده الله سبحانه أنه سيدخله، فدخله سنة سبع وقضى نسكه، فنزلت هذه الآية، وهو القول الأشهر، وعليه الأكثر.

ب. وروي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام؟ قال (نعم)، فأرادوا قتاله، فنزلت الآية، المعنى: إن استحلوا ذلك فيه فقاتلهم، فأباح الله بالآية مدافعتهم.

2. ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ الحرمات جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة، والحجرات جمع حجرة، وإنما جمعت الحرمات لأنه أراد حرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام، وحرمة الإحرام، والحرمة: ما منعت من انتها كه، والقصاص المساواة، أي اقتصصت لكم منهم إذ صدوكم سنة ست فقضيتم العمرة سنة سبع.

3. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ هل هو متصل بما قبله ومتعلق به أم لا:

أ. قيل: هو متصل بما قبله ومتعلق به.

ب. وقيل: هو مقطوع منه، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام: إن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك، ثم نسخ ذلك بالقتال.

ج. وقالت طائفة: ما تناولت الآية من التعدي بين أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجاز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي به عليه إذا خفى‏ له ذلك، وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شي، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك، وقالت طائفة من أصحاب مالك: ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام، والأموال يتناولها قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)، خرجه الدارقطني وغيره، فمن ائتمنه من خانه فلا يجوز له أن يخونه ويصل إلى حقه مما ائتمنه عليه، وهو المشهور من المذهب، وبه قال أبو حنيفة تمسكا بهذا الحديث، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58]، وهو قول عطاء الخراساني، قال قدامة بن الهيثم: سألت عطاء بن ميسرة الخراساني فقلت له: لي على رجل حق، وقد جحدني به وقد أعيا علي البينة، أفأقتص من ماله؟ قال أرأيت لو وقع بجاريتك، فعلمت ما كنت صانعا.

4. الصحيح جواز ذلك كيف ما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقا، وهو مذهب الشافعي وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة وإنما هو وصول إلى حق، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) واخذ الحق من الظالم نصر له، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف)، فأباح لها الأخذ وألا تأخذ إلا القدر الذي يجب لها، وهذا كله ثابت في الصحيح، وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ قاطع في موضع الخلاف.

5. ذكر هنا(2). بعض المباحث الفقهية المرتبطة بهذا كمن ظفر له بمال من غير جنس ماله، وغيرها، وليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، وقد نقلناها إلى محلها من السلسلة.

6. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ عموم متفق عليه، إما بالمباشرة إن أمكن، وإما بالحكام، واختلف الناس في المكافأة هل تسمى عدوانا أم لا، فمن قال ليس في القرآن مجاز، قال المقابلة عدوان، وهو عدوان مباح، كما أن المجاز في كلام العرب كذب مباح، لان قول القائل: (فقالت له العينان سمعا وطاعة)، وكذلك: (امتلأ الحوض وقال قطني)، وكذلك: (شكا إلى جملي طول السرى)، ومعلوم أن هذه الأشياء لا تنطق، وحد الكذب: إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، ومن قال في القرآن مجاز سمى هذا عدوانا على طريق المجاز ومقابلة الكلام بمثله، كما قال عمرو بن كلثوم:

çألا لا يجهلن أحد علينا...فنجهل فوق جهل الجاهليناé

وقال الآخر:

çولي فرس للحلم بالحلم ملجم‏...ولي فرس للجهل بالجهل مسرج‏

ومن رام تقويمي فإني مقوم‏...ومن رام تعويجي فإني معوج‏é

يريد: أكافئ الجاهل والمعوج، لا أنه امتدح بالجهل والاعوجاج.

7. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى﴾ الاعتداء هو التجاوز، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 229] أي يتجاوزها، فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فرد عليه مثل قوله، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعدى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه، وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية، فلو قال لك مثلا: يا كافر، جاز لك أن تقول له: أنت الكافر، وإن قال لك: يا زان، فقصاصك أن تقول له: يا كذاب يا شاهد زور، ولو قلت له يا زان، كنت كاذبا وأثمت في الكذب، وإن مطلك وهو غني دون عذر فقل: يا ظالم، يا آكل أموال الناس، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لي‏ الواجد يحل عرضه وعقوبته)، أما عرضه فبما فسرناه، وأما عقوبته فالسجن يحبس فيه، وقال ابن عباس: نزل هذا قبل أن يقوى الإسلام، فأمر من أوذي من المسلمين أن يجازي بمثل ما أوذي به، أو يصبر أو يعفو، ثم نسخ ذلك بقوله: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة: 36]، وقيل: نسخ ذلك بتصييره إلى السلطان، ولا يحل لاحد أن يقتص من أحد إلا بإذن السلطان.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾:

أ. روى البخاري عن حذيفة قال: نزلت في النفقة، وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه‏ مه! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية، والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فقبره هناك، فأخبرنا أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك، وروي مثله عن حذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.

ب. وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل: ليس عندي ما أنفقه، وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره، قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص‏، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئا، ونحوه عن السدي: أنفق ولو عقالا، ولا تلقي بيدك إلى التهلكة فتقول: ليس عندي شي.

ج. وقول ثالث، قاله ابن عباس، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه أناس من الاعراب حاضرين بالمدينة فقالوا: بما ذا نتجهز! فوالله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد، فنزل قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله، يعني في طاعة الله، ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا، وهكذا قال مقاتل، ومعنى قول ابن عباس: ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا، أي لا تمسكوا عن النفقة على الضعفاء، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلبكم العدو فتهلكوا.

د. وقول رابع ـ قيل للبراء ابن عازب في هذه الآية: أهو الرجل يحمل على الكتيبة؟ فقال لا، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول: قد بالغت في المعاصي ولا فائدة في التوبة، فييأس من الله فينهمك بعد ذلك في المعاصي، فالهلاك: اليأس من الله.

هـ. وقال عبيدة السلماني، وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس.

9. ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله.

10. اختلف في الباء في قوله تعالى: ﴿بِأَيْدِيكُمْ﴾:

أ. قيل: زائدة، التقدير تلقوا أيديكم، ونظيره: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: 14]

ب. وقال المبرد: ﴿بِأَيْدِيكُمْ﴾ أي بأنفسكم، فعبر بالبعض عن الكل، كقوله: ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾، [الشورى: 30]، ﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: 10]

ج. وقيل: هذا ضرب مثل، تقول: فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم، لان المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبد المطلب: (والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز)

د. وقال قوم: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك.

11. التهلكة (بضم اللام) مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة:

أ. قيل: أي لا تأخذوا فيما يهلككم، قاله الزجاج وغيره، أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم.

ب. وقيل: إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم.

ج. ومعنى آخر: ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة.

د. ويقال: ﴿لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا، ونحوه عن عكرمة قال ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ قال: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 267]

هـ. وقال الطبري: قوله ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه، إذ اللفظ يحتمله.

12. اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده:

أ. قال القاسم بن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبد الملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة.

ب. وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لان مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 207]

ج. وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا، وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من‏ الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك، فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين، وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل‏ للقتال حتى قتلوا، وروي بفتح الفاء ورفع الباء، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه.

د. وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين، فإن كان قصده تجريه المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولان فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه، وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [التوبة: 111] الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه، وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان‏ في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 17]، وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله)

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَحْسَنُوا﴾:

أ. قيل: أي في الإنفاق في الطاعة، وأحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم.

ب. وقيل: أحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات، روي ذلك عن بعض الصحابة.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏2/354.

(2) تفسير القرطبي: ‏2/357.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ أي: إذا قاتلوكم في الشهر الحرام وهتكوا حرمته قاتلتموهم في الشهر الحرام مكافأة لهم ومجازاة على فعلهم.

2. ﴿وَالْحُرُمَاتُ﴾: جمع حرمة، كالظلمات: جمع ظلمة؛ وإنما جمع الحرمات لأنه أراد الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام، والحرمة: ما منع الشرع من انتهاكه.

3. القصاص: المساواة، والمعنى: أن كل حرمة يجري فيها القصاص، فمن هتك حرمة عليكم فلكم أن تهتكوا حرمة عليه قصاصا، قيل: وهذا كان في أوّل الإسلام ثم نسخ بالقتال؛ وقيل: إنه ثابت بين أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم ينسخ، ويجوز لمن تعدّي عليه في مال أو بدن أن يتعدّى بمثل ما تعدّي عليه، وبهذا قال الشافعي وغيره، وقال آخرون: إن أمور القصاص مقصورة على الحكام، وهكذا الأموال، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) أخرجه الدارقطني وغيره، وبه قال أبو حنيفة، وجمهور المالكية، وعطاء الخراساني، والقول الأوّل أرجح، وبه قال ابن المنذر، واختاره ابن العربي، والقرطبي، وحكاه الداودي عن مالك، ويؤيده: إذنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لامرأة أبي سفيان، أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها، وهو في الصحيح، ولا أصرح وأوضح من قوله تعالى في هذه الآية: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ وهذه الجملة في حكم التأكيد للجملة الأولى، أعني: قوله: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ وإنما المكافأة اعتداء مشاكلة، كما تقدّم.

4. ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ في هذه الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله، وهو الجهاد، واللفظ يتناول غيره مما يصدق عليه أنه من سبيل الله.

5. الباء في قوله: ﴿بِأَيْدِيكُمْ﴾ زائدة، والتقدير: ولا تلقوا أيديكم، ومثله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ وقال المبرد: ﴿بِأَيْدِيكُمْ﴾ أي: بأنفسكم، تعبيرا بالبعض عن الكل، كقوله: ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ وقيل: هذا مثل مضروب، يقال: فلان ألقى بيده في أمر كذا: إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أيّ فعل كان، وقال قوم: التقدير: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم.

6. التهلكة: مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة؛ أي: لا تأخذوا فيما يهلككم، وللسلف في معنى الآية أقوال.. والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا، وبه قال ابن جرير الطبري، ومن جملة ما يدخل تحت الآية؛ أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين، ولا يمنع من دخول هذا تحت الآية إنكار من أنكره من الذين رأوا السبب، فإنهم ظنوا أن الآية لا تجاوز سببها، وهو ظنّ تدفعه لغة العرب.

7. ﴿وَأَحْسَنُوا﴾ أي: في الإنفاق في الطاعة، أو أحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/222.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ إيذان بأنّ مراعاة حرمة الشهر واجبة لمن راعى حرمته، وإنّ من هتكها اقتصّ منه؛ فهتك حرمته بهتكهم حرمته، فكما يقاتلون عند المسجد الحرام ـ إذا قاتلوا فيه ـ يقاتلون في الشهر الحرام إذا قاتلوا فيه.

2. ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ أي: متساوية، فلا يفضل شهر حرام على آخر، بحيث يمتنع هتك حرمته لهتكهم حرمة ما دونه، على أنا لا نهتك حرمة الشهر والمسجد الحرام والحرم، بل نهتك حرمة من هتك حرمة أحدها: قاله المهايميّ، و(الحرمات) جمع حرمة، وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك، و(القصاص): المساواة، والكلام على حذف المضاف، أي: ذوات قصاص، أو المصدر بمعنى المفعول أي مقاصة، أو الحمل بطريق المبالغة، ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ أمر بالعدل حتى في المشركين، كما قال: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: 126] وقال: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في هتك حرمة الشهر والمسجد والحرم بدون هتكهم، وفي زيادة الاعتداء ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ أي: بالمعونة والنصر والحفظ والتأييد.

3. ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أمر بالإنفاق في سائر وجوه القربات والطاعات، ومن أهمها: صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوّهم.

4. ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ أي: ما يؤدي إلى الهلاك أي: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك، وذلك بالتعرض لما تستوخم عاقبته، جهلا به، وقال الراغب: وللآية تأويلان بنظرين:

أ. أحدهما: إنه نهي عن الإسراف في الإنفاق، وعن التهوّر في الإقدام.

ب. الثاني: إنه نهي عن البخل بالمال، وعن القعود عن الجهاد.

5. كلا المعنيين يراد بها، فالإنسان، كما أنه منهيّ عن الإسراف في الإنفاق، والتهور في الإقدام، فهو منهي عن البخل والإحجام عن الجهاد، ولهذا قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان: 67] الآية، وقال: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: 29] الآية.

6. لمّا كان أمر الإنفاق أخصّ بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال، لتجرد المهاجرين عنها، وقد اشتهر في هذه الآية حديث أبي أيوب الأنصاري، رواه أبو داوود، والترمذيّ، والنسائيّ وابن حبان في (صحيحه)، والحاكم في (مستدركه) وغيرهم.. ولفظ الترمذيّ‏: عن أسلم أبي عمران قال كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتى دخل عليهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! يلقي بيديه إلى‏ التهلكة.. فقام أبو أيوب الأنصاريّ فقال: يا أيها الناس! إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعزّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرّا ـ دون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها! فأنزل الله تعالى على نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم يردّ علينا ما قلنا ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ فكانت التهلكة الإقامة على الأموال، وإصلاحها، وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم، هذا حديث حسن غريب صحيح.. إنكار أبي أيوب رضي الله عنه إمّا لكونه لا يقول بعموم اللفظ بل بخصوص السبب، وإمّا لردّ زعم أنها نزلت في القتال، أي: في حمل الواحد على جماعة العدوّ كما تأولوها، وهذا هو الظاهر، وإلّا فاللفظ يقتضي العموم، ووروده على السبب لا يصلح قرينة لقصره على ذلك، ولا شبهة أنّ التعبد إنما هو باللفظ الوارد وهو عام.

7. استشهد بعموم الآية عمرو بن العاص فيما رواه ابن أبي حاتم بسنده: أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث أخبر أنهم حاصروا دمشق، فانطلق رجل من أزد شنوءة فأسرع إلى العدوّ وحده ليستقبل، فعاب ذلك عليه المسلمون، ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص، فأرسل إليه عمرو فردّه، وقال عمرو: قال الله‏ ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾

8. روي في سبب نزولها آثار ضعيفة ساقها ابن كثير وهي من باب صدق عمومها على ما رووه.

9. قال الحاكم: تدلّ الآية على جواز الهزيمة في الجهاد إذا خاف على النفس، وتدلّ على جواز ترك الأمر بالمعروف إذا خاف، لأنّ كل ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة، وتدلّ على جواز مصالحة الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين، كما فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عام الحديبية، وكما فعله أمير المؤمنين علىّ عليه السلام بصفين، وكما فعله الحسن عليه السلام من مصالحة معاوية، وتدلّ أيضا على جواز مصالحة الإمام بشيء من أموال الناس إذا خشي التهلكة، ويؤيده أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أراد أن يصالح يوم الأحزاب بثلث ثمار المدينة حتى شاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فأشارا بترك ذلك، وهو لا يعزم إلا على ما يجوز.

10. (الإلقاء) لغة، طرح الشيء، عدّي بإلى لتضمن معنى الانتهاء، والباء مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي، والمراد بالأيدي: الأنفس، فذكر الجزء وإرادة الكلّ لمزيد اختصاص لها باليد، بناء على أنّ أكثر ظهور أفعال النفس بها، والتهلكة والهلاك والهلك واحد، فهي مصدر، أي: لا توقعوا أنفسكم في الهلاك.

11. التهلكة بضمّ اللام، قال الخارزنجي: لا أعلم في كلام العرب مصدرا على تفعلة ـ بضمّ العين ـ إلّا هذا. وقال اليزيديّ: هو من نوادر المصادر، ولا يجري على القياس! قال الزمخشري: ويجوز أن يقال: أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما، على أنها مصدر من هلك، فأبدلت من الكسرة ضمّة، كما جاء الجوار في الجوار، هذا ما ذكروه، قال الفخر الرازي ـ ولله دره ـ بعد نقله نحو ما سبق: (وإني لأتعجب كثيرا من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع، وذلك أنهم لو وجدوا شعرا مجهولا يشهد لما أرادوه فرحوا به واتخذوه حجّة قوية، فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى، المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة ـ أولى أن يدلّ على صحّة هذه اللفظة واستقامتها)

12. ﴿وَأَحْسَنُوا﴾ أي: تحرّوا فعل الإحسان، أي: الإتيان بكلّ ما هو حسن، ومن أجلّه الإنفاق، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، قال الراغب: نبه بإظهار المحبة للمحسنين على شرف منزلتهم وفضيلة أفعالهم.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/61.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. علَّل قوله: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ تعليلاً جُمْلِيًّا بقوله: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ﴾ ذو القعدة من السنة السابعة عند عمرة القضاء، قال الله: لا تكرهوا قتالهم في الشهر الحرام فإنَّه مقابل قتالهم وصدِّهم لكم عام الحديبيَّة، فإن منعوكم في عمرة القضاء فقاتلوهم هتكًا لحرمتهم كما هتكوها لكم في الحديبيَّة.

2. ﴿بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ ذي القعدة من السنة السادسة في الحديبيَّة، قاتلهم المشركون فيها ببعض سهام وحجارة كما روي عن ابن عبَّاس، وما في البخاري من أنَّه لم يقع قتال في الحديبيَّة معناه لم يقع قتال كبير، وعن ابن عبَّاس: رمى المسلمون المشركين في عمرة القضاء حتَّى أدخلوهم ديارهم؛ وقيل: لم يقع القتال في ذي القعدة وإنَّه هو ما يراد عند النافي.

3. ﴿وَالْحُرُمَاتُ﴾ جمع حرمة، ما يجب احترامه وحفظه، وهذا احتجاج بجواز هتك حرمة الشهر بهتكهم إيَّاه في الحديبيَّة، ولله أن يهتك ما شاء، ﴿قِصَاصٌ﴾ أي: شأن الحرمات قصاص، أو الحرمات ذوات قصاص، كأنَّه قيل: الشهر الحرام من الحرمة، والحرمة يجري فيها القصاص في الجملة، نفسًا أو عِرضًا أو مالاً، والشهر الحرام مِمَّا أراد الله فيه القصاص بالقتال، وَأَمَّا أن يقال: الشهر الحرام من الحرمة، وكلُّ حرمة يجري فيها القصاص، فالشهر الحرام فيه القصاص فلا؛ لأنَّه لم يثبت أنَّ كلَّ حرمة فيها قصاص.

4. ﴿فَمَنِ اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ في عمرة القضاء بالمنع عنها، أو بالقتال في الحرم، أو الإحرام أو الشهر الحرام، ﴿فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ﴾ جازوه على اعتدائه، سمَّى فعلهم باسم الفعل الأوَّل للشبه، ولعلاقة الجوار، وباسم الملزوم، وباسم السبب، وكذا في سائر اعتبار المشاكلة، ﴿بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ بالدخول في مكَّة ولو كرهوا، كما منعوكم منها في العام الأوَّل، وقاتلوهم على المنع ولو لم يقاتلوا فيه، بل اقتصروا على المنع كما تقاتلونهم إن قاتلوا، ولا تزيدوا بأن تقاتلوهم، ولم يقاتلوكم ولم يمنعوكم، أو بأن تقاتلوا من لم يقاتل، عمَّم الشافعيُّ القتل بمثل ما قَتل به محتجًّا بالآية، كقتل بمحدَّد وخنق وحرق وتجويع وتغريق، حتَّى لو أغرقه في عذب لم يغرقه في ملح.

5. ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ﴾ احذروا عقابه على المبالغة في الانتقام، وعلى الاعتداء الحقيقيِّ الذي هو فعل ما لا يجوز، واتَّقوا الله في الانتصار لأنفسكم بما لا يجوز، وترك الاعتذار بما لا يجوز، ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ بالعون في أمر الدين والدنيا، وبالنصر وإصلاح الشأن والحفظ، والاتِّقاء اتِّقاء المعاصي إجلالاً لله، واتِّقاؤها خوفًا من عقابها، واتِّقاءُ الله أيضًا إجلالا له.

6. ﴿وَأَنفِقُواْ﴾ أموالكم على أنفسكم أكلاً ولباسًا لتقووا على الجهاد، وفي شراء الخيل ونفقتها وآلتها للجهاد، وشراء السلاح، وللزاد وتجهيز الغزاة بقدر ما تطيقون، وفي صلة الرحم والمحتاج، والحجِّ والعمرة، وأهل الحاجة والعيال، وجميع المصالح الدينيَّة، وكلُّ ذلك في سبيل الله، كما قال: ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ولو كان يتبادر هذا اللفظ في الجهاد، فيراد الكلُّ، ولو كان المراد بالذات في المقام الجهاد، والآية أمر بالجهاد بالمال بعد الأمر به بالجسد.

7. ﴿وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُم﴾ لا تطرحوا أيديكم، ولا تفضوا بأيديكم، وسمِّي الطرح إلقاءً لأنَّه تصيير الشيء يلقَى، أي: يصادف، والأيدي: الأجساد؛ لأنَّها بعضها الذي تدفع به وتجلب غالبًا، وأقوى، أو لا تلقوا أيديكم منتهية أو منتهين.

8. ﴿إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ أي: الهلاك، أي: المضرَّة الدنيويَّة وهي القتل، والأخرويَّة وهي عذاب النار، ولا مصدر على هذا الوزن إلَّا (تَضُرَّة) و(تسُرَّة) بمعنى: الضرر والسرور، فهنَّ ثلاثة؛ وقيل: الضمُّ بدل الكسر، ولا داعي إلى إبدال الثقيل بالأثقل، وَأَمَّا الجوار بالضمِّ فلغة في الجوار بالكسر، لا نَقْل، مع أنَّ الضمَّ أنسب بالواو، وأيضًا التفعلة بالكسر مقيس في معلِّ اللام سماعٌ في الصحيح كتجربة وتكملة، وقيل: الهلاك ما يمكن التخلُّص منه، والتهلكة ما لا يمكن التخلُّص منه، وزيادة الباء في المفعول به قليلة، أو لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إلى التهلكة، أي: باختياركم فتأخذ التهلكة بها وتقبضها، فذكرُ الأيدي إشعار بالاختيار، وحذف المفعول، أو لا تجعلوا التهلكة آخذة بأيديكم، كما يقال في العاجز: (ألقى بيده إلى عدوِّه)، فإنَّكم إذا تركتم الجهاد أو الإنفاق فيه أهلككم العدوُّ بالقتل والتغلُّب، إذا تركوا الإنفاق في الجهاد ضعف الجهاد، فيؤول إلى تركه وإلى غلبة العدوِّ عليهم وقتلهم.

9. قال أبو أيُّوب خالد بن زيد الأنصاريُّ: لَمَّا أعزَّ الله الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أموالنا وأهلنا نقيم فيها ونصلحها، فنزلت الآية، فيحتمل أنَّ سببها ما ذكره، فتشمل بعموم اللفظ الإمساكَ عن الإنفاق لحبِّ المال، وذلك هلاك أخرويٌّ، وقد سمِّي البخل هلاكًا لأنَّه سبب الهلاك، ويشمل الإسراف حتَّى يبقى يتكفَّف، ففي الإنفاق طرفان مذمومان: إفراط وهو الإسراف، وتفريط وهو الإمساك، نهى عنهما بقوله تعالى : ﴿وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمُ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، وأشار إلى الوسط بقوله: ﴿وَأَنفِقُوا﴾، وللقتال طرفان: إفراط وهو التهوُّر، وتفريط وهو الجبن نهى عنهما بقوله: ﴿وَلَا تُلْقُوا﴾ وأشار إلى الوسط وهو الشجاعة بقوله: ﴿وقَاتِلُوهُمْ﴾.

10. وفي رواية: قالت الأنصار فيما بينهم: إنَّ الله قد أعزَّ دينه وكثَّر ناصره، فلو قلنا له صلّى الله عليه وآله وسلّم : (نقيم لإصلاح مالنا وتدارك ما ضاع منها) فنزلت الآية.

11. واستُدِلَّ بالآية على تحريم الإقدام إلى ما فيه الهلاك، وعلى جواز مصالحة الكفَّار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه، أو على المسلمين، وفسَّر بعضٌ التهلكة بالدخول في وسط العدوِّ، وفسِّر بالبخل ونحو ذلك مِمَّا مرَّ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو اشتغال الأنصار بأموالهم كما مرَّ؛ فمن مثَّل لها بمسلم دخل في صفِّ الروم وحده بعده صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يخطأ، إلَّا إن قصرها على مثله.

12. ﴿وَأَحْسِنُواْ﴾ بالإنفاق، لا تتركوه ولا تسرفوا، ولا تجعلوه في المعصية، بل على أهلكم وقرابتكم وأهل الحاجة، وفي الجهاد في سبيل الله، وبأعمالكم وأخلاقكم، ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ أي: يثيبهم على إحسانهم أو يعطيهم الخير؛ لأنَّ مِن لازِمِ الحبِّ في الشاهد فِعْلَ الخير.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/342.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ثم زاد تعليل الاذن بالقتال بيانا ببنائه على قاعدة عادلة معقولة فقال تعالى‏: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾

2. لما خرج المؤمنون مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للنسك عام الحديبية صدهم المشركون وقاتلوهم رميا بالسهام والحجارة، وكان ذلك في ذي القعدة من الاشهر الحرم سنة ست، ولو قابلهم المسلمون عامئذ بالمثل ولم يرض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصلح لاحتدم القتال، ولما خرجوا في العام الآخر لعمرة القضاء، وكرهوا قتال المشركين وان اعتدوا ونكثوا العهد في الشهر الحرام، بين لهم أن المحظور في الاشهر الحرم إنما هو الاعتداء بالقتال دون المدافعة، وأن ما عليه المشركون من الاصرار على الفتنة وإيذاء المؤمنين لانهم مؤمنون هو أشد قبحا من القتل لإزالة الضرر العام وهو منعهم الحق وتأييدهم الشرك.

3. ثم بين قاعدة عظيمة معقولة وهي أن الحرمات أي ما يجب احترامه والمحافظة عليه يجب أن يجري فيه القصاص والمساواة فقال:‏ ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ ذكر هذه القاعدة حجة لوجوب مقاصة المشركين على انتهاك الشهر الحرام بمقابلتهم بالمثل، ليكون شهر بشهر جزاء وفاقا، وفي جملة: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾، من الايجاز ما ترى حسنه وابداعه.

4. ثم صرح بالأمر بالاعتداء على المعتدي مع مراعاة المماثلة وان كان يفهم مما قبله لمكان كراهتهم للقتال في الحرم والشهر الحرام فقال تفريعا على القاعدة وتأييدا للحكم:‏ ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، وإنما يتحقق هذا فيما تتأتى فيه المماثلة، وسمى الجزاء اعتداء للمشاكلة، وقد استدلّ الامام الشافعي بالآية على وجوب قتل القاتل بمثل ما قتل به بأن يذبح اذا ذبح، ويخنق إذا خنق، ويغرق إذا أغرق، وهكذا، وقال مثل ذلك في الغصب‏ والاتلاف، والقصد أن يكون الجزاء على قدر الاعتداء بلا حيف ولا ظلم، وأزيد على هذا ما هو أولى بالمقام وهو المماثلة في قتال الاعداء كقتل المجرمين بلا ضعف ولا تقصير، فالمقاتل بالمدافع والقذائف النارية أو الغازية السامة يجب أن يقاتل بها، وإلا فاتت الحكمة لشرعية القتال وهي منع الظلم والعدوان، والفتنة والاضطهاد، وتقرير الحرية والامان، والعدل والاحسان، وهذه الشروط والآداب لا توجد إلا في الاسلام، ولذلك قال تعالى بعد شرح القصاص والمماثلة: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فلا تعتدوا على أحد ولا تبتغوا ولا تظلموا في القصاص بأن تزيدوا في الايذاء، وأكد الامر بالتقوى بما بين من مزيتها وفائدتها فقال:‏ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ بالمعونة والتأييد، فان المتقي هو صاحب الحق وبقاؤه هو الاصلح، والعاقبة له في كل ما ينازعه به الباطل، لان من اصول التقوى اتقاء جميع أسباب الفشل والخذلان.

5. لما كان الجهاد بالنفس وهو القتال، يتوقف على الجهاد بالمال، أمرهم به فقال‏: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهو عطف على قاتلوا رابط لاحكام القتال والحج بحكم الاموال السابق، فهناك ذكر ما يحرم من أكل المال مجملا، وههنا ذكر ما يجب من انفاقه منه كذلك، وسبيل الله هو طريق الخير والبر والدفاع عن الحق.

6. ثم ذكر علة هذا الامر وحكمته على ما هي سنته في ضمن حكم آخر فقال:‏ ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ بالإمساك عن الانفاق في الاستعداد للقتال، فان ذلك يضعفكم ويمكن الاعداء من نواصيكم فتهلكون، ويدخل في النهي التطوّح في الحرب بغير علم بالطرق الحربية التي يعرفها العدو كما يدخل فيه كل مخاطرة غير مشروعة، بأن تكون لاتباع الهوى لا لنصر الحق وتأييد حزبه، وقال بعضهم يدخل فيه الاسراف الذي يوقع صاحبه في الفقر المدقع فهو من قبيل‏ ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا﴾

7. فسر الجلال سبيل الله (بطاعته: الجهاد وغيره) والتهلكة (بالإمساك عن النفقة وترك الجهاد) قال: لأنه يقوي العدو عليكم، قال محمد عبده: أصاب مفسرنا وأجاد في تفسير هذه الآية، وقال بعضهم في تفسير النهي عن التهلكة أي‏ لا تقاتلوا إلا حيث يغلب على ظنكم النصر وعدم الهزيمة، وهذا لا معنى إذ لا يلتئم مع ما سبقه، وقال بعضهم انه نهي عن الاسراف ولا يلتئم مع الاسلوب قبله وبعده، وإنما الذي يلتئم ويناسب هو ما قاله الجلال وآخرون، فالمعنى إذا لم تعذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال واستعداد فقد أهلكتم أنفسكم: وفي أسباب النزول عن أبي أيوب الانصاري قال نزلت هذه الآية فينا معشر الانصار، لما أعز الله الاسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا ان أموالنا قد ضاعت، وان الله قد أعز الاسلام فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله يرد علينا ما قلنا ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ الآية فكانت التهلكة الاقامة على الاموال واصلاحها وتركنا الغزو: رواه أبو داوود والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم وغيرهم، وروي أنّه قاله لما خاطر رجل من المسلمين في القسطنطينية فدخل في صف الروم فقال الناس ألقى بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب أيها الناس انكم تؤولون هذه الآية وذكره.

8. وبيانه أن المشركين كانوا بالمرصاد للمؤمنين وهم كثيرون فلو انصرفوا عن الاستعداد للجهاد إلى تثمير الاموال لاغتالوهم، واصلاح الاموال واستثمارها في هذا الزمان هو أساس القوة، فقوى الدول على قدر ثروتها، فالأمة التي تقصر في توفير الثروة هي التي تلقي بأيديها إلى التهلكة، والتي تقصر في الانفاق في سبيل الله للاستعداد لقتال من يعتدي عليها تكون أدنى إلى التهلكة ولا ثروة مع الظلم، ولا عدل مع الحكم المطلق الاستبدادي.

9. ثم قال تعالى‏ ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ الامر بالإحسان على عمومه أي أحسنوا كل أعمالكم وأتقنوها فلا تهملوا اتقان شيء منها، ويدخل فيه التطوع بالانفاق‏.

10. زعم بعض المفسرين ان هذه الآية منسوخة بآية سورة براءة (التوبة) التي يسمونها آية السيف، وهاك ما قاله محمد عبده: محصل تفسير الآيات ينطبق على ما ورد من سبب نزولها وهو اباحة القتال للمسلمين في الاحرام بالبلد الحرام والشهر الحرام إذا بدأهم المشركون بذلك، وان لا يبقوا عليهم إذا نكثوا عهدهم واعتدوا في هذه المرة، وحكمها باق مستمر لا ناسخ ولا منسوخ، فالكلام فيها متصل بعضه ببعض في واقعة واحدة فلا حاجة إلى تمزيقه، ولا إلى ادخال آية براءة فيه، وقد نقل عن ابن عباس انه لا نسخ فيها، ومن حمل الامر بالقتال فيها على عمومه ولو مع انتفاء الشرط فقد اخرجها عن اسلوبها وحملها ما لا تحمل وآيات سورة آل عمران نزلت في غزوة احد وكان المشركون هم المعتدين، وآيات الانفال نزلت في غزوة بدر الكبرى وكان المشركون هم المعتدين أيضا، وكذلك آيات سورة براءة نزلت في ناكثي العهد من المشركين ولذلك قال‏ ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ وقال بعد ذكر نكثهم‏ ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخراج الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ الآيات‏

11. كان المشركون يبدؤون المسلمين بالقتال لأجل إرجاعهم عن دينهم ولو لم يبدؤوا في كل واقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وفتنة المؤمنين وإيذاؤهم ومنع الدعوة ـ كل ذلك كافيا في اعتبارهم معتدين، فقتال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كله كان مدافعة عن الحق وأهله وحماية لدعوة الحق، ولذلك كان تقديم الدعوة شرطا لجواز القتال، وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، فاذا منعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول‏: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ ويقول‏: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويعتدي على المؤمنين فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الارواح ولا لأجل الطمع في الكسب‏.

12. كانت حروب الصحابة في الصدر الاول لأجل حماية الدعوة، ومنع المسلمين من تغلب الظالمين لا لأجل العدوان، فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الاسلام ويؤذونهم وأولياؤهم من العرب المتنصرة من يظفرون به من المسلمين، وكان الفرس اشد ايذاء للمؤمنين منهم فقد مزقوا كتاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ورفضوا دعوته وهددوا رسوله وكذلك كانوا يفعلون، وما كان بعد ذلك من الفتوحات الاسلامية اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقا لاحكام الدين، فان من طبيعة الكون أن يبسط القوي يده على جاره الضعيف، ولم تعرف أمة قوية أرحم في فتوحاتها بالضعفاء من الامة العربية شهد لها علماء الافرنج بذلك‏.

13. جملة القول في القتال انه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدعي من الملوك والامراء انه يحارب للدين أن يحيي الدعوة الاسلامية، ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان، ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الامم الحية وطرق الاستعداد لحمايتهم يعرف ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر.

14. بما قررناه بطل ما يهذي به أعداء الاسلام ـ حتى من المنتمين اليه ـ من زعمهم ان الاسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين المتعصبين انه ليس دينا إلهيا لان الاله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء، وان العقائد الاسلامية خطر على المدنية ـ فكل ذلك باطل، والاسلام هو الرحمة العامة للعالمين‏.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/212.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. خرج المؤمنون مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للنسك عام الحديبية، فصدهم المشركون وقاتلوهم رميا بالسهام والحجارة في شهر ذي القعدة سنة ست، ثم صالحوهم على أن يرجعوا إلى مكة في العام القابل، ولما خرجوا في ذلك العام لعمرة القضاء كرهوا قتال المشركين وإن اعتدوا ونكثوا العهد في الشهر الحرام، فبيّن الله لهم أن المحظور في الأشهر الحرم هو العدوان بالقتال لا المدافعة عن النفس، وأن المشركين بإصرارهم على الفتنة وإيذائهم للمؤمنين فعلوا ما هو أشد قبحا من القتل بتأييدهم للشرك ومنعهم للحق.

2. ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ أي الشهر الحرام يقابل بذلك الشهر الحرام، وهتك حرمته بهتك حرمته، فلا تبالوا بالقتال فيه إذا اضطررتم للدفاع عن دينكم وإعلاء كلمته.

3. ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ أي يجب مقاصة المشركين على انتهاك حرمة الشهر الحرام بمقابلتهم بالمثل، ليكون شهر بشهر جزاء وفاقا، فهم قد انتهكوا حرمة شهركم بالصدّ عن البيت الحرام وفيه تعرّض للقتال، فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليهم مكة عنوة وقهرا، فإن منعوكم في هذه السنة عن قضاء العمرة وقاتلوكم فاقتلوهم.

4. ثم ذكر نتيجة لما سبق وأيد الحكم السابق بقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ أي إن الاعتداء المحظور ما كان ابتداء، أما ما كان على سبيل القصاص فهو اعتداء مأذون فيه، وبهذه الآية استدلّ الشافعي على وجوب قتل القاتل بمثل ما قتل به، فيذبح إذا ذبح ويخنق إذا خنق، ويغرق إذا أغرق وهكذا، وفي الآية أيضا إيماء إلى أن قتال الأعداء كقتال المجرمين بلا هوادة ولا تقصير، فمن يقاتل بالقذائف النارية أو بالمدافع أو بالغازات السامة يقاتل بمثلها حتى يمتنع عن الظلم والعدوان، والفتنة والاضطهاد، ويوجد الأمان والاطمئنان بين الناس.

5. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ أي واحذروا أن تعتدوا بما لم يرخص لكم فيه، واعلموا أن الله مع المتقين بالمعونة والتأييد، والنصر والتمكين، والغلبة لهم على أعدائهم تأييدا لدينه وإعلاء لكلمته.

6. ثم أمر بالجهاد بالمال بعد الأمر بالجهاد بالأنفس فقال: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي وابذلوا المال في وسائل الدفاع عن بيضة الدين، فاشتروا السلاح والكراع وعدد الحرب التي لعدوكم مثلها إن لم تزيدوا عليه حتى لا يكون له الغلب عليكم، وإلى هذا أشار بقوله:

7. ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ أي إنكم إن لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال وإعداد للعدّة فقد أهلكتم أنفسكم.

8. روى أن أبا أيوب الأنصاري قال فينا معشر الأنصار نزلت هذه الآية، إنه لما أعزّ الله دينه، ونصر رسوله همس بعضنا في أذن بعض، إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه ما يردّ علينا ما قلنا ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ الآية فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الغزو، رواه أبو داوود والترمذي وابن حبان والحاكم في جماعة آخرين.

9. الخلاصة ـ إن المشركين كانوا بالمرصاد للمؤمنين، وهم من الكثرة بحيث يخشى شرّهم، فلو انصرف المؤمنون عن الاستعداد للجهاد إلى تثمير الأموال لأوقعوا بهم، فيكونون حينئذ قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة.

10. ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ أي وأحسنوا كل أعمالكم وجوّدوها ولا تهملوا إتقان شيء منها، ويدخل ذلك التطوع بالإنفاق في سبيل الله لنشر دعوة الدين‏.

11. قتال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه في الصدر الأوّل كان دفاعا عن الحقّ وأهله وحماية دعوة الدين، فكانوا يبدؤون أولا بالدعوة بالحجة والبرهان، فإذا منعوا بالقوّة وهدّد الداعي أو قتل قاتلوا حماية للدعاة ونشرا للدعوة، لا للإكراه على الدخول في الدين، إذ ذاك منهى عنه بنحو قوله تعالى: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، فإذا لم يوجد من يصدّ الدعوة أو يهدد الدعاة ويعتدى على المؤمنين، فلا يفرض علينا الجهاد لسفك الدماء وإزهاق الأرواح، ولا للطمع في الغنائم والأنفال.

12. جملة القول: إن القتال شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدّعى من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيى الدعوة الإسلامية ويعدّ لها عدّتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان.

13. لم يشهد التاريخ أمة قوية رحيمة بالضعفاء في فتوحها كالأمة العربية، كما اعترف بذلك المنصفون من الإفرنج، فقد قال جوستاف لو بون الفيلسوف الفرنسي: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب، وما يتجنّى به أعداء الإسلام من دعواهم أن الإسلام قام بالسيف، فقول يكذبه التاريخ ولا يؤيده من ينظر إلى الأمور بعين الإنصاف ويدع الهوى وراءه ظهريا.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/92.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.. فالذي ينتهك حرمة الشهر الحرام جزاؤه أن يحرم الضمانات التي يكفلها له الشهر الحرام، وقد جعل الله البيت الحرام واحة للأمن والسلام في المكان؛ كما جعل الأشهر الحرم واحة للأمن والسلام في الزمان، تصان فيها الدماء، والحرمات والأموال، ولا يمس فيها حي بسوء، فمن أبى أن يستظل بهذه الواحة وأراد أن يحرم المسلمين منها، فجزاؤه أن يحرم هو منها، والذي ينتهك الحرمات لا تصان حرماته، فالحرمات قصاص..

2. مع هذا فإن إباحة الرد والقصاص للمسلمين توضع في حدود لا يعتدونها، فما تباح هذه المقدسات إلا للضرورة وبقدرها: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾.. بلا تجاوز ولا مغالاة.. والمسلمون موكولون في هذا إلى تقواهم، وقد كانوا يعلمون ـ كما تقدم ـ أنهم إنما ينصرون بعون الله، فيذكرهم هنا بأن الله مع المتقين، بعد أمرهم بالتقوى.. وفي هذا الضمان كل الضمان..

3. الجهاد كما يحتاج للرجال يحتاج للمال، ولقد كان المجاهد المسلم يجهز نفسه بعدة القتال، ومركب القتال، وزاد القتال.. لم تكن هناك رواتب يتناولها القادة والجند، إنما كان هناك تطوع بالنفس وتطوع بالمال، وهذا ما تصنعه العقيدة حين تقوم عليها النظم، إنها لا تحتاج حينئذ أن تنفق لتحمي نفسها من أهلها أو من أعدائها، إنما يتقدم الجند ويتقدم القادة متطوعين ينفقون هم عليها! ولكن كثيرا من فقراء المسلمين الراغبين في الجهاد، والذود عن منهج الله وراية العقيدة، لم يكونوا يجدون ما يزودون به أنفسهم، ولا ما يتجهزون به من عدة الحرب ومركب الحرب، وكانوا يجيئون إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يطلبون أن يحملهم إلى ميدان المعركة البعيد، الذي لا يبلغ على الأقدام، فإذا لم يجد ما يحملهم عليه‏ ﴿تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾.. كما حكى عنهم القرآن الكريم.

4. من أجل هذا كثرت التوجيهات القرآنية والنبوية إلى الإنفاق في سبيل الله، الإنفاق لتجهيز الغزاة، وصاحبت الدعوة إلى الجهاد دعوة إلى الإنفاق في معظم المواضع..

5. هنا يعد عدم الإنفاق تهلكة ينهى عنها المسلمون: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.. والإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تهلكة للنفس بالشح، وتهلكه للجماعة بالعجز والضعف، وبخاصة في نظام يقوم على التطوع، كما كان يقوم الإسلام.

6. ثم يرتقي بهم من مرتبة الجهاد والإنفاق إلى مرتبة الإحسان: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.. ومرتبة الإحسان هي عليا المراتب في الإسلام، وهي كما قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة، فإنها تفعل الطاعات كلها، وتنتهي عن المعاصي كلها، وتراقب الله في الصغيرة والكبيرة، وفي السر والعلن على السواء، وهذا هو التعقيب الذي ينهي آيات القتال والإنفاق، فيكل النفس في أمر الجهاد إلى الإحسان، أعلى مراتب الإيمان..

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/192.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. كان أهل الجاهلية يعظمون أربعة أشهر، هي ذو القعدة، وذو الحجة ومحرم ورجب، فكانوا لا يطلبون فيها ثارا، ولا يوقعون بينهم فيها قتالا، فهيئوا بذلك لأنفسهم فترة أمن وسلام، يستروحون فيها ريح الطمأنينة والعافية خلال هذا الشر المحتدم بينهم، وتلك الحروب المتقدة في كل أفق من آفاقهم، معظم حياتهم.

2. جاء الإسلام فزكّى هذا الشّعور الذي يودّ الإسلام لو استقام عليه الناس أبد الدهر، لو كان ذلك مما تحتمله النفوس البشرية، وتتقبله طبيعة الناس! ولكن ماذا يكون موقف الإسلام لو تخلّى المشركون عن هذا الشعور وأباحوا حرمة هذه الأشهر الحرم، وأعلنوها حربا على المسلمين؟ وما ذا يكون موقف المسلمين لو عرف العدوّ من أمر دينهم هذا المعتقد، فانتهزها فرصة فيهم، وساق إليهم جيوشه، وأعمل فيهم أسلحته؟ أيمسك المسلمون عن القتال ويدعون العدو يمضى فيهم حكمه بالهلاك والفناء؟ ذلك أمر لا يقبله عقل، ولا يرتضيه دين، إلا أن يكون عذابا من عذاب الله، ونقمة من نقمه، كما دان الله به اليهود وشرعه لهم، حيث حرّم عليهم‏ أن يباشروا عملا في يوم السبت، فلا يقاتلوا من قاتلهم، ولا يدفعوا من اعتدى عليهم، وإلا كانوا عصاة آثمين! وهذا لا شك ضرب من البلاء، ساقه الله إلى هذا القطيع المعربد ـ كما يقول فيهم السيد المسيح ـ ليذلّوا، ويستكينوا، ويكونوا صيدا لكل صائد! وإنه لمحال أن يفي اليهود بهذا الأمر السماوي، وأن يمتثلوه، وإلا هلكوا وضاعوا.. لكن الله سبحانه أمرهم بهذه المحال، وحمّلهم هذا الحمل الثقيل، ليلقوه وراءهم ظهريا، وبهذا لا يكون أمامهم فرصة أبدا لامتثال أمر الله، بل يكون أمرهم دائما على معصية وخلاف، حتى لو أجهدوا أنفسهم في البرّ والطاعة.. لأن أي بارّ وأي مطيع منهم لا بد له ـ كي يعيش ـ أن يدفع العدوان ويردّ المعتدين، وإلا أصبح في الهالكين! وهكذا.. كل يهودي محمول حملا على أن يعصى الله، ويخرج عن أمره في حرمة يوم السبت.. وتلك هي اللعنة التي ألقاها الله عليهم.. تتناول برّهم وفاجرهم جميعا.. تقول التوراة: (فتحفظون السبت لأنه مقدس لكم.. من دنّسه يقتل قتلا.. إن كل من صنع فيه عملا تقطع تلك النفس من بين شعبها.. كل من صنع عملا في يوم السبت يقتل قتلا) (الإصحاح الحادي والثلاثون، سفر الخروج)

3. وقد جاءهم السيد المسيح بأمر كهذا الأمر، إذ فرض عليهم الاستسلام لكل يد تضربهم، إذا لطمهم أحد لم يكن لهم أن يردوا اللطمة.. وفى هذا يقول السيد المسيح لهم: (من ضربك على خدّك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر) وفى هذا ما فيه من إذلال لهم، وقتل لمعاني الإنسانية فيهم، إن هم استقاموا على هذا الأمر، فإن خرجوا عليه فهم عصاة خارجون على أمر الله، يستحقون اللعنة وسوء المصير.. وليس هذا مما يكلف الله به عباده، ولكنه من نقمه التي ينزلها على أهل البغي والعدوان(2)..

4. ولهذا أمر الله المسلمين بما أمرهم به من هذا الخير، بترك القتال في الأشهر الحرم، ثم حرس هذا الخير من أن يستبد به الأشرار، ويجنى ثمرته المبطلون.. فهي أشهر حرم لا يبدأ فيها المسلمون بقتال، فإن بدأهم أحد فيها بقتال فلا حرمة عندئذ لهذه الأشهر الحرم، التي ما شرعت إلا لخير الإنسان وصيانة دمه، وأما وقد جعلها العدوّ ظرفا يستبيح به دماءهم، فصيانة دمائهم والدفاع عنها أكثر قداسة وحرمة من كل حرمة وقداسة.. لزمان أو مكان! هذا ما يقرره قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ في أي مكان وفى أي زمان‏ ﴿فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾

5. فى قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ تذكير للمسلمين بما وصاهم به الإسلام من آداب القتال، وهى ألا يعتدوا، فإن اعتدى عليهم ردّوا الاعتداء.. ولكن لما كان عدوان المعتدى باعثا على النقمة منه، جاء قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ ضابطا لمشاعر الانتقام من العدو المعتدى، مذكرا المسلمين بالتقوى في هذا الموطن، فلا يأخذون أكثر من حقهم في تأديب العدوّ، وكسر شوكته، فإذا تخلّى المسلمون عن التقوى في هذا الموطن تخلّى عنهم عون الله ونصره.

6. قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، دعوة إلى البذل في وجوه الحق والخير، وأولى هذه الوجوه ما كان في الجهاد في سبيل الله، فهذا باب أجزل الله فيه الثواب لأهله، وخصهم بالمزيد من فضله ورضوانه، ولهذا اقتضت حكمة الله سبحانه أن يشارك المجتمع الإسلامي كله في الجهاد، كل بحسب جهده وقدرته، وذلك حتى لا يحرم أحد منه هذا الخير الكثير، بالقليل من الجهد.. فمن جهز غازيا فقد غزا، ومن أعان في إعداد أدوات الحرب، ومئونة الجيش فقد غزا، ومن قام على خدمة من خلّف المجاهدون وراءهم من أهل وولد، فهو في المجاهدين.. وهكذا كل عمل يقوّى من جبهة المجاهدين هو من الجهاد المبرور المقبول عند الله، هذا، وقد يعمل المجاهد في أكثر من ميدان، فيجهز المجاهدين بما له، وينفق في كل ما تحتاج إليه الحرب من سلاح ومتاع، ثم يكون هو مع المجاهدين في ميدان القتال، وإنه على قدر العمل يكون الثواب.

7. فى قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ تنبيه وتحذير من هذا الشعور الحماسي الذي قد يغلب على المجاهد وهو في ميدان المعركة، فيتحدى الموت الذي يتخطف النفوس من حوله، فيندفع متهورا يلقى الموت في غير مبالاة.

8. الإسلام حريص على أهله؛ ضنين بهم، فلا يبيع حياتهم إلا بالثمن الكريم الغالي، ولا يقتضيها هذا البيع إلا حيث تجب التضحية والفداء في سبيل الله، ولا سبيل آخر غير هذا السبيل تقدم فيه النفوس قربانا لله وفى سبيل الله، وعلى هذا فإن واجبا على المسلم إذ يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، وإذ يدفع بها في مزدحم المنايا، أن يتقاضى الثمن المجزي لها، وأن يأخذ لها حقها الكامل في القتال، بالنكاية في العدو، فإن قتل بعدها فقد كتب بدمه الطهور حرفا من حروف النصر للجبهة المقاتل فيها، وللجماعة المحارب معها.

9. فى قوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ دعوة إلى الإحسان المطلق، الإحسان في كل أمر يقوم عليه الإنسان ويؤديه، لله أو لنفسه أو للناس.. وعن هذه الدعوة إلى الإحسان المطلق تتجه دعوة خاصة إلى الإحسان في مواطن القتال، فيقاتل المسلم على بصيرة، ولا يكن من همّه الأول أن يقتل ويستشهد في سبيل الله، بل أن يكون مقصده النيل من العدو، والنكاية به، إذ يقتل فرسانه وشجعانه، فذلك هو المطلوب أولا، فإن قتل وهو يسعى لتحقيق هذه الغاية لم يكن مجرد شهيد، بل كان بطلا يحمل شهادة أعداد من الشهداء.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/215.

(2) لا نرى صحة ما ذكره هنا، وكلام المسيح عليه السلام إن صح عنه فهو من مقابلة الإساءة بالإحسان، وليس المقصود حقيقة ما ذكره.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ يحتمل وجوها:

أ. جملة مستأنفة فصلت عن سوابقها لأنه استئناف بياني؛ فإنه لما بين تعميم الأمكنة وأخرج منها المسجد الحرام في حالة خاصة كان السامع بحيث يتساءل عما يماثل البقاع الحرام وهو الأزمنة الحرام أعني الأشهر الحرم التي يتوقع حظر القتال فيها، فإن كان هذا تشريعا نازلا على غير حادثة فهو استكمال واستفصال لما تدعو الحاجة إلى بيانه في هذا المقام المهم.

ب. وإن كان نازلا على سبب كما قيل: إن المسلمين في عام القضية لما قصدوا مكة في ذي القعدة سنة سبع معتمرين خشوا ألّا يفي لهم المشركون بدخول مكة أو أن يغدروهم ويتعرضوا لهم بالقتال قبل دخول مكة وهم في شهر حرام، فإن دافعوا عن أنفسهم انتهكوا حرمة الشهر فنزلت هذه الآية، أو ما روي عن الحسن‏ أن المشركين قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين اعتمر عمرة القضية: أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام قال نعم، فأرادوا قتاله فنزلت هذه الآية، أي إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام فقاتلوهم أي أباح الله لهم قتال المدافعة، فإطلاق الشهر هنا على حذف مضاف واضح التقدير من المقام ومن وصفه بالحرام، والتقدير حرمة الشهر الحرام، وتكرير لفظ الشهر على هذا الوجه غير مقصود منه التعدد بل التكرير باعتبار اختلاف جهة إبطال حرمته أي انتهاكهم حرمته تسوغ لكم انتهاك حرمته.

ج. وقيل: معنى قوله: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾، أن قريشا صدتهم عن البيت عام الحديبية سنة ست ويسر الله لهم الرجوع عام القضية سنة سبع فقال لهم: هذا الشهر الذي دخلتم فيه بدل عن الذي صددتم فيه، ونقل هذا عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي، يعني أنه من قبيل قولهم: (يوم بيوم والحرب سجال)

2. الباء في قوله تعالى: ﴿بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ للتعويض كقولهم: صاعا بصاع وليس ثمة شهران بل المراد انتهاك الحرمة منهم ومنكم وهما انتهاكان.

3. التعريف في الشهر هنا في الموضعين يجوز أن يكون تعريف الجنس وهو الأظهر، لأنه يفيد حكما عاما ويشمل كل شهر خاص من الأشهر الحرم على فرض كون المقصود شهر عمرة القضية، ويجوز أن يكون التعريف للعهد إن كان المراد شهر عمرة القضية.

4. الأشهر الحرم أربعة: ثلاثة متتابعة هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وحرمتها لوقوع الحج فيها ذهابا ورجوعا وأداء، وشهر واحد مفرد وهو رجب وكان في الجاهلية شهر العمرة وقد حرّمته مضر كلها ولذلك يقال له: رجب مضر، وقد أشير إليها في قوله تعالى: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة: 36]

5. ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ تعميم للحكم ولذلك عطفه ليكون كالحجة لما قبله من قوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: 191] وقوله: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ إلخ، فالجملة تذييل والواو اعتراضية، ومعنى كونها قصاصا أي مماثلة في المجازاة والانتصاف، فمن انتهكها بجناية يعاقب فيها جزاء جنايته، وذلك أن الله جعل الحرمة للأشهر الحرم لقصد الأمن فإذا أراد أحد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى غدر الأمن أو الإضرار به فعلى الآخر الدفاع عن نفسه، لأن حرمة الناس مقدمة على حرمة الأزمنة، ويشمل ذلك حرمة المكان كما تقدم في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: 191]، والإخبار عن الحرمات بلفظ (قصاص) إخبار بالمصدر للمبالغة.

6. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ تفريع عن قوله: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ ونتيجة له، وهذا وجه قول (الكشاف): إنه فذلكة، وسمي جزاء الاعتداء اعتداء مشاكلة على نحو ما تقدم آنفا في قوله: ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 193]

7. ﴿بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ يشمل المماثلة في المقدار وفي الأحوال ككونه في الشهر الحرام أو البلد الحرام.

8. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أمر بالاتقاء في الاعتداء أي بألا يتجاوز الحد، لأن شأن المنتقم أن يكون عن غضب فهو مظنة الإفراط.

9. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ افتتاح الكلام بكلمة اعلم إيذان بالاهتمام بما سيقوله، فإن قولك في الخطاب: اعلم إنباء بأهمية ما سيلقى للمخاطب وسيأتي بسط الكلام فيه عند قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ في سورة الأنفال [24]، والمعية هنا مجاز في الإعانة بالنصر والوقاية، ويجوز أن يكون المعنى: واتقوا الله في حرماته في غير أحوال الاضطرار: واعلموا أن الله مع المتقين فهو يجعلهم بمحل عنايته.

10. ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ هذه الجملة معطوفة على جملة ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 190] إلخ فإنهم لما أمروا بقتال عدوهم وكان العدو أوفر منهم عدة حرب أيقظهم إلى الاستعداد بإنفاق الأموال في سبيل الله، فالمخاطبون بالأمر بالإنفاق جميع المسلمين لا خصوص المقاتلين.

11. وجه الحاجة إلى هذا الأمر، مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع ـ تنبيه المسلمين فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى الاستعداد لعدو قوي، لأنهم قد ملئت قلوبهم إيمانا بالله وثقة به، وملئت أسماعهم بوعد الله إياهم النصر وأخيرا بقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ نبهوا على أن تعهد الله لهم بالتأييد والنصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر التي هي أسباب ناط الله تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنه الله في الأسباب ومسبباتها، فتطلب المسببات دون أسبابها غلط وسوء أدب مع خالق الأسباب ومسبباتها كيلا يكونوا كالذين قالوا لموسى:‏ ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24] فالمسلمون إذا بذلوا وسعهم، ولم يفرطوا في شيء ثم ارتبكوا في أمر بعد ذلك فالله ناصرهم، ومؤيدهم فيما لا قبل لهم بتحصيله ولقد نصرهم الله ببدر هم أذلة، إذ هم يومئذ جملة المسلمين وإذ لم يقصروا في شيء، فأما أقوام يتلفون أموال المسلمين في شهواتهم، ويفيتون الفرص وقت الأمن فلا يستعدون لشيء ثم يطلبون بعد ذلك من الله النصر والظفر فأولئك قوم مغرورون، ولذلك يسلط الله عليهم أعداءهم بتفريطهم، ولعله يتداركهم في خلال ذلك بلطفه فيما يرجع إلى استبقاء الدين.

12. ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ طريقه، والطريق إذا أضيف إلى شيء فإنما يضاف إلى ما يوصل إليه، ولما علم أن الله لا يصل إليه الناس تعيّن أن يكون المراد من الطريق العمل الموصل إلى مرضاة الله وثوابه، فهو مجاز في اللفظ ومجاز في الإسناد، وقد غلب ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في اصطلاح الشرع في الجهاد، أي القتال للذب عن دينه وإعلاء كلمته، و﴿فِي﴾ للظرفية لأن النفقة تكون بإعطاء العتاد، والخيل، والزاد، وكل ذلك مظروف للجهاد على وجه المجاز وليست (في) هنا مستعملة للتعليل.

13. ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ عطف غرض على غرض، عقّب الأمر بالإنفاق في سبيل الله بالنهي عن الأعمال التي لها عواقب ضارة إبلاغا للنصيحة والإرشاد لئلا يدفع بهم يقينهم بتأييد الله إياهم إلى التفريط في وسائل الحذر من غلبة العدو، فالنهي عن الإلقاء بالنفوس إلى التهلكة يجمع معنى الأمر بالإنفاق وغيره من تصاريف الحرب وحفظ النفوس، ولذلك فالجملة فيها معنى التذييل وإنما عطفت ولم تفصل باعتبار أنها غرض آخر من أغراض الإرشاد.

14. الإلقاء رمي الشيء من اليد وهو يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه وإلى المرمى إليه بإلى وإلى المرمى فيه بفي، والظاهر أن الأيدي هي المفعول إذ لم يذكر غيره، وأن الباء زائدة لتوكيد اتصال الفعل بالمفعول كما قالوا للمنقاد (أعطى بيده) أي أعطى يده لأن المستسلم في الحرب ونحوه يشد بيده، فزيادة الباء كزيادتها في‏ ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ [مريم: 25] وقول النابغة: (لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا) والمعنى ولا تعطوا الهلاك أيديكم فيأخذكم أخذ الموثق، وجل التهلكة كالآخذ والآسر استعارة بجامع الإحاطة بالملقى، ويجوز أن تجعل اليد مع هذا مجازا عن الذات بعلاقة البعضية لأن اليد أهم شيء في النفس في هذا المعنى، وهذا في الأمرين كقول لبيد: (حتّى إذا ألقت يدا في كافر) أي ألقت الشمس نفسها، وقيل الباء سببية والأيدي مستعملة في معنى الذات كناية عن الاختيار والمفعول محذوف أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة باختياركم.

15. التهلكة بضم اللام اسم مصدر بمعنى الهلاك، وإنما كان اسم مصدر لأنه لم يعهد في المصادر وزن التّفعلة بضم العين وإنما في المصادر التفعلة بكسر العين لكنّه مصدر مضاعف العين المعتل اللام كزكّى وغطّى، أو المهموز اللام كجزّأ وهيأ، وحكى سيبويه له نظيرين في المشتقات التّضرّة والتّسرّة بضم العين من أضر وأسر بمعنى الضّر والسّرور، وفي الأسماء الجامدة التّنضبة والتّتفلة (الأول اسم شجر، والثاني ولد الثعلب)، وفي (تاج العروس) أن الخليل قرأها (التهلكة) بكسر اللام ولا أحسب الخليل قرأ كذلك؛ فإن هذا لم يرو عن أحد من القراء في المشهور ولا الشاذ فإن صح هذا النقل فلعل الخليل نطق به على وجه المثال فلم يضبط من رواه عنه حق الضبط، فإن الخليل أجل من أن يقرأ القرآن بحرف غير مأثور.

16. معنى النهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة النهي عن التسبب في إتلاف النفس أو القوم عن تحقق الهلاك بدون أن يجتنى منه المقصود.

17. عطف على الأمر بالإنفاق للإشارة إلى علة مشروعية الإنفاق وإلى سبب الأمر به فإنّ ترك الإنفاق في سبيل الله والخروج بدون عدة إلقاء باليد للهلاك كما قيل: (كساع إلى الهيجا بغير سلاح)، فلذلك وجب الإنفاق، ولأن اعتقاد كفاية الإيمان بالله ونصر دينه في هزم الأعداء اعتقاد غير صحيح، لأنه كالذي يلقي بنفسه للهلاك ويقول سينجيني الله تعالى، فهذا النهي قد أفاد المعنيين جميعا وهذا من أبدع الإيجاز.

18. قيل في تفسير ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ أقوال:

أ. الأول: أنّ‏ ﴿أَنْفَقُوا﴾ أمر بالنفقة على العيال، والتهلكة: الإسراف فيها أو البخل الشديد رواه البخاري عن حذيفة، ويبعده قوله‏ ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وأن إطلاق التهلكة على السرف بعيد وعلى البخل أبعد.

ب. الثاني: أنها النفقة على الفقراء أي الصدقة والتهلكة الإمساك وببعده عدم مناسبة العطف وإطلاق التهلكة على الإمساك.

ج. الثالث: الإنفاق في الجهاد، والإلقاء إلى التهلكة الخروج بغير زاد.

د. الرابع: الإلقاء باليد إلى التهلكة: الاستسلام في الحرب أي لا تستسلموا للأسر.

هـ. الخامس: أنه الاشتغال عن الجهاد وعن الإنفاق فيه بإصلاح أموالهم.

19. وقوع فعل‏ ﴿تُلْقُوا﴾ في سياق النهي يقتضي عموم كل إلقاء باليد للتهلكة أي كل تسبب في الهلاك عن عمد فيكون منهيا عنه محرما ما لم يوجد مقتض لإزالة ذلك التحريم وهو ما يكون حفظه مقدما على حفظ النفس مع تحقق حصول حفظه بسبب الإلقاء بالنفس إلى الهلاك أو حفظ بعضه بسبب ذلك، فالتفريط في الاستعداد للجهاد حرام لا محالة لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة، وإلقاء بالأمة والدين إليها بإتلاف نفوس المسلمين.

20. اختلف العلماء في مثل هذا الخبر الذي رواه الترمذي عن أبي أيوب وهو اقتحام الرجل الواحد على صف العدو فقال القاسم بن محمد (من التابعين) وعبد الملك بن الماجشون وابن خويزمنداد (من المالكية) ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: لا بأس بذلك إذا كان فيه قوة وكان بنية خالصة لله تعالى وطمع في نجاة أو في نكاية العدو أو قصد تجرئة المسلمين عليهم، وقد وقع ذلك من بعض المسلمين يوم أحد بمرأى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن لم يكن كذلك كان من الإلقاء إلى التهلكة.

21. ﴿وَأَحْسَنُوا﴾ الإحسان فعل النافع الملائم، فإذا فعل فعلا نافعا مؤلما لا يكون محسنا فلا تقول إذا ضربت رجلا تأديبا: أحسنت إليه ولا إذا جاريته في ملذات مضرة أحسنت إليه، وكذا إذا فعل فعلا مضرا ملائما لا يسمى محسنا، وفي حذف متعلق‏ ﴿أَحْسَنُوا﴾ تنبيه على أن الإحسان مطلوب في كل حال ويؤيده‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديث الصحيح: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)

22. في الأمر بالإحسان بعد ذكر الأمر بالاعتداء على المعتدي والإنفاق في سبيل الله والنهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة إشارة إلى أنّ كلّ هاته الأحوال يلابسها الإحسان ويحفّ بها، ففي الاعتداء يكون الإحسان بالوقوف عند الحدود والاقتصاد في الاعتداء والاقتناع بما يحصل به الصلاح المطلوب، وفي الجهاد في سبيل الله يكون الإحسان بالرفق بالأسير والمغلوب وبحفظ أموال المغلوبين وديارهم من التخريب والتحريق، والعرب تقول: (ملكت فأسجح)، والحذر من الإلقاء باليد إلى التهلكة إحسان.

23. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ تذييل للترغيب في الإحسان، لأن محبة الله عبده غاية ما يطلبه الناس إذ محبة الله العبد سبب الصلاح والخير دنيا وآخرة، واللام للاستغراق العرفي والمراد المحسنون من المؤمنين.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/207.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. بينت الآيات السابقة بعض أحكام القتال، وفى هاتين الآيتين بيان لبعض آخر، وقد تبين مما سبق أن المشركين إن انتهكوا حرمة البيت الحرام، وقاتلوا عند المسجد الحرام، واعتدوا على المسلمين فيه، فإنه لا يصح أن يحول بينهم وبين رد الاعتداء حرمة ذلك البيت الكريم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعله حرما آمنا، فمن اعتدى من المشركين بالقتال فيه فقد ازدوج اعتداؤه، ابتدأ بالاعتداء، واعتدى على أهل الحق، واعتدى على حرمة البيت، وكان من الواجب أن يرد كل هذا الاعتداء، ليشفى الله قلوب قوم مؤمنين، ولأن إلقاء السلم لمن حمل السيف تمكين للباطل من‏ الحق يجعل المبطل يمترئ الظلم، فيكرر الاعتداء في البيت الحرام، إذ يراه أنهز للفرصة، وأنكى للمسلمين، إذ يقتلون ولا يقاتلون.

2. مثل حرمة القتال في البيت الحرام القتال في الشهر الحرام؛ فإن الله سبحانه قد حرم القتال فيه؛ ولكن إن اعتدى المشركون فقاتلوا فيه لا يلقى إليهم المسلمون السلم لينالوا منهم؛ وهذا ما تعرضت له الآية الأولى من هاتين الآيتين.

3. ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ الباء هنا للمقابلة، أي الشهر الحرام من جانبكم مقابل بالشهر الحرام من جانبهم؛ فإن تقيدوا بالحرمة فيه ولم يثيروا حربا ولم يعتدوا، التزمتم حرمته، ولم تقاتلوهم فيه، ولو كان قتالهم في ذاته عدلا، بعد أن فتنوا الناس عن دينهم؛ وإن انتهكوا حرمة الشهر الحرام، ونابذوكم فيه وقاتلوكم فلا تكفوا عن قتالهم، ولا تقبضوا أيديكم عنهم احتراما له؛ بل ابسطوا عليهم أيديكم، وخذوهم إلى الحق من نواصيهم؛ لأنه إذا كان الشهر الحرام واجب الصيانة فنفوس المؤمنين ألزم صيانة وأحق بها، وإذا تعارضت الحقوق والواجبات قدم ألزمها، وأحفظها لدين الله وإعلاء كلمته؛ ولا شك أن ترك المشركين يكلبون في المؤمنين ويشتدون عليهم، أشد ضررا من القتال في الشهر الحرام الذي انتهكوا حرمته، وقد أخرجوا من قلوبهم كل حريجة دينية وخلقية وإنسانية.

4. (أل) في كلمة ﴿الشَّهْرَ﴾ هي التي يسميها علماء اللغة: أل الجنسية، والشهر هنا مفرد في معنى الجمع؛ لأن الشهر الحرام ليس واحدا، بل هي أربعة أشهر: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، والتعبير بالمفرد وإرادة الجمع فيه إشارة إلى المعنى المشترك في هذه الأشهر الأربعة، وهو تحريم القتال ابتداء فيها، احتراما لها، ولبث روح الأمن والطمأنينة بين الناس؛ لأن المعنى الجامع لها جعلها وحدة قائمة بذاتها، وكأنها معنى واحد تعددت صوره؛ فالتعبير عن الجمع بلفظ هو في أصل ذاته للمفرد، مشيرا إلى الوحدة المشتركة الجامعة بين الأفراد، مبينا أن الحكم قد نيط بالمعنى الجامع بينها، ولا يتصل بالصفات الشخصية المميزة لآحادها.

5. ذكر عدد الأشهر الحرم آية أخرى هي قوله تعالى في سورة التوبة: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة]، فهذه الآية تصرح بأنها أربعة وليست واحدا، ثم بينت السنة هذه الأشهر الأربعة من أشهر السنة كلها؛ فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في حجة الوداع: (ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا؛ منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)

6. اتفق العلماء على أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يبدأ بقتال في الشهر الحرام، فلم يبتدئ فيه بغزو، ولكن إذا قوتل فيه لم يكن يمتنع عن القتال؛ وكذلك إذا ابتدأ القتال قبل الشهر الحرام، واستمر القتال إلى أن حل الشهر، لم يكن ينقطع عن القتال حتى يأمن الرجعة؛ فقد روى عن جابر بن عبد الله أنّه قال: (لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ)

7. استعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم للقتال في الشهر الحرام مرتين، إحداهما عام الحديبية عندما ذهب معتمرا هو وصحبه ومنعوه من البيت الحرام، حتى هم بقتالهم إن بدؤوه بالقتال، ولكنه صالحهم على الدخول من قابل؛ والثانية عندما عاد إلى قضاء عمرته؛ فلقد كان على استعداد لأن يقاتل المشركين إن قاتلوه على ألا يبدأهم، وكان ذلك في ذي القعدة في العامين.

8. ابتدأ القتال في العام الثامن مع هوازن وحنين في الأشهر الحلال، ولكن استمر القتال حتى دخل ذو القعدة الشهر الحرام، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يحاصرهم، وقد استمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحصار أياما ثم قفل راجعا احتراما للشهر الحرام؛ ولعل الأيام التي استمرها لينظم الرجوع ويأمن ظهره، وحتى لا يأخذه في رجعته عدو الله وعدوه.

9. هذه حقائق مقررة ثابتة تبين أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يحرم على نفسه ابتداء القتال في الشهر الحرام إلا أن يقاتل فيقاتل، ولقد تقرر التحريم بالقرآن الكريم في أكثر من آية، منها قوله تعالى في أول سورة المائدة، وهى من آخر القرآن نزولا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ [المائدة]

10. لكن مع ذلك اختلف الفقهاء:

أ. فقال بعضهم وهم الأكثرون: إن تحريم القتال في الشهر الحرام قد نسخ بقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة] وقالوا إن معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة] أي بمنع القتال فيها كما ذكر ابن جرير الطبري وقالوا: لقد قاتل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هوازن وحنينا فيها، وما لأحد أن يحرم ما أحله رسول الله، ذلك قولهم ودليله.

ب. وقال بعض آخر أقل عددا من الأول: إن تحريم القتال فيها ابتداء من غير اعتداء من الأعداء فيها شريعة باقية؛ لأنه لم يوجد نص صريح يعارض نصوص التحريم، ولا يمكن إعماله إلا بالنسخ، ولأن تحريم هذه الأشهر ثبت بآيات من آخر آيات القرآن نزولا وهى سورة المائدة كما نوهنا، ولأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أكد التحريم بذكر تلك الأشهر في خطبة الوداع التي سجل فيها شرع الله على عباد الله، وأشهد عليهم فيها أنه بلغهم رسالات ربه؛ وما كان قتال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لهوازن وحنين في الشهر الحرام ابتداء بل كان امتدادا، ولقد قطع القتال ولم يستمر فيه لما صارت الرجعة عن القتال لا تعرض جنده لمضار تكون أشد من تحريم القتال في الشهر الحرام، ولأجل هذا قال عطاء بن رباح حالفا بالله: إنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها، وما نسخت.

11. لعل الفقهاء الذين قرروا إباحة القتال في الأشهر الحرم، قد استمدوا حكمهم مما ذكرنا متأثرين بأحوال زمنهم؛ فإنه بعد أن اتسع الفتح الإسلامي صار جند المسلمين في مذأبة من الأمم المعادية تنتهز الفرص من غير هوادة أو مهادنة؛ فإذا رأوا المسلمين قد أغمدوا القضب في أجفانها انقضوا عليهم، وأتوهم من مأمنهم؛ بل لعلهم وجدوا أن الفتوحات الإسلامية الأولى لم تغمد فيها السيوف في الأشهر الحرم؛ لأنها كانت حربا ممتدة مستمرة موصولة غير مقطوعة، فحسبوا أن تحريم القتال في الشهر الحرام قد نسخ؛ ولكنا إذا قيدنا التحريم بالابتداء وفى غير حال مباكرة الأعداء بالاعتداء، نجد النصوص سائرة مع عمل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والصحابة من غير تضارب يسيغ النسخ.

12. السبب في تحريم الله سبحانه وتعالى القتال في الشهر الحرام أمران جليلان:

أ. أحدهما: تأمين السبل في الحج، ذهابا وجيئة؛ ولذلك كان أكثرها أشهر الحج، كما قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة] فمنع القتل فيها تأمينا للسبل، ولأمن بيت الله الحرام، وأما رجب الذي بين جمادى وشعبان فقد كان شهر الاعتمار، فيه تؤدى العمرة المندوبة انفرادا؛ وعلى هذا يكون تحريم القتال في الشهر الحرام ليتحقق الأمن الكامل للبلد الحرام ولحرم الله الآمن إلى يوم القيامة؛ كما قال سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت‏]، ولعل الفقهاء الذين قالوا: إن تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ لاحظوا هذا المعنى؛ لأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى صارت الصحراء العربية بوبرها ومدرها كلها تحت سلطانه، وفى ظل الله، فصار الحجيج يصلون إلى البيت الحرام آمنين، ولو كان القتال دائر الرحى في غير البلاد العربية، فظنوا النسخ؛ لأن التحريم حينئذ يكون قد استوفى أغراضه والغاية منه؛ واستنبطوا مع ذلك من نصوص وحوادث ما يزكى ذلك وينميه، على نظر في ذلك.

ب. وثاني الأمرين اللذين نظنهما حكمة التحريم: أن الإسلام يكره القتل والقتال، وهو في نظره أمر بغيض لا يلجأ إليه إلا عند الاضطرار، وإن النفوس السليمة تقر ذلك؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وهُوَكُرْهٌ‏ لَكُمْ﴾ [البقرة] فكان من حصر القتال في أضيق دائرة أن يتفق الفريقان على إلقاء السلاح أمدا معلوما في أثناء القتال لعل العقول تثوب إلى رشدها، والنفوس تهدأ حدّتها، فيكون التفاهم والسلام وحقن الدماء، وإذا كان ثمة أشهر يحرم فيها، ويرتضى الفريق الآخر ذلك التحريم حقنا للدماء فيها، فإنها ستكون هدنة في أوار الحرب، ولعلها تكون نسيم السلام؛ ولقد لاحظ الناس بالتجارب المستمرة أنه ما كانت هدنة في حرب ضروس إلا فلّت حدتها، وأضعفت شرّتها؛ والله عليم بذات الصدور.

13. ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ تعالت كلمات الله؛ تلك حكمة بالغة، وكلمة جامعة لكل ما سبقها من معان في القتال ومبينة لمقاصد الإسلام في علاقات المسلمين مع غيرهم، وعلاقة بعضهم ببعض في اجتماعهم، وهى قضية خلقية سليمة صحيحة تقبلها العقول السليمة، وتقرها الأخلاق القويمة.

14. الحرمات: جمع حرمة، كما أن الحجرات جمع حجرة؛ والظلمات جمع ظلمة، والحرمة الأمر الذي حرمه الله ومنع انتهاكه، والقصاص من معانيه المساواة، وتتبع آثار الجريمة بالعقوبة، ومعنى القصاص في الحرمات أن يعامل منتهك الحرمات بمثل ما فعل، وأن يكون العقاب من جنس العمل، وألا يقيد المعاقب بحرمة انتهكها الجاني، فإذا انتهك الجاني حرمة النفس بقتلها، لا يتقيد المعاقب بحرمة نفسه، بل يقتص منها، لأنه إذا انتهك حرمة غيره بقتل أو اعتداء فقد أباح من حرماته مقابل ما انتهك.

15. معنى قوله تعالى: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ في هذا المقام‏ أن ما انتهكوه من حرمة الأنفس بقتلها وفتنتها عن دينها، وحرمة البيت الحرام التي انتهكوها بإخراج أهله منه وصدهم عنه، وقتالهم فيه، وحرمة الشهر الحرام إذا انتهكوها، كل هذا يعامل بالقصاص والمساواة والعدل؛ فما انتهكوه من حرمات في حق غيرهم، يقتص بمثله منهم ولا تحترم فيه حرمة لم يحترموا مثلها في غيرهم، وذلك قانون شامل يعم ولا يخص؛ ينظم العلاقات الدولية، كما ينظم التعامل في المجتمع الإسلامي؛ فمن اعتدى على غيره في ماله، أو نفسه أو بعضه، أباح الحاكم من نفسه وماله ما أباحه لنفسه من نفس غيره وماله؛ والمعتدى على المسلمين من الدول يعامل بقدر اعتدائه، وبطريقة اعتدائه، وفى زمان اعتدائه ومكانه؛ فإن انتهك حرمة الزمان فليس له أن يستمسك بحرمتها، ومن انتهك حرمة المكان قتل فيه، ومن اعتدى بنوع من الاعتداء عوقب بمثله إلا أن يكون أمرا لا يحله شرع الله، ولا تحله الطبائع السليمة؛ كالمثلة، وقتل من لا يقاتل أبدا ـ على ما سنبين إن شاء الله تعالى.

16. قضية ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ هي المعاملة العادلة التي تنظم الاجتماع الإنساني في دوله وآحاده؛ وليس من الفضيلة في شيء أن تغل يد الفضائل عن حرمات خصمها في الوقت الذي استباح المبطل كل الحرمات؛ وإن ذلك ليس له معنى إلا نصر الرذيلة على الفضيلة، وخضد شوكة الحق ليأكله الباطل؛ وإن التسامح في هذه الحال هو شر ذرائع الرذائل، والقوة والقصاص في هذه الحال هو حماية الفضيلة وفل شوكة الرذيلة.. وهكذا فضائل الإسلام دائما فضائل لها شوكة وقوة، ولا تعد التسامح الذي يمكن للباطل من أن يتغلب على الحق إلا الاستسلام والذلة.

17. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ هذا تخصيص بعد تعميم، أو تفريع بعد ذكر القاعدة الكلية، بذكر بعض القواعد الجزئية بالإضافة إليها، أو الخاصة بالنسبة لها؛ لأن قوله تعالى: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ قضية عامة، كما بينا، تعم معاملة الدول ومعاملة الآحاد، وتنظم الاجتماع الإنساني وتنظيم الاجتماع في الأمة الواحدة؛ وهى قضية الفضيلة الإنسانية الموجبة التي تحمى نفسها من الرذيلة بالقصاص منها أيا كانت صورة الرذيلة، وأيا كان موضوعها، أما قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ فهي تبين العلاقة الدولية بين المسلمين وغيرهم؛ لأن الخطاب فيها للمسلمين مجتمعين كدولة واحدة لها نظم حاكمة، وسياسة قائمة، يبين هذا الخطاب ما يجب على دولتهم في معاملة غيرهم به في حرب أو سلم، وفى منازلة أو مهادنة، فذكر الله سبحانه أن تلك المعاملة هي المعاملة بالمثل.

18. معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ أن من يعتدى عليكم من أمم غيركم بانتهاك حرمة من حرمات دولتكم أو إلحاق أذى بجماعتكم، بحرب يشنها عليكم، أو مصادرة لمتاجركم، أو ترصد في الطرق التي تسلكها قوافلكم أو سفنكم، فعاملوه بالمثل، وأنزلوا به مثل ما ينزله بكم؛ وإن انتهك، حرمة مكان فانتهكوا منه مثل ما انتهك من غير تحرج في ذلك ولا تأثم، فإن هذا ما تقضى به قوانين المساواة والمعاملة بالمثل.

19. هنا يثير العلماء بحثا لفظيا: كيف يسمى المقابلة بالمثل اعتداء؟ إن الاعتداء هو الابتداء، أما العقوبة أو المقاومة فهي عدل وانتصار، لأن مقاومة الظلم هي عين العدل، فكيف تسمى اعتداء؟ وقد أجابوا عن ذلك بأن المشاكلة في الفعل التي تقتضيها المماثلة سوغت أن يسمى الفعل باسم نظيره، كما قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى‏] وإن ذلك لا يمنع الحقيقة، لأنه وإن تشاكلت الأفعال والأوصاف المنبعثة من الفاعل مختلفة؛ فالفعل الأول اعتداء لأنه صدر عن ظالم، وكان ظلما، والثاني ليس في حقيقته اعتداء، لأنه انبعث عن عادل، وكان عدلا.

20. هذا مرمى ما قاله العلماء اعتراضا وإيرادا، وجوابا وردا؛ وعندى أن تسمية مقاومة الاعتداء بمثله اعتداء، إذا كانت المقاومة حربا ونزالا، فيه إشارة إلى معنى إنساني جليل، وهو أن القتل في كل صوره وأحواله، ولو كان ردا لمثله، فيه اعتداء على النفس الإنسانية التي حرم الله قتلها بغير نفس أو فساد في الأرض، وأنه عمل خطير تقشعر من هوله الأبدان، ولا يصح الإقدام عليه إلا إذا اضطرت الفضيلة والأخلاق إليه؛ وإن الإقدام عليه يكون كالإقدام على الضرورات المحظورة فى‏ ذاتها، يقدر بقدرها، فلا يسرف القاتل في القتل؛ لأنه في أصله محظور ممنوع كأكل الميتة لا يباح إلا للضرورة، ولا يصح للمقاتل باسم الإسلام أن يسرف في القتل ما أمكنه الانتصار بدونه.

21. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ هو القاعدة العامة للقانون الدولى في الإسلام في السلم والحرب معا؛ فمن لم يعتد على المسلمين، وترك دعوة الإسلام الحق تسير في مسارها، وتستقيم على منهاجها من غير محاجزة بين الناس وبينها، فالعلاقة به سلمية خالصة، كالشأن مع النجاشي ملك الحبشة؛ ومن اعتدى على المسلمين كانت العلاقة بينهم وبينه بقدر ذلك الاعتداء؛ سواء أكان الاعتداء في سلم أم لبس لبوس الحرب؛ وإذا عاهدهم أحد حفظوا عهودهم إلا أن ينكث معهم‏ ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ [الفتح‏]، ولكن الخصم إذا لم يكن له خلق قد يقع في أمور تضر بالخلق القويم، كأن ينتهك الأعراض في الحرب، أو يقتل الذرية الضعاف، أو الشيوخ الذين لا حول لهم ولا طول، فهل يعتدى بمثل اعتدائه، ويسلك المسلمون مثل مسلكه؟ هذا ما بينته الجملة الآتية، وهو عدم الجواز.

22. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهاتين الجملتين لكيلا يندفع المقاتلون المسلمون في القتال فيضعوا سيوفهم على أعناق من يستحقها ومن لا يستحقها، وينزلوها في موضع البرء والسقم، فيقتلوا ويتجاوزا الحد؛ لأنه إذا اشتجرت السيوف، وكثرت الحتوف؛ قد تتجاوز موضعها، فتكون في غير العدل؛ وقد يسايرون خصومهم في أذاهم فيقتلون الذراري أو الشيوخ أو الضعاف أو الرهبان والعباد في الصوامع كما يفعل خصومهم، أو يحرقون الزرع ويقتلون الضرع كما يعيث غيرهم في الأرض فسادا؛ فأمر الله سبحانه بتقوى الله في الحرب بأن يراقبوه وحده، ويخافوه وحده، ويلاحظوا التقوى في قتالهم؛ فإنه ينبغي أن تكون هي الوصف الملازم لهم في حربهم وسلمهم؛ فإن حولتهم الحرب إلى أسود كواسر، فليعلموا أن القلوب الإنسانية الدينية التي تخشى الله ما زالت في إهابها، أو يجب أن تكون كذلك دائما.

23. سؤال وإشكال: قد يقول قائل إن أعداء الإسلام إن قتلوا الذرية والضعاف والشيوخ الذين لا يعينون في حرب فإن العدل معاملتهم بالمثل، وإن ذلك يكون أنكى بهم، والنكاية الشديدة قد تدفعهم إلى الخذلان، أو على الأقل تمنعهم من قتل من لا يقاتلون؟ والجواب: إن الإسلام أمر بقتل من يقاتل فقط، ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء] وما كان الضعفاء ليقاتلوا، فما يسوغ في حكم التقوى أن يقتلوا؛ وإن تقوى الله في الحروب تقوى القلوب، والرأفة بعباد الله تدنى نصر الله؛ ولذلك قال سبحانه في ختام الآية: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ فاستشعروا التقوى في حربكم، وادرعوا بها في قتالكم، فلا تعتدوا في القتال، ولا تقاتلوا من لم يرفع سيفا، فإن الله مع المتقين بالنصر والتأييد دائما؛ والله ولى الصابرين.

24. ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بين سبحانه مشروعية القتال عند الاعتداء، ورد الاعتداء بمثله قدرا وزمانا ومكانا مع ملاحظة الدين وعدم الاسترسال في أمر يخالفه‏ إن وقع من المشركين، أو المحاربين بشكل عام مثله؛ ولقد أخذ بعد ذلك يبين ما هو عدة الحرب، وقوة الجماعة الإسلامية، ورباط بنيانها، وهو المال، فأمر الأغنياء بإنفاق المال في سبيل الله أي في كل ما هو خير وبر؛ فإن كل خير وطاعة يعد سبيل الله سبحانه؛ وإنفاق المال على ذلك هو قوة الأمة في سلمها؛ وقوة السلم هي عدة الحرب؛ وإن من الإنفاق في سبيل الله الإنفاق في الحروب، وإعداد العتاد الحربى؛ ولكن ذلك وإن كان قوة الحرب المباشرة، لا ينفى أن قوة الحروب تعتمد على قوة الوحدة في الأمة، وقوة الصلة بين ضعفائها وأقويائها، وأغنيائها وفقرائها، وذلك يكون بسد حاجة المعوزين، وإعطاء المحرومين؛ ولذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ابغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)

25. ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ التهلكة بضم اللام: مصدر بمعنى الهلاك، كما قال أبو عبيدة والزجاج؛ وادعى بعض علماء اللغة أنه لم يوجد مصدر على وزن (تفعلة) إلا هذا، ولكن روى عن سيبويه كلمتان أخريان هما تنصرة وتسترة، بمعنى نصر وستر، وقد جوز الزمخشري أن يكون أصلها (تهلكة) قلبت الكسرة ضمة، ككسرة الجوار قد تقلب ضمة فيقال: (الجوار)، ومهما يكن فإن (التهلكة) إذا كانت بمعنى (الهلاك) في المال، فلا بد أن يكون ثمة فرق دقيق اقتضى العدول من لفظ الهلاك إلى لفظ التهلكة كما هو الشأن في التخير من الألفاظ المترادفة في الكلام البليغ، ولو أن لنا أن نتلمس فرقا فهو أن نقول: إن التهلكة هلاك خاص، وهو الذي يباشر سببه من ينزل به الهلاك، وربما لا ينزل دفعة واحدة، بل يسرى شيئا فشيئا، ولكن نتيجته تكون مؤكدة؛ أما لفظ الهلاك فهو يشمل ما ينزل دفعة واحدة وما لا يكون للإنسان فيه إرادة وغيرهما.

26. الباء في قوله سبحانه‏ ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ﴾ قيل زائدة في الإعراب لتقوية معنى الإلقاء المنهى عنه، فيقوى النهى؛ وقيل المعنى: لا تلقوا أنفسكم مجذوبة بأيديكم وإرادتكم إلى التهلكة، فلا تكون زائدة، وعلى أن الباء زائدة في الإعراب يكون المراد بالأيدي الأنفس، من قبيل إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل، والمعنى: لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة، والمؤدى في التخريجين واحد.

27. النهى عن الإلقاء في التهلكة بعد الأمر بالإنفاق وبعد شئون القتال، يعين المعنى بأنه فيما يتعلق بشئون الدفاع عن الدولة والذود عن حياضها، وحفظ كيانها، أو على الأقل يتجه نحو هذه الغاية أو ذلك المرمى أولا وبالذات؛ ولذلك فسر الأكثرون الإلقاء إلى التهلكة بأنه الكف عن القتال والتقاعد عنه فتكون الأمة نهبا للمغيرين بسبب ذلك، والكف عن الاستعداد للحرب بإعداد العدة وأخذ الأهبة كما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال‏] وبقبض الأغنياء أيديهم عن إعطاء حق الفقراء؛ فيكون بأس الأمة بينها شديدا، يسهل إغارة المغيرين عليها؛ ولذلك روى ابن عباس في تفسير هذه الآية وهو ترجمان القرآن ما نصه: لا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا.

28. هذا هو معنى الآية على ما عليه الأكثرون وهو الذي يتفق مع السياق، ومع المروى في جملته؛ فقد روى البخاري في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت في النفقة، وروى يزيد بن أبى حبيب عن أسلم قال (غزونا القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو فقال الناس: مه مه‏! لا إله إلا الله: يلقى بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب الأنصاري: (سبحان الله أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه، وأظهر دينه قلنا هلم نقيم في أموالنا، فأنزل الله عزّ وجل: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، وقد تضافرت الروايات بمثل ذلك مما يجعلنا نفهم أن الآية الكريمة تتجه إلى حماية الدولة والجماعة من أن تلقى بيدها إلى التهلكة، بترك الضعفاء فيها، وترك الجهاد دفاعا عنها، وعدم الاستعداد لأعدائها.

29. عموم الآية قد يشمل حال الآحاد إذا أقدموا على ما يضرهم من غير أي فائدة تعود على الجماعة من إقدامهم ولو كانت الفائدة معنوية أدبية، فإن ذلك يسير عليه النهى بمقتضى العموم؛ وليس منه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وقول كلمة الحق للظالمين؛ فإن ذلك فيه فائدة معنوية للأمة؛ وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله)

30. اختلف العلماء فيمن أقدم على مهاجمة عدو كثير العدد وحده، فسوغه ناس‏ لما فيه من فائدة للجماعة ولو معنوية، ومنعه آخر لأنه لم ير فيه أية فائدة للأمة، وفيه المضرة على من أقدم؛ فتنطبق عليه الآية.

31. الخلاصة أن الآية ينطبق النهى فيها على الأمة إن تركت أمر حمايتها من الآفات الاجتماعية في الداخل، وغارات الأعداء في الخارج حتى هلكت؛ وينطبق النهى على الآحاد إن أقدموا على ما يهلكهم من غير أي نفع مادى أو أدبى لأمتهم.

32. ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ الإحسان في لغة القرآن الكريم يطلق بإطلاقين:

أ. أحدهما: الإتقان والإجادة في العمل والقيام بالطاعات على وجهها؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف‏]، وقوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة]

ب. الثاني: التفضل على‏ غيره بالعطاء والزيادة فيه؛ وعندى أن هذا في الجملة يعود إلى الأول لأن ذلك من قبيل إتقان العبادة، والإخلاص الكامل فيها.

33. على ذلك نرى أن الإحسان هنا هو الإجادة والإتقان؛ وقد أمر الله سبحانه المؤمنين بعد الأمر بالقتال أن يجيدوا كل أعمالهم كل الإجادة، وأن يحتاطوا في كل ما هو متصل بحياتهم الشخصية وأحوالهم الاجتماعية، وشئون دولتهم وما يقيم أودها ويصلح أمرها؛ ففي الحرب جلاد وجهاد وفداء، وفى السلم إعداد واستعداد ومحبة وولاء، ومودة بينهم وإخاء؛ ليكونوا كما وصف الله الأسلاف‏ ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح‏] ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة] فإن لم يكونوا كذلك فقدوا عون الله ونصرته، بعد أن فقدوا عزة الإسلام وهدايته؛ لأن الله مع من يحسن، ولا يحب سواه؛ إذ قال ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/585.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾، الأشهر الحرم أربعة: ثلاثة منها متتابعة، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وشهر واحد فرد، وهو رجب، وإنما سميت هذه الأشهر حرما، لتحريم القتال فيها في الجاهلية والإسلام، فلقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه في هذه الأشهر، ولا يتعرض له بسوء.

2. سبق عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه أرادوا العمرة في ذي القعدة سنة ست، فصدهم المشركون، ورموهم بالسهام والحجارة، ثم اصطلحوا على أن يعود المسلمون في قابل، ولكن خاف المسلمون أن يبدأهم المشركون بالقتال في الشهر الحرام، فأذن الله لهم بقتال المشركين، وبيّن ان المحظور هو الاعتداء بالقتال دون المدافعة، وعليه يكون معنى: الشهر الحرام بالشهر الحرام، ان من استحل دمكم أيها المسلمون في هذا الشهر فاستحلوا أنتم دمه فيه.

3. ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾، أي ان من ينتهك حرمات الله يقتص منه، ويعامل بمثل فعله، وهذا أصل عام يقطع كل عذر يتذرع به من ينتهك الحرمات، فمن استباح دماء الناس وأموالهم وأعراضهم استبيح منه ما استباح هو منهم..

4. حرمة الإنسان من حرمة الله الا ان ينتهك حرمة غيره، فعندها يأتي الحق الذي يعلو ولا يعلى عليه، وبهذا نجد تفسير قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، فشرط العقوبة أن تكون مماثلة لجناية المعتدي دون زيادة أو نقصان، وهذا هو القصاص في حقيقته.

5. سؤال وإشكال: من يبتدئ بالعدوان فهو معتد بلا ريب، أما من يقتص من المعتدي ويقابله بمثل فعله فلا يكون معتديا، اذن، فما هو الوجه لقوله تعالى: ﴿فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾؟ والجواب: ليس المراد بالاعتداء الاعتداء على حقيقته، بل المراد به جزاء الاعتداء والمقابلة بالمثل كما وكيفا بلا حيف وظلم، ومثله قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾

6. ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، الإنفاق في سبيله تعالى يشمل المصالح العامة، كالمدارس والمصحات ودور الأيتام، والجهاد، والصدقات على الفقراء والمساكين، والإنفاق على الأهل والأولاد والعيال، وأفضل موارد الإنفاق ما فيه إعزاز للدين وانتشاره، واحقاق للحق، وإبطال للباطل.

7. ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، عبّر سبحانه بالأيدي عن الأنفس.. ولو نظرنا الى هذه الجملة مستقلة عن السياق لكان المعنى ان الإنسان لا يجوز له أن يقدم على ما يعود عليه بالضرر المحض دون أن يترتب على اقدامه أية منفعة عامة، أما إذا راعينا سياق الكلام، ومجيء قوله تعالى: ﴿لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ بعد قوله: ﴿أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ‏﴾ ـ أما إذا راعينا ذلك فيكون المعنى أنفقوا من أموالكم إنفاقا لا تقتير فيه، ولا إسراف، لأن كلا منهما يؤدي الى التهلكة، فالآية على هذا تجري مجرى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾، وقيل: ان معنى لا تلقوا بأيديكم الى التهلكة بترك جهاد أعداء الدين، وبذل‏ المال لتجهيز المجاهدين، لأن ذلك يضعفكم، ويمكن العدو منكم فتهلكون وتذلون.. وهذا ما أثبتته التجارب التي مر بها المسلمون، فلقد فقدوا حريتهم وكرامتهم منذ أن تركوا الجهاد والبذل في نصرة الحق والعدل، وطمع فيهم كل غاصب وسالب، حتى عصابة الصهاينة عميلة الاستعمار، فإنها احتلت فلسطين سنة 1948، وبعد سكوتهم عنها وعن جهادهم لها عشرين عاما أغارت على سيناء، والضفة الغربية من الأردن، واحتلتهما بمساعدة أمريكا وبريطانيا والمانيا الغربية، وقتلت الرجال، وشردت النساء والأطفال.. ولو ان المسلمين جاهدوها من قبل لكانوا في منجى من هذه التهلكة، وهذا الذل المشين، ولم يكن لدولة إسرائيل عين ولا أثر.

8. ﴿وَأَحْسَنُوا﴾، بالجهاد وبذل المال في سبيله، وفي كل سبيل يرضي الله، ويمدح المرء على فعله.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/301.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾، الحرمات جمع حرمة وهي ما يحرم هتكه ويجب تعظيمه ورعاية جانبه، والحرمات: حرمة الشهر الحرام وحرمة الحرم وحرمة المسجد الحرام، والمعنى أنهم لو هتكوا حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه، وقد هتكوا حين صدوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه عن الحج عام الحديبية ورموهم بالسهام والحجارة جاز للمؤمنين أن يقاتلوهم فيه وليس بهتك، فإنما يجاهدون في سبيل الله ويمتثلون أمره في إعلاء كلمته ولو هتكوا حرمة الحرم والمسجد الحرام بالقتال فيه وعنده جاز للمؤمنين معاملتهم بالمثل، فقوله: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ بيان خاص عقب ببيان عام يشمل جميع الحرمات وأعم من هذا البيان العام قوله تعالى عقيبه: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، فالمعنى أن الله سبحانه إنما شرع القصاص في الشهر الحرام لأنه شرع القصاص في جميع الحرمات وإنما شرع القصاص في الحرمات لأنه شرع جواز الاعتداء بالمثل.

2. ثم ندبهم إلى ملازمة طريقة الاحتياط في الاعتداء لأن فيه استعمالا للشدة والبأس والسطوة وسائر القوى الداعية إلى الطغيان والانحراف عن جادة الاعتدال والله سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين، وهم أحوج إلى محبة الله تعالى وولايته ونصره فقال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾

3. أما أمره تعالى بالاعتداء مع أنه لا يحب المعتدين فإن الاعتداء مذموم إذا لم يكن في مقابلة اعتداء، وأما إذا كان في مقابلة الاعتداء فليس إلا تعاليا عن ذل الهوان وارتقاء عن حضيض الاستعباد والظلم والضيم، كالتكبر مع المتكبر، والجهر بالسوء لمن ظلم.

﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، أمر بإنفاق المال لإقامة القتال في سبيل الله والكلام في تقييد الإنفاق هاهنا بكونه في سبيل الله نظير تقييد القتال في أول الآيات بكونه في سبيل الله، كما مر.

4. الباء في قوله: ﴿بِأَيْدِيكُمْ﴾ زائدة للتأكيد، والمعنى: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة كناية عن النهي عن إبطال القوة والاستطاعة والقدرة فإن اليد مظهر لذلك، وربما يقال: إن الباء للسببية ومفعول لا تلقوا محذوف، والمعنى: لا تلقوا أنفسكم بأيدي أنفسكم إلى التهلكة، والتهلكة والهلاك واحد وهو مصير الإنسان بحيث لا يدري أين هو، وهو على وزن تفعلة بضم العين ليس في اللغة مصدر على هذا الوزن غيره.

5. الكلام مطلق أريد به النهي عن كل ما يوجب الهلاك من إفراط وتفريط كما أن البخل والإمساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوة وذهاب القدرة، وفيه هلاك العدة بظهور العدو عليهم، وكما أن التبذير بإنفاق جميع المال يوجب الفقر والمسكنة المؤديين إلى انحطاط الحياة وبطلان المروة.

6. ثم ختم سبحانه وتعالى الكلام بالإحسان فقال: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وليس المراد بالإحسان الكف عن القتال أو الرأفة في قتل أعداء الدين وما يشبههما بل الإحسان هو الإتيان بالفعل على وجه حسن بالقتال في مورد القتال، والكف في مورد الكف، والشدة في مورد الشدة، والعفو في مورد العفو، فدفع الظالم بما يستحقه إحسان على الإنسانية باستيفاء حقها المشروع لها، ودفاع عن الدين المصلح لشأنها كما أن الكف عن التجاوز في استيفاء الحق المشروع بما لا ينبغي إحسان آخر، ومحبة الله سبحانه وتعالى هو الغرض الأقصى من الدين، وهو الواجب على كل متدين بالدين أن يجلبها من ربه بالاتباع، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾

7. بدأت الآيات الشريفة وهي آيات القتال بالنهي عن الاعتداء ﴿وإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ وختمت بالأمر بالإحسان ﴿وإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وفي ذلك من وجوه الحلاوة ما لا يخفى.

8. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بما يتوافق مع ما ذكره سابقا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/64.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ قصاص للمعتدي ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ من حرمة الشهر الحرام وحرمة الحرم ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ بهتك حرمة منها ﴿فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ في البلد الحرام أو في الشهر الحرام، ولا يضركم تسميته عدواناً في لغة العرب؛ لأن الحرام ما حرم الله والحلال ما أحل.

2. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فلا تزيدوا على ما أحل لكم، مثل: هتك حرمتين قصاصاً في هتك حرمة واحدة، وكذلك حافظوا على طاعته في كل أمر من قتالهم كما أمرتم، والالتزام بحدوده في القتال وغيره، واجتناب معاصيه كلها، والتوبة إليه عند المخالفة.

3. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ فقاتلوهم كما أمرتم وارجوا النصر من الله؛ لأنه معكم ما دمتم متقين ولا تخالفوا في شيء من أمره متعمدين فتخرجوا عن التقوى، وعن استحقاق النصر، ويفوتكم كون الله معكم.

4. ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في سبيل نصر دين الله، وحماية دين الله، والدفاع عن دين الله، ومنه الإنفاق على أنصار الدين ليثبتوا على نصرهم للدين، أو لتقويتهم على نصر الدين أكثر، وعلى المهاجرين في سبيل الله والمرابطين، وأنصار علماء الدين القائمين في نصر الدين وحراسهم، وعلماء الدين أنفسهم لهذا الغرض، وطلاب علم الدين الذي يتوصلون به إلى الدفاع عن الدين.

5. ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ بترك الإنفاق في سبيل الله حتى يقهركم أعداء الله لعجزكم عن قتالهم بغلبة الفقر المؤدي إلى ترك الجهاد من كثير من الناس، ومن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: الاستسلام للعدو مع إمكان الدفاع، ومن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة التخاذل عن نصر الإسلام، والتفرق المؤدي إلى الضعف عن الدفاع، ونحو هذا من التسبيب الاختياري الذي يكونون فيه عملوا سبب هلاكهم بأيديهم كمن يتسلم للعدوِّ معطياً له يديه ليقبض عليهما، وليس منه جهاد المستميت كأهل بدر، وزيد بن علي، ومحمد بن عبد الله، وإبراهيم بن عبد الله، الذين لم يكن لهم بدّ من القتال، وكان تركهم للقتال إلقاء باليد إلى التهلكة؛ لأنهم لو تركوا القتال لقتلوا، وكالحسين ومن معه رضوان الله عليهم، وهذا لأن أصل المعنى في الآية: ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة بأيديكم، فمن خرج عن حالة الاختيار لم يكن أعطى العدو نفسه بيديه؛ لأن المراد باختياره وعمله بيديه كما ذكرت.

6. وكذلك من قاتل يرجو النصر أو دعا للقتال راجياً لحصول أنصار كثير قد سبقت منهم بيعة فنكثوا فاضطروا إلى القتال كما ذكرت، ولو دخل في الآية كل من قاتل وقتل لتعذر الجهاد وخرجت الشهادة عن كونها إحدى الحسنيين، فلا يدخل فيه من قاتل مجوزاً للسلامة، ولو تجويزاً ضعيفاً، بل هذا شأن الأبطال الذين يقاتلون في سبيل الله لرجائهم إحدى الحسنيين، كأمير المؤمنين علي عليه السلام في (بدر) و(أحد) حين فر الناس و(حنين) حين فر الناس، وحين رقد في مرقد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفداه بنفسه، وكالمجاهدين من ذريته الذين اقتدوا به، وأشبهوه في بطولته وضربه، وشروا أنفسهم من الله.

7. ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وهذا ترغيب في الإحسان، بل أمر به وهو مطلق يصدق على الإحسان بالإنفاق وسائر أنواع الإحسان.

8. قال الشرفي في (المصابيح): بعد ذكر هذه الآيات السّت: (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام في أحكام هذه الآيات السّت: تدل على وجوب قتال من قاتل أهل الحق وقتلهم حيثما ثقفوا، وإخراجهم من حيث أخرجوا أهل الحق، وعلى تحريم الاعتداء، وعلى تحريم القتال عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا أهل الحق فيه، فمتى فعلوا ذلك وجب قتلهم فيه، وعلى وجوب قتال كل معتد حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، وعلى أن الحرمات قصاص، فمن اعتدى على أهل الحق جاز الاعتداء عليه بمثل ما اعتدى، وعلى أن من اعتدى في شهر حرام اعتدي عليه في شهر مثله، وعلى وجوب إلتزام التقوى مع ذلك كله، وعلى وجوب الإنفاق في سبيل الله وهو الجهاد، وعلى تحريم الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة بأن يعصوا الله ويتركوا ما أمرهم الله به من هذه الأحكام، أو أن يسلموا أنفسهم إلى أيدي الظالمين فيهلكوهم، وعلى وجوب الإحسان في الأعمال الواجبة، وفي ترك المحرم، وعلى الحث على الحسنات واجبها ومندوبها)

9. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ لا يبيح المقاصة بالمعصية ولا المعصية المقارنة للقصاص، فأما القتال في الحرم قصاصاً أو في الشهر الحرام قصاصاً فقد دلت الآية على إباحته، فليس قصاصاً بالمعصية، وقد أمر الله بالتقوى في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وغيرها، فلم يرخص في معصيته للقصاص، فلا يجوز القصاص بقتل الصبي جزاء لقتل الصبي، ولا بالزنا بالحرمة جزاء للزنا بالحرمة، ولا بأكل طعامه في نهار شهر رمضان جزاءً لأكله طعامك في نهار شهر رمضان، فليس ذلك وأشباهه مقصوداً في الآية، إن الله لا يأمر بالفحشاء، ومن هنا حرم القصاص في الجراح بما يظن الموت بسببه، بل ينتظر حال المعتدى عليه، فإن مات من الجراح قتل الجارح له؛ لأنه قتله وإن عوفي سُلِّم له أرش الجناية، وكذلك حرم القصاص بأشد من جناية المعتدي، ولذلك حرم القصاص بما هو مظنة الزيادة ككسر العظم بكسر العظم، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ والزيادة اعتداء.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/275.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. كان الحديث في الآية المتقدمة حول القتال في المسجد الحرام الذي كان المسلمون يتحرجون منه، فأباحه الله لهم دفاعا عن النفس، وفي هذه الآية يتحدث الله عن القتال في الشهر الحرام الذي كان المسلمون لا يجرؤون على القتال فيه احتراما لحرمته، فأباح الله لهم ذلك على أساس المقابلة بالمثل، في الوقت الذي لا يملك الإنسان فيه أي خيار، لأن القضية قضية حياة أو موت بالنسبة للأمة وللرسالة، وهذا هو قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾، وإذا كانت قريش قد انتهكت حرمة هذا الشهر، فلم يحترموا حق الإنسان فيه بالسلام، فللمسلمين الحق في أن لا يحترموهم فيه.

2. عقب الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾، فلكل إنسان الحق في أن يقتص لحرمة ما انتهكه الآخرون منه، وذلك بانتهاك حرمتهم، وأوضح الفكرة بأن من حق المعتدى عليه أن يرد العدوان بمثله، فلا يتجاوزه إلى أكثر من ذلك التزاما بخط العدل الذي يتركز على المماثلة في العقاب: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ أي: عاملوه بالمثل، جواز لا إلزاما، ولا بد من أن يلاحظ أن ردّ الاعتداء ليس اعتداء، لأنه من حق المعتدى عليه، ولكنه سماه باسمه، لأنه مجازاة اعتداء، باعتبار أنه مثله في الجنس وفي المقدار، ولأنه ضرر كما أن ذلك ضرر، والمماثلة تقتضي عدم تجاوز حجم العدوان وطبيعته.

3. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ثم أمر الله تعالى بالتقوى تدليلا على أن الوقوف أمام حدود الله والالتزام بالخط الفاصل بين العدل والظلم يرتكز على أساس التقوى الداخلية، التي يشعر الإنسان معها بالمسؤولية الدائمة أمام الله في كل مواقفة العامة والخاصة، في ما له من الحق وما عليه، فيقف حيث يريد الله منه أن يقف، ويتحرك حيث يريد الله منه أن يتحرك، فإن الإنسان الذي لا يعيش حس التقوى في نفسه، قد ينجرف أمام نوازع النفس الذاتية التي توحي بالعصبية والانتقام والتشفي والحقد، وغير ذلك مما يجعل الإنسان يأخذ أكثر مما له من الحق أو يعطي أقل ما عليه من الحق.

4. ثم حددت الآية الكريمة للمؤمنين الموقع الذي يحصلون عليه مع التقوى‏ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾، فإن الله مع المتقين الذين يخشون ربهم بالغيب ويراقبونه في كل صغيرة أو كبيرة في السر والعلانية.

5. ثم انطلق القرآن في مجال آخر يتصل بأجواء القتال والجهاد في سبيل الله، وهو الإنفاق في هذا السبيل، فإن للجهاد تكاليفه ونفقاته المالية التي يحتاجها المقاتلون في ما يأكلون وما يركبون وما يتسلحون به ضد العدو، فلا بد من الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس، ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: أنفقوا من أموالكم في الجهاد وطريق الدين، وكل ما أمر به من الخير وأبواب البر، فهو سبيل الله، لأن السبيل هو الطريق، فسبيل الله هو الطريق إلى الله وإلى رحمته.

6. عقب الله تعالى ذلك بالنهي عن إلقاء الإنسان نفسه بالتهلكة ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ أي: بأنفسكم، وجاء التعبير باليد، باعتبار أنها مظهر القوة للذات، فكأن الإنسان عندما يلقي بنفسه إلى التهلكة يسقط قوته التي تتمظهر في يديه، وهذا التوجيه يتناول المجالات الفردية أو الجماعية التي يعرّض فيها نفسه للخطر، من دون أن يكون هناك أيّ تكليف ملزم من الله بالتضحية والاستشهاد، وذلك بأن يندفع الإنسان في المواقف التي لا يضمن فيها السلامة بنحو معقول على المستوى الفردي، أو تندفع الجماعة في المواقف الصداميّة مع الأعداء، من دون إعداد سابق للخطة الحكيمة التي تضمن تحقيق الأهداف الكبيرة، فإن‏ الانتحار الفردي أو الجماعي محرّم عند الله، في غير المواقف الشرعية التي تفرض ذلك.

7. ورد في بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام ما يوحي بأن الآية واردة في الانتحار المالي ـ إذا صح التعبير ـ وذلك بأن ينفق الإنسان ما لديه من المال بحيث لا يبقى معه شيء، فقد جاء في كتاب الكافي عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام‏ في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ قال: (لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبيل الله ما كان أحسن ولا وفّق، أليس تعالى يقول: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ يعني المقتصدين)، والظاهر أن الحديث المشار إليه وارد في مورد التطبيق لا التعيين؛ فإن الآية مطلقة لكل عمل يؤدي إلى التهلكة، سواء من ناحية الخطر على الحياة، أو من ناحية الخطر على حاجاتها الطبيعية التي قد تؤدي إلى الخطر على الحياة في نهاية المطاف.

8. هناك تفسيران آخران يربطان الإلقاء في التهلكة بالجانب السلبي في حركة الإنسان:

أ. الأول: أن يكون ترك الجهاد موجبا للتهلكة، وذلك في ما روي في الدر المنثور بطرق كثيرة عن أسلم أبي عمران، قال (كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد؛ فخرج صف عظيم من الروم فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا أيها الناس، إنكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرّا دون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه؛ فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه ـ يرد علينا ما قلنا ـ ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو)، ونحن نلاحظ أن الآية يمكن أن تنطبق على هذا المورد، وهو ترك الجهاد، والاستسلام للدعة والاسترخاء، والإقبال على إصلاح الأموال كهدف كبير للحياة.. فإن المجتمع عندما يعيش مثل هذا الجو السلبي أمام قضايا المصير، فلا بد من أن يقع في التهلكة، لأن العدو سوف يتغلب على المسلمين ويسيطر على مقدراتهم الاقتصادية والأمنية، ويحتل أرضهم، ويهزم جمعهم، ويحطم قوتهم، الأمر الذي يؤدي إلى هلاك الأمة سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وهذا ما لا يرضاه الله، ولكن من المستبعد أن تكون الآية دالة على ذلك بخصوصه، فإن الظاهر منها الربط بين الإنفاق والإلقاء في التهلكة، ومع الإغضاء عن ذلك، فإنها تكون مطلقة لكل الموارد الإيجابية والسلبية في الأشياء كلها.

ب. أما التفسير الثاني، فيرى أن (الإنفاق بشكل عام يؤدي إلى نجاة أفراد المجتمع من الهلاك، وبالعكس، حينما يترك أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب المجتمع، تنشأ أكثرية محرومة بائسة، ولن يلبث هذا المجتمع حتى يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم، ويتضح من ذلك ارتباط الإنفاق بإبعاد التهلكة)، ونلاحظ على هذا الوجه ما لاحظناه على الوجه الأول، مع ملاحظة بعده عن السياق العام للآية، وهو حالة الجهاد، مما يبعد معه إرادة الخصوصية السلبية، ولكن علاقة ترك الإنفاق بالإلقاء في التهلكة يمكن أن يكون مصداقا للخط العام الشامل لجميع موارده.

9. هذا وقد اعتبر صاحب مجمع البيان، بعد أن عرض لأكثر من وجه يضع الآية في دائرة خصوصية معينة، أن (الأولى حمل الآية على جميع الوجوه ولا تنافي فيها، وفي هذه الآية دلالة على تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس وعلى جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف، لأن في ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وفيها دلالة على جواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين، كما فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عام الحديبية، وفعله أمير المؤمنين عليه السّلام بصفين، وفعله الحسن عليه السّلام مع معاوية من المصالحة لما تشتت أمره وخاف على نفسه وشيعته، فإن عورضنا بأن الحسين عليه السّلام قاتل وحده، فالجواب أن فعله يحتمل وجهين: أحدهما: أنه ظن أنهم لا يقتلونه لمكانه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.. والآخر: أنه غلب على ظنه أنه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبرا كما فعل بابن عمه مسلم، فكان القتل مع عز النفس والجهاد أهون عليه‏)، ونلاحظ على هذا المنهج في معالجة المسألة في مفهوم الإلقاء في التهلكة، أن القضية في الصلح وعدمه، سواء أكان ذلك في صلح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في عام الحديبية، أم في طريقة الإمام عليّ عليه السّلام في مواجهة الموقف‏ بصفين، أم في صلح الإمام الحسن عليه السّلام، فهذا التوجه لم يكن منطلقا من هذا المبدأ الذي تقرّره الآية، بل من خلال مراعاة المصلحة الإسلامية العليا التي تفرض ذلك:

أ. كالاستعداد لفتح مكة من خلال التخطيط النبوي الذي كان يفرض تبريد الجو.

ب. أما موقف الإمام علي عليه السّلام من التحكيم، فقد كان منطلقا من النتائج السلبية في انقسام جيشه ووصول معاوية إلى غايته في السلم بما لم يستطعه في الحرب انتظارا لفرصة أخرى لم تأت من خلال الظروف الطارئة.

ج. أما صلح الإمام الحسن عليه السّلام، فقد كان من أجل الإبقاء على المعارضة للتخطيط للمستقبل الذي يكشف طبيعة الحكم الأموي من خلال حركة معاوية في بيعته ليزيد وتجربة يزيد ومن بعده.

10. إننا نلاحظ أن المسألة لم تكن من باب الخوف على النفس أو على الجيش من الهلاك، بل كانت من أجل النتائج السلبية الطارئة للحرب على مستوى القضايا الكبرى.

11. إذا أردنا أن نتحرك مع المبدأ العام في انطلاقه في تشريع الصلح مع الكفار، فإن المسألة لا بد من أن تخضع لدراسة الجانب السياسي على مستوى الحاضر والمستقبل بالإضافة إلى الجانب الأمني، ولا يمكن الاقتصار على الجانب الأمني، لأن المسألة الجهادية تتحرك من أجل دفع المجاهدين إلى التضحية بأنفسهم في سبيل الله، وربما كانت طبيعة الظروف العسكرية توحي بأن السلامة غير محتملة للكثيرين من أفراد الجيش، بحيث كان المطلوب منهم أن يلقوا بأنفسهم إلى الموت، لينالوا شرف الشهادة والقتل في سبيل الله.

12. أما قضية الإمام الحسين عليه السّلام، فقد انطلقت من موقع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح في أمة جده، مما يجعل من حركته جهادا في سبيل الله يتجاوز النصر فيه الجانب المادي إلى الجانب المعنوي، ولينطلق في مدى المستقبل في تأثيراته لعدم وجود أية فرصة للنصر في الحاضر، وهذا ما نستوحيه من كلماته التي قال في بعضها على‏ ما روي عنه‏: (إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.. ألا إن الداعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين السلّة والذلة، وهيهات ما آخذ الدنية، أبى الله ذلك ورسوله، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية، لا تؤثر مصارع اللئام على مصارع الكرام)، فلم تكن المسألة لديه دائرة في نطاق احتمالات السلامة، لأن الظروف كلها لا توحي بأي احتمال لذلك أمام رفض الاستسلام لما يفرضونه عليه، كما أنها لم تكن اعتقادا بأنهم سيقتلونه على كل حال، حتى لو استسلم إليهم، بل كانت المسألة هي التحرك من موقع العناوين الإسلامية الكبرى التي تتحرك في خط التضحية والشهادة في الواقع الذي يحيط به والذي قد يفرض الصدمة الروحية الجهادية التي تهز أعماق المسلمين في الاتجاه الذي يضع الثورة في المستقبل.

13. إن هذا المبدأ الذي تقرره هذه الآية ينطلق في دائرة الحالات الفردية التي يتحرك فيها الإنسان في حياته الخاصة لأهدافه الذاتية، ولا يقترب من العناوين الكبرى القائمة على أساس الخطر كالجهاد الذي لا ينفصل عن تعريض النفس للتهلكة على المستوى الفردي، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القضايا العامة في الظروف المشابهة لحركة الإمام الحسين عليه السّلام التي تواجه السلطة الحاكمة من موقع الشخصية التي يعتقد الناس قيادتها الشرعية، كما هي كذلك على أساس طبيعة الأمور، مما يجعل التكليف الشرعي يتحرك في دائرة الخطر في نطاق الظروف الموضوعية.

14. لذلك لا بد من دراسة المسؤوليات الشرعية الكبرى في قضايا الحرية أمام المحتل، والعدالة أمام الظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام الأوضاع الاجتماعية والسياسية المنحرفة التي يتمثل فيها الخطر على الواقع العام، ودراسة الموازنة بين النتائج الإيجابية في مواجهة الأخطار بما يؤدي إلى الخطر على الفرد أو المجموع من الناحية الذاتية والمالية وما إلى ذلك، وبين النتائج السلبية من جهة التضحيات بالنفس والمال والعرض، فذلك هو الذي يحدد للفرد أو المجتمع أو الأمة مجابهة الأخطار أو عدمها.

15. أدّى فقدان الدراسة المقارنة بين الإيجابيات والسلبيات إلى إيجاد حالة من الضعف أو الانهيار النفسي أو الهزيمة العملية أمام القوى الظالمة أو المحتلة في الداخل والخارج، تحت تأثير عنوان الإلقاء للنفس في التهلكة بالدرجة التي سقطت فيها عناوين الجهاد، والحرية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى استطاع الكفر والاستكبار العالمي السيطرة على البلاد الإسلامية كلها.

16. هناك مسألة لا بد من الإشارة إليها في هذا السياق لكثرة الجدل حولها من خلال تطبيق هذه الآية عليها، وهي العمليات الاستشهادية التي قام بها بعض المجاهدين في عصرنا الحاضر في مواجهتهم للصهيونية وللاستكبار العالمي، حيث يقوم أحد المجاهدين بتفجير نفسه من خلال ربط جسده بحزام من المتفجرات أو الانطلاق بسيارة مملوءة بالقنابل المتفجرة، فيفجر نفسه بمركز من مراكز العدو أو بمجموعة من جنوده، فقد أخذ بعض الفقهاء أو المتفقهين يصدر الفتاوى بحرمة هذا العمل، لأنه انتحار وإلقاء للنفس بالتهلكة، لكننا لا نرى فرقا بينه وبين اقتحام المجاهد ساحة الحرب الجهادية مع علمه أو غلبة ظنه بالقتل، إلا في أن القتل هناك بيد العدو، وفي هذه القضية بيده؛ ولكن هذا الفرق ليس بفارق من حيث الحكم الشرعي، ما دامت خطة الجهاد تفرض ذلك من خلال حاجة المعركة للوصول إلى النتائج الإيجابية على مستوى المرحلة في خط الاستراتيجية والهدف النهائي الكبير، وما ذا يقول هؤلاء في حاجة الحرب إلى اقتحام المجاهدين للأرض المزروعة بالألغام التي تتفجر بالأشخاص الذين يمرون عليها؟ فإنه قد يجوز لهم أو يجب عليهم القيام بذلك إذا توقف النصر عليه، وربما كانت مشكلة هؤلاء أنهم لا يؤمنون بالجهاد من حيث المبدأ في هذه المرحلة من عمر الإسلام، ويرون أن التكليف الشرعي يفرض عليهم القعود والانتظار إلى ظهور الإمام المهدي عليه السّلام، ليبرروا لأنفسهم الابتعاد عن ساحة المعركة، وليثيروا النكير على المجاهدين في كل ساحات الصراع.

17. ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وهذه شريعة أخلاقية قرآنية يؤكد عليها القرآن في أكثر من آية، وهي شريعة الإحسان في كل الأعمال التي يقوم بها الإنسان في علاقاته مع الآخرين في حالة السلم وفي حالة الحرب، وقد جاء في آية أخرى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]، أما قيمة الإحسان فتتمثل في السلوك العملي الذي ينفتح فيه الإنسان على الجانب الخيّر في الحياة، وهو العطاء السمح الذي ينساب من روح الإنسان وشعوره‏ الحيّ، فيدفعه إلى أن يحترم مشاعر الآخرين وظروفهم، فلا يثير معهم القضايا الصعبة من موقع صعوبتها؛ بل يحاول أن ينفتح معهم على جانب السهولة في الحياة، من جهة، في ما يأخذه من الحق الذي له، وينطلق مع خط العفو والتسامح من جهة أخرى، وبذلك يتحرك الإحسان كخط أخلاقي إسلامي من مواقع الإرادة الطوعية الطبية في الإنسان، فيخفف من شدة العدل وقسوته، ليعيش الإنسان بين العدل والإحسان في الأجواء التي تبعث الطراوة حتى في أشد المواقف صعوبة وقساوة، انسجاما مع التركيب الداخلي للإنسان في شخصيته الباحثة أبدا عن العدل والرحمة في مواقع الحياة.

18. كما هو الحال في الآية الآخرى، عندما أراد الله أن يرغّب في التقوى بأن الله مع المتقين، كانت هذه الآية ترغيبا في الإحسان من موقع أن ذلك يحقق للإنسان محبة الله، فإن الله يحب المحسنين.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/84.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. هذه الآية الشريفة تكمّل البحث الوارد في الآيات السّابقة عن الجهاد بشكل عام، فهي في الواقع إجابة على من يتصوّر أنّه لا يمكن القتال في الأشهر الحرم، فكيف أمر الإسلام بالقتال فيها.

2. لتوضيح الأمر: كان المشركون على علم بأنّ الإسلام يحضر الحرب في الأشهر الحرم (ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ورجب) خاصّة في حرم مكّة والمسجد الحرام، وبعبارة أخرى أنّ الإسلام أمضى هذه السنّة التي كانت موجودة من قبل، فكان نبي الإسلام ملتزم بهذا الحضر، لذلك أرادوا أن يشنّوا هجوما مباغتا على المسلمين في هذه الأشهر الحرم متجاهلين حرمتها ضانّين أنّ المسلمين ممنوعون من المواجهة، وفي هذه الحالة يستطيعون أن يحقّقوا هدفهم.

3. الآية الكريمة تكشف مؤامرة المشركين وتحمّل المسلمين مسئوليّة مواجهة العدوان حتّى في الأشهر الحرم فتقول الآية: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ أي أنّ الأعداء لو كسروا حرمة واحترام هذه الأشهر الحرم وقاتلوكم فيها فلكم الحقّ أيضا في المقابلة بالمثل، لأن ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾

4. (حرمات) جمع (حرمة) وتعني الشيء الّذي يجب حفظه واحترامه، وقيل للحرم: حرم لأنّه مكان محترم ولا يجوز هتكه، ويقال الأعمال الممنوعة والقبيحة حرام لهذا السبب، ولهذا أيضا كانت بعض الأعمال محرّمة في الشهر الحرام والأرض الحرم.

5. هذه العبارة ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ تتضمنّ جوابا رابعا لأولئك الّذين اعترضوا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لإباحته الحرب في الأشهر الحرم، أو أرض مكّة المكرّمة الحرم الإلهي الآمن، وتعني أنّ احترام الأشهر الحرم ضروري أمام العدو الّذي يراعي حرمة هذه الأشهر، أمّا العدو الّذي يهتك هذه الحرمة فلا تجب معه رعاية الاحترام وتجوز محاربته حتّى في هذه الأشهر، وامر المسلمون أن يهبّوا للجهاد عند اشتعال نار الحرب كي لا تخامر أذهان المشركين فكرة انتهاك حرمة هذه الشّهور.

6. ثمّ تشرّع الآية حكما عامّا يشمل ما نحن فيه وتقول: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾، فالإسلام ـ وخلافا للمسيحيّة الحاليّة الّتي تقول (إذا لطمك شخص على خدّك الأيمن فأدر له الأيسر) لا يقول بمثل هذا الحكم المنحرف الّذي يبعث على جرأة المعتدي وتطاول الظّالم، وحتّى المسيحيّون في هذا الزّمان لا يلتزمون مطلقا بهذا الحكم أيضا، ويردّون على كلّ عدوان مهما كان قليلا بعد وان أشد، وهذا أيضا مخالف لدستور الإسلام في الرّد، فالإسلام يقول: يجب التصدّي للظّالم‏.

7. ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ هذه الآية تكمّل ما مرّ من آيات الجهاد فكما أنّ الجهاد بحاجة إلى الرجال المخلصين والمجرّبين كذلك بحاجة إلى المال والثروة أي بحاجة إلى الاستعداد البدني والمعنوي والمعدّات الحربيّة، صحيح أن العامل الحاسم في تقرير مصير الحرب هو الرجال بالدّرجة الاولى، ولكنّ الجندي بحاجة إلى أدوات الحرب (أعمّ من السلاح والأدوات ووسائل النقل والغذاء والوسائل الصحيّة) فإنّه بدونها لا يمكنه أن يفعل شيئا، من هنا أوجب الإسلام تأمين وسائل الجهاد مع الأعداء، ومن ذلك ما ورد في الآية أعلاه حيث تأمر بصراحة ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾

8. هذا المعنى يتأكّد خاصّة في عصر نزول هذه الآيات حيث كان المسلمون في شوق شديد إلى الجهاد كما يحدّثنا القرآن عن أولئك الّذين أتوا النبي يطلبون منه السلاح ليشاركوا في ساحة الجهاد وإذ لم يجدوا ذلك عادوا مهمومين محزونين‏ ﴿تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾

9. عبارة ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ بالرّغم من أنّها واردة في ترك الإنفاق في الجهاد الإسلامي، ولكنّ مفهومها واسع يشمل موارد أخرى كثيرة، منها أنّ الإنسان ليس له الحقّ في اتّخاذ الطرق الخطرة للسّفر (سواء من الناحية الأمنيّة أو بسبب العوامل الجويّة أو غير ذلك) دون أن يتّخذ لنفسه الاحتياطات اللّازمة لذلك، كما لا يجوز له تناول الغذاء الّذي يحتمل قويّا أن يكون مسموما وحتّى أن يرد ميدان القتال والجهاد دون تخطيط مدروس، ففي جميع هذه الموارد الإنسان مسئول عن نفسه في ما لو ألقى بها في الخطر بدون عذر مقبول.

10. تصوّر بعض الجهلاء من أنّ كلّ ألوان الجهاد الابتدائي هو إلقاء النفس في التّهلكة وحتّى أنهم أحيانا يعتبرون قيام سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السّلام في كربلاء مصداق لهذه الآية، وهذا ناشئ من الجهل المطبق وعدم درك مفهوم الآية الشريفة، لأنّ إلقاء النفس بالتّهلكة يتعلّق بالموارد الّتي لا يكون فيها الهدف أثمن من النفس وإلّا فلا بدّ من التضحية بالنفس حفاظا على ذلك الهدف المقدّس كما صنع الإمام الحسين وجميع الشهداء في سبيل الله كذلك، فهل يتصوّر أحد أنّ الشّخص الّذي يرى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في خطر فيحميه بنفسه ويذبّ عنه معرّضا نفسه للخطر فداء لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (كما صنع علي عليه السّلام في حرب احد أو في ليلة المبيت) فهل يعني هذا إلقاء للنفس بالتّهلكة وإنّه صنع حراما؟ وهل‏ يعني ذلك أن يقف موقف المتفرّج حتّى يقتل رسول الله ويقول أنّ إلقاء النفس في التّهلكة حرام؟ والحقّ أنّ مفهوم الآية واضح والتمسّك بها في مثل هذه الموارد نوع من الجهل والحمق.

11. أجل، إذا لم يكن الهدف مهمّا ولا يستحق أن يضحّي الإنسان بنفسه في سبيله، أو أنّه يكون مهمّا ولكن بإمكانه تحقيقه بوسائل وطرق أخرى أفضل، ففي هذه الموارد لا ينبغي إلقاء النفس في الخطر (كموارد التقيّة مثلا من هذا القبيل)

12. في آخر الآية أمر بالإحسان ويقول‏ ﴿أَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏﴾، أمّا ما هو المراد بالإحسان هنا؟ فهناك عدّة احتمالات في كلمات المفسّرين:

أ. منها: أنّ المراد هو حسن الظن بالله (فلا تظنّوا أنّ إنفاقكم هذا يؤدي إلى الاختلال في معاشكم)

ب. والآخر هو الاقتصاد والاعتدال في مسألة الإنفاق.

ج. واحتمال ثالث هو دمج الإنفاق مع حسن الخلق للمحتاجين بحيث يتزامن مع البشاشة وإظهار المحبّة وتجنّب أي لون من ألوان المنّة والأذى للشخص المحتاج، ولا مانع من أن يكون المراد في مفهوم الآية جميع هذه المعاني الثلاث.

13. هناك ارتباط معنوي بين جملة ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ و﴿لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ بملاحظة أنّ عبارات الآيات القرآنية مترابطة ومتلازمة، والظّاهر أنّ الرّابطة بين هاتين العبارتين هو أنّكم لو لم تنفقوا في سبيل الله وفي مسار الجهاد فقد ألقيتم أنفسكم في التّهلكة، ويمكن أن يكون الارتباط أكثر من ذلك وهو أن نقول: إنّ هذه الآية بالرّغم من أنّها وردت في ذيل آيات الجهاد، ولكنّها تبيّن حقيقة كليّة واجتماعيّة، وهي أنّ الإنفاق بشكل عام سبب لنزاهة المجتمع من المفاسد المدمّرة، لأنه حينما يترك أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب المجتمع تنشأ طبقة محرومة بائسة، ولا يلبث أن يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم ويتّضح من ذلك ارتباط الإنفاق بابعاد التهلكة.

14. من هنا فالإنفاق يعود بالخير على الأثرياء قبل أن يصيب خيره المحرومين، لأنّ تعديل الثروة يصون الثروة كما قال الإمام علي عليه السّلام‏ (حصّنوا أموالكم بالزّكاة)، وبتعبير بعض المفسّرين أنّ الامتناع من الإنفاق في سبيل الله يؤدّي إلى موت الرّوح الإنسانيّة في الفرد بسبب البخل، وكذلك يؤدّي إلى موت المجتمع بسبب الضعف الاقتصادي وخاصّة في النظام الإسلامي المبتني على أساس الإحسان والخير.

15. تقدّم أنّ بعض أهل الدنيا من طلّاب العافية تمسّكوا في هذه الجملة من هذه الآية ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ للفرار من الجهاد في سبيل الله حتّى أنّهم وسموا ثورة الإمام الحسين عليه السّلام في عاشوراء الّتي كانت سبب نجاة الإسلام وبقائه إمام الأعداء كبني أميّة أنّها مصداق لهذه الآية، وغفلوا عن أنه لو كان الأمر كما يقولون لانسدّ باب الجهاد تماما.

16. هناك تباين بين مفهومي التهلكة والشّهادة، فالتّهلكة تعني الموت بدون دليل موجّه، في حين أنّ الشهادة تعني تضحية الفرد في سبيل هدف مقدّس ونيل الحياة الأبديّة الخالدة، ويجب الالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ نفس الإنسان ليست أثمن شيء في وجوده، فهناك حقائق أثمن للنفس مثل الإيمان بالله والاعتقاد بالإسلام وحفظ القرآن وأهدافه المقدّسة، بل حفظ حيثيّة وعزّة المجتمع الإسلامي، فهذه أهداف أسمى من التّهلكة، ولم ينه عنها الشرع المقدّس إطلاقا.

17. المراد من الإحسان عادة هو الإنفاق وبذل الخير إلى الآخرين ولكن تارة يأتي بمعنى أوسع ويشمل بذلك كلّ عمل صالح بل حتّى الدوافع في العلم الصالح أيضا كما ورد في الحديث النبوي الشريف في تفسير الإحسان‏ (أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)، ومن البديهي أنّه لو كان إيمان الفرد بحيث كأنّه يرى الله سبحانه تعالى ويعتقد بأنّه حاضر وناظر في كلّ الأحوال فسوف يهتم بالإتيان بالأعمال الصالحة ويتجنّب كلّ ذنب ومعصية.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/32.

84. الحج والعمرة والإحصار والتمتع

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈84⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: 196]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ إذا أحصر الرجل من مرض أو كسر أو شبه ذلك بعث بهديه، ومكث على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله وينحر، ثم قد حل، ويرجع إلى أهله، وعليه الحج والعمرة جميعا، وهدي أيضا فإن وصل إلى البيت من وجهه ذلك فليس عليه إلا الحج من قابل(1)..

2. روي أنّه قرأ: (وأقيموا الحج والعمرة للبيت)، ثم قال والله، لولا التحرج أني لم أسمع فيها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئا؛ لقلنا: إن العمرة واجبة مثل الحج(2)..

3. روي أنّه قال: أمرتم بإقامة أربع: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت، والحج الحج الأكبر، والعمرة الحج الأصغر(3)..

__________

(1) عبد الرزاق: ١/٧٤، وابن أبي حاتم: ١/٣٣٥.

(2) ابن أبي داوود في المصاحف: ص٥٥ ـ: ٥٦.

(3) البيهقي في سننه: ٤/٣٥١.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾: أن تحرم من دويرة أهلك(1)..

2. روي أنّه قرأ: (وأقيموا الحج والعمرة للبيت)، ثم قال هي واجبة مثل الحج(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ شاة(3)..

4. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ هذا قبل أن ينحر الهدي، إن أصابه شيء فعليه الكفارة(4)..

5. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدي(5)..

6. روي أنّه قال: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ قبل التروية يوم، ويوم التروية، ويوم عرفة، فإن فاتته صامهن أيام التشريق(6)..

7. روي أنّه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تحلق المرأة رأسها في الحج والعمرة، إنما عليها التقصير(7)..

8. روي أنّه قال: السنة في الحلق أن تبلغ العظمين(8)..

9. روي أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: الصيام ثلاثة أيام، والصدقة ثلاثة آصع على ستة مساكين، والنسك شاة(9)..

10. روي أنّه قال: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 196] قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، فمن فاتته هذه الأيام فلينشئ يوم الحصبة وهي ليلة النفر(10)..

11. روي أنّه قال في صيام ثلاثة أيام في الحج: قبل التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة، فإن فاته ذلك تسحر ليلة الحصبة(11)..

12. روي أنّه قال: يصوم المتمتع قبل التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة، فإن فاته ذلك ولم يكن عنده دم صام إذا انقضت أيام التشريق يتسحر ليلة الحصبة ثم يصبح صائما(12)..

13. روي أنّه قال: من فاته صيام الثلاثة الأيام في الحج وهي قبل التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة، فليصم أيام التشريق فقد أذن له(13)..

14. روي أنّه قال: صيام ثلاثة أيام في الحج قبل التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة، فمن فاته ذلك فليتسحر ليلة الحصبة ـ يعني ليلة النفر ـ ويصبح صائما، ويومين بعده، وسبعة إذا رجع(14)..

15. روي عن ابن شقيق قال: كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان عليٌ يأمر بها، فقال عثمان لعلي كلمة، قال عليٌ: لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قال: أجل، ولكنا كنا خائفين(15)..

__________

(1) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص٨١.

(2) ابن جرير: ٣/٣٣٤.

(3) مالك: ١/٣٨٥.

(4) ابن جرير: ٣/٣٨٠.

(5) ابن جرير: ٣/٤١٤.

(6) ابن أبي شيبة: ٤/١.

(7) الترمذي: 914.

(8) الكافي: 4/503/10.

(9) ابن جرير: ٣/٣٩٣.

(10) قرب الإسناد: 10.

(11) تفسير العياشي: 1/93/243.

(12) تفسير العياشي: 1/93/246.

(13) التهذيب: 5/229/778.

(14) التهذيب: 5/232/786.

(15) مسلم: 1223.

ابن ثابت:

روي عن زيد بن ثابت (ت 45 هـ) أنه سئل عن العمرة قبل الحج، قال صلاتان ـ وفي لفظ: نسكان ـ لله عليك، لا يضرك بأيهما بدأت(1)..

__________

(1) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص٢٢١.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُم﴾ أصومهما حلالا في العشر أحب إلي من أن أصومهما حراما في شوال وذي القعدة، فإن صامهما حراما في شوال أو ذي القعدة أجزأه، وإن صامهما حلالا في شوال أو ذي القعدة ذبح(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُم﴾ إذا قضيتم حجكم، وإذا رجع إلى أهله أحب إلي(2)..

3. روي أنّه قال: ليس أحد من خلق الله إلا عليه حجة وعمرة واجبتان، من استطاع إلى ذلك سبيلا كما قال الله، حتى أهل بوادينا، إلا أهل مكة، فإن عليهم حجة وليست عليهم عمرة؛ من أجل أنهم أهل البيت، وإنما العمرة من أجل الطواف(3)..

__________

(1) الثوري في تفسيره: ص٦٢.

(2) ابن جرير: ٣/٤٣٥.

(3) الدرّ المنثور: عبد الرزاق.

علقمة:

روي عن علقمة بن يزيد النخعي (ت 62 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله، فحلق رأسه، أو مس طيبا، أو تداوى بدواء؛ كان عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك، والصيام ثلاثة أيام، والصدقة ثلاثة آصع على ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، والنسك شاة(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُم﴾ الآية، إذا أهل الرجل بالحج فأحصر؛ بعث بما استيسر من الهدي؛ شاة، قال إبراهيم: فذكرت هذا الحديث لسعيد بن جبير، فقال: هكذا قال ابن عباس(1)..

__________

(1) سعيد بن منصور: ٢٨٧ ـ تفسير.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما نزلنا الحديبية جاء كعب بن عجرة ينتثر هوام رأسه على وجهه، فقال: يا رسول الله، هذا القمل قد أكلني، فأنزل الله في ذلك الموقف: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (النسك شاة، والصيام ثلاثة أيام، والطعام فرق بين ستة مساكين)(1)..

2. روي أنّه قال: من أحرم بحج أو عمرة فليس له أن يحل حتى يتمها، تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة، وزار البيت؛ فقد حل، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت، وبالصفا والمروة؛ فقد حل(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ الحج عرفات، والعمرة البيت(3)..

4. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُم﴾، من أحرم بحج أو عمرة، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده، أو عدو يحبسه؛ فعليه ذبح ما استيسر من الهدي؛ شاة فما فوقها، فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت بعد حجة الفريضة فلا قضاء عليه(4)..

5. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُم﴾ هو الرجل من أصحاب محمد كان يحبس عن البيت، فيهدي إلى البيت، ويمكث على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله، فإن بلغ الهدي محله حلق رأسه(5)..

6. روي أنّه قال: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ ما يجد، قد يستيسر على الرجل الجزور، والجزوران(6)..

7. روي أنّه قال: من الأزواج الثمانية؛ من الإبل، والبقر، والضأن، والمعز، على قدر الميسرة، وما عظمت فهو أفضل(7)..

8. روي أنّه قال: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ عليه هدي؛ إن كان موسرا فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم(8)..

9. روي أنّه قال: ﴿الْهَدْيَ﴾: شاة، فقيل له: لا يكون دون بقرة؟ قال فأنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تصدقون أن الهدي شاة، ما في الظبي؟ قالوا: شاة، قال ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥](8)..

10. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾، يعني: من اشتد مرضه(9)..

11. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ يعني بالمرض: أن يكون برأسه أذى أو قروح، ﴿أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ قال الأذى هو القمل(10)..

12. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾، ثم استثنى، فقال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾(11)..

13. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ من اشتد مرضه، أو آذاه رأسه وهو محرم؛ فعليه صيام، أو إطعام، أو نسك، ولا يحلق رأسه حتى يقدم فديته قبل ذلك(12)..

14. روي أنّه قال: كل شيء في القرآن: ﴿أو، أو﴾ فصاحبه مخير، فإذا كان: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِد﴾ فهو الأول فالأول(13)..

15. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ من أحرم بالعمرة في أشهر الحج(14)..

16. روي أنّه قال: كل شيء في القرآن ﴿فإن لم يجد﴾ فالذي يليه، ﴿فإن لم يجد﴾ فالذي يليه، وفي لفظ آخر: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِد﴾ فهو الأول، فالأول(15)..

17. روي أنّه قال: ﴿حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ هم أهل الحرم(16)..

18. روي أنّه قال: الحرم كله هو المسجد الحرام(17)..

19. روي أنّه قال: المتعة للناس إلا لأهل مكة، هي لمن لم يكن أهله في الحرم؛ وذلك قول الله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾(18)..

20. روي أنّه كان يقول: يا أهل مكة، إنه لا متعة لكم، أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم، إنما يقطع أحدكم واديا ثم يهل بعمرة، ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾(19)..

21. روي أنّه قال: ليس على أهل مكة هدي في متعة، ثم قرأ: ﴿لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾(20)..

22. روي أنّه قال: الحج والعمرة فريضتان على الناس كلهم، إلا أهل مكة، فإن عمرتهم طوافهم، فمن جعل بينه وبين الحرم بطن واد فلا يدخل مكة إلا بإحرام(21)..

23. روي أنّه قيل له: أتأمر بالعمرة قبل الحج، والله تعالى يقول: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾؟ فقال: كيف تقرؤون: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١١]، فبأيهما تبدؤون؟ قالوا: بالدين، قال فهو ذاك(22)..

24. روي أنّه قال: والله، إنها لقرينتها في كتاب الله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾(23)..

25. روي أنّه قال: العمرة واجبة كوجوب الحج، من استطاع إليه سبيلا(24)..

26. روي أنّه قال: العمرة الحجة الصغرى(25)..

27. روي أنّه قال: أحصر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فحلق رأسه ونحر هديه.. حتى اعتمر عاما قابلا(26)..

28. روي أنّه قال: الحصر: حصر العدو، فيبعث الرجل بهديته، فإن كان لا يستطيع أن يصل إلى البيت من العدو؛ فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة فإنه يبعث بها ويحرم ـ قال أبو عاصم: لا ندري قال يحرم، أو يحل ـ من يوم يواعد فيه صاحب الهدي إذا اشترى، فإذا أمن فعليه أن يحج ويعتمر، فإذا أصابه مرض يحبسه وليس معه هدي؛ فإنه يحل حيث يحبس، فإن كان معه هدي فلا يحل حتى يبلغ الهدي محله، فإذا بعث به فليس عليه أن يحج قابلا ولا يعتمر، إلا أن يشاء(27)..

29. روي أنّه قال: لا حصر إلا حصر العدو، فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء؛ إنما قال الله: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُم﴾، فلا يكون الأمن إلا من الخوف(28)..

30. روي أنّه قال: لا إحصار اليوم(29)..

31. روي أنّه قال: قيل: يا رسول الله: لم ظاهرت للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة، قال إنهم لم يشكوا(30)..

32. روي أنّه قال: إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ، وأما من حبسه عذر أو غير ذلك فإنه لا يحل ولا يرجع، وإن كان معه هدي وهو محصر نحره إن كان لا يستطيع أن يبعث به، وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله(31)..

33. روي أنّه قال: الحصر حصر العدو، فيبعث بهديه إن كان لا يصل إلى البيت من العدو؛ فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة بعثها، وأقام مكانه على إحرامه، وواعده، فإن أمن فعليه أن يحج ويعتمر، فإن أصابه مرض يحبسه، وليس معه هدي؛ حل حيث حبس، وإن كان معه هدي لا يحل حتى يبلغ محله، وليس عليه أن يحج من قابل، ولا يعتمر إلا أن يشاء(32)..

34. روي أنّه قال: إن أهل الحديبية أمروا بإبدال الهدي في العام الذي دخلوا فيه مكة، فأبدلوا، وعزت الإبل، فرخص لهم فيمن لا يجد بدنة في اشتراء بقرة(33)..

35. روي أنّ رجلا أتاه، فقال: يا أبا عباس أذبح قبل أن أحلق، أو أحلق قبل أن أذبح؟ فقال ابن عباس أنّه قال: خذ ذلك من قبل القرآن؛ فإنه أجدر أن تحفظ، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، فقال بالذبح قبل الحلق(34)..

36. روي أنّه قال: تمتع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من نهى عنها معاوية(35)..

37. روي أنّه قال: سمعت عمر يقول: والله لا أنهاكم عن المتعة، فإنها لفي كتاب الله، ولقد فعلها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يعني: العمرة في الحج(36)..

38. روي أنّه قال: إذا لم يجد المتمتع بالعمرة هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، وإن كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه، وسبعة إذا رجع إلى أهله(37)..

__________

(1) الواحدي في أسباب النزول: ص٦٠.

(2) ابن جرير: ٣/٣٢٨.

(3) الثوري في تفسيره: ص٦٠.

(4) ابن جرير: ٣/٣٤٣ ـ ٣٤٤.

(5) ابن جرير: ٣/٣٦٦.

(6) سعيد بن منصور: ٣٠٠ ـ تفسير.

(7) سعيد بن منصور: ٣١١.

(8) ابن جرير: ٣/٣٥٣.

(9) ابن أبي حاتم: ١/٣٣٨.

(10) ابن أبي حاتم: ١/٣٣٦.

(11) الدرّ المنثور: أبي داوود في ناسخه.

(12) ابن جرير: ٣/٣٨٠.

(13) سفيان الثوري في تفسيره: ص٦١.

(14) ابن جرير: ٣/٤١٧.

(15) ابن أبي حاتم: ١/٣٤١.

(16) ابن جرير: ٣/٤٣٨.

(17) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.

(18) عبد الرزاق: ١/٧٦.

(19) عبد الرزاق: ١/٧٧.

(20) الدرّ المنثور: ابن المنذر.

(21) ابن أبي شيبة: ٤/٨٨.

(22) الشافعي: ١/٥٨٦.

(23) الشافعي في الأم: ٢/١٣٢.

(24) الدارقطني: ٢/٢٨٥.

(25) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص٢٢١.

(26) البخاري: 1809.

(27) آدم بن أبي إياس ـ كما في تفسير مجاهد: ص٢٢٦ ـ.

(28) الشافعي في الأم: ٢/١٣٩.

(29) ابن جرير: ٣/٣٧٠.

(30) ابن ماجة: 3045.

(31) البخاري.

(32) تفسير مجاهد: ص٢٢٦.

(33) الحاكم: ١/٤٨٥.

(34) ابن أبي شيبة في مصنفه: ٨/٥١٧.

(35) الترمذي: 822.

(36) النسائي: 5/153.

(37) ابن جرير: ٣/٤٢٣.

ا بن عمر:

روي عن عبد الله بن عمر (ت 73 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: العمرة واجبة، ليس أحد من خلق الله إلا عليه حجة وعمرة واجبتان، من استطاع إلى ذلك سبيلا(1)..

2. روي أنّه قال: لا إحصار إلا من عدو(2)..

3. روي أنّه قال: من اعتمر في أشهر الحج؛ في شوال، أو ذي القعدة، أو ذي الحجة؛ فقد استمتع، ووجب عليه الهدي، أو الصيام إن لم يجد هديا(3)..

4. روي أنّه قال: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ بقرة، أو جزور، قيل: أو ما يكفيه شاة؟ قال لا(4)..

5. روي أنّه قال: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ يوم قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، وإذا فاته صيامها صامها أيام منى؛ فإنهن من الحج(5)..

6. روي أنّه قال: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُم﴾ إلى أهليكم(6)..

7. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، أجوف مكة أم حولها؟ فقال: جوف مكة(7)..

8. روي أنّه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: أوصني، قال (تعبد الله، ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج، وتعتمر، وتسمع وتطيع، وعليك بالعلانية، وإياك والسر)(8)..

9. روي أنّه قال: حلق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجة الوداع وأناسٌ من أصحابه، وقصر بعضهم(9)..

10. روي أنّه قال: لما كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية؛ عرض له المشركون، فردوا وجهه، فنحر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الهدي حيث حبسوه ـ وهي الحديبية ـ وحلق، وتأسى به أناس؛ فحلقوا حين رأوه حلق، وتربص آخرون، فقالوا: لعلنا نطوف بالبيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رحم الله المحلقين)، قيل: والمقصرين؟ قال (رحم الله المحلقين)، قيل: والمقصرين، قال (والمقصرين)(10)..

11. روي أنّه قال: تمتع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس معه فكان منهم من أهدى ومنهم من لم يهد، فلما قدم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وطاف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة، ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهدى فساق الهدي من الناس(11)..

12. روي أنّه قال: تمتع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجة الوادع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، فتمتع الناس مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مكة قال للناس: (من منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج، فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله)(12)..

13. روي أنّه قال: لأن أعتمر قبل الحج وأهدي أحب إلي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة(3)..

14. روي أنّه قال: رخص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للمتمتع إذا لم يجد الهدي، ولم يصم حتى فاتته أيام العشر؛ أن يصوم أيام التشريق مكانها(13)..

15. روي أنّه قال: لا يجزئه صوم ثلاثة أيام وهو متمتع، إلا أن يحرم(14)..

__________

(1) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص٢٢١.

(2) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص٢٠٦.

(3) مالك: ١/٣٤٤.

(4) سعيد بن منصور: ٢٩٩.

(5) ابن أبي شيبة: ٤/٣.

(6) ابن أبي حاتم: ١/٣٤٣.

(7) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن: ٢/٥٦.

(8) الطحاوي في شرح مشكل الآثار: ٧/٨٣.

(9) البخاري: 3/448.

(10) ابن أبي شيبة: ٧/٣٨٩.

(11) البخاري: 1691.

(12) البخاري: ٢/١٦٧.

(13) البيهقي: ٥/٣٦ ـ: ٣٧.

(14) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص١٢١.

المسيب:

روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: اجتمع عليٌ وعثمان بعسفان فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال له عليٌ: ما تريد إلى أمر فعله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تنهى الناس عنه، فقال عثمان: دعنا عنك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك فلما رأى ذلك أهل بهما جميعا(1)..

2. روي أنّه قال: كان عثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بين الحج والعمرة، فقال عليٌ: لبيك بحجة وعمرة معا، فقال عثمان: أتفعلهما وأنا أنهى عنها، فقال عليٌ: لم أكن لأدع سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأحد من الناس(2)..

3. روي أنّه قال: حج عليٌ وعثمان فلما كنا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع، فقال: إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا، فلبى عليٌ وأصحابه بالعمرة فلم ينههم عثمان، فقال عليٌ: ألم أخبر أنك تنهى عن التمتع؟ قال بلى، قال عليٌ: ألم تسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تمتع؟ قال بلى(3)..

4. روي أنّه قال: اختلف علي وعثمان وهما بعسفان في المتعة، فقال الإمام علي: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا(4)..

__________

(1) مسلم: 1223.

(2) البخاري: 1563.

(3) النسائي: 5/152.

(4) البخاري: ١٥٦٩.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِد﴾، يعني: الهدي إذا كان متمتعا(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ يقول: المتعة لأهل الأمصار ولأهل الآفاق، وليس على أهل مكة متعة(2)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٤٢.

(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٤٤.

أنس:

روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ)، قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: خذ وأشار إلى جانبه الأيمن، فقسم شعره، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس(1)..

__________

(1) البخاري: 171.

عروة:

روي عن عروة بن الزبير (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: البدنة دون البدنة، والبقرة دون البقرة، وإنما الشاة نسك تكون البقرة بأربعين، وبخمسين(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، عنى بذلك: أهل مكة، ليست لهم متعة، وليس عليهم إحصار؛ لقربهم من المشعر(2)..

3. روي أنّه قال: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار(3)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٥٣.

(2) ابن أبي شيبة: ٤/٨٩.

(3) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص٢٠٦.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنه سئل عن العمرة؛ فريضة هي أم تطوع؟ قال: فريضة، قال: فإن عامرا الشعبي يقول: هي تطوع، قال: كذب الشعبي، وقرأ: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٣٣.

مطرف:

روي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لو يعلم الناس قدر عقوبة الله، ونقمة الله، وبأس الله، ونكال الله؛ لما رقأ لهم دمع، وما قرت أعينهم بشيء(1)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٤٥.

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ تقضي مناسك الحج؛ عرفة والمزدلفة ومواطنها، والعمرة للبيت؛ إنما تطوف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم تحل(1)..

2. روي أنّه قال: ما كان في القرآن: ﴿أو، أو﴾ فصاحبه مخير(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ إلى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ هذا المحصر إذا أمن، فعليه المتعة، والحج، وهدي المتمتع، فإن لم يجد فالصيام، فإن عجل العمرة قبل أشهر الحج فعليه فيها هدي(3)..

4. روي أنّه قال: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُم﴾ إن شئت في الطريق، وإن شئت بعد ما تقدم إلى أهلك(4)..

5. روي أنّه قال: الإحصار: المرض، والكسر، والخوف(5)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٢٩.

(2) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص٤٥.

(3) ابن جرير: ٣/٤١٤.

(4) ابن جرير: ٣/٤٣٥.

(5) الثوري في تفسيره: ص٦١.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إتمامها: أن تكون النفقة حلالا، وينتهي عما نهى الله عنه(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ من انطلق حاجا، فبدأ بالعمرة، ثم أقام حتى يحج؛ فعليه الهدي(2)..

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٩٥.

(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٤٠.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: تمامهما: ما أمر الله فيهما(1)..

2. روي أنّه قال: فمن كان مريضا، أو اكتحل، أو ادهن، أو تداوى، أو كان به أذى من رأسه من قمل فحلق؛: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ ثلاثة أيام، ﴿أَوْ صَدَقَةٍ﴾ فرق بين ستة مساكين، ﴿أَوْ نُسُكٍ﴾ والنسك شاة(2)..

3. روي أنّه سئل عن قوله: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾، فقال: إذا قال الله ـ تبارك وتعالى ـ لشيء: ﴿أو، أو﴾ فإن شئت فخذ ب الأول، وإن شئت فخذ بالآخر(3)..

4. روي أنّه قال: صوم ثلاثة أيام للمتمتع، إذا لم يجد ما يهدي يصوم في العشر إلى يوم عرفة، متى ما صام أجزأه، فإن صام الرجل في شوال أو ذي القعدة أجزأه(4)..

5. روي أنّه قال: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُم﴾ إلى بلادكم حيث كانت(5)..

6. روي أنّه قال: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُم﴾ إنما هي رخصة، إن شاء صامهن في الطريق، وإن شاء صامها بعد ما رجع إلى أهله، ولا يفرق بينهن(6)..

7. روي أنّه قال: ﴿لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ على من حج الهدي من الغرباء، وليس على أهل مكة هدي إذا اعتمروا(7)..

8. روي أنّه قال: الحصر حبس كله(8)..

9. روي أنّه كان يقول في فدية الصيام، أو صدقة، أو نسك: في يسره ذلك، في حجه وعمرته(9)..

10. روي أنّه قال: كان أهل الجاهلية إذا حجوا قالوا: إذا عفا الوبر، وتولى الدبر، ودخل صفر؛ حلت العمرة لمن اعتمر، فأنزل الله التمتع بالعمرة تغييرا لما كان أهل الجاهلية يصنعون، وترخيصا للناس(10)..

__________

(1) الثوري في تفسيره: ص٦٠.

(2) تفسير مجاهد: ص٢٢٥.

(3) ابن جرير: ٣/٣٩٧.

(4) ابن جرير: ٣/٤٢١.

(5) الدرّ المنثور: عبد الرزاق.

(6) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص١٢٣.

(7) تفسير مجاهد: ص٢٢٧.

(8) ابن جرير: ٣/٣٤٢.

(9) ابن أبي شيبة في مصنفه: ٨/٢٩٥.

(10) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ إطعام عشرة مساكين(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٩٥.

طاووس:

روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُم﴾ إن شاء فرق(1)..

2. روي أنّه قال: ليس على أهل مكة هدي في متعة، ثم قرأ: ﴿لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، فإن فعلوا ثم حجوا فعليهم مثل ما على الناس(2)..

3. روي أنّه قال: المتعة للناس أجمعين إلا أهل مكة ممن لم يكن أهله من الحرم، وذلك قول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾(3)..

4. روي أنّه قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾: تمامهما: أن تفردهما مؤتنفتين من أهلك(4)..

5. روي أنّه قال: العمرة على الناس كلهم، إلا على أهل مكة، فإنها ليست عليهم عمرة، إلا أن يقدم أحد منهم من أفق من الآفاق(5)..

__________

(1) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص١٢٤.

(2) ابن أبي شيبة: ٤/٨٩.

(3) ابن جرير: ٣/٤٣٩.

(4) الثوري في تفسيره: ص٦٠.

(5) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص٢٢١.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه فإنه يحلق حين يبعث بالشاة، أو يطعم المساكين، وإن كان صوم حلق ثم صام بعد ذلك(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ إذا كان بالمحرم أذى من رأسه حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء؛ فالصيام عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين، كل مسكين مكوكين، مكوكا من تمر، ومكوكا من بر، والنسك شاة(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ آخرهن يوم عرفة(3)..

4. روي أنّه قال: الفدية صيام عشرة أيام، والصدقة عشرة مساكين، والنسك ذبيحة(4)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٧٨.

(2) ابن جرير: ٣/٣٩٤.

(3) ابن جرير: ٣/٤٢٠.

(4) ابن أبي شيبة في مصنفه: ٨/٢٩١.

عطاء:

روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: إنما سميت: المتعة؛ لأنهم كانوا يتمتعون بالنساء، والثياب، وفي لفظ: يتمتع بأهله، وثيابه(1)..

__________

(1) الثوري في تفسيره: ص٦٢.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل: لم سمي الحج حجا؟ قال: حج فلان: أي أفلح فلان(1)..

2. روي أنّه قال: العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج، لأن الله تعالى يقول: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ [البقرة: 196] وإنما نزلت العمرة بالمدينة(2)..

3. روي أنّه سئل: ما أفضل ما حج الناس؟ قال: عمرة في رجب وحجة مفردة في عامها(3)..

4. روي أنّه قال: أفضل العمرة عمرة رجب.. والمفرد للعمرة إن اعتمر ثم أقام للحج بمكة كانت عمرته تامة، وحجته ناقصة مكية(4)..

5. روي أنّه قال: إنما أنزلت العمرة المفردة والمتعة لأن المتعة دخلت في الحج، ولم تدخل العمرة المفردة في الحج(5)..

6. روي أنّه قال: إن العمرة واجبة بمنزلة الحج، لأن الله يقول: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ [البقرة: 196]، ومن تمتع أجزأته، والعمرة في أشهر الحج متعة(6)..

7. روي أنّه قال: لا تكون عمرتان في سنة(7)..

8. روي أنّه سئل عن العمرة بعد الحج في ذي الحجة، فقال: حسن(8)..

9. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ [البقرة: 196] فقال: تمام الحج والعمرة أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل(9)..

10. روي أنّه سئل: ما الذي يلي الحج في الفضل؟ قال العمرة المفردة، ثم يذهب حيث شاء، وقال: العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج، لأن الله تعالى يقول: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ وإنما نزلت العمرة بالمدينة، فأفضل العمرة عمرة رجب، وقال: المفرد للعمرة إذا اعتمر في رجب ثم أقام للحج بمكة، كانت عمرته تامة، وحجته ناقصة(10)..

11. روي أنّه قال: إذا حصر الرجل فبعث بهديه، وآذاه رأسه قبل أن ينحر فحلق رأسه فإنه يذبح في المكان الذي أحصر فيه، أو يصوم، أو يطعم ستة مساكين(11)..

12. روي أنّه سئل عن متمتع حلق رأسه، فقال: إن كان ناسيا أو جاهلا فليس عليه شيء، وإن كان متمتعا في أول شهور الحج فليس عليه إذا كان قد أعفاه شهرا(12)..

13. روي أنّه قال: إنما أنزلت العمرة المفردة والمتعة لأن المتعة دخلت في الحج، ولم تدخل العمرة المفردة في الحج(5)..

14. روي أنّه سئل عن رجل يحج عن أبيه، أيتمتع؟ قال: نعم، المتعة له والحج عن أبيه(13)..

15. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾؟ قال: يعني أهل مكة ليس عليهم متعة، كل من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلا: ذات عرق وعسفان، كما يدور حول مكة فهو ممن دخل في هذه الآية، وكل من كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة(14)..

__________

(1) علل الشرائع: ص411/1.

(2) التهذيب: 5/433/1052.

(3) التهذيب: 5/31/93.

(4) التهذيب: 5/433/1502.

(5) التهذيب: 5/434/1505.

(6) تفسير العياشي: 1/87/219.

(7) التهذيب: 5/435/1512.

(8) من لا يحضره الفقيه: 2/278/1364.

(9) تفسير العياشي: 1/88/225.

(10) التهذيب: 5/433.

(11) التهذيب: 5/423.

(12) التهذيب: 5/473/1665.

(13) من لا يحضره الفقيه: 2/273/1330.

(14) التهذيب: 5/33.

مكحول:

روي عن مكحول (ت 116 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ إتمامهما: إنشاؤهما جميعا من الميقات(1)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٣٣.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾، هذا إذا كان قد بعث بهديه، ثم احتاج إلى حلق رأسه من مرض، وإلى طيب، وإلى ثوب يلبسه؛ قميص أو غير ذلك؛ فعليه الفدية(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُم﴾؛ لتعلموا أن القوم كانوا خائفين يومئذ(3)..

4. روي أنّه قال: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُم﴾ إذا رجعتم إلى أمصاركم(4)..

5. روي أنّه قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾: تمام العمرة ما كان في غير أشهر الحج، وما كان في أشهر الحج ثم أقام حتى يحج فهي متعة، عليه فيها الهدي إن وجد، وإلا صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع(5)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٥٠.

(2) ابن جرير: ٣/٣٧٩.

(3) ابن جرير: ٣/٤١١.

(4) ابن جرير: ٣/٤٣٥.

(5) ابن جرير: ٣/٣٣٠.

ميمون:

روي عن ميمون بن مهران (ت 117 هـ) أنّه قال: ليس لأهل مكة ولا من توطن مكة متعة(1)..

__________

(1) ابن أبي شيبة: ٤/٨٩.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: (﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ فالحجّ والعمرة جميعا: الزيارة.. والحجّ فريضة، وهو الحجّ الأكبر، والعمرة تطوع، وهي الحجّ الأصغر(1)..

2. روي أنّه قال: (﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ معناه منعتم لحرب أو مرض أو غير ذلك ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ معناه بدنة أو بقرة أو شاة أو شرك في دم يشترك سبعة أنفس في بدنة أو بقرة كلهم يريد به النّسك(1)..

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 96.

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: من أحصر عن الحج، فأصابه في حبسه ذلك مرض أو أذى برأسه، فحلق رأسه في محبسه ذلك؛ فعليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك(1)..

2. روي أنّه قال: ليس لأحد حاضري المسجد الحرام رخصة في الإحصار: لأن الرجل إذا مرض حمل ووقف به بعرفة، ويطاف به محمولا(2)..

3. روي أنّه قال: ليس على أهل مكة متعة، ولا إحصار، إنما يغشون حتى يقضوا حجهم(3)..

4. روي أنّه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عبد الله بن حذافة بن قيس، فنادى في أيام التشريق، فقال: (إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله، إلا من كان عليه صوم من هدي)(4)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٧٩.

(2) عبد الرزاق: ١/٧٦.

(3) ابن أبي شيبة: ٤/٨٩.

(4) ابن جرير: ٣/٤٢٧ ـ: ٤٢٨.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ أقيموا الحج والعمرة(1)..

2. روي أنّه قال: المحصر يبعث بهدي؛ شاة فما فوقها(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾، إن صنع واحدا فعليه فدية، وإن صنع اثنين فعليه فديتان، وهو مخير أن يصنع أي الثلاثة شاء، أما الصيام فثلاثة أيام، وأما الصدقة فستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وأما النسك فشاة فما فوقها، نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة الأنصاري، كان أحصر، فقمل رأسه، فحلقه(3)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٣٤.

(2) ابن جرير: ٣/٣٥١.

(3) ابن جرير: ٣/٣٩٢.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ فإن عجل من قبل أن يبلغ الهدي محله فحلق؛ ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك، فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة إطعام ستة مساكين، بين كل مسكينين صاع، والنسك شاة(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُم﴾ إذا أمن من خوفه، وبرئ من مرضه(2)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٩٢.

(2) ابن جرير: ٣/٤١١.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي عن عمر بن أذينة، قال كتبت إلى الإمام الصادق مسائل بعضها مع ابن بكير، وبعضها مع أبي العباس، فجاء الجواب بإملائه: (سألت عن قول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ يعني به الحج والعمرة جميعا، لأنهما مفروضان)، وسألته عن قول الله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾، قال (يعني بتمامهما: أدائهما، واتقاء ما يتقي المحرم فيهما)، وسألته عن قوله تعالى: ﴿الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾ ما يعني بالحج الأكبر؟ قال (الحج الأكبر: الوقوف بعرفة ورمي الجمار، والحج الأصغر: العمرة)(1)..

2. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾: هما مفروضان(2)..

3. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾: يكفي الرجل إذا تمتع بالعمرة إلى الحج مكان العمرة المفردة؟ قال (كذلك أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه)(3)..

4. روي أنّه قال: العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج، من استطاع، لأن الله عز وجل يقول: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ وإنما نزلت العمرة بالمدينة، وأفضل العمرة عمرة رجب(4)..

5. روي أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]، فقال: يعني به الحج والعمرة جميعا لأنهما مفروضان(1)..

6. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ [البقرة: 196]: يعني: بتمامهما أداءهما، واتقاء ما يتقي المحرم فيهما(1)..

7. روي أنّه سئل عن معنى (الحج الأكبر)، فقال: الحج الأكبر الوقوف بعرفة ورمي الجمار، والحج الأصغر العمرة(1)..

8. روي أنّه قال: العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج على من استطاع، لأن الله عز وجل يقول: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ [البقرة: 196]، وإنما أنزلت العمرة بالمدينة، قيل: ﴿و فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ [البقرة: 196] أيجزئ ذلك عنه؟ قال نعم(5)..

9. روي أنّه سئل عن الحج على الغني والفقير؟ فقال: الحج على الناس جميعا كبارهم وصغارهم، فمن كان له عذر عذره الله(6)..

10. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾: يكفي الرجل إذا تمتع بالعمرة إلى الحج مكان العمرة المفردة؟ قال كذلك أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه(7)..

11. روي أنّه قال: العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج، من استطاع، لأن الله عز وجل يقول: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ وإنما نزلت العمرة بالمدينة، وأفضل العمرة عمرة رجب(8)..

12. روي أنّه قال: قال الله تعالى في كتابه: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله فإن أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196] فمن عرض له أذى أو وجع فتعاطى ما لا ينبغي للمحرم إذا كان صحيحا فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة على عشرة مساكين يشبعهم من الطعام، والنسك: شاة يذبحها فيأكل ويطعم وإنما عليه واحد من ذلك(9)..

13. روي أنّه قال: إذا أحصر الرجل فبعث بهديه فآذاه رأسه قبل أن ينحر هديه فإنه يذبح شاة في المكان الذي أحصر فيه، أو يصوم أو يتصدق على ستة مساكين والصوم ثلاثة أيام، والصدقة نصف صاع لكل مسكين(10)..

14. روي أنّه سئل عن رجل أحصر في الحج، فقال: فليبعث بهديه إذا كان مع أصحابه، ومحله أن يبلغ الهدي محله، ومحله منى يوم النحر إذا كان في الحج، وإن كان في عمرة نحر بمكة، وإنما عليه أن يعدهم لذلك يوما، فإذا كان ذلك اليوم فقد وفى، وإن اختلفوا في الميعاد لم يضره، إن شاء الله تعالى(11)..

15. روي عن إسحاق بن عمار أن عباد البصري جاء إلى الإمام الصادق وقد دخل مكة بعمرة مبتولة، وأهدى هديا، فأمر به فنحر في منزله بمكة، فقال له عباد: نحرت الهدي في منزلك وتركت أن تنحره بفناء الكعبة، وأنت رجل يؤخذ منك!؟ فقال له: ألم تعلم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نحر هديه بمنى في المنحر وأمر الناس فنحروا في منازلهم، وكان ذلك موسعا عليهم، فكذلك هو موسع على من ينحر الهدي بمكة في منزله إذا كان معتمرا(12)..

16. روي أنّه قال: المحصور والمضطر يذبحان بدنتيهما في المكان الذي يضطران فيه، وقد فعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك يوم الحديبية حين رد المشركون بدنته، وأبوا أن تبلغ المنحر فأمر بها فنحرت مكانه(13)..

17. روي أنّه سئل عن الرجل يرسل بالهدي تطوعا، فقال: يواعد أصحابه يوما يقلدون فيه، فإذا كان تلك الساعة من ذلك اليوم اجتنب ما يجتنبه المحرم، فإذا كان يوم النحر أجزأ عنه، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث صده المشركون يوم الحديبية نحر بدنة ورجع إلى المدينة(14)..

18. روي أنّه قال: المحصور غير المصدود.. وقال: المحصور: هو المريض، والمصدود: هو الذي يرده المشركون، كما ردوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنه ليس من مرض، والمصدود تحل له النساء، والمحصور لا تحل له النساء(15)..

19. روي أنّه سئل عن العمرة المبتولة فيها الحلق؟ قال نعم، إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في العمرة المبتولة: اللهم اغفر للمحلقين، قيل: يا رسول الله، وللمقصرين قال اللهم اغفر للمحلقين، قيل: يا رسول الله، وللمقصرين فقال: وللمقصرين(16)..

20. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم النحر يحلق رأسه ويقلم أظفاره، ويأخذ من شاربه ومن أطراف لحيته(17)..

21. روي أنّه سئل عن رجل زار البيت قبل أن يحلق، فقال: لا ينبغي إلا أن يكون ناسيا، إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أتاه أناس يوم النحر، فقال بعضهم: يا رسول الله ذبحت قبل أن أرمي، وقال بعضهم: ذبحت قبل أن أحلق، فلم يتركوا شيئا أخروه وكان ينبغي أن يقدموه ولا شيئا قدموه كان ينبغي لهم أن يؤخروه إلا قال لا حرج(18)..

22. روي أنّه قال: استغفر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للمحلقين ثلاث مرات(19)..

23. روي أنّه سئل: دخلنا بعمرة، نقصر أو نحلق؟ فقال: احلق فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ترحم على المحلقين ثلاث مرات، وعلى المقصرين مرة واحدة(20)..

24. روي أنّه قال: كان الذي حلق رأس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم الحديبية خراش بن أمية الخزاعي، والذي حلق رأس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجته معمر بن عبد الله، فقالت قريش: أي معمر أذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في يدك وفي يدك الموسى، فقال معمر: إي والله، إني لأعده فضلا من الله عظيما عليّ(21)..

25. روي أنّه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين حج حجة الإسلام، خرج في أربع بقين من ذي القعدة، حتى أتى الشجرة وصلى بها، ثم قاد راحلته حتى أتى البيداء فأحرم منها، وأهل بالحج وساق مائة بدنة، وأحرم الناس كلهم بالحج، لا ينوون عمرة، ولا يدرون ما المتعة، حتى إذا قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مكة طاف بالبيت، وطاف الناس معه، ثم صلى ركعتين عند المقام، واستلم الحجر، ثم قال ابدؤوا بما بدأ الله عز وجل به فأتى الصفا فبدأ بها، ثم طاف بين الصفا والمروة سبعا، فلما قضى طوافه عند المروة قام خطيبا، وأمرهم أن يحلوا ويجعلوها عمرة، وهو شيء أمر الله عز وجل به، فأحل الناس، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت، لفعلت كما أمرتكم ولم يكن يستطيع أن يحل من أجل الهدي الذي كان معه، إن الله عز وجل يقول: ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، فقال سراقة بن مالك بن جعشم الكناني: يا رسول الله، علمنا كأنا خلقنا اليوم، أرأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا، أو لكل عام؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا، بل للأبد، وإن رجلا قام فقال: يا رسول الله، نخرج حجاجا ورؤوسنا تقطر؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنك لن تؤمن بها أبدا، قال وأقبل علي من اليمن حتى وافى الحج، فوجد فاطمة قد أحلت، ووجد ريح الطيب، فانطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مستفتيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا علي، بأي شيء أهللت، فقال: أهلت بما أهل به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: لا تحل أنت فأشركه في الهدي، وجعل له سبعا وثلاثين، ونحر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاثا وستين، فنحرها بيديه، ثم أخذ من كل بدنة بضعة، فجعلها في قدر واحد، ثم أمر به فطبخ، فأكل منه وحسا من المرق، وقال: قد أكلنا الآن منها جميعا، والمتعة خير من القارن السائق، وخير من الحاج المفرد، قال وسألته أليلا أحرم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أم نهارا، فقال: نهارا، فقلت: أية ساعة، قال صلاة الظهر(11)..

26. روي أنّه سئل عن رجل عقص شعر رأسه وهو متمتع، ثم قدم مكة فقضى نسكه وحل عقاص رأسه فقصر وادهن وأحل، فقال: عليه دم شاة(22)..

27. روي أنّه قال: ليس للصرورة أن يقصر، وعليه أن يحلق(23)..

28. روي أنّه سئل: كيف صار الحلق على الصرورة واجبا دون من قد حج؟ فقال: ليصير بذلك موسما بسمة الآمنين، ألا تسمع قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ﴾ [الفتح: 27](24)..

29. روي أنّه قال: من لبد شعره أو عقصه فليس له أن يقصر وعليه الحلق، ومن لم يلبده تخير إن شاء قصر، وإن شاء حلق، والحلق أفضل(25)..

30. روي أنّه سئل عن النساء، فقال: إن لم يكن عليهن ذبح فليأخذن من شعورهن ويقصرن من أظفارهن(26)..

31. روي أنّه قال: ليس على النساء حلق ويجزيهن التقصير(27)..

32. روي أنّه سئل عن المتمتع أراد أن يقصر فحلق رأسه، فقال: عليه دم يهريقه، فإذا كان يوم النحر أمرّ الموسى على رأسه حين يريد أن يحلق(28)..

33. روي أنّه سئل عن رجل حلق قبل أن يذبح، فقال: يذبح ويعيد الموسى، لأن الله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: 196](29)..

34. روي أنّه قال: لا يزال العبد في حد الطواف بالكعبة ما دام حلق الرأس عليه(30)..

35. روي أنّه قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على كعب بن عجرة الأنصاري والقمل يتناثر من رأسه فقال: أتؤذيك هوامك؟ فقال: نعم، فأنزلت هذه الآية ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله فإن أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196] فأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بحلق رأسه وجعل عليه الصيام ثلاثة أيام، والصدقة على ستة مساكين لكل مسكين مدان والنسك شاة، وكل شيء في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار يختار ما شاء، وكل شيء في القرآن (فمن لم يجد) فعليه كذا فالأول بالخيار(31)..

36. روي أنّه قال: قال الله تعالى في كتابه: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ فمن عرض له أذى أو وجع، فتعاطى ما لا ينبغي للمحرم إذا كان صحيحا فالصيام: ثلاثة أيام، والصدقة: على عشرة مساكين، شبعهم من الطعام، والنسك: شاة يذبحها فيأكل ويطعم، وإنما عليه واحد من ذلك(32)..

37. روي أنّه قال: قال الله تعالى في كتابه: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله فإن أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196] فمن عرض له أذى أو وجع فتعاطى ما لا ينبغي للمحرم إذا كان صحيحا فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة على عشرة مساكين يشبعهم من الطعام، والنسك: شاة يذبحها فيأكل ويطعم وإنما عليه واحد من ذلك(9)..

38. روي أنّه قال: إذا أحصر الرجل فبعث بهديه فآذاه رأسه قبل أن ينحر هديه فإنه يذبح شاة في المكان الذي أحصر فيه، أو يصوم أو يتصدق على ستة مساكين والصوم ثلاثة أيام، والصدقة نصف صاع لكل مسكين(10)..

39. روي أنّه قال: لا يجوز الحج إلا متمتعا، ولا يجوز القران والإفراد إلا لمن كان أهله حاضري المسجد الحرام، ولا يجوز الإحرام قبل بلوغ الميقات، ولا يجوز تأخيره عن الميقات إلا لمرض أو تقية، وقد قال الله عز وجل: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ [البقرة: 196] وتمامهما اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج.. وفرائض الحج الإحرام والتلبيات الأربع، وهي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، والطواف بالبيت للعمرة فريضة، وركعتان عند مقام إبراهيم فريضة، والسعي بين الصفا والمروة فريضة، وطواف النساء فريضة، وركعتاه عند المقام فريضة، ولا سعي بعده بين الصفا والمروة، والوقوف بالمشعر فريضة، والهدي للمتمتع فريضة، فأما الوقوف بعرفة فهو سنة واجبة، والحلق سنة، ورمي الجمار سنة(33)..

40. روي أنّه قال: إذا أردت المتعة في الحج فأحرم من العقيق واجعلها متعة، فمتى ما قدمت مكة طفت بالبيت، واستلمت الحجر الأسود فتحت به وختمت سبعة أشواط، ثم تصلي ركعتين عند مقام إبراهيم، ثم اخرج من المسجد فاسع بين الصفا والمروة، تفتتح بالصفا وتختتم بالمروة، فإذا فعلت ذلك قصرت، وإذا كان يوم التروية صنعت كما صنعت في العقيق، ثم أحرمت بين الركن والمقام بالحج، فلا تزال محرما حتى تقف بالمواقف، ثم ترمي الجمرات، وتذبح وتغتسل، ثم تزور البيت، فإذا أنت فعلت ذلك أحللت وهو قول الله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: 196] أي يذبح ذبحا(34)..

41. روي أنّه سئل عن الحج، فقال: تمتع.. إنا إذا وقفنا بين يدي الله تعالى قلنا: يا ربنا، أخذنا بكتابك، وقال الناس: رأينا رأينا، ويفعل الله بنا وبهم ما أراد(35)..

42. روي أنّه قال: العمرة مفروضة مثل الحج، فإذا أدى المتعة فقد أدى العمرة المفروضة(36)..

43. روي أنّه قال: العمرة في كل سنة مرة(37)..

44. روي أنّه قال: لا بأس بالعمرة المفردة في أشهر الحج ثم يرجع إلى أهله(38)..

45. روي أنّه سئل عن رجل خرج في أشهر الحج معتمرا ثم خرج إلى بلاده، فقال: لا بأس، وإن حج من عامه ذلك وأفرد الحج فليس عليه دم، وإن الإمام الحسين خرج يوم التروية إلى العراق وكان معتمرا(39)..

46. روي أنّه سئل: من أين افترق المتمتع والمعتمر؟ فقال: إن المتمتع مرتبط بالحج، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء، وقد اعتمر الإمام الحسين في ذي الحجة ثم راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى، ولا بأس بالعمرة في ذي الحجة لمن لا يريد الحج(40)..

47. روي أنّه قال: من دخل مكة معتمرا مفردا للعمرة فقضى عمرته ثم خرج كان ذلك له، وإن أقام إلى أن يدرك الحج كانت عمرته متعة.. وليس تكون متعة إلا في أشهر الحج(41)..

48. روي أنّه قال: ليس لأهل سرف ولا لأهل مر، ولا لأهل مكة متعة، لقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾(42)..

49. روي أنّه سئل: لأهل مكة متعة؟ قال لا، ولا لأهل بستان، ولا لأهل ذات عرق، ولا لأهل عسفان ونحوها(42)..

50. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾: من كان منزله على ثمانية عشر ميلا من بين يديها، وثمانية عشر ميلا من خلفها، وثمانية عشر ميلا عن يمينها، وثمانية عشر ميلا عن يسارها، فلا متعة له، مثل مر وأشباهه(43)..

51. روي أنّه قال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، لأن الله تعالى يقول: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ فليس لأحد إلا أن يتمتع، لأن الله أنزل ذلك في كتابه، وجرت به السنة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(44)..

52. روي أنّه قال: إن الحج متصل بالعمرة، لأن الله عز وجل يقول: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ فليس ينبغي لأحد أن لا يتمتع، لأن الله عز وجل أنزل ذلك في كتابه وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم(45)..

53. روي أنّه سئل عن المتمتع يقدم مكة يوم التروية صلاة العصر، تفوته المتعة، فقال: لا، له ما بينه وبين غروب الشمس، قد صنع ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(46)..

54. روي أنّه قال: قال رسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: من كان متمتعا فلم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله.. فإن فاته ذلك وكان له مقام بعد الصدر صام ثلاثة أيام بمكة، وإن لم يكن له مقام صام في الطريق، أو في أهله(47)..

55. روي أنّه سئل عن المتمتع لا يجد الهدي، فقال: يصوم قبل يوم التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة، قيل: فإن قدم يوم التروية؟ قال يصوم ثلاثة أيام بعد التشريق، قيل: فإن لم يقم عليه جماله؟ قال يصوم يوم الحصبة وبعده يومين، قيل: وما الحصبة؟ قال يوم نفره، قيل: يصوم وهو مسافر؟ قال نعم، أليس هو يوم عرفة مسافرا؟ إنا أهل بيت نقول ذلك لقوله تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ يقول: في ذي الحجة(48)..

56. روي أنّه سئل عن متمتع لا يجد هديا؟ قال يصوم يوما قبل يوم التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، قيل: فإنه قدم يوم التروية، فخرج إلى عرفات؟ قال يصوم ثلاثة أيام بعد النفر، قيل: فإن جماله لم يقم عليه؟ قال يصوم يوم الحصبة، وبعده يومين، قيل: يصوم وهو مسافر؟ قال نعم، أليس هو يوم عرفة مسافرا؟ والله تعالى يقول: ﴿ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾، قيل: قول الله ﴿فِي الْحَجِّ﴾؟ قال الإمام الصادق أنّه قال (ونحن أهل البيت نقول في ذي الحجة(49)..

__________

(1) الكافي: 4/264/1.

(2) التهذيب: 5/459/1593.

(3) التهذيب: 5/433/1504.

(4) علل الشرائع: ص408/1.

(5) الكافي: 4/265/4.

(6) الكافي: 4/265/3.

(7) التهذيب: 5/433.

(8) علل الشرائع: 408/1.

(9) التهذيب: 5/333/1148.

(10) التهذيب: 5/334/1149.

(11) الكافي: 4/248.

(12) التهذيب: 5/374/1302.

(13) المقنع: 76.

(14) التهذيب: 5/424/1472.

(15) التهذيب: 5/423.

(16) التهذيب: 5/438/1523.

(17) الكافي: 4/502/3.

(18) التهذيب: 5/240/810.

(19) التهذيب: 5/243/823.

(20) من لا يحضره الفقيه: 2/276/1346.

(21) التهذيب: 5/458/1589.

(22) التهذيب: 5/160/534.

(23) التهذيب: 5/243/820.

(24) من لا يحضره الفقيه: 2/154/668.

(25) السرائر: 474.

(26) الكافي: 4/475/7.

(27) التهذيب: 5/390/1364.

(28) التهذيب: 5/158/525.

(29) التهذيب: 5/485/1730.

(30) الكافي: 4/547/35.

(31) التهذيب: 5/333/1147.

(32) التهذيب: 5/333.

(33) الخصال: 606.

(34) مختصر بصائر الدرجات: 85.

(35) التهذيب: 5/26/76.

(36) من لا يحضره الفقيه: 2/274/1339.

(37) التهذيب: 5/435/1511.

(38) الكافي: 4/534/1.

(39) الكافي: 4/535/3.

(40) الكافي: 4/535/4.

(41) التهذيب: 5/435/1513.

(42) الكافي: 4/299.

(43) الكافي: 4/300.

(44) التهذيب: 5/25.

(45) علل الشرائع: 411/1 باب: 149.

(46) التهذيب: 5/172/574.

(47) التهذيب: 5/234/790.

(48) الكافي: 4/506.

(49) التهذيب: 5/232.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: الإحصار من عدو، أو مرض، أو كسر(1)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٣٥.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ من المواقيت، ولا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم، فريضتان واجبتان، ويقال: العمرة هي الحج الأصغر، وتمام الحج والعمرة المواقيت، والإحرام خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدنيا، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يشركون في إحرامهم؛ فأمر الله تعالى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين أن يتموهما لله، فقال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾، وهو ألا يخلطوهما بشيء، ثم خوفهم أن يستحلوا منهما ما لا ينبغي، فقال سبحانه في آخر الآية: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُم﴾ يقول: فإن حبستم، كقوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٧٣] يعني: حبسوا، نظيرها أيضا: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨]، يعني: محبسا، يقول: إن حبسكم في إحرامكم بحج أو بعمرة كسر، أو مرض، أو عدو عن المسجد الحرام: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، يعني: فليقم محرما مكانه، ويبعث ما استيسر من الهدي، أو بثمن الهدي؛ فيشترى له الهدي، فإذا نحر الهدي عنه فإنه يحل من إحرامه مكانه(2)..

4. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ فحلق رأسه؛: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ فعليه فدية صيام ثلاثة أيام، إن شاء متتابعا، وإن شاء متقطعا، ﴿أَوْ صَدَقَةٍ﴾ على ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من حنطة، ﴿أَوْ نُسُكٍ﴾ يعني: شاة، أو بقرة، أو بعيرا، ينحره، ثم يطعمه المساكين بمكة، ولا يأكل منه، وهو بالخيار؛ إن شاء ذبح شاة، أو بقرة، أو بعيرا، فأما كعب فذبح بقرة(3)..

5. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِد﴾ الهدي فليصم، ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ في عشر الأضحى؛ في أول يوم من العشر إلى يوم عرفة، فإن كان يوم عرفة يوم الثالث تم صومه(3)..

6. روي أنّه قال: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾، فمن شاء صام في الطريق، ومن شاء صام في أهله، إن شاء متتابعا، وإن شاء متقطعا(3)..

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٧٠.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٧١.

(3) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٧٢.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قلت لعطاء: ما: ﴿أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾؟ قال القمل، وغيره؛ الصداع، وما كان في رأسه(1)..

2. روي أنّه قال: قلت لعطاء: من له المتعة؟ فقال: قال الله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، فأما القرى الحاضرة المسجد الحرام التي لا تتمتع أهلها فالمطمئنة بمكة، المطلة عليها: نخلتان، ومر الظهران، وعرفة، وضجنان، والرجيع، وأما القرى التي ليست بحاضرة المسجد الحرام التي يتمتع أهلها إن شاءوا فالسفر، والسفر ما يقصر إليه الصلاة: عسفان، وجدة، ورهاط، وأشباه ذلك(2)..

3. روي أنّه قال: قال علي بن حسين وسعيد بن جبير، وسئلا: أواجبة العمرة على الناس؟ فكلاهما قال ما نعلمها إلا واجبة، كما قال الله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾(3)..

4. روي أنّه قال: كان عطاء يقول: المتعة لخلق الله أجمعين؛ الرجل، والمرأة، والحر، والعبد، هي لكل إنسان اعتمر في أشهر الحج ثم أقام ولم يبرح حتى يحج، ساق هديا مقلدا أو لم يسق، وإنما سميت المتعة من أجل أنه اعتمر في شهور الحج، فتمتع بعمرة إلى الحج، ولم تسم المتعة من أجل أنه يحل بتمتع النساء(4)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٧٨.

(2) الأزرقي: ٢/٦٢.

(3) ابن أبي شيبة: ٨/٢٦٤.

(4) ابن جرير: ٣/٤١٨.

ابن العلاء:

روي عن أبو عمرو بن العلاء (ت 154 هـ) أنّه قال: لا أعلم في الكلام حرفا يشبهه، أي: الهدي(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٥٨.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: هو ـ يعني: تمامهما ـ أن تخرج من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة، وتهل من الميقات، ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة، حتى إذا كنت قريبا من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت، وذلك يجزئ، ولكن التمام أن تخرج له لا تخرج لغيره(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٣١.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ ليس من الخلق أحد ينبغي له إذا دخل في أمر إلا أن يتمه، فإذا دخل فيها لم ينبغ له أن يهل يوما أو يومين ثم يرجع، كما لو صام يوما لم ينبغ له أن يفطر في نصف النهار(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٣٣١.

الكاظم:

روي عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: كنت قائما أصلي، والإمام الكاظم (ت 183 هـ) قاعدا قدامي، وأنا لا أعلم، فجاءه عباد البصري، فسلم ثم جلس، فقال له: يا أبا الحسن، ما تقول في رجل تمتع ولم يكن له هدي؟ قال يصوم الأيام التي قال الله تعالى، فقال له عباد: وأي الأيام هي؟ قال قبل يوم التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة، قال فإن فاته ذلك؟ قال يصوم صبيحة الحصبة، ويومين بعد ذلك، قال أفلا تقول كما قال عبد الله بن الحسن؟ قال فأي شيء قال؟، قال قال يصوم أيام التشريق، قال إن جعفرا كان يقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر بديلا أن ينادي: أن هذه أيام أكل وشرب، فلا يصومن أحد، قال يا أبا الحسن، إن الله قال ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُم﴾؟ قال كان جعفر يقول: ذو الحجة كله من أشهر الحج(1)..

__________

(1) التهذيب: 5/230.

ابن سلام:

روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) أنّه قال: العامة على أن الحج والعمرة فريضتان، إلا أن سعيدا أخبرنا عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود قال الحج فريضة، والعمرة تطوع(1)..

__________

(1) سعيد بن أبي عروبة في المناسك: ص٣.

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾: الصيام هو: صيام ثلاثة أيام، والصدقة فهي: إطعام ستة مساكين، والنسك: فأقله شاة، ومن عظم فهو خير له عند ربه.

2. ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196] الصيام هو: صيام ثلاثة أيام، والصدقة هو: إطعام ستة مساكين، والنسك هو: شاة، وهو مخير في ذلك فأي ذلك شاء فعل.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/93.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. في الأمر بالإتمام وجوه:

أ. أحدها: أنهم كانوا يفتتحون الحج بالعمرة، فأمروا بإتمامها، على ما روى عن عمر، قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة الحج، ومتعة النساء)

ب. الثاني: أنهم كانوا لا يجعلون العمرة لله، فأمروا بجعلها لله.

2. ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ اختلفوا في تأويله وفى قراءته:

أ. قال بعض الناس‏: العمرة فريضة بهذه الآية؛ لأنه أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج‏، وقيل‏: هي الحجة الصغرى.

ب. أما عندنا(2).: هي ليست بفريضة، وليس في قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ دليل فرضيتها؛ لأنا لم نعرف فرضية الحج بهذه الآية، ولكن إنما عرفناه بقوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]، واحتج أصحابنا:

بما روي عن جابر: (أن رجلا قال يا رسول الله، العمرة واجبة هي قال لا، وأن تعتمر خير لك)، وروى أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنّه قال: (الحج مكتوب، والعمرة تطوع)، وفى بعضها قال: (الحج جهاد، والعمرة تطوع)، وعن ابن مسعود، أنّه قال (الحج فريضة، والعمرة تطوع)، وعن عائشة، قالت: (قلت: يا رسول الله، أكل أهلك يرجع بحجة وعمرة غيرى؟ قال انفرى فإنه يكفيك)، إلى هذه الأخبار ذهب أصحابنا.

واحتج أصحابنا أيضا بشيء من النظر؛ وذلك أن الله تعالى فرض الصلاة والزكاة والصيام في أوقات خصها بها، وأجمع أهل العلم أن المتطوع بالصدقة والصلاة والصيام يفعل ذلك متى شاء، ثم أجمعوا أن العمرة لا وقت لها؛ فدل ذلك على أنها تطوع؛ إذ لو كانت فريضة كان لها وقت مخصوص يفعل فيه كغيرها من الفرائض.

العمرة إنما هي الطواف والسعي، ولذلك أصل في الفرض ـ فرض الحج ـ مع ما أنا وجدنا الاعتكاف تطوعا، وليس له أصل في الفرض، فعلى ذلك العمرة.

الأصل: أن كل ما يبتدئ الله إيجابه على عباده فإنه يوجب فعلها بأوقات أو يجعل لأدائها أوقات، والعمرة ليس لوجوبها وقت، ولا لأدائها، ثبت أنها ليست مما أوجبها الله تعالى.

3. سؤال وإشكال: إن الحج التطوع مخصوص بوقت كمخصوص المفروض منه، فكما لا يدل الخصوص الذي في الحج التطوع على وجوبه، فكذلك العموم الذي في العمرة لا يدل أنها تطوع.، والجواب: وجدنا الفرض كله مخصوصا بوقت، ووجدنا التطوع على ضربين: منه ما هو مخصوص؛ كالحج، ومنه ما هو غير مخصوص؛ كالصلاة والصيام والصدقة، فلما لم نجد في الفرض ما ليس بمخصوص بوقت، جعلنا كل ما ليس بمخصوص بوقت تطوعا، فلو كانت العمرة تطوعا لكان لها أصل في الفرض.

4. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ الآية على الإضمار، كأنه قال: فإن أحصرتم: عن الحج، فأردتم أن تحلوا فاذبحوا ما استيسر من الهدى؛ إذ الإحصار نفسه لا يوجب الهدى، لكنه إذا أراد الخروج منه يخرج بهدى‏؛ وعلى ذلك يخرج‏ قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 183]، كأنه قال: من كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر، فعدة من أيام أخر، وكقوله: ﴿أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ معناه أو به أذى فلو أزال من رأسه ففدية، وإلا كون الأذى في رأسه لا يوجب عليه الفداء حتى يزيل، كقوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 183]، أي من اضطر فأكل منها غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، والاضطرار نفسه لا يوجب الإثم.

5. اختلف أهل العلم في الإحصار(3).: ما هو؟ وبم يكون؟ وهل يحل؟ روى عن ابن مسعود أنّه قال (إذا أحصر الرجل من مرض أو حبس أو كسر أو شبه ذلك، بعث الهدى وواعد يوم النحر ومكث على إحرامه على أن يبلغ الهدى محله، وعليه الحج والعمرة جميعا من قابل)، وعن‏ عروة بن الزبير قال (الحصر من كل شيء يحبسه: عدو ومرض)، وروى مرفوعا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج‏ من قابل)، ومعنى قوله: (فقد حل)، أي جاز له أن يحل لا أن يحل بغير دم؛ لأن الله تعالى أذن له في الإحلال بدم، وهذا عندنا كقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر)، فمعناه: فقد حل له الإفطار، فعلى ذلك الأول: حل له أن يحل، ثم قال بعض أهل اللغة من نحو الكسائي وأبى معاذ: إن الإحصار من المرض، والحصر من العدو.

6. فسّر باقي الآيات الكريمة(4). بناء على الاحتجاج لما يراه الحنفية ومن وافقهم، والرد على المخالفين، وليس لذلك صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، ولذلك نقلناه إلى محله من السلسلة.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/70.

(2) يقصد الحنفية.

(3) ذكر الخلاف هنا، لكنه اكتفى بالاستدلال لما يقوله الحنفية، ومن وافقهم.

(4) تأويلات أهل السنة: ‏2/76.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾: أي إن حبستم عن الحج بعد ما أحرمتم، فوجهوا بما استيسر من الهدي، فإذا أحصر المحرم وجب عليه أن يرسل بما أمكنه من الذبائح، ويواعد رسوله أن ينحر ذلك الهدي أو يذبحه في وقت من أيام النحر ثم يحلق بعد ذلك الوقت.

2. معنى قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾: أي من كان مريضاً يحتاج إلى لبس ثوب من الثياب التي لا يجوز للمحرم لبسها، أو به علة من رأسه من برد أو غيره، وجب عليه إذا لبس ذلك الفدية، وهي الكفارة من الصيام أو الصدقة أو النسك، وذلك صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، والنسك: فأقله شاة، حتى يأمن على نفسه من علته، فإذا أمن ذلك، فسخ ذلك وفدى، وأما المتمتع بالعمرة إلى الحج فهو الذي يعتمر في أيام الحج ثم يحج في تلك السنة فيجب عليه الكفارة.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 282.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ وإتمامها على ما روينا عن أمير المؤمنين علي أن تأتي بهما من دويرة أهلك وليس وجوب العمرة عندنا كوجوب الحج لأن الحج وجوبه على الفور والعمرة وجوبها على التراخي.

2. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ والإحصار عندنا يكون بالمرض والعدو وما استيسر من الهدي: من الشاة إلى البدنة.

3. ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ ومحل الهدي الحرم، ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ وتقدير الكلام فحلق ففدية من صيام، الصيام ثلاثة أيام، وأما الصدقة فإطعام ستة مساكين والنسك فشاة أقلها.. ثم قال ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ والتمتع كالذي يقدم الحرم فلا يحل منها حتى يحرم بالحج.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/100.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ وقرأ ابن مسعود فيما رواه عنه علقمة: وأتمّوا الحجّ والعمرة بالبيت واختلفوا في تأويل إتمامها على خمسة أقاويل:

أ. أحدها: يعني وأتموا الحج لمناسكة وسننه، وأتموا العمرة بحدودها وسنتها، وهذا قول مجاهد، وعلقمة بن قيس.

ب. الثاني: أن إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وهذا قول علي، وطاووس وسعيد بن جبير.

ج. الثالث: أن إتمام العمرة، أن نخدم بها في غير الأشهر الحرم، وإتمام الحج أن تأتي بجميع مناسكه، حتى لا يلزم دم لجبران نقصان، وهذا قول قتادة.

د. الرابع: أن تخرج من دويرة أهلك، لأجلهما، لا تريد غيرهما من تجارة، ولا مكسب، وهذا قول سفيان الثوري.

هـ. الخامس: أن إتمامهما واجب بالدخول فيهما، وهذا قول الشعبي، وأبي بردة، وابن زيد، ومسروق.

2. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ في هذا الإحصار قولان:

أ. أحدهما: أنه كل حابس من عدوّ، أو مرض، أو عذر، وهو قول مجاهد، وقتادة، وعطاء، وأبي حنيفة.

ب. الثاني: أنه الإحصار بالعدوّ، دون المرض، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، وأنس بن مالك، والشافعي.

3. في قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: شاة، وهو قول ابن عباس، والحسن، والسدي، وعلقمة، وعطاء، وأكثر الفقهاء.

ب. الثاني: بدنة، وهو قول عمر، وعائشة، ومجاهد، وطاووس وعروة، وجعلوه فيما استيسر من صغار البدن وكبارها.

4. في اشتقاق الهدي قولان:

أ. أحدهما: أنه مأخوذ من الهدية.

ب. الثاني: مأخوذ من قولهم هديته هديا، إذا سقته إلى طريق سبيل الرشاد.

5. في محل هدي المحصر المذكور في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: حيث أحصر من حل أو حرم، وهذا قول ابن عمر، والمسور بن مخرمة، وهارون بن الحكم، وبه قال الشافعي.

ب. الثاني: أنه الحرم، وهو قول عليّ، وابن مسعود ومجاهد، وبه قال أبو حنيفة.

ج. الثالث: أن محلّه أن يتحلل‏ من إحرامه بادئا نسكه، والمقام على إحرامه إلى زوال إحصاره، وليس للمحرم أن يتحلل بالإحصار بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن كان إحرامه بعمرة لم يفت، وإن كان بحج قضاه بالفوات بعد الإحلال منه، وهذا مروي عن ابن عباس، وعائشة، وبه قال مالك.

6. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ معناه: فحلق، فعليه ذلك.

7. في الصيام قولان:

أ. أحدهما: صيام ثلاثة أيام، وهذا قول مجاهد، وعلقمة، وإبراهيم، والربيع، وبه قال الشافعي.

ب. الثاني: صيام عشرة أيام كصيام المتمتع، وهو قول الحسن وعكرمة.

8. في الصدقة قولان:

أ. أحدهما: ستة مساكين، وهو قول من أوجب صيام ثلاثة أيام.

ب. الثاني: إطعام عشرة مساكين، وهو قول من أوجب صيام عشرة أيام.

9. أما النسك فشاة.

10. في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: من خوفكم.

ب. الثاني: من مرضكم.

11. ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ اختلفوا في هذا المتمتع على ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنه المحصر بالحج، إذا حلّ منه بالإحصار، ثم عاد إلى بلده متمتعا بعد إحلاله، فإذا قضى حجّه في العام الثاني، صار متمتعا بإحلال بين الإحرامين، وهذا قول الزبير.

ب. الثاني: فمن فسخ حجّه بعمرة، فاستمتع بعمرة بعد فسخ حجّه، وهذا قول السدي.

ج. الثالث: فمن قدم الحرم معتمرا في أشهر الحج، ثم أقام بمكة حتى أحرم منها بالحج في عامه، وهذا قول ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وعطاء، والشافعي.

12. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ اختلفوا في زمانها من الحج على قولين:

أ. أحدهما: بعد إحرامه وقبل يوم النحر، وهذا قول علي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وطاووس والسدي، وسعيد بن جبير، وعطاء، والشافعي في الجديد.

ب. الثاني: أنها أيام التشريق، وهذا قول عائشة، وعروة، وابن عمر في رواية سالم عنه، والشافعي في القديم.

13. اختلفوا في جواز تقديمها قبل الإحرام بالحج على قولين:

أ. أحدهما: لا يجوز، وهذا قول ابن عمر، وابن عباس.

ب. الثاني: يجوز، واختلف قائلو ذلك في زمان تقديمه قبل الحج على قولين:

أحدهما: عشر ذي الحجة، ولا يجوز قبلها، وهو قول مجاهد، وعطاء.

الثاني: في أشهر الحج، ولا يجوز قبلها، وهو قول طاووس.

14. ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ وفي زمانها قولان:

أ. أحدهما: إذا رجعتم من حجكم في طريقكم، وهو قول مجاهد.

ب. الثاني: إذا رجعتم إلى أهليكم في أمصاركم، وهو قول عطاء، وقتادة، وسعيد بن جبير، والربيع.

15. في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ أربعة تأويلات:

أ. أحدها: أنها عشرة كاملة في الثواب كمن أهدى، وهو قول الحسن.

ب. الثاني: عشرة كمّلت لكم أجر من أقام على إحرامه فلم يحل منه ولم يتمتع.

ج. الثالث: أنه خارج مخرج الخبر، ومعناه معنى الأمر، أي تلك عشرة، فأكملوا صيامها ولا تفطروا فيها.

د. الرابع: تأكيد في الكلام، وهو قول ابن عباس.

16. ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وفي حاضريه أربعة أقاويل:

أ. أحدها: أنهم أهل الحرم، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وطاووس.

ب. الثاني: أنهم من بين مكة والمواقيت، وهو قول مكحول، وعطاء.

ج. الثالث: أنهم أهل الحرم ومن قرب منزله منه، كأهل عرفة، والرجيع، وهو قول الزهري، ومالك.

د. الرابع: أنهم من كان على مسافة لا يقصر في مثلها الصلاة، وهو قول الشافعي.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/255.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. روي عن الشعبي: أنه قرأ (والعمرة لله) رفعاً، وذهب إلي أنها ليست واجبة، كما قال أهل العراق، وعندنا، وعند الشافعي: أنها واجبة، كوجوب الحجّ، والقرّاء كلهم على النصب، والعمْرة عطفاً على قوله‏ ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ﴾ وتقديره، وأتموا العمرة لله، وأمر الله تعالى جميع من توجه إليه وجوب الحجّ أن يتم الحجّ والعمرة.

2. قيل في إتمام الحجّ والعمرة أقوال:

أ. أحدها: أنه يجب أن يبلغ آخر أعمالهما بعد الدخول فيهما وهو قول مجاهد، وأبي العباس المبرد، وأبي علي الجبائي.

ب. الثاني:قال سعيد بن جبير، وعطا، والسدي: إنّ معناه إقامتهما الى آخر ما فيهما، لأنهما واجبان.

ج. الثالث: قال طاووس: إتمامهما إفرادهما.

د. الرابع: قال قتادة: الاعتمار في غير أشهر الحج، وأصح الأقوال الأول.

3. الحج هو القصد الى البيت الحرام، لأداء مناسك مخصوصة بها في أوقات مخصوصة، ومناسك الحج تشتمل على المفروض، والمسنون(2).، والمفروض يشتمل على الركن، وغير الركن:

أ. فأركان الحج أوّلا: النية، والإحرام، والوقوف بعرفة، والوقوف بالمشعر، وطواف الزيارة، والسعي بين الصفا والمروة، والفرائض التي ليست بأركان: التلبية، وركعتا طواف الزيارة، وطواف النساء، وركعتا الطواف له.

ب. والمسنونات: الجهر بالتلبية واستلام الأركان، وأيام منى، ورمى الجمار، والحلق أو التقصير، والأضحية إن كان مفرداً، وإن كان متمتعاً فالهدي واجب عليه، وإلا فالصوم الذي هو بدل عنه.

4. تفصيل ذلك ذكرناه في النهاية، والمبسوط، والجمل والعقود، لا نطول بذكره، وفي هذه المناسك خلاف كثير ـ بين الفقهاء ـ ذكرناه‏ في مسائل الخلاف.

5. اختلف في حكم العمرة:

أ. قيل: واجبة كوجوب الحج، وبه قال الحسن، وابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر، وعطا، وابن جبير، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطا، والشافعي.

ب. قال ابراهيم النخعي، والشعبي، وسعيد بن جبير، وأهل العراق: إنها مسنونة، وعن ابن مسعود فيه خلاف.

6. من قال إنها غير واجبة قال لأن الله تعالى أمر بإتمام الحج والعمرة، ووجوب الإتمام لا يدل على أنه واجب قبل ذلك، كما أن الحج المتطوع به يجب إتمامه وإن لم يجب الدخول فيه، قالوا: وإنما علينا وجوب الحج بقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾، وهذا ليس بصحيح، لأنا قد بينا أن معنى أتموا الحج والعمرة أقيموهما، وهو المروي عن علي عليه السلام وعن علي بن الحسين مثله، وبه قال مسروق، والسدي.

7. العمرة هي الزيارة في اللغة، وفي الشرع عبارة عن زيارة البيت لأداء مناسك مخصوصة أي وقت كان من أيام السنة، وأفعال العمرة الواجبة: النية، والإحرام، والطواف، والصلاة عند المقام، والسعي بين الصفا والمروة، وطواف النساء، وفي بعض ذلك خلاف ذكرناه في الخلاف.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾:

أ. قال قوم: فان منعكم خوف، أو عدوّ، أو مرض، أو هلاك بوجه من الوجوه، فامتنعتم لذلك، وهو قول مجاهد، وقتادة، وعطا، وهو المروي عن ابن عباس، وهو المروي في أخبارنا، وهو أقوى لما روي في أخبارنا، ولأن الإحصار هو أن يجعل غيره بحيث يمتنع من الشيء، وحصره منعه، ولهذا يقال: حصر العدوّ، ولا يقال: أحصر.

ب. وقال آخرون: إن منعكم حابس قاهر، وذهب اليه مالك بن أنس

9. اختلف أهل اللغة في الفرق بين الإحصار، والحصر، فقال الكسائي، وأبو عبيدة، وأكثر أهل اللغة: إن الإحصار المنع بالمرض، أو ذهاب النفقة، والحصر بحبس العدوّ وقال الفراء: يجوز كل واحد منهما مكان الآخر، وخالف في ذلك أبو العباس، والزجاج، واحتج المبرد بنظائر ذلك، كقولهم حبسه أي جعله في الحبس وأحبسه أي عرّضه للحبس، وقتله: أوقع به القتل، وأقتله: عرّضه للقتل، وقبره: دفنه في القبر، وأقبره: عرضه للدفن في القبر، فكذلك حصره: حبسه أي أوقع به الحصر، وأحصره: عرّضه للحصر، ويقال: أحصره إحصاراً، إذا منعه، وحصره يحصره حصراً إذا حبسه، وحصر حصراً: إذا عيي في الكلام، وحاصره محاصرة: إذا ضيق عليه في القتال، والحصر الضيق، هذا حصر شديد، والحصر: الذي لا يبوح بسره، لأنه قد حبس نفسه عن البوح به، والحصير: الملك، والحصير: المحبس، ومنه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ والحصور: الذي لا إربة له في النساء، والحصور: الغيوب المحجم عن الشيء، والحصر البخيل لحبسه رفده، وأصل الباب: الحبس.

10. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ موضع (ما) رفع، كأنه قال فعليه‏ ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، ويجوز النصب وتقديره: فليهدي ما استيسر من الهدي، والرفع أقوى لكثرة نظائره، كقوله‏ ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ وقوله‏ ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ وقوله‏ ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ﴾:

أ. روي عن علي عليه السلام، وابن عباس، والحسن، وقتادة: أنه شاء، وهو المعمول عليه عندنا.

ب. وروي عن ابن عمر، وعائشة: أنه ما كان من الإبل والبقر دون غيره، ووجّها التيسر على ناقة دون ناقة، وبقرة دون بقرة.

12. في اشتقاق الهدي، وأصله قولان:

أ. أحدهما: أنه من الهدية، يقال منه: أهديت الهدية إهداء، وأهديت الى البيت الهدي إهداء، فعلى هذا يكون هدياً لأجل التقرب به الى الله بإخلاص الطاعة فيه، على ما أمر به.

ب. الثاني:من هديته هدى: إذا سقته الى طريق الرشاد، وواحد الهدي هدية، وروى أبو عبيدة عن أبي عمرو: أنه لا يعرف له نظير إلا جدية السرج وجدي، وقال المبرد: وهو مطرد في الأجناس، كتمرة وتمر، وشرية وشري، وهو الحنظل.

13. ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾ معناه لا تزيلوا شعور رؤوسكم: يقال حلق يحلق حلقاً، وحلق تحليقاً، وانحلق انحلاقاً، والحلق: مجرى الطعام، والشراب في المري، والحلقة: حلقة القوم، وحلقة الحديد، والحلقة السلاح، ويقال أيضاً بالتخفيف، وحلق الطائر في الهواء إذا ارتفع، وهوى من حالق أي من علو الى سفل، وحلق ضرع الناقة إذا ارتفع لبنها، وحلاق المنية، وجاء بالحلق إذا جاء بالمال الكثير، والمحلق: محلق الشعر كالموسى، وحُلوق الأرض مجاريها في أوديتها، والمحلق: موضع حلق الرأس بمنى، وأصل الباب الاستمرار.

14. الرؤوس جمع رأس يقال: رأس يرأس رآسة، وترأس ترأساً، ورأسه ترئيساً، والرأس أعلى كل شيء، والرّواسي العظيم الرأس فوق قدره، وكلبة رءوس: وهي التي تساور رأس الصيد، وسحابة رأيسة: وهي التي تتقدم السحاب، ورجل مرؤوس إذا أصابه البرسام في رأسه، ورأس فلان فلاناً إذا ضربه على رأسه، وأصل الباب الرأس.

15. ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ معناه حتى ينتهى إليه، يقال: بلغ يبلغ بلوغاً، وأبلغه إبلاغاً، وبلغه تبليغاً، وبالغ مبالغة، وتبالغ تبالغاً، وتبّلغ تبّلغاً، وبلغ الرجل بلاغة إذا صار بليغاً، والبلغة: القوت، وأصل الباب البلوغ، وهو الانتهاء، فمنه البلاغة، لأنها تبلغ بالمعنى الى القلب.

16. قيل في محل الهدي قولان:

أ. أحدهما: ما روى عن ابن عباس، وابن مسعود، والحسن، وعطا: أنه الحرم فإذا ذبح به يوم النحر أحلّ.

ب. الثاني:قال مالك: إنه الموضع الذي صدّ فيه، وهو المكان الذي يحلّ نحره فيه قال لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نحر الهدى، وأمر أصحابه فنحروا بالحديبية.

ج. عندنا(3).: أن الأول حكم المحصر بالمرض، والثاني حكم المحصور بالعدوّ، وروي أيضاً أن محله منى إن كان في الحج، وإن كان في العمرة فمكة.

17. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ فالأذى كلما تأذيت به ورجل آذٍ إذا كان شديد التأذي تقول: آذى يآذى أذى، وأصله الضرر بالشيء، وروى أصحابنا أن هذه الآية نزلت في إنسان يعرف بكعب بن عجرة، وروى أيضاً ذلك أصحاب التأويل في أنه كان قد قمل رأسه فأنزل الله فيه هذه الآية، لكنها محمولة على جميع الأذى.

18. ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ الذي رواه أصحابنا أن الصيام ثلاثة أيام أو صدقة ستة مساكين، وروي عشرة مساكين، والنسك شاة، وفيه خلاف بين المفسرين، وروي عن كعب بن عجرة الانصاري، ومجاهد، وعلقمة، وابراهيم، والربيع، واختاره الجبائي: مثل ما قلناه: إن الصوم ثلاثة أيام والإطعام لستة مساكين، وقال الحسن وعكرمة: صوم عشرة أيام أو إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع بلا خلاف، ولم يختلفوا في النسك أنه شاة، والنسك: جمع نسيكة، ويجمع أيضاً نسائك، كصحيفة وصحائف وصحف.

19. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ معناه أمنتم أن يحصركم العدوّ أو أمنتم المرض‏ ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾، ففرض التمتع ـ عندنا ـ هو اللازم لكل من لم يكن من حاضري المسجد الحرام.

20. حدّ حاضري المسجد الحرام: من كان على اثني عشر ميلا من كل جانب الى مكة، ثمانية وأربعين ميلا، فما خرج عنه فليس من الحاضرين، لا يجوز له مع الإمكان غير التمتع، وعند الضرورة، يجوز له القران والافراد، ومن كان من حاضري المسجد الحرام، لا يجوز له التمتع، وإنما فرضه القِران أو الافراد على ما نفسره في القران والافراد.

21. سياق المتمتع أن يحرم من الميقات في أشهر الحج وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، ثم يخرج الى مكة، فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقصر، ثم ينشئ إحراماً آخر بالحج من المسجد الحرام، ويخرج الى عرفات، ويقف هناك، ويفيض الى المشعر، ويغدوا منها الى منى، ويقضى مناسكه هناك، ويدخل في يومه الى مكة، فيطوف بالبيت طواف الزيارة، ويسعى بين الصفا والمروة، ويطوف طواف النساء، وقد أحلّ من كل شيء ويعود الى منى، فبيت ليالي بها، ويرمي الجمار في ثلاثة أيام ـ على ما شرحناه في النهاية، والمبسوط ـ وفي بعض ذلك خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.

22. للمفسرين في التمتع أربعة أقوال:

أ. الأول‏ رواه أنس بن مالك: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أهلّ بعمرة وحجة، وسموه قارناً، وأنكر ذلك ابن عمر.

ب. الثاني روى ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطا، واختاره الجبائي: وهو أن يعتمر في أشهر الحج ثم يأتي مكة، فيطوف، ويسعى، ويقصر ثم يقيم حلالا الى يوم التروية، أو يوم قبله، فيهل فيه بالحج من مكة، ثم يحج، وهذا مثل ما قلناه سواء، وقال البلخي: إن هذا الضرب كرهه عمر، ونهى عنه، وكرهه ابن مسعود.

ج. الثالث: هو الناسخ للحج بالعمرة رواه جابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرهم ـ وقد أهلوا بالحج، لا ينوون غيره ـ أن يعتمروا ثم يحلوا الى وقت الحج‏، هذا عندنا جائز أن يفعل، وروي عن أبي ذرّ: أنها كانت لأصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، وكذلك يقولون: إن عمراً أنكر هذه المتعة.

د. الرابع: قال ابن الزبير: إن المحصر إذا دخل مكة بعد فوت الحج، تمتع بالعمرة، لأنه يحل بها الى وقت الحج، وكذلك من اعتمر في غير أشهر الحج ثم حج تلك السنة، فهو المتمتع، ولا هدي عليه، وهذا عندنا فاسد بما قدمناه.

23. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ فالهدي واجب على المتمتع بلا خلاف، لظاهر التنزيل، على خلاف فيه أنه نسك أو جبران، فعندنا أنه نسك، وفيه خلاف فان لم يجد الهدي ولا ثمنه، صام ثلاثة أيام في الحج، وعندنا أن وقت صوم الثلاثة أيام: يوم قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، فان صام في أول العشرة جاز ذلك رخصة، وإن صام يوم التروية ويوم عرفة قضى يوماً آخر بعد التشريق فان فاته يوم التروية صام بعد القضاء من التشريق ثلاثة أيام متتابعات، وروي عن ابن عباس، وابن عمر، والحسن، ومجاهد: أنه يجوز ما بين إحرامه في أشهر الحج الى يوم عرفة، واستحبوا أن يكون يوماً قبل التروية، ويوم عرفة، ووقت صوم السبعة أيام إذا رجع الى أهله، وبه قال عطا، وقتادة، وقال مجاهد: إذا رجع عن حجه في طريقه، فأما أيام التشريق، فلا يجوز صومها عندنا، وبه قال جماعة من المفسرين، واختاره الجبائي، لنهي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن صوم أيام التشريق، وروي عن ابن عمر، وعائشة جواز ذلك.

24. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾:

أ. الأول: قال الحسن، والجبائي، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام أن المعنى كاملة من الهدي أي إذا وقعت بدلا منه، استكملت ثوابه.

ب. الثاني:ما ذكره الزجاج، والبلخي أنه لإزالة الإيهام لئلا يظن أن (الواو) بمعنى (أو) فيكون كأنه فصيام ثلاثة أيام في الحج أو سبعة أيام إذا رجعتم، لأنه إذا استعمل (أو) بمعنى (الواو) جاز أن يستعمل (الواو) بمعنى (أو) كما قال ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ والمراد (أو) فذكر ذلك لارتفاع اللبس.

ج. الثالث: قاله المبرد: إنه أعاد ذلك للتأكيد قال الشاعر:

çثلاث واثنتان فهن خمس‏...وسادسة تميل الى شمام‏é

25. ثلاثة: تقول: ثلثت القوم أثلثهم، فأنا ثالثهم، وربما قالوا: ثلثت الرجلين أي صرت لهما ثالثاً، والثلث جزء من ثلاثة، والمثلث: شكل على ثلاثة أضلاع، والمثلوث: ما أخذ ثلثه، والثلاثاء: اليوم الثالث من الأحد، والثلاثي: ما نسب الى ثلاثة أشياء، وأصله الثلاثة من العدد.

26. أهل الرجل: زوجته، والمتأهل: المتزوج، وأهل الرجل: أخص الناس به، وأهل البيت: سكانه، وأهل الإسلام: من تدين به، وأهل القرآن: من يقرأه، ويقوم بحقوقه، وأهلته لهذا الأمر أي جعلته أهلًا له، والأهليّ: خلاف البريّ، وقولهم مرحباً وأهلا أي اختصاصاً بالتحية، والتكرمة.

27. بينا أن‏ ﴿أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ من كان من بينه وبينها اثنا عشر ميلا من أربع جوانبها، وقال ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما: إنهم أهل الحرم، فروي في أخبارنا أيضاً ذلك، وقال مكحول، وعطا: من بين مكة، والمواقيت، وقيل: هم أهل الحرم، ومن قرب منزله منها، كأهل عرفة، ذهب اليه الزهري ومالك.

28. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ تقول: عقب الشيء يعقب بمعنى خلف بعد الأول، وأعقب إعقاباً، وتعقب الرأي تعقباً، ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي الآخرة، ونرّد على أعقابنا أي نعقب بالشر بعد الخير، والعقبة: ركوب أعقبه المشي، ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ﴾: ملائكة الليل تخلف ملائكة النهار، وعقب الإنسان: نسله، وعقبه، مؤخر قدمه، والعقبة: المصعد في الجبل، والعقب: الصعب، والعقاب: الطائر، واليعقوب: ذكر القبج، ﴿لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ أي لا رادّ لقضائه، وأصل الباب: العقب: الخلف بعد الأول.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/154.

(2) ذكرها باختصار بناء على ما يقوله الإمامية، وقد تعمدت نقلها هنا، كما نقلت مثيلاتها مراعاة لما تهدف إليه السلسلة من الدعوة للتقارب بين المذاهب الإسلامية.

(3) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)..:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الإتمام: أن تأتي بالشيء على الكمال، ومنه التمام.

ب. الحج أصله: القصد، وقد بيناه.

ج. العمرة: أخذ من العمارة، وهو عمارة البيت بالزيارة على وجه السنة.

د. الإحصار: المنع، أحصره منعه، وحصره: حبسه، وأصل الباب الحبس، والفرق بين الإحصار والحصر أن الإحصار المنع بالمرض أو ذهاب النفقة، عن أبي عبيدة والكسائي وأكثر أهل العلم، وأجاز الفراء كل واحد منهما مكان الآخر، وأبى ذلك أبو العباس والزجاج.

هـ. الحلق: حلق الرأس.

و. الهدي: جمع هَدْيَةٍ كتمرة وتمر، وأصله من الهدية يقال: أهديت إهداء، وأهديت إلى البيت الهَدْيَ، والهَدْيُ: ما يُهْدَى إلى البيت من النسك.

ز. الأذى: كل ما تأذيت به، وهو الضرر بالشيء.

ح. الفدية: البدل.

ط. النسك: العبادة، ومنه رجل ناسك أي عابد هذا هو الأصل، ثم يجوزون استعماله في مناسك الحج، وفي إراقة الدم، والنسك: الذبيحة ههنا، ويقال: نَسِيكة ونُسُك ومناسك، كصحيفة وصحف وصحائف.

ي. الأمن ضد الخوف.

ك. التمتع أصله: الاستمتاع، ومتعة الحج: أن يعتمر في أشهر الحج ثم يحل، ويتمتع بالإحلال يفعل ما يفعله الحلال غير أنه لا يعود إلى وطنه، ثم يحج في تلك السنة من غير رجوع إلى الميقات، وأصل التمتع التلذذ، ومنه المتاع لأنه يتلذذ به.

ل. التأهل: التزوج، وأهله: أخص الناس له، وأهل البيت: سكانه، وأهل الإسلام: من يدين به، وأهل القرآن: من التزم قراءته والعمل به، ومرحبًا وأهلا به: أي اختصاصًا بالتحية والتكرمة، وأصله الاختصاص.

م. العقاب: مأخوذ من العاقبة، كأن الفتح يعقب الشدة فسمي عقابًا.

2. ثم بَيَّنَ تعالى الحج والعمرة، فقال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، واختلفوا في معنى الإتمام:

أ. قيل: أقيموا الحج والعمرة؛ لأنهما واجبان، عن سعيد بن جبير وعطاء وطاووس والسدي.

ب. وقيل: إتمامهما أن تحرم بهما من دُويرَةِ أهلك عن علي.

ج. وقيل: إتمامهما بلوغ آخر أعمالهما بعد الدخول فيهما، عن مجاهد وأبي علي.

د. وقيل: إتمامهما الإتيان بمناسكهما: فرائضهما وسننهما.

هـ. وقيل: أن يأتي بكل واحد مفردًا، عن طاووس وسعيد بن جبير.

و. وقيل: أن يأتي بهما ولا يلزمه دم، عن قتادة.

ز. وقيل: تمامهما أن تكون النفقة حلالاً، عن الضحاك.

ح. وقيل: أن يخرج لهما لا يريد غيرهما عن سفيان.

3. ﴿لِلَّهِ﴾ يعني: اقصدوا بهما التقرب إلى الله.

4. ثم بَيَّنَ تعالى حكم الإحصار في الحج، فقال: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾، واختلفوا في معنى الإحصار:

أ. قيل: مُنِعْتم بخوف عدو أو مرض، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطاء، وهو: الوجه، يعني: منعتم من المضي في أعمال الحج.

ب. وقيل: منعكم حابس قاهر عن مالك بن أنس.

5. اختلفوا في الإحصار، بماذا يحصل:

أ. قيل: بالمرض والعدو، عن أبي حنيفة وأصحابه.

ب. وقيل: بالعدو فقط، عن مالك بن أنس والشافعي.

6. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾:

أ. فقيل: يفهم منها الإحصار بالمرض فقط، ثم يلحق به غيره بدليل، والإحصار على وجوه: بالعدو، والمرض، وعدم النفقة، ومنع الزوج امرأته، والسيد عبده، والمرأة أحرمت ولا تجد محرمًا، عن أبي حنيفة وأصحابه.

ب. وقيل: يفهم منها العدو، والمرض لا يكون إحصارًا، عن مالك بن أنس والشافعي.

ج. وقيل: يفهم منها المرض والعدو، عن الفراء وأبي علي، وقد أنكر أهل اللغة على الشافعي حيث قال: إنه بالعدو خاصة.

7. اختلفوا في العمرة:

أ. الذي عليه الفقهاء أنه كالحج في الإحصار.

ب. وحكى ابن سيرين أنه لا إحصار فيه؛ لأنه غير مؤقت، وقد سقط خلافه.

8. اختلفوا في المحصر في الحرم:

أ. قيل: ليس بإحصار، حكاه أبو الحسن عن أبي حنيفة.

ب. وقيل: إن أمكنه الوصول إلى البيت أو الوقوف فليس بمحصر، وإن لم يمكنه فهو محصر، حكاه الطحاوي عن أبي حنيفة.

9. ﴿مَا اسْتَيسَر مِنَ الهَدي﴾ أي ما سهل، ولا بد في الكلام من حذف، وتقديره: فعليكم ما استيسر ليخرج به من الإحرام، واختلف فيه:

أ. قيل: شاة، عن علي، وابن عباس والحسن وقتادة، وهو الوجه؛ لأنه أقرب إلى اليسر.

ب. وقيل: من الإبل والبقر، عن ابن عمر وعائشة.

10. اختلف في الهدْي، وعن الحسن أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه (نحروا يوم الحديبية سبعين بدنة عن كل سبعة بدنة)، وهذا لا يدل على الوجوب، فإن أقله شاة.

11. اختلف في معنى بلوغه محله:

أ. قيل: الحرم، عن أهل العراق، والآية تدل عليه؛ لأنه يقتضي مَكَانًا يبلغه الهدي، ويؤيده قوله: ﴿وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾

ب. عند الشافعي حيث صُدَّ، وتعلق بنحرهم بالحديبية، لكن القوم قالوا: الحديبية جامعة للحل والحرم، وروي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم نزل في الحل، وكان يصلي في الحرم.

12. اختلفوا في توقيت الذبح:

أ. قيل: يذبح أي وقت شاء؛ لأنه خصه بمكان دون زمان، عن أبي حنيفة.

ب. وقيل: بل يوم النحر، عن أبي يوسف ومحمد والأصم، فإن كان معتمرًا ففي أي وقت شاء.

13. يدل الظاهر على بلوغ الهدي محله، ثم ما يفعل به ليس في الظاهر، واختلفوا فيه:

أ. فقيل: أراد إراقة الدم في الحرم.

ب. وقيل: تفرقة اللحم في المساكين، فإن لم يجد الهدْي بقي محرمًا حتى يجد الهدْي أو يطوف سبعًا كفائت الحج عند أبي حنيفة ومحمد.

ج. وعن عطاء يتحلل بالإطعام بقيمة الهدْي، فإن لم يجد صام لكل نصف صاع يومًا، وقال أبو يوسف: وهذا أعجب إلي.

14. اختلفوا إذا وقف بعرفة:

أ. فقال أهل العراق: لا يكون محصرًا؛ لأنه أمن الفوات.

ب. وقال الشافعي يكون محصرًا، وادعى القاضي الإجماع أنه يكون محصرًا، وليس كذلك.

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾:

أ. قيل: لا بد من حذف؛ لأنه لا يتحلل ببلوغه محله حتى ينحر، فكأنه قال: حتى يبلغ الهدي محله وينحر، فإذا نحر أو ذبح فاحلقوا، والمعني به المحصر لا يحلق شعره حتى يذبح الهدي، وهو الأصح.

ب. وقيل: بل هو كلام مستأنف، لا تعلق له بالإحصار.

16. تدل الآية على نفي الحلق، واختلفوا:

أ. فقيل: ليس على المحصر حلق، وليس ذلك بنسك، عن أبي حنيفة ومحمد.

ب. وقيل: هو نسك، وعليه ذلك، عن أبي يوسف.

ج. اختلف قول الشافعي قال أبو بكر الرازي: إذا أحصر في الحرم فعليه الحلق باتفاق؛ لأنه يختص الجرم.

17. اختلفوا في المحل:

أ. قيل: الحرم، فإذا ذبح به حل، عن ابن عباس والحسن وعطاء وأبي حنيفة وأصحابه.

ب. وقيل: محله حيث يحل، وهو الموضع الذي أحصر فيه، عن مالك بن أنس والشافعي.

18. نزل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ في كعب بن عُجْرَةَ قال: مر بي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديبية، ولي وفرة من شعر فيها القمل، وأنا أطبخ قدرًا لي، وهي سائرة على وجهي فقال: ﴿أيؤذيك هوام رأسك﴾؟ فقلت: نعم، فقال: ﴿احلق رأسك واذبح شاة أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع من بر﴾، واختلفوا:

أ. فقيل: إنه في المحصر خاصة.

ب. وقيل: بل في كل محرم، وهو الصحيح، وإنما المعتبر بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأنه تقدم ذكر الحج والعمرة، كما تقدم ذكر الإحصار فحمله على الجميع أولى.

19. ثم بَيَّنَ تعالى حكم الأذى والمرض: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ مرضًا يحتاج إلى الحلق، أو لبس مخيط، أو نحو ذلك من محظورات الإحرام ﴿أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ صداع أو هوام ﴿فَفِدْيَةٌ﴾، فحلق لذلك العذر، فعليه فدية، أي بدل وجزاء يقوم مقام الأول في ذلك: ﴿مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ هدْي يذبح.

20. ثم بَيَّنَ تعالى حكم المتمتع فقال: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ من الخوف: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ فعليه: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ وهو ما يهدى: بدنة أو شاة أو بقرة ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ الهدي، فعليه ﴿صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ أي في أوقات الحج: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ إلى الأهل.

21. اختلف في التمتع أربعة أوجه:

أ. الأول: هو القِران، وهو أن يحرم بحجة وعمرة معًا؛ ثم يأتي بأفعال العمرة، ثم يأتي بأفعال الحج، وروى أنس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قرن، وقال عمر لجبير بن معبد حين سأله عن ذلك: (هديت لسنة نبيك)، ولأنه جمع بين عبادتين يجوز الجمع بينهما، والدم فيه دم نسك لا دم جبران؛ ولذلك يجوز أكله ثم يطوف طوافين ويسعى سعيين، ويلزمه بارتكاب المحظورات جزاءان عند أبي حنيفة، وعند الشافعي، طواف واحد، وسعي واحد، وجزاء واحد، وسمي القارن متمتعًا؛ لأنه جمع بين إحرامين في أشهر الحج، واستغنى عن سعي ينشئها لكل واحد منهما.

ب. الثاني: أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج، ثم يحل ويحج في سنته من غير إلمام بأهله، ومن شرائطه أن تكون أفعال العمرة في أشهر الحج، وأن يقدمها على الحج، وأن يحج بعده، وألا يلم بأهله، وأن يحرم بالحج من مكانه لا من الميقات، وألا يكون أهله من حاضري المسجد الحرام، فهذه شروط التمتع المشهور عند الفقهاء، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب، وعليه الهدْي أيضًا، وهو دم نسك؛ لأنه يجوز الأكل منه كالأضحية، ولأنه وجب بسبب مباح، وهو فعل الحج والعمرة في سنته.

ج. الثالث: أن يفسخ الحج بالعمرة رواه جابر وأبو سعيد، الخدري أن النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرهم عام الفتح، وقد أهلوا بالحج لا ينوون غيره أن يعتمروا، ثم يحلوا إلي وقت الحج، قال أبو ذر: وإنما كان ذلك لأصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا الذي أنكره عمر في قوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما: متعة النكاح ومتعة الحج، وهو فسخ الحج بالعمرة، والنكاح المؤقت، وكلاهما منسوخ.

د. الرابع: المحصر إذا دخل مكة بعد فوت الحج خرج منها بعمل عمرة، عن ابن الزبير، وهو متمتع بالعمرة، ولأنه يحل بها، والمشهور ما ذكرناه ثانيًا.

22. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾:

أ. قيل: كاملة من الهدْي إذا وقعت بدلاً منه استكمل ثوابه، عن الحسن وأبي علي.

ب. وقيل: ذكر كاملة لزوال الإيهام أنه بمعنى التخيير: ثلاثة بالحج وسبعة إذا رجع؛ لأن الواو قد ترد بمعنى ﴿أَوْ﴾ حكاه أبو القاسم والزجاج.

ج. وقيل: ذكر ذلك للتأكيد والتمكين في النفس، فقيل: لفظه خبر، والمراد به الأمر، أي: أكملوها ولا تنقصوها، عن الأصم.

د. وقيل: الخطاب للعرب، ولم يكونوا أهل حساب فبين بيانًا لا يخفى معه شيء، هذا كما روي أنه قال في الشهور: (هكذا وهكذا وهكذا)، وأشار بيده ثلاثًا، ثم أومأ بها ثلاثًا، وأمسك إبهامه في الثالثة منبهًا على الثلاثين، وفي الثاني على تسعة وعشرين.

23. ثم بَيَّنَ تعالى من لا يصلح منه التمتع، فقال تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ يعني ما تقدم ذكره من التمتع والقِران:

أ. عن أبي حنيفة ليس لأهل مكة، ومن يجري مجراهم ممن داره وراء الحرم متعة ولا قران، وهو قول أكثر العلماء.

ب. وقيل: لهم ذلك، وليس عليهم الهدي، وذلك إشارة إلى الهدْي، عن الشافعي.

24. ﴿لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وهو أن تكون داره وراء الحرم ﴿وَاتَّقُوا الله﴾ يعني معاصيه وعقابه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ يعني عقوبته شديدة.

25. تدل الآيات الكريمة على:

أ. إتمام الحج والعمرة، ولا خلاف أن الحج فريضة، ويكفر جاحده، ويفسق تاركه، ثم ذكر هنا(2). بعض المباحث المرتبطة بالحج والعمرة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

ب. العمرة سنة عند أبي حنيفة ومالك بن أنس، وهو قول إبراهيم والشعبي، وواجب عند الشافعي، وهو قول ابن عمر وعطاء وأبي حذيفة، وأفعال العمرة ثلاث: الإحرام، والطواف، والسعي.

ج. الحج ثلاثة: إفراد، وقران، وتمتع:

فالإفراد: أن يأتي بكل واحد منهما مفردًا.

والتمتع: أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج، ولا يلم بأهله، ويحج تلك السنة.

والقران: أن يجمع بينهما في الإحرام، وفي القران والتمتع دم، والأفضل القران عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: الإفراد.

د. لا تدل الآية على وجوب العمرة؛ لأنه إذا دخل فيها وجب إتمامها كما في حج التطوع، وإنما علمنا وجوب الحج في الآية في آل عمران.

هـ. أن العمرة يجب إتمامها بالدخول فيها.

و. أن الإحصار يبيح التحلل قبل تمام الحج؛ لأن تمامه لا يقف على بلوغ الهدي محله.

ز. أن الإحلال يجوز بشرط بلوغ الهدي محله، وهذا القدر لا خلاف فيه،

ح. وجوب الفدية على من حلق أو لبس المخيط لعذر، وقد بَيَّنَا أن فيه حذفًا، فقيل: فحلق، وقيل: فعل ما يَحْظُرُهُ إحرامه، وهو الأولى؛ لأن جميع ما يحتاج إليه في ذلك سواء.

ط. أن الفدية من هذه الأجناس الثلاثة.

ي. التخيير لدخول: ﴿أَوْ﴾، ولا خلاف فيه.

ك. الآية مجملة في المقدار، وبيانه في خبر كعب؛ لأنه بَيِّنَ مقدار الصوم ثلاثة أيام، والإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من بر، وبين النسك، ولم يبين صفة النسك.

ل. بطلان الجبر؛ لأنه تعالى لم يؤاخذ المحصر والمعذور في محظورات الإحرام لأجل مشقة تلحق العبد، فمن لا يقدر على الإيمان وصد عنه أولى ألا يأخذه.

م. التمتع في الإحرام، وعلى أن من فعل ذلك فعليه هدْي، وإن لم يجد الهدي فعليه الصوم، ولا خلاف فيه، والخلاف فيما ينبني عليه من التفاصيل.

ن. تدل الآية على التخيير بين الإبل والبقر والغنم، وهو قول الفقهاء، والمروي عن علي وابن مسعود، وعن ابن عمر أنه قال: بدنة أو بقرة.

س. يدل ظاهر قوله: ﴿إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ أن لا صوم على أهل مكة، واختلفوا في الثلاث والسبع، فقيل: يجب متتابعًا، وقيل: يجوز تفريقه، وهو الظاهر.

ع. منع أهل مكة مما أبيح لغيرهم، وقد بَيَّنَّا الخلاف فيه، والآية تدل على قول أبي حنيفة، وروي عن ابن عمر مثل ذلك، وذلك لا يعرف اجتهادًا فحمل على التوقيف.

ف. يدل قوله: ﴿وَاتَّقُوا الله﴾ على أن ما تقدم واجب؛ فلذلك أمر بإقامتها.

ص. تدل على بطلان قول المرجئة؛ لأن عندهم من أتى بالشهادتين، فلا خوف عليه.

26. قراءات وحجج:

أ. قرئ ﴿الْحَجِّ﴾ بفتح الحاء كل القرآن نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم، وهي لغة أهل الحجاز، وبالكسر في الجميع ابن أبي إسحاق وهي لغة تميم بالكسر في آل عمران خاصة: حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد كرَطْل ورِطْل، وكَسْرِه البيت وكِسْرِهِ، وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم.

ب. عن علقمة ﴿وأقيموا الحج﴾ وهذا محمول على أنه فسر الآية به.

ج. القراءة الظاهرة: ﴿نُسُكٍ﴾ بضم السين. وعن الحسن بسكون السين. وهي لغة تميم.

27. مسائل نحوية:

أ. ﴿فِدْيَةٌ﴾ رفع؛ لأنه خبر ابتداء محذوف، أي فعليه فدية، قيل: هو ابتداء، وخبره محذوف، أي فدية واجبة، ولا بد من حذف فيه؛ لأن لمجرد الأذى لا تجب الفدية كأنه قيل: فحلق فعليه الفدية.

ب. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ﴾ محل: ﴿مَا﴾ رفع، أي فعليه ما استيسر، وقيل: محله نصب، وتقديره: فاهدوا ما استيسر.

ج. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ﴾ رفع لأنه خبر ابتداء محذوف، أي فعليه ما استيسر، ويحتمل النصب، أي فليفعل أو فليهد ما استيسر.

د. ﴿حَاضِرِي الْمَسْجِدِ﴾ أصله حاضرين، فحذف النون للإضافة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/801.

(2) التهذيب في التفسير: 1/805.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)..:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الإحصار: المنع، يقال للرجل الذي منعه الخوف أو المرض عن التصرف: قد أحصر، فهو محصر، ويقال للرجل الذي حبس: قد حصر فهو محصور، وقال الفراء: يجوز أن يقوم كل واحد منهما مقام الآخر، وخالفه فيه أبو العباس المبرد والزجاج،قال المبرد: ونظيره حبسه جعله في الحبس، وأحبسه: عرضه للحبس،وأقتله: عرضه للقتل، وكذلك حصره حبسه أي: أوقع به الحصر، وأحصره: عرضه للحصر، وحصر حصرا: إذا عيي في الكلام، والحصير: البخيل لحبسه رفده، والحصير: الذي لا يبوح بسره، لأنه قد حبس نفسه عن البوح به، والحصير: الحبس، والحصير: الملك، والحصور: الهيوب المحجم عن الشيء، والحصور: الذي لا إربة له في النساء، وأصل الباب: الحبس.

ب. في أصل الهدي قولان:

أحدهما: إنه من الهدية، يقال: أهديت الهدية إهداء، وأهديت الهدي إلى بيت الله إهداء، فعلى هذا إنما يكون هديا لأجل التقرب به إلى الله.

والآخر: إنه من هداه إذا ساقه إلى الرشاد، فسمي هديا، لأنه يساق إلى الحرم الذي هو موضع الرشاد، وواحد الهدي هدية، كما يقال شرية وشري، وتمرة وتمر، وجمع الهدي هدي على زنة فعيل، كما يقال عبد وعبيد، وكلب وكليب،وقيل واحد الهدي هدية، مثل مطية ومطي، قال الفرزدق:

çحلفت برب مكة، والمصلى،...وأعناق الهدي مقلداتé

ج. الحلق: حلق الرأس، يقال: حلق وحلق، والمحلق: موضع الحلق بمنى، والمحلق الحلاق، وحلق الطائر في الهواء: إذا ارتفع، وحلق ضرع الناقة: إذا ارتفع لبنها، والحلق: مجرى الطعام والشراب في المري، وحلوق الأرض: مجاريها في أوديتها، وحلاق المنية، وأصل الباب: الاستمرار.

د. الرأس: أعلى كل شيء.

هـ. الأذى: كل ما تأذيت به، ورجل إذ: إذا كان شديد التأذي، وأصله: الضرر بالشيء.

و. النسك: جمع النسيكة وهي الذبيحة، ويجمع أيضا على نسائك، كصحيفة وصحائف وصحف، وكلما ذبح لله فهو نسيكة، والنسك: العبادة، ومنه رجل ناسك أي: عابد.

ز. التمتع: أصله الالتذاذ والاستمتاع، ومتعة الحجة: هي أن يعتمر في أشهر الحج ثم يحل ويتمتع بالإحلال بأن يفعل ما يفعله المحل، ثم يحرم بالحج من غير رجوع إلى الميقات، فهو إحلال بين احرامين.

ح. أهل الرجل: زوجته، والتأهل: التزوج، وأهل الرجل: أخص الناس به، وأهل البيت: سكانه، وأهل الاسلام: من يدين به، وأهل القرآن: من يقرؤه ويقوم بحقوقه، وأهلته لهذا الأمر أي: جعلته أهلا له، وقولهم: أهلا ومرحبا أي: اختصاصا بالتحية والتكرمة.

ط. العقاب: مصدر، يقال عاقبه عقابا ومعاقبة وعقوبة،وأصله من عقب الشيء أي: خلفه فكأن القبيح يعقبه الشدة، وعقب الانسان: نسله، وعقبه: مؤخر قدميه.

2. ثم بين سبحانه فرض الحج والعمرة على العباد بعد بيانه فريضة الجهاد فقال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾:

أ. قيل: أي: أتموهما بمناسكهما وحدودهما، وتأدية كل ما فيهما، عن ابن عباس، ومجاهد.

ب. وقيل: معناه أقيموهما إلى آخر ما فيهما، وهو المروي عن أمير المؤمنين، وعلي بن الحسين، وعن سعيد بن جبير، ومسروق والسدي.

3. ﴿لِلَّهِ﴾ أي: اقصدوا بهما التقرب إلى الله.

4. اختلف في حكم العمرة:

أ. قيل: واجبة عندنا(2). مثل الحج، وبه قال الشافعي في الجديد.

ب. وقال أهل العراق: إنها مسنونة.

5. أركان أفعال الحج: النية والإحرام، والوقوف بعرفة، والوقوف بالمشعر، وطواف الزيارة، والسعي بين الصفا والمروة، وأما الفرائض التي ليست بأركان فالتلبية، وركعتا الطواف، وطواف النساء، وركعتا الطواف له، وأما المسنونات من أفعال الحج فمذكورة في الكتب المصنفة فيه، وأركان فرائض العمرة: النية والإحرام وطواف الزيارة والسعي، وأما ما ليس بركن من فرائضها، فالتلبية، وركعتا الطواف، وطواف النساء، وركعتا الطواف له.

6. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: إن معناه إن منعكم خوف أو عدو أو مرض فامتنعتم لذلك، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطا، وهو المروي عن أئمتنا.

ب. الثاني: معناه إن منعكم حابس قاهر عن مالك.

7. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ فعليكم ما سهل من الهدي، أو فاهدوا ما تيسر من الهدي، إذا أردتم الإحلال:

أ. الهدي يكون على ثلاثة أنواع: جزور أو بقرة أو شاة وأيسرها شاة، وهو المروي عن علي وابن عباس والحسن وقتادة، وهو الصحيح.

ب. وروي عن ابن عمر وعائشة أنه ما كان من الإبل والبقر دون غيرهما.

8. ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ أي: لا تتحللوا من إحرامكم حتى يبلغ الهدي محله وينحر أو يذبح، واختلف في محل الهدي على قولين:

أ. الأول: إنه الحرم، فإذا ذبح به في يوم النحر، أحل، عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وعطاء.

ب. الثاني: إنه الموضع الذي يصد فيه، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نحر هديه بالحديبية، وأمر أصحابه ففعلوا مثل ذلك، وليست الحديبية من الحرم، عن مالك.

ج. على مذهبنا(2). فالأول حكم المحصور بالمرض، والثاني: حكم المحصور بالعدو، وإن كان الإحرام بالحج، فمحله منى يوم النحر، وإن كان الإحرام بالعمرة فمحله مكة.

9. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ أي: من مرض منكم مرضا يحتاج فيه إلى الحلق للمداواة، أو تأذى بهوام رأسه، أبيح له الحلق بشرط الفدية، وروى أصحابنا: أن هذه نزلت في انسان يعرف بكعب بن عجرة، وإنه كان قد قمل رأسه.

10. ﴿فَفِدْيَةٌ﴾ أي: فحلق لذلك العذر، فعليه فدية أي: بدل وجزاء يقوم مقام ذلك ﴿مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾، المروي عن أئمتنا أن الصيام ثلاثة أيام، والصدقة على ستة مساكين، وروي على عشرة مساكين، والنسك شاة، وهو مخير فيها.

11. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ معناه: فإذا أمنتم الموانع من العدو والمرض وكل مانع، ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ فعليه ما تيسر من الهدي، والتمتع عندنا هو الفرض اللازم لمن لم يكن من حاضري المسجد الحرام وحاضر المسجد الحرام هو من كان على اثني عشر ميلا من كل جانب إلى مكة، فمن كان خارجا عن هذا الحد فليس من الحاضرين.

12. صفة التمتع بالعمرة إلى الحج أن ينشئ الإحرام في أشهر الحج، ثم يدخل إلى مكة فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقصر، ويحل من إحرامه، ثم ينشئ إحراما آخر للحج من المسجد الحرام، ويخرج إلى عرفات، ثم يفيض إلى المشعر، ويأتي بأفعال الحج على ما هو مذكور في الكتب، وفي بعض ذلك خلاف بين الفقهاء.

13. الهدي واجب للتمتع بلا خلاف لظاهر التنزيل على خلاف في أنه نسك أو جبران، وعندنا أنه نسك.

14. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ أي: فمن لم يجد الهدي ولا ثمنه، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج، وعندنا أن هذه الأيام: يوم قبل يوم التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، وإن صام في أول العشر جاز ذلك رخصة، وإن صام يوم التروية ويوم عرفة، قضى يوما آخر بعد انقضاء أيام التشريق، وإن فاته صوم يوم التروية أيضا، صام الأيام الثلاثة بعد أيام التشريق متتابعات.

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾:

أ. قيل: أي: وسبعة أيام إذا رجعتم إلى بلادكم وأهاليكم، وبه قال قتادة وعطاء، وهو الصحيح عندنا.

ب. وقيل: معناه إذا رجعتم من منى، فصوموها في الطريق، عن مجاهد.

16. في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ أقوال:

أ. أحدها: إن معناه كاملة من الهدي إذا وقعت بدلا منه استكملت ثوابه، عن الحسن، وهو المروي عن أبي جعفر، واختاره الجبائي.

ب. ثانيها: إنه لإزالة الإبهام، لئلا يظن أن الواو بمعنى أو، فيكون كأنه قال فصيام ثلاثة أيام في الحج، أو سبعة إذا رجعتم، لأنه إذا استعمل أو بمعنى الواو، جاز أن يستعمل الواو بمعنى أو، كما قال: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ فالواو ههنا: بمعنى أو، فذكر ذلك لارتفاع اللبس، عن الزجاج وأبي القاسم البلخي.

ج. ثالثها: إنه إنما قال ﴿كَامِلَةً﴾ للتوكيد، كما قال جرير:

çثلاث، واثنتان، فهن خمس،...وسادسة تميل إلى تمامé

17. ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي: ما تقدم ذكره من التمتع بالعمرة إلى الحج، ليس لأهل مكة، ومن يجري مجراهم، وإنما هو لمن لم يكن من حاضري مكة، وهو من يكون بينه وبينها أكثر من اثني عشر ميلا من كل جانب.

18. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فيما أمركم به، ونهاكم عنه ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن عصاه.

19. قوله: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ موضع ما رفع، كأنه قال فعليه ما استيسر، ويجوز أن يكون موضعه نصبا، وتقديره فاهدوا ما استيسر، والرفع أولى لكثرة نظائره كقوله ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾، ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ﴾، ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾، وقوله: ﴿فِي الْحَجِّ﴾ يتعلق بالمصدر، وليس في موضع خبر، وهذا النحو قد جاء مرفوعا على تقدير إضمار خبر.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/518.

(2) يقصد الإمامية.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾، قال ابن فارس: الحجّ في اللغة: القصد، والاعتمار في الحجّ أصله: الزّيارة، قال ثعلب: الحجّ بفتح الحاء: المصدر، وبكسرها: الاسم، قال وربّما قال الفرّاء: هما لغتان.

2. ذكر ابن الأنباريّ في العمرة قولين:

أ. أحدهما: الزّيارة.

ب. الثاني: القصد.

3. في إتمامها أربعة أقوال:

أ. أحدها: أن معنى إتمامها: أن يفصل بينهما، فيأتي بالعمرة في غير أشهر الحجّ، قاله عمر بن الخطّاب، والحسن وعطاء.

ب. الثاني: أن يحرم الرجل من دويرة أهله، قاله عليّ بن أبي طالب، وطاووس وابن جبير.

ج. الثالث: أنه إذا شرع في أحدهما لم يفسخه حتى يتمّ، قاله ابن عباس.

د. الرابع: أنه فعل ما أمر الله فيهما، قاله مجاهد.

4. جمهور القرّاء على نصب (العمرة) بإيقاع الفعل عليها، وقرأ الأصمعيّ عن نافع والقزّاز عن أبي عمرو والكسائيّ عن أبي جعفر برفعها، وهي قراءة ابن مسعود وأبي رزين والحسن والشّعبيّ.

5. ممّن ذهب إلى أنّ العمرة واجبة، عليّ، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، وطاووس وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأحمد، والشّافعيّ، وروي عن ابن مسعود، وجابر، والشّعبيّ، وإبراهيم، وأبي حنيفة، ومالك، أنها سنّة وتطوّع‏.

6. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾، قال ابن قتيبة: أحصره المرض والعدو: إذا منعه من السّفر، ومنه هذه الآية، وحصره العدوّ: إذا ضيّق عليه، قال الزجّاج: يقال للرجل إذا منعه الخوف والمرض من التّصرّف قد أحصر فهو محصر، يقال للرجل إذا حبس: قد حصر، فهو محصور، وللعلماء في هذا الإحصار قولان:

أ. أحدهما: أنه لا يكون إلّا بالعدو، ولا يكون المريض محصرا، وهذا مذهب ابن عمر، وابن عباس، وأنس، ومالك، والليث، والشّافعيّ، وأحمد، ويدلّ عليه قوله: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾

ب. الثاني: أنه يكون بكلّ حابس من مرض أو عدوّ أو عذر، وهو قول عطاء، ومجاهد، وقتادة، وأبي حنيفة.

7. في الكلام اختصار وحذف، والمعنى: فإن أحصرتم دون تمام الحجّ والعمرة فحللتم؛ فعليكم ما استيسر من الهدي، ومثله: ﴿أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ﴾، تقديره: فحلق، ففدية.

8. الهدي: ما أهدي إلى البيت، وأصله: هديّ مشدد، فخفّف، قاله ابن قتيبة، وبالتشديد يقرأ الحسن ومجاهد.

9. في المراد ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أقوال:

أ. أحدها: أنه شاة، قاله عليّ بن أبي طالب وابن عباس والحسن وعطاء وابن جبير وإبراهيم وقتادة والضحّاك ومغيرة.

ب. الثاني: أنه ما تيسّر من الإبل والبقر لا غير، قاله ابن عمر وعائشة، والقاسم.

ج. الثالث: أنه على قدر الميسرة، رواه طاووس عن ابن عباس.

د. وروي عن الحسن وقتادة قالا: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسّه شاة.

هـ. وقال أحمد: الهدي من الأصناف الثلاثة، الإبل والبقر، والغنم، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ.

10. ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، قال ابن قتيبة: المحلّ: الموضع الذي يحلّ به نحره وهو من: حلّ يحلّ، وفي المحلّ قولان:

أ. أحدهما: أنه الحرم، قاله ابن مسعود، والحسن، وعطاء، وطاووس ومجاهد، وابن سيرين، والثّوريّ، وأبو حنيفة.

ب. الثاني: أنه الموضع الذي أحصر به فيذبحه ويحلّ، قاله مالك، والشّافعيّ، وأحمد.

11. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ﴾، هذا نزل على سبب: وهو أنّ كعب بن عجرة كثر قمل رأسه حتى تهافت على وجهه، فنزلت هذه الآية فيه، فكان يقول: فيّ أنزلت خاصّة.

12. اقتضى قوله: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، تحريم حلاق الشّعر، سواء وجد به الأذى، أو لم يجد، حتى نزل‏ ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ﴾، فاقتضى هذا إباحة حلق الشّعر عند الأذى مع الفدية، فصار ناسخا لتحريمه المتقدّم(2).

13. معنى الآية: فمن كان منكم ـ أي: من المحرمين، محصرا كان أو غير محصر ـ مريضا، واحتاج إلى لبس أو شيء يحظّره الإحرام، ففعله، أو به أذى من رأسه فحلق؛ ففدية من صيام.

14. في الصّيام قولان:

أ. أحدهما: أنه ثلاثة أيام، روي في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو قول الجمهور.

ب. الثاني: أنه صيام عشرة أيام، روي عن الحسن وعكرمة ونافع.

15. في الصّدقة قولان:

أ. أحدهما: إطعام ستة مساكين، روي في حديث كعب، وهو قول من قال الصّوم ثلاثة أيام.

ب. الثاني: أنها إطعام عشرة مساكين، وهو قول من أوجب صوم عشرة أيام.

16. النّسك: ذبح شاة، يقال: نسكت لله، أي: ذبحت له، وفي النّسك لغتان: ضمّ النون والسين، وبها قرأ الجمهور، وضمّ النون مع تسكين السين، وهي قراءة الحسن.

17. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾، أي: من العدوّ، إذ المرض لا تؤمن معاودته، وقال علقمة في آخرين: فإذا أمنتم من الخوف أو المرض، ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾، معناه: من بدأ بالعمرة في أشهر الحجّ، وأقام الحجّ من عامه ذلك؛ فعليه ما استيسر من الهدي، وهذا قول ابن عمر وابن عباس، وابن المسيّب، وعطاء، والضّحّاك، وقد سبق الكلام فيما استيسر من الهدي.

18. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾، قال الحسن: هي قبل التّروية بيوم والتّروية، وعرفة، وهذا قول عطاء، والشّعبيّ، وأبي العالية، وابن جبير، وطاووس وإبراهيم، وقد نقل عن عليّ عليه السّلام، وقد روي عن الحسن، وعطاء قالا: في أيّ العشر شاء صامهنّ، ونقل عن طاووس، ومجاهد، وعطاء، أنهم قالوا: في أيّ أشهر الحجّ شاء فليصمهنّ، ونقل عن ابن عمر أنّه قال من حين يحرم إلى يوم عرفة.

19. إن لم يجد الهدي، ولم يصم الثلاثة الأيام قبل يوم النّحر، فماذا يصنع؟

أ. قال عمر بن الخطّاب، وابن عباس، وابن جبير، وطاووس وإبراهيم: لا يجزيه إلّا الهدي ولا يصوم.

ب. وقال ابن عمر وعائشة: يصوم أيام منى، ورواه صالح عن أحمد، وهو قول مالك.

ج. وذهب آخرون إلى أنه لا يصوم أيام التّشريق، بل يصوم بعدهنّ، روي عن عليّ، ورواه المرّوذي عن أحمد، وهو قول الشّافعيّ‏.

20. إن وجد الهدي بعد الدخول في صوم الثلاثة الأيام:

أ. لم يلزمه الخروج منه، وهو قول مالك، والشّافعيّ.

ب. وقال أبو حنيفة: يلزمه الخروج، وعليه الهدي.

ج. وقال عطاء: إن صام يومين ثم أيسر؛ فعليه الهدي، وإن صام ثلاثة ثم أيسر، فليصم السّبعة، ولا هدي عليه‏.

21. في معنى قوله تعالى: ﴿فِي الْحَجِّ﴾، قولان:

أ. أحدهما: أنّ معناه: في أشهر الحجّ.

ب. الثاني: في زمن الإحرام بالحجّ.

22. في قوله تعالى: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾، قولان:

أ. أحدهما: إذا رجعتم إلى أمصاركم، قاله ابن عباس، والحسن، وأبو العالية، والشّعبيّ، وقتادة.

ب. الثاني: إذا رجعتم من حجّكم، وهو قول عطاء، وسعيد بن جبير، وأبي حنيفة، ومالك، قال الأثرم: قلت لأبي عبيد الله، يعني: أحمد بن حنبل: فصيام السّبعة الأيام إذا رجع متى يصومهنّ؟ أفي الطّريق، أم في أهله؟ قال كلّ ذلك قد تأوّله الناس، قيل لأبي عبد الله: ففرّق بينهنّ، فرخّص في ذلك‏.

23. في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾، خمسة أقوال:

أ. أحدها: أنّ معناه: كاملة في قيامها مقام الهدي، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، والحسن، قال القاضي أبو يعلى: وقد كان يجوز أن يظنّ ظانّ أنّ الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثّواب، فأعلمنا الله تعالى أنّ العشرة بكمالها هي‏ القائمة مقامه.

ب. الثاني: أنّ الواو قد تقوم مقام (أو) في مواضع، منها قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾، فأزال الله عزّ وجلّ احتمال التّخيير في هذه الآية بقوله: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾، وإلى هذا المعنى ذهب الزجّاج.

ج. الثالث: أنّ ذلك للتّوكيد، وأنشدوا للفرزدق:

çثلاث واثنتان فهنّ خمس‏...وسادسة تميل إلى شمام‏é

وقال آخر: (هلّا سألت جوع كندة يوم ولّوا أين أينا) وقال آخر: (كم نعمة كانت له كم كم وكم)‏، والقرآن نزل بلغة العرب، وهي تكرّر الشيء لتوكيده.

د. الرابع: أنّ معناه: تلك عشرة كاملة في الفصل، وإن كانت الثلاثة في الحجّ، والسبعة بعده، لئلّا يسبق إلى وهم أحد أنّ السبعة دون الثلاثة، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ، و.

هـ. الخامس: أنها لفظة خبر ومعناها: الأمر، فتقديره: تلك عشرة فأكملوها.

24. في المشار إليه بذلك في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، قولان:

أ. أحدهما: أنه التّمتّع بالعمرة إلى الحجّ.

ب. الثاني: أنه الجزاء بالنّسك والصّيام.

25. اللام من (لمن) في هذا القول بمعنى: (على)

26. اختلف في حاضري المسجد الحرام:

أ. قال ابن عباس، وطاووس ومجاهد: هم أهل الحرم.

ب. وقال عطاء: من كان منزله دون المواقيت.

27. قال ابن الأنباريّ: معنى الآية: إنّ هذا الفرض لمن كان من الغرباء، وإنما ذكر أهله، وهو المراد بالحضور، لأنّ الغالب على الرجل أن يسكن حيث أهله ساكنون.

__________

(1) زاد المسير: 1/159.

(2) الكلام هنا لشيخه عليّ بن عبيد الله.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الْحَجِّ﴾ في اللغة عبارة عن القصد وإنما يقال: حج فلان الشيء إذا قصده مرة بعد أخرى، وأدام الاختلاف إليه والحجة بكسر الحاء السنة، وإنما قيل لها حجة لأن الناس يحجون في كل سنة، وأما في الشرع فهو اسم لأفعال مخصوصة منها أركان ومنها أبعاض ومنها هيئات، فالأركان ما لا يحصل التحلل حتى يأتي به والأبعاض هي الواجبات التي إذا ترك شيء يجبر بالدم، والهيئات ما لا يجب الدم على تركها.

2. الأركان عندنا(2). خمسة: الإحرام والوقوف بعرفة والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وفي حلق الرأس أو تقصيره قولان: أصحهما أنه نسك لا يحصل التحلل إلا به، وأما الأبعاض فهي الإحرام من الميقات والمقام بعرفة إلى الغروب في قول والبيتوتة بمزدلفة ليلة النحر في قول ورمي جمرة العقبة والبيتوتة بمنى ليالي التشريق في قول ورمي أيامها، أما سائر أعمال الحج فهي سنة، أما أركان العمرة فهي أربعة: الإحرام، والطواف، والسعي، وفي الحلق قولان، ثم المعتمر بعد ما فرغ من السعي فإن كان معه هدي ذبحه ثم حلق أو قصر، ولا يتوقف التحلل على ذبح الهدي.

3. ﴿وَأَتِمُّوا﴾ أمر بالإتمام، وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط بالدخول فيه:

أ. ذهب أصحابنا إلى أنه مطلق، والمعنى: افعلوا الحج والعمرة على نعت الكمال والتمام والقول.

ب. الثاني: وهو قول أبي حنيفة: إن هذا الأمر مشروط، والمعنى أن من شرع فيه فليتمه قالوا: ومن الجائز أن لا يكون الدخول في الشيء واجبا إلا أن بعد الدخول فيه يكون إتمامه واجبا.

4. فائدة هذا الخلاف أن العمرة واجبة عند أصحابنا، وغير واجبة عن أبي حنيفة.

5. احتج القائلون بوجوب العمرة بوجوه:

أ. الأولى: قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ وجه الاستدلال به أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملا تاما، ويحتمل أن يراد به إذا شرعتم في الفعل فأتموه، وإذا ثبت الاحتمال وجب أن يكون المراد من هذا اللفظ هو ذاك، أما بيان الاحتمال فيدل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: 124] أي فعلهن على سبيل التمام والكمال، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187] أي فافعلوا الصيام تاما إلى الليل، وحمل اللفظ على هذا أولى من قول من قال المراد فأشرعوا في الصيام ثم أتموه، لأن على هذا التقدير يحتاج إلى الإضمار، وعلى التقدير الذي ذكرناه لا يحتاج إليه فثبت أن قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه الإتيان به على نعت الكمال والتمام فوجب حمله عليه، أقصى ما في الباب أنه يحتمل أيضا أن يكون المراد منه أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه، إلا أن حمل اللفظ على الوجه الأول أولى، ويدل عليه وجوه:

الأول: أن حمل الآية على الوجه الثاني يقتضي أن يكون هذا الأمر مشروطا، ويكون التقدير: أتموا الحج والعمرة لله إن شرعتم فيهما، وعلى التأويل الأول الذي نصرناه لا يحتاج إلى إضمار هذا الشرط، فكان ذلك أولى.

الثاني: أن أهل التفسير ذكروا أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الحج فحملها على إيجاب الحج أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع فيه.

الثالث: قرأ بعضهم وأقيموا الحج والعمرة لله وهذا وإن كان قراءة شاذة جارية مجرى خبر الواحد لكنه بالاتفاق صالح لترجيح تأويل على تأويل.

الرابع: أن الوجه الذي نصرناه يفيد وجوب الحج والعمرة، ويفيد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما، والتأويل الذي ذكرتم لا يفيد إلا أصل الوجوب، فكان الذي نصرناه أكبر فائدة، فكان حمل كلام الله عليه أولى.

الخامس: أن الباب باب العبادة فكان الاحتياط فيه أولى، والقول بإيجاب الحج والعمرة معا أقرب إلى الاحتياط، فوجب حمل اللفظ عليه.

السادس: هب أنا نحمل اللفظ على وجوب الإتمام، لكنا نقول: اللفظ دل على وجوب الإتمام جزما، وظاهر الأمر للوجوب فكان الإتمام واجبا جزما والإتمام مسبوق بالشروع، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب، فيلزم أن يكون الشروع واجبا في الحج وفي العمرة.

السابع: روي عن ابن عباس أنّه قال والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله، أي إن العمرة لقرينة الحج في الأمر في كتاب الله يعني في هذه الآية فكان كقوله: ﴿أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ﴾ [البقرة: 43] فهذا تمام تقرير هذه الحجة.

ب. الثانية: في وجوب العمرة أن قوله تعالى: ﴿يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾ [التوبة: 3] يدل على وجوب حج أصغر على ما عليه حقيقة أفعل، وما ذاك إلا العمرة بالاتفاق، وإذا ثبت أن العمرة حج، وجب أن تكون واجبة لقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ﴾ ولقوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97]

ج. الثالثة: في المسألة أحاديث:

منها ما أورده ابن الجوزي في المتفق بين الصحيحين‏ أن جبريل‏ عليه السلام سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الإسلام، فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج وتعتمر.

وروى النعمان بن سالم عن عمر بن أوس عن أبي رزين‏ أنه سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إن أبي شيخ كفي أدرك الإسلام، ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: حج عن أبيك واعتمر، فأمر بهما، والأمر للوجوب.

ومنها ما روى ابن سيرين عن زيد بن ثابت أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (الحج والعمرة فرضان لا يضرك بأيهما بدأت)

ومنها ما روت عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين، قالت: قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة.

د. الرابعة: في وجوب العمرة، قال الشافعي رضي الله عنه: اعتمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل الحج، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب،

6. سؤال وإشكال: قرأ علي وابن مسعود والشعبي‏ ﴿وَالْعُمْرَةَ لله﴾ بالرفع وهذا يدل على أنهم قصدوا إخراج العمرة عن حكم الحج في الوجوب، والجواب: هذا مدفوع من وجوه:

أ. الأول: أن هذه قراءة شاذة فلا تعارض القراءة المتواترة.

ب. الثاني: أن فيها ضعفا في العربية، لأنها تقتضي عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية.

ج. الثالث: أن قوله: ﴿وَالْعُمْرَةَ لله﴾ معناه أن العمرة عبادة الله، ومجرد كونها عبادة الله لا ينافي وجوبها، وإلا وقع التعارض بين مدلول القراءتين، وهو غير جائز.

د. الرابع: أنه لما كان قوله: ﴿وَالْعُمْرَةَ لله﴾ معناه: والعمرة عبادة الله، وجب أن يكون العمرة مأمورا بها لقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾ [البينة: 5] والأمر للوجوب، وحينئذ يحصل المقصود.

7. احتج القائلون بأن العمرة ليست واجبة ببعض الأحاديث والآثار، منها:

أ. قصد الأعرابي الذي سأل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، فقال الأعرابي: هل على غير هذا؟ قال لا إلا أن تطوع، فقال الأعرابي: لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: أفلح الأعرابي إن صدق.

ب. وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)

ج. وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صلوا خمسكم وزكوا أموالكم وحجوا بيتكم تدخلوا جنة ربكم)

د. فهذه أخبار مشهورة كالمتواترة فلا يجوز الزيادة عليها ولا ردها، وعن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ أنه سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا؟ فقال: لا وإن تعتمر خير لك.

هـ. وعن معاوية الضرير عن أبي صالح الحنفي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (الحج جهاد والعمرة تطوع)

8. أجاب القائلون بأن العمرة واجبة من وجوه:

أ. أحدها: أن ما ذكرتم أخبار آحاد فلا تعارض القرآن.

ب. ثانيها: لعل العمرة ما كانت واجبة عندما ذكر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم تلك الأحاديث، ثم نزل بعدها قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ وهذا هو الأقرب، لأن هذه الآية إنما نزلت في السنة السابعة من الهجرة.

ج. ثالثها: أن قصة الأعرابي مشتملة على ذكر الحج وليس فيها بيان تفصيل الحج، وقد بينا أن العمرة حج لأنها هي الحج الأصغر، فلا تكون هي منافية لوجوب العمرة، وأما حديث محمد بن المنكدر فقالوا: رواية حجاج بن أرطاة وهو ضعيف.

9. الحج على ثلاثة أقسام: الإفراد، والقران، والتمتع:

أ. فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل، أو يعتمر قبل أشهر الحج، ثم يحج في تلك السنة.

ب. والقران أن يحرم بالحج والعمرة معا في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم قبل الطواف أدخل عليها الحج يصير قرانا.

ج. التمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بأعمالها ثم يحج في هذه السنة، وإنما سمي تمتعا لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل عن العمرة قبل أن يحرم بالحج.

10. اختلف الناس في الأفضل من هذه الثلاثة:

أ. قال الشافعي: أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران.

ب. وقال في اختلاف الحديث التمتع أفضل من الإفراد وبه قال مالك.

ج. وقال أبو حنيفة: القران أفضل، ثم الإفراد، ثم التمتع، وهو قول المزني وأبي إسحاق والمروزي‏ من أصحابنا.

د. وقال أبو يوسف ومحمد: القران أفضل، ثم التمتع، ثم الإفراد.

11. احتج من ذكر أن الإفراد أفضل من وجوه:

أ. الأول: التمسك بقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾

ب. الثاني: أن الإفراد يقتضي كونه آتيا بالحج مرة، ثم بالعمرة بعد ذلك، فتكون الأعمال الشاقة في الأفراد أكثر فوجب أن يكون أفضل‏ لقوله عليه السلام: (أفضل الأعمال أحمزها)، أي أشقها.

ج. الثالث: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مفردا فوجب أن يكون الإفراد أفضل، والصحابة اختلفت رواياتهم في هذا المعنى، فروى مسلم في صحيحة عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أفرد بالحج، وروى جابر وابن عمر أنه أفرد، وأما أنس فقد روي عنه أنّه قال كنت واقفا عند جران ناقة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان لعابها يسيل على كتفي، فسمعته يقول (لبيك بحج وعمرة معا)، ورجح الشافعي رواية عائشة وجابر وابن عمر على رواية أنس من وجوه:

أحدها: بحال الرواة، أما عائشة فلأنها كانت عالمة، ومع علمها كانت أشد الناس التصاقا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأشد الناس وقوفا على أحواله، وأما جابر فإنه كان أقدم صحبة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من أنس، وإن إنسا كان صغيرا في ذلك الوقت قبل العلم، وأما ابن عمر فإنه كان مع فقهه أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من غيره، لأن أخته حفصة كانت زوجة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

الثاني: أن عدم القران متأكد بالاستصحاب.

الثالث: أن الإفراد يقتضي تكثير العبادة، والقران يقتضي تقليلها، فكان إلحاق الإفراد بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أولى، وإذا ثبت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مفردا وجب أن يكون الإفراد أفضل لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يختار الأفضل لنفسه، ولأنه‏ قال (خذوا عني مناسككم)، أي تعلموا مني.

الرابع: أن الإفراد يقتضي تكثير العبادة، والقران يقتضي تقليلها، فكان الأول أولى، لأن المقصود من خلق الجن والإنس هو العبادة، وكل ما كان أفضى إلى تكثير كان أفضل.

12. استدل القائلون بأن الإفراد أفضل بقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ من ثلاثة أوجه:

أ. الأول: أن الآية اقتضت عطف العمرة على الحج، والعطف يستدعي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، والمغايرة لا تحصل إلا عند الإفراد، فأما عند القران فالموجود شيء واحد، وهو حج وعمرة وذلك مانع من صحة العطف.

ب. الثاني: قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ يقتضي الإفراد، بدليل أنه تعالى قال ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ والقارن يلزمه هديان عند الحصر، وأيضا أنه تعالى أوجب على الخلق عند الأداء فدية واحدة، والقارن يلزمه فديتان عند الحصر.

ج. الثالث: هذه الآية تدل على وجوب الإتمام، والإتمام لا يحصل إلا عند الإفراد ويدل عليه وجهان:

الأول: أن السفر مقصود في الحج، بدليل أن من أوصى بأن يحج عنه فإنه يحج من وطنه، ولولا أن السفر مقصود في الحج لكان يحج عنه من أدنى المواقيت، ويدل عليه أيضا أنهم قالوا لو نذر أن يحج ماشيا وحج راكبا يلزمه دم، فثبت أن السفر مقصود والقران يقتضي تقليل السفر، لأن بسببه يصير السفران سفرا واحدا، فثبت أن الإتمام لا يحصل إلا بالأفراد.

الثاني: أن الحج لا معنى له إلا زيارة بقاع مكرمة، ومشاهد مشرفة، والحاج زائر الله، والله تعالى مزوره، ولا شك أنه كلما كانت الزيارة والخدمة أكثر كان موقعها عند المخدوم أعظم، وعند القران تنقلب الزيارتان زيارة واحدة، بل الحق أن جملة أنواع الطاعات في الحج وفي العمرة تكرر عند الإفراد، وتصير واحدة عند القران، فثبت أن الإفراد أقرب إلى التمام، فكان الإفراد إن لم يكن واجبا عليكم بحكم هذه الآية فلا أقل من كونه أفضل.

13. استدل القائلون بأن القران أفضل بوجوه:

أ. الحجة الأولى: التمسك بقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ وهذا اللفظ يحتمل أن يكون المراد إيجاب كل واحد منهما، أو يكون المراد منه إيجاب الجمع بينهما على سبيل التمام، فلو حملناه على الأول لا يفيد الثاني، ولو حملناه على الثاني أفاد الأول، فكان الثاني أكثر فائدة، فوجب حمل اللفظ عليه، لأن الأولى حمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة.

ب. الحجة الثانية: أن القران جمع بين النسكين فوجب أن يكون أفضل من الإتيان بنسك واحد.

ج. الحجة الثالثة: أن في القران مسارعة إلى التسكين وفي الإفراد ترك مسارعة إلى أحد التسكين فوجب أن يكون القران أفضل لقوله: ﴿وَسَارِعُوا﴾ [آل عمران: 133]

14. رد القائلون بأن الإفراد أفضل من القران على هذه الوجوه كما يلي:

أ. عن الأول: أنا بينا أن هذه الآية تدل من ثلاثة أوجه دلالة ما هو أكثر فائدة على الإفراد، وأما ما ذكرتموه فمجرد حسن ظن حيث قلتم: حمل اللفظ على ما هو أكثر فائدة أولى وإذا كان كذلك كان الترجيح لقولنا.

ب. عن الثاني والثالث: أن كل ما يفعله القارن يفعله المفرد أيضا، إلا أن القران كان حيلة في إسقاط الطاعة فينتهي الأمر فيه أن يكون مرخصا فيه فأما أن يكون أفضل فلا، وبالجملة فالشافعي رضي الله عنه لا يقول إن الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة لكنه يقول: من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها فمجموع هذين الأمرين أفضل من الإتيان بالحجة المقرونة.

15. اختلف في معنى الإتمام في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ على وجوه:

أ. أحدها: روي عن علي وابن مسعود أن إتمامهما أن يحرم من دويرة أهله‏.

ب. ثانيها: قال أبو مسلم: (المعنى أن من نوى الحج والعمرة لله وجب عليه الإتمام، ويدل على صحة هذا التأويل أن هذه الآية إنما نزلت بعد أن منع الكفار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في السنة الماضية عن الحج والعمرة فالله تعالى أمر رسوله في هذه الآية أن لا يرجع حتى يتم هذا الفرض، ويحصل من هذا التأويل فائدة فقهية وهي أن تطوع الحج والعمرة كفرضيهما في وجوب الإتمام)

ج. ثالثها: قال الأصم: إن الله تعالى فرض الحج والعمرة ثم أمر عباده أن يتموا الآداب المعتبرة، وقد ذكر أبو حامد الغزالي في كتاب الأحياء ما يتعلق بهذا الباب فقال: الأمور المعتبرة قبل الخروج إلى الإحرام ثمانية:

الأول: في المال فينبغي أن يبدأ بالتوبة، ورد المظالم، وقضاء الديون، وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع، ويرد ما عنده من الودائع، ويستصحب من المال الطيب الحلال ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير بل على وجه يمكنه من التوسع في الزاد والرفق بالفقراء، ويتصدق بشيء قبل خروجه، ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل أو يكتريها، فإن اكتراها فليظهر للمكاري كل ما يحصل رضاه فيه.

الثاني: في الرفيق فينبغي أن يلتمس رفيقا صالحا محبا للخير، معينا عليه، إن نسي ذكره، وإن ذكر ساعده، وإن جبن شجعه، وإن عجز قواه وإن ضاق صدره صبره، وأما الاخوان والرفقاء المقيمون فيودعهم، ويلتمس أدعيتهم، فإن الله تعالى جعل في دعائهم خيرا، والسنة في الوداع أن يقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك.

الثالث: في الخروج من الدار، فإذا هم بالخروج صلى ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: 1] وفي الثانية الإخلاص وبعد الفراغ يتضرع إلى الله بالإخلاص.

الرابع: إذا حصل على باب الدار قال بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، وكلما كانت الدعوات أزيد كانت أولى.

الخامس: في الركوب، فإذا ركب الراحلة قال بسم الله وبالله والله أكبر، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن، سبحان الله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون.

السادس: في النزول، والسنة أن يكون أكثر سيره بالليل، ولا ينزل حتى يحمى النهار، وإذا نزل صلى ركعتين ودعا الله كثيرا.

السابع: إن قصده عدو أو سبع في ليل أو نهار، فليقرأ آية الكرسي، وشهد الله، والإخلاص، والمعوذتين، ويقول: تحصنت بالله العظيم، واستعنت بالحي الذي لا يموت، الثامنة: مهما علا شرفا من الأرض في الطريق، فيستحب أن يكبر ثلاثا.

التاسع: أن لا يكون هذا السفر مشوبا بشيء من أثر الأغراض العاجلة كالتجارة وغيرها.

العاشر: أن يصون الإنسان لسانه عن الرفث والفسوق والجدال، ثم بعد الإتيان بهذه المقدمات، يأتي بجميع أركان الحج على الوجه الأصح الأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة، ويكون غرضه في كل هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى، فقوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ﴾ كلمة شاملة جامعة لهذه المعاني، فإذا أتى العبد بالحج على هذا الوجه كان متبعا ملة إبراهيم حيث قال تعالى‏ ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة:

د. الرابع: أن المراد: أفردوا كل واحد منهما بسفر وهذا تأويل من قال بالإفراد، وقد بيناه بالدليل، وهذا التأويل يروي عن علي بن أبي طالب، وقد يروى مرفوعا عن أبي هريرة، وكان عمر يترك القران والتمتع، ويذكر أن ذلك أتم للحج والعمرة وأن يعتمر في غير شهور الحج، فإن الله تعالى يقول: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: 197] وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال فرقوا بين حجكم وعمرتكم.

16. قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو عامر وأبو بكر عن عاصم‏ ﴿الْحَجِّ﴾ بفتح الحاء في كل القرآن وهي لغة الحجاز، وقرأ حمزة والكسائي وحفص، عن عاصم بالكسر في آل عمران، قال الكسائي: وهما لغتان بمعنى واحد، كرطل ورطل، وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم.

17. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ قال أحمد بن يحيى: أصل الحصر والإحصار: الحبس ومنه يقال للذي لا يبوح بسره: حصر، لأنه حبس نفسه عن البوح والحصر احتباس الغائط والحصير الملك لأنه كالمحبوس بين الحجاب وفي شعر لبيد: (جن لدي باب الحصير قيام)، والحصير معروف سمي به لانضمام بعض أجزائه إلى بعض تشبيها باحتباس الشيء مع غيره.

18. اتفقوا على أن لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه، أما لفظ الإحصار فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال:

أ. الأول: وهو اختيار أبي عبيدة وابن السكيت والزجاج وابن قتيبة وأكثر أهل اللغة أنه مختص بالمرض، قال ابن السكيت: يقال أحصره المرض إذا منعه من السفر وقال‏ ثعلب في فصيح الكلام: أحصر بالمرض وحصر بالعدو.

ب. الثاني: أن لفظ الإحصار يفيد الحبس والمنع، سواء كان بسبب العدو أو بسبب المرض وهو قول الفراء.

ج. الثالث: أنه مختص بالمنع الحاصل من جهة العدو، وهو قول الشافعي، وهو المروي عن ابن عباس وابن عمر، فإنهما قالا: لا حصر إلا حصر العدو، وأكثر أهل اللغة يردون هذا القول على الشافعي.

19. فائدة هذا البحث تظهر في مسألة فقهية، وهي أنهم اتفقوا على أن حكم الإحصار عند حبس العدو ثابت، وهل يثبت بسبب المرض وسائر الموانع؟

أ. قال أبو حنيفة: يثبت، وحجته ظاهرة على مذهب أهل اللغة وذلك لأن أهل اللغة رجلان:

أحدهما: الذين قالوا: الإحصار مختص بالحبس الحاصل بسبب المرض فقط، وعلى هذا المذهب تكون هذه الآية نصا صريحا في أن إحصار المرض يفيد هذا الحكم.

الثاني: الذين قالوا الإحصار اسم لمطلق الحبس سواء كان حاصلا بسبب المرض أو بسبب العدو، وعلى هذا القول حجة أبي حنيفة تكون ظاهرة أيضا، لأن الله تعالى علق الحكم على مسمى الإحصار، فوجب أن يكون الحكم ثابتا عند حصول الإحصار سواء حصل بالعدو أو بالمرض.

أما على القول الثالث: وهو أن الإحصار اسم للمنع الحاصل بالعدو، فهذا القول باطل باتفاق أهل اللغة وبتقدير ثبوته فنحن نقيس المرض على العدو بجامع دفع الحرج وهذا قياس جلي ظاهر فهذا تقرير قول أبي حنيفة وهو ظاهر قوي.

ب. وقال الشافعي: لا يثبت، وتقرير مذهبه هو أنا ندعي أن المراد بالإحصار في هذه الآية منع العدو فقط، والروايات المنقولة عن أهل اللغة معارضة بالروايات المنقولة عن ابن عباس وابن عمر، ولا شك أن قولهما أولى لتقدمهما على هؤلاء الأدنى في معرفة اللغة وفي معرفة تفسير القرآن، ثم إنا بعد ذلك نؤكد هذا القول بوجوه من الدلائل:

الحجة الأولى: أن الإحصار إفعال من الحصر والأفعال تارة يجيء بمعنى التعدية نحو: ذهب زيد وأذهبته أنا، ويجيء بمعنى صار ذا كذا نحو: أغد البعير إذا صار ذا غدة، وأجرب الرجل إذا صار ذا أبل جربى ويجيء بمعنى وجدته بصفة كذا نحو: أحمدت الرجل أي وجدته محمودا والإحصار لا يمكن أن يكون للتعدية، فوجب إما حمله على الصيرورة أو على الوجدان والمعنى: أنهم صاروا محصورين أو وجدوا محصورين، ثم إن أهل اللغة اتفقوا على أن المحصور هو الممنوع بالعدو لا بالمرض، فوجب أن يكون معنى الإحصار هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدو، أو وجدوا ممنوعين بالعدو، وذلك يؤكد مذهبنا.

الحجة الثانية: أن الحصر عبارة عن المنع وإنما يقال للإنسان إنه ممنوع من فعله ومحبوس عن مراده، إذا كان قادرا عن ذلك الفعل متمكنا منه، ثم إنه منعه مانع عنه، والقدرة عبارة عن الكيفية الحاصلة بسبب اعتدال المزاج وسلامة الأعضاء، وذلك مفقود في حق المريض فهو غير قادر ألبتة على الفعل، فيستحيل الحكم عليه بأنه ممنوع، لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضي، أما إذا كان ممنوعا بالعدو فههنا القدرة على الفعل حاصلة، إلا أنه تعذر الفعل لأجل مدافعة العدو، فصح هاهنا أن يقال إنه ممنوع من الفعل، فثبت أن لفظة الإحصار حقيقة في العدو، ولا يمكن أن تكون حقيقة في المرض.

الحجة الثالثة: أن معنى قوله: ﴿أُحْصِرْتُمْ﴾ أي حبستم ومنعتم والحبس لا بد له من حابس، والمنع لا بد له من مانع، ويمتنع وصف المرض بكونه حابسا ومانعا، لأن الحبس والمنع فعل، وإضافة الفعل إلى المرض محال عقلا، لأن المرض عرض لا يبقى زمانين، فكيف يكون فاعلا وحابسا ومانعا، أما وصف العدو بأنه حابس ومانع، فوصف حقيقي، وحمل الكلام على حقيقته أولى من حمله على مجازه.

الحجة الرابعة: أن الإحصار مشتق من الحصر ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض، فلفظ الإحصار وجب أن يكون خاليا عن الاشعار بالمرض قياسا على جميع الألفاظ المشتقة.

الحجة الخامسة: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ فعطف عليه المريض، فلو كان المحصر هو المريض أو من يكون المرض داخلا فيه، لكان هذا عطفا للشيء على نفسه، فإن قيل: إنه خص هذا المرض بالذكر لأن له حكما خاصا، وهو حلق الرأس، فصار تقدير الآية إن منعتم بمرض تحللتم بدم، وإن تأذى رأسكم بمرض حلقتم وكفرتم، قلنا: هذا وإن كان حسنا لهذا الغرض، إلا أنه مع ذلك يلزم عطف الشيء على نفسه، أما إذا لم يكن المحصر مفسرا بالمريض، لم يلزم عطف الشيء على نفسه، فكان حمل المحصر على غير المريض يوجب خلو الكلام عن هذا الاستدلال، فكان ذلك أولى.

الحجة السادسة: قال تعالى في آخر الآية: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدو لا في المرض، فإنه يقال في المرض: شفي وعفي ولا يقال أمن، فإن قيل: لا نسلم أن لفظ الأمن لا يستعمل إلا في الخوف، فإنه يقال: أمن المريض من الهلاك وأيضا خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها، قلنا: لفظ الأمن إذا كان مطلقا غير مقيد فإنه لا يفيد إلا الأمن من العدو، وقوله خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها، قلنا: بل يوجب لأن قوله: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ ليس فيه بيان أنه حصل الأمن مما ذا، فلا بد وأن يكون المراد حصول الأمن من شيء تقدم ذكره، والذي تقدم ذكره هو الإحصار، فصار التقدير: فإذا أمنتم من ذلك الإحصار، ولما ثبت أن لفظ الأمن لا يطلق إلا في حق العدو، وجب أن يكون المراد من هذا الإحصار منع العدو، فثبت بهذه الدلائل أن الإحصار المذكور في الآية هو منع العدو فقط.

20. قول من قال إنه منع المرض صاحبه خاصة فهو باطل بهذه الدلائل، وفيه دليل آخر، وهو أن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية أن الكفار أحصروا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحديبية، والناس وإن اختلفوا في أن الآية النازلة في سبب هل تتناول غير ذلك السبب؟ إلا أنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجا عنه، فلو كان الإحصار اسما لمنع المرض، لكان سبب نزول الآية خارجا عنها، وذلك باطل بالإجماع، فثبت بما ذكرنا أن الإحصار في هذه الآية عبارة عن منع العدو، وإذا ثبت هذا فنقول: لا يمكن قياس منع المرض عليه، وبيانه من وجهين:

أ. الأول: أن كلمة: إن، شرط عند أهل اللغة، وحكم الشرط انتفاء المشروط عن انتفائه ظاهرا، فهذا يقتضي أن لا يثبت الحكم إلا في الإحصار الذي دلت الآية عليه، فلو أثبتا هذا الحكم في غيره قياسا كان ذلك نسخا للنص بالقياس، وهو غير جائز.

ب. الثاني: أن الإحرام شرع لازم لا يحتمل النسخ قصدا، ألا ترى أنه إذا جامع امرأته حتى فسد حجه لم يخرج من إحرامه، وكذلك لو فاته الحج حتى لزمه القضاء والمرض ليس كالعدو، ولأن المريض لا يستفيد بتحلله ورجوعه أمنا من مرضه، أما المحصر بالعدو فإنه خائف من القتل إن أقام، فإذا رجع فقد تخلص من خوف القتل.

21. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ قال القفال: في الآية إضمار، والتقدير: فحللتم فما استيسر، وهو كقوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184] أي فأفطر فعدة، وفيها إضمار آخر، وذلك لأن قوله: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ كلام غير تام لا بد فيه من إضمار، ثم فيه احتمالان:

أ. أحدهما: أن يقال: محل، ما: رفع، والتقدير: فواجب عليكم ما استيسر.

ب. الثاني: قال الفراء: لو نصبت على معنى: اهدوا ما تيسر كان صوابا، وأكثر ما جاء في القرآن من أشباهه مرفوع.

22. ﴿اسْتَيْسَرَ﴾ بمعنى تيسر، ومثله: استعظم، أي تعظم واستكبر: أي تكبر، واستصعب: أي تصعب.

23. ﴿الْهَدْيَ﴾ جمع هدية، كما تقول: تمر وتمرة، قال أحمد بن يحيى: أهل الحجاز يخففون‏ ﴿الْهَدْيَ﴾ وتميم تثقله، فيقولون: هدية، وهدي ومطية، ومطي، قال الشاعر:

çحلفت برب مكة والمصلى‏...وأعناق الهدى مقلدات‏é

ومعنى الهدي: ما يهدى إلى بيت الله عز وجل تقربا إليه، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره تقربا إليه، ثم قال علي وابن عباس والحسن وقتادة: الهدي أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس.

24. المحصر إذا كان عالما بالهدي، هل له بدل ينتقل إليه؟ للشافعي فيه قولان:

أ. أحدهما: لا بدل له ويكون الهدي في ذمته أبدا، وبه قال أبو حنيفة، والحجة في أنه تعالى أوجب على المحصر الهدي على التعيين، وما أثبت له بدلا.

ب. الثاني: أن له بدلا ينتقل إليه، وهو قول أحمد.

25. إذا قلنا بالقول الأول: هل له أن يتحلل في الحال أو يقيم على إحرامه فيه قولان:

أ. أحدهما: أنه يقيم على إحرامه حتى يجده، وهو قول أبي حنيفة ويدل عليه ظاهر الآية.

ب. الثاني: أن يتحلل في الحال للمشقة، وهو الأصح، فإذا قلنا بالقول الثاني ففيه اختلافات كثيرة وأقربها أن يقال: يقوم الهدي بالدراهم ويشتري بها طعام ويؤدي، وإنما قلنا ذلك لأنه أقرب إلى الهدي.

26. المحصر إذا أراد التحلل وذبح، وجب أن ينوي التحلل عند الذبح، ولا يتحلل ألبتة قبل الذبح.

27. اختلفوا في العمرة فأكثر الفقهاء قالوا حكمها في الإحصار كحكم الحج وعن ابن سيرين أنه لا إحصار فيه لأنه غير مؤقت، وهذا باطل لأن قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ مذكور عقيب الحج والعمرة، فكان عائدا إليهما.

28. ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ في الآية حذف لأن الرجل لا يتحلل ببلوغ الهدي محله بل لا يحصل التحلل إلا بالنحر فتقدير الآية: حتى يبلغ الهدي محله وينحر فإذا نحر فاحلقوا، واختلفوا:

أ. قال الشافعي: يجوز إراقة دم الإحصار لا في الحرم، بل حيث حبس.

ب. وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك إلا في الحرم.

29. منشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية:

أ. قال الشافعي: المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، وحجة الشافعي من وجوه:

الأول: إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أحصر بالحديبية ونحر بها، والحديبية ليست من الحرم، قال أصحاب أبي حنيفة إنه إنما أحصر في طرف الحديبية الذي هو أسفل مكة، وهو من الحرم، قال الواقدي: الحديبية على طرف الحرم على تسعة أميال من مكة، أجاب القفال رحمة الله في (تفسيره) عن هذا السؤال فقال الدليل على أن نحر ذلك الهدي ما وقع في الحرم قوله تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: 25] فبين تعالى أن الكفار منعوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن إبلاغ الهدي محله الذي كان يريده فدل هذا على أنهم نحروا ذلك الهدي في غير الحرم.

الثاني: أن المحصر سواء كان في الحل أو في الحرم فهو مأمور بنحر الهدي فوجب أن يتمكن في الحل والحرم من نحر الهدي، بيان المقام الأول: أن قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ يتناول كل من كان محصرا سواء كان في الحل أو في الحرم، وقوله بعد ذلك: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ معناه فما استيسر من الهدي نحره واجب، أو معناه فانحروا ما استيسر من الهدي، وعلى التقديرين ثبت أن هذه الآية دالة على أن نحر الهدي واجب على المحصر سواء كان محصرا في الحل أو في الحرم، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له الذبح في الحل والحرم، لأن المكلف بالشيء أول درجاته أن يجوز له فعل المأمور به، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المحصر قادرا على إراقة الدم حيث أحصر.

الثالث: أن الله سبحانه إنما مكن المحصر من التحلل بالذبح ليتمكن من تخليص النفس عن خوف العدو في الحال، فلو لم يجز النحر إلا في الحرم وما لم يحصل النحر لا يحصل التحلل بدلالة الآية، فعلى هذا التقدير وجب أن لا يحصل التحلل في الحال، وذلك يناقض ما هو المقصود من شرع هذا الحكم، ولأن الموصل للنحر إلى الحرم إن كان هو فقد نفى الخوف، وكيف يؤمن بهذا الفعل من قيام الخوف وإن كان غيره فقد لا يجد ذلك الغير فماذا يفعل؟

ب. قال أبو حنيفة: إنه اسم للمكان، وحجة أبي حنيفة من وجوه:

أ. الأول: أن المحل بكسر عين الفعل عبارة عن المكان، كالمسجد والمجلس فقوله: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ يدل على أنه غير بالغ في الحال إلى مكان الحل، وهو عندكم بالغ محله في الحال، جوابه: المحل عبارة عن الزمان وأن من المشهور إن محل الدين هو وقت وجوبه.

ب. الثاني: هب أن لفظ المحل يحتمل المكان والزمان إلا أن الله تعالى أزال هذا الاحتمال بقوله‏ ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 33] وفي قوله: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: 95] ولا شك أن المراد منه الحرم فإن البيت عينه لا يراق فيه الدماء، وقد أجاب الشافعية على هذا بأن كل ما وجب على المحرم في ماله من بدنة وجزاء هدي فلا يجزي إلا في الحرم لمساكين أهله إلا في موضعين:

أحدهما: من ساق هديا فعطف في طريقه ذبحه وخلى بينه وبين المساكين.

الثاني: دم المحصر بالعدو فإنه ينحر حيث حبس، فالآيات التي ذكرتموها في سائر الدماء فلم قلتم إنها تتناول هذه الصورة.

ج. الثالث: قالوا: الهدي سمي هديا لأنه جار مجرى الهدية التي يبعثها العبد إلى ربه، والهدية لا تكون هدية إلا إذا بعثها المهدي إلى دار المهدى إليه وهذا المعنى لا يتصور إلا بجعل موضع الهدي هو الحرم.. وجوابه: هذا التمسك بالاسم ثم هو محمول على الأفضل عند القدرة.

د. الرابع: أن سائر دماء الحج كلها قربة كانت أو كفارة لا تصح إلا في الحرم، فكذا هذا.. وجوابه: أن هذا الدم إنما وجب لإزالة الخوف وزوال الخوف إنما يحصل إذا قدر عليه حيث أحصر، أما لو وجب إرساله إلى الحرم لا يحصل هذا المقصود، وهذا المعنى غير موجود في سائر الدماء فظهر الفرق.

30. هذه الآية دالة على أنه لا ينبغي لهم أن يحلوا فيحلقوا رؤوسهم إلا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يناجوا الرسول إلا بعد تقديم الصدقة، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة، قال كعب: مر بي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم زمن الحديبية، وكان في شعر رأسي كثير من القمل والصئبان وهو يتناثر على وجهي، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم تؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال أحلق رأسك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمقصود منها أن المحرم إذا تأذى بالمرض أو بهوام رأسه أبيح له المداواة والحلق بشرط الفدية، ففدية رفع لأنه مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: فعليه فدية، وأيضا ففيه إضمار آخر والتقدير: فحلق فعليه فدية، واختلفوا:

أ. قال بعضهم: هذه الآية مختصة بالمحصر، وذلك لأن قبل بلوغ الهدي محله ربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر فالله أذن له في ذلك بشرط بذل الفدية.

ب. وقال آخرون بل الكلام مستأنف لكل محرم لحقه المرض في بدنه فاحتاج إلى علاج أو لحقه أذى في رأسه فاحتاج إلى الحلق، فبين الله تعالى أن له ذلك، وبين ما يجب عليه من الفدية، فالمرض قد يحوج إلى اللباس، فتكون الرخصة في اللباس كالرخصة في الحلق، وقد يكون ذلك بغير المرض من شدة البرد وما شاكله فأبيح له بشرط الفدية، وقد يحتاج أيضا إلى استعمال الطيب في كثير من الأمراض فيكون الحكم فيه ذاك، وأما من يكون به أذى من رأسه فقد يكون ذلك بسبب القمل والصئبان وقد يكون بسبب الصداع وقد يكون عند الخوف من حدوث مرض أو ألم، وبالجملة فهذا الحكم عام في جميع محظورات الحج.

31. اختلفوا في أنه هل يقدم الفدية ثم يترخص أو يؤخر الفدية عن الترخص، والذي يقتضيه الظاهر أنه يؤخر الفدية عن الترخص:

أ. لأن الإقدام على الترخص كالعلة في وجوب الفدية فكان مقدما عليه.

ب. وأيضا فقد بينا أن تقدير الآية: فحلق فعليه فدية، ولا ينتظم الكلام إلا على هذا الحد، فإذن يجب تأخير الفدية.

32. ﴿مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ المراد أن تلك الفدية أحد هذه الأمور الثلاثة.

33. أصل النسك العبادة، قال ابن الأعرابي النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة، ثم قيل للمتعبد: ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث، هذا أصل معنى النسك، ثم قيل للذبيحة: نسك من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله.

34. اتفقوا في النسك على أن أقله شاة، لأن النسك لا يتأدى إلا بأحد الأمور الثلاثة: الجمل، والبقرة، والشاة، ولما كان أقلها الشاة، لا جرم كان أقل الواجب في النسك هو الشاة، أما الصيام والإطعام فليس في الآية ما يدل على كميتهما وكيفيتهما، وبما ذا يحصل بيانه فيه قولان:

أ. أحدهما: أنه حصل عن كعب بن عجرة، وهو ما روى أبو داوود في سننه‏ أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما مر بكعب بن عجرة ورأى كثرة الهوام في رأسه، قال له: احلق ثم اذبح شاة نسكا أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين.

ب. الثاني: ما يروى عن ابن عباس والحسن أنهما قالا: الصيام للمتمتع عشرة أيام، والإطعام مثل ذلك في العدة، وحجتهما أن الصيام والإطعام لما كانا مجملين في هذا الموضع وجب حملهما على المفسر فيما جاء بعد ذلك، وهو الذي يلزم المتمتع إذا لم يجد الهدي، والقول الأول عليه أكثر الفقهاء.

35. الآية دلت على حكم من أقدم على شيء من محظورات الحج بعذر، أما من حلق رأسه عامدا بغير عذر فعند الشافعي وأبي حنيفة الواجب عليه الدم، وقال مالك: حكمه حكم من فعل ذلك بعذر، والآية حجة عليه، لأن قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ يدل على اشتراط هذا الحكم بهذه الأعذار، والمشروط بالشيء عدم عند عدم الشرط.

36. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ تقديره: فإذا أمنتم من الإحصار.

37. ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ معنى التمتع التلذذ، يقال: تمتع بالشيء أي تلذذ به، والمتاع: كل شيء يتمتع به، وأصله من قولهم: حبل ماتع أي طويل، وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به، والمتمتع بالعمرة إلى الحج هو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج، ثم يقيم بمكة حلالا ينشئ منها الحج، فيحج من عامه ذلك، وإنما سمي متمتعا لأنه يكون مستمتعا بمحظورات الإحرام فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامه بالحج، والتمتع على هذا الوجه صحيح لا كراهة فيه، وهاهنا نوع آخر من التمتع مكروه، وهو الذي حذر عنه عمر وقال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج، والمراد من هذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة ويتمتع بها إلى الحج، وروي‏ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أذن لأصحابه في ذلك ثم نسخ، روي عن أبي ذر أنّه قال ما كانت متعة الحج إلا لي خاصة، فكان السبب فيه أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويعدونها من أفجر الفجور فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إبطال ذلك الإعتقاد عليهم بالغ فيه بأن نقلهم في أشهر الحج من الحج إلى العمرة وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم، فلهذا المعنى كان فسخ الحج خاصا بهم.

38. ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ﴾ أي فمن يتمتع بسبب العمرة فكأنه لا يتمتع بالعمرة ولكنه يتمتع بمحظورات الإحرام بسبب إتيانه بالعمرة، وهذا هو معنى التمتع بالعمرة إلى الحج.

39. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالهدي وفروعه الفقهية عند الشافعية خصوصا، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

40. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ المعنى أن التمتع إن وجد الهدي فلا كلام، وإن لم يجد فقد بين الله تعالى بدله من الصيام، فهذا الهدي أفضل أم الصيام؟ الظاهر أن يكون المبدل الذي هو الأصل أفضل، لكنه تعالى بين في هذا البدل أنه في الكمال والثواب كالهدي، وهو كقوله: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾

41. الآية نص فيما إذا لم يجد الهدي، والفقهاء قاسوا عليه ما إذا وجد الهدي ولم يجد ثمنه، أو كان ماله غائبا، أو يباع بثمن غال فهنا أيضا يعدل إلى الصوم.

42. اختلفوا في المراد من الرجوع في قوله: ﴿إِذَا رَجَعْتُمْ﴾:

أ. فقال الشافعي في (الجديد): هو الرجوع إلى الأهل والوطن، واحتج له من وجوه:

الأول: قوله: ﴿إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ معناه إلى الوطن، فإن الله تعالى جعل الرجوع إلى الوطن شرطا وما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط والرجوع إلى الوطن لا يحصل إلا عند الانتهاء إلى الوطن فقبله لم يوجد الشرط فوجب أن لا يوجد المشروط ويتأكد ما قلنا بأنه لو مات قبل الوصول إلى الوطن لم يكن عليه شيء.

الثاني: ما روي عن ابن عباس قال لما قدمنا مكة قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي) فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فلما فرغنا قال (عليكم الهدي فإن لم تجدوا فصيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم)

الثالث: أن الله تعالى أسقط الصوم عن المسافر في رمضان، فصوم التمتع أخف شأنا منه.

ب. وقال أبو حنيفة: المراد من الرجوع الفراغ من أعمال الحج والأخذ في الرجوع.

43. يتفرع عليه أنه إذا صام الأيام السبعة بعد الرجوع عن الحج، وقبل الوصية إلى بيته، لا يجزيه عند الشافعي، ويجزيه عند أبي حنيفة.

44. قرأ ابن أبي عبلة ﴿سَبْعَةُ﴾ بالنصب عطفا على محل ثلاثة أيام كأنّه قيل: فصيام ثلاثة أيام، كقوله: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا﴾ [البلد: 14، 15]

45. طعن الملحدون لعنهم الله في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ من وجهين:

أ. أحدهما: أن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة فذكره يكون إيضاحا للواضح.

ب. الثاني: أن قوله: ﴿كَامِلَةً﴾ يوهم وجود عشرة غير كاملة في كونها عشرة وذلك محال.

46. ذكر العلماء أنواعا من الفوائد في في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾:

أ. الأول: أن الواو في قوله: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ ليس نصا قاطعا في الجمع، بل قد تكون بمعنى أو كما في قوله: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3] وكما في قولهم: جالس الحسن وابن سيرين أي جالس هذا أو هذا، فالله تعالى ذكر قوله: ﴿عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ إزالة لهذا الوهم النوع.

ب. الثاني: أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالا من المبدل كما في اليتيم مع الماء، فالله تعالى بين أن هذا البدل ليس كذلك، بل هو كامل في كونه قائما مقام المبدل ليكون الفاقد للهدي المتحمل لكلفة الصوم ساكن النفس إلى ما حصل له من الأجر الكامل من عند الله، وذكر العشرة إنما هو لصحة التوصل به إلى قوله: ﴿كَامِلَةً﴾ كأنّه لو قال تلك كاملة، جوز أن يراد به الثلاثة المفردة عن السبعة، أو السبعة المفردة عن الثلاثة، فلا بد في هذا من ذكر العشرة.

ج. الثالث: أن الله تعالى إذا قال أوجبت عليكم الصيام عشرة أيام، لم يبعد أن يكون هناك دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيام عن هذا اللفظ، فإن تخصيص العام كثير في الشرع والعرف، فلو قال ثلاثة أيام‏ في الحج وسبعة إذا رجعتم، بقي احتمال أن يكون مخصوصا بحسب بعض الدلائل المخصصة، فإذا قال بعده: تلك عشرة كاملة فهذا يكون تنصيصا على أن هذا المخصص لم يوجد ألبتة، فتكون دلالته أقوى واحتماله للتخصيص والنسخ أبعد.

د. الرابع: أن مراتب الأعداد أربعة: آحاد، وعشرات، ومئين، وألوف، وما وراء ذلك فأما أن يكون مركبا أو مكسورا، وكون العشرة عددا موصوفا بالكمال بهذا التفسير أمر يحتاج إلى التعريف، فصار تقدير الكلام: إنما أوجبت هذا العدد لكونه عددا موصوفا بصفة الكمال خاليا عن الكسر والتركيب.

هـ. الخامس: ن التوكيد طريقة مشهورة في كلام العرب، كقوله: ﴿وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46] وقال: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: 38] والفائدة فيه أن الكلام الذي يعبر عنه بالعبارات الكثيرة ويعرف بالصفات الكثيرة، أبعد عن السهو والنسيان من الكلام الذي يعبر عنه بالعبارة الواحدة، فالتعبير بالعبادات الكثيرة يدل على كونه في نفسه مشتملا على مصالح كثيرة ولا يجوز الإخلال بها، أما ما عبر عنه بعبارة واحدة فإنه لا يعلم منه كونه مصلحة مهمة لا يجوز الإخلال بها، وإذا كان التوكيد مشتملا على هذه الحكمة كان ذكره في هذا الموضع دلالة على أن رعاية العدد في هذا الصوم من المهمات التي لا يجوز إهمالها ألبتة.

و. السادس: في بيان فائدة هذا الكلام أن هذا الخطاب مع العرب، ولم يكونوا أهل حساب، فبين الله تعالى ذلك بيانا قاطعا للشك والريب، وهذا كما روي‏ أنّه قال في الشهر: هكذا وهكذا وأشار بيديه ثلاثا، وأشار مرة أخرى وأمسك إبهامه في الثالثة منبها بالإشارة الأولى على ثلاثين، وب الثانية على تسعة وعشرين.

ز. السابع: أن هذا الكلام يزيل الإبهام المتولد من تصحيف الخط، وذلك لأن سبعة وتسعة متشابهتان في الخط، فإذا قال بعده تلك عشرة كاملة زال هذا الاشتباه.

ح. الثامن: أن قوله: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع أن يكمل سبعة أيام، على أنه يحسب من هذه السبعة تلك الثلاثة المتقدمة، حتى يكون الباقي عليه بعد من الحج أربعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة، ويحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع سبعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة، فهذا الكلام محتمل لهذين الوجهين، فإذا قال بعده تلك عشرة كاملة زال هذا الإشكال، وبين أن الواجب بعد الرجوع سبعة سوى الثلاثة المتقدمة.

ط. التاسع: أن اللفظ وإن كان خبرا لكن المعنى أمر والتقدير: فلتكن تلك الصيامات صيامات كاملة لأن الحج المأمور به حج تام على ما قال ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ وهذه الصيامات جبرانات للخلل الواقع في ذلك الحج، فلتكن هذه الصيامات صيامات كاملة حتى يكون جابرا للخلل الواقع في ذلك الحج، الذي يجب أن يكون تاما كاملا، والمراد بكون هذه الصيامات كاملة ما ذكرنا في بيان كون الحج تاما، وإنما عدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكدا جدا فالظاهر دخول المكلف به في الوجود، فلهذا السبب جاز أن يجعل الإخبار عن الشيء بالوقوع كناية عن تأكد الأمر به، ومبالغة الشرع في إيجابه.

ي. العاشر: أنه سبحانه وتعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج، فليس‏ في هذا القدر بيان أنه طاعة عظيمة كاملة عند الله سبحانه وتعالى، فلما قال بعده: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ دل ذلك على أن هذه الطاعة في غاية الكمال، وذلك لأن الصوم مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص على ما قال تعالى: الصوم لي والحج أيضا مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص، على ما قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ وكما دل النص على مزيد اختصاص لهاتين العبادتين بالله سبحانه وتعالى، فالعقل دل أيضا على ذلك، أما في حق الصوم فلأنّه عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجه الحكمة فيها، وهو مع ذلك شاق على النفس جدا، فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاة الله تعالى، والحج أيضا عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجه الحكمة فيها، وهو مع ذلك شاق جدا لأنه يوجب مفارقة الأهل والوطن، ويوجب التباعد عن أكثر اللذات، فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاته، ثم أن هذه الأيام العشرة بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعا بين شيئين شاقين جدا، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من شاق إلى شاق، ومعلوم أن ذلك سبب لكثرة الثواب وعلو الدرجة فلا جرم أوجب الله تعالى صيام هذه الأيام العشرة، وشهد سبحانه على أنه عبادة في غاية الكمال والعلو، فقال: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ فإن التنكير في هذا الموضع يدل على تعظيم الحال، فكأنه قال عشرة وأية عشرة، عشرة كاملة.

ظهر بهذه الوجوه العشرة اشتمال هذه الكلمة على هذا الفوائد النفيسة، وسقط بهذا البيان طعن الملحدين في هذه الآية والحمد لله رب العالمين.

47. قوله تعالى: ﴿كَامِلَةً﴾ يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجه:

أ. أحدها: أنها كاملة في البدل عن الهدي قائمة مقامه.

ب. ثانيها: أنها كاملة في أن ثواب صاحبه كامل مثل ثواب من يأتي بالهدي من القادرين عليه.

ج. ثالثها: أنها كاملة في أن حج المتمتع إذا أتى بهذا الصيام يكون كاملا، مثل حج من لم يأت بهذا التمتع.

48. ﴿ذَلِكَ﴾ في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ إشارة إلى ما تقدم، وأقرب الأمور المذكورة ذكر ما يلزم المتمتع من الهدي وبدله، وأبعد منهم ذكر تمتعهم، فلهذا السبب اختلفوا:

أ. فقال الشافعي، ومن وافقه، إنه راجع إلى الأقرب، وهو لزوم الهدي وبدله على المتمتع، أي إنما يكون إذا لم يكن المتمتع من حاضري المسجد الحرام، فأما إذا كان من أهل الحرم فإنه لا يلزمه الهدي ولا بدله، وذلك لأن عند الشافعي هذا الهدي إنما لزم الآفاقي لأنه كان من الواجب عليه أن يحرم عن الحج من الميقات، فلما أحرم من الميقات عن العمرة، ثم أحرم عن الحج لا من الميقات، فقد حصل هناك الخلل فجعل مجبورا بهذا الدم، والمكي لا يجب عليه أن يحرم من الميقات، فإقدامه على التمتع لا يوقع خللا في حجه، فلا جرم لا يجب عليه الهدي ولا بدل، وحجة الشافعي، ومن وافقه من وجوه:

الأولى: قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ عام يدخل فيه الحرمي.

الثانية: قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ كناية فوجب عودها إلى المذكور الأقرب، وهو وجوب الهدي، وإذا خص إيجاد الهدي بالمتمتع الذي يكون آفاقيا لزم القطع بأن غير الآفاقي قد يكون أيضا متمتعا.

الثالثة: أن الله تعالى شرع القران والمتعة إبانة لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحج والنسخ يثبت في حق الناس كافة.

الرابعة: أن من كان من أهل الإفراد كان من أهل المتعة قياسا على المدني، إلا أن المتمتع المكي‏ لا دم عليه لما ذكرناه.

ب. وقال أبو حنيفة، ومن وافقه: إن قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى الأبعد، وهو ذكر التمتع، وعنده لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام، ومن تمتع أو قرن كان عليه دم هو دم جناية لا يأكل منه، وحجة أبي حنيفة، ومن وافقه أن قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ كناية فوجب عودها إلى كل ما تقدم، لأنه ليس البعض أولى من البعض.. وجوابه: لم لا يجوز أن يقال عوده إلى الأقرب أولى لأن القرب سبب للرجحان أليس أن مذهبه أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل مختص بالجملة الأخيرة، وإنما تميزت تلك الجملة عن سائر الجمل بسبب القرب فكذا هاهنا.

49. اختلفوا في المراد بحاضري المسجد الحرام:

أ. قال مالك: هم أهل مكة وأهل ذي طوى قال: فلو أن أهل منى أحرموا بالعمرة من حيث يجوز لهم، ثم أقاموا بمكة حتى حجوا كانوا متمتعين، وسئل مالك عن أهل الحرم أيجب عليهم ما يجب على المتمتع، قال نعم وليس هم مثل أهل مكة فقيل له: فأهل منى فقال: لا أرى ذلك إلا لأهل مكة خاصة.

ب. وقال طاووس: حاضروا المسجد الحرام هم أهل الحرم.

ج. وقال الشافعي: هم الذين يكونون على أقل من مسافة القصر من مكة، فإن كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين.

د. وقال أبو حنيفة: حاضروا المسجد الحرام أهل المواقيت، وهي ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم وذات العرق، فكل من كان من أهل موضع من هذه المواضع، أو من أهل ما وراءها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام.

50. هذا هو تفصيل مذاهب الناس، ولفظ الآية موافق لمذهب مالك، لأن أهل مكة هم الذين يشاهدون المسجد الحرام ويحضرونه، فلفظ الآية لا يدل إلا عليهم، إلا أن الشافعي قال: كثيرا ما ذكر الله المسجد الحرام، والمراد منه الحرم، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الإسراء: 1] ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما أسرى به من الحرم لا من المسجد الحرام، وقال: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 33] والمراد الحرم، لأن الدماء لا تراق في البيت والمسجد، إذا ثبت هذا فنقول: المراد من المسجد الحرام هاهنا ما ذكرناه ويدل عليه وجهان:

أ. الأول: الحاضر ضد المسافر، وكل من لم يكن مسافرا كان حاضرا، ولما كان حكم السفر إنما ثبت في مسافة القصر، فكل من كان دون مسافة القصر لم يكن مسافرا وكان حاضرا.

ب. الثاني: أن العرب تسمي أهل القرى: حاضرة وحاضرين، وأهل البر: بادية وبادين ومشهور كلام الناس: أهل البدو والحضر يراد بهما أهل الوبر والمدر.

51. قال الفراء: اللام في قوله: ﴿لِمَنْ﴾ بمعنى على، أي ذلك الفرض الذي هو الدم أو الصوم لازم على من لم يكن من أهل مكة، كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (واشترطي لهم الولاء) أي عليهم.

52. ذكر الله تعالى حضور الأهل، والمراد حضور المحرم لا حضور الأهل، لأن الغالب على الرجل أنه يسكن حيث أهله ساكنون.

53. المسجد الحرام إنما وصف بهذا الوصف لأن أصل الحرام والمحروم الممنوع عن المكاسب والشيء المنهي عنه حرام لأنه منع من إتيانه، والمسجد الحرام الممنوع من أن يفعل فيه ما منع عن فعله قال الفراء: ويقال حرام وحرم مثل زمان وزمن.

54. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ قال ابن عباس: يريد فيما فرض عليكم ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن تهاون بحدوده قال أبو مسلم: العقاب والمعاقبة سيان، وهو مجازاة المسيء على إساءته وهو مشتق من‏ العاقبة: كأنه يراد عاقبة فعل المسيء كقول القائل: لتذوقن عاقبة فعلك.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 5/297.

(2) يقصد الشافعية.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله:

أ. فقيل: أداؤهما والإتيان بهما، كقوله: ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: 124]، وقوله: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187] أي ائتوا بالصيام، وهذا على مذهب من أوجب العمرة، على ما يأتي.

ب. ومن لم يوجبها قال المراد تمامهما بعد الشروع فيهما، فإن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه، قال معناه الشعبي وابن زيد.

ج. وعن علي بن أبي طالب: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص، وفعله عمران بن حصين.

د. وقال سفيان‏ الثوري: إتمامهما أن تحرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويقوي هذا قوله ﴿لله﴾

هـ. وقال عمر: إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع وقران، وقاله ابن حبيب.

و. وقال مقاتل: إتمامهما ألا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم، وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، فقال: فأتموهما ولا تخلطوهما بشيء آخر.

2. ما روي عن علي وفعله عمران بن حصين في الإحرام قبل المواقيت التي وقتها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد قال به عبد الله بن مسعود وجماعة من السلف، وثبت أن عمر أهل من إيلياء، وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم، ورخص فيه الشافعي، وروى أبو داوود والدارقطني عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أحرم من بيت المقدس بحج أو عمرة كان من ذنوبه كيوم‏ ولدته أمه)، في رواية (غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، وخرجه أبو داود وقال: (يرحم الله وكيعا! أحرم من بيت المقدس، يعني إلى مكة)، ففي هذا إجازة الإحرام قبل الميقات، وكره مالك أن يحرم أحد قبل الميقات، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وأنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان على ابن عمر إحرامه قبل الميقات، وقال أحمد وإسحاق: وجه العمل المواقيت، ومن الحجة لهذا القول أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقت المواقيت وعينها، فصارت بيانا لمجمل الحج، ولم يحرم صلّى الله عليه وآله وسلّم من بيته لحجته، بل أحرم من ميقاته الذي وقته لامته، وما فعله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو الأفضل إن شاء الله، وكذلك صنع جمهور الصحابة والتابعين بعدهم، واحتج أهل المقالة الاولى بأن ذلك أفضل بقول عائشة: ما خير رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وبحديث أم سلمة مع ما ذكر عن الصحابة في ذلك، وقد شهدوا إحرام رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجته من ميقاته، وعرفوا مغزاه ومراده، وعلموا أن إحرامه من ميقاته كان تيسيرا على أمته.

3. ذكر هنا(2). المحال المرتبطة بالمواقيت، وهكذا ذكر مسائل مختلفة في كل محل، وكلها مما ليس له صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناه إلى محله من السلسلة.

4. اختلف في حكم العمرة:

أ. قيل: في هذه الآية دليل على وجوب العمرة، لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج، قال الصبي‏ بن معبد: أتيت عمر فقلت: إني كنت نصرانيا فأسلمت، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي، وإني أهللت بهما جميعا، فقال له عمر: هديت لسنة نبيك، قال ابن المنذر: ولم ينكر عليه قوله: (وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي)، وبوجوبهما قال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس، وروى الدارقطني عن ابن جريج قال: أخبرني نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع ذلك سبيلا، فمن زاد بعدها شيئا فهو خير وتطوع، قال: ولم أسمعه يقول في أهل مكة شيئا، قال ابن جريج: وأخبرت عن عكرمة أن ابن عباس قال: العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلا، وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وأبو بردة ومسروق وعبد الله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين، وقال الثوري: سمعنا أنها واجبة، وسئل زيد بن ثابت عن العمرة قبل الحج، فقال: صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت، ذكره الدارقطني، وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت)

ب. وكان مالك يقول: (العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها)، وهو قول النخعي وأصحاب الرأي فيما حكى ابن المنذر.

ج. وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج، وبأنها سنة ثابتة، قاله ابن مسعود وجابر بن عبد الله، روى الدارقطني حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا حدثنا محمد بن العلاء أبو كريب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الصلاة والزكاة والحج: أواجب هو؟ قال: (نعم) فسأله عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: (لا وأن تعتمر خير لك) رواه يحيى أيوب عن حجاج وابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر موقوفا من قول جابر، فهذه حجة من لم يوجبها من السنة، قالوا: وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب، لان الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [المزمل: 20]، وابتدأ بإيجاب الحج فقال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97] ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها، فلو حج عشر حجج، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء، واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال: عماد الحج الوقوف بعرفة، وليس في العمرة وقوف، فلو كانت كسنة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها.

5. فائدة التخصيص بذكر الله هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق، وكل ذلك ليس لله فيه طاعة، ولا حظ بقصد، ولا قربة بمعتقد، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه، ثم سامح في التجارة، على ما يأتي.

6. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ قال ابن العربي: (هذه آية مشكلة، عضلة من العضل).. لا إشكال فيها، ونحن نبينها غاية البيان فنقول: الإحصار هو المنع من الوجه الذي تقصده بالعوائق جملة، فجملة أي بأي عذر كان، كان حصر عدو أو جور سلطان أو مرض أو ما كان، واختلف العلماء في تعيين المانع هنا على قولين:

أ. الأول: قال علقمة وعروة ابن الزبير وغيرهما: هو المرض لا العدو.

ب. وقيل: العدو خاصة، قاله ابن عباس وابن عمر وأنس والشافعي، قال ابن العربي: وهو اختيار علمائنا، وراي أكثر أهل اللغة ومحصليها على أن أحصر عرض للمرض، وحصر نزل به العدو.. ما حكاه ابن العربي من أنه اختيار علمائنا فلم يقل به إلا أشهب وحده، وخالفه سائر أصحاب مالك في هذا وقالوا: الإحصار إنما هو المرض، وأما العدو فإنما يقال فيه: حصر حصرا فهو محصور، قاله الباجي في المنتقى، وحكى أبو إسحاق الزجاج أنه كذلك عند جميع أهل اللغة، وقال أبو عبيدة والكسائي: (أحصر بالمرض، و(حصر) بالعدو، وفي المجمل لابن فارس على العكس، فحصر بالمرض، وأحصر بالعدو، وقالت طائفة: يقال أحصر فيهما جميعا من الرباعي، حكاه أبو عمر، وقال الفراء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو، قال القشيري أبو نصر: وادعت الشافعية أن الإحصار يستعمل في العدو، فأما المرض فيستعمل فيه الحصر، والصحيح أنهما يستعملان فيهما، ما ادعته الشافعية قد نص الخليل بن أحمد وغيره على خلافه، قال الخليل: حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته، وأحصر الحاج عن بلوغ المناسك من مرض أو نحوه، هكذا قال جعل الأول ثلاثيا من حصرت، والثاني في المرض رباعيا، وعلى هذا خرج قول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو، وقال ابن السكيت: أحصره المرض إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها، وقد حصره العدو يحصرونه إذا ضيقوا عليه فأطافوا به، وحاصروه محاصرة وحصارا، قال الأخفش: حصرت الرجل فهو محصور، أي حبسته، قال واحصرني بولي، واحصرني مرصي، أي جعلني أحصر نفسي، قال أبو عمرو الشيباني: حصرني الشيء واحصرني، أي حبسني، قلت: فالأكثر من أهل اللغة على أن حصر في العدو، و(أحصر) في المرض، وقد قيل ذلك في قول الله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 273]، وقال ابن ميادة:

çوما هجر ليلى أن تكون تباعدت‏...عليك ولا أن أحصرتك شغول‏é

وقال الزجاج: الإحصار عند جميع أهل اللغة إنما هو من المرض، فأما من العدو فلا يقال فيه إلا حصر، يقال: حصر حصرا، وفي الأول أحصر إحصارا، فدل على ما ذكرناه. وأصل الكلمة من الحبس، ومنه الحصير للذي يحبس نفسه عن البوح بسره. والحصير: الملك لأنه كالمحبوس من وراء الحجاب. والحصير الذي يجلس عليه لانضمام بعض طاقات البردي إلى بعض، كحبس الشيء مع غيره.

7. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ ما في موضع رفع، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر، ويحتمل أن يكون في موضع نصب، أي فانحروا أو فاهدوا، و﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ﴾ عند جمهور أهل العلم شاة، وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ﴾ جمل دون جمل، وبقرة دون بقرة لا يكون من غيرهما، وقال الحسن: أعلى الهدى بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة، وفي هذا دليل على ما ذهب إليه مالك من أن المحصر بعدو لا يجب عليه القضاء، لقوله: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ ولم يذكر قضاء.

8. ﴿مِنَ الْهَدْيِ﴾ الهدى والهدى لغتان، وهو ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها، والعرب تقول: كم هدى بني فلان، أي كم إبلهم، وقال أبو بكر: سميت هديا لان منها ما يهدى إلى بيت الله، فسميت بما يلحق بعضها، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾، [النساء: 25]، أراد فإن زنى الإماء فعلى الامة منهن إذا زنت نصف ما على الحرة البكر إذا زنت، فذكر الله المحصنات وهو يريد الأبكار، لان الإحصان يكون في أكثرهن فسمين بأمر يوجد في بعضهن، والمحصنة من الحرائر هي ذات الزوج، يجب عليها الرجم إذا زنت، والرجم لا يتبعض، فيكون على الامة نصفه، فانكشف بهذا أن المحصنات يراد بهن الأبكار لا أولات الأزواج، وقال الفراء: أهل الحجاز وبنو أسد يخفون الهدى، قال وتميم وسفلي قيس يثقلون فيقولون: هدى، قال الشاعر:

çحلفت برب مكة والمصلى‏...وأعناق الهدى مقلدات‏é

قال وواحد الهدى هدية، ويقال في جمع الهدى: إهداء.

9. ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ الخطاب لجميع الامة: محصر ومخلى:

أ. ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة، أي لا تتحللوا من الإحرام حتى ينحر الهدى، والمحل: الموضع الذي يحل فيه ذبحه، فالمحل في حصر العدو عند مالك والشافعي: موضع الحصر، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم زمن الحديبية، قال الله تعالى: ﴿وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: 25] قيل: محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق.

ب. وعند أبي حنيفة محل الهدى في الإحصار: الحرم، لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 33]، وأجيب عن هذا بأن المخاطب به الأمن الذي يجد الوصول إلى البيت، فأما المحصر فخارج من قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ بدليل نحر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه هديهم بالحديبية وليست من الحرم، واحتجوا من السنة بحديث ناجية ابن جندب صاحب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ابعث معي الهدى فانحره بالحرم، قال (فكيف تصنع به) قال أخرجه في الأودية لا يقدرون عليه، فأنطلق به حتى أنحره في الحرم، وأجيب بأن هذا لا يصح، وإنما ينحر حيث حل، اقتداء بفعله عليه السلام بالحديبية، وهو الصحيح الذي رواه الأئمة، ولان الهدى تابع للمهدي، والمهدي حل بموضعه، فالمهدي أيضا يحل معه.

10. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ استدلّ بعض علماء الشافعية بهذه الآية على أن المحصر في أول الآية العدو لا المرض، وهذا لا يلزم، فإن معنى قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ فحلق ﴿فَفِدْيَةٌ﴾ أي فعليه فدية، وإذا كان هذا واردا في المرض‏ بلا خلاف كان الظاهر أن أول الآية ورد فيمن ورد فيه وسطها وآخرها، لاتساق الكلام بعضه على بعض، وانتظام بعضه ببعض، ورجوع الإضمار في آخر الآية إلى من خوطب في أولها، فيجب حمل ذلك على ظاهره حتى يدل الدليل على العدول عنه، ومما يدل على ما قلناه سبب نزول هذه الآية، روى الأئمة واللفظ للدارقطني: (عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رآه وقمله يتساقط على وجهه فقال: (أيؤذيك هوامك) قال نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يطعم فرقا بين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام (، خرجه البخاري بهذا اللفظ أيضا، فقوله: (ولم يبين لهم أنهم يحلون بها) يدل على أنهم ما كانوا على يقين من حصر العدو لهم، فإذا الموجب للفدية الحلق للأذى والمرض.

11. قال الأوزاعي في المحرم يصيبه أذى في رأسه: إنه يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق، قلت: فعلى هذا يكون المعنى ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ إن أراد أن يحلق، ومن قدر فحلق ففدية، فلا يفتدي حتى يحلق.

12. قال ابن عبد البر: كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرا فإنما ذكره بشاة، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء، وأما الصوم والإطعام فاختلفوا فيه، فجمهور فقهاء المسلمين على أن الصوم ثلاثة أيام، وهو محفوظ صحيح في حديث كعب بن عجرة، وجاء عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الصوم في فدية الأذى عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين، ولم يقل أحد بهذا من فقهاء الأمصار ولا أئمة الحديث، وقد جاء من رواية أبي الزبير عن‏ مجاهد عن عبد الرحمن عن كعب بن عجرة أنه حدثه أنه كان أهل في ذي القعدة، وأنه قمل رأسه فأتى عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يوقد تحت قدر له، فقال له: (كأنك يؤذيك هوام رأسك)، فقال أجل، قال (أحلق واهد هديا)، فقال: ما أجد هديا، قال (فأطعم ستة مساكين)، فقال: ما أجد، قال (صم ثلاثة أيام)، قال أبو عمر: كان ظاهر هذا الحديث على الترتيب وليس كذلك، ولو صح هذا كان معناه الاختيار أولا فأولا، وعامة الإثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير، وهو نص القرآن، وعليه مضى عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم.

13. اختلف العلماء في الإطعام في فدية الأذى، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو قول أبي ثور وداوود، وروي عن الثوري أنّه قال في الفدية: من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير والزبيب صاع، وروي عن أبي حنيفة أيضا مثله، جعل نصف صاع بر عدل صاع تمر، قال ابن المنذر: وهذا غلط، لان في بعض أخبار كعب أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: (أن تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين)، وقال أحمد بن حنبل مرة كما قال مالك والشافعي، ومرة قال إن أطعم برا فمد لكل مسكين، وإن أطعم تمرا فنصف صاع.

14. لا يجزى أن يغدي المساكين ويعشيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مدين بمد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبذلك قال مالك والثوري والشافعي ومحمد بن الحسن، وقال أبو يوسف: يجزيه أن يغديهم ويعشيهم.

15. ﴿أَوْ نُسُكٍ﴾ النسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى، ويجمع أيضا على نسائك، والنسك: العبادة في الأصل، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: 128] أي متعبداتنا، وقيل: إن أصل النسك في اللغة الغسل، ومنه نسك ثوبه إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة، وقيل: النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام وسبكها.

16. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ قيل: معناه برأتم من المرض، وقيل: من خوفكم من العدو المحصر، قاله ابن عباس وقتادة، وهو أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه، كما تقدم.

17. ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ الآية، اختلف العلماء من المخاطب بهذا؟

أ. فقال عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم: الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم، وصورة المتمتع عند ابن الزبير: أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج، ثم يصل إلى البيت‏ فيحل بعمرة، ثم يقضي الحج من قابل، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء، وصورة المتمتع المحصر عند غيره: أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه.

ب. وقال ابن عباس وجماعة: الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلى سبيله.

18. لا خلاف بين العلماء في أن التمتع جائز، وأن الافراد جائز، وأن القرآن جائز، لان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رضي كلا ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه، بل أجازه لهم ورضيه منهم، صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنما اختلف العلماء فيما كان به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم محرما في حجته وفي الأفضل من ذلك، لاختلاف الإثار الواردة في ذلك:

أ. فقال قائلون منهم مالك: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مفردا، والافراد أفضل من القران، قال: والقران أفضل من التمتع، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل) قالت عائشة: فأهل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بحج، وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة، رواه جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وقال بعضهم فيه: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وـ أما أنا فأهل بالحج)، وهذا نص في موضع الخلاف، وهو حجة من قال بالإفراد وفضله، وحكى محمد بن الحسن عن مالك أنّه قال إذا جاء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به، واستحب أبو ثور الافراد أيضا وفضله على التمتع والقران، وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه.

ب. واستحب آخرون التمتع بالعمرة إلى الحج، قالوا: وذلك أفضل، وهو مذهب عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو أحد قولي الشافعي، قال الدارقطني قال الشافعي: اخترت الافراد، والتمتع حسن لا نكرهه، احتج من فضل التمتع:

بما رواه مسلم عن عمران بن حصين‏ قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله ـ يعني متعة الحج ـ وأمرنا بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى مات، قال رجل برأيه بعد ما شاء.

وروى الترمذي حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك ابن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك ابن قيس: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى، فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي! فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك، فقال سعد: قد صنعها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وصنعناها معه، هذا حديث صحيح.

وروى ابن إسحاق عن الزهري عن سالم قال: إني لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال ابن عمر: حسن جميل، قال فإن أباك كان ينهى عنها، فقال: ويلك! فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمر به، أفبقول أبي آخذ، أم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم!؟ قم عني، أخرجه الدارقطني، وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سالم.

وروي عن ليث عن طاووس عن ابن عباس قال: تمتع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من نهى عنها معاوية، حديث حسن، قال أبو عمر: حديث ليث هذا حديث منكر، وهو ليث ابن أبي سليم ضعيف، والمشهور عن عمر وعثمان أنهما كانا ينهيان عن التمتع، وإن كان جماعة من أهل العلم قد زعموا أن المتعة التي نهى عنها عمر وضرب عليها فسخ الحج في العمرة، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا.

واحتج أحمد في اختياره التمتع بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى ولجعلتها عمرة)، أخرجه الأئمة.

ج. قال آخرون: القران أفضل، منهم أبو حنيفة والثوري، وبه قال المزني قال لأنه يكون مؤديا للفرضين جميعا، وهو قول إسحاق، قال إسحاق: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قارنا، وهو قول علي بن أبي طالب، واحتج من استحب القران وفضله بما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بوادي العقيق‏ يقول: (أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة)، وروى الترمذي عن أنس قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (لبيك بعمرة وحجة)، وقال: حديث حسن صحيح.

19. زعم من صحح نهي عمر عن التمتع أنه إنما نهى عنه لينتجع البيت مرتين أو أكثر في العام حتى تكثر عمارته بكثرة الزوار له في غير الموسم، وأراد إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس تحقيقا لدعوة إبراهيم: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم: 37]، وقال آخرون: إنما نهى عنها لأنه رأى الناس مالوا إلى التمتع ليسارته وخفته، فخشي أن يضيع‏ الافراد والقران وهما سنتان للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

20. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ يعني الهدى، إما لعدم المال أو لعدم الحيوان:

أ. صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده، والثلاثة الأيام في الحج آخرها يوم عرفة، هذا قول طاووس، وروي عن الشعبي وعطاء ومجاهد والحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي، حكاه ابن المنذر.

ب. وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة يصومها في إحرامه بالعمرة، لأنه أحد إحرامي التمتع، فجاز صوم الأيام فيه كإحرامه بالحج.

ج. وقال أبو حنيفة أيضا وأصحابه: يصوم قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية ويوم عرفة.

د. وقال ابن عباس ومالك بن أنس: له أن يصومها منذ يحرم بالحج إلى يوم النحر، لان الله تعالى قال ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ فإذا صامها في العمرة فقد أتاه قبل وقته فلم يجزه.

هـ. وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: يصومهن ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، وهو قول ابن عمر وعائشة، وروي هذا عن مالك، وهو مقتضى قوله في موطئة، ليكون يوم عرفة مفطرا، فذلك أتبع للسنة، وأقوى على العبادة.

و. وعن أحمد أيضا: جائز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم.

ز. وقال الثوري والأوزاعي: يصومهن من أول أيام العشر، وبه قال عطاء.

ح. وقال عروة: يصومها ما دام بمكة في أيام منى، وقاله أيضا مالك وجماعة من أهل المدينة.

21. أيام منى هي أيام التشريق الثلاثة التي تلى يوم النحر، روى مالك في الموطأ عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: (الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هديا ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، فإن لم يصم صام أيام منى)، وهذا اللفظ يقتضي صحة الصوم من وقت يحرم بالحج المتمتع إلى يوم عرفة، وأن ذلك مبدأ، إما لأنه وقت الأداء وما بعد ذلك من ذلك من أيام منى وقت القضاء، على ما يقوله أصحاب الشافعي، وإما لان في تقديم الصيام قبل يوم النحر إبراء للذمة، وذلك مأمور به، والأظهر من المذهب أنها على وجه الأداء، وإن كان الصوم قبلها أفضل، كوقت الصلاة الذي فيه سعة للأداء وإن كان أوله أفضل من آخره، وهذا هو الصحيح وأنها أداء لا قضاء، فإن قوله: ﴿أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ يحتمل أن يريد موضع الحج، ويحتمل أن يريد أيام الحج، فإن كان المراد أيام الحج فهذا القول صحيح، لان آخر أيام الحج يوم النحر، ويحتمل أن يكون آخر أيام الحج أيام الرمي، لان الرمي عمل من عمل الحج خالصا وإن لم يكن من أركانه، وإن كان المراد موضع الحج صامه ما دام بمكة في أيام منى، كما قال عروة، ويقوى جدا، وقد قال قوم: له أن يؤخرها ابتداء إلى أيام التشريق، لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بألا يجد الهدى يوم النحر.

22. ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ يقال: كمل يكمل، مثل نصر ينصر، وكمل يكمل، مثل عظم يعظم، وكمل يكمل، مثل حمد يحمد، ثلاث لغات، واختلفوا في معنى قوله: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ﴾ وقد علم أنها عشرة:

أ. فقال الزجاج: لما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع بدلا منها، لأنه لم يقل وسبعة أخرى ـ أزيل ذلك بالجملة من قوله ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ﴾ ثم قال ﴿كَامِلَةً﴾

ب. وقال الحسن: ﴿كَامِلَةً﴾ في الثواب كمن أهدى.

ج. وقيل: ﴿كَامِلَةً﴾ في البدل عن الهدى، يعني العشرة كلها بدل عن الهدى.

د. وقيل: كاملة في الثواب كمن لم يتمتع.

هـ. وقيل: لفظها لفظ الاخبار ومعناها الامر، أي أكملوها فذلك فرضها.

و. وقال المبرد: ﴿عَشْرَةَ﴾ دلالة على انقضاء العدد، لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي‏ منه شي بعد ذكر السبعة.

ز. وقيل: هو توكيد، كما تقول: كتبت بيدي، ومنه قول الشاعر:

çثلاث واثنتان فهن خمس‏...وسادسة تميل إلى شمامي‏é

فقوله خمس تأكيد، ومثله قول الآخر:

çثلاث بالغداة فذاك حسبي‏...وست حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ريى‏...وشرب المرء فوق الري داءé

وقوله ﴿كَامِلَةً﴾ تأكيد آخر، فيه زيادة توصية بصيامها وألا ينقص من عددها، كما تقول لمن تأمره بأمر ذي بال: الله الله لا تقصر.

23. ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي إنما يجب دم التمتع عن الغريب الذي ليس من حاضري المسجد الحرام، خرج البخاري عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدى) طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: (من قلد الهدى فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدى محله) ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدى، كما قال الله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ إلى أمصاركم، الشاة تجزي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله عز وجل: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وأشهر الحج التي ذكر الله عز وجل شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم، والرفث: الجماع والفسوق: المعاصي، والجدال: المراء.

24. اللام في قوله ﴿لِمَنْ﴾ بمعنى على، أي وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة، كقوله عليه السلام: (اشترطي لهم الولاء)، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الاسراء: 7] أي فعليها، وذلك إشارة إلى التمتع والقران للغريب عند أبي حنيفة وأصحابه، لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم، ومن فعل ذلك كان عليه دم جناية لا يأكل منه، لأنه ليس بدم تمتع، وقال الشافعي: لهم دم تمتع‏ وقران، والإشارة ترجع إلى الهدى والصيام، فلا هدى ولا صيام عليهم، وفرق عبد الملك بن الماجشون بين التمتع والقران، فأوجب الدم في القران وأسقطه في التمتع، على ما تقدم عنه.

25. اختلف الناس في حاضري المسجد الحرام ـ بعد الإجماع على أن أهل مكة وما اتصل بها من حاضريه، وقال الطبري: بعد الإجماع على أهل الحرم، قال ابن عطية: وليس كما قال ـ فقال بعض العلماء: من كان يجب عليه الجمعة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة، وقال مالك وأصحابه هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة، وعند أبي حنيفة وأصحابه: هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية، فمن كان من أهل المواقيت أو من أهل ما وراءها فهم من حاضري المسجد الحرام، وقال الشافعي وأصحابه: هم من لا يلزمه تقصير الصلاة من موضعه إلى مكة، وذلك أقرب المواقيت، وعلى هذه الأقوال مذاهب السلف في تأويل الآية.

26. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي فيما فرضه عليكم، وقيل: هو أمر بالتقوى على العموم، وتحذير من شدة عقابه.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏2/366.

(2) تفسير القرطبي: ‏2/370.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ﴾ اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله، فقيل: أداؤهما، والإتيان بهما من دون أن يشوبهما شيء مما هو محظور، ولا يخل بشرط، ولا فرض لقوله تعالى: ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ وقوله: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، وقال سفيان الثوري: إتمامهما: أن تخرج لهما، لا لغيرهما، وقيل: إتمامهما: أن تفرد كل واحد منهما من غير تمتع، ولا قران، وبه قال ابن حبيب، وقال مقاتل: إتمامهما: أن لا يستحلوا فيهما ما لا ينبغي لهم، وقيل: إتمامهما: أن يحرم لهما من دويرة أهله؛ وقيل: أن ينفق في سفرهما الحلال الطيب.

2. استدلّ بهذه الآية على وجوب العمرة؛ لأن الأمر بإتمامهما أمر بها، وبذلك قال عليّ، وابن عمر، وابن عباس، وعطاء، وطاووس ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، وسعيد بن جبير، ومسروق، وعبد الله بن شدّاد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وابن الجهم من المالكية، وقال مالك والنخعي وأصحاب الرأي ـ كما حكاه ابن المنذر عنهم ـ: أنها سنة، وحكي عن أبي حنيفة أنه يقول بالوجوب، ومن القائلين بأنها سنة: ابن مسعود، وجابر بن عبد الله:

أ. ومن جملة ما استدلّ به الأوّلون: ما ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم في الصحيح أنّه قال لأصحابه: (من كان معه هدي فليهلّ بحجّ وعمرة)، وثبت عنه أيضا في الصحيح أنّه قال: (دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة)، وأخرج الدارقطني، والحاكم من حديث زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ الحجّ والعمرة فريضتان لا يضرّك بأيّهما بدأت)

ب. واستدل الآخرون بما أخرجه الشافعي في الآية، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد عن أبي صالح الحنفي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الحجّ جهاد والعمرة تطوّع)، وأخرج ابن ماجة عن طلحة بن عبيد الله مرفوعا مثله، وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه عن جابر: (أنّ رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن العمرة أواجبة هي؟ قال لا وأن تعتمروا خير لكم)، وأجابوا عن الآية، وعن الأحاديث المصرحة بأنها فريضة: بحمل ذلك على أنه قد وقع الدخول فيها، وهي بعد الشروع فيها واجبة بلا خلاف، وهذا وإن كان فيه بعد؛ لكنه يجب المصير إليه، جمعا بين الأدلة، ولا سيما بعد تصريحه صلّى الله عليه وآله وسلّم بما تقدم في حديث جابر من عدم الوجوب، وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها، كما أخرجه الشافعي في الأم أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمرو بن حزم: (إنّ العمرة هي الحجّ الأصغر)، وكحديث ابن عمر عند البيهقي في الشعب، قال جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: أوصني، فقال: (تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصّلاة، وتؤتي الزّكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحجّ وتعتمر، وتسمع وتطيع، وعليك‏ بالعلانية، وإيّاك والسّرّ)، وهكذا ينبغي حمل ما ورد من الأحاديث التي قرن فيها بين الحجّ والعمرة في أنهما من أفضل الأعمال، وأنهما كفّارة لما بينهما، وأنهما يهدمان ما كان قبلهما، ونحو ذلك.

3. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ الحصر: الحبس، قال أبو عبيدة والكسائي والخليل: إنه يقال: أحصر بالمرض، وحصر بالعدو، وفي المجمل لابن فارس العكس، يقال: أحصر بالعدوّ، وحصر بالمرض، ورجح الأوّل ابن العربي وقال: هو رأي أكثر أهل اللغة، وقال الزجّاج: إنه كذلك عند جميع أهل اللغة، وقال الفرّاء: هما بمعنى واحد في المرض والعدوّ، ووافقه على ذلك أبو عمرو الشيباني، فقال: حصرني الشيء وأحصرني: أي: حبسني.

4. بسبب هذا الاختلاف بين أهل اللغة اختلف أئمة الفقه في معنى الآية: فقالت الحنفية: المحصر من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدوّ أو غيره، وقال الشافعية وأهل المدينة: المراد بالآية: حصر العدوّ.

5. ذهب جمهور العلماء إلى أن المحصر بعدوّ يحلّ حيث أحصر، وينحر هديه إن كان ثمّ هدي، ويحلق رأسه، كما فعل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هو وأصحابه في الحديبية.

6. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ (ما) في موضع رفع على الابتداء أو الخبر، أي: فالواجب أو فعليكم، ويحتمل أن يكون في موضع نصب، أي: فانحروا، أو فاهدوا ما استيسر، أي: ما تيسّر، يقال: يسر الأمر واستيسر، كما يقال: صعب واستصعب.

7. الهديّ والهدي لغتان، وهما جمع هدية، وهي: ما يهدى إلى البيت من بدنة أو غيرها، قال الفراء: أهل الحجاز وبنو أسد يخففون الهدي، وتميم وسفلى قيس يثقلون، قال الشاعر:

çحلفت بربّ مكّة والمصلّى... وأعناق الهديّ مقلّدات‏é

قال: وواحد الهدي هدية، ويقال في جمع الهديّ إهداء.

8. اختلف أهل العلم في المراد بقوله: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ﴾ فذهب الجمهور إلى أنه شاة، وقال ابن عمر، وعائشة، وابن الزبير: جمل أو بقرة، وقال الحسن: أعلى الهدي بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾:

أ. قيل: هو خطاب لجميع الأمة من غير فرق بين محصر وغير محصر، وإليه ذهب جمع من أهل العلم.

ب. ذهبت طائفة إلى أنه خطاب للمحصرين خاصة، أي: لا تحلّوا من الإحرام حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محلّه، وهو الموضع الذي يحلّ فيه ذبحه.

10. اختلفوا في تعيين المحل:

أ. قال مالك والشافعي: هو موضع الحصر، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث أحصر في عام الحديبية.

ب. وقال أبو حنيفة: هو الحرم، لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ وأجيب عن ذلك بأن المخاطب به هو الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت، وأجاب الحنفية عن نحره صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديبية بأن طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة هو من الحرم، وردّ بأن المكان الذي وقع فيه النحر ليس هو من الحرم.

11. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ الآية، المراد بالمرض هنا: ما يصدق عليه مسمى المرض لغة، والمراد بالأذى من الرأس: ما فيه من قمل أو جراح ونحو ذلك، ومعنى الآية: أن من كان مريضا أو به أذى من رأسه فحلق فعليه فدية، وقد بيّنت السّنة ما أطلق هنا من الصيام والصدقة والنسك، فثبت في الصحيح: أنّ رسول الله رأى كعب بن عجرة وهو محرم وقمله يتساقط على وجهه، فقال: أيؤذيك هوامّ رأسك؟ قال: نعم، فأمره أن يحلق ويطعم ستّة مساكين، أو يهدي‏ شاة، أو يصوم ثلاثة أيّام)، وقد ذكر ابن عبد البرّ: أنه لا خلاف بين العلماء أن النسك هنا شاة، وحكى عن الجمهور: أن الصوم المذكور في الآية ثلاثة أيام، والإطعام لستة مساكين، وروي عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الصوم في فدية الأذى عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين، والحديث الصحيح المتقدم يردّ عليهم ويبطل قولهم، وقد ذهب مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم، وداوود: إلى أن الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي: لكل مسكين، وقال الثوري: نصف صاع من بر، أو صاع من غيره، وروي ذلك عن أبي حنيفة، قال ابن المنذر: وهذا غلط لأن في بعض أخبار كعب أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: تصدّق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين، واختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل، فروي عنه مثل قول مالك والشافعي، وروي عنه: أنه إن أطعم برّا فمدّ لكل مسكين، وإن أطعم تمرا فنصف صاع، واختلفوا في مكان هذه الفدية فقال عطاء: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء، وبه قال أصحاب الرأي، وقال طاووس، والشافعي: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء، وقال مالك ومجاهد: حيث شاء في الجميع، وهو الحق لعدم الدليل على تعيين المكان.

12. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أي: برأتم من المرض ـ وقيل: من خوفكم من العدوّ؛ على الخلاف السابق، ولكن الأمن من العدوّ أظهر من استعمال أمنتم في ذهاب المرض، فيكون مقوّيا لقول من قال إن قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ المراد به: الإحصار من العدوّ، كما أن قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ يقوّي قول من قال بذلك، لإفراد عذر المرض بالذكر، وقد وقع الخلاف: هل المخاطب بهذا هم المحصرون خاصة أم جميع الأمة؟ على حسب ما سلف، والمراد بالتمتع المذكور في الآية: أن يحرم الرجل بعمرة، ثم يقيم حلالا بمكة إلى أن يحرم بالحج، فقد استباح بذلك ما لا يحلّ للمحرم استباحته، وهو معنى: تمتع واستمتع، ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التمتع، بل هو عندي أفضل أنواع الحج، كما حررته في شرحي على المنتقى، وقد تقدّم الخلاف في معنى قوله: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾

13. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ الآية، أي: فمن لم يجد الهدي، إما لعدم المال؛ أو لعدم الحيوان، صام ثلاثة أيام في الحج، أي: في أيام الحج، وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر؛ وقيل: يصوم قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة؛ وقيل: ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة؛ وقيل: يصومهنّ من أوّل عشر ذي الحجة، وقيل: ما دام بمكة، وقيل: إنه يجوز أن يصوم الثلاث قبل أن يحرم، وقد جوّز بعض أهل العلم صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي، ومنعه آخرون.

14. ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ قرأه الجمهور بخفض سبعة، وقرأ زيد ابن عليّ، وابن أبي عبلة بالنصب على أنه معمول بفعل مقدّر، أي: وصوموا سبعة، وقيل: على أنه معطوف على ثلاثة، لأنها وإن كانت مجرورة لفظا فهي في محل نصب، كأنه قيل: فصيام ثلاثة، والمراد بالرجوع هنا: الرجوع إلى الأوطان، قال أحمد، وإسحاق: يجزيه الصوم في الطريق، ولا يتضيق عليه الوجوب إلا إذا وصل وطنه، وبه قال الشافعي، وقتادة، والربيع، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن وغيرهم، وقال مالك: إذ رجع من منى فلا بأس أن يصوم، والأوّل أرجح، وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أنّه قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيّام في الحجّ، وسبعة إذا رجع إلى أهله) فبيّن صلّى الله عليه وآله وسلّم: أن الرجوع المذكور في الآية هو الرجوع إلى الأهل، وثبت أيضا في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ (وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم)

15. إنما قال سبحانه: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ مع أن كل أحد يعلم أن الثلاثة والسبعة عشرة، لدفع أن يتوهم متوهم التخيير بين الثلاثة الأيام في الحج والسبعة إذا رجع، قال الزجّاج، وقال المبرد: ذكر ذلك: ليدل على انقضاء العدد، لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي منه شيء بعد ذكر السبعة، وقيل: هو توكيد، كما تقول: كتبت بيدي، وقد كانت العرب تأتي بمثل هذه الفذلكة فيما دون هذا العدد، كقول الشاعر:

çثلاث واثنان فهنّ خمس‏...وسادسة تميل إلى شمامي‏é

وكذا قول الآخر:

çثلاث بالغداة وذاك حسبي‏...وستّ حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ريّي‏...وشرب المرء فوق الريّ داءé

وقوله: ﴿كَامِلَةً﴾ توكيد آخر بعد الفذلكة لزيادة التوصية بصيامها، وأن لا ينقص من عددها.

16. ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ الإشارة بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ قيل: هي راجعة إلى التمتع، فتدل على أنه لا متعة لحاضري المسجد الحرام، كما يقوله أبو حنفية وأصحابه، قالوا: ومن تمتع منهم كان عليه دم، وهو دم جناية لا يأكل منه؛ وقيل: إنها راجعة إلى الحكم، وهو وجوب الهدي والصيام، فلا يجب ذلك على من كان من حاضري المسجد الحرام، كما يقوله الشافعي ومن وافقه، والمراد بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام: من لم يكن ساكنا في الحرم، أو من لم يكن ساكنا في المواقيت فما دونها على الخلاف في ذلك بين الأئمة.

17. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي: فيما فرضه عليكم من هذه الأحكام؛ وقيل: هو أمر بالتقوى على العموم، وتحذير من شدّة عقاب الله سبحانه.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/225.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ أي: أدّوهما تامّين بمناسكهما المشروعة لوجه الله تعالى، واحتج به في وجوب إتمام كلّ عبادة دخل فيها الإنسان متنفلا، وأنه متى أفسدها وجب قضاؤها، وقيل: إنه خطاب لهم ولمن لم يتلبس بالعبادة، وذكر لفظ الإتمام تنبيه على توفية حقها وإكمال شرائطها، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187] وإلى هذا ذهب الشافعيّ واحتجّ به في وجوب العمرة، وإنما قال في الحجّ والعمرة لله ولم يقل ذلك في الصلاة والزكاة، من أجل أنهم كانوا يتقربون ببعض أفعال الحجّ والعمرة إلى أصنامهم: فخصهما بالذكر لله تعالى حثا على الإخلاص فيهما، ومجانبة ذلك الاعتقاد المحظور.

2. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ أي: حبسكم عدوّ عن تمام الحجّ أو العمرة وأردتم التحلل، ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أي فعليكم، أو فالواجب، أو فأهدوا ما استيسر؛ يقال: يسر الأمر واستيسر كما يقال: صعب واستصعب؛ و(الهدي) بتخفيف الياء وتشديدها جمع هدية وهديّة، وهو ما أهدي إلى مكة من النعم لينحر تقربا به إلى الله، قال ثعلب: الهدي، بالتخفيف، لغة أهل الحجاز، والتثقيل، على فعيل، لغة بني تميم وسفلى قيس.. وأعلى الهدي بدنة، وأدناه شاة، والمعنى: أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل، تحلل بذبح هدي تيسر عليه: من بدنة أو بقرة أو شاة.

3. قال الراغب: ظاهر قوله تعالى: ﴿أُحْصِرْتُمْ﴾ أنه لا فرق فيه بين أن يحصر بمكة أو بغيرها، وبعد عرفة أو قبلها، وكذلك لا فرق في الظاهر بين أن يحصره عدوّ مسلم أو غيره، وظاهره يقتضي أنه لا فصل بين إحصار العدوّ وإحصار المرض، لولا أن الآية نزلت في سبب العدوّ فلا يجوز أن تتعدى إلّا بدلالة، ولأنّ قوله ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ يدلّ على أن المراد بالإحصار هو بالعدوّ.

4. قد يقال: العبرة في أمثاله بعمومه كما ذهب إليه ثلّة من السلف، فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود، وابن الزبير، وعلقمة، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومجاهد، والنخعي، وعطاء، ومقاتل أنهم قالوا: الإحصار من عدوّ أو مرض أو كسر، وقال الثوريّ: الإحصار من كل شيء آذاه، وثبت في (الصحيحين) عن عائشة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحجّ وأنا شاكية، فقال: حجّي واشترطي أن محلي حيث حبستني، ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله.

5. من دلالة الآية ما قاله الراغب: إن ظاهرها يقتضي أن لا قضاء على المحصر لأنه قال: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ واقتصر عليه.

6. ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ أي: الموضع الذي يحلّ فيه نحره، وهو مكانه الذي يستقرّ فيه، يعني موضع الإحصار، وبلوغه إياه كناية عن ذبحه فيه، واستعمال بلوغ الشيء محله في وصوله إلى ما يقصد منه ـ شائع، ولمّا اعتمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه عام الحديبية، وحصرهم كفّار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم بها ولم يبعثوا به إلى الحرم.

7. قد ساق ابن القيّم في (زاد المعاد) بعض ما في قصة الحديبية من القواعد الفقهية في فصل قال فيه: ومنها أنّ المحصر ينحر هديه حيث أحصر من الحل أو الحرم، وأنّه لا يجب عليه أن يواعد من ينحره في الحرم إذا لم يصل إليه، وأنّه لا يتحلل حتى يصل إلى محله، بدليل قوله تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: 25]، ومنها أنّ الموضع الذي نحر فيه الهدي كان من الحلّ لا من الحرم، لأنّ الحرم كله محل الهدي، وقال مالك في (الموطأ): من حبس بعدوّ فحال بينه وبين البيت، فإنه يحلّ من كل شيء، وينحر هديه، ويحلق رأسه حيث حبس، وليس عليه قضاء، قال: فهذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدوّ كما أحصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه.

8. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ أي: فمن كان منكم ـ معشر المحرمين ـ مريضا مرضا يتضرر معه بالشّعر ويحوجه إلى الحلق، أو كان به أذى من رأسه ـ كجراحة وقمل ـ فعليه، إن حلق، فدية من صيام أو صدقة أو نسك، وقد نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة الأنصاريّ قال: حملت إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والقمل يتناثر على وجهي، فقال ما كنت أرى أنّ الجهد قد بلغ بك هذا..! أما تجد شاة؟ قلت: لا! قال صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكلّ مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك، فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامّة، رواه الشيخان وغيرهما، واللفظ للبخاريّ، وروى أحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة قال كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحديبية ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون، وكانت لي وفرة، فجعلت الهوامّ تساقط على وجهي، فمرّ عليّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: أيؤذيك هوامّ رأسك؟ قلت: نعم، فأمره أن يحلق، قال ونزلت هذه الآية.

9. قال ابن عباس: إذا كان (أو أو) فأيّة أخذت أجزأ عنك! وعامة العلماء: إنه يخيّر في هذا المقام إن شاء صام وإن شاء تصدّق بفرق ـ وهو ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع وهو مدّان ـ وإن شاء ذبح شاة وتصدّق بها على الفقراء، أيّ ذلك فعل أجزأه، ولمّا كان لفظ القرآن في بيان الرخصة، جاء بالأسهل فالأسهل، ولمّا أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كعب بن عجرة بذلك أرشده أولا إلى الأفضل فقال: أما تجد شاة؟ فكلّ حسن في مقامه، ولله الحمد والمنّة ـ أفاده ابن كثير.

10. استفيد من الآية أحكام:

أ. الأول: جواز الحلق من المحرم، واللبس للمخيط للضرورة، ووجوب الفدية عليه، وذلك لبيان سبب النزول.

ب. الثاني: تحريم الحلق ولبس المخيط لغير عذر، وهذا مأخوذ من المفهوم لأنه مصرّح به، وذلك إجماع.

ج. الثالث: أنّ الفدية الواجبة تكون من أجناس الثلاثة وهي: الصيام، أو الصدقة، أو النسك، وقد ورد بيانها في حديث كعب.

د. الرابع: أنّ الفدية واجبة على التخيير كما بيّنا.

11. قال الراغب: ظاهر الآية يقتضي أنه لا فرق بين قليل الشعر وكثيره، بخلاف ما قال أبو حنيفة، حيث لم يلزم إلّا بحلق الثلث، وغيره لم يلزم إلّا بحلق الربع.

12. أصل النسك العبادة، وسميت ذبيحة الأنعام نسكا لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، قال أبو البقاء: والنسك ـ في الأصل ـ مصدر بمعنى المفعول لأنه من: نسك ينسك، والمراد به هاهنا المنسوك، ويجوز أن يكون اسما لا مصدرا، ويجوز تسكين السين.

13. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ أي: كنتم آمنين من أول الأمر، أو صرتم بعد الإحصار آمنين ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ﴾ أي: بإحرامه بها في أشهر الحجّ، ليستفيد الحلّ حين وصوله إلى البيت، ويستمرّ حلالا في سفره ذلك ﴿إِلَى الْحَجِّ﴾ أي: إلى وقت الإحرام بالحجّ ﴿فَمَا﴾ أي: فعليه ما ﴿اسْتَيْسَرَ﴾ أي: تيسّر ﴿مِنَ الْهَدْيِ﴾ من النعم، يكون هذا الهدي لأجل ما تمتع به بين النسكين من الحلّ.

14. في (النهاية): صورة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ، فإذا أحرم بالعمرة بعد إهلاله شوالا فقد صار متمتعا بالعمرة إلى الحجّ، وسمّي به، لأنه: إذا قدم مكة، وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، حلّ من عمرته، وحلق رأسه، وذبح نسكه الواجب عليه لتمتعه، وحلّ له كلّ شيء كان حرم عليه في إحرامه من النساء والطيب، ثمّ ينشئ بعد ذلك إحراما جديدا للحجّ وقت نهوضه إلى منى، أو قبل ذلك، من غير أن يجب عليه الرجوع إلى الميقات الذي أنشأ منه عمرته، فذلك تمتعه بالعمرة إلى الحجّ، أي انتفاعه وتبلغه بما انتفع به من حلق وطيب وتنظف وقضاء تفث وإلمام بأهله، إن كانت معه.

15. قال ابن القيّم في (زاد المعاد): وكان من هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم ذبح هدي العمرة عند المروة، وهدي القران بمنى، وكذلك كان ابن عمر يفعل، ولم ينحر صلّى الله عليه وآله وسلّم قط إلّا بعد أن حلّ، ولم ينحره قبل يوم النحر ولا أحد من الصحابة، البتة.

16. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ الهدي‏ ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ أي: بعد الإحرام وقبل الفراغ من أعماله، والأولى سادس ذي الحجّة وسابعه وثامنه.

17. سؤال وإشكال: كيف قال ﴿فِي الْحَجِّ﴾؟ ومتى أحرم يوم عرفة لا يمكنه صيام ثلاثة أيام في الحج لأنه منهيّ عنه في يوم النحر وأيام التشريق؟ والجواب(2).: الواجب على المتمتع أن يحرم بالحجّ على وجه يمكنه الإتيان بالصيام لثلاثة أيام، وذلك بتقديم الإحرام قبل يوم عرفة، وقد قال ابن عمر وعائشة: يصوم أيام التشريق، ويحملان النهي على صوم أيام منى على غير المتمتع.

18. ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ أي: إلى أهليكم، أو إذا أخذتم في الرجوع بعد الفراغ من أعمال الحجّ، قال الراغب: وإطلاق اللفظ يحتمل الأمرين جميعا، فيصحّ حمله عليهما، إلّا أنّ الذي يرجح الوجه الأول ما روي في (الصحيحين) من حديث ابن عمر الطويل وفيه: فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى أهله.

19. ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ﴾ فذلك حساب، أي: إجمال بعد تفصيل، وفائدتها: أن لا يتوهم أنّ الواو بمعنى (أو) وأنّ الكلام على التخيير، بل المجموع بدل الهدي..! وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا، فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم، وفي المثل: علمان خير من علم، فإنّ أكثر العرب لا يعرف الحساب، فاللائق الخطاب الذي يفهمه الخاص والعامّ، وهو ما يكون بتكرار الكلام وزيادة الإفهام..! وفائدة ثالثة: وهو أنّ المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما..! وفائدة رابعة: أشار لها الراغب وهو: إنّ قوله‏ ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ استطراد في الكلام، وتنبيه على فضيلة علم العدد ولذا قيل: العدد أول العلوم وأشرفها، أما أنه أول، فلأن ما عداه معدول منه، وبه يفصل ويميز، وأمّا كونه أشرف، فلأنه لا اختلاف فيه ولا تغيّر، بل هو لازم طريقة واحدة، فذكر العشرة ووصفها بالكاملة، إذ هي عدد كمل فيه خواص الأعداد، فإنّ‏ الواحد مبدأ العدد، والاثنين أول العدد، والثلاثة أول عدد فرد، والأربعة أول عدد زوج محدود ـ أي مجتمع من ضرب عدد في نفسه ـ والخمسة أول عدد دائر، والستة أول عدد نام ـ أي إذا أخذ جميع أجزائه لم يزد عليه ولم ينقص منه ـ والسبعة أول عدد أوّل ـ أي لا يتقدمه عدد بعده ـ والثمانية أول عدد زوج الزوج، والتسعة أول عدد مثلث، والعشرة أول عدد ينتهي إليه العدد، لأن ما بعده يكون مكررا بما قبله، فإذن العشرة هي العدد الكامل.

20. ﴿كَامِلَةً﴾ صفة مؤكدة لعشرة تفيد المبالغة في المحافظة على العدد، ففيه زيادة توصية لصيامها، وأن لا يتهاون بها، ولا ينقص من عددها، كأنّه قيل: تلك عشرة كاملة، فراعوا كمالها ولا تنقصوها.

21. ﴿ذَلِكَ﴾ أي: وجوب دم التمتع أو بدله لمن لم يجد ﴿لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي: بل كان أهله على مسافة الغيبة منه، وأمّا من كان أهله حاضريه ـ بأن يكون ساكنا في مكة ـ فهو في حكم القرب من الله، فالله تعالى يجبره بفضله، هذا، وقال بعض المجتهدين: إنّ ذلك إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ﴾ وليست للهدي والصوم، فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام، عنده.

22. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ـ في الجناية على إحرامه ـ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن جنى على إحرامه أكثر من شدّة الملوك على من أساء الأدب بحضرته، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة.

23. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ﴾ الآية، دليل على مشروعية التمتع، كما جاء في (الصحيحين) عن عمران بن حصين قال أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم ينزل قرآن يحرّمه، ولم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء، وروى مالك في (الموطأ) عن عبد الله عن عمر أنّه قال والله! لأن أعتمر قبل الحجّ وأهدي أحبّ إليّ من أن أعتمر بعد الحجّ في ذي الحجّة، وفي (الصحيحين): لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، يعني كما فعل أصحابه صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أمره.

24. قال ابن القيّم في (زاد المعاد): قد ثبت أنّ التمتع أفضل من الإفراد لوجوه كثيرة: منها: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرهم بفسخ الحجّ إليه، ومحال أن ينقلهم من الفاضل إلى المفضول الذي هو دونه، ومنها: أنه تأسف على كونه لم يفعله بقوله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها متعة، ومنها: أنه أمر به كلّ من لم يسق الهدي، ومنها أنّ الحجّ، الذي استقرّ عليه فعله وفعل أصحابه، القران ممن ساق الهدي، والتمتع لمن لم يسق الهدي، ولوجوه كثيرة غير هذه..!.

25. قال الراغب لا يجب الدم أو بدله في التمتع إلّا بأربع شرائط: إيقاع العمرة في أشهر الحجّ والتحلّل منها فيه.. الثاني: أن يثني الحجّ من سنته.. الثالث: أن لا يرجع إلى الميقات لإنشاء الحجّ.. الرابع: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/65.

(2) الكلام هنا للراغب.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلهِ﴾ اِئتوا بهما تامَّين بشروطهما وأركانهما، لا تقطعوهما ولا تكدِّروهما بشيء، والأمر للوجوب، فهما واجبان ذاتًا وتمامًا، وإن قرئ برفع (العمرة) فالمعنى: والعمرةُ ثابتةٌ لله على وجه الوجوب، أو العمرة واجبة لله، ويدلُّ للوجوب أيضًا: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلهِ﴾، والقائل بعدم وجوبها يقول: الآية أمرٌ بإتمامها بعد الدخول فيها، وكلُّ نفل يجب إتمامه بعد الدخول فيه صحيحًا.

2. فالحجُّ واجب لقوله تعالى: ﴿وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97]، كالصيام وجب بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183]، ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187]، أمر بإتمامه، والعمرة نفل، لِما روي أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قيل له: (العمرة واجبة يا رسول الله؟) قال: (لا، ولكن أن تعتمر خير لك)، كما روي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الحجُّ جهاد، والعمرة تطوُّع)، فالحديث بيان للآية لا نسخ، فضلاً عن أن يقال: الآحاد لا ينسخ القرآن، فأقول: نسخ هذا الحديث بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (العمرة داخلة في الحجِّ إلى يوم القيامة)، ولا يضرُّنا احتمال أنَّ وجوبَها تبع لوجوب الحجِّ، أو يصحُّ بها الحجُّ ولو نفلاً، وقد قيل لعمر: (وجدت الحجَّ والعمرة مكتوبين عليَّ فأهلَلْت بهما جميعًا) ـ بالفاء ـ فقال: هديت لسنَّة نبيئك، فلم يقل له عمر: لم تفرض العمرة، ولا يحتمل مع الفاء أن يقال: وجبت عليه بالشروع، ورواية إسقاط الفاء تبيِّنها رواية الفاء، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الحجُّ والعمرة واجبان، لا يضرُّك بإيِّهما بدأت)، فيجمع بين الروايات بأنَّها غير واجبة استقلالاً كما وجب الحجُّ، وواجبة على مريد الحجِّ أن يعتمر معه قبله أو بعده، ولو كان الحجُّ نفلاً، ومن أحرم لحجِّ نفل أو عمرة وأفسده أو أفسدها أتمَّه أو أتمَّها وأعاده وأعادها، والحقُّ أنَّ الصحابي حجَّة خلافًا للشافعيِّ، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (اقتدوا بأصحابي)، ولا يخصُّ هذا بما رووه صريحًا عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ويقال: إتمام الحجِّ أن تحرم به من دارك إن دخل شوال، أو إتمام العمرة أن تحرم بها من دارك مطلقًا، وإن دخل شوال جاز قرنهما، ويقال: إتمامها أن تفرد لكلٍّ منهما سفرًا، ويقال: أن لا تشوبهما بغرض دنيويٍّ كتجر ونكاح، ويقال: أن لا تكون النفقة حرامًا ولا شبهة.

3. ﴿فَإِنُ احْصِرْتُمْ﴾ أي: حصرتم، فهو موافق للثلاثيِّ، أي: منعتم عن الإتمام بعدوٍّ أو مرض، أو غيرهما كضياع نفقة، فيقدَّر في قوله: ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ أو شُفيتم، أو زال المانع، أو يؤوَّل: أمنتم بزوال المانع مطلقًا، بل الأمن يكون من المرض كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الزكامُ أمان من الجذام)، ونزولها في الحديبيَّة لا ينافي عموم الحكم، فإنَّ خصوص السبب لا ينافي عموم الحكم لعموم اللفظ، وإلَّا فالآية في العدوِّ فقط لقوله: ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ فيقاس عليه غيره، هذا مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، ويدلُّ له قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من كُسِر أو عَرِج ـ أي: حدث له العرج ـ فعليه الحجُّ من قابل)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا إحصار إلَّا من مرض، أو عدوٍّ، أو أمر حابس) وهو عموم، قال عروة: كلُّ شيء حَبَسَ المحرمَ فهو إحصار، وروي عن بعض الصحابة: (من أحرم بحجٍّ أو عمرة ثمَّ حُبس عن البيت بمرض يجهده، أو عدوٍّ يحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي)، وأهلَّ عمر بن سعد بعمرة فلُسِع، فقال ابن مسعود: ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة، فإذا كان ذلك فليحلَّ، وخصَّ مالك والشافعيُّ الحكم بحصر العدوِّ لقوله: ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾، وقول ابن عبَّاس: (لا حصر إلَّا حصر العدوِّ)، ويعترض بالحديث المرفوع قبل هذا، وليس ضعيفًا كما قيل؛ لأنَّه روي من طرق مختلفة، وإن شرط الحاجُّ: (محلِّي حيثُ حُبستُ) فلا هدي عليه إن حبس بعدوٍّ أو غيره، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لضباعة بنت الزبير بن عبد المطَّلب: (حجِّي واشترطي وقولي: محلِّي حيث حبستني يا الله)، والأصل أنَّه لا يختصُّ هذا بها، بل هو لها ولغيرها عند أحمد، وأحد قولَيْ الشافعي، والحديث حجَّة لنا ولأبي حنيفة أنَّ غير العدوِّ كالعدوِّ في الآية، والعمرة كالحجِّ.

4. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ فالواجب ما استيسر، أو فعليكم ما استيسر، أي: تيسَّر، من شاة ثنيَّة أو بقرة، أو بعير، قال ابن عبَّاس: (وما عظم فهو أفضل)، وعن ابن عمر: (الهدي بقرة أو جزور، ولا تكفي الشاة)، والهديُ بمعنى: الْمُهْدَى، وهو ما يسوق الحاجُّ أو المعتمر هديَّة لأهل الحرم بموجب كما هنا، أو بلا موجب.

5. ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ﴾ للتحلُّل كما لا تحلقون لغيره إلَّا الضرر، ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ﴾ المستيسر المذكور ﴿مَحِلَّهُ﴾ وهو موضع حلوله المعهود، ومحلُّه هو منًى، أيَّام منًى، أو الحرم مطلقًا، ولو قبل أيَّام منًى عندنا وعند أبي حنيفة، ويوقِّت لذبحه، فإذا كان الوقت الذي حدَّ لرسوله احتاط وحلق، وعن ابن مسعود: لُدغ رجل محرم بعمرة فأحصر، فقال: (ابعثوا بالهدي، واجعلوا بينكم وبينه يوم أمار)، أي: أمارة، وعن أبي حنيفة: إن كان حاجًّا فبالحرم متى شاء ويجعل يوم أمار، وعند أبي يوسف ومحمَّد في أيَّام النحر؛ وإن كان معتمرًا فبالحرم في كلِّ وقت عنده وعندهما، وقال الشافعي: يُنْحَرُ حيث أحصر، ولو في الحلِّ فمحلُّه عنده موضع حلول المحصر؛ ويتقوَّى مذهبنا بقوله: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ﴾.

6. وعلى المحصر الحجُّ أو العمرة أو كلاهما من قابل كما تُقضَى الصلاة والصوم، وكما اعتمر صلّى الله عليه وآله وسلّم من قابل، وهكذا شأن النفل إذا دخل فيه صحيحًا، وقطع أعيد كما يوفي بالنذر والوعد، بل زاد بالدخول، واحتجَّ الشافعيُّ في عدم وجوب القضاء بأنَّ الله لم يذكر القضاء، قلت: يلزم عليه أن لا يلزم قضاء ما وجب من حجٍّ أو عمرة إذا أحرم به وأحصر عنه، ولا قائلا بذلك، وإنَّما لم يذكر لأنَّ المقام لشأن الإحصار لا لبيان كلِّ ما يجب عليه، ووجه اللزوم أنَّ الآية في الإحصار مطلقًا لا في الإحصار عن النفل خاصَّة، واحتجَّ الشافعيُّ في أنَّ النحر حيث حلَّ بالحبس أنَّ النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم نَحَر حين حُبس في الحديبيَّة، وهي من الحلِّ كما قال مالك، فأجيب بأنَّها من الحرم كما قال الزهريُّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ الحديبيَّة من الحرم)، فقال لذلك: (إنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نحر هديه بالحرم)، وبه قال أبو حنيفة، وصحَّح أرباب الحديث أنَّها من الحلِّ، ويجمع بأنَّها في طرف الحرم، كما قال الواقديُّ، على تسعة أميال من مكَّة.

7. ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيَضًا﴾ مرضًا يحوجه إلى الحلق، وَأَمَّا المرض الذي لا يحوجه إلى الحلق فكَلَا مرضَ بالنسبة إلى الحلق، ولو اشتدَّ، ومعنى الفاء: التفريع على ما قبلها، فإنَّه يَلزم مِنْ مَنْعِ الحلقِ حتَّى يبلغ الهدي أنَّه لا بدَّ من كفَّارة على الحالق ولو لعذر.

8. ﴿اَوْ بِهِ أَذًى﴾ جملة معطوفة على (مَرِيضًا)، وساغ لأنَّ (مَرِيضًا) خبر (كَانَ)، أو يقدَّر: أو ثابت به أذًى، عطفًا لـ (ثابتًا) على (مَرِيضًا)، فـ (أَذًى) فاعل (ثابتًا)، أو فاعل به، وَأَمَّا أن تعطف الاسميَّة على (كَانَ..) إلخ فلا، إلَّا إن جعلنا (مَن) موصولة، جعلت في خبرها الفاء لعمومها كالشَّرطيَّة، لا شرطيَّة؛ لأنَّ الأداة الشرطيَّة لا تليها الاسميَّة، خلافًا للأخفش والكوفيِّين؛ ودعوى أنَّه يُغتفر في الثواني كالعطف هنا ما لا يغتفر في الأوائل لا تتمُّ؛ لأنَّه لا يطَّرد ذلك الاِغتِفار.

9. ﴿مِّن رَّأْسِهِ﴾ أي: في رأسه، أو برأسه، أو ﴿مِّن رَّأْسِهِ﴾ بمعنى: أنَّه أتاه الوجع منه، وذلك كجراحة وقمل، ﴿فَفِدْيَةٌ﴾ فعليه فدية، وهذا التقدير مطَّرد، وإنَّما جاز أن يقدَّر: فالواجب فدية؛ لأنَّ النهي عن الحلق يشير إلى واجب على الحالق، فبيَّنه بقوله: الواجب فدية، ﴿مِّن صِيَامٍ﴾ أي: هي صيام ثلاثة أيَّام، ﴿اَوْ صَدَقَةٍ﴾ اثني عشر مدًّا من غالب قوت مكَّة، على ستَّة مساكين من أهلها.

10. ﴿اَوْ نُسُكٍ﴾ يفرِّقه لأهل مكَّة الفقراء شاة ثنيَّة، وإن شاء فبقرة أو بعير كذلك إن حلق، أو يقدَّر: فمن كان منكم مريضًا وحلق، وكلُّ فعل مناف للإحرام ففيه ذلك إذا فُعل لأذًى، كلبس المخيط والتطيُّب، وإن فعل لغير أذًى فشاةٌ، وقال الشافعيُّ: كحكم الآية، والحلق كناية عن التحلُّل، فإنَّ معنى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ﴾ لا تحلِّلوا، فالآية على التخيير، قال عبد الله بن مَعْقِل: قعدتُ إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ فسألته عن قوله تعالى: ﴿فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ﴾ الآية، فقال: حُملتُ إلى النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: (ما كنت أرى أنَّ الجهد بلغ بك هذا! أما تجد شاةً؟) قلت: لا، قال عليه السلام : (فصم ثلاثة أيَّام، أو أطعم ستَّة مساكين واحلق رأسك)، فنزلت فيَّ خاصَّة ولكم عامَّة، وتقديم الشاة بوجدانها استحبابٌ منه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا ترتيب، وأجاز بعضهم الإطعام في غير مكَّة، وَأَمَّا الذبح ففي مكَّة خاصَّة، وفي رواية: (احلق وصم ثلاثة أيَّام، أو تصدَّق بفرق، أو أنسِك بشاةٍ)، والفرق اثنا عشر مدًّا، ثلاثة أصوع، والصاع ثمانية أرطال بالعراقي، وقال أبو يوسف: (خمسة أرطال وثلث) وهو قول الشافعي، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (صاعنا أصغر الصيعان)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : كان يتوضَّأ بالمدِّ ـ رطلين ـ ويغتسل بالصاع ـ ثمانية أرطال ـ ، وكذا كان صاع عمر  ، وهو أصغر من الهاشميِّ، وكانوا يستعملون الهاشميَّ.

11. ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ عطف على قوله: ﴿أُحْصِرْتُمْ﴾، أي: إذا أمنتم من العدوِّ، أو بأن ذهب العدوُّ، أو ظننتم أنَّه كان وتبيَّن أنَّه لم يكن، وفي الوجهين الإحصار، أو لم يكن ولم تظنُّوا أنَّه كان وأمنتم من المرض ونحوه، ولا إحصار في ذلك، ولا حكم إحصار، أي: أمنتم الإحصار وسائر الموانع، أو كنتم في الأمن من ذلك.

12. ﴿فَمَن تَمَتَّعَ﴾ انتفع ﴿بِالْعُمْرَةِ﴾ بسبب الاقتصار على العمرة والتحلُّل منها بالطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس والجماع وصيد الحلِّ وقطع التفث والزينة والطواف بالبيت كلَّما شاء، سواء أحرم بها وحدها أو مع الحجِّ ثمَّ فسخه، أو بالحجِّ ثمَّ فسخه إلى العمرة، وذلك كلُّه في أشهر الحجِّ، وقيل: أو بإتمامها في أشهره مع أنَّه لم يعد إلى الميقات للإحرام بالحجِّ، ولا إلى أهله أو مثل أهله في البعد ولم يكن من أهل الحرم، وأنَّه حجَّ من عامه، وبالتقرُّب إلى الله بعقد الحجِّ في ذلك العام، ﴿إِلَى الْحَجِّ﴾ مستمرًّا بتمتُّعه إلى الحجِّ، ومنتهيًا تمتُّعه أو تحلُّله إلى أن أحرم بالحجِّ ولو بلحظة، وذلك أنَّ الدم يلزم بالحلِّ منها، ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ﴾ فالواجب، أو فعليه ما تيسَّر ﴿مِنَ الْهَدْيِ﴾ شاة ثنيَّة أو بقرة أو بعير، كذلك يتصدَّق به في الحرم، على فقراء الحرم مطلقًا، بعد الإحرام بالعمرة والإحلال منها لا قبل الإحلال، وقيل بعده، وبعد الإحرام بالحجِّ، والأَولى أن يكون يوم النحر أو أيَّام التشريق.

13. ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ هديًا أو ثمنه أو كليهما ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ في حال الإحرام بالحجِّ، فيجب أن يحرم قبل السابع من ذي الحجَّة لكراهة صوم يوم عرفة لئلَّا يَضعُف عن القيام والدعاء، وإن كان لا يضعف لم يكره، ولا تؤخَّر هي أو بعضها لما بعد يوم النحر، ولا يجوز صوم يوم النحر، وأجيز صومها في عشرة ذي الحجَّة، ولو قبل الإحرام بالحجِّ فتؤخَّر رجاء وجود الهدي، إلى أن تبقى ثلاثة قبل يوم النحر، والواضح أنَّه لا يصومها إلَّا وهو محرم بالحجِّ في العشرة أو قبلها، والراجح في العشرة، وعند الشافعيَّة كلُّ حقٍّ ماليٍّ تعلَّق بسببين يجوز تقدُّمه على ثانيهما، فجاز ولو ـ عندهم ـ تقديم الذبح للمتمتِّع على الإحرام بالحجِّ، ورجَّحوا إيقاعه بعد الإحرام، والسببان: العمرة في أشهر الحجِّ، والإحرام بالحجِّ بعد التحلُّل منها، بخلاف صوم التمتُّع فلا يجوز عندهم تقديمه على الإحرام بالحجِّ لأنَّه عبادة بدنيَّة لا ماليَّة، فلا يجوز تقديمها على ثاني سبَبَيْها، وزعموا عن الشافعيِّ أنَّه يجوز صومها أيضًا في أيَّام التشريق في قولٍ له ضعيف عنه، إذ ربَّما تمَّ حجُّه قبل كمال ثلاثة أيَّام التشريق، والله يقول: ﴿فِي الْحَجِّ﴾، وعن ابن عمر أنَّه رخَّص صلّى الله عليه وآله وسلّم للمتمتِّع إذا لم يجد هديًا، ولم يصم حتَّى فاته أيَّام العشر أن يصوم أيَّام التشريق مكانها، وعن الزهريِّ أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث عبد الله بن حذافة فنادى في أيَّام التشريق: (إنَّ هذه أيَّام أكل وشرب وذكرِ الله تعالى ، إلَّا من كان عليه صوم من هدي)، وعن عائشة أنَّه لم يرخِّص صلّى الله عليه وآله وسلّم في أيَّام التشريق أن يُصَمْنَ إلَّا لمتمتِّع لم يجد هديًا، وقال الحنفيَّة: إذا جاء يوم النحر لم يجز إلَّا الذبح، ومذهبنا ترجيح تأخير ذبح هدي المتعة إلى يوم النحر، والمشهور عند أبي حنيفة أنَّه بين الإحلال من العمرة والإحرام بالحجِّ، وأجازه بعد الإحرام به، وقال الشافعيُّ: يذبح بعد الإحرام بالحجِّ، وعن أبي حنيفة أنَّه يذبح يوم النحر فقط، ويذبح في الحرم فقط، وأنَّه نسك يأكل منه هو والغنيُّ والفقير؛ لأنَّه وجب لشكر الجمع بين النسكين فكان كالأضحية في التقرُّب بها إلى الله، وكذا قال كثير من أصحابنا(2): يأكل منه، وقال الشافعيُّ: دمُ جَبْرِ خَللِ إحرامه بالعمرة في أشهر الحجِّ إذ لم يحرم به ولا بهما معًا، فهو جارٍ مجرى الجنايات فلا يأكل منه، واعترض بأنَّه كيف يكون جبرًا لخللٍ مع أنَّ الله أباح التمتُّع؟ فيجاب بأنَّ الله أفهمنا من الكفَّارة أنَّه خلاف الأصل، وأنَّه خلل.

14. ﴿وَسَبْعَةٍ اِذَا رَجَعْتُمْ﴾ فرغتم من أعمال الحجِّ: رمي الجمار وطواف الزيارة والسعي، ويكره صوم أيَّام التشريق، سمِّي الفراغ رجوعًا إلى الأهل أو لغيره لأنَّه سبب، أو سمِّي القصد إلى غير الحجِّ رجوعًا، فإنَّه كان في غيره من الإحلال، أو من كونه غير محرم أصلا، فقد رجع إلى حالٍ كان فيها قبل، وهي كونه غير محرم ولا ملتبس بأفعال الحجِّ، وذلك مذهبنا ومذهب أبي حنيفة في مكَّة، إلَّا أنَّا نجيز صومها أيضًا في الطريق راجعًا، ولو وصل أهله قبل تمامها، وقال الشافعيُّ: (إذا وصلتم أهلكم)؛ وله قول كقولنا وقول أبي حنيفة، وعن ابن عبَّاس: (إذا بلغتم أمصاركم)، وحكم ناوي الإقامة بمكَّة حكم واصلٍ أهلَه، واستظهر بعض أنَّ الرجوع ظاهر في هذا المعنى، وقال مالك: (يجوز صيامها في أيَّام التشريق) يروي في ذلك حديثًا، وقيل: معنى الآية صومها في الطريق حال الرجوع، وفيه أنَّ الله تعالى لم يوجب صوم رمضان في السفر فكيف هذه الأيَّام!؟.

15. ﴿تِلْكَ﴾ الثلاثة والسبعة، أي: تلك الجملة ﴿عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ هذه فذلكة، والفذلكة إجمال الحساب بعد تفرُّقه، كقولك بعد تفرُّقه: فذلك كذا وكذا، سواء قلت بعد تفرُّقه: ذلك كذا، أو تلك كذا، أو هؤلاء كذا، أو هذه كذا، أم ذكرت المفرَّق، مثل أن يجتمع عندك ألف وخمس مائة وستُّ مائة تذكرها ثمَّ تقول: فالجملة ألفان ومائة، وهي مركَّبة من فاء التفريع و(ذا) الإشاريَّة مع حذف ألفها وإسكان ذالها، ولام البعد وفتحها وكاف الخطاب وتاء التأنيث، وفي هذه الفذلكة فوائد:

أ. الأولى: دفع ما رُبَّما يتوهَّم من أنَّ الواو بمعنى (أو)، فصرَّحت الفذلكة بعدم ذلك، فإنَّها قد ترد بمعنى (أو) نحو: (جالس الحسن وابن سيرين) بالواو، وتريد جالس هذا أو هذا بـ (أو)، وأنت تريد بـ (أو) أيضًا جواز الجمع، ووجه الواو أنَّه لا يمنع عنك أحدهما إلَّا أنَّه لا بدَّ منهما جميعًا، قال السيرافي في شرح سيبويه: الصواب أنَّ الواو كاف في الإباحة؛ لأنَّ الإباحة إنَّما استفيدت من الأمر، والواو جَمعت بين الشيئين في الإباحة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3]، فالواو بمعنى أو في بعض التأويل.

ب. الثانية: الإعلام بأنَّ المراد بالسبعة حقيقتها لا كثرة العدد، فإنَّها قد تطلق للكثرة كما تطلق السبعون، والفائدتان احتراس.

ج. الثالثة: الإعلام بالعدد إجمالاً كما علم به تفصيلاً، كما تقول العرب: (علمان خير من علم)؛ وهذه الفائدة تتميم، فإنَّ أكثر العرب لا تحسن الحساب، قال رجل لابنه في سفر: يا بني، استبحث لنا عن الطريق، فقال: إنِّي عالم، فقال: (يا بنيَّ، علمان خير من علم).

د. الرابعة: أنَّ المعتاد أن يكون البدل أضعف حالا من المبدل منه، فأخبرنا الله تعالى أنَّ هذا ليس كذلك، فتطمئنَّ نفس الصائم عن الهديِ، فإنَّ معنى كاملة أنَّها كاملة في البدليَّة عن الهديِ، قائمة مقامه، وأنَّها كاملة في أنَّ ثوابها كثواب الهدي، وكاملة في المتمتِّع الصائم لها كالحجِّ بلا تمتُّع.

هـ. وأيضًا (كَامِلَةٌ) صفة تقيد المبالغة في محافظة الصائمين على العدد، كأنَّه قيل: فصوموها غير ناقصة، وتفيد أنَّ العشرة عدد كامل بمعنى انتهاء الأعداد إليه، وكلُّ عدد بعدده مركَّب منه ومِمَّا قبله، وإذا عددنا التوكيد فائدة فهو فائدة خامسة، كقوله تعالى: ﴿وَلَا طَآئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: 38]

و. وتعدُّ ما مرَّ من أنَّ العرب ليسوا أهل حساب، فَفَذْلَكَ لهم، فهذه فائدة سادسة.

ز. السابعة: دفع توهُّم وجود مخصِّص يخصُّ عموم الثلاثة والسبعة.

ح. الثامنة: دفع تصحيف سبعة بتسعة في الكتابة.

ط. التاسعة: ما قيل: دفع توهُّم أنَّه تتمُّ السبعة بالثلاثة السابقة، ثلاثة في الحجِّ، وأربعة إذا رجع.

ي. العاشرة: أنَّ الجملة الاسميَّة أنسب بالتكميل، كما قال: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالعُمْرَةَ﴾ أي: اجبروه إجبارًا تامًّا، وذلك توكيد للأمر، كأنَّه امتثل فهو يخبر عنه.

ك. الحادية عشرة: أنَّ الصوم طاعة كاملة كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (قال الله: الصوم لي..).

16. والعشرة عدد كمل فيه خواصُّ الأعداد، فإنَّ الواحد مبدأ العدد، ولا عدد فيه إذ لا تكرير فيه، والاِثنان: أوَّل العدد فإنَّه أوَّل تكرير، والثلاثة: أوَّل عدد فرد، والأربعة أوَّل عدد مجذور، والخمسة أوَّل عدد دائر، فلا يمكن تدوير المجلس قبله، والستَّة أوَّل عدد تامٍّ، أي: تستفرغه أجزاؤه، والسبعة عدد أوَّل تامٌّ فيه أنواع العدد كما يأتي إن شاء الله تعالى، والثمانية أوَّل عدد زوج الزوج، والتسعة أوَّل عدد لثلثه ثلث يستفرغه، والعشرة ينتهي إليها العدد، وكلُّ عدد بعدها مركَّب منها ومِمَّا قبلها، ويقال أيضًا: السبعة عدد تامٌّ لاشتماله على أنواع العدد، وهي أنَّ العدد إمَّا زوج وإمَّا فرد، وإمَّا مركَّب من زوج، وإمَّا مركَّب من فرد، وإمَّا مركَّب من زوج وفرد، فالاِثنان مركَّب من فردين، والواحد فرد، والثلاثة من زوج وفرد، والأربعة من زوجين، والستَّة من فردين وهما ثلاثة وثلاثة، أو من زوجين: أربعة واثنين.

17. ﴿ذَالِكَ﴾ الحكم من لزوم الهدي أو بدله وهو الصيام، أو ذلك التمتُّع، ويضعِّفه أنَّه قال: ﴿لِمَن لَّمْ يَكُنَ اَهْلُهُ﴾ كناية عن السكنى، ولو لم يكن له أهل، ﴿حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ ولم يقل: على من لم يكن، وتأويل اللام بعلى خلاف الأصل، وحاضِرُو المسجد الحرام عندنا مَن سَكَنَ في الحرم ولو لم يستوطنه، ومَن في داخل الميقات عند أبي حنيفة، ومن في مكَّة عند مالك، ومن بينه وبين الحرم أقلُّ من مسافة القصر عند الشافعيِّ على مذهبه في مسافة القصر، والقارن لزمه ما لزم المتمتِّع، قرن من أوَّل، أو أدخل الحجَّ على العمرة، أو العمرة على الحجِّ، ووجه ذلك في العمرة أو في إدخال الحجِّ عليها أنَّ الأُفُقيَّ يجب عليه أن يحرم عن الحجِّ من الميقات لا عن العمرة، ثمَّ أحرم عن الحجِّ لا من الميقات، فحصل التحلُّل فجبر بالدم، والحرميُّ مثلاً لا يجب إحرامه من الميقات فلا خلل في تمتُّعه، فلا هدي ولا صوم عليه؛ لأنَّ إحرامه من محلِّه حقٌّ.

18. ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ﴾ بالمحافظة على أوامر الحجِّ والعمرة بالامتثال، ونواهيهما بالاجتناب، وعلى سائر الأوامر والنواهي، ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ في ترك واجب حجٍّ أو عمرة أو غيرهما، وفي فعل محرَّم فيهما أو غيرهما، والعلم بذلك يمنعكم عن المقارفة، وأظهَرَ لفظ الجلالة لتربية المهابة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/344.

(2) يقصد الإباضية

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. اتصال هذه الآيات بما قبلها جلي جدا لا سيما لمن قرأ ما تقدم من التفسير، فإن آيات القتال السابقة نزلت في بيان أحكام الأشهر الحرم والإحرام والمسجد الحرام، فكان الغرض الأول من السياق بيان أحكام الحج بعد بيان أحكام الصيام، لأن شهوره بعد شهره الذي هو رمضان. ولما أراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم العمرة وصده المشركون أول مرة بالحديبية، وأراد القضاء في العام القابل وخاف أصحابه غدر المشركين بهم واضطرارهم إلى قتالهم إذا هم نقضوا العهد وبدؤوا بالقتال، أنزل الله تعالى أحكام القتال بعد ذكر الحج في الجواب عن حكمة اختلاف الأهلة ثم عاد إلى إتمام أحكام الحج فقال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ فالعطف والتعبير بالإتمام ظاهران في أن السياق في الكلام عن الحج، ولذلك لم يقل هنا كتب عليكم الحج كما قال في الصيام، وقد كان الحج معروفا في الجاهلية لأنه فرض على عهد إبراهيم وإسماعيل فأقره الإسلام في الجملة، ولكنه أزال ما أحدثوا فيه من الشرك والمنكرات، وزاد فيه من المناسك والعبادات، فالآية ليست في فرضيته وفرضية العمرة، بل هي في واقعة تتعلق بهما وبقاصديهما، وقد كانوا توجهوا إلى ذلك قبل نزولها بعام ـ كما تقدم ـ فدل ذلك على أن المشروعية سابقة لنزول هذه الآيات.

2. المراد بإتمام الحج والعمرة الإتيان بهما تامين، ظاهرا بأداء المناسك على وجهها، وباطنا بالإخلاص لله تعالى وحده دون قصد الكسب والتجارة أو الرياء والسمعة فيهما، ولا ينافي الإخلاص البيع والشراء في أثناء الحج إذا لم تكن التجارة هي المقصودة في الأصل، وسيأتي التفصيل في حكم التجارة في الحج في تفسير ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾

3. أما الرياء وحب السمعة فإذا كان هو الباعث على الحج فالحج ذنب للمرائي لا طاعة، وإذا عرض الرياء في أثنائه فقيل: إنه لا يقبل منه شيء لما ورد من أن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصا لوجهه، والأحاديث في ذلك كثيرة، وإذا كان هذا قد بدأ بالنسك لوجه الله فإنه لم يتمه لله كما أمر، وقيل: بل يؤاخذ بقدر قصده الطاعة والإخلاص وقدر قصده الرياء، وكل شيء عنده تعالى بمقدار ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾

4. نبه محمد عبده في الدرس لحال عامة الحجاج في هذا الزمان فقال: إن أكثرهم لا يخطر في بالهم مناسك الحج وأركانه وواجباته ولا يقصدونها للجهل بها، وإنما يقصدون زيارة (أبو إبراهيم) يعني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومنهم من لا يعرف للحج معنى سوى هذه الزيارة، وهؤلاء هم الهائمون المغرمون بالحج، ومن الناس من يحج ليقال له الحاج فلان أو ليحتفل بقدومه، وهذا من أخس ضروب الرياء، وكثير منهم يقترض بالربا ويحج فيريد أن يعبد بأنكر المنكرات.

5. استدل بالآية القائلون بوجوب العمرة كالحج، وهو المروي عن علي وابن عمر وابن عباس وجماعة من كبار التابعين وعليه الشافعي وأحمد، وقيل: إنها سنة، ويروى عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وعليه مالك والحنفية، وعن أبي حنيفة قول بالوجوب، وقد تقدم أن الآية ليست في وجوب الحج والعمرة فلا تصلح حجة على القائلين بالسنية، لأن الأمر بإتمام الحج والعمرة خطاب لمن شرع فيهما، وهو يصدق وإن كانت العمرة سنة.

6. يدل على فرضية الحج قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، والأحاديث الصحيحة الصريحة، وأما الأحاديث في العمرة فمتعارضة، والصواب أن الأحاديث الناطقة بأن العمرة غير واجبة وبأنها تطوع ضعيفة، وأقواها حديث الأعرابي الذي سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: (لا، وأن تعتمر خير لك) وهو عند أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وصححه الترمذي وفي إسناده الحجاج بن أرطاة وقد ضعفه الأكثرون، وبالغ ابن حزم فقال: إن هذا الحديث مكذوب وباطل، والصواب ما قاله النووي من اتفاق الحفاظ على تضعيفه، وأقوى أحاديث القائلين بوجوب العمرة حديث أبي رزين العقيلي قال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، فقال: (حج عن أبيك واعتمر) رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي بلا نكير بل قال الإمام أحمد: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أوجب من هذا ولا أصح منه، فهو حجة عند القائلين بأن الأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف، وقد يقال: إن هذا السائل لم يقصد السؤال عن مشروعية أصل الحج والعمرة فإنه كان يعلم حكمهما وإنما سأل هل يصح أن يأتي بهما عن أبيه الذي يقعده عنهما العجز، ولا ينافي هذا كون العمرة سنة متبعة لا فرضا لازما، ويؤيد هذا عدم ذكرها في الآية الناطقة بالوجوب ولا في حديث أركان الإسلام فهي تطوع النسك، وإن لم يصح الحديث الذي فيه لفظ التطوع. وقال بعضهم: إن العمرة سنة فمتى شرع فيها كان إتمامهما واجبا. وما تقدم في معنى الإتمام هو المتبادر والجامع بين الأقوال المختلفة، وما رواه ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية في سبب نزولها إن صح لا ينافيه، وهو أن رجلا جاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم متضمخا بالزعفران عليه جبة فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله الآية، فقال: (أين السائل عن العمرة)؟ قال: هأنذا، فقال له: (ألق عنك ثيابك ثم اغتسل واستنشق ما استطعت ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك)

7. أركان الحج خمسة: الإحرام من الميقات وهو في الأصل: الوقت المضروب للشيء والمراد به هنا المكان الذي عينه الشارع لإحرام أهل كل قطر، وسيأتي تفسير الإحرام.. الوقوف بعرفة.. الطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة.. الحلق أو التقصير للشعر، فمن أدى هذه الأعمال فقد أدى الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام، وله أعمال أخرى واجبة من قصر في شيء منها كان عليه فدية، وأركان العمرة هي ما عدا الوقوف من أركان الحج، وفرضية الحج مجمع عليها معلومة من الدين بالضرورة من أنكرها كان مرتدا، والراجح أنه فرض سنة تسع من الهجرة وعليه الجمهور. وهذه الآية نزلت سنة ست، ولكن ليس فيها أن الحج فرض على كل مستطيع من المؤمنين رجالا ونساء.

8. الحج مما أقره الإسلام من ملة إبراهيم عليه السلام كما تقدم آنفا، وآية آل عمران في التصريح بفرضيته نزلت قبل هذه الآيات فيما يظهر، لأن سورة آل عمران نزلت عقب غزوة أحد سنة أربع، ولكن المسلمين لم يكن يمكنهم الحج قبل فتح مكة.

9. أمر بالإتمام ثم ذكر حكم ما عساه يحول دونه فقال: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ الحصر والإحصار في اللغة الحبس والتضييق، يقال: حصره عن السفر وأحصره عنه إذا حبسه ومنعه، وقال بعض أئمة اللغة: إن الإحصار هو المنع بسبب الناس والحصر بسبب المرض، وقال بعضهم بالعكس، وقوله تعالى الآتي بعد: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ يرجح أن المراد بالإحصار منع العدو، أي: إن منعتم من إتمام النسك فعليكم ما تيسر لكم وسهل حصوله وثمنه من الهدي، وهو ما يهديه الحاج والمعتمر إلى البيت الحرام من النعم ليذبح ويفرق على فقرائه، وذهب الجمهور إلى أن المراد بما استيسر: الشاة وهي أدناه، وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير: جمل أو بقرة، والمتبادر من الآية أن على كل أحد ما استيسر له من بدنة أو بقرة أو شاة. قال ابن عباس: وما عظم فهو أفضل، والجمهور على أن يذبحه حيث أحصر ولو في الحل ويتحلل، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل على الأرجح، وقالت الحنفية: يبعث به إلى الحرم ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة، فإذا جاء اليوم وغلب على ظنه أنه ذبح تحلل.

10. ثم قال: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ الدخول في الحج أو العمرة يكون بالإحرام، وهو نية النسك عند الابتداء به بالتلبية ولبس غير المخيط من إزار ورداء مع كشف الرأس للرجل ولبس النعلين العربيين، والخروج منهما ـ ويعبر عنه بالإحلال والتحلل ـ يكون بحلق الرأس أو تقصير شعره، فالنهي عن الحلق هنا عبارة عن النهي عن الإحلال قبل بلوغ الهدي إلى المكان الذي يحل ذبحه فيه وهو في حال الإحصار حيث يحصر الحاج وإلا فالكعبة لقوله تعالى: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾، واستدل الحنفية بهذا على عدم جواز نحر الهدي في محل الإحصار، وحجة الجمهور فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديبية، وأن الأصل في الهدي أن يبلغ الكعبة، لأنه مهدى إليها، وحال الإحصار حال ضرورة ولا سيما إحصار السنة التي أنزلت فيها الآية، فقد كانت الكعبة في أيدي المشركين، فلا يعقل أن يأمر الله تعالى بإرسال الهدي إليها فيكون غنيمة لهم، على أن إبلاغه محله في حال الإحصار يكون متعذرا أو متعسرا، فكيف يتوقف الإحلال عليه؟ ثم إن اكتفاءهم بذبحه في أدنى مكان من أرض الحرم لا ينطبق على الآيتين الناطقتين ببلوغه الكعبة والبيت العتيق، وقولهم: إنه عليه السلام ذبح عام الحديبية في أول الحرم غير مسلم، فجمهور أهل النقل على خلافه، ثم إنهم احتاجوا في تصحيح قولهم إلى تقدير العلم، أي: حتى تعلموا أن الهدي بلغ محله، ولا حاجة إلى تقدير على رأي الجمهور.

11. استدل الجمهور بالاقتصار على الهدي في مقام البيان على أن القضاء غير واجب على المحصر، وقالت الحنفية: يجب قضاء العمرة، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قضاها بأصحابه وسميت عمرة القضاء، وقال الشافعي: سميت عمرة القضاء، والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين قريش لا على أنه أوجب عليهم قضاء تلك العمرة، والهدي: جمع هدية كجدي وجدية والمحل ـ بكسر الحاء ـ اسم مكان من حل يحل حلا، أي: صار حلالا، ضد حرم يحرم إذا صار حراما.

12. ثم ذكر حكم من يؤذيه عدم الحلق فقال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ مرضا ينفعه فيه الحلق ويضره عدمه ﴿أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ كقمل أو جرح ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ أي: فعليه إن حلق فدية من هذه الأجناس الثلاثة على التخيير، أخرج البخاري من حديث كعب بن عجرة قال: وقف علي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحديبية ورأسي يتهافت قملا فقال: يؤذيك هوامك؟ قلت: نعم. قال: فاحلق رأسك. قال: فنزلت هذه الآية وذكرها، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق بين ستة أو انسك بما تيسر)

13. ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ الإحصار وذهب خوف العدو. قال بعض الفقهاء: ومثله المرض أو كنتم في حال أمن وسعة ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أي: فمن تمتع بمحظورات الإحرام بسبب العمرة، أي: أدائها بأن أتمها وتحلل وبقي متمتعا إلى زمن الحج ليحج من مكة فعليه ما استيسر له من الهدي، أي: فعليه دم جبر أقله شاة، لأنه أحرم بالحج من غير الميقات، يذبحه يوم النحر أو قبله جوازا عند بعضهم، أو المعنى فمن قام بأعمال العمرة قبل الحج منتهيا إليه فعليه ذلك.

14. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ الهدي لعدمه أو عدم المال ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ أي: فعليه صيامها في أيام الإحرام بالحج وتمتد إلى يوم النحر، وقال أبو حنيفة في أشهره بين الإحرامين وهذا أوسع ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ من الحج إلى بلادكم، ويصدق بالشروع في الرجوع وعليه الأئمة الثلاثة، وغيرهم من السلف، قالوا: يجزئه الصوم في الطريق ولا يتضيق عليه إلا إذا وصل إلى وطنه. وقال مالك: إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم. وقال أبو حنيفة معناه: إذا فرغتم من أعمال الحج، فيجوز الصوم عنده قبل الشروع بالرجوع إلى الوطن، وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر في حجة الوداع أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) ولهذا الحديث قال بعض العلماء: أنه لا يجوز صيامها قبل الوصول إلى أهله، لأنه تقديم للعبادة البدنية على وقتها، ويجاب عنه بأن لفظ الرجوع يصدق بالشروع فيه، ولا يخفى أن الاحتياط أن يصومها بعد الوصول إلى أهله، لأنه المتبادر من العبارة، ولأن الصيام في السفر خلاف الأصل في هذه القربة.

15. ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ إشارة إلى الثلاثة والسبعة، مبين لجملة العدد الواجب كما بين تفصيله، ومزيل لوهم من عساه يتوهم أن الواو العاطفة للسبعة للتخيير، كما عليه بعض العرب في مثل: جالس الحسن وابن سيرين، وروي أن بعض العرب كانوا يستعملون عدد السبعة للكثرة في الآحاد، كما يستعملون عدد السبعين لغاية الكثرة، فالفذلكة تزيل وهم هؤلاء أيضا، ولذلك أكدها بقوله كاملة.

16. قال محمد عبده: إن الله تعالى إذا أراد أن يقرر حكما وكان في التعبير المألوف عنه ما يوهم خلاف المقصود ـ ولو لبعض المخاطبين ـ يأتي بما يؤكد الحكم وينفي أدنى وهم يعرض فيه، ولذلك وصف كتابه بالمبين وبالتبيان. وإذا كان هذا شأنه فيستحيل أن يطلق في مقام بيان الأحكام القول في نفي شيء بصيغة الإثبات، كما قدر بعضهم النفي في قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾

17. ثم بين تعالى أن التمتع بالعمرة مضمومة إلى الحج أو إلى وقت الإحرام بالحج وما يتبعه من الأحكام خاص بالآفاقيين دون أهل الحرم فقال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، وذلك أن أهل الآفاق هم الذين يحتاجون إلى هذا التمتع لما يلحقهم من المشقة بالسفر إلى الحج وحده ثم السفر إلى العمرة وحدها، هذا ما اختاره محمد عبده وعليه الحنفية، فلا متعة ولا قران عندهم لحاضري المسجد الحرام، وقال غيرهم كالشافعية: إن الإشارة إلى أقرب مذكور وهو الجزاء على التمتع من الهدي أو بدله، لأن الآفاقي إذا تمتع يحرم بالحج من مكة لا من الميقات فيكون حجه ناقصا يجبر بالهدي أو بدله إذا لم يجده، ولعل وجه الاختيار التعبير باللام المفيدة أن التمتع رخصة دون (على) المفيدة للجزاء. وحضور الأهل المسجد الحرام كناية عن الإقامة في أرض الحرم، وقال (الجلال): والأهل كناية عن النفس، وما قلناه في الكناية أظهر والعبارة تشمل من لا أهل له على كل حال، والمتبادر أن أهل المسجد الحرام هم أهل مكة ومن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام غيرهم، وعليه مالك، وقال طاوس: هم أهل الحل، وأبو حنيفة: هم من وراء الميقات، والشافعي: هم من كان على مرحلتين من مكة، أي: مسافة القصر عنده.

18. ثم ختم الآية بالأمر بتقوى الله المقصودة من كل أمر ونهي والإعلام بشدة عقوبته لمن لم يتقه فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ بالمحافظة على امتثال هذه الأمور والنواهي وغيرها من ضروب الهداية التي فيها سعادتكم ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ بما جعل عاقبة التفريط والإضاعة شديدة على المفرطين في الدنيا والآخرة، فإذا علمتم ذلك علما صحيحا رجي لكم الاستمساك بحبل التقوى وكنتم من المفلحين، وأما من لم يكن على صحة علم بسر وعيد الله تعالى بأن ظن أنه تعالى يخلفه وإن لم يتب ويتق صاحبه فهو من الخاسرين.

19. ذكر الله تعالى في هذه الآية حكم التمتع بالعمرة إلى الحج، وقد علم أن الحرمي فيه ليس كالآفاقي، ويفهم منه أن هناك حجا واعتمارا على غير هذه الطريقة، وقد ذكروا أن الحج مع العمرة على ثلاثة ضروب نذكرها هنا لإفادة من لم يقرأ الفقه، أو لمن لا يعرف فيها إلا ما قاله بعض الفقهاء وهي: التمتع، والإفراد، والقران، وقد اختلفوا في أفضلها لتعارض الأحاديث في حجة الوداع، أي الضروب كانت، فالتمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج فيتمها ويتحلل ثم يحرم بالحج من مكة أو من قريب منها. وقال بعضهم: لا يشترط التحلل فتدخل في القران، وقد أشرنا إلى الوجهين في تفسير الآية. والإفراد: أن يحرم بالحج وحده ثم يعتمر بعد أدائه، والقران: أن يحرم بهما جميعا، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج أو العكس كما تقدم.

20. اختلفت الأحاديث الصحيحة في حجه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فعن بعض الصحابة أنه كان تمتعا، وعن بعضهم أنه كان إفرادا، وعن بعضهم أنه كان قرانا، وقد جمع المحدثون بين الروايات بوجوه، أقواها وأجمعها أنه أهل بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة فصار قرانا، فيحمل قول القائلين بالإفراد على ما أهل به، وقول القائلين بالقران على ما انتهى إليه عمله من إدخال العمرة على الحج. وقال ابن تيمية: إن التمتع عند الصحابة يتناول القران، فتحمل عليه رواية من قال: إنه حج تمتعا فتصح جميع الروايات، وصفوة القول أن حجه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قرانا، ولذلك فضل كثير من العلماء القران، وقال بعضهم: التمتع أفضل واحتجوا له بحديث جابر عند البخاري وأبي داود قال: أهل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وطلحة، وقدم علي من اليمن ومعه هدي، فقال: أهللت بما أهل به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي، وحكى استنكارهم وقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ردا عليهم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت)، وقال بعضهم وهو رواية عن أحمد: إن الأفضل التمتع لمن لم يسق الهدي لا مطلقا. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: أفتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بجواز فسخهم الحج إلى العمرة، ثم أفتاهم بفعله حتما ولم ينسخه شيء بعده، والذي ندين لله به: أن القول بوجوبه أقوى وأصح من القول بالمنع منه، وقد صح عنه صحة لا شك فيها أنه قال: (من لم يكن أهدى فليهل بعمرة ومن أهدى فليهل بحج مع عمرة) والمراد بسوق الهدي: أخذه إلى الحرم، ومن الإهلال: الإحرام، وإذا كان سوق الهدي في هذا الزمان شاقا على حجاج الآفاق وكثير النفقة إلا على أهل جزيرة العرب المجاورين للحجاز فأكثر الناس يحرمون بالعمرة وحدها، وبعد أداء أركانها يتحللون منها بمكة، ثم يحرمون بالحج قبل عرفة بيوم واحد في الغالب وهو المسمى بيوم التروية الذي يخرجون فيه إلى عرفات.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/215.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. كان الكلام فيما مضى في بيان أحكام الحج بعد ذكر أحكام الصيام، لأن شهوره بعد شهر الصيام، وجاء ذكر آيات القتال تابعا لبيان أحكام الأشهر الحرم والمسجد الحرام، وهنا عاد إلى إتمام أحكام الحج، فذكر حكم المحصر وعدم جواز الحلق قبل بلوغ الهدى محله، إلا لمن كان مريضا أو به جروح ونحوها فإنه يحلق وعليه أن يصوم ثلاثة أيام أو يذبح شاة أو يتصدق بفرق على ستة مساكين (الفرق بالتحريك مكيال بالمدينة يزن ستة عشر رطلا) فإذا زال الخوف من العدوّ، فمن أتم العمرة وتحلل وبقي متمتعا إلى زمن الحج ليحج من مكة فعليه دم، لأنه أحرم بالحج من غير الميقات، فإن لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج، وسبعة إذا رجع إلى بلده إلا إذا كان مسكنه ووراء الميقات.

2. ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ أي وأتوا بالحج والعمرة تامين كاملين، ظاهرا بأداء المناسك على وجهها، وباطنا بالإخلاص لله تعالى دون قصد الكسب والتجارة أو الرياء والسمعة، والتجارة لا تنافى الإخلاص إذا لم تقصد لذاتها بدليل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ والرياء والسمعة إذا كانا هما الباعث على الحج، فالحج ذنب للمرائي لا طاعة، وهكذا حكم من يحج ليقال له (الحاج فلان) أو ليحتفل بقدومه، أو يقترض بالربا أو يرتكب أكبر ضروب المنكر ليحج، أو لا تخطر على باله مناسك الحج وأركانه، وإنما يقصد زيارة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا يعرف من الحج إلا هذه الزيارة.

3. كان الحج معروفا في الجاهلية من عهد إبراهيم وإسماعيل وأقرّه الإسلام بعد أن أزال ما فيه من ضروب الشرك والمنكرات، وزاد فيه مناسك وعبادات، وهو فريضة لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ وللأحاديث الواردة في ذلك.

4. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أي فإن منعتم وأنتم محرمون من إتمام النسك بسبب عدو أو مرض أو نحوهما، وأردتم أن تتحللوا فعليكم أن تذبحوا ما تيسر لكم من بدنة أو بقرة أو شاة، ثم تتحللوا، وذبحها يكون في موضع الإحصار ولو في الحل، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ذبح عام الحديبية بها وهى من الحل.

5. ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ قد جعل الشارع أمارة الدخول في الحج أو العمرة، الإحرام بنية النسك عند الابتداء به بالتلبية ولبس غير المخيط من إزار ورداء وكشف الرأس للرجل ولبس النعلين العربيتين، وأمارة الخروج منهما (ويعبر عنه بالإحلال والتحلل) بحلق الرأس أو التقصير، فالنهي عن الحلق نهى عن الإحلال قبل بلوغ الهدى إلى المكان الذي يحل ذبحه فيه، وذلك حيث يحصر الحاج، وإلا فالكعبة لقوله تعالى‏ ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾

6. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ أي فمن كان منكم مريضا يحتاج إلى الحلق ويؤذيه تركه، أو به أذى من رأسه من جراح أو صداع، فعليه فدية إن حلق، وهى إما صيام أو صدقة أو نسك.

7. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ من خوفكم من عدوكم أو برأتم من مرضكم الذي منعكم من حجكم أو عمرتكم، ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أي فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة، إلى وقت الانتفاع بأعمال الحج، فعليه ما استيسر من الهدى أي فعليه دم نسك شكرا لله أن أتاح له الجمع بين النسكين، ويأكل منه كالأضحية ويذبح يوم النحر.

8. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ أي فمن لم يجد الهدى لعدم وجوده أو عدم المال الذي يشترى به، فعليه صيام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج وتمتد إلى يوم النحر، وسبعة أيام إذا رجع من الحج إلى بلده، أو شرع في الرجوع فيجزئ الصوم في الطريق، ولا يتضيق الوقت إلا إذا وصل إلى وطنه.

9. ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ أي هذه الأيام الثلاثة والسبعة الأيام عشرة كاملة، وهذا نتيجة لما تقدم مبين لجملة العدد الواجب بعد أن بينه تفصيلا، وفائدته إزالة وهم من قد يظن أن الواو للتخيير بمعنى أو كقوله تعالى‏ ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ وقولهم: جالس الحسن وابن سيرين، وإرشاد إلى أن المراد بالسبعة هنا العدد دون الكثرة في الآحاد وهى تستعمل لهما، إلى أن القرآن قد جرى على طريقهم في التخاطب، فهم لكونهم أمة أمية كان أحدهم إذا خاطب صاحبه بأعداد متفرقة جمعها له ليسهل إحاطته بها، وفائدة وصفها بالكمال الإشارة إلى أن رعاية العدد من المهام التي لا يجوز إغفالها بل يجب المحافظة عليها دون نقص في عددها ولا تهاون في أدائها، وإلى أن هذا البدل كامل في قيامه مقام المبدل منه، وهما في الفضيلة سواء.

10. ثم بين سبحانه أن التمتع بالعمرة مضمومة إلى وقت الإحرام بالحج وما يتبعه من الأحكام خاص بالآفاقيين دون أهل الحرم قال ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي إن أهل الآفاق هم الذين يحتاجون إلى هذا التمتع، لما يلحقهم من المشقة بالسفر إلى الحج وحده ثم السفر إلى العمرة وحدها، أما أهل الحرم فليسوا في حاجة إلى ذلك، فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام.

11. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ أي اخشوا الله وحافظوا على امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه، واحذروا أن تعتدوا في ذلك، واعلموا أنه تعالى شديد العقاب لمن انتهك حرماته، وركب معاصيه.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/96.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. بعد ذلك يجيء الحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما، والتسلسل في السياق واضح بين الحديث عن الأهلة وأنها مواقيت للناس والحج؛ والحديث عن القتال في الأشهر الحرم وعن المسجد الحرام؛ والحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما في نهاية الدرس نفسه.

2. ليس لدينا تاريخ محدد لنزول آيات الحج هذه إلا رواية تذكر أن قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ نزلت في الحديبية سنة ست من الهجرة، كذلك ليس لدينا تاريخ مقطوع به لفرضية الحج في الإسلام، سواء على الرأي الذي يقول بأنه فرض بآية: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾.. أو بآية ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾.. الواردة في سورة آل عمران، فهذه كتلك ليس لدينا عن وقت نزولها رواية قطعية الثبوت، وقد ذكر ابن قيم الجوزية في كتاب: (زاد المعاد) أن الحج فرض في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة؛ ارتكانا منه إلى أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حج حجة الوداع في السنة العاشرة؛ وأنه أدى الفريضة عقب فرضها إما في السنة التاسعة أو العاشرة.. ولكن هذا لا يصلح سندا، فقد تكون هناك اعتبارات أخرى هي التي جعلت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يؤخر حجه إلى السنة العاشرة.. وقد ورد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما رجع من غزوة تبوك هم بالحج؛ ثم تذكر أن المشركين يحضرون موسم الحج على عادتهم، وأن بعضهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم.. ثم نزلت براءة، فأرسل صلّى الله عليه وآله وسلّم علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ يبلغ مطلع براءة للناس، وينهي بها عهود المشركين، ويعلن يوم النحر إذا اجتمع الناس بمنى: (أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو إلى مدته).. ومن ثم لم يحج صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى تطهر البيت من المشركين ومن العرايا.

3. هناك ما يستأنس به على أن فريضة الحج وشعائره قد أقرها الإسلام قبل هذا، وقد ورد أن الفريضة كتبت في مكة قبل الهجرة، ولكن هذا القول قد لا يجد سندا قويا، إلا أن آيات سورة الحج المكية ـ على الأرجح ـ ذكرت معظم شعائر الحج، بوصفها الشعائر التي أمر الله إبراهيم بها، وقد ورد فيها: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾.. ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾.. ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾

4. ذكر في هذه الآيات أو أشير إلى الهدي والنحر والطواف والإحلال من الإحرام وذكر اسم الله، وهي شعائر الحج الأساسية، وكان الخطاب موجها إلى الأمة المسلمة موصولة بسيرة أبيهم إبراهيم، مما يشير إلى فرضية الحج في وقت مبكر، باعتباره شعيرة إبراهيم الذي إليه ينتسب المسلمون، فإذا كانت قد وجدت عقبات من الصراع بين المسلمين والمشركين ـ وهم سدنة الكعبة إذ ذاك ـ جعلت أداء الفريضة متعذرا بعض الوقت، فذلك اعتبار آخر، وقد رجحنا في أوائل هذا الجزء أن بعض المسلمين كانوا يؤدون الفريضة أفرادا في وقت مبكر؛ بعد تحويل القبلة في السنة الثانية من الهجرة.

5. ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾.. أول ما يلاحظ في بناء الآية هو تلك الدقة التعبيرية في معرض التشريع، وتقسيم الفقرات في الآية لتستقل كل فقرة ببيان الحكم الذي تستهدفه، ومجيء الاستدراكات على كل حكم قبل الانتقال إلى الحكم التالي.. ثم ربط هذا كله في النهاية بالتقوى ومخافة الله..

الفقرة الأولى في الآية تتضمن الأمر بإتمام أعمال الحج والعمرة إطلاقا متى بدأ الحاج أو المعتمر فأهلّ بعمرة أو بحج أو بهما معا؛ وتجريد التوجه بهما لله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾.. وقد فهم بعض المفسرين من هذا الأمر أنه إنشاء لفريضة الحج، وفهم بعضهم أنه الأمر بإتمامه متى بدئ ـ وهذا هو الأظهر ـ فالعمرة ليست فريضة عند الجميع ومع هذا ورد الأمر هنا بإتمامها كالحج، مما يدل على أن المقصود هو الأمر بالإتمام لا إنشاء الفريضة بهذا النص، ويؤخذ من هذا الأمر كذلك أن العمرة ـ ولو أنها ابتداء ليست واجبة ـ إلا أنه متى أهل بها المعتمر فإن إتمامها يصبح واجبا، والعمرة كالحج في شعائرها ما عدا الوقوف بعرفة، والأشهر أنها تؤدى على مدار العام، وليست موقوتة بأشهر معلومات كالحج.

6. يستدرك من هذا الأمر العام بإتمام الحج والعمرة حالة الإحصار، من عدو يمنع الحاج والمعتمر من إكمال الشعائر ـ وهذا متفق عليه ـ أو من مرض ونحوه يمنع من إتمام أعمال الحج والعمرة ـ واختلفوا في تفسير الإحصار بالمرض والراجح صحته ـ: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾.. وفي هذه الحالة ينحر الحاج أو المعتمر ما تيسر له من الهدي ويحل من إحرامه في موضعه الذي بلغه، ولو كان لم يصل بعد إلى المسجد الحرام ولم يفعل من شعائر الحج والعمرة إلا الإحرام عند الميقات (وهو المكان الذي يهل منه الحاج أو المعتمر بالحج أو العمرة أو بهما معا، ويترك لبس المخيط من الثياب، ويحرم عليه حلق شعره أو تقصيره أو قص أظافره كما يحرم عليه صيد البر وأكله..) وهذا ما حدث في الحديبية عندما حال المشركون بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه من المسلمين دون الوصول إلى المسجد الحرام، سنة ست من الهجرة؛ ثم عقدوا معه صلح الحديبية، على أن يعتمر في العام القادم، فقد ورد أن هذه الآية نزلت؛ وأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر المسلمين الذين معه أن ينحروا في الموضع الذي بلغوا إليه ويحلوا من إحرامهم فتلبثوا في تنفيذ الأمر، وشق على نفوسهم أن يحلوا قبل أن يبلغ الهدي محله ـ أي مكانه الذي ينحر فيه عادة ـ حتى نحر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هديه أمامهم وأحل من إحرامه.. ففعلوا.

7. ما استيسر من الهدي، أي ما تيسر، والهدي من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم والمعز، ويجوز أن يشترك عدد من الحجاج في بدنة أي ناقة أو بقرة، كما اشترك كل سبعة في بدنة في عمرة الحديبية، فيكون هذا هو ما استيسر؛ ويجوز أن يهدي الواحد واحدة من الضأن أو المعز فتجزئ.

8. الحكمة من هذا الاستدراك في حالة الإحصار بالعدو كما وقع في عام الحديبية، أو الإحصار بالمرض، هي التيسير، فالغرض الأول من الشعائر هو استجاشة مشاعر التقوى والقرب من الله، والقيام بالطاعات المفروضة، فإذا تم هذا، ثم وقف العدو أو المرض أو ما يشبهه في الطريق فلا يحرم الحاج أو المعتمر أجر حجته أو عمرته، ويعتبر كأنه قد أتم، فينحر ما معه من الهدى ويحل، وهذا التيسير هو الذي يتفق مع روح الإسلام وغاية الشعائر وهدف العبادة.

9. بعد هذا الاستدراك من الأمر الأول العام، يعود السياق فينشئ حكما جديدا عاما من أحكام الحج والعمرة، ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾.. وهذا في حالة الإتمام وعدم وجود الإحصار، فلا يجوز حلق الرؤوس ـ وهو إشارة إلى الإحلال من الإحرام بالحج أو العمرة أو منهما معا ـ إلا بعد أن يبلغ الهدي محله، وهو مكان نحره، بعد الوقوف بعرفة، والإفاضة منها، والنحر يكون في منى في اليوم العاشر من ذي الحجة، وعندئذ يحل المحرم، أما قبل بلوغ الهدي محله فلا حلق ولا تقصير ولا إحلال.

10. استدراكا من هذا الحكم العام يجيء هذا الاستثناء: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾.. ففي حالة ما إذا كان هناك مرض يقتضي حلق الرأس، أو كان به أذى من الهوام التي تتكون في الشعر حين يطول ولا يمشط، فالإسلام دين اليسر والواقع يبيح للمحرم أن يحلق شعره ـ قبل أن يبلغ الهدي الذي ساقه عند الإحرام محله، وقبل أن يكمل أفعال الحج ـ وذلك في مقابل فدية: صيام ثلاثة أيام، أو صدقة بإطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة والتصدق بها، وهذا التحديد لحديث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

11. ثم يعود إلى حكم جديد عام في الحج والعمرة: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾.. أي فإذا لم تحصروا، وتمكنتم من أداء الشعائر، فمن أراد التمتع بالعمرة إلى الحج فلينحر ما استيسر من الهدي.. وتفصيل هذا الحكم: أن المسلم قد يخرج للعمرة فيهل محرما عند الميقات، حتى إذا فرغ من العمرة ـ وهي تتم بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ـ أحرم للحج وانتظر أيامه، وهذا إذا كان في أشهر الحج، وهي شوال وذو القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة.. هذه صورة من صور التمتع بالحج إلى العمرة، والصورة الثانية هي أن يحرم من الميقات بعمرة وحج معا، فإذا قضى مناسك العمرة انتظر حتى يأتي موعد الحج، وهذه هي الصورة الثانية للتمتع ـ وفي أي من الحالتين على المعتمر المتمتع أن ينحر ما استيسر من الهدي بعد العمرة ليحل منها؛ ويتمتع بالإحلال ما بين قضائه للعمرة وقضائه للحج، وما استيسر يشمل‏ المستطاع من الأنعام سواء الإبل والبقر أو الغنم والمعز.

12. فإذا لم يجد ما استيسر من الهدي فهناك فدية: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾.. والأولى أن يصوم الأيام الثلاثة الأولى قبل الوقوف بعرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة، أما الأيام السبعة الباقية فيصومها بعد عودته من الحج إلى بلده.. ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾.. ينص عليها نصا للتوكيد وزيادة البيان.. ولعل حكمة الهدي أو الصوم هي استمرار صلة القلب بالله، فيما بين العمرة والحج، فلا يكون الإحلال بينهما مخرجا للشعور عن جو الحج، وجو الرقابة، وجو التحرج، الذي يلازم القلوب في هذه الفريضة.. ولما كان أهل الحرم عماره المقيمين فيه لا عمرة لهم.. إنما هو الحج وحده.. لم يكن لهم تمتع، ولا إحلال بين العمرة والحج، ومن ثم فليس عليهم فدية ولا صوم بطبيعة الحال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/193.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. هذا عود إلى الكلام على العمرة فهو عطف على قوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ [البقرة: 189] إلخ وما بينهما استطراد أو اعتراض، على أن عطف الأحكام بعضها على بعض للمناسبة طريقة قرآنية فلك أن تجعل هذه الجملة عطفا على التي قبلها عطف قصة على قصة.

2. لا خلاف في أنّ هذه الآية نزلت في الحديبية سنة ست حين صد المشركون المسلمين عن البيت كما سيأتي في حديث كعب بن عجرة، وقد كانوا ناوين العمرة وذلك قبل أن يفرض الحج، فالمقصود من الكلام هو العمرة؛ وإنما ذكر الحج على وجه الإدماج‏ تبشيرا بأنهم سيتمكنون من الحج فيما بعد، وهذا من معجزات القرآن.

3. الإتمام إكمال الشيء والإتيان على بقايا ما بقي منه حتى يستوعب جميعه، ومثل هذا الأمر المتعلق بوصف فعل يقع في كلامهم على وجهين:

أ. أحدهما وهو الأكثر أن يكون المطلوب تحصيل وصف خاص للفعل المتعلق به الوصف كالإتمام في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ﴾ أي كملوه إن شرعتم فيه، وكذا قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187] على ما اخترناه وقوله تعالى: ﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ﴾ [التوبة: 4] ومثله أن تقول: أسرع السير للذي يسير سيرا بطيئا.

ب. وثانيهما أن يجيء الأمر بوصف الفعل مرادا به تحصيل الفعل من أول وهلة على تلك الصفة نظير قوله تعالى: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 150]، وذلك كقولك: أسرع السير فادع لي فلانا تخاطب به مخاطبا لم يشرع في السير بعد، فأنت تأمره بإحداث سير سريع من أول وهلة، ونظيره قولهم: (وسّع فم الركية، وقولهم: وسع كم الجبة وضيق جيبها) أي أوجدها كذلك من أول الأمر، وهذا ضرب من ضروب التعبير ليس بكناية ولا مجاز، ولكنه أمر بمجموع شيئين وهو أقل؛ لأن الشأن أن يكون المطلوب بصيغة الأمر ابتداء هو الحدث الذي منه مادة تلك الصيغة.

4. الآية تحتمل الاستعمالين:

أ. فإن كان الأول فهي أمر بإكمال الحج والعمرة، بمعنى ألا يكون حجا وعمرة مشوبين بشغب وفتنة واضطراب أو هي أمر بإكمالهما وعدم الرجوع عنهما بعد الإهلال بهما ولا يصدهم عنهما شنآن العدو.

ب. وإن كان الثاني فهي أمر بالإتيان بهما تامين أي مستكملين ما شرع فيهما.

5. المعنى الأول أظهر وأنسب بالآيات التي قبلها، وكأنّ هذا التحريض مشير إلى أن المقصود الأهم من الحج والعمرة هنا هما الصّرورة في الحج وكذا في العمرة على القول بوجوبها.

6. اللام في ﴿الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ﴾ لتعريف الجنس، وهما عبادتان مشهورتان عند المخاطبين متميزتان عن بقية الأجناس، فالحج هو زيارة الكعبة في موسم معين في وقت واحد، للجماعة وفيه وقوف عرفة، والعمرة زيارة الكعبة في غير موسم معين وهي لكل فرد بخصوصه.

7. أصل الحج في اللغة بفتح الحاء وكسرها تكرر القصد إلى الشيء أو كثرة قاصديه، وعن ابن السكيت: الحج كثرة الاختلاف والتردد يقال حج بنو فلان فلانا أطالوا الاختلاف إليه وفي (الأساس): فلان تحجه الرفاق أي تقصده ا ه، فجعله مفيدا بقصد من جماعة كقول المخبل السعدي واسمه الربيع:

çوأشهد من عوف حلولا كثيرة...يحجّون سبّ الزّبرقان المزعفراé

8. الحج من أشهر العبادات عند العرب وهو مما ورثوه عن شريعة إبراهيم عليه السلام كما حكى الله ذلك بقوله: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ [الحج: 27] الآية حتى قيل: إن العرب هم أقدم أمة عرفت عندها عادة الحج، وهم يعتقدون أن زيارة الكعبة سعي لله تعالى قال النابغة يصف الحجيج ورواحلهم:

çعليهنّ شعث عامدون لربّهم‏...فهن كأطراف الحنيّ خواشع‏é

وكانوا يتجردون عند الإحرام من مخيط الثياب ولا يمسون الطيب ولا يقربون النساء ولا يصطادون، وكان الحج طوافا بالبيت وسعيا بين الصفا والمروة ووقوفا بعرفة ونحرا بمنى، وربما كان بعض العرب لا يأكل مدة الحج أقطا ولا سمنا ـ أي لأنه أكل المترفهين ـ ولا يستظل بسقف، ومنهم من يحج متجردا من الثياب، ومنهم من لا يستظل من الشمس، ومنهم من يحج صامتا لا يتكلم، ولا يشربون الخمر في أشهر الحج، ولهم في الحج مناسك وأحكام ذكرناها في (تاريخ العرب)

9. كان للأمم المعاصرة للعرب حجوج كثيرة، وأشهر الأمم في ذلك اليهود فقد كانوا يحجون إلى الموضع الذي فيه تابوت العهد أي إلى هيكل (أورشليم) وهو المسجد الأقصى ثلاث مرات في السنة ليذبحوا هناك فإن القرابين لا تصح إلّا هناك ومن هذه المرات مرة في عيد الفصح.

10. اتخذت النصارى زيارات كثيرة، حجا، أشهرها زياراتهم لمنازل ولادة عيسى عليه السلام وزيارة (أورشليم)، وكذا زيارة قبر (مار بولس) وقبر (مار بطرس) برومة، ومن حج النصارى الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو أقدم حجهم أنهم كانوا قبل الإسلام يحجون إلى مدينة (عسقلان) من بلاد السواحل الشامية، والمظنون أن الذين ابتدعوا حجها هم نصارى الشام من الغساسنة لقصد صرف الناس عن زيارة الكعبة وقد ذكره سحيم عبد بني الحسحاس وهو من المخضرمين في قوله يصف وحوشا جرفها السيل:

çكأنّ الوحوش به عسقلا...ن صادفن في قرن حجّ ديافاé

أي أصابهن سم فقتلهن وقد ذكر ذلك أئمة اللغة.

11. كان للمصريين والكلدان حج إلى البلدان المقدسة عندهم، ولليونان زيارات كثيرة لمواقع مقدسة مثل أولمبيا وهيكل (زفس) وللهنود حجوج كثيرة.

12. المقصود من هذه الآية إتمام العمرة التي خرجوا لقضائها، وذكر الحج معها إدماج‏، لأن الحج لم يكن قد وجب يومئذ، إذ كان الحج بيد المشركين ففي ذكره بشارة بأنه يوشك أن يصير في قبضة المسلمين.

13. العمرة مشتقة من التعمير وهو شغل المكان ضد الإخلاء ولكنها بهذا الوزن لا تطلق إلّا على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج، وهي معروفة عند العرب وكانوا يجعلون ميقاتها ما عدا أشهر ذي الحجة والمحرم وصفر، فكانوا يقولون (إذا برئ الدبر، وعفا الأثر، وخرج صفر، حلت العمرة لمن اعتمر) ولعلهم جعلوا ذلك لتكون العمرة بعد الرجوع من الحج وإراحة الرواحل، واصطلح المضريّون على جعل رجب هو شهر العمرة ولذلك حرمته مضر فلقب برجب مضر، وتبعهم بقية العرب، ليكون المسافر للعمرة آمنا من عدوه؛ ولذلك لقبوا رجبا (منصل الأسنة) ويرون العمرة في أشهر الحج فجورا.

14. ﴿لله﴾ أي لأجل الله وعبادته والعرب من عهد الجاهلية لا ينوون الحج إلّا لله ولا العمرة إلّا له، لأن الكعبة بيت الله وحرمه، فالتقييد هنا بقوله‏ ﴿لله﴾ تلويح إلى أن الحج والعمرة ليسا لأجل المشركين وإن كان لهم فيهما منفعة وكانوا هم سدنة الحرم، وهم الذين منعوا المسلمين منه، كيلا يسأم المسلمون من الحج الذي لاقوا فيه أذى المشركين، فقيل لهم إن ذلك لا يصد عن الرغبة في الحج والعمرة لأنكم إنما تحجون لله لا لأجل المشركين ولأن الشيء الصالح المرغوب فيه إذا حف به ما يكدره لا ينبغي أن يكون ذلك صارفا عنه، بل يجب إزالة ذلك العارض عنه، ومن طرق إزالته القتال المشار إليه بالآيات السابقة.

15. يجوز أن يكون التقييد بقوله: ﴿لله﴾ لتجريد النية مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرب إلى الأصنام، فإن المشركين لما وضعوا هبلا على الكعبة ووضعوا إسافا ونائلة على الصفا والمروة قد أشركوا بطوافهم وسعيهم الأصنام مع الله تعالى، وقد يكون القصد من هذا التقييد كلتا الفائدتين.

16. ليس في الآية حجة عند مالك وأبي حنيفة على وجوب الحج ولا العمرة ولكن دليل حكم الحج والعمرة عندهما غير هذه الآية، وعليه فمجمل الآية عندهما على وجوب هاتين العبادتين لمن أحرم لهما، فأما مالك فقد عدهما من العبادات التي تجب بالشروع فيها وهي سبع عبادات عندنا هي الصلاة، والصيام، والاعتكاف، والحج، والعمرة، والطواف، والائتمام، وأما أبو حنيفة فقد أوجب النوافل كلها بالشروع، ومن لم ير وجوب النوافل بالشروع ولم ير العمرة واجبة يجعل حكم إتمامها كحكم أصل الشروع فيها ويكون الأمر بالإتمام في الآية مستعملا في القدر المشترك من الطلب اعتمادا على القرائن، ومن هؤلاء من قرأ، (والعمرة) بالرفع حتى لا تكون فيما شمله الأمر بالإتمام بناء على أن الأمر للوجوب فيختص بالحج.

17. جعلها الشافعية دليلا على وجوب العمرة كالحج، ووجه الاستدلال له أن الله أمر بإتمامها فإما أن يكون الأمر بالإتمام مرادا به الإتيان بهما تامين أي مستجمعي الشرائط والأركان، فالمراد بالإتمام المعنى الشرعي على أحد الاستعمالين السابقين، قالوا: إذ ليس هنا كلام على الشروع حتى يؤمر بالإتمام، ولأنه معضود بقراءة (وأقيموا الحج) وإما أن يكون المراد بالإتمام هنا الإتيان على آخر العبادة فهو يستلزم الأمر بالشروع، لأن الإتمام يتوقف على الشروع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيكون الأمر بالإتمام كناية عن الأمر بالفعل.

18. الحق أن حمل الأمر في ذلك بأصل الماهية لا بصفتها استعمال قليل كما عرفت، وقراءة: (وأقيموا) لشذوذها لا تكون داعيا للتأويل، ولا تتنزل منزلة خبر الآحاد، إذا لم يصح سندها إلى من نسبت إليه وأما على الاحتمال الأول فلأن التكني بالإتمام عن إيجاب الفعل مصير إلى خلال الظاهر مع أن اللفظ صالح للحمل على الظاهر؛ بأن يدل على معنى: إذا شرعتم فأتموا الحج والعمرة، فيكون من دلالة الاقتضاء ويكون حقيقة وإيجازا بديعا، وهو الذي يؤذن به السياق كما قدمنا، لأنهم كانوا نووا العمرة، على أن شأن إيجاب الوسيلة بإيجاب المتوسل إليه أن يكون المنصوص على وجوبه هو المقصد فكيف‏ يدعي الشافعية أن‏ ﴿أَتِمُّوا﴾ هنا مراد منه إيجاب الشروع، لأن ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب كما أشار له العصام.

19. الحق أن الآية ليست دليلا لحكم العمرة، وقد اختلف العلماء في حكمها: فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها سنة قال مالك: لا أعلم أحدا رخص في تركها وهذا هو مذهب جابر ابن عبد الله وابن مسعود من الصحابة والنخعي من التابعين، وذهب الشافعي وأحمد وابن الجهم من المالكية إلى وجوبهما، وبه قال عمرو ابن عمر وابن عباس من الصحابة وعطاء، وطاووس ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي وسعيد بن جبير، وأبو بردة، ومسروق، وإسحاق بن راهويه، ودليلنا حديث جابر بن عبد الله، (قيل: يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج فقال: لا، وأن تعتمروا فهو أفضل) أخرجه الترمذي‏، لأن عبادة مثل هذه لو كانت واجبة لأمر بها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا يثبت وجوبها بتلفيقات ضعيفة، وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يقول: لولا التحرج وأني لم أسمع من رسول الله في ذلك شيئا لقلت: العمرة واجبة.. محل الاحتجاج قوله: لم أسمع إلخ، ولأن الله تعالى قال ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97] ولم يذكر العمرة، ولأنه لا يكون عبادتان واجبتان هما من نوع واحد، ولأن شأن العبادة الواجبة أن تكون مؤقتة، واحتج أصحابنا أيضا بحديث: (بني الإسلام على خمس)، وحديث جبريل في الإيمان والإسلام ولم يذكر فيهما العمرة، وحديث الأعرابي الذي قال (لا أزيد ولا أنقص: فقال: أفلح إن صدق) ولم يذكر العمرة ولم يحتج الشافعية بأكثر من هذه الآية، إذ قرنت فيها مع الحج، وبقول بعض الصحابة وبالاحتياط.

20. احتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على منع التمتع وهو الإحرام بعمرة ثم الحل منها في مدة الحج ثم الحج في عامه ذلك قبل الرجوع إلى بلده، ففي البخاري أخرج حديث أبي موسى الأشعري قال (بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى قوم باليمن فجئت وهو بالبطحاء (عام حجة الوداع) فقال: بم أهللت؟ فقلت: أهللت كإهلال النبي قال أحسنت هل معك من هدى! قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني أو غسلت رأسي، ثم أهللت بالحج فكنت أفتي الناس به حتى خلافة عمر فذكرته له فقال: أن نأخذ بكتاب الله، فإنه يأمرنا بالتمام، قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ وأن نأخذ بسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي‏ محله‏، يريد عمر أن أبا موسى أهل بإهلال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والنبي كان مهلا بحجة وعمرة معا فهو قارن والقارن متلبس بحج، فلا يجوز أن يحل في أثناء حجه وتمسك بفعل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان قارنا ولمن يحل، وهذا مبني على عدم تخصيص المتواتر بالآحاد كما هو قوله في حديث فاطمة ابنة قيس في النفقة.

21. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ عطف على‏ ﴿أَتِمُّوا﴾، والفاء للتفريع الذكري فإنه لما أمر بإتمام الحج والعمرة ذكر حكم ما يمنع من ذلك الإتمام، ولا سيما الحج؛ لأن وقته يفوت غالبا بعد ارتفاع المانع، بخلاف العمرة، والإحصار في كلام العرب منع الذات من فعل ما، يقال: أحصره منعه مانع قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 273] أي منعهم الفقر من السفر للجهاد وقال ابن ميادة:

çوما هجر ليلى أن تكون تباعدت‏...عليك ولا أن أحصرتك شغولé‏

وهو فعل مهموز لم تكسبه همزته تعدية، لأنه مرادف حصره ونظيرهما صده وأصده.

هذا قول المحققين من أئمة اللغة، ولكن كثر استعمال أحصر المهموز في المنع الحاصل من غير العدو، وكثر استعمال حصر المجرد في المنع من العدو، قال ﴿وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ﴾ [التوبة: 5] فهو حقيقة في المعنيين ولكن الاستعمال غلب أحدهما في أحدهما كما قال الزمخشري في (الكشاف)، ومن اللغويين من قال أحصر حقيقة في منع غير العدو وحصر حقيقة في منع العدو وهو قول الكسائي وأبي عبيدة والزجاج، ومن اللغويين من عكس وهو ابن فارس لكنه شاذ جدا، وجاء الشرط بحرف (إن) لأن مضمون الشرط كريه لهم فألقى إليهم الكلام إلقاء الخبر الذي يشك في وقوعه، والمقصود إشعارهم بأن المشركين سيمنعونهم من العمرة.

22. اختلف الفقهاء في المراد من الإحصار في هذه الآية على نحو الاختلاف في الوضع أو في الاستعمال والأظهر عندي أن الإحصار هنا أطلق على ما يعم المنع من عدو أو من غيره بقرينة قوله تعالى عقبه: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ فإنه ظاهر قوي في أن المراد منه الأمن من خوف العدو، وأن هذا التعميم فيه قضاء حق الإيجاز في جمع أحكام الإحصار ثم تفريقها كما سأبينه عند قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾، وكأنّ هذا هو الذي يراه مالك، ولذلك لم يحتج في (الموطأ) على حكم الإحصار بغير عدو بهذه الآية، وإنما احتج بالسنة، وقال جمهور أصحابه أريد بها المنع الحاصل من مرض ونحوه دون منع العدو، بناء على أن إطلاق الإحصار على هذا المنع هو الأكثر في اللغة، ولأن هذه الآية جعلت على المحصر هديا ولم ترد السنة بمشروعية الهدي فيمن حصره العدو أي مشروعية الهدي لأجل الإحصار أما من ساق معه الهدي فعليه نسكه لا لأجل الإحصار، ولذلك قال مالك بوجوب الهدي على من أحصر بمرض أو نفاس أو كسر من كل ما يمنعه أن يقف الموقف مع الناس مع وجوب الطواف والسعي عند زوال المانع ووجوب القضاء من قابل لما في (الموطأ) من حديث معبد بن حزابة المخزومي أنه صرع ببعض طريق مكة وهو محرم فسأل ابن عمر وابن الزبير ومروان بن الحكم فكلهم أمره أن يتداوى ويفتدي، فإذا أصح اعتمر، فحل من إحرامه ثم عليه حج قابل، وأن عمر بن الخطاب أمر بذلك أبا أيوب وهبّار بن الأسود حين فاتهما وقوف عرفة، بخلاف حصار العدو، واحتج في (الموطأ) بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يأمر أحدا من أصحابه ولا من كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء، ووجّه أصحابنا ذلك بالتفرقة؛ لأن المانع في المرض ونحوه من ذات الحاج؛ فلذلك كان مطالبا بالإتمام، وأما في إحصار العدو فالمانع خارجي، والأظهر في الاستدلال أن الآية وإن صلحت لكل منع لكنها في منع غير العدو أظهر وقد تأيدت أظهريتها بالسنة، وقال الشافعي: لا قضاء فيهما وهو ظاهر الآية للاقتصار على الهدي وهو اقتصار على مفهوم الآية ومخالفة ما ثبت بالسنة، وقال أبو حنيفة: كل منع من عدو أو مرض فيه وجوب القضاء والهدي ولا يجب عليه طواف ولا سعي بعد زوال عذره بل إن نحر هديه حل والقضاء عليه، ولا يلزمه ما يقتضيه حديث الحديبية؛ لأن الآية إن كانت نزلت بعده فعمومها نسخ خصوص الحديث، وإن نزلت قبله فهو آحاد لا يخصص القرآن عنده، على أن حديث الحديبية متواتر؛ لأن الذين شهدوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يومئذ يزيدون على عدد التواتر، ولم ينقل عنهم ذلك مع أنه مما تتوافر الدواعي على نقله، وقال الشافعي: المراد هنا منع العدو بقرينة قوله‏ ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ ولأنها نزلت في عام الحديبية وهو إحصار عدوّ؛ ولذلك أوجب الهدي على المحصر أما محصر العدوّ فبنصّ الآية، وأما غيره فبالقياس عليه، وعليه: إن زال عذره فعليه الطواف بالبيت والسعي، ولم يقل بوجوب القضاء عليه؛ إذ ليس في الآية ولا في الحديث.

23. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ جواب الشرط وهو مشتمل على أحد ركني الإسناد وهو المسند إليه دون المسند فلا بد من تقدير دل عليه قوله: ﴿مِنَ الْهَدْيِ﴾ وقدره في (الكشاف) فعليكم، والأظهر أن يقدر فعل أمر أي فاهدوا ما استيسر من الهدي، وكلا التقديرين دال على وجوب الهدي، ووجوبه في الحج ظاهر وفي العمرة كذلك؛ بأنها مما يجب إتمامه بعد الإحرام باتفاق الجمهور.

24. ﴿اسْتَيْسَرَ﴾ هنا بمعنى يسر فالسين والتاء للتأكيد كاستعصب عليه بمعنى صعب أي ما أمكن من الهدي بإمكان تحصيله وإمكان توجيهه، فاستيسر هنا مراد جميع وجوه التيسر.

25. ﴿الْهَدْيَ﴾ اسم الحيوان المتقرب به لله في الحج فهو فعل من أهدى، وقيل هو جمع هدية كما جمعت جدية السرج على جدي‏، فإن كان اسما فمن بيانية، وإن كان جمعا فمن تبعيضية، وأقل ما هو معروف عندهم من الهدي الغنم، ولذلك لم يبينه الله تعالى هنا، وهذا الهدي إن كان قد ساقه قاصد الحج والعمرة معه ثم أحصر فالبعث به إن أمكن واجب، وإن لم يكن ساقه معه فعليه توجيهه على الخلاف في حكمه من وجوبه وعدمه، والمقصود من هذا تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان، فإذا فاتت المناسك لا يفوت ما ينفع فقراء مكة ومن حولها.

26. ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾ الآية بيان لملازمة حالة الإحرام حتى ينحر الهدي، وإنما خص النهي عن الحلق دون غيره من منافيات الإحرام كالطيب تمهيدا لقوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ ويعلم استمرار حكم الإحرام في البقية بدلالة القياس والسياق وهذا من مستتبعات التراكيب وليس بكناية عن الإحلال لعدم وضوح الملازمة، والمقصود من هذا تحصيل بعض ما أمكن من أحوال المناسك وهو استبقاء الشعث المقصود في المناسك.

27. المحل بفتح الميم وكسر الحاء مكان الحلول أو زمانه يقال: حل بالمكان يحل بكسر الحاء وهو مقام الشيء والمراد به هنا مبلغه وهو ذبحه للفقراء، وقيل محله: هو محل ذبح الهدايا وهو منى والأول قول مالك.

28. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ الآية، المراد مرض يقتضي الحلق سواء كان المرض بالجسد أم بالرأس، وقوله: ﴿أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ كناية عن‏ الوسخ الشديد والقمل، لكراهية التصريح بالقمل، وكلمة (من) للابتداء أي أذى ناشئ عن رأسه.. ومن لطائف القرآن ترك التصريح بما هو مرذول من الألفاظ.

29. ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ محذوف المسند إليه لظهوره أي عليه، والمعنى فليحلق رأسه وعليه فدية، وقرينة المحذوف قوله: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾ وقد أجمل الله الفدية ومقدارها وبينه حديث كعب بن عجرة.

30. النسك بضمتين وبسكون السين مع تثليث النون العبادة ويطلق على الذبيحة المقصود منها التعبد وهو المراد هنا مشتق من نسك كنصر وكرم إذا عبد وذبح لله وسمي العابد ناسكا، وأغلب إطلاقه على الذبيحة المتقرب بها إلى معبود وفي الحديث: (والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم) يعني الضحية.

31. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ الفاء للعطف على‏ ﴿أُحْصِرْتُمْ﴾ إن كان المراد من الأمن زوال الإحصار المتقدم، ولعلها نزلت بعد أن فرض الحج، لأن فيها ذكر التمتع وذكر صيام المتمتع إن لم يجد هديا ثلاثة أيام في مدة الحج وسبعة إذا رجع إلى أفقه وذلك لا يكون إلّا بعد تمكنهم من فعل الحج، والفاء لمجرد التعقيب الذكري.

32. جيء بإذا لأن فعل الشرط مرغوب فيه، والأمن ضد الخوف، وهو أيضا السلامة من كل ما يخاف منه أمن كفرح أمنا، أمانا، وأمنا، وآمنة وإمنا بكسر الهمزة وهو قاصر بالنسبة إلى المأمون منه فيتعدى بمن تقول: أمنت من العدو، ويتعدى إلى المأمون تقول: أمنت فلانا إذا جعلته آمنا منك، والأظهر أن الأمن ضد الخوف من العدو ما لم يصرح بمتعلقه وفي القرآن‏ ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ [التوبة: 6] فإن لم يذكر له متعلق نزل منزلة اللازم فدل على عدم الخوف من القتال وقد تقدم في قوله تعالى: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ [البقرة: 126]، وهذا دليل على أن المراد بالإحصار فيما تقدم ما يشمل منع العدو ولذلك قيل ﴿إذا أمنتم﴾ ويؤيده أن الآيات نزلت في شأن عمرة الحديبية كما تقدم فلا مفهوم للشرط هنا؛ لأنه خرج لأجل حادثة معينة، فالآية دلت على حكم العمرة، لأنها لا تكون إلّا مع الأمن، وذلك أن المسلمين جاؤوا في عام عمرة القضاء معتمرين وناوين إن مكنوا من الحج أن يحجوا، ويعلم حكم المريض ونحوه إذا زال عنه المانع بالقياس على حكم الخائف، وقوله: فمن تمنع جواب (إذا) والتقدير فإذا أمنتم بعد الإحصار وفاتكم وقت الحج وأمكنكم أن تعتمروا فاعتمروا وانتظروا الحج إلى عام قابل، واغتنموا خير العمرة فمن تمتع بالعمرة فعليه هدي عوضا عن هدي الحج، فالظاهر أن صدر الآية أريد به الإحصار الذي لا يتمكن معه المحصر من حج ولا عمرة، وأن قوله: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ أريد به حصول الأمن مع إمكان الإتيان بعمرة وقد فات وقت الحج، أي أنه فاته الوقت ولم يفته مكان الحج، ويعلم أن من أمن وقد بقي ما يسعه بأن يحج عليه أن يحج.

33. معنى‏ ﴿تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ انتفع بالعمرة عاجلا، والانتفاع بها إما بمعنى الانتفاع بثوابها، أو بسقوط وجوبها إن قيل إنها واجبة مع إسقاط السفر لها إذ هو قد أداها في سفر الحج، وإما بمعنى الانتفاع بالحل منها ثم إعادة الإحرام بالحج فانتفع بألا يبقى في كلفة الإحرام مدة طويلة، وهذا رخصة من الله تعالى، إذ أباح العمرة في مدة الحج بعد أن كان ذلك محظورا في عهد الجاهلية إذ كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أعظم الفجور، فالباء في قوله: ﴿بِالْعُمْرَةِ﴾ صلة فعل‏ ﴿تَمَتَّعْ﴾، وقوله: ﴿إِلَى الْحَجِّ﴾ متعلق بمحذوف دل عليه معنى (إلى) تقديره متربصا إلى وقت الحج أو بالغا إلى وقت الحج أي أيامه وهي عشر ذي الحجة وقد فهم من كلمة (إلى) أن بين العمرة والحج زمنا لا يكون فيه المعتمر محرما وهو الإحلال الذي بين العمرة والحج في التمتع والقران، فعليه ما استيسر من الهدي لأجل الإحلال الذي بين الإحرامين، وهذا حيث لم يهد وقت الإحصار فيما أراه.

34. الآية جاءت بلفظ التمتع على المعنى اللغوي أي الانتفاع وأشارت إلى ما سماه المسلمون بالتمتع وبالقرآن وهو من شرائع الإسلام التي أبطل بها شريعة الجاهلية، واسم التمتع يشملها لكنه خص التمتع بأن يحرم الحاج بعمرة في أشهر الحج ثم يحل منها ثم‏ يحج من عامه ذلك قبل الرجوع إلى أفقه، وخص القران بأن يقرن الحج والعمرة في إهلال واحد ويبدأ في فعله بالعمرة ثم يحل منها ويجوز له أن يردف الحج على العمرة كل ذلك شرعه الله رخصة للناس، وإبطالا لما كانت عليه الجاهلية من منع العمرة في أشهر الحج، وفرض الله عليه الهدي جبرا لما كان يتجشمه من مشقة الرجوع إلى مكة لأداء العمرة كما كانوا في الجاهلية ولذلك سماه تمتعا.

35. اختلف السلف في التمتع وفي صفته فالجمهور على جوازه، وأنه يحل من عمرته التي أحرم بها في أشهر الحج ثم يحرم بعد ذلك في حجة في عامه ذلك، وكان عثمان بن عفان لا يرى التمتع وينهى عنه في خلافته، ولعله كان يتأول هذه الآية بمثل ما تأولها ابن الزبير كما يأتي قريبا، وخالفه علي وعمران بن حصين، وفي البخاري عن عمران بن حصين تمتعنا على عهد النبي ونزل القرآن ثم قال رجل من برأيه ما شاء (يريد عثمان)، وكان عمر بن الخطاب لا يرى للقارن إذا أحرم بعمرة وبحجة معا وتمم السعي بين الصفا والمروة أن يحل من إحرامه حتى يحل من إحرام حجه فقال له أبو موسى الأشعري إني جئت من اليمن فوجدت رسول الله بمكة محرما (أي عام الوداع) فقال لي بم أهللت؟ قلت أهللت بإهلال كإهلال النبي فقال لي هل معك هدي قلت لا فأمرني فطفت وسعيت ثم أمرني فأحللت وغسلت رأسي ومشطتني امرأة من عبد القيس، فلما حدث أبو موسى عمر بهذا قال عمر: (إن نأخذ بكتاب الله فهو يأمرنا بالإتمام وإن نأخذ بسنة رسوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله)، وجمهور الصحابة والفقهاء يخالفون رأي عمر ويأخذون بخبر أبي موسى؛ وبحديث علي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (لولا أن معي الهدي لأحللت)، وقد ينسب بعض الناس إلى عمر أنه لا يرى جواز التمتع وهو وهم إنما رأى عمر لا يجوز الإحلال من العمرة في التمتع إلى أن يحل من الحج وذلك معنى قوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله، فلعله رأى الإحلال للمتلبس بنية الحج منافيا لنيته وهو ما عبر عنه بالإتمام ولعله كان لا يرى الآحاد مخصصا للمتواتر من كتاب أو سنة لأن فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هنا متواتر، إذ قد شهده كثير من أصحابه ونقلوا حجه وأنه أهل بهما جميعا، نعم، كان أبو بكر وعمر يريان إفراد الحج أفضل من التمتع والقران وبه أخذ مالك روى عنه محمد بن الحسن أنه يرجح أحد الحديثين المتعارضين بعمل الشيخين، وكان عبد الله بن الزبير يرى التمتع خاصا بالمحصر إذا تمكن من الوصول إلى البيت بعد أن فاته وقوف عرفة فيجعل حجته عمرة ويحج في العام القابل، وتأول قوله‏ تعالى‏ ﴿إِلَى الْحَجِّ﴾ أي إلى وقت الحج القابل والجمهور يقولون‏ ﴿إِلَى الْحَجِّ﴾ أي إلى أيام الحج.

36. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ الآية عطفت على‏ ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ﴾، لأن‏ ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ﴾ مع جوابه وهو ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ﴾ مقدر فيه معنى فمن تمتع واجدا الهدي فعطف عليه‏ ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾

37. جعل الله الصيام بدلا عن الهدى زيادة في الرخصة والرحمة ولذلك شرع الصوم مفرقا فجعله عشرة أيام ثلاثة منها في أيام الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج، فقوله: ﴿فِي الْحَجِّ﴾ أي في أشهره إن كان قد أمكنه الاعتمار قبل انقضاء مدة الحج، فإن لم يدرك الحج واعتمر فتلك صفة أخرى لا تعرض إليها في الآية.

38. ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ فذلكة الحساب‏ أي جامعته فالحاسب إذا ذكر عددين فصاعدا قال عند إرادة جمع الأعداد فذلك أي المعدود كذا فصيغت لهذا القول صيغة نحت مثل بسمل إذا قال باسم الله وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلّا بالله فحروف فذلكة متجمعة من حروف فذلك كما قال الأعشى:

çثلاث بالغداة فهنّ حسبي‏...وستّ حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ريّي‏...وشرب المرء فوق الرّيّ داءé

فلفظ فذلكة كلمة مولدة لم تسمع من كلام العرب غلب إطلاق اسم الفذلكة على خلاصة جمع الأعداد، وإن كان اللفظ المحكي جرى بغير كلمة (ذلك) كما نقول في قوله: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ إنها فذلكة مع كون الواقع في المحكي لفظ (تلك) لا لفظ ذلك ومثله قول الفرزدق:

çثلاث واثنتان فتلك خمس‏...وسادسة تميل إلى الشّمام‏é

(أي إلى الشم والتقبيل)

39. في وجه الحاجة إلى الفذلكة في الآية وجوه، فقيل هو مجرد توكيد كما تقول كتبت بيدي يعني أنه جاء على طريقة ما وقع في شعر الأعشى أي أنه جاء على أسلوب عربي ولا يفيد إلّا تقرير الحكم في الذهن مرتين ولذلك قال الزمخشري لما ذكر مثله‏ كقول العرب علمان خير من علم، وعن المبرد أنه تأكيد لدفع توهم أن يكون بقي شيء مما يجب صومه.. وقال الزجاج قد يتوهم متوهم أن المراد التخيير بين صوم ثلاثة أيام في الحج أو سبعة أيام إذا رجع إلى بلده بدلا من الثلاثة أزيل ذلك بجلية المراد بقوله: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ﴾ وتبعه الزمخشري فقال (الواو قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن وابن سيرين ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة) وهو يريد من الإباحة أنها للتخيير الذي يجوز معه الجمع ولا يتعين، وفي كلا الكلامين حاجة إلى بيان منشأ توهم معنى التخيير فأقول: إن هذا المعنى وإن كان خلاف الأصل في الواو حتى زعم ابن هشام أن الواو لا ترد له، وأن التخيير يستفاد من صيغة الأمر لا أنه قد يتوهم من حيث إن الله ذكر عددين في حالتين مختلفتين وجعل أقل العددين لأشق الحالتين وأكثرهما لأخفهما، فلا جرم طرأ توهم أن الله أوجب صوم ثلاثة أيام فقط وأن السبعة رخصة لمن أراد التخيير، فبين الله ما يدفع هذا التوهم، بل الإشارة إلى أن مراد الله تعالى إيجاب صوم عشرة أيام، وإنما تفريقها رخصة ورحمة منه سبحانه، فحصلت فائدة التنبيه على الرحمة الإلهية، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [الأعراف: 142] إذ دل على أنه أراد من موسى عليه السلام مناجاة أربعين ليلة ولكنه أبلغها إليه موزعة تيسيرا.

40. سئلت عن حكمة كون الأيام عشرة فأجبت بأنه لعله نشأ من جمع سبعة وثلاثة؛ لأنهما عددان مباركان، ولكن فائدة التوزيع ظاهرة، وحكمة كون التوزيع كان إلى عددين متفاوتين لا متساويين ظاهرة؛ لاختلاف حالة الاشتغال بالحج ففيها مشقة، وحالة الاستقرار بالمنزل، وفائدة جعل بعض الصوم في مدة الحج جعل بعض العبادة عند سببها، وفائدة التوزيع إلى ثلاثة وسبعة أن كليهما عدد مبارك ضبطت بمثله الأعمال دينية وقضائية.

41. أما قوله: ﴿كَامِلَةً﴾ فيفيد التحريض على الإتيان بصيام الأيام كلها لا ينقص منها شيء، مع التنويه بذلك الصوم وأنه طريق كمال لصائمه، فالكمال مستعمل في حقيقته ومجازه.

42. ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ إشارة إلى أقرب شيء في الكلام، وهو هدي التمتع أو بدله وهو الصيام، والمعنى أن الهدي على الغريب عن مكة كيلا يعيد السفر للعمرة فأما المكي فلم ينتفع بالاستغناء عن إعادة السفر فلذا لم يكن عليه هدي، وهذا قول مالك والشافعي والجمهور، فلذلك لم يكن عندهما على أهل مكة هدي في التمتع والقران، لأنهم لا مشقة عليهم في إعادة العمرة، وقال أبو حنيفة:

43. الإشارة إلى جميع ما يتضمنه الكلام السابق على اسم الإشارة وهو التمتع بالعمرة مع الحج ووجوب الهدي، فهو لا يرى التمتع والقران لأهل مكة وهو وجه من النظر.

44. حاضرو المسجد الحرام هم أهل بلدة مكة وما جاورها، واختلف في تحديد ما جاورها فقال مالك: ما اتصل بمكة ذلك من ذي طوى وهو على أميال قليلة من مكة، وقال الشافعي: من كان من مكة على مسافة القصر ونسبه ابن حبيب إلى مالك وغلطه شيوخ المذهب، وقال عطاء: حاضرو المسجد الحرام أهل مكة وأهل عرفة، ومر، وعرنة، وضجنان، والرجيع، وقال الزهري: أهل مكة ومن كان على مسافة يوم أو نحوه، وقال ابن زيد: أهل مكة، وذي طوى، وفج، وما يلي ذلك، وقال طاووس: حاضرو المسجد الحرام كل من كان داخل الحرم، وقال أبو حنيفة: هم من كانوا داخل المواقيت سواء كانوا مكيين أو غيرهم ساكني الحرم أو الحل.

45. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وصاية بالتقوى بعد بيان الأحكام التي لا تخلو عن مشقة للتحذير من التهاون بها، فالأمر بالتقوى عام، وكون الحج من جملة ذلك هو من جملة العموم وهو أجدر أفراد العموم، لأن الكلام فيه.

46. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ افتتح بقوله: ﴿وَاعْلَمُوا﴾ اهتماما بالخبر فلم يقتصر بأن يقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فإنه لو اقتصر عليه لحصل العلم المطلوب، لأن العلم يحصل من الخبر، لكن لما أريد تحقيق الخبر افتتح بالأمر بالعلم، لأنه في معنى تحقيق الخبر، كأنه يقول: لا تشكوا في ذلك، فأفاد مفاد إن، وتقدم آنفا عند قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 194]

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/213.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. هاتان الآيتان متصلتان بما قبلهما أوثق الاتصال، وذلك بأن الآيات الكريمة من قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، فيها تنظيم للجماعة الفاضلة؛ ببيان حق الفقير في مال الغني، وبيان المساواة العادلة في تطبيق القوانين الإسلامية، لَا فرق بين قوي وضعيف، ولا شريف ووضيع، وبيان أن العقوبة تكون على قدر الجريمة، وإن في ذلك حياة الجماعة حياة فاضلة عادلة ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، وفيها تنظيم للأسرة بالتعاون بين آحادها؛ بأن يمد الغني الفقير بالهبات في الحياة، والوصايا بعد الوفاة، وفيها بيان لما يهذب النفس، ويقوى الروح فذكر الصيام، ثم فيه إشارة إلى الحج الذي يجمع في ثناياه بين إصلاح الآحاد في ذات أنفسهم، وإصلاح الجماعة وتنظيمها، وفي أحكامه تتلاقى ذرائع التنظيم الاجتماعي، والإصلاح النفسي؛ فهو في ذاته رحلة روحية يشارف المؤمن فيها المقام القدسي، إذ يحل في المكان الذي شرفه الله سبحانه بنسبته إليه، ووضع قواعده النبيون الصديقون، وفيه الصدقات وإمداد الفقراء؛ بل في بعض كفاراته الصوم؛ وفيه التنظيم الاجتماعي العام بالتعارف بين المسلمين في كل البقاع؛ فكان حقا أن يجيء الحج بعد الأحكام المنظمة، والعبادات المصلحة للنفس، المهذبة للروح؛ لأنه يجمعها في أحكامه.

2. لكن الحج في إبان نزول القرآن كان متعذرًا أو متعسرًا؛ لأن المزار الأكبر وهو البيت الحرام، والمشعر الحرام، كان المشركون قد سيطروا عليه، والأصنام تحيط به من كل جانب، وهم يمنعون المسلمين منه، والعداوة بينهم وبين النبي وصحبه مستعرة؛ فكان لابد من القتال للوصول إليه، وأداء تلك الشريعة الإسلامية؛ لذلك جاء ذكر القتال بين الإشارة إليه بقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾، وبين بيان بعض أحكامه في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾

3. ثم هناك ارتباط خاص بين أحكام القتال وأحكام الحج، لأن القتال جهاد لحماية الدولة في الخارج، والحج جهاد لتهذيب النفس وحماية الدولة الإسلامية في الداخل، بالجمع بين أقطارها، والتعارف العام بين شعوبها، ونشر المساواة العادلة بين آحادها؛ ولذلك لم يعتبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عبادة تلي الجهاد في سبيل الله غير الحج لله.

4. ثم هناك مناسبة خاصة بين الآية الأولى وأحكام القتال، لأن فيها بيان حكم من يمنعه عدو من الوصول إلى البيت الحرام، وقد حدث في العام السادس أن منع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من الوصول إلى البيت الحرام، وهمَّ بأن يمتشق السلاح ويقاتل حتى يصل إليه بقوة السلاح، ولكن كان الصلح على أن يرجع من عامه هذا، ثم عاد في العام السابع وأدى عمرة القضاء، فكانت هذه الآية ذات مناسبة خاصة تربطها بالقتال والجهاد في سبيل الله تعالى.

5. هذه الآيات في بعض أحكام الحج؛ ولذلك نبين هذه الأحكام ولا نتعرض للتفريع واختلاف الفقهاء إلا بالقدر الذي يكون تفسيرا لكلماتها، أو يكون مستمدا من ظلالها أو قابسًا من نورها.

6. (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الحج في أصل معناه اللغوي: القصد، وخصه الراغب الأصفهاني بالقصد للزيارة؛ ومن ذلك قول الشاعر: (يحجون بيت الزبرقان المعصفر)، والعمرة في الأصل اللغوي تتلاقى مع مادة العمارة التي هي ضد الخراب ويراد بالعمرة في اللغة: الزيارة التي يقصد بها عمارة المكان، وعمارة القلوب بالود، وتلاقيها على صفاء المحبة والإخلاص، هذا هو الأصل اللغوي لمعنى كلمتي الحج والعمرة؛ وقد صارت الكلمتان من الألفاظ الإسلامية التي خصها الشرع بمعان تتصل بأصل معناها اللغوي؛ فالحج في أصل معناه كما رأيت قصد المكان للزيارة، فصار في المعنى الإسلامي يطلق على قصد بيت الله الحرام وعرفات والمشعر الحرام للزيارة بشروط خاصة وأركان خاصة، جماعها المتفق عليه الذي لَا خلاف فيه بين أهل العلم ثلاثة: الإحرام، وهو بالنسبة للحج كتكبيرة الإحرام بالنسبة للصلاة، والوقوف بعرفة، وهو كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الحج عرفة) لأن له وقتًا معينا إذا فات الشخص فاته الحج في هذا العام؛ ووجب الحج من قابل، والطواف، وقد اختلف في الوجوب فيما عدا هذه الثلاثة من السعي بين الصفا والمروة والوقوف بمزدلفة وغيرهما.

7. العمرة رأيت أنها في أصل معناها للزيارة المقصود بها عمارة المكان بالأشخاص، وعمارة النفوس بالمودة والإخلاص، وقد خصها الإسلام بزيارة بيت الله الحرام، وتلاقي النفوس فيه على مودة ورحمة وإخاء، ولها أركان خاصة وشروط، وجماع أركانها المتفق عليها بين الفقهاء اثنان: الإحرام والطواف.

8. أمر الله سبحانه وتعالى بإتمام الحج والعمرة لله؛ فنص بهذا على وجوب أن تكون هذه العبادة خالصة لله سبحانه وتعالى لَا يشرك المؤمن فيها مع الله سبحانه وتعالى أحدًا؛ وكذلك الشأن في كل عبادة، بل في كل عمل خير، يجب أن يتجه العبد فيه إلى الله سبحانه، لَا يقصد غير الله، ولا يريد بعمله إلا وجهه؛ لأن من كمال الإيمان أن يحب المؤمن الشيء لَا يحبه إلا لله، ومن كمال الإيمان أن يكون هوى المؤمن وغاياته ومقاصده تبعًا لما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولايقصد به إلا وجه الله سبحانه وتعالى.

9. كل عبادة لَا يقصد بها وجه الله لَا يثاب عليها صاحبها، بل إنها جديرة بالعقاب لَا بالثواب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قرر بأن ذلك شرك؛ وهو الذي يقول عنه العلماء إنه الشرك الخفي، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك)، وقد سماه العلماء شركا خفيا لأن صاحبه يخفيه ولا يبديه، ولأنه دقيق لَا يدركه إلا ذوو النفوس الطاهرة، والقلوب البارة التي تحاسب نفسها؛ ولأنه بلا ريب دون عبادة الأوثان، وإن كان من بابها؛ وقد وجدنا في عصرنا ناسًا يجاهرون بأنهم يتصدقون بالصدقة العظيمة يبتغون بها الجاه، أو ملق أصحاب الجاه، فبأي اسم يسمى عملهم؛ أيسمى شركا خفيا، أم يسمى شركا جليا؟ وهو على أي حال مروق من الدين، إذ قد اطرح فيه جانب رب العالمين.

10. ما المراد بالأمر بإتمام الحج والعمرة: أيراد بالأمر إقامتهما، وإيجادهما، أم يراد بالأمر إتمامهما لَا أصل إقامتهما بأن يراد الإتيان بهما تامين؟ فيكون الأمر منصبا على الإتمام، لَا على أصل الأداء؛ ويكون المعنى على الأولى: أقيموا الحج والعمرة أي أدوهما، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، فليس الاتجاه إلى الإتمام بل إلى الإنشاء؛ والمعنى على الثاني ائتوا بهما تامين، أي كاملي الأركان قد استوفيت شروط كل منهما، خالصين لوجه الله سبحانه وتعالى لا تشوبهما شائبة من رياء، هناك اتجاهان في هذا المقام:

أ. بعض الفقهاء ومعهم بعض المفسرين، وسبقهم بعض التابعين والصحابة على أن المراد بالأمر الإنشاء والإتيان والإقامة، فمعنى أتموا الحج والعمرة ائتوا بهما؛ وعلى هذا المنهج علقمة والنخعي وسعيد بن جبير وعطاء، وطاوس، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعلى؛ ولهذا قرروا أن العمرة واجبة كالحج، وهذا ما قرره الشافعي على أحد قوليه وسفيان الثوري.

ب. الاتجاه الثاني هو أن المراد بالأمر الأمر بالإتمام؛ أي أنه إذا شرع فيهما أو في أحدهما عليه أن يتمه ويأتي به كاملا، وإذا لم يستطع إتمامه أو عدل عنه فعليه أن يعيده، وتكون الإعادة واجبة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحبه في عمرة القضاء؛ وعلى ذلك الرأي لَا تكون العمرة واجبة لعدم قيام الدليل على وجوبها، وليس في هذه الآية الكريمة ما يفيد الوجوب فهي لَا تفيد وجوب حج ولا وجوب عمرة، بل تفيد وجوب الإتمام إن شرع في أحدهما، وقد ثبتت فرضية الحجِ بآية أخرى، وهي قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، وعلى هذا الرأي جمهور الفقهاء وجمهور التابعين وكثرة الصحابة، فهي على هذا الاتجاه سنة، وقد تأيد استنباط هؤلاء من الآية الكريمة بأقوال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد صحت عنه، وثبتت نسبتها إليه؛ وفوق ذلك فإن أركان العمرة تدخل في ثنايا أركان الحج؛ ولذلك ورد في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)

11. القول الجملي أن فرضية الحج مجمع عليها؛ وأما فرضية العمرة ففيها خلاف، وقد فرض الحج في العام التاسع من الهجرة على أرجح الروايات.

12. ذكرنا أن أول أركان الحج الإحرام، وأنه من الحج كتكبيرة التحريم بالنسبة للصلاة، ينوى به الدخول في الحج، كما ينوى بها الدخول في الصلاة؛ وإذا تم الإحرام على وجهه صار الشخص حاجا، فيلبس غير المخيط، ولا يحلق رأسه، ولا يقصر شعره، ويحرم عليه الصيد، وتحرم عليه النساء، كما يحرم على المرأة الرجال.. وهكذا يستمر في تلك الشعيرة المباركة حتى يتحلل من الإحرام بالذبح والحلق، كما يخرج المصلي من الصلاة بالتسليم، والإحرام له ميقات من الزمان والمكان، فهو بالنسبة للزمان يكون في أشهر الحج، كما تبين، وفي المكان يكون في مداخل الحرم المكي، وقد بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الأمكنة لأهل كل جهة ومن وراءهم ويجيء عن طريقهم، فجعل لأهل المدينة ومن وراءهم قرية ذي الحليفة، ولأهل الشام ومن وراءهم كأهل مصر قرية الجحفة التي تقرب من قرية رابغ، ولأهل نجد جبل قرن، ولأهل العراق ذات عرق، فإذا نوى الحج أحد من هذه الأماكن صار مُحْرِمًا تحرم عليه محرمات الحج؛ إلا أنه قد يعرض له ما يرخص له قطع الإحرام أو التحلل من بعض ما حرم عليه؛ وذلك في ثلاثة أحوال، اثنتان فيهما معنى الاضطرار، وثالثة فيها اختيار؛ فالأوليان حال الإحصار، وحال المرض؛ والثالثة حال التمتع.

13. ابتدأ سبحانه بذكر الأولى فقال: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، مادة الحصر في اللغة تدل على التضييق، ومن ذلك قوله تعالى في شأن القتال: ﴿وَاحْصُرُوهُمْ﴾ أي ضيقوا عليهم، ولذلك أطلقت على الحبس. وقال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾، أي محبسا، هذا موضع اتفاق بين علماء اللغة، ولكن الخلاف بينهم في الفرق بين الإحصار، والحصر؛ فقد قال الكسائي وأبو عبيدة وكثيرون من علماء اللغة: الإحصار المنع بالمرض أو ذهاب النفقة، أي ما يكون الحبس فيه من ذات الشخص لا من أمر خارج عنه، والحصر هو حصر العدو، وعلى هذا يقال أحصره المرض، وحصره العدو، وقال الفراء: هما بمعنى واحد؛ فيقال حصره المرض وأحصره، وحصره العدو وأحصره، وقال الراغب الأصفهاني: إن الإحصار أعم من الحصر، فهو يستعمل للحبس بالعدو وبالمرض ونحوه، وأما الحصر فيستعمل في المنع من ذات الشخص بالمرض ونحوه فقط، ولقد قال أبو العباس المبرد والزجاج: إن كليهما يكون للحبس بعمل العدو، وبالمرض ونحوه؛ ولكنهما مع ذلك مختلفان في المعنى؛ فالحصر معناه الحبس، والإحصار معناه التعرض للحبس والضيق، بالعدو أو المرض؛ كما يقال حبسه بمعنى أدخله في المحبس، وأحبسه بمعنى عرضه للحبس، وقتله بمعنى أوقع به القتل، وأقتله بمعنى عرضه للقتل، وقبره بمعنى دفنه، وأقبره بمعنى عرضه للدفن. وعندي أن هذا هو الفرق الدقيق الذي يكون بين الحصر والإحصار، فالفرق بينهما في معنى الاستعمال الدقيق؛ لَا في موضع الاستعمال.

14. فصلنا القول ذلك التفصيل في هذا اللفظ، وانتهينا إلى ما انتهينا إليه؛ لأن الفقهاء اختلفوا في الحكم، وبنوا اختلافهم على اختلاف اللغويين في معنى اللفظ؛ فالحنفية قرروا أن الإحصار بالمرض أو بالعدو يسيغ التحلل بذبح الهدي، على أن يقضي الحج والعمرة من بعد إن كان الإحرام بعمرة؛ والمالكية والشافعية قرروا أن الإحصار في الآية لَا يكون إلا من العدو؛ أما المريض فإنه يستمر على إحرامه حتى يبرأ من مرضه، ويذهب إلى البيت فيطوف به سبعًا، ويسعى بين الصفا والمروة، وبهذا يتحلل من عمرته أو حجه؛ وقريب من ذلك قال المالكية؛ فإنهم يرون أيضا أن المريض لَا يتحلل بالذبح، بل ينتظر حتى يبرأ من المرض، فإن برئ وكان في استطاعته أداء الحج بأن يدرك وقفة عرفات أتم الحج، وإن لم يدرك كان مخيرًا بين أن يستمر على إحرامه حتى يؤدي من قابل، وبين أن يذهب ويتحلل بالطواف والسعي بين الصفا والمروة؛ وقد أخذوا ذلك الحكم من الآية الكريمة، إذ فهموا أن الإحصار لَا يكون إلا للعدو؛ ولأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما منع هو وأصحابه من أداء الحج تحللوا بالذبح وأما المرض فلم يرد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه بذاته أباح التحلل المطلق، بل يرخص للمريض في بعض ما يحرم على المحرم، ولذلك فدية سنبينها.

15. ﴿الْهَدْيَ﴾: اسم جنس جمعي، وهو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء أو الياء المشددة، والمفرد هدية، والمراد ما يذبح من نحو الشاة والبقر والإبل، أي ما يذبح من النعم؛ والمطلوب أيسره، ولذلك قال سبحانه: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ والأيسر هو الشاة ونحوها.

16. استيسر بمعنى يسر وتيسر، لأن الاستيسار واليسر بمعنى واحد، كاستصعب وصعب بمعنى واحد؛ ولكن يجب أن يلاحظ أن السين والتاء في استيسر ما زالتا تشيران إلى المعنى الأصلي لهما وهو الطلب، وقوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ على هذا المعنى يكون حثا للمكلف على أن يطلب اليسير السهل الذي يؤدي من غير كلفة ومشقة، لَا العسير الصعب الذي لَا يؤدي إلا بمشقة وجهد، وإن ذلك سير على مبدأ الإسلام العام الذي يطالب دائما بالسهل اليسير، لا بالصعب العسير؛ ولقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما أخبرت عائشة: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما)، ولقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يحث على طلب الرفيق من الأمور والتكليف، ويقول في دينه (أوغل فيه برفق)، وينهى عن التشدد وطلب الشاق، ويقول: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، ويقول: (سددوا وقاربوا)، هذه قاعدة الإسلام: طلب اليسير من الأمور دائمًا، واجتناب العسير ما لم يكن تكليفا كالجهاد في سبيل الله.

17. ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ حلق الرأس أو تقصيرها شعار الانتهاء من الإحرام، والتحلل من تلك الشعيرة المباركة، كما أن السلام مظهر الخروج من الصلاة، وانتهائها، أو قطعها عند الاضطرار إلى قطعها. وقد بين الله سبحانه أن المحرم عند الاضطرار بالإحصار، يكون له التحلل بذبح الهدى، وتحري اليسير دون العسير؛ ولكن لَا يتم التحلل ولا يسوغ الحلق أو تقصير الشعر الذي هو مظهره إلا بعد أن يبلغ الهدى مَحِلَّه، ويذبح عند بلوغه محله.

18. (المَحِلّ): اسم زمان الحلول أو مكانه؛ فهو يطلق على الزمان والمكان، فيقال: بلغ الدَّيْن محِلَّه إذا حل وقت وفائه، وبلغ الأجل الذي يستحق فيه الأداء؛ ويقال: بلغ الشخص محِلَّه إذا وصل إلى المكان الذي يحل فيه.

19. ما المراد بالمحل في الآية؟ أيراد به اسم الزمان، أم يراد به اسم المكان؟ لَا شك أن اللفظ يحتملهما، فيحتمل الزمان والمكان، وإن كان في المكان أظهر، وأقرب ورودًا للخاطر؛ ولذلك كان لابد من السنة لمعرفة المراد يقينا، أو أن يستبين ذلك من آيات أخر:

أ. وقد قال الحنفية: إن المَحِل هو اسم مكان يراد به البيت الحرام، وقد تبين ذلك بالقرآن، فقد قال تعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾، والقرآن يفسر بعضه بعضا؛ وعلى ذلك لَا يصح للمحصر أن يحلق ويتحلل، حتى يصل الهدي الذي يرسله إلى البيت العتيق ويذبح؛ وقد تأيد ذلك بآية أخرى، وهي قوله تعالى: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾، ففيها التصريح بأن الهدي في الكعبة.

ب. وقد قال الجمهور إن مَحِل الهدي للمحصر هو المكان الذي كان فيه الإحصار، كما فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عام الحديبية؛ فإن المِسْور بن مَخْرَمة يروى: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما منع من البيت الحرام في تلك السنة وعقد الصلح قال لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، فوالله ما قام رجل منهم، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فقالت له: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لَا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك؛ ففعل؛ فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، فهذا يدل على أن محل الهدي للمحصر هو حيث الإحصار؛ وإنه إذا كان ممنوعا فإن الهدى قد يمنع أيضًا، وقد أجاب الحنفية عن ذلك بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان في الحرم لَا في الحل، فهو كان في محله؛ لأنه أحصر في طرف الحديبية القريب من مكة وهو من الحرم.

20. لا شك أن رأى جمهور الفقهاء يتفق مع السنة النبوية، وفيه تسهيل على المحصرين، والمناسب لحالهم هو التيسير لَا التصعيب، ولا شك أن ذبحهم في المكان الذي أحصروا فيه أيسر كلفة؛ والصدقة لَا يتعين مكانها في الضيق، ولكن النص الكريم ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ لَا ينطبق تمام الانطباق على رأي الجمهور، إذا فسرنا المحل بالمكان؛ لأن البلوغ يقتضي مسافة بين المكانين؛ ولا ينطبق ذلك على مكان الحصر، بل ينطبق على مكان يكون فيه بلوغ؛ وإذا فسرنا المحل بالزمان تأتَّى معنى البلوغ بأن ينتظر المحصر حتى يجيء وقت الهدى وهو يوم النحر، ويكون بالغًا محله أي بالغا زمانه؛ وحينئذ لَا يتقيد المحصر بالمكان، ولكن يتقيد في الذبح بالزمان، وان زال الإحصار قبل زمانه، وأمكن الوصول إلى الحج في إبانه، فقد زال موجب الذبح، وتعين إتمام الحج.

21. ذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ خطاب عام لكل المكلفين في هذه الشعيرة، لَا فرق بين محصر وطليق، وذي عذر وغيره؛ فهو بيان لوقت التحلل من الإحرام بشكل عام، وبيان لمكان الذبح بشكل عام وهو الكعبة؛ وإن لذلك الكلام وجاهته واستقامته؛ وهو تخريج يعاضد رأي الجمهور، لأن الكلام يكون في مكان الذبح العام، لَا في الإحصار، ومكان الذبح في الإحصار علم من السنة الصحيحة في الحديبية.

22. قبل أن نترك الكلام في المحصرين ينبغي أن نبين مذهب الحنفية وغيرهم في قضاء الحج أو العمرة إذا أحصروا، فقد قال مالك والشافعي: إذا تحلل بالهدى فليس عليه قضاء إلا أن يكون الإحصار في الحجة الأولى، لأن الذبح قد أحله من إحرامه فلا قضاء عليه، وقال الحنفية: إن عليه عمرة وقضاء ما أحرم به من الحج، فإن كان محرمًا بحج نفلا كان عليه عمرة، وعليه قضاء حجه، لأن القاعدة عندهم أنه إذا شرع في نفل ولم يتمه وجب عليه أن يعيده، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾، وإذا كان محرما بعمرة قضاها عمرة؛ لما تقدم، ولقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ فإن ذلك النص بعمومه يشمل حال من يشرع في حج أو عمرة، ولم يتمهما اختيارا أو اضطرارا.

23. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ بعد أن بين سبحانه أن مظهر الانتهاء من الإحرام هو الحلق أو تقصير الشعر، وتبين مما تقدم أن الحلق غير جائز في مدة الإحرام، أخذ سبحانه يبين حكم ما إذا تعذر أو تعسر على الشخص أن يستمر من غير حلق بأن اضطر إليه لمرض في جسمه أو رأسه استوجب الحلق ليدفع الضرر به، أو كان برأسه هوام تؤذيه وتجعل غيره يتقزز منه، وقد يصير به الشخص مصدر أذى لغيره، أو عدوى، كما هو مؤذ لنفسه، ففي هذه الأحوال يحل له الحلق، ولا يحل له سواه، لأنه لَا يتحلل بذلك من الإحرام، بل يرخص له في بعض محرماته ليدفع الضر عن نفسه وغيره، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام؛ فالكلام في الآية السابقة في الانتهاء من الإحرام قبل أداء الأركان لعذر قاهر، والكلام هنا في الترخيص من بعض المحرمات من غير إنهاء الإحرام دفعًا للأذى من غير قهر.

24. الكلام السابق كان في الأمور التي تمنع من الوصول إلى البيت الحرام؛ أما الكلام هنا فهو قد يقع قبل الوصول إلى البيت الحرام أو بعده.

25. الترخيص في الحلق له فدية، وهي صوم، أو صدقة، أو نسك، والفدية هي العوض عن شيء عظيم جليل نفيس؛ ولا شك أن محرمات الحج والعمرة أمور لها جلالها وخطرها؛ لأنها مهذبات الروح والقلب، فهي نفيسة جليلة، وعبر سبحانه بالفدية ولم يعبر بكفارة؛ لأنه لَا ذنب ولا اعتداء، حتى يكون التكفير من الإثم. والنسك جمع نسيكة وهي الذبيحة، وتكون من النَّعَم: الإبل والبقر والغنم، ويستيسر ولا يستصعب كما هو الشأن في أمور الإسلام.

26. لم يبين القرآن عدد أيام الصيام، ولا عدد المساكين الذين يطعمهم، ولا مقدار ما يتصدق به، كما لم يبين أهذه الأنواع الثلاثة في مرتبة واحدة أيها اختار كان فيه غناء، ولو كان قادرًا على أعلاها.

27. السنة بيان القرآن قد فسرت ذلك وبينته، فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم لكعب ابن عُجْرة وقد رأى الهوام تتساقط من رأسه: (لعلك آذاك هوامك) قال: نعم يا رسول الله قال: (احلق وصم ثلاثة أيام، أو تصدق بفَرْق على ستة مساكين، أو انسك شاة)، وفى رواية أخرى أنه قال: (احلق وأهد هديا)، فقال: ما أجد هديا، قال: (أفأطعم ستة مساكين)، فقال: ما أجد، فقال: (صم ثلاثة أيام)، والفرق المذكور في الرواية الأولى هو مكيال يسع ما وزنه من البر نحو ستة عشر رطلا، والحديث بروايتيه قد بين ترتيب الأنواع الثلاثة، فهي ليست بدرجة واحدة؛ وبين مقدار الصيام ومقدار الصدقة، والله عليم خبير.

28. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ بعد أن بين سبحانه وتعالى طريق الإحلال عند الإحصار، وطريق الإحلال الجزئي من بعض الحرمات عند المرض أو الأذى، بين الإحلال حال الأمن، فقال: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ أي إذا زال خوفكم من العدو وعندكم فرصة الحج من عامكم هذا، والحكم الذي سيتبين من بعد يشمل حال الأمن المستمر، ولا يقتصر على الأمن العارض بعد الإحصار فقط؛ لأن الحكم إذا كان ثابتا للأمن العارض بعد الخوف، فأولى أن يثبت للأمن المستمر الذي لا خوف معه؛ أو نقول إن كلمة ﴿أَمِنْتُمْ﴾ المراد بها ثبوت حال الأمن سواء أكان عارضا بعد ضده أم كان حالا مستمرة؛ فإن الماضي يدل في كثير من أحواله على الإخبار عن الحالات المستمرة.

29. التمتع أصل معناه الانتفاع الممتد المستمر؛ مأخوذ من المتوع بمعنى الامتداد والارتفاع؛ والمراد هنا معنى إسلامي، وهو الجمع بين العمرة والحج في عام واحد على أن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج؛ فمعنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ أي فمن أحرم بالعمرة منتفعا بعبادته ونسكه إلى أن أحرم بالحج، فلكي يتحلل في إبان التحلل يذبح هديا.. إلى آخره. وسمي ذلك الجمع تمتعا؛ لأن المحرم يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد، فيحرم بالعمرة ويستمر فيها، وتلك متعة روحية، ويجوز أن يتحلل منها ثم يحرم بالحج، وتلك متعة جسدية، ثم هو يعتمر ويحج في سفر واحد، وتلك متعة مادية، من أجل ذلك سمي هذا تمتعا.

30. لكي ينجلى الحكم المستفاد من الآية نقول إن الإحرام ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

أ. إفراد: وهو أن يفرد بالحج، ولا يجمع معه العمرة في أشهر الحج من عامه، وقد يكون الإفراد بالعمرة؛ وإذا أفرد الحج لَا يحرم بها في أشهر الحج ويحج من العام.

ب. قِران: وهو أن يجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد، أو يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وقبل أن ينتهي من أعمالها يحرم بالحج.

ج. تمتع: وهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج وبعد أن ينتهي من أعمالها يحرم بالحج؛ وقد يتحلل بنسك إذا لم يكن قد ساق الهدي عند إحرامه.

31. اختلف الفقهاء في أيها أفضل وأكثر مثوبة، وأرجى لرضا الله سبحانه؟ فبعضهم قال: إنه الإفراد، وأولئك هم الأقلون، وبعضهم قال: القِران، وهؤلاء هم الأكثرون؛ وبعضهم قال: التمتع، وقد أجاز النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الثلاثة، وفي كل منها فضل، وأساس الخلاف هو حج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فقد روي عن عائشة أنه كان إفرادا، ولعله اختار ذلك ليكون قدوة للناس في طلب اليسير، ولكيلا يفهم أحد أن القِران أو التمتع فرض لازم؛ وروى أنه كان قِرانًا؛ وروي أنه كان تمتعا؛ وقد نقل القرطبي الجمع بين الروايات المختلفة، فقال: (من أحسن ما قيل أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أهلَّ بعمرة فقال من رآه: تمتع، ثم أهل بحجة ققال من رآه: أفرد، ثم قال: لبيك بحجة وعمرةً، فقال من سمعه: قَرن)

32. قبل أن نترك هذا يجب أن نقرر أمرين:

أ. أحدهما: إن كلمة التمتع قد تطلق بمعنى يشمل القِران والتمتع، وهو المراد في هذه الآية الكريمة، وبذلك يمكن التوفيق بين الروايات التي تقول إنه تمتع، والتي تقول إنه قرن؛ والراجح أنه قَرَن.

ب. ثانيهما: إنه روى أن عمر قد نهى الناس عن التمتع والقِران، وقد روى ذلك البخاري وغيره؛ ولعله لم يفعل ذلك تحريما لما اعتبره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجاء به القرآن؛ بل فعل من قبيل السياسة العامة؛ لأنه رأى الناس يزدحمون في موسم الحج ويمكثون أمدا طويلا لجمعهم بين العمرة والحج في أشهره، ثم يخلو البيت من الناس طول العام؛ فأمرهم ـ سياسة لَا دينا ـ أن يفردوا بالحج ليعتمروا في أثناء العام، ويكون للبيت الحرام أفئدة من الناس تهوي إليه طول العام؛ ولم يوافق عمر أحد على ما رأى.

33. ذكر الله سبحانه وتعالى التحلل من الإحرام للمتمتع والقارن، فقال: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أي يطلب اليسير من النعم وهو الشاة، ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾. هذه هي العبادة التي تحل محل النسك، وهي الصيام، فقاصم العبادة الروحية مقام العبادة المالية؛ لأن كلتيهما تلتقيي عند غاية واحدة، وهي تهذيب النفس وإصلاح المجتمع؛ ولقد جعل الله سبحانه الصيام على مرحلتين:

أ. إحداهما: وهي الأقل ـ تكون في الحج، وهي ثلاثة أيام؛ وذلك لأن الحج مشقة؛ فلكي يكون سهلا في أدائه على ذوي الفقر جعل أقل الصيام فيه، فلا يجمع بين مشقة الصيام ومشقة الحج، وهو سفر فيه مشقة.

ب. والمرحلة الثانية: وهي الأكثر، بعد العودة إلى أهله حيث يطمئن ويستقر، وتذهب مشقة السفر، فيصوم سبعة أيام.

34. اتفق العلماء على أنه لَا يصوم السبعة الأيام قبل الانتهاء من الحج؛ ولكن اختلفوا أيجوز القيام بها بعد الانتهاء وقبل العودة؟ فقال فريق: إنه لَا يجوز إلا إذا رجع، مستمسكا بحرفية النص لَا يتجاوزها، وقال بعضهم: يجوز بمجرد الانتهاء من الحج أن يصوم؛ لأن التأخير إلى الرجوع إلى الأهل ترخيص وتسهيل، فمتي سهل عليه أن يصوم صام؛ ما دام ذلك بعد الحج.

35. لقد قال سبحانه وتعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ ليتقرر الحكم نصًا؛ وليتبين أن الذي يحل محل النسك هو العشرة الكاملة لَا بعضها؛ ولكي لَا ينسى الناس صوم السبعة الأيام إذا عادوا إلى أهلهم حاسبين أن حجهم قد تم، بل عليهم أن يفهموا أن الحج لم يتم حتى يصوموا.

36. ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي أن التمتع بنوعيه من قِران يجمع فيه الحج والعمرة في إحرام، أو تمتع يجمع به بينهما في أشهر الحج، لمن لم يكن أهله مقيمين في مكة وما حولها؛ فإن أولئك يفردون ولا يجمعون؛ لأن العمرة في إمكانهم في طول العام، وهذا ما يقرره فقهاء الحنفية، وقال الشافعية: إن أهل مكة وما حولها يقرنون ويتمتعون كغيرهم من أهل الآفاق، والإشارة في قوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ إنما هي للنسك وما يقوم مقامه، وذلك لأن الإشارة لأقرب مذكور؛ أي أن هذا الإهداء يكون على أهل الآفاق، لَا على أهل البيت الحرام؛ لأنهم بوادٍ غير ذي زرع، كما ذكر إبراهيم عليه السلام في دعائه.

37. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة التي كانت فيها الإشارة إلى أعمال الحج ونسكه وشعائره بالأمر بتقواه للإشارة إلى أن الاعتبار في أعمال الحج لَا يكون لما تعمله الجوارح، وما تقوم به من أفعال، إنما العبرة في ذلك إلى أثرها في القلوب، فإن أوجدت رحمة بالعباد، ورهبة من الخلاق، وتقوى من الله، فقد أديت على وجهها إذ خلصتا النية، واستقامت الإرادة؛ وإن لم تؤد إلى تقوى الله والرحمة بعباده فقد خالطها رياء ولم تخلص النية، وحق العقاب؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ليلقي في نفوس الناس الرهبة من عقابه حال رجاء ثوابه، والناس يصلحون بالثواب والعقاب، حتى إذا علت المدارك وقويت الروح كان الثواب رضا الرحمن؛ ولذا قال سبحانه بعد ثواب المؤمنين: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/598.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. تعرضت هذه الآيات لبعض أحكام الحج.. وقد كان الحج معروفا منذ عهد ابراهيم وإسماعيل عليهما السلام، واستمر عليه أهل الجاهلية، وأقره الإسلام بعد أن خلّصه من المنكرات، وطعّمه ببعض المناسك.

2. ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ معنى الحج في اللغة القصد، وفي الشرع عبادة خاصة في مكان مخصوص في زمن معين، والعمرة في اللغة مطلق الزيارة، وفي الشرع زيارة بيت الله الحرام على نحو خاص.

3. الحج واجب كتابا وسنة واجماعا، بل ثبت وجوبه بالبديهة الدينية، ومن أنكره فليس بمسلم، تماما كمن أنكر وجوب الصوم والصلاة، أما العمرة فقد أوجبها الامامية والشافعية، وقال باستحبابها الحنفية والمالكية.

4. ﴿لِلَّهِ﴾ أي حجوا واعتمروا لوجه الله وحده، لا لمقاصد دنيوية، فقد كانت العرب تقصد الحج للاجتماع والتفاخر والتنافر، وقضاء الحوائج، وحضور الأسواق، فأمر الله بالقصد اليه للعبادة الخالصة من كل شائبة.

5. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ الإحصار هو الحبس والمنع، والهدي ما يضحي به الحاج أيام حجه، والمعنى إذا أحرمتم للحج أو العمرة، ثم منعكم مانع من إكمال العبادة على وجهها الشرعي من مرض أو عدو، وما اليه من العوائق، إذا كان الأمر كذلك فعليكم أن تذبحوا ما تيسر، وأقله شاة، وأوسطه بقرة، وأعلاه ناقة.

6. ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ الخطاب للمحصورين الذين منعوا من إتمام الحج أو العمرة، وعليهم أن لا يحلوا من إحرامهم، حتى يعلموا ان الهدي الذي بعثوه قد بلغ المكان الذي يجب فيه الذبح، ومكان الذبح منى ان كان الإحرام للحج، ومكة ان كان للعمرة.. هذا، إذا كان المرض هو المانع، أما إذا كان المانع العدو فان محل الذبح هو المكان الذي حصل فيه المنع، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذبح هديه في الحديبية حين صده المشركون عن زيارة بيت الله الحرام.

7. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ أي ان المحرم إذا حلق رأسه لضرورة فعليه كفارة مخيرا بين صيام ثلاثة ايام، أو اطعام ستة مساكين، أو التضحية، وأقلها شاة.

8. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ أي لم يمنعكم مانع من إكمال الحج، ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أي ان من أتى بالعمرة، ثم حج بعدها في نفس السنة فعليه الهدي، وهذا النوع من الحج هو المعروف بحج التمتع الذي يجب على غير أهل مكة، وانما سمي حج التمتع لأن الحاج بعد أن ينتهي من العمرة يحل له أن يتمتع بكل ما حرم عليه، حين كان محرما للعمرة الى أن يحرم للحج.

9. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ قال الإمام الصادق عليه السلام: إذا لم يجد المتمتع الهدي صام ثلاثة ايام في الحج: السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة ـ ولا يشترط فيها الاقامة ـ وسبعة ايام إذا رجع الى أهله، تلك عشرة كاملة لجزاء الهدي.

10. ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾. قال صاحب مجمع البيان: (أي ما تقدم ذكره من التمتع بالعمرة الى الحج ليس لأهل مكة، ومن يجري مجراها، وانما هو لمن لم يكن من حاضري مكة، وهو من يكون بينه وبينها أكثر من اثني عشر ميلا من كل جانب)، وقال فقهاء الإمامية: ان حج التمتع فرض للبعيد عن مكة، ولا يجوز له ان يحج حج القران والإفراد، والقران والإفراد فرض لأهل مكة وضواحيها، ولا يجوز أن يحجوا حج التمتع، والتفصيل في كتب الفقه.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/304.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. نزلت الآيات في حجة الوداع، آخر حجة حجها رسول الله، وفيها تشريع حج التمتع.

2. ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، تمام الشيء هو الجزء الذي بانضمامه إلى سائر أجزاء الشيء يكون الشيء هو هو، ويترتب عليه آثاره المطلوبة منه فالإتمام هو ضم تمام الشيء إليه بعد الشروع في بعض أجزائه، والكمال هو حال أو وصف أو أمر إذا وجده الشيء ترتب عليه من الأثر بعد تمامه ما لا يترتب عليه لو لا الكمال، فانضمام أجزاء الإنسان بعضها إلى بعض هو تمامه، وكونه إنسانا عالما أو شجاعا أو عفيفا كماله، وربما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على الشيء داخلا فيه اهتماما بأمره وشأنه، والمراد بإتمام الحج والعمرة هو المعنى الأول الحقيقي، والدليل عليه قوله تعالى بعده: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، فإن ذلك تفريع على التمام بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه وضمه إلى أجزائه المأتي بها بعد الشروع ولا معنى يصحح تفريعه على الإتمام بمعنى الإكمال وهو ظاهر.

3. الحج هو العمل المعروف بين المسلمين الذي شرعه إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان بعده بين العرب ثم أمضاه الله سبحانه لهذه الأمة شريعة باقية إلى يوم القيامة، ويبتدى هذا العمل بالإحرام والوقوف في العرفات ثم المشعر الحرام، وفيها التضحية بمنى ورمي الجمرات الثلاث والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة، وفيها أمور مفروضة أخر، وهو على ثلاثة أقسام: حج الإفراد، وحج القران، وحج التمتع الذي شرعه الله في آخر عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

4. العمرة عمل آخر وهو زيارة البيت بالإحرام من أحد المواقيت والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة والتقصير، وهما أعني الحج، والعمرة عبادتان لا يتمان إلا لوجه الله ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ الآية.

5. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾، الإحصار هو الحبس والمنع، والمراد الممنوعية عن الإتمام بسبب مرض أو عدو بعد الشروع بالإحرام والاستيسار صيرورة الشيء يسيرا غير عسير كأنه يجلب اليسر لنفسه، والهدي هو ما يقدمه الإنسان من النعم إلى غيره أو إلى محل للتقرب به، وأصله من الهدية بمعنى التحفة أو من الهدى بمعنى الهداية التي هي السوق إلى المقصود، والهدي والهدية كالتمر والتمرة، والمراد به ما يسوقه الإنسان للتضحية به في حجه من النعم.

6. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ الفاء للتفريع، وتفريع هذا الحكم على النهي عن حلق الرأس يدل على أن المراد بالمرض هو خصوص المرض الذي يتضرر فيه من ترك الشعر على الرأس من غير حلق، والإتيان بقوله: أو ﴿بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ بلفظة ﴿أَوْ﴾ الترديد يدل على أن المراد بالأذى ما كان من غير طريق المرض كالهوام فهو كناية عن التأذي من الهوام كالقمل على الرأس، فهذان الأمران يجوزان الحلق مع الفدية بشيء من الخصال الثلاث: التي هي الصيام، والصدقة، والنسك، وقد وردت السنة أن الصيام ثلاثة أيام، وأن الصدقة إطعام ستة مساكين، وأن النسك شاة.

7. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾، تفريع على الإحصار، أي إذا أمنتم المانع من مرض أو عدو أو غير ذلك فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، أي تمتع بسبب العمرة من حيث ختمها والإحلال إلى زمان الإهلال بالحج فما استيسر من الهدي، فالباء للسببية، وسببية العمرة للتمتع بما كان لا يجوز له في حال الإحرام كالنساء والصيد ونحوهما من جهة تمامها بالإحلال.

8. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، ظاهر الآية أن ذلك نسك، لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحج من الميقات فإن ذلك أمر يحتاج إلى زيادة مئونة في فهمه من الآية كما هو ظاهر.

9. سؤال وإشكال: إن ترتب قوله: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، على قوله: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ﴾ ترتب الجزاء على الشرط مع أن اشتمال الشرط على لفظ التمتع مشعر بأن الهدي واقع بإزاء التمتع الذي هو نوع تسهيل شرع له تخفيفا فهو جبران لذلك، والجواب: يدفعه قوله تعالى: ﴿بِالْعُمْرَةِ﴾، فإن ذلك يناسب التجويز للتمتع في أثناء عمل واحد، ولا معنى للتسهيل حيث لا إحرام لتمام العمرة وعدم الإهلال بالحج بعد، على أن هذا الاستشعار لو صح فإنما يتم به كون تشريع الهدي من أجل تشريع التمتع بالعمرة إلى الحج لا كون الهدي جبرانا لما فاته من الإهلال بالحج من الميقات دون مكة، وظاهر الآية كون قوله: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ إخبارا عن تشريع التمتع لا إنشاء للتشريع فإنه يجعل التمتع مفروغا عنه ثم يبنى عليه تشريع الهدي، ففرق بين قولنا: (من تمتع فعليه هدي) وقولنا (تمتعوا وسوقوا الهدي)، وأما إنشاء تشريع التمتع فإنما يتضمنه قوله تعالى في ذيل الآية: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾

10. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾، جعل الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاده مع زمان الاشتغال به ومكانه، فالزمان الذي يعد زمانا للحج، وهو من زمان إحرام الحج إلى الرجوع، زمان الصيام ثلاثة أيام، ولذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت أن وقت الصيام قبل يوم الأضحى أو بعد أيام التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله وإلا فعند الرجوع إلى وطنه، وظرف السبعة إنما هو بعد الرجوع فإن ذلك هو الظاهر من قوله: ﴿إِذَا رَجَعْتُمْ﴾، ولم يقل حين الرجوع على أن الالتفات من الغيبة إلى الحضور في قوله ﴿إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ لا يخلو عن إشعار بذلك.

11. ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾، أي الثلاثة والسبعة عشرة كاملة وفي جعل السبعة مكملة للعشرة لا متممة دلالة على أن لكل من الثلاثة والسبعة حكما مستقلا آخر على ما مر من معنى التمام والكمال في أول الآية فالثلاثة عمل تام في نفسه، وإنما تتوقف على السبعة في كمالها لا تمامها.

12. ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، أي الحكم المتقدم ذكره وهو التمتع بالعمرة إلى الحج لغير الحاضر، وهو الذي بينه وبين المسجد الحرام أكثر من اثني عشر ميلا على ما فسرته السنة، وأهل الرجل خاصته: من زوجته وعياله، والتعبير عن النائي البعيد بأن لا يكون أهله حاضري المسجد الحرام من ألطف التعبيرات، وفيه إيماء إلى حكمة التشريع وهو التخفيف والتسهيل، فإن المسافر من البلاد النائية للحج، وهو عمل لا يخلو من الكد ومقاسات التعب ووعثاء الطريق، لا يخلو عن الحاجة إلى السكن والراحة، والإنسان إنما يسكن ويستريح عند أهله، وليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدله الله سبحانه من التمتع بالعمرة إلى الحج والإهلال بالحج من المسجد الحرام من غير أن يسير ثانيا إلى الميقات، وقد عرفت: أن الجملة الدالة على تشريع المتعة إنما هي هذه الجملة أعني قوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ﴾، دون قوله: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾، وهو كلام مطلق غير مقيد بوقت دون وقت ولا شخص دون شخص ولا حال دون حال.

13. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، التشديد البالغ في هذا التذليل مع أن صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبىء عن أن المخاطبين كان المترقب من حالهم إنكار الحكم أو التوقف في قبوله وكذلك كان الأمر فإن الحج خاصة من بين الأحكام المشرعة في الدين كان موجودا بينهم من عصر إبراهيم الخليل معروفا عندهم معمولا به فيهم قد أنسته نفوسهم وألفته قلوبهم وقد أمضاه الإسلام على ما كان تقريبا إلى آخر عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم يكن تغيير وضعه أمرا هينا سهل القبول عندهم ولذلك قابلوه بالإنكار وكان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات، ولذلك اضطر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أن يخطبهم فيبين لهم أن الحكم لله يحكم ما يشاء، وأنه حكم عام لا يستثني فيه أحد من نبي أو أمة فهذا هو الموجب للتشديد الذي في آخر الآية بالأمر بالتقوى والتحذير عن عقاب الله سبحانه.

14. ذكر بعض ما ذكرنا سابقا من آثار حول حج التمتع، وما ورد من النهي عنه من عمر وغيره، ثم علق عليها بما يلي: الروايات في هذا المعنى كثيرة جدا لكنا اقتصرنا منها على ما له دخل في غرضنا وهو البحث التفسيري عن نهيه، فإن هذا النهي ربما يبحث فيه من جهة كون ناهيه محقا أو معذورا فيه وعدم كونه كذلك، وهو بحث كلامي خارج عن غرضنا في هذا الكتاب، وربما يبحث فيه من جهة اشتمال الروايات على الاستدلال على هذا المعنى بما له تعلق بالكتاب أو السنة فترتبط بدلالة ظاهر الكتاب والسنة، وهو سنخ بحثنا في هذا الكتاب.

15. الاستدلال على النهي عن التمتع بأنه هو الذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ الآية وأن التمتع مما كان مختصا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يدل عليه ما في رواية أبي نضرة عن جابر: أن الله كان يحل لرسوله ما شاء مما شاء وأن القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله، فقد عرفت: أن قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ الآية لا يدل على أزيد من وجوب إتمام الحج والعمرة بعد فرضهما، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾، وأما كون الآية دالة على الإتمام بمعنى فصل العمرة من الحج، وأن عدم الفصل كان أمرا خاصا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، أو به وبمن معه في تلك الحجة حجة الوداع فدون إثباته خرط القتاد، وفيه مع ذلك اعتراف بأن التمتع كان سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في رواية النسائي عن ابن عباس من قوله: (والله إني لأنهاكم عن المتعة) إلى قوله: (ولقد فعلها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم)

16. أما الاستدلال عليه بأن في النهي أخذا بالكتاب أو السنة كما في رواية أبي موسى من قوله: (إن نأخذ بكتاب الله فإن الله قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ وإن نأخذ بسنة نبينا لم يحل حتى نحر الهدي)، فقد عرفت أن الكتاب يدل على خلافه، وأما إن ترك التمتع سنة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لكونه لم يحل حتى نحر الهدي ففيه:

أ. أولا: أنه مناقض لما نص به نفسه على ما يثبته الروايات الأخر التي مر بعضها آنفا.

ب. ثانيا: أن الروايات ناصة على أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صنعها، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أهل بالعمرة وأهل ثانيا بالحج، وأنه خطب وقال: أبالله تعلمون أيها الناس، ومن عجيب الدعوى في هذا المقام ما ادعاه ابن تيمية أن حج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان حج قران، وأن المتعة كانت تطلق على حج القران!.

ج. ثالثا: أن مجرد عدم حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله ليس إحراما للحج ولا يثبت به ذلك، والآية أيضا تدل على أن سائق الهدي الذي حكمه عدم الحلق، إذا لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فهو متمتع لا محالة.

د. رابعا: هب أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أتى بغير التمتع لكنه أمر جميع أصحابه ومن معه بالتمتع، وكيف يمكن أن يعد ما شأنه هذا سنته؟ وهل يمكن أن يتحقق أمر خص به رسول الله نفسه ويأمر أمته بغيره وينزل به الكتاب ثم يكون بعد سنة متبعة بين الناس!؟.

17. أما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب هيئة لا تلائم وضع الحاج ويورده مورد الاستلذاذ بإتيان النساء واستعمال الطيب ولبس الفاخر من الثياب كما يدل عليه ما في رواية أحمد عن أبي موسى من قوله: (ولكني أخشى أن يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجا)، وكما في بعض الروايات: (قد علمت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فعله وأصحابه ولكني كرهت أن يعرسوا بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم)، ففيه أنه اجتهاد في مقابل النص وقد نص الله ورسوله على الحكم، والله ورسوله أعلم بأن هذا الحكم يمكن أن يؤدي إلى ما كان يخشاه ويكرهه! ومن أعجب الأمر أن الآية التي تشرع هذا الحكم يأتي في بيانها بعين المعنى الذي أظهر أنه يخشاه ويكرهه فقد قال تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾، فهل التمتع إلا استيفاء الحظ من المتاع والالتذاذ بطيبات النكاح واللباس وغيرهما؟ وهو الذي كان يخشاه ويكرهه!

18. وأعجب منه: أن الأصحاب قد اعترضوا على الله ورسوله حين نزول الآية، وأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتمتع بعين ما جعله سببا للنهي حين قالوا كما في رواية الدر المنثور، عن الحاكم عن جابر قلنا: (أيروح أحدنا إلى عرفة..) فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقام خطيبا ورد عليهم قولهم وأمرهم ثانيا بالتمتع كما فرضه عليهم أولا.

19. أما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب تعطل أسواق مكة كما في رواية السيوطي، عن سعيد بن المسيب: من قوله: مع أن أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم، ففيه أيضا: أنه اجتهاد في مقابل النص، على أن الله سبحانه يرد عليه في نظير المسألة بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن المشركين نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم﴾

20. أما الاستدلال عليه بأن تشريع التمتع لمكان الخوف فلا تمتع في غير حال الخوف كما في رواية الدر المنثور، عن مسلم عن عبد الله بن شقيق: من قول عثمان لعلي عليه السلام ولكنا كنا خائفين، وقد روي نظيره عن ابن الزبير كما رواه في الدر المنثور، قال أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن الزبير أنه خطب فقال: (يا أيها الناس والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج فيحضره عدو أو مرض أو كسر، أو يحبسه أمر حتى يذهب أيام الحج فيقدم فيجعلها عمرة فيتمتع تحلة إلى العام المقبل ثم يحج ويهدي هديا فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج)الحديث، ففيه: أن الآية مطلقة تشمل الخائف وغيره فقد عرفت أن الجملة الدالة على تشريع حكم التمتع هي قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية دون قوله تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية، على أن جميع الروايات ناصة في أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أتى بحجه تمتعا، وأنه أهل بإهلالين للعمرة والحج.

21. أما الاستدلال عليه: بأن التمتع كان مختصا بأصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في روايتي الدر المنثور، عن أبي ذر، فإن كان المراد ما ذكر من استدلال عثمان وابن الزبير فقد عرفت جوابه، وإن كان المراد أنه كان حكما خاصا لأصحاب النبي لا يشمل غيرهم، ففيه أنه مدفوع بإطلاق قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية، على أن إنكار بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لذلك الحكم وتركهم له كعمر وعثمان وابن الزبير وأبي موسى ومعاوية وروي أن منهم أبا بكر ينافي ذلك!.

22. أما الاستدلال عليه بالولاية وأنه إنما نهى عنه بحق ولايته الأمر وقد فرض الله طاعة أولي الأمر إذ قال ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، ففيه أن الولاية التي جعلها القرآن لأهلها لا يشمل المورد، بيان ذلك: أن الآيات قد تكاثرت على وجوب اتباع ما أنزله الله على رسوله كقوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وما بينه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مما شرعه هو بإذن الله تعالى كما يلوح من قوله تعالى: ﴿وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾، وقوله تعالى: ﴿ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾، فالمراد بالإيتاء الأمر بقرينة مقابلته بقوله: وما نهيكم عنه، فيجب إطاعة الله ورسوله بامتثال الأوامر وانتهاء النواهي، وكذلك الحكم والقضاء كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، وفي موضع آخر ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وفي موضع آخر ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾، وقال: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾، فإن المراد بالاختيار هو القضاء والتشريع أو ما يعم ذلك، وقد نص القرآن على أنه كتاب غير منسوخ وأن الأحكام باقية على ما هي عليها إلى يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، فالآية مطلقة تشمل نسخ الحكم فما شرعه الله ورسوله أو قضى به الله ورسوله يجب اتباعه على الأمة، أولي الأمر فمن دونهم، ومن هنا يظهر أن قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ إنما يجعل لأولي الأمر حق الطاعة في غير الأحكام فهم ومن دونهم من الأمة سواء في أنه يجب عليهم التحفظ لأحكام الله ورسوله بل هو عليهم أوجب، فالذي يجب فيه طاعة أولي الأمر إنما هو ما يأمرون به وينهون عنه فيما يرون صلاح الأمة فيه، من فعل أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة.

23. كما أن الواحد من الناس له أن يتغذى يوم كذا أو لا يتغذى مع جواز الأكل له من مال نفسه وله أن يبيع ويشتري يوم كذا أو يمسك عنه مع كون البيع حلالا، وله أن يترافع إلى الحاكم إذا نازعه أحد في ملكه، وله أن يعرض عن الدفاع مع جواز الترافع، كل ذلك إذا رأى صلاح نفسه في ذلك مع بقاء الأحكام على حالها، وليس له أن يشرب الخمر، ولا له أن يأخذ الربا، ولا له أن يغصب مال غيره بإبطال ملكه وإن رأى صلاح نفسه في ذلك لأن ذلك كله يزاحم حكم الله تعالى، هذا كله في التصرف الشخصي، كذلك ولي الأمر له أن يتصرف في الأمور العامة على طبق المصالح الكلية مع حفظ الأحكام الإلهية على ما هي عليها، فيدافع عن ثغور الإسلام حينا، ويمسك عن ذلك حينا، على حسب ما يشخصه من المصالح العامة، أو يأمر بالتعطيل العمومي أو الإنفاق العمومي يوما إلى غير ذلك بحسب ما يراه من المصلحة.

24. بالجملة كل ما للواحد من المسلمين أن يتصرف فيه بحسب صلاح شخصه مع التحفظ على حكم الله سبحانه في الواقعة فلوالي الأمر من قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يتصرف فيه بحسب الصلاح العام العائد إلى حال المسلمين مع التحفظ بحكم الله سبحانه في الواقعة، ولو جاز لولي الأمر أن يتصرف في الحكم التشريعي تكليفا أو وضعا بحسب ما يراه من صلاح الوقت لم يقم حكم على ساق، ولم يكن لاستمرار الشريعة إلى يوم القيامة معنى البتة، فما الفرق بين أن يقول قائل: إن حكم التمتع من طيبات الحياة لا يلائم هيئة النسك والعبادة من الناسك فيلزم تركه، وبين أن يقول القائل: إن إباحة الاسترقاق لا تناسب وضع الدنيا الحاضرة القاضية بالحرية العامة فيلزم إهمالها، أو إن إجراء الحدود مما لا تهضمه الإنسانية الراقية اليوم، والقوانين الجارية في العالم اليوم لا تقبله فيجب تعطيله!؟ وقد يفهم هذا المعنى من بعض الروايات في الباب كما في الدر المنثور،: أخرج إسحاق بن راعويه في مسنده، وأحمد عن الحسن: أن عمر بن الخطاب هم أن ينهى عن متعة الحج فقام إليه أبي بن كعب، فقال: ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله واعتمرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزل عمر.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/64.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ هذا فيمن دخل في الحج أو العمرة بالإحرام، فأما الأمر بالحج نفسه فهو في آية أخرى، ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ عن الإتمام بمرض أو عدو أو غير ذلك ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ يجزي عن الاستمرار فيهما لإتمامهما.

2. ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾ تحللاً من الإحرام لهما ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ ومحله الحرم؛ أو منى في الحج خاصة، والإحصار عن الإتمام قيل: خاص بالإحصار عن الوقوف في الحج والطواف في العمرة.

3. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ ظاهره: الإطلاق، بحيث يتناول من أحصر عن طواف الزيارة وإن كان قد وقف بعرفات؛ لأن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ يصلح في المحصر عن الإتمام وإن كان قد وقف بعرفات إذا لم يكن قد رمى الجمرة وحل له الحلق بالرمي؛ لأنه يحل له الحلق بطواف الزيارة، أي طواف النساء فيكون له الإحلال بالهدي على أن يطوف طواف الزيارة متى استطاع، مع أن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾ ليس قيداً في الإحصار، وإنما هو حكم من أحكامه، ويمكن أن يخص هذا الحكم من لم يكن رمى الجمرة من المحصرين، ولا طاف طواف الزيارة بقرينة أن منع الحلق خاص بمن كان ممنوعاً من الحلق لأجل الإحرام، ويبقى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ على عمومه، يتناول من قد رمى الجمرة وحلق ولم يطف طواف الزيارة؛ لأنه محصر عن إتمام الحج، وما قيل: من أن معناه فإن أردتم التحلل من الإحرام فعليكم ما استيسر من الهدي، فلا نسلم صحته، بل معناه: فإن أحصرتم عن الإتمام للحج أو العمرة ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ يجزيكم لترك الإتمام كما قدمت في نظائره، والمذكور هو الإتمام؛ إتمام الحج والعمرة لا إتمام الإحرام، فلا يصح صرفه إلى إتمام الإحرام، مع أن إتمام الإحرام لا يكون إلاَّ بطواف الزيارة؛ لأن من رمى الجمرة يبقى عليه بعض من الإحرام، وهو تحريم النساء حتى يطوف طواف الزيارة، فيكون حكم الإحصار عاماً لمن بقي عليه شيء من الإحرام، وتحريم الحلق خاصاً بمن لم يكن رمى الجمرة، فالمحصر: الذي قد رمى الجمرة وحلق يفدي للتحلل من بقية الإحرام، هذا ما فهمته أنا من الآية الكريمة.

4. لم يذكر الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام) إلاَّ المحصر عن الوقوف، حيث قال: (فإن هو تخلص من إحصاره حتى يأتي مكة فإن لحق الحج حج)، فظاهره: أنه خاص بالمحصر عن الوقوف، ولكنه لم يذكره تفسيراً للآية، ولم يصرح بأن الإحصار إنما يكون عن الوقوف، ومثيله كلام الإمام زيد بن علي عليهما السلام في (المجموع) ويمكن أنهم خصوا بالذكر من أحصر عن الوقوف والطواف في العمرة؛ لأن ذلك هو الغالب في الإحصار، فأما الإحصار عن تمام الحج بعد الوقوف فهو نادر جداً؛ لأنه إن كان لعدوٍّ فالغالب أنه يكون في الطريق قبل الوصول إلى عرفات، ومن لم يمنع من عرفات لم يمنع من مكة في الغالب؛ لأنهما في العادة يكونان تحت دولة واحدة، وإن كان الحصر لمرض فيمكن التخلص منه في الغالب بركوب سرير يحمل فيه ويطاف به طواف الزيارة، ويذبح دماء عن بقية المناسك، فلم يكن الإحصار بالمرض إلاَّ نادراً فيمن اشتد به المرض وخشي التلف إن طيف به أو زيادة شدة المرض، واستمر به حتى يعود أصحابه واضطر للعودة معهم لخشية الموت إذا تركوه وحده ولم يستطع إيقافهم لينتظروا حتى يطوف، ولم يستطيعوا انتظاره للخوف من انفرادهم في الطريق إذا تأخروا، فبان أنهم لم يذكروا الإحصار عن بقية الحج؛ لأنه نادر جداً.

5. على هذا: فلا يخص الإحصار بالإحصار عن الوقوف، وقد يتصور الإحصار عن طواف الزيارة فيمن طاف طواف القدوم قبل الوقوف، ثم وقف واشتد به المرض وكان رفيقه جاهلاً، وهو زائل العقل، فلم يطف به، وتركه ثم عاد به معه لجهله كيف يصنع به، ولم يفق المريض إلاَّ في الطريق في العودة أو كان جاهلاً لم يستطع شيئاً من أعمال الحج لمرضه ولم يدر ما يصنع لجهله حتى رجع ثم أحصر عن العودة بمرض أو عدو أو عدم نفقة للعودة، فهذه صورة وهي نادرة أيضاً، وقد وقع نظيرها في الإحصار عن العمرة للجهل، فقد خرج أناس من المدينة وأحرموا للعمرة ثم انقلبت بهم السيارة وحدثت فيهم جراح وحالة شديدة، فحملوا في سيارة أخرى إلى المدينة المنورة ولبسوا ثيابهم واعتبروا أنفسهم أن قد حلوا لعجزهم في تلك الحال عن إتمام العمرة، أو لذلك وللبسهم ثيابهم، فلما تحسنت حالتهم في طيبة ورجعوا أحرموا للعمرة من ذي الحليفة وهم في الواقع ما زالوا محرمين؛ لأنهم لم يبعثوا بهدي، ثم طافوا بالبيت لهذه العمرة الأخيرة ورجعوا بلادهم وعجز بعضهم عن الرجوع من بلاده لاستكمال بقية المناسك؛ لفقره، فهذا لا إشكال أنه محصر على المذهب، وإنما الإشكال في الحاج الذي قد وقف لو وقع له حادث فترك في المستشفى ثم أعيد إلى بلده وهو لا يشعر أو لا يدري ما يصنع، ثم لما وصل إلى البلاد سأل، ما يلزمه؟ فإن كانت تُمْكنه العودة وجبت عليه ليطوف طواف الزيارة وإن كان عاجزاً عن ذلك فعلى ما رجحته يبعث بهدي ويتخلص من إحرامه ببلوغ الهدي محله، وعلى قولهم: إن المحصر إنما هو المحصر عن الوقوف يبقى هذا على بقية إحرامه حتى يتمكن من العودة أو يموت.

6. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ قال المؤيد بالله في (شرح التجريد): (ولا خلاف أن اسم الهدي يتناول الشاة، وروى ابن أبي شيبة قال: حدثنا حفص، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام قال: ما استيسر من الهدي شاة. وروى ابن أبي شيبة، عن ابن عباس، وابن عمر ذلك، وهو مما لا خلاف فيه)

7. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ فاحتاج إلى الحلق في المرض، وذلك قد يكون لوضع علاج من الصداع على الرأس إذا احتاج المريض إلى ذلك أو لأي سبب احتاج المريض إلى الحلق أو احتاج إلى الحلق الذي به أذى من رأسه كالذي به القمل الذي يؤذيه في رأسه.

8. ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ ثلاثة أيام ﴿أَوْ صَدَقَةٍ﴾ إطعام ستة مساكين ﴿أَوْ نُسُكٍ﴾ ذبح شاة من الشاء، والنسك: جمع نسيكة، مثل صحيفة وصحف، فمن كان كما ذكر الله ففدية مما ذكر تجزيه عن ترك الحلق من أجل الإحرام، والمراد تقدير لفظ تجزيه أو ما يوافقها في إفادة حَلّ المشكلة مثل: تكفيه أو تغنيه، فهذا هو الذي يفيده السياق كما مر في آية الصيام، وتفسير الصيام والصدقة والنسك بما ذكرت؛ رواه الإمام زيد بن علي في (مجموعه) عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام.

9. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ وزال الإحصار بالخوف، أو سلمتم الإحصار بالخوف فأتموا كما أمرتم ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ التمتع: الانتفاع العاجل، والتمتع بالعمرة: أن يعتمر من يريد أن يحج، فإذا وصل ميقات الحج أحرم بالعمرة ليستبيح بعدها ما يحرم بالإحرام مما يحل لغير المحرم، ويتخلص بها من الإحرام للحج عند وصوله الميقات إذا كان يطول عليه الإحرام لبُعد يوم النحر، وهذا لأنه إذا وصل الميقات لم يكن له بدّ من الإحرام، إذ ليس له أن يتجاوز الميقات إلى الحرم بغير إحرام؛ لأن ذلك ينافي كون الميقات ميقاتاً للإحرام، فالإحرام للعمرة أخفّ له؛ لأنه يصل مكة فيطوف ويسعى ويقصر، وانتهت العمرة وحل له لبس ثيابه وتغطية رأسه والطيب والنساء ونحو ذلك من محظورات الإحرام، وبقي على هذا إلى الحج حين يحرم للحج يوم التروية مثلاً، فقد تمتع بما حل له بواسطة العمرة، فلذلك صح التعبير بأنه تمتع بالعمرة إذ لولا العمرة لاحتاج إلى الإحرام للحج حين بلغ الميقات.

10. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ يجزيه عن الإحرام للحج من الميقات، واستمراره على إحرامه إلى يوم النحر، وقد قيل: إن في هذا دلالة على أن التمتع دون الإفراد والقران في الفضل؛ لأن هذا جارٍ مجرى الترخيص الذي يقرن بفدية؛ لأن الهدي كان بدل الإحرام بالحج، وأنا لا أرى في هذا دلالة على ما قالوه، بل يدل على التخيير؛ لأن الهدي لو كان فدية لسماه الله فدية، فلما سماه هدياً دل ذلك على أن الكلام جرى مجرى التخيير بين الإحرام للحج من الميقات وبين التمتع مع الهدي، والتخيير لا يدل على أن أحدهما أفضل، وقد روي عن بعض الأئمة اختيار التمتع بما يفيد أنه عنده أفضل، ولعله أفضل في حق من يفعله حماية لحكم الله من الضياع ودفعاً لإهماله وتصييره بمنزلة المنسوخ، ولئلا يدعى من بعد أنه منسوخ، وكانت الحال تقتضي ذلك؛ لأن عمر نهى عنه، وروي أن علياً عليه السلام حج متمتعاً فأنكر عليه عثمان، فقال علي عليه السلام: (ما كنت لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قولك) أو نحو هذا، وفي (أمالي الإمام أحمد بن عيسى) من (رأب الصدع): (حدثنا محمد، قال: حدثنا عباد بن يعقوب، عن يحيى بن سالم، قال: قال أبو الجارود: قال أبو جعفر [أي الباقر]: لو حججت مائة حجة ما حججت إلاَّ متمتعاً)

11. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ هدياً ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ ظاهر الآية: أن الهدي يكون عند الإحرام للحج؛ ليكون قد صدق عليه أنه تمتع إلى الحج، فإذا لم يجد هدياً صام عشرة أيام، ثلاثة منها بعد أن أحرم للحج ولم يجد هدياً، وذلك يستلزم أن يحرم قبل يوم التروية ليصوم الثلاثة الأيام قبل يوم الأضحى للنهي عن صيامه وصيام أيام التشريق، ويحتمل أن النهي لغير المتمتع، فلا إشكال، وظاهر الآية أنه لا يجزي الصيام قبل الإحرام للحج؛ لأنه ليس في الحج، وعلى هذا: فالإحرام يوم التروية خاص بواجد الهدي، وعليه تحمل الرواية: أن السنة للمتمتع أن يحرم يوم التروية.

12. ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ في الطريق أو عند وصول المسكن فوراً بلا تأخير ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ وجبت على المتمتع، وفائدة هذا أن لا يتوهم أنه يجزيه ثلاثة أيام في الحج ويجزيه سبعة إذا رجع، ولم يصم ثلاثة أيام في الحج.

13. ﴿ذَلِكَ﴾ التمتع بالعمرة إلى الحج وأحكامه ﴿لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فمن كان أهله حاضري المسجد الحرام لم يشرع له ذلك، ولعل معناه: أنه حاضر لا يرد الميقات من خارج، فلا يحتاج إلى التمتع أو أنه يجوز له لو جاء من خارج أن يحرم من داره؛ لأنه ميقاته، وليس عليه أن يحرم من ميقات الآفاقي، ويحتمل أيضاً ـ وهو الراجح عندي ـ لترابط سياق الكلام فيهما لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ فقد ربط بين المسألتين بـ (الفاء) أن الإشارة إلى حكم التمتع وحكم الإحصار كله، فيلزم من كان أهله حاضري المسجد الحرام: أن يصبر على إحرامه حتى يجعل الله له سبيلاً إلى أهله أو يخرجوا إليه؛ لأن ميقاته داره، فلم يكن محتاجاً إلى الإحرام حيث أحصر، فلم يستحق التحليل بالهدي، أو لأنه لم يصح إحرامه قبل بلوغه ميقاته الذي هو داره في الحرم على القول بأنه لا يصح الإحرام قبل بلوغ الميقات عندهم، فيؤخذ من هذا: أن ﴿حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ هم مَن كان ساكناً في الحرم المحرم، وهو الأقرب؛ لأن الحاضر في اللغة ضد الغائب، ومن كان خارج الحرم فهو غائب عن الكعبة، وهي المسجد الحرام، وحضور الكعبة هو القرب منها، ودعوى أكثر من هذا واعتباره حضوراً يحتاج إلى دليل، واللغة هي العمدة في تفسير القرآن لا الرأي، مع أنه قد ظهر وجه التخصيص لمن في الحرم، فالمهم تخليص الحاج من الانقطاع في الطريق؛ لأنه قد يؤدي إلى هلاكه بنفاد الزاد حيث لا يجد بدلاً، ومن كان أهله في الحرم الغالب أن يكون عندهم لا يحصر عنهم، فإذا اتفق خروجه وإحصاره فهي صورة نادرة؛ لأن الإحصار إن كان من أجل الدولة المستولية على الحرم فهي تفتح له لكونه من اهلها، وإن كان الإحصار من خارج فالعادة في الأصل أن يكون صاحب الحرم محترماً، ولذلك قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت:67] وإن كان من أجل قطاع الطريق الطامعين فهو بعيد في أيام الحج لكثرة الأصحاب الوافدين للحج، وإن كان الإحصار لمرض فالهدي لا يفيده شيئاً إلاَّ ما قد رخص فيه للمرض مع الفدية، وهي تغني عن الهدي.

14. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بهذا، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

15. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فأطيعوه في الحج والعمرة وأحكامهما، وحكم الإحصار، وفي كل ما شرع لكم، وفيها دلالة على وجوب العلم بـ ﴿إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ولا يكفي الظن.

16. قال الشرفي في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: تدل على وجوب إتمام الحج والعمرة على من أحرم بهما فريضة أو نافلة، وعلى وجوب ما استيسر المحصر من الهدي، وأدناه شاة وتجزي عن المحصر ولو قارناً؛ لأن الآية لم تفصل بعد أن أباح له الخروج من الإحرام، وعلى تحريم الحلق حتى يبلغ الهدي محله المشروع، وهو منى لمن حج [في الأم: حجج، وهو غلط] اختياراً، ومكة لمن اعتمر اختياراً، وسائر الحرم اضطراراً، هذا هو الأحوط في المحلّ، ومحله من الزمان هو ما عيَّنه المحصر، والإحصار: هو الخوف والمرض، وتدل على إباحة محظورات الإحرام للمريض، ومن به أذى، وعلى وجوب الفدية لأجل استباحتها من صيام ثلاثة أيام أو ذبح شاة أو إطعام ستة مساكين كما ورد ذلك مفصلاً في خبر كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى جواز التمتع بالعمرة إلى الحج، وعلى وجوب ما استيسر من الهدي على المتمتع وهو شاة، فإن كان يستيسر أكبر من شاة فهو أفضل، فمن لم يجد من المتمتعين الهدي وجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحج، ويجب أن يكون في غير أيام التشريق، ويجب أن يكون في شهر عرفة لأنـ[ـه] من أشهر الحج، وسبعة عند أهله إذا رجع في أي شهر كان غير رمضان والعيدين وأيام التشريق، وعلى أن التمتع [في الأم: التمتيع، وهو غلط] لم يشرع إلاَّ لمن لم يكن [أهله] حاضري المسجد الحرام)، وقوله عليه السلام: (يذبح الهدي في مكة) يعني: أقرب إلى الكعبة؛ لأنها في عصر الإمام لم تكن قد اتسعت كما في عصرنا، أما في عصرنا فلا عبرة بما جاوز الحرم من مكة، فلا يذبح فيه ولا يذبح إلاَّ في الحرم، وقوله: (إباحة محظورات الإحرام للمريض) يعني: الجائزة قبل الإحرام، وقوله: (في شهر عرفة) لأنه من أشهر الحج، يعني لقول الله تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ وقوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ وما روي من تفسيرها: بشوال، والقعدة، وعشر ذي الحجة، المراد به وقت الإحرام لا وقت أعمال الحج كلها، ولعله يعني بقوله: (في شهر عرفة) ما دام المتمتع في الحج قبل أن يرجع، فلو رجع بعد إتمام الحج في أثناء شهر عرفة فليس له تأخرها لحين رجوعه؛ لأنه ليس في الحج.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/278.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. في هذه الآيات يبدأ القرآن جولة في بعض أحكام الحج، وهو فريضة فرضها الله على عباده منذ رسالة إبراهيم عليه السلام، وقد كان معروفا بين أهل الجاهلية، وأقرّه الإسلام وزاد فيه بعض المناسك. والحج ـ لغة ـ هو القصد، ويقصد به هنا القصد إلى النسك المخصوص، أما العمرة فهي زيارة البيت الحرام على نحو خاص.

2. ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ لا بد للإنسان من إتمام الحج والعمرة إذا بدأهما بالإحرام لهما، وذلك بالإتيان بكل الواجبات التي تدخل في نطاق تكوين الفرض في الحالات الاختيارية أو الاضطرارية.

3. إذا كانت الآية تؤكد على أن يكون هذا الإتمام لله، فمعنى ذلك أنهما من العبادات التي لا بد من أن يقصد بها وجه الله، فيشعر الإنسان معها بالحاجة إلى القرب من الله من خلال ما يؤديه من الأعمال التي تتضمن في داخلها أقوالا أو أفعالا أو أفكارا يتعبد فيها الإنسان إلى ربه.

4. لعل القيمة الكبرى للعبادات الإسلامية، أنها لا تمثل مجرد حالة وجدانية ذاتية غارقة في ضباب المحبّة وغيبوبة الخشوع، ليبقى الإنسان بعيدا عن حركة الحياة عندما يقف بين يدي الله، بل هي تعبير عن الخط الإسلامي العملي في علاقة العبد بربّه، حيث يلتقي الجانب الروحي بالحياة في أوسع مجالاتها وأرحب آفاقها، ليتصور معها حياته التي تضج فيها الحركة، فنجد في الصلاة الكلمات التي تمثلها سورة الفاتحة بالإضافة إلى السورة الأخرى التي يختارها المصلي تبعا لحاجته الروحية والفكرية، فنلتقي بالتصور الإسلامي لله في صفاته المتصلة بحركة الحياة في مخلوقاته من التربية والرعاية والرحمة، وبطبيعة العلاقة التي تشد الإنسان إلى الله، وبالتوجه إليه في مجال الصراع الذي تزدحم فيه التيارات الضالة والجاحدة في مقابل الخط المستقيم.. وهكذا تتحرك الصلاة في كيان الإنسان، فتتحرك الأفكار والتصورات الإسلامية في وجدانه ليستقيم له من خلالها الوعي الروحي والفكري والعملي في كلمات وأفعال يتحرك فيها المضمون في روح نابضة بالحياة.

5. فإذا التقينا بالحج، فإننا نلتقي بالعبادة الزاخرة بأكثر من معنى:

أ. فهي تلتقي بالصلاة في أجواء الطواف والسعي، والوقوف بعرفات والمزدلفة، والمبيت بمنى، حيث يعيش الإنسان أعمق حالات التأمل وأصفى مشاعره، وأرفع درجاته.

ب. أما الإحرام، فإنه يمثل الالتقاء بالصوم حيث يفرض على الإنسان الالتزام الطوعي الاختياري بكثير من الأشياء التي تتصل بشهواته وعاداته وأخلاقه، فتمثل مرحلة تدريبية صعبة يتعلم فيها الصبر والخشونة واحترام مشاعر الآخرين، واحترام كل شيء محترم حوله حتى الحيوان والنبات، إلى جانب دقّة الملاحظة عندما يراقب كل حركة من حركاته حتى سقوط الشعر وحكّ البدن والنظر في المرآة.

ج. أما رمي الجمار، فإنه يمثل الرمز العملي للصراع مع الشيطان، فيما تمثله الجمرات من رمز.

6. وهكذا يتحرك الإنسان من عمل إلى عمل ليحقق لنفسه البناء الروحي والفكري والعملي في أجواء العبادة التي يعيش في داخلها اللقاء بالله.. وبذلك لا تشارك العبادة في عزل الإنسان عن الحياة، بل هي ـ على العكس من ذلك ـ تدفعه دفعا إليها بكل قوة من موقع الروحية التي تعطي المادة معناها دون أن تفقدها صفاتها المادية.

7. قد لا يكتفي الإسلام في تحقيق معنى العبادة بما افترضه وشرعه من أشكالها، بل يمتد بها حتى يجعل كل عمل محبوب لله عبادة إذا قام به الإنسان لوجه الله. وقد كثرت الأحاديث التي ترى في طلب العلم، وفي العمل في سبيل العيال، وفي العفاف وقضاء حاجة المؤمن، وتفريج كربته، عبادة يكسب الإنسان بها رضى الله كأي عبادة من العبادات المعروفة.

8. في ضوء ذلك كله، نجد في كلمة: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ إيحاء بالإتمام من الناحية الروحية التي يعيش الإنسان فيها أجواء الحج، بالمستوى الذي يرتفع فيه إلى الآفاق العالية التي تمثلها هذه الفريضة، ويتحرك معها بأخلاقية إسلامية كاملة، فلا يكتفي بالشكل ويبتعد عن المضمون، لأنه يمثل ـ في هذه الحالة ـ الإتمام الشكلي إلى جانب النقص الواقعي المضموني، مما يجعل العمل غير مقرّب لله وغير مقبول عنده، لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أقبل الإنسان فيها بكل كيانه وروحيته.

9. ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ إذا حصل للحاج أو المعتمر مانع يمنعه من إتمام الحج، فكيف يمكن أن يحل من إحرامه الذي لا يحصل الإحلال منه إلا بالإتمام؟ إن الآية تفرض عليه، مع ملاحظة التفسير في السنة من خلال التحديد للمحل في قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، أن يرسل هديا إلى مكة إن كان معتمرا، وإلى منى إن كان حاجا، ليذبح هناك، فإذا بلغ محله، أمكنه أن يحلق رأسه ويتحلل من إحرامه، هذا إذا كان المانع هو المرض، أما إذا كان المانع هو العدو، فإن بإمكانه أن يذبح الهدي في مكانه كما يروى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فعل ذلك في الحديبية عندما منعه المشركون عن العمرة.

10. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ هذا استثناء من النهي عن حلق الرأس قبل بلوغ الهدي محله، فإذا كان الإنسان مريضا يتضرر فيه من إبقاء الشعر على الرأس، أو كان في رأسه بعض الحشرات التي تمثل أذى في رأسه، فيجوز له أن يحلق على أن يقوم بالصيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة. وهو ما عبّر عنه بالنسك كما جاء ذلك في السنة الشريفة، وقد روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على كعب بن عجرة والقمل يتناثر من رأسه وهو محرم، فقال له: أتؤذيك هوامك؟ فقال: نعم، فأنزلت هذه الآية: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ فأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يحلق رأسه، وجعل الصيام ثلاثة أيام، والصدقة على ستة مساكين مدّين لكل مسكين، والنسك شاة.

11. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ في هذه الآية إشارة إلى حج التمتع، الذي يجمع الحج والعمرة في فريضة واحدة، ولكنه يستمتع بعد الإحلال من العمرة بما كان محرما عليه إلى حين الإحرام بالحج، وإنما سمي بالتمتع بالنظر إلى أن وحدة الفريضة في العملين تجعل الإنسان كما لو كان قد مارس التمتع في أثناء الحج، ويقابله حج القران والإفراد الذي لا تدخل العمرة فيه، وقد أشارت الآية إلى خصوصية حج التمتع بوجوب ذبح الهدي فيه، بعيدا عن حالة الإحصار المشار إليها في الفقرة السابقة، لوجوبه في حالة الأمن كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، وهذا هو الفارق بين هذا النوع من الحج وبين النوعين الآخرين لعدم وجوب الذبح فيهما كجزء من الفريضة، وإن كان القرآن يشتمل على سياق الهدي بإشعاره أو تقليده كفصل من فصول الإحرام، لا كواجب من واجبات الحج.

12. وقد تعرضت الآية إلى حالة العجز عن الهدي في حج التمتع، ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾، فأوجبت صيام عشرة أيام، موزّعة بين وقت الحج ووقت الرجوع، و﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ هذا تحديد للمكلف الذي يجب عليه حج التمتع بالنائي عن مكة، وقد كنى عنه بـ ﴿لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وقدّر في السنة الشريفة بمن كان بينه وبين المسجد الحرام أكثر من اثني عشر ميلا. ويقول صاحب الميزان في استيحاء ذلك: (وفيه إيماء إلى حكمة التشريع وهو التخفيف والتسهيل، فإن المسافر من البلاد النائية للحج ـ وهو عمل لا يخلو من الكد ومقاساة التعب ووعثاء الطريق ـ لا يخلو عن الحاجة إلى السكن والراحة. والإنسان إنما يسكن ويستريح عند أهله، وليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدّله الله سبحانه من التمتع بالعمرة إلى الحج والإهلال بالحج من المسجد الحرام، من غير أن يسير ثانيا إلى الميقات)

13. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ يذكر صاحب الميزان في التعليق على هذه الفقرة من الآية أن (التشديد البالغ في هذا التذليل، مع أن صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبئ عن أن المخاطبين كان المترقب من حالهم إنكار الحكم أو التوقف في قبوله، وكذلك كان الأمر، فإن الحج خاصة من بين الأحكام المشرّعة في الدين كان موجودا بينهم من عصر إبراهيم الخليل، معروفا عندهم، معمولا به فيهم، قد أنسته نفوسهم وألفته قلوبهم، وقد أمضاه الإسلام على ما كان تقريبا إلى آخر عهد النبي، فلم يكن تغيير وضعه أمرا هيّنا سهل القبول عندهم، ولذلك قابلوه بالإنكار. وكان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات، ولذلك اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يخطبهم، فبيّن لهم أن الحكم لله يحكم ما يشاء، وأنه حكم عام لا يستثني فيه أحد من نبي أو أمة، فهذا هو الموجب للتشديد الذي في آخر الآية بالأمر بالتقوى والتحذير من عقاب الله سبحانه)، أما تعليقنا على ذلك، فهو أن الأمر بالتقوى، انطلاقا من العلم بأنه شديد العقاب، أسلوب قرآني درج عليه القرآن فيما يريد الله أن يثيره أمام الإنسان من قضايا الحياة والتشريع، ليقف الإنسان فيه عند حدود الله من موقع النفس التقية التي تراقب الله وتخاف عقابه. أمّا مناسبة ذلك، هنا، فهو الحديث عن تفصيلات تشريع الحج والعمرة من إتمامها، والحديث عن الحكم في حالة الإحصار وفي حالة الأمن، وعن الحكم في حج التمتع في حالة التمكن من الهدي والعجز عنه، فإن ذلك كله مما يوحي بالحاجة إلى الانضباط والالتزام والتقوى في حدود هذه الأمور ومواردها الشرعية، ويكفي ذلك مناسبة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/99.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. لايُعلم بدقّة تاريخ نزول الآيات المتعلّقة بالحجّ في القرآن الكريم، ولكن يرى بعض المفسّرين أنّها نزلت في حجّة الوداع، في حين يرى بعضهم أنّ جملة ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ ناظرة إلى حادثة (الحديبيّة) الواقعة في السنّة السادسة للهجرة حيث منع المسلمون من زيارة بيت الله الحرام.

2. في هذه الآية ذُكرت أحكام كثيرة.. ففي مطلع الآية تأكيد على أنّ أعمال العمرة والحجّ ينبغي أن تكون لله وطلب مرضاته فقط ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ من هنا لاينبغي أن يشوب أعمال الحجّ نيّة اُخرى غير الدافع الإلهي وكذلك الإتيان بالعمل العبادي هذا كاملاً وتامّاً بمقتضى جملة ﴿وَأَتِمُّوا﴾

3. ثمّ إنّ الآية تشير إلى الأشخاص الّذين لا يحالفهم التوفيق لأداء مناسك الحجّ والعمرة بعد لبس ثياب الاحرام بسبب المرض الشديد أو خوف العدو وأمثال ذلك، فتقول ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ فمثل هذا الشخص عليه أن يذبح ما تيّسر له من الهدي ويخرج بذلك من احرامه، وعلى كلّ حال فإنّ الأشخاص الّذين منعهم مانع ولم يتمكنّوا من أداء مراسم الحجّ والعمرة فيمكنهم بالإستفادة من هذه المسألة أن يحلّوا من إحرامهم،ونعلم أيضاً أنّ الهدي يمكن أن يكون بعيراً أو بقرة أو خروفاً، وهذا الأخير أقلّ الهدي مؤنةً، ولهذا كانت جملة ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ تشير غالباً إلى الغنم.

4. ثمّ إنّ الآية الشريفة تشير إلى أمر آخر من مناسك الحجّ فتقول: ﴿ولا تحلقوا رؤوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه﴾، فهل أنّ هذا الأمر يتعلّق بالأشخاص المحصورين الممنوعين من أداء مراسم الحجّ، فهو بمثابة تكميل للأوامر السابقة، أو أنّه يشمل جميع الحجّاج؟ اختار بعض المفسّرين الرأي الأوّل وقالوا إنّ المراد من محل الهدي أي محل الأضحية هو الحرم، وقال آخرون: المراد هو المكان الّذي حصل فيه المانع والمزاحم ويستدلّ بفعل النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم في واقعة الحديبيّة الّتي هي مكان خارج الحرم المكّي، حيث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد منع المشركين له ذبح هديه في ذلك المكان وأمر أصحابه أن يفعلوا ذلك أيضاً، يقول المفسّر الكبير الطبرسي: (ذهب علمائنا إلى أنّ المحصور إذا كان بسبب المرض فيجب عليه ذبح الأضحية في الحرم، وإذا كان بسبب منع الأعداء فيجب الذبح في نفس ذلك المكان الّذي مُنع به)، لكن ذهب مفسرون آخرون إلى أنّ هذه الجملة ناظرة إلى جميع الحجّاج وتقول: لا يحقّ لأحد التقصير (حلق الرأس والخروج من الإحرام) إلاّ أن يذبح هديه في محلّه (ذبح الهدي في الحجّ يكون في منى وفي العمرة يكون في مكّة)، وعلى كلّ حال، فالمراد من بلوغ الهدي محلّه هو أن يصل الهدي إلى محل الذبح فيُذبح، وهذا التعبير كناية عن الذبح، ومع الأخذ بنظر الاعتبار عموميّة التعبير الوارد في الآية الشريفة فالتفسير الثاني يكون أنسب ظاهراً بحيث يشمل المحصور وغير المحصور.

5. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ (نُسُك) في الأصل جمع (نسيكة) بمعنى حيوان مذبوح، وهذه المفردة جاءت بمعنى العبادة أيضاً، ولهذا يقول الراغب في المفردات بعد أن فسّر النُسُك بالعبادة: هذا الإصطلاح يأتي في أعمال الحجّ و(نسيكة) بمعنى (ذبيحة)، ويرى بعض المفسّرين أيضاً أنّ الأصل في هذه الكلمة هو سبائك الفضّة، وقيل للعبادة (نُسُك) بسبب أنّها تطهّر الإنسان وتخلّصه من الشوائب، وعلى أيّ حال فإنّ ظاهر الآية أنّ مثل هذا الشخص مخيّراً بين ثلاث اُمور (الصوم والصدقة أو ذبح شاة). والوارد في روايات أهل البيت عليهم السلام أنّ الصوم في هذا المورد يجب أن يكون ثلاثة أيّام والصّدقة على ستّة مساكين، وفي رواية اُخرى على عشرة مساكين، وكلمة (نُسُك) تعني شاة.

6. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ هذه إشارة إلى أنّه يجب الذبح في حجّ التمتّع ويكون المكلّف في هذا الحجّ قد أتى بالعمرة قبله، ولا فرق في هذا الهدي بين أن يكون من الابل أو من البقر أو من الضّأن دون أن يخرج من الإحرام.

7. حول الأصل في كلمة ﴿الْهَدْيَ﴾ هناك قولان حسب ما أورده الطبرسي: الأوّل أنّه مأخوذ من (الهدية) وبما أنّ الأضحية هي في الواقع هديّة إلى بيت الله الحرام فقد اطلق عليها هذه الكلمة، والآخر أنها من مادّة (الهداية) لأن الحيوان المقرّر للذّبح يؤتى به مع الحاج إلى بيت الله الحرام، أو يكون هدايته إلى بيت الله، لكنّ ظاهر كلام الراغب في المفردات أنّه مأخوذ من الهديّة فقط فيقول: (هَدْي) جمع ومفرده (هديّة)، وقد أورد في معجم مقاييس اللغة أنّ لهذه الكلمة أصلان: الهداية والهديّة، ولكن لا يبعد أن تعود كليهما إلى الهداية، لأنّ الهديّة تعني الشيء الّذي يهدى إلى الشخص الآخر، أي يساق إليه هديّة.

8. ثمّ إنّ الآية تبيّن حكم الأشخاص الغير قادرين على ذبح الهدي في حجّ التمتع فتقول: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾، فعلى هذا فلو لم يجد الإنسان أضحيةً أو أنّ وضعه المالي لا يطيق ذلك فيجب عليه جبران ذلك بصيام عشرة أيّام، يصوم ثلاثة أيّام منها (يوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجّة) في أيّام الحجّ ـ وهذه هي من الأيّام الّتي يجوز فيها الصوم في السفر ـ ويأتي بصيام سبعة أيّام بعد ذلك حين العودة إلى الوطن، واضح أن مجموع ثلاثة أيّام في الحج وسبعة بعدالرجوع يساوي عشرة، لكنّ القرآن عاد فأكّد بأنّها عشرة كاملة.

9. بعض المفسّرين قال في تفسير هذه الجملة أن الواو تأتي للجمع وتأتي أحياناً للتخيير بمعنى (أو)، ومن أجل رفع توهّم التخيير أكّدت الآية على رقم عشرة، ويُحتمل أيضاً أن التعبير بكلمة (كاملة) إشارة إلى أنّ صوم الأيّام العشرة يحلّ محل الهدي بشكل كامل، ولهذا ينبغي للحجاج أن يطمئنّوا لذلك وأنّ جميع ما يترتّب على الأضحية من ثواب وبركة سوف يكون من نصيبهم أيضاً، وقال بعضهم: إنّ هذا التعبير إشارة إلى نكتة لطيفة في العدد (عشرة) لأنّه من جانب أكمل الأعداد، لأنّ الأعداد تتصاعد من واحد يتصل إلى عشرة بشكل تكاملي، ثمّ بعد ذلك تترتّب من عشرة وأحد الأعداد الاُخرى لتكون أحد عشر وإثنى عشر... حتّى تصل إلى عشرين أي ضعف العدد عشرة ثمّ ثلاثين وهكذا.

10. ثمّ إنّ الآية الشريفة تتعرّض إلى بيان حكم آخر وتقول: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فعلى هذا لا يكون لأهل مكّة أو الساكنين في أطرافها حجّ التمتّع، لأنّه يختصّ بالمسلمين خارج هذه المنطقة، فالمشهور بين الفقهاء أنّ كلّ شخص يبعد عن مكّة 48 ميلاً فإنّ وظيفته حجّ التمتّع، وأمّا إذا كان دون هذه المسافة فوظيفته حجّ القِران أو الإفراد والّذي تكون عمرته بعد الإتيان بمراسم الحجّ.

11. بعد بيان هذه الأحكام السبعة تأمر الآية في ختامها بالتقوى وتقول: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، ولعلّ هذا التأكيد يعود إلى أنّ الحجّ عبادة إسلاميّة هامّة ولا ينبغي للمسلمين التّساهل في أداء مناسكه وأنّ ذلك سيؤدّي إلى اضرار كثيرة، وأحياناً يسبّب فساد الحجّ وزوال بركاته المهمّة.

12. يُعتبر الحجّ من أهم العبادات التي شُرّعت في الإسلام ولها آثار وبركات كثيرة جدّاً، فهو مصدر عظمة الإسلام وقوّة الدّين واتّحاد المسلمين، والحجّ هو الشعيرة العباديّة التي ترعب الأعداء وتضخ في كلّ عام دماً جديداً في شرايين المسلمين، والحجّ هو تلك العبادة الّتي أسماها أميرالمؤمنين عليه السلام بـ (علم الإسلام وشعاره) وقال عنها في وصيته في الساعات الأخيرة من حياته: (الله الله في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم فإنّه إن ترك لم تناظروا)، أي أنّ البلاء الإلهي سيشملكم دون إمهال، وقد فهم أعداء الإسلام أهميّة الحجّ أيضاً إذ صرّح أحدهم: (نحن لانستطيع أن نحقّق نصراً على المسلمين ما دام الحجّ قائماً بينهم)، وقال أحد العلماء (الويل للمسلمين إن لم يفهموا معنى الحجّ، والويل لأعدائهم إذا عرفوا معناه)، وفي الحديث المعروف عن أميرالمؤمنين عليه السلام في بيان توصفة الأحكام كما ورد في نهج البلاغة أنّه أشار إلى أهميّة الحجّ الكبيرة وقال: (فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والحجّ تقوية للدّين)

13. قسّم الفقهاء وبإلهام من الآيات والأحاديث الشريفة عن النبي وآله عليهم السلام الحجّ إلى ثلاثة أقسام: حجّ التمتّع، حجّ القِران، وحجّ الإفراد، أمّا حجّ التمتّع فيختص بمن كان على مسافة 48 ميلاً فصاعداً من مكّة 16 فرسخ وما يعادل 96 كيلومتر تقريباً، وأمّا حجّ القِران والإفراد فيتعلّقان بمن كان أدنى من هذه الفاصلة، ففي حجّ التمتّع يأتي الحاج بالعمرة أوّلاً ثمّ يحلّ من إحرامه، وبعد ذلك يأتي بمراسم الحجّ في أيّامه المخصوصة، ولكن في حجّ القِران والإفراد يبدأ أوّلاً بأداء مراسم الحجّ ثمّ بعد الإنتهاء منها يشرع بمناسك العمرة مع تفاوت أنّ الحاج في حجّ القِران يأتي ومعه هديه، أمّا في حجّ الإفراد فلا هدي فيه ولكن بعقيدة أهل السّنة أنّ حجّ القِران هو أن يقصد بالحجّ والعمرة بإحرام واحد.

14. أعمال حجّ التمتّع هي كما يلي: في البداية يُحرم الحاج للحجّ من الأماكن الخاصّة به وتسمّى الميقات، أي أنّ الحاج يتعهد بالإحرام أن يترك ويتجنّب سلسلة من المحرّمات على المُحرم، ويرتدي ثوبي الإحرام غير المخيطة، ويبدأ بالتلبية وهو متّجه إلى بيت الله الحرام، ثمّ يشرع بالطّواف حول الكعبة سبعة مرّات، وبعد ذلك يصلّي ركعتين صلاة الطواف في المحل المعروف بمقام إبراهيم، ثمّ يسعى بين الصفا والمروة سبعة مرّات، ثمّ بعد الإنتهاء من السعي يقصّر، أي يقص مقداراً من شعره أو أظافره، وبذلك يخرج من الإحرام ويحلّ منه، ثمّ يحرم مرّة اُخرى من مكّة لأداء مناسك الحجّ ويذهب مع الحجاج في اليوم السابع من ذي الحجّة إلى عرفات وهي صحراء على بعد 4 فراسخ من مكّة، ويبقى في ذلك اليوم من الظهر إلى غروب الشمس في ذلك المكان حيث يشتغل بالعبادة والمناجاة والدّعاء، ثمّ بعد غروب الشمس يتّجه إلى (مشعر الحرام) ويقع على بعد فرسخين ونصف من مكّة تقريباً ويبقى هناك إلى الصباح، وحين طلوع الشمس يتوجّه إلى «منى» الواقعة على مقربة من ذلك المكان، وفي ذلك اليوم الّذي هو يوم «عيد الأضحى» يرمي الحاج (جمرة العقبة) بسبعة أحجار صغيرة (وجمرة العقبة على شكل اُسطوانة حجريّة خاصّة) ثمّ يذبح الهدي ويحلق رأسه، وبذلك يخرج من إحرامه، ثمّ أنّه يعود إلى مكّة في نفس ذلك اليوم أو في اليوم القادم، ويطوف حول الكعبة ويؤدّي صلاة الطواف والسعي بين الصفا والمروة ثمّ طواف النساء وصلاة الطواف أيضاً، وفي اليوم الحادي عشر والثاني عشر يرمي في منى الجمرات الثلاثة واحدة بعد الاُخرى بسبعة أحجار صغيرة، ويبقى في ليلة الحادي عشر والثاني عشر في أرض منى، وبهذا الترتيب تكون مناسك الحجّ إحياءً لذكرى تاريخيّة وعبارة عن كنايات وإشارات لمسائل تتعلّق بتهذيب النفس ولها أغراض إجتماعيّة كثيرة، وسوف نستعرض كلّ واحدة منها في الآيات المناسبة له.

15. ظاهر الآية الكريمة هو أنّ وظيفة الأشخاص البعيدين عن مكّة هي حجّ التمتّع (الحجّ الّذي يبتدأ بالعمرة وبعد الإنتهاء منها يخرج من الإحرام ثمّ يجدّد الإحرام للحجّ ويأتي بمناسك الحجّ) وليس لدينا دليل إطلاقاً على نسخ هذه الآية، بل إنّ الروايات الكثيرة في كتب الشيعة وأهل السنّة وردت في هذا الصدد، ومن جملة المحدّثين المعروفين من أهل السنّة (النسائي في كتاب السنن) و(أحمد في كتاب المسند) و(ابن ماجة في كتابه السنن) و(البيهقي في السنن الكبرى) و(الترمذي في صحيحه) و(مسلم أيضاً في كتابه المعروف بصحيح مسلم) فهناك وردت روايات كثيرة في حجّ التمتّع وأن هذا الحكم لم ينسخ وهو باق إلى يوم القيامة، والكثير من فقهاء أهل السنّة أيضاً ذهبوا إلى أنّ أفضل أنواع الحجّ هو حجّ التمتع بالرّغم من أنّهم أجازوا إلى جانبه حجّ القِران والإفراد (بذلك المعنى الّذي تقدّم آنفاً من الفقهاء)، لكن هناك حديث معروف نقل عن عمر بن الخطاب حيث قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما ويعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحجّ)، يقول الفخر الرازي في ذيل الآية مورد البحث بعد نقل هذا الحديث عن عمر: (إنّ المراد من متعة الحجّ هو أن يجمع بين الإحرامين (إحرام الحجّ وإحرام العمرة) ثمّ يفسخ نيّة الحجّ ويأتي بالعمرة المفردة وبعد ذلك يأتي بالحجّ)، فمن البديهي أنّه لا يحق لأحد نسخ الحكم الشرعي إلاّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأساساً أنّ هذا التعبير وهو أنّ رسول الله قال كذا وأنا أقول كذا هو تعبير غير مقبول من أي شخص، فهل يصحّ إهمال أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وطرحه والإلتزام بأوامر الآخرين؟ وعلى كلّ حال، فإنّ الكثير من علماء أهل السنّة في هذا الزمان تركوا الخبر المذكور، وذهبوا إلى أنّ حجّ التمتع أفضل أنواع الحجّ وعملوا على وفقه.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/40.

85. أحكام الحج وآدابه

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈85⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 197 ـ 199]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ التلبية(1)..

2. روي أنّه قال: الفرض: الإحرام(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾: أن تماري صاحبك حتى تغضبه(3)..

__________

(1) ابن أبي شيبة: ٨/٢٦٠.

(2) البيهقي: ٤/٣٤٢.

(3) ابن جرير: ٣/٤٧٨.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: بعث الله جبريل إلى إبراهيم، فحج به، فلما أتى عرفة قال قد عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك، ولذلك سميت: عرفة(1)..

2. روي أنّه قال: لما أصبح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمزدلفة غدا فوقف على قزح، وأردف الفضل، ثم قال (هذا الموقف، وكل مزدلفة موقف(2)..

__________

(1) عبد الرزاق في مصنفه: ٥/٩٦.

(2) أحمد: ١/٥٤٤.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال لرجل قد أحرم بالحج في غير أشهر الحج: اجعلها عمرة؛ فإنه ليس لك حج؛ فإن الله يقول: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾(1)..

2. روي أنّه قال: الفسوق: المعاصي كلها؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُم﴾ [البقرة: ٢٨٢](2)..

__________

(1) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص٣٦١.

(2) ابن جرير: ٣/٤٧٠.

بريدة:

[بريدة] بريدة بن الحصيب (ت 63 هـ) أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم﴾ إذا كنتم محرمين أن تبيعوا وتشتروا(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٠٤.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الفرض: الإهلال(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ من أحرم بحج أو عمرة(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ فلا ينبغي أن يلبي بالحج، ثم يقيم بأرض(3)..

4. روي أنّه قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج؛ من أجل قول الله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾(4)..

5. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾: (الرفث: الإعرابة والتعريض للنساء بالجماع)(5).

6. روي أنّه قال: ﴿فَلَا رَفَثَ﴾ الرفث: غشيان النساء، والقبل، والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام، ونحو ذلك(6)..

7. روي أنّه قال: والفسوق: المنابزة بالألقاب، تقول لأخيك: يا ظالم، يا فاسق(7)..

8. روي أنّه قال: ﴿وَلَا فُسُوقَ﴾ الفسوق: عصيان الله(8)..

9. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾: (الرفث: الإعرابة، والتعريض للنساء بالجماع، والفسوق: المعاصي كلها، والجدال: جدال الرجل لصاحبه)(9)..

10. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم﴾ لا حرج عليكم في الشراء والبيع، قبل الإحرام وبعده(10)..

11. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم﴾ كان الناس إذا أحرموا لم يتبايعوا حتى يقضوا حجهم، فأحله الله لهم(11)..

12. روي أنّه نظر إلى الناس ليلة جمع، فقال: لقد أدركت الناس هذه الليلة ما ينامون من صلاة، يتأولون قول الله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾(12)..

13. روي أنّه قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة؛ فأنزل الله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾، فرفع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الموقف إلى موقف العرب بعرفة(13)..

14. روي أنّه قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾(14)..

15. روي أنّه قال: كان ناس يخرجون من أهلهم ليست معهم أزودة، يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا! فقال الله: تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس(15)..

16. روي أنّه قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج، ويقولون: أيام ذكر الله، فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ الآية(16)..

17. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أفاض من عرفات قبل الصبح فقد تم حجه، ومن فاته فقد فاته الحج)(17)..

18. روي أنّه قال: أفاض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من عرفة وعليه السكينة، ورديفه أسامة، فقال: (يا أيها الناس، عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل)، قال فما رأيتها رافعة يديها عادية حتى أتى جمعا، ثم أردف الفضل بن العباس، فقال: (أيها الناس، إن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل؛ فعليكم بالسكينة)، قال فما رأيتها رافعة يديها حتى أتى منى(18)..

19. روي أنّه قال: أنه دفع مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم عرفة، فسمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وراءه زجرا شديدا، وضربا للإبل، فأشار بسوطه إليهم، وقال: (يا أيها الناس، عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع(19)..

20. روي أنّه قال: إنما سمي: عرفات؛ لأن جبريل كان يقول لإبراهيم: هذا موضع كذا، وهذا موضع كذا، فيقول: قد عرفت، قد عرفت، فلذلك سميت: عرفات(20)..

21. روي أنّه قال: أن إبراهيم عليه السلام رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه، فلما أصبح روى يومه أجمع ـ أي: فكر ـ أمن الله تعالى هذه الرؤيا أم من الشيطان؟ فسمي اليوم: يوم التروية، ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانيا، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله تعالى؛ فسمي اليوم: يوم عرفة(21)..

22. روي أنّه قال: حد عرفة: من الجبل المشرف على بطن عرفة، إلى جبال عرفة، إلى ملتقى وصيق ووادي عرفة(22)..

23. روي أنّه قال: يطوف الرجل بالبيت ما كان حلالا حتى يهل بالحج، فإذا ركب إلى عرفة فمن تيسر له هديه من الإبل أو البقر أو الغنم ما تيسر له من ذلك، أي ذلك شاء، غير إن لم يتيسر له فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج، وذلك قبل يوم عرفة، فإذا كان آخر يوم من الأيام الثلاثة يوم عرفة فلا جناح عليه، ثم لينطلق حتى يقف بعرفات من صلاة العصر إلى أن يكون الظلام، ثم ليدفعوا من عرفات إذا أفاضوا منها حتى يبلغوا جمعا للذي يبيتون به، ثم ليذكروا الله كثيرا، وأكثروا التكبير والتهليل قبل أن تصبحوا، ثم أفيضوا، فإن الناس كانوا يفيضون، وقال الله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، حتى ترموا الجمرة(23)..

24. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ارفعوا عن بطن عرنة، وارفعوا عن بطن محسر)(24)..

25. روي أنّه قال: الجبيل وما حوله مشاعر(25)..

26. روي أنّه قال: ما بين الجبلين اللذين بجمع مشعر(26)..

27. روي أنّه قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك؛ فنزلت: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج)(27)..

28. روي أنّه قال: إن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون بمنى، وعرفة، وسوق ذي المجاز، ومواسم الحج، فخافوا وهم حرم؛ فأنزل الله: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج)، فحدث عبيد بن عمير أنه كان يقرؤها في المصحف(28)..

__________

(1) الدرّ المنثور: ابن المنذر.

(2) ابن جرير: ٣/٤٥٥.

(3) ابن أبي حاتم: ١/٣٤٦.

(4) الشافعي في الأم: ٢/١٥٥.

(5) ابن جرير: ٣/٤٦٥.

(6) ابن جرير: ٣/٤٦٢.

(7) ابن أبي حاتم: ١/٣٤٧.

(8) ابن جرير: ٣/٤٧٢.

(9) العقيلي في الضعفاء: ٢/١٦٩.

(10) ابن جرير: ٣/٥٠٢.

(11) ابن جرير: ٣/٥٠٧.

(12) تفسير الثعلبي: ٢/١١٢.

(13) ابن جرير: ٣/٥٢٦.

(14) البخاري: ٢/١٣٣.

(15) ابن جرير: ٣/٤٩٨.

(16) أبو داوود: ٣/١٥٤.

(17) البيهقي: ٥/٢٨٣.

(18) أحمد: ٤/٢٤٨ ـ: ٢٤٩.

(19) ،)البخاري: ٢/١٦٤.

(20) ابن جرير: ٣/٥١٤.

(21) تفسير البغوي: ١/٢٢٨.

(22) الأزرقي: ٢/١٩٤.

(23) البخاري: ٤٥٢١.

(24) الحاكم: ١/٦٣٣.

(25) ابن جرير: ٣/٥٢١.

(26) ابن جرير: ٣/٥١٧.

(27) البخاري: ٢/١٨١ ـ: ١٨٢.

(28) أبو داوود: ٣/١٥٦ ـ: ١٥٧.

ا بن الزبير:

روي عن عبد الله بن الزبير (ت 73 هـ) أنّه قال: كل مزدلفة موقف، إلا وادي محسر(1)..

__________

(1) عبد الرزاق: ١/٧٨.

ابن عمرو:

روي عن عبد الله بن عمرو (ت 73 هـ) أنّه قال: إنما سميت: عرفات؛ لأنه قيل لإبراهيم حين أري المناسك: عرفت؟(1)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٥٢.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ أهل فيهن الحج(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ التلبية، والإحرام(2)..

3. روي أنّه قال: الفسوق: إتيان معاصي الله في الحرم(3)..

4. روي أنّه قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها، واستأنفوا زادا آخر؛ فأنزل الله: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾(4)..

5. روي أنّه قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها، واستأنفوا زادا آخر؛ فأنزل الله: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، فنهوا عن ذلك، وأمروا أن يتزودوا الكعك، والدقيق، والسويق(4)..

6. روي أنّه سئل عن ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ قال: هو الجبل، وما حوله(5)..

7. روي أنّه قال: وقف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى غربت الشمس، فأقبل يكبر الله، ويهلله، ويعظمه، ويمجده، حتى انتهى إلى المزدلفة(6)..

8. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقف عند المشعر الحرام ويقف الناس، يدعون الله، ويكبرونه، ويهللونه، ويمجدونه، ويعظمونه، حتى يدفع إلى منى(7)..

9. روي أنّه كان يقدم ضعفة أهله، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يدفعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(8)..

10. روي أنّه رأى الناس يزدحمون على قزح، فقال: علام يزدحم هؤلاء!؟ كل ما ههنا مشعر(9)..

11. روي أنّه قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عشية عرفة، فقال: (أيها الناس، إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ووهب مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله)، فلما كان غداة جمع قال (أيها الناس، إن الله قد تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، والتبعات بينكم عوضها من عنده، أفيضوا على اسم الله)، فقال أصحابه: يا رسول الله، أفضت بنا الأمس كئيبا حزينا، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا؟ فقال: (إني سألت ربي بالأمس شيئا لم يجد لي به؛ سألته التبعات، فأبى علي، فلما كان اليوم أتاني جبريل، فقال: إن ربك يقرئك السلام، ويقول: ضمنت التبعات، وعوضتها من عندي)(10).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٤٥٣.

(2) الطبراني في الأوسط: ٧٠٦٠.

(3) ابن جرير: ٣/٤٧٣.

(4) ابن جرير: ٣/٤٩٤.

(5) سعيد بن منصور: ٣٥٣ ـ تفسير.

(6) ابن خزيمة: ٤/٢٦٦.

(7) ابن خزيمة: ٤/٤٦٠.

(8) البخاري: ١٦٧٦.

(9) ابن جرير: ٣/٥١٩.

(10) أبو نعيم في الحلية: ٨/١٩٩.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾: السويق، والدقيق، والكعك(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾: الخشكنانج، والسويق(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾: هو الكعك، والزيت(3)..

4. روي عن محمد بن سوقة: سمعت سعيد بن جبير يقول: كان بعض الحاج يسمون: الداج، فكانوا ينزلون في الشق الأيسر من منى، وكان الحاج ينزلون عند مسجد منى، فكانوا لا يتجرون، حتى نزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم﴾، فحجوا(4)..

__________

(1) سفيان الثوري: ص٦٤.

(2) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص٢٤٨.

(3) ابن جرير: ٣/٤٩٤.

(4) ابن جرير: ٣/٥٠٧.

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ كان الناس يتزودون إلى عقبة، فإذا انتهوا إلى تلك العقبة توكلوا، ولم يتزودوا طعاما، فأمروا أن يتزودوا(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٤٩٩.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ وخير زاد الدنيا المنفعة من الحمولة واللباس والطعام والشراب، ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ والتقوى عمل بطاعة الله(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٤٩٩.

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾: الطعام؛ التمر، والسويق(1)..

__________

(1) عبد الرزاق: ١/٧٨.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ قد استقام أمر الحج؛ فلا جدال فيه(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ لا شبهة في الحج، ولا شك في الحج، قد بين وعلم وقته، كانوا يحجون في ذي الحجة عامين، وفي المحرم عامين، ثم حجوا في صفر، من أجل النسيء الذي نسأ لهم أبو ثمامة، حتى وافقت حجة أبي بكر في ذي القعدة قبل حجة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم حج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من قابل في ذي الحجة، فذلك حين يقول: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض)(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ لا شهر ينسأ، ولا شك في الحج وقد تبين، كانوا يسقطون المحرم، ثم يقولون: صفرين، لصفر وربيع الأول، ثم يقولون: شهري ربيع، لشهر ربيع الآخرة ولجمادى الأولى، ثم يقولون لرمضان: شعبان، ويقولون لذي الحجة: ذا القعدة، ثم يقولون لمحرم: ذا الحجة؛ فيحجون في المحرم، ثم يأتنفون، فيعدون على ذلك عدة مستقيمة على وجه ما ابتدأوا، فيقولون: المحرم، فيحجون في المحرم، ويحجون في كل سنة مرتين، ثم يسقطون شهرا آخر، ثم يعدون على العدة الأولى، يقولون: صفر وشهر ربيع الأول، على نحو عددهم في أول ما أسقطوا(3)..

4. روي أنّه قال: كانوا يحجون ولا يتزودون، فرخص لهم في الزاد، وكانوا يحجون ولا يركبون؛ فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ [الحج: ٢٧]، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾(2)..

5. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم﴾ التجارة في الدنيا، والأجر في الآخرة(4)..

6. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم﴾ التجارة أحلت لهم في المواسم، فكانوا لا يبيعون أو يبتاعون في الجاهلية بعرفة، ولا بمنى(5)..

7. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم﴾، رخص لهم في المتجر، والركوب، والزاد(6)..

8. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ لمن الجاهلين(7)..

9. روي أنّه قال: إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى السماء الدنيا في الملائكة، فيقول: هلم إلي عبادي، آمنوا بوعدي، وصدقوا رسلي، فيقول: ما جزاؤهم؟ فيقال: أن تغفر لهم، فذلك قوله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(8)..

__________

(1) ابن أبي شيبة: ٨/١٥٤.

(2) عبد الرزاق: ١/٧٧.

(3) ابن أبي حاتم: ١/٣٤٨.

(4) ابن جرير: ٣/٥٠٥.

(5) تفسير مجاهد: ص٢٣٠.

(6) ابن جرير: ٣/٥٠٧.

(7) ابن أبي حاتم: ٢/٣٥٣.

(8) ابن جرير: ٣/٥٢٦.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، ليس لأحد أن يحج فيما سواهن(1)..

__________

(1) الكافي: 4/289.

مكحول:

روي عن مكحول (ت 116 هـ) أنّه قال: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾: الزاد: الرفيق الصالح، يعني: في السفر(1)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٥٠.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير، ولا على ضالة ليلة النفر، وكانوا يسمونها ليلة الصدر، ولا يطلبون فيها تجارة، ولا بيعا، فأحل الله تعالى ذلك كله للمؤمنين؛ أن يعرجوا على حوائجهم، ويبتغوا من فضل ربهم(1)..

2. روي أنّه قال: أفاض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من عرفات، بعد غروب الشمس(2)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٠٥.

(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢١٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: (﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾: فالفضل ها هنا: التجارة(1)..

2. روي أنّه قال: (﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾: الإفاضة: الإسراع في السّير، يريد رجعتم من حيث جئتم(2)..

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 96.

(2) تفسير الإمام زيد، ص 97.

ابن أبي نجيح:

روي عن ابن أبي نجيح (ت 131 هـ) أنّه قال: كانت قريش ـ لا أدري قبل الفيل أم بعده ـ ابتدعت أمر الحمس، رأيا رأوه بينهم، قالوا: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحرم، وولاة البيت، وقاطنو مكة، وساكنوها؛ فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا؛ فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم؛ فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة، والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم؛ فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس ـ والحمس: أهل الحرم ـ، ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكني الحل مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، فيحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم، وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك، ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن، حتى قالوا: لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط، ولا يسلؤوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما، ثم رفعوا في ذلك، فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤوا به معهم من الحل في الحرم، إذا جاؤوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة، فحملوا على ذلك العرب، فدانت به، وأخذوا بما شرعوا لهم من ذلك، فكانوا على ذلك، حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله حين أحكم له دينه، وشرع له حجه: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يعني: قريشا، و﴿النَّاسِ﴾: العرب، فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات، والوقوف عليها، والإفاضة منها، فوضع الله أمر الحمس، وما كانت قريش ابتدعت منه عن الناس بالإسلام حين بعث الله رسوله(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٢٨.

المعتمر:

روي عن منصور بن المعتمر (ت 132 هـ) أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم﴾ هو التجارة في البيع والشراء، والاشتراء لا بأس به(1)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٠٤.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾: الفرض: التلبية والإشعار والتقليد، فأي ذلك فعل فقد فرض الحج، ولا يفرض الحج إلا في هذه الشهور التي قال الله عز وجل: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾: وهو شوال، وذو القعدة، وذو الحجة(1)..

2. روي أنّه قال: أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة وأشهر السياحة: عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من شهر ربيع الثاني(2)..

3. روي أنّه قال: كانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع، ويمنعون الناس أن يفيضوا منها، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقريش ترجو أن تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون، فأنزل الله عز وجل عليه: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم منها، ومن كان بعدهم(3)..

4. روي أنّه قال: إن إبراهيم أخرج إسماعيل إلى الموقف فأفاضا منه، ثم إن الناس كانوا يفيضون منه، حتى إذا كثرت قريش، قالوا: لا نفيض من حيث أفاض الناس، وكانت قريش تفيض من المزدلفة، ومنعوا الناس أن يفيضوا معهم إلا من عرفات، فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم أمره أن يفيض من حيث أفاض الناس، وعنى بذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام(4)..

5. روي أنّه قال: إذا أحرمت فعليك بتقوى الله وذكر الله وقلة الكلام إلا بخير، فإن تمام الحج والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير كما قال الله عزّ وجّل فإن الله يقول: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197] فالرفث: الجماع، والفسوق: الكذب والسباب، والجدال: قول الرجل لا والله وبلى والله(5)..

6. روي أنّه قال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]: إن الله اشترط على الناس شرطا وشرط لهم شرطا، قيل: فما الذي اشترط عليهم، وما الذي اشترط لهم؟ فقال: أما الذي اشترط عليهم فإنه قال ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197] وأما الذي شرط لهم فإنه قال ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: 203] قال يرجع لا ذنب له(6)..

7. روي أنّه سئل عن رجل يقول: لا لعمري وهو محرم، فقال: ليس بالجدال إنما الجدال قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وأما قوله: لاها، فإنما طلب الاسم وقوله: يا هناه، فلا بأس به، وأما قوله: لا بل شانيك، فإنه من قول الجاهلية(7)..

8. روي أنّه قال: اتق المفاخرة، وعليك بورع يحجزك عن معاصي الله، فإن الله عزّ وجّل يقول: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29].. من التفث أن تتكلم في إحرامك بكلام قبيح، فإذا دخلت مكة وطفت بالبيت تكلمت بكلام طيب فكان ذلك كفارة(8)..

9. روي أنّه سئل عن المحرم يريد أن يعمل العمل فيقول له صاحبه: والله لا تعمله، فيقول: والله لأعملنه، فيخالفه مرارا، يلزمه ما يلزم الجدال؟ قال لا، إنما أراد بهذا إكرام أخيه إنما كان ذلك ما كان فيه معصية(9)..

10. روي أنّه سئل عن الرفث والفسوق والجدال، فقال: أما الرفث: فالجماع، وأما الفسوق: فهو الكذب، ألا تسمع لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾ [الحجرات: 6] والجدال هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وسباب الرجل الرجل(10)..

11. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، فقال: إن الله عز وجل اشترط على الناس شرطا، وشرط لهم شرطا، قيل: فما الذي اشترط عليهم، وما الذي شرط لهم؟ قال: فأما الذي اشترط عليهم، فإنه قال ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، وأما الذي شرط لهم، فإنه قال ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ ـ قال ـ يرجع لا ذنب له، قيل: أرأيت من ابتلي بالفسوق ما عليه؟ قال لم يجعل له حد، يستغفر الله ويلبي، قيل: فمن ابتلي بالجدال ما عليه؟ قال إذا جادل فوق مرتين فعلى المصيب دم يهريقه، وعلى المخطئ بقرة(11)..

12. روي أنّه قال: إذا أحرمت فعليك بتقوى الله، وذكر الله كثيرا، وقلة الكلام إلا بخير، فإن من تمام الحج والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير، كما قال الله عز وجل، فإن الله عز وجل يقول: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، والرفث: الجماع، والفسوق: الكذب والسباب، والجدال: قول الرجل: لا والله، وبلى والله، واعلم أن الرجل إذا حلف ثلاث أيمان ولاء في مقام واحد وهو محرم، فقد جادل، فعليه دم يهريقه، وليتصدق به، وإذا حلف يمينا واحدة كاذبة فقد جادل، وعليه دم يهريقه ويتصدق به، وقال: اتق المفاخرة، وعليك بورع يحجزك عن معاصي الله، فإن الله عز وجل يقول: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾، ومن التفث أن تتكلم في إحرامك بكلام قبيح، فإذا دخلت مكة وطفت بالبيت وتكلمت بكلام طيب فكان ذلك كفارة، واسأل عن الرجل يقول: لا لعمري، وبلى لعمري؟ قال ليس هو من الجدال، إنما الجدال: لا والله، وبلى والله(11)..

13. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم﴾: يعني الرزق، إذا أحل الرجل من إحرامه وقضى نسكه، فليشتر وليبع في الموسم(12)..

__________

(1) الكافي: 4/289.

(2) الكافي: 4/290.

(3) الكافي: 4/247.

(4) تفسير العيّاشي: 1/97.

(5) التهذيب: 5/296/1003.

(6) الكافي: 4: 337/1.

(7) التهذيب: 5/336/1157.

(8) الكافي: 4/337/3.

(9) الكافي: 4/338/5.

(10) معاني الأخبار: 294/1.

(11) الكافي: 4/337.

(12) تفسير العيّاشي: 1/96.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ قام رجل من فقراء المسلمين، فقال: يا رسول الله، ما نجد زادا نتزوده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (تزود ما تكف به وجهك عن الناس، وخير ما تزودتم به التقوى(1)..

__________

(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٥١.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُم﴾ لأمر دينه(1)..

2. روي أنّه قال: وذلك أن ناسا من أهل اليمن وغيرهم كانوا يحجون بغير زاد، وكانوا يصيبون من أهل الطريق ظلما؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (تزودوا ما تكفون به وجوهكم عن الناس، وخير ما تزودتم التقوى)(2)..

3. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم﴾، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يحجون، منهم الحاج والتاجر، فلما أسلموا قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن سوق عكاظ وسوق منى وذي المجاز في الجاهلية كانت تقوم قبل الحج وبعد الحج، فهل يصلح لنا البيع والشراء في أيام حجنا قبل الحج وبعد الحج؟ فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم﴾ في مواسم الحج(1)..

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٧٥.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٧٣.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، إنما عنى به: التقوى عن المظالم أن تتناولوها فتنفقوها في أعمال البر(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ أمروا بالسويق، والكعك(2)..

__________

(1) أبو نعيم في حلية الأولياء: ٧/٣٥.

(2) ابن جرير: ٣/٤٩٩.

مالك:

روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ والجدال في الحج: أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة، فكانوا يتجادلون، يقول هؤلاء: نحن أصوب، ويقول هؤلاء: نحن أصوب، فقال الله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: ٦٧](1)..

2. روي أنّه قال: الفسوق: الذبح للأنصاب؛ قال الله: ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام: ١٤٥](1)..

__________

(1) موطأ مالك: ١/٥٢٢.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الفسوق: الذبح للأنصاب، وقرأ: ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام: ١٤٥] فقطع ذلك أيضا، يعني: قطع الذبح للأنصاب بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين حج البيت فعلم أمته المناسك(1)..

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون، كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم، فقطعه الله حين أعلم نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بمناسكهم(2)..

__________

(1) ابن جرير: ٣/٤٧٥.

(2) ابن جرير: ٣/٤٨٤.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنه سئل عن الرفث والفسوق والجدال ما هو، وما على من فعله؟ قال الرفث: جماع النساء، والفسوق: الكذب والمفاخرة، والجدال: قول الرجل: لا والله، وبلى والله، فمن رفث فعليه بدنة ينحرها، وإن لم يجد فشاة، وكفارة الفسوق يتصدق به إذا فعله وهو محرم(1)..

__________

(1) التهذيب: 5/297.

الهادي إلى الحق:

قال الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ): ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾، كانت أشهر الحج: شوالا، وذا القعدة، والعشر من أول ذي الحجة.. ومعنى قوله (فرض): هو أوجب بالإحرام ودخل(1)..

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/93.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. فسّر الآيات الكريمة(1). بناء على الاحتجاج لما يراه الحنفية ومن وافقهم، والرد على المخالفين، وليس لذلك صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، ولذلك نقلناه إلى محله من السلسلة.

2. ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ قيل‏: (الجدال)، المراء، وذلك أن العرب كانت تؤخر الأشهر الحرم وتعجل، وفى ذلك نزل قوله: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: 37]، فبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال: (إن السّنة قد استدارت كهيئتها يوم خلق السموات والأرض)، فعلى ذلك استدار وقت الحج إلى حيث جعل، لا يتقدم أبدا ولا يتأخر، فلا تماروا فيه، وعن ابن عباس‏، أنّه قال: (لا تجادل صاحبك حتى تغضبه)

3. أشبه الأمور بتأويل الآية: أن الله سبحانه وتعالى أمر بحفظ اللسان والفرج في الإحرام عن كل ما يذكر من فسوق، ومعصية، ومجادلة، ومخاصمة، وعن الرفث بالفعل والقول؛ لأنه يروى أن الفضل بن عباس‏ كان رديف‏، وكان الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، فجعل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يصرف وجهه بيده من خلفه، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن هذا يوم من ملك سمعه، وبصره، ولسانه غفر له، أو كما قال)، وروى عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنّه قال (من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه)

4. قوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ للحج والعمرة ما تكفون به وجوهكم عن المسألة، ولا تخرجوا بلا زاد لتكونوا عيالا على الناس.

ب. ويحتمل: أن يكون الأمر بالتزود للمعاد، يدل عليه قوله: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ يقول: إن تقوى الله خير زاد من زاد الدنيا.

5. قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: ﴿وَاتَّقُونِ﴾ المعاصي والمناهي وكل فسق.

ب. ويحتمل: على التقديم والتأخير، كأنه قال (تزودوا يا أولى الألباب)، ﴿وَاتَّقُونِ﴾ في المسألة من الناس.

6. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ قيل‏: التجارة، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون من التجارة في عشر من ذي الحجة، فلما أن كان الإسلام امتنع أهل الإسلام عن التجارة، وأحبوا أن يكون خروجهم للحج خاصة، دون أن يختلط غيره من الأعمال، فرخص الله عزّ وجل للحاج وطلب الفضل، وروى عن ابن عمر أن رجلا سأله، فقال: إنا قوم نكرى، ويزعمون أنه ليس لنا حج، فهل لنا حج]؟ فقال: ألستم تحرمون وتقفون؟ فقال: بلى، قال فأنتم حجاج، وقال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسأله عما سألتني عنه مثله، فلم يجبه حتى أنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنتم حجاج) وروى عن ابن عباس مثله، وأصحابنا(2).، يرون حج الأجير والتاجر تامّا، وظاهر القرآن يدل على ذلك، وكان عند القوم أن الاستئجار على الطاعة لا يجوز أمرا ظاهرا حتى سألوا في هذا، وأصله: أن الحج لا يمنع أفعال غيره، فأشبه الصوم، ويجوز فيه الإجارة، كذا في هذا، وأما الصلاة فهي مانعة لما سواها من الأفعال؛ فاختلفا.

7. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ قيل: إن أهل الجاهلية كانوا يفيضون من عرفات قبل غروب الشمس، ومن مزدلفة بعد طلوع الشمس، فأمر أهل الإسلام بالخلاف في الحالين جميعا: أن يجعلوا الإفاضة من عرفة بعد الغروب، ومن المزدلفة قبل طلوع الشمس، وفى الخبر: (خالفوهم في الرجعتين جميعا)، والإفاضة: هي الإسراع في المشي في اللغة، وقيل: الإفاضة: الانحدار.

8. ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ يعنى المزدلفة، ويحتمل قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ وجهين:

أ. يحتمل: صلاة المغرب والعشاء فيهما جميعا.

ب. ويحتمل: الدعاء فيهما جميعًا.

9. قال ابن عباس: ﴿الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ الجبل وما حوله، وهو الجبل الذي يوقف عليه يقال له: (قزح)، وسمى (جمعا)، أيضا لأنه يجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء، وقيل: يسمى جمعا لأنه اجتمع فيه آدم وحواء، وروى عن ابن عباس،، أنّه قال سمى العرفات عرفات؛ لأن جبريل، صلوات الله تعالى عليه، لما علّم إبراهيم عليه السلام المناسك كان يقول له: عرفت عرفت‏، والله أعلم بذلك.

قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: الأمر بالذكر أمر بالشكر له على ما أنعم عليهم من أنواع النعم.

ب. ويحتمل: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ وأرشدكم لأمر المناسك.

ج. ويحتمل: الأمر بالتوحيد؛ كأنه قال وحدوه كما وفقكم لدينه، وعلى ذلك يخرج قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ عن الهدى، وعن المناسك، وعن معرفة النعم والشكر.

10. الهدى على وجهين:

أ. هدى: عرف، ليوحدوه.

ب. وهدى: وفق، لطاعتهم.

11. ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قيل‏: إن أهل الحرم كانوا لا يقفون بعرفات، ويقولون: إنما نحن أهل حرم الله، لا نفيض كغيرنا، ممن قصدنا، فأنزل الله فيهم: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ أمرهم بالوقوف بعرفات، والإفاضة منها من حيث أفاض غيرهم من الناس، وذكر عن عائشة أنها قالت: كانت قريش، ومن كان على دينها يقفون بالمزدلفة ولا يقفون بعرفة، وكان من سواهم يقفون بعرفة، فأنزل الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾، وفيه دليل أن الوقوف بعرفة فرض‏، وعلى ذلك جاءت الآثار؛ روى عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الحج عرفة، من أدرك عرفة بليل، وصلى معنا بجمع، فقد تم حجه)، فلما خصوهم بذلك ظنوا أن قضاء غيره من المناسك في الحرم.

12. أمر بالإفاضة بحرف ﴿ثُمَّ﴾، بعد ذكر المزدلفة والإفاضة من عرفات بتقديم المزدلفة، فبان أن حرف ﴿ثُمَّ﴾ مما قد يبتدأ به أيضا.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/86.

(2) يقصد الحنفية.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ قيل: معناه ليس عليكم جناح في طلب الرزق في أيام الحج، فإذا أفضتم من عرفات أي سرتم منها إلى مزدلفة.. ومعنى ﴿أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾: أي سيروا من حيث سار من كان قبلكم من الناس.. وقيل: يعني بالناس أهل اليمن(1)..

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 283.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ يعني شوال وذا القعدة وعشر ليال مضين من ذي الحجة إلى طلوع الفجر يوم النحر، ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ والرفث الجماع والفسوق جمع فسق وهو المعاصي بهما، والجدال هو أن يجادل الرجل صاحبه حتى يغضبه.

2. ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ أي بالأعمال الصالحة، ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾

3. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ روي أن ذا المجاز وعطاطا كانا متجران للناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزل ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾

4. ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ والمشعر المعلم وإنما سمي بذلك لأن الدعاء عنده من معالم الحج وحد المشعر ما بين جبلي المزدلفة من حد مفاض مأزمي عرفة إلى محسر وليس مأزما عرفة من المشعر.

5. ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ أي سائر العرب ويجوز أن يكون المراد بالناس إبراهيم ونزل ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ هذه الآية نزلت في قريش وذلك أنهم ما كانوا يخرجون من الحرم ويقولون نحن الخمس ويقفون في حجهم بمزدلفة وسائر العرب كانت تقف بعرفات وهو موقف إبراهيم وقد يعبر بالواحد بالناس الكثير كما قال الله عز وجل: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران:173]، الناس الذين قالوا هو نعيم بن مسعود الأشجعي، ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ أي لذنوبكم.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/100.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ اختلفوا في تأويله على ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنه شوال، وذو القعدة، وذو الحجة بأسرها، وهذا قول قتادة، وطاووس ومجاهد، عن ابن عمر، وهو مذهب مالك.

ب. الثاني: هو شوال، وذو القعدة، وعشرة أيام من ذي الحجة، وهذا قول أبي حنيفة.

ج. الثالث: هن شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، إلى طلوع الفجر من يوم النحر، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، والسدي، ونافع، عن ابن عمر، وعطاء، والضحاك، والشافعي.

2. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: أنه الإهلال بالتلبية، وهو قول عمر ومجاهد وطاووس.

ب. الثاني: أنه الإحرام، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة وعطاء، والشافعي.

3. في قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: أنه الجماع، وهو قول ابن عمر، والحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والزهري.

ب. الثاني: أنه الجماع أو التعرض له بمواعدة أو مداعبة، وهو قول الحسن البصري.

ج. الثالث: أنه الإفحاش للمرأة في الكلام، كقولك إذا أحللنا فعلنا بك كذا من غير كناية، وهو قول ابن عباس، وطاووس.

4. في قوله تعالى: ﴿وَلَا فُسُوقَ﴾ خمسة تأويلات:

أ. أحدها: أنه فعل ما نهي عنه في الإحرام، من قتل صيد، وحلق شعر، وتقليم ظفر، وهو قول عبد الله بن عمر.

ب. الثاني: أنه السباب، وهو قول عطاء، والسدي.

ج. الثالث: أنه الذبح للأصنام، وهو قول عبد الرحمن بن زيد.

د. الرابع: التنابز بالألقاب، وهو قول الضحاك.

هـ. الخامس: أنه المعاصي كلها، وهو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وطاووس.

5. في قوله تعالى: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ ستة تأويلات:

أ. أحدها: هو أن يجادل الرجل صاحبه، يعني يعصيه، وهذا قول ابن عباس ومجاهد.

ب. الثاني: هو السباب، وهو قول ابن عمر، وقتادة.

ج. الثالث: أنه المراء والاختلاف فيمن هو أبرّهم حجّا، وهذا قول محمد بن كعب.

د. الرابع: أنه اختلاف كان يقع بينهم في اليوم الذي يكون فيه حجهم، وهذا قول القاسم بن محمد.

هـ. الخامس: أنه اختلافهم في مواقف الحج، أيهم المصيب موقف إبراهيم، وهذا قول ابن زيد.

و. السادس: أن معناه ألّا جدال في وقته لاستقراره، وإبطال الشهر الذي كانوا ينسئونه في كل عام، فربما حجوا في ذي القعدة، وربما حجوا في صفر، وهذا قول أبي جعفر الطبري.

6. في قوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: تزوّدوا بالأعمال الصالحة، فإن خير الزاد التقوى.

ب. الثاني: أنها نزلت في قوم من أهل اليمن، كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فنزلت فيهم: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾، يعني من الطعام.

7. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ روى ابن عباس قال كان ذو المجاز وعكاظ متجرين للناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك، حتى نزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وكان ابن الزبير يقرأ في مواقيت الحجّ.

8. في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: معناه فإذا رجعتم من حيث بدأتم.

ب. الثاني: أن الإفاضة: الدفع عن اجتماع، كفيض الإناء عن امتلاء.

ج. الثالث: أن الإفاضة الإسراع من مكان إلى مكان.

9. في‏ ﴿عَرَفَاتٍ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها (جمع) عرفة.

ب. الثاني: أنها اسم واحد وإن كان بلفظ الجمع، وهذا قول الزجاج.

10. اختلفوا في تسمية المكان عرفة على أربعة أقاويل:

أ. أحدها: أن آدم عرف فيه حواء بعد أن أهبطا من الجنة.

ب. الثاني: أن إبراهيم عرف المكان عند الرؤية، لما تقدم له في الصفة.

ج. الثالث: أن جبريل عرّف فيه الأنبياء مناسكهم.

د. الرابع: أنه سمّي بذلك لعلو الناس فيه، والعرب تسمي ما علا (عرفة) و(عرفات)، ومنه سمّي عرف الديك لعلوه.

11. ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ والمشعر المعلم، سمّي بذلك، لأن الدعاء عنده، والمقام فيه من معالم الحج، وحد المشعر ما بين منى ومزدلفة من حد مفضي مأزمي عرفة إلى محسر، وليس مأزما عرفة من المشعر.

12. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها نزلت في قريش، وكانوا يسمون الحمس، لا يخرجون من الحرم في حجهم، ويقفون بمزدلفة، ويقولون نحن من أهل الله، فلا نخرج من حرم الله، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، وهي موقف إبراهيم عليه السّلام، فأنزل الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ يعني جميع العرب، وهذا قول عائشة، وعروة، ومجاهد، وقتادة.

ب. الثاني: أنها أمر لجميع الخلق من قريش وغيرهم، أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، يعني بالناس إبراهيم، وقد يعبر عن الواحد باسم الناس، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران: 173] وكان القائل واحدا، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي، وهذا قول الضحاك.

13. في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: استغفروه من ذنوبكم.

ب. الثاني: استغفروه مما كان من مخالفتكم في الوقت والإفاضة.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/259.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ بالرفع، ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ بالنصب، الباقون بالنصب فيهنّ تقدير الآية: أشهر الحجّ أشهر معلومات، فحذف المضاف، وأقام المضاف اليه مقامه.

2. أشهر الحجّ ـ عندنا(2). ـ شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، على ما روي عن أبي جعفر عليه السلام وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وابراهيم، والشعبي، ومجاهد، والحسن، واختاره الجبائي، وقال عطا، والربيع، وابن شهاب، وطاووس أشهر الحجّ شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، وروي ذلك في أخبارنا، وإنما كانت هذه أشهر الحج، لأن الإحرام بالحج لا يصح أن يقع إلا فيها ـ بلا خلاف ـ وعندنا ـ أن الإحرام بالعمرة التي يتمتع بها لا يقع أيضاً إلا فيها.

3. من قال إن جميع ذي الحجة من أشهر الحج، قال: لأن جميع ذي الحجة يصح أن يقع فيه شيء من أفعال الحج، مثل صوم الثلاثة أيام، فإنه يصح أن يقع في جميع ذي الحجة، وكذلك يصح أن يقع ذبح الهدي فيه، وقال قوم: إن المعنى واحد في قول الفريقين، وقال آخرون: هو مختلف من حيث أن الثاني معناه: أن العمرة لا ينبغي أن تكون في الأشهر الثلاثة على الكمال، لأنها أشهر الحج، والأول على أنها لا ينبغي أن تكون في شهرين وعشر من الثالث، فقد روي عن ابن عمر: ان تفصلوا بين الحج والعمرة، فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج، أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته، وروي ذلك عن القاسم بن محمد عن ابن شهاب عن عبد الله، وابن سيرين، وقد بينا مذهبنا في ذلك.

4. سؤال وإشكال: كيف جمع شهرين، وعشرة أيام ثلاثة أشهر؟ والجواب: لأنه قد يضاف الفعل الى الوقت وإن وقع في بعضه، ويجوز أن يضاف الوقت اليه كذلك، كقولك: صليت صلاة يوم الجمعة، وصلاة يوم العيد وإن كانت الصلاة في بعضه، ويقال أيضاً: قدم زيد يوم كذا، وخرج يوم كذا وإن كان قدومه أو خروجه في بعضه، فكذلك جاز أن يقال: شهر الحج ذو الحجة، وإن كان في بعضه.

5. إنما يفرض فيهن الحج، بأن يحرم فيهنّ بالحج ـ بلا خلاف ـ أو بالعمرة التي يتمتع بها بالحج ـ عندنا خاصة ـ وفي الإحرام بالحج وافقنا فيه ابن عباس، والحسن، وقتادة، وقال ابن عمر، ومجاهد: إنما يفرض فيهنّ بالتلبية، وقال بعض المتأخرين: يفرض بالعزم على أعمال الحج.

6. لا يجوز نصب أشهر ـ في العربية ـ على ما بيناه من المعنى من أن تقديره أشهر ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ أو وقت‏ ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ وقد أجازوا الحج شهر ذي الحجة، لأنه معرفة كما نقول العرب: المسلمون جانب، والكفار جانب بالرفع، فإذا أضافوا نصبوا، فقالوا: المسلمون جانب أرضهم، والكفار جانب بلادهم، وإنما جاز ذلك، لأن النكرة لما جاءت على شرط الخبر: في كونه نكرة من حيث كانت الفائدة فيه، رفعت بأنها خبر الابتداء فلما صارت معرفة، والخبر يطلب النكرة نصبت ليصح تقدير الاستقرار الذي هو نكرة كأنك قلت: الكفار مستقرون جانب بلادهم، ففائدة الأول من جانب، وفائدة الثاني في مستقر.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ﴾:

أ. الرفث هاهنا ـ عند أصحابنا ـ كناية عن الجماع وهو قول ابن مسعود، وقتادة، وأصله الإفحاش في النطق كما قال العجاج: (عن اللّغا ورفث التكلم)‏

ب. وقيل الرفث بالفرج: الجماع، وباللسان: المواعدة للجماع، وبالعين: الغمز للجماع.

ج. وقال ابن عباس، وابن عمر وعطا: المراد هاهنا: المواعدة للجماع، والتعريض للنساء به.

د. وقال الحسن: الجماع، والتعرض له بمواعدة أو مداعبة كله رفث.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا فُسُوقَ﴾:

أ. روى أصحابنا: أنه أراد الكذب، والأولى أن نحمله على جميع المعاصي التي نهي المحرِم عنها، وبه قال ابن عمر.

ب. وقال الحسن: المعاصي نحو القذف وشبهه.

ج. وقال ابن عباس ومجاهد وعطا: هو جميع المعاصي مثل ما قلناه.

د.، وقال بعضهم لا يجوز أن يكون المراد إلا ما نهي عنه المحرم هاهنا، مما هو حلال له في غير الإحرام، لاختصاصه بالنهي عنه وهذا غلط، لأنه تخصيص للعموم بلا دليل، وقد يقول القائل: ينبغي أن تقيد لسانك في رمضان لئلا يبطل صومك، فيخصه بالذكر لعظم حرمته.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾:

أ. الذي رواه أصحابنا: أنه قول: لا والله وبلى والله صادقاً، وكاذباً.

ب. قال ابن عباس، وابن مسعود، والحسن: أنه لا مراء بالسّباب والأعصاب على جهة المحك، واللجاج.

ج. قال مجاهد والسدي: إنه لا جدال في أن الحج قد استدار في ذي الحجة، لأنهم كانوا ينسون الشهور فيقدمون ويؤخرون، فربما اتفق في غيره.

10. الجدال: اشتقاقه في اللغة فالجدال والمجادلة، والمنازعة، والمشاجرة، والمخاصمة واحد، وتقول: جدلت الحبل أجدّله وأجدِله جدلا: إذا فتلته، وجادلت الرجل مجادلة وجدالا: إذا خاصمته، وتجادلا تجادلا، وجدلته تجديلا: إذا ألقيته على الأرض، وتجدّل تجدّلا وانجدل انجدالا، والجديل: زمام البعير، والجدول: نهر صغير، والمجدل: القصر، والجدالة: الأرض ذات الرمل الرقيق، والأجدل: الصقر، وكل مفتول: مجدول، وغلام جادل: إذا ترعرع واشتد، والجديلة: شريجة الحمام، ورجل أجدل المنكب: فيه تطأطؤ، بخلاف الاشراف من المناكب، وأصل الباب: الفتل، والجدال: القتال.

11. من نصب (الثلاثة) أخرج اللفظ مخرج عموم النفي للمبالغة في معنى النفي، ومن رفع بعضاً ونصب بعضاً، فلاختلاف المعنى، لأن الأول على معنى النهي، والثاني بمعنى الاخبار عن زمان الحج: قد استدار في ذي الحجة، فكان أحقّ بالنصب، لعموم النفي، فأما الأول، فقد يقع من الخاطئ، فلا يصح فيه عموم النفي، هذا قول النحويين، والصحيح أن الكل معناه النهي، وان خرج مخرج النفي، والاخبار، والمراد به النهي بلا خلاف.

12. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ معناه وما تفعلوا من خير يجازكم الله العالم به، لأن الله عالم على كل حال، إلّا أنه جعل ﴿يَعْلَمَهُ﴾ في موضع يجازيه للمبالغة في صفة العدل، لأنه يعاملكم معاملة من يعلمه إذا ظهر منكم، فيجازي به، وذلك تأكيد أن الجزاء لا يكون إلا بالفعل دون ما يعلم أنه يكون منهم قبل أن يفعلوه.

13. في قوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ قولان:

أ. أحدهما: قال الحسن، وقتادة، ومجاهد: أن قوماً كانوا يرمون بأزوادهم، ويتسمون بالمتوكلة، فقيل لهم تزودوا من الطعام، ولا تلقوا كلكم على الناس، وخير الزاد مع ذلك التقوى.

ب. الثاني:(تزودوا) من الأعمال الصالحات‏ ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، فذكر ذلك في الحج، لأنه أحق شيء بالاستكثار من أعمال البرّ فيه، والزاد: الطعام الذي يتخذ للسفر، والمزود: وعاء يجعل فيه الزاد، وكل من انتقل بخير من عمل أو كسب، فقد تزود منه تزوداً.

14. ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ يعني يا ذوي العقول، لأن اللبّ العقل، وإنما سمي لباً لأنه أفضل ما في الإنسان، وأفضل كل شيء لبّه.

15. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ هذه الآية فيها تصريح بالاذن في التجارة، ونحوها في حال الإحرام، لأنهم كانوا يتحرّجون بذلك في صدر الإسلام، على قول ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وعطا، والحسن، وقتادة، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام.

16. الجناح هو الجرح في الدين، وهو الميل عن الطريق المستقيم، وأصله الميل ـ على ما مضى القول فيهـ.

17. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ يعني دفعتم من عرفة الى المزدلفة عن اجتماع، كفيض الأناء عن امتلائه، تقول: فاض الماء يفيض فيضاً: إذا انصبّ عن امتلاء، وأفاض إفاضة في الحديث: إذا اندفع فيه، واستفاض الخبر إذا شاع، والافاضة الضرب بالقداح، وفيض الصدر بما فيه: البوح به، والافاضة: امتلاء الحوض حتى يفيض، ورجل فيّاض: جواد، ودرع مفاضة، وفيوض إذا كانت واسعة، وفيض البصرة: نهرها، وأصل الباب: الفيض: الانصباب عن الامتلاء.

18. ﴿عَرَفَاتٍ﴾ صرفت وإن كان فيها التعريف، والتأنيث، لأنها على حكاية الجمع، كما يجب أن يحكى المذكر إذا سمي به الجمع، ويجوز فيها ترك الصرف تشبيهاً بالواحد فيسقط التنوين ويسقط الاعراب كما كان في الجمع كقول امرئ القيس:

çتنوّرتُها من أذرعاتَ وأهلها...بيثرب أدنى دارها نظرٌ عالي‏é

و الأول اختيار النحويين، وقد أجاز بعضهم فتح التاء بغير تنوين على قياس طلحة، وأنشدوا البيت على ثلاثة أوجه (أذرعات) ـ منوناً مكسوراً ـ ومجروراً بلا تنوين ـ ومفتوحاً بلا تنوين ـ، وأنكر الزجاج الوجه الثالث.

19. المشعر هو معلم المتعبد، وقال المبرد: المشعر ـ بفتح الميم والعين ـ مكان الشعور، كالمدخل لمكان الدخول، والمشعر ـ بكسر الميم ـ الحديدة التي يشعر بها أي يعلم بها، فكسرت، لأنها آلة كالمخرز، والمقطع، والمخيط، وقال: الكسائي: لا فرق بين الفتح والكسر.

20. ﴿الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ هو المزدلفة: وهو جمع بلا خلاف، واختلف لما سميت عرفات عرفات:

أ. قيل: لأن إبراهيم عليه السلام عرفها بما تقدم له من النعت لها، والوصف، على ما روي عن علي عليه السلام وابن عباس.

ب. وقال عطا، والسدي، وقد روي ذلك في أخبارنا: أنها سميت بذلك، لأن آدم وحواء اجتمعا فيه، فتعارفا بعد أن كانا افترقا.

ج. وقيل: سميت عرفات لعلوّه وارتفاعه، ومنه عرف الديك.

21. وجه التشبيه في قوله‏ ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ أن الذكر بالشكر، والثناء يجب أن يكون بحسب الانعام، والهداية في العظمة لأنه يجب أن يكون الشكر كالنعمة في عظم المنزلة كما يجب أن يكون على مقدارها لو صغرت النعمة، ولا يجوز التسوية في الشكر بين من عظمت نعمته ومن صغرت.

22. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ معنى (إن) هاهنا المخففة من الثقيلة بدلالة دخول لام الابتداء معها، وإذا خففت لم تعمل وجار دخولها على الاسم، والفعل، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾، وأما ﴿كُنْتُمْ﴾ فلا موضع لها من الاعراب، لأنها بعد حرف غير عامل، وليس (لان) موضع كما ليس لها موضع في الابتداء، وإنما هذه الواو عطف جملة على جملة.

23. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قولان:

أ. أحدهما: قال ابن عباس، وعائشة، وعطا، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والسدي، والربيع، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام: أنه أمر لقريش وخلفائهم، لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفة، ولا يفيضون منها، ويقولون: نحن أهل حرم الله لا نخرج عنه، فكانوا يقفون بجمع ويفيضون منه، دون عرفة، فأمرهم الله تعالى أن يفيضوا من عرفة بعد الوقوف بها.

ب. الثاني:قال الضحاك، والجبائي وحكاه المبرد، لكنه اختار الأول، لأنه‏ خطاب لجميع الحاج أن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام من المزدلفة، والأول إجماع، وهذا شاذ، وليس لأحد أن يقول على الوجه الآخر: كيف يقال لإبراهيم وحده الناس، وذلك أن هذا جائر كما قال ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ وإنما كان واحداً بلا خلاف: وهو نعيم بن مسعود الاشجعي، وذلك مستعمل، وقيل إن إبراهيم لما كان إماماً، كان بمنزلة الأمّة التي تتبع في سنة.

24. سؤال وإشكال: إذا كانت (ثم) للترتيب، فما معنى الترتيب هاهنا؟ والجواب:

أ. الذي رواه أصحابنا أن هاهنا تقديماً، وتأخيراً، وتقديره‏ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

ب. وقال قوم: المعنى‏ ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾ من المزدلفة، والذي أجاب به المتأوّلون: أن قالوا: رتبت الافاضة بعد المعنى الذي دل الكلام الأول عليه، كأنه قيل: أحرموا بالحج على ما بين لكم‏ ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾ يا معشر قريش (من حيث أفاض الناس) بعد الوقوف بعرفة، وهذا قريب مما قلناه، وإنما عدل الذي تأوّله على الافاضة من المزدلفة، لأنه رآه بعد قوله، فإذا أفضتم من عرفات، قال فأمروا أن يفيضوا من المزدلفة بعد الوقوف بها، كما أمروا في عرفة، وقد بينا ترتيب الكلام في التأويل المختار.

25. الاستغفار هو طلب المغفرة، كما أن الاستخبار: طلب السؤال، والمغفرة: التغطية للذنب بإيجاب المثوبة، وقيل في معنى الاستغفار قولان:

أ. أحدهما: الحض عليه في تلك المواطن الشريفة، لأنها خليقة بالإجابة.

ب. الثاني:استغفروه لما سلف من مخالفتكم في الوقوف والافاضة، كما سنّه الله تعالى للناس عامة.

26. الفرق بين غفور وغافر أن في غفور مبالغة لكثرة المغفرة، فأما غافر، فيستحق الصفة فيه بوقوع الغفران، والعفو هو المغفرة، وقد فرق بينهما بأن العفو ترك العقاب على الذنب، والمغفرة تغطية الذنب بإيجاب المثوبة، ولذلك كثرت المغفرة في صفات الله تعالى، دون صفات العباد، فلا يقال: استغفر السلطان كما يقال: استغفروا الله.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/163.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)..:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الفرض: التقدير، والفرض: الإيجاب، والصلاة المفروضة تحتمل الوجهين:

ب. الرفث: الجماع، وقيل: كل ما يستدعي الرجل من المرأة من الجماع فما دونه.

ج. الفسق: الخروج من الطاعة.

د. المجادلة: المنازعة والمشاجرة.

هـ. الزاد: الطعام الذي يتخذ للسفر، والمِزْوَدُ: وعاء يجعل فيه الزاد، وكل من عمل خيرًا أو شرًّا فقد تزود منه.

و. اللب: العقل سمي بذلك؛ لأنه أفضل ما في الإنسان؛ لأن أفضل ما في كل شيء لبه.

ز. الجُناح: الحرج في الدين، وهو: الميل عن الطريق المستقيم، وأصله الميل.

ح. الابتغاء: الطلب.

ط. الإفاضة: من الفيض، يقال: فاض الماء إذا انصب عن امتلاء، والإفاضة: الدفع من عرفات إلى منى بالتلبية فسمي بذلك؛ لأنهم يجتمعون، ثم يدفعون كفيض الماء عن الامتلاء، واستفاض الخبر: شاع وظهر.

ي. عرفات: اسم موضع معروف يجب الوقوف بها في الحج، ويوم عرفة: يوم الوقوف، واختلفوا لم سمي بذلك؟ قيل: لأن إبراهيم أتاه فعرفه عند الرؤية بما تقدم له من الوصف، فسمي عرفات، واليوم عرفة، عن علي، وقيل: لأن جبريل كان يُري إبراهيم الميقات، ويقول: عرفت عرفت؟ فسمي عرفات، واليوم عرفة، عن عطاء، وقيل: لأن آدم وحواء اجتمعا فيه وتعارفا به بعد أن أهبطا من السماء فسمي عرفات واليوم عرفة، عن الضحاك، وقيل: إن جبريل أرى إبراهيم بقاع مكة، ويقول له: عرفت عرفت؟ فسمي عرفات، عن ابن عباس، وروي عنه رواية أخرى أن إبراهيم رأى في المنام أن يذبح ابنه فأصبح رَوّى يومه أجمع أي فكر أهو أمر الله أم لا؟ فسمي اليوم تروية، ثم رأى في الليلة الثانية، فلما أصبح عرفه أنه من الله فسمي يوم عرفة، وقيل: لأن آدم وقف بها واعترف بذنبه، وقال: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾، والناس يعترفون بذنوبهم ويستغفرون ربهم، وقيل: هو من العَرْف الذي هو الطيب، ومنه: ﴿عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ أي طيبها لهم، فكان ذلك المكان طيبا نقيا من الأقذار، وقيل: لأن الناس يتعارفون به.

ك. المشعر: من الشعار، وهو العلامة، وهو معلم للمتعبد، والمشعر الحرام هو: مزدلفة، وهو جمع.

ل. الاستغفار: سؤال المغفرة، وأصل المغفرة: التغطية والستر، والله تعالى يستر على عباده ذنوبهم في الدنيا، فإن تاب غفر له في الآخرة أيضًا، ومنه المِغْفَرُ؛ لأنه يستر، ويستحب للإنسان أن يستر على نفسه ولا يجهر بالمعصية، ويستحب للشهود أن يستروا، وغفور وغافر فاعل المغفرة، إلا أن في غفور مبالغة، وذلك من صفة الفعل لأنه يوصف به لم يزل.

2. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ﴾:

أ. عن القرظي: كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هَؤُلَاءِ: حجنا أفضل وأتم من حجكم، فنزلت الآية، ونهوا عن ذلك.

ب. عن القاسم بن محمد: كانوا يقفون مواقف مختلفة كل يدعي أن موقفه موقف إبراهيم، فأعلمهم تعالى بمناسكهم، وعن مقاتل لما قال النبي في حجة الوداع: (من لم يكن معه هدي فليحل من إحرامه وليجعلها عمرة)، قالوا: إنا أحرمنا الحج، فذلك جدالهم، فنهوا عن ذلك، وقيل: كان ناس يرمون بأزوادهم، ويقولون: نحن المتوكلون، فقيل: تزودوا، عن الحسن وقتادة ومجاهد، وقيل: كانوا كَلًّا على الناس، وكانوا من اليمن، فنزلت الآية فيهم، فنهوا عن السؤال، وأمروا بالتزود، حكاه الأصم.

3. بَيَّنَ تعالى وقت الحج فقال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ﴾:

أ. قيل: فيه محذوف، أي وقت الحج، ووقت أفعاله.

ب. وقيل: الحج في أشهر، فحذف ﴿فِي﴾، وقيل: الحج حج الأشهر، يعني أن الإحرام فيها أفضل.

4. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ﴾: والأشهر: شوال، وذو القعدة بالاتفاق، ثم اختلفوا:

أ. فقيل: عشر من ذي الحجة، عن ابن عباس وابن عمر وإبراهيم والشعبي ومجاهد والحسن وأبي علي وأكثر المفسرين، وعدوا يوم النحر من الأشهر، وهو قول أبي حنيفة، وما روي في التفسير الحج الأكبر أنه يوم النحر، ولأنه وقت لركن منه، وهو طواف الزيارة، وعن أبي يوسف سبعة أيام، وهو مروي عن جماعة، واختاره القاضي؛ لأن الحج يفوت بطلوع الفجر يوم النحر، والعبادة لا تكون فائتة مع بقاء وقتها.

ب. وروي عن مالك إلى آخر ذي الحجة من الأشهر، وروي ذلك عن عطاء والربيع وابن شهاب؛ لأنه وقت لتوابعه، وهذا فاسد؛ لأن الحج لا يجوز فيه، فيستحيل أن يكون وقتًا له.

5. سؤال وإشكال: لم قيل للشهرين وبعض الثالث: أشهر، على الجمع؟ والجواب: لأن الفعل مضاف إلى الوقت، وإنما العمل في بعضه كما يقال: أتيتك يوم الجمعة، وصليت يوم الخميس، ويقال: يوم القدوم، ويوم الخروج.

6. سؤال وإشكال: ما معنى التوقيت بالأشهر، وأفعال الحج لا تجوز إلا في أيام مخصوصة، والإحرام عندكم يجوز في جميع السنة، وإنما يصح التوقيت عند الشافعي لأجل الإحرام؟ والجواب: في التوقيت فوائد:

أ. منها: أنه لا يجوز تقديم الأفعال عليه، وإنما يجوز فيها، وإن تقدم الإحرام.

ب. ومنها: أنه يكره الإحرام قبلها ويستحب فيها.

7. ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ أي أوجب، ثم اختلفوا:

أ. فقيل: بالإحرام، عن ابن عباس والحسن وقتادة.

ب. وقيل: بالتلبية، عن ابن عمر ومجاهد وأبي مسلم.

ج. وقيل: بالعزم على أعمال الحج.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ﴾:

أ. قيل: أراد مواعدة الجماع والتعريض للنساء به، عن ابن عباس وابن عمر وعطاء.

ب. وقيل: الجماع، عن ابن مسعود وقتادة.

ج. وقيل: الجماع والتعريض له بمواعدة أو مداعبة، عن الحسن.

د. وقيل: حاجات الرجال إلى النساء، عن الأصم.

هـ. وقيل: الرفث: الفحش وقول القبيح.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا فُسُوقَ﴾:

أ. قيل: ما نهي المُحْرم عنه كقتل الصيد وغيره، عن ابن عمر.

ب. ذكر بعضهم أنه خص النهي بالإحرام فوجب أن يرجع إلى ما نهي لأجله عنه، وهذا لا يصح؛ لأنه قد خص بالذكر لعظم الحرمة في تلك الحال كما يقال: لا تعص الله في رمضان وفي الحرم، وكقوله تعالى: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾

ج. وقيل: معاصي الله كلها، عن ابن عباس والحسن وقتادة وجماعة.

د. وقيل: التنابز بالألقاب لقوله: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ﴾ عن الضحاك.

هـ. وقيل: الذبح للأصنام عن ابن زيد، وقيل: السباب، عن إبراهيم ومجاهد، ولقوله: (سباب المسلم فسق وقتاله كفر)

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا جِدَالَ﴾:

أ. قيل: لا مراء ولا سباب على جهة اللجاج، عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وإبراهيم وأبي علي وأبي مسلم.

ب. وقيل: لا شك في أن الحج قد استدار في ذي الحجة، عن مجاهد والسدي.

ج. قال القاضي: ولا يمنع أن تحمل الثلاثة على ما بَيَّنَّا في صفة الحج، فيكون مؤقتًا للظاهر حقه، فالرفث: الجماع الذي يحرمه الإحرام، والفسوق: الجماع المحرم في كل حال، والجدال: الشك في الحج، وهو كقولهم: يجب أم لا يجب؟

11. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ طاعة ﴿يَعْلَمْهُ الله﴾ يجازيكم به ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ من الطاعات ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾:

أ. قيل: تزودوا من الطعام، عن الحسن وقتادة ومجاهد.

ب. وقيل: من الأعمال الصالحة، عن أبي علي وأبي مسلم والأصم.

12. ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ يا ذوي العقول.

13. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا الله عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾:

أ. قيل: كانوا يتأثمون بالتجارة في الإحرام في صدر الإسلام، ويمتنعون منها، فأنزل الله تعالى الآية إذنًا فيها، عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد وعطاء والحسن وقتادة، وروي عن ابن عمر أنه سأله رجل فقال: إنا قوم نكري الإبل فيزعمون أنه ليس لنا حج، فقال: أتحرمون وتطوفون؟ فقال: نعم، فقال: أتى حاجّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يدر ما يقول حتى نزل جبريل بهذه الآية.

ب. وذكر الأصم أن قومًا قالوا: ليس للتاجر ولا للأجير ولا للحمال حج، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ودل على أن لهم الحج.

14. لما بَيَّنَ تعالى مناسك الحج، وبين أن الإحرام يمنع من كثير من المباحات، كان يجوز أن يظن أنه كما يمنع من الطيب والنساء والصيد يمنع من التجارة، فَبَيَّنَ تعالى أنه غير ممنوع منها، فقال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ أي حرج ﴿أَنْ تَبْتَغُوا﴾ تطلبوا بالتجارة فضلا من ربكم، ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ دفعتم عنها.

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا الله عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾:

أ. قيل: بالتلبية والدعاء، عن أبي علي.

ب. وقيل: الجمع بين صلاة المغرب والعشاء؛ لأنه لا ذكر يجب ثَمَّ إلا هذه، أو لأنه عطف عليه بالذكر الثاني، فوجب حمله على فائدتين.

16. ﴿وَاذْكُرُوهُ﴾ أي فاذكروا نعمه عليكم: ﴿كَمَا هَدَاكُمْ﴾ عند المشعر الحرام، وهو جانبا جبل مزدلفة ﴿كَمَا هَدَاكُمْ﴾ يعني ينبغي أن يكون ذكركم له مقابلاً لنعمته عليكم، وهداكم لدينه، ومناسك حجه.

17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ﴾:

أ. قيل: من قبل الهدى.

ب. وقيل: من قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كناية مذكور من غير مذكور.

18. ﴿لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ عن النبوة والشريعة، فهداكم إليه، كقوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾

19. اختلفوا في الوقوف في المشعر بعد الصلاة، فقال أبي حنيفة: واجب إن تركه فعليه دم، وليس بركن، وتدل الآية عليه، وعن الليث أنه ركن، وقال الشافعي: إن دفع في النصف الأخير من الليل فلا شيء عليه، وفي النصف الأول قولان.

20. ثم بَيَّنَ تعالى الإفاضة فقال: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾ فيه قولان:

أ. الأول: قال بعضهم: المراد به الإفاضة من عرفات، ثم اختلفوا:

فقيل: هو أمر لقريش وحلفائها، وهم الحُميس وكانوا يقفون بالمزدلفة ويفيضون عنها، ولا يقفون بعرفة، وسائر الناس يقفون بعرفة، وكانوا يقولون: نحن أهل الله، فلا نخرج من حرم الله، فأمرهم الله تعالى بالوقوف بعرفة، وأن يفيضوا كما يفيض الناس، عن ابن عباس وعائشة ومجاهد والحسن وقتادة.

وقيل: أمر لجميع الناس بالإفاضة، والناس هو إبراهيم، عن الضحاك.

ب. الثاني: أن المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر، عن أبي علي، والآية تدل عليه؛ لأنه قال: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ ثم قال: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾ فوجب أن تكون إفاضة ثانية، فتدل أن الإفاضتين واجبتان، وهما وإن وجبتا فليستا بركن.

21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾:

أ. قيل: أي دفع الناس.

ب. وقيل: الناس سائر العرب، والأمر لقريش أن يفعلوا كما يفعله سائر العرب، عن ابن عباس وجماعة.

ج. وقيل: الناس إبراهيم، عن أبي علي والضحاك؛ كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ يعني: نعيم بن مسعود.

د. وقيل: هم أهل اليمن وربيعة، عن الكلبي.

هـ. وقيل: آدم، عن سعيد بن جبير والزهري.

و. وقيل: أراد بالناس العلماء الَّذِينَ يعلمون الدين، ويعلمونه الناس.

22. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا الله﴾:

أ. قيل: أي اطلبوا المغفرة منه بالتوبة لما سلف من المعاصي، والتقرب إليه بالطاعات.

ب. وقيل: استغفروه لما سلف من مخالفتكم في الوقوف والإقامة، فإنه غفور كثير المغفرة، رحيم واسع الرحمة.

23. تدل الآيات الكريمة على:

أ. توقيت الحج، وقد بينا الفائدة في توقيته بالأشهر، فأما إذا أحرم بالحج قبل أشهر الحج انعقد الحج عند أبي حنيفة ومالك بن أنس والثوري قالوا: الإحرام إذا انعقد لا ينعقد على خلاف ما نوى وسمى، وقال الشافعي: تنعقد عمرة.

ب. يدل قوله: ﴿فَمَنْ فَرَضَ﴾ على أنه يدخل في الحج بفعله، والصحيح أن المراد به التلبية؛ لأن الحج لا ينعقد بمجرد النية عند أكثر العلماء اعتبارا بسائر العبادات التي لها تحريم وتحليل، وقال الشافعي: ينعقد، فأما مواقيت الإحرام فروي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم وَقَّتَ لأهل المديئة ذا الْحُلَيْفَةِ، ولأهل الشام الجُحْفَةَ، ولأهل نجد قَرْنًا، ولأهل اليمن يَلَمْلَمَ، ولأهل العراق ذاتَ عِرْقٍ.

ج. يدل قوله: ﴿فَلَا رَفَثَ﴾ الآية على المنع من هذه الأشياء؛ لأنه وإن كان خبرًا فالمراد به النهي، فالأولى حمله على ما يختص الإحرام.

د. يدل قوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله﴾ على وجوب الإخلاص؛ لأنه تعالى عالم بظاهره وباطنه.

هـ. يدل قوله: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ على البعث على التقوى، وشبه التقوى بالزاد؛ لأنه عدة الآخرة، كما أن الزاد عدة المسافر.

و. أن الثواب يُنال بالتقوى؛ لأن تقدير الكلام تزودوا لسفر الآخرة؛ فإنها لا تقطع إلِا بالتقوى، لولا ذلك لم يكن للأمر بالتزود معنى.

ز. على إباحة التجارة في الإحرام، وأنه لا يؤثر في الحج، وهذا ظاهر؛ لأن أحد الفعلين غير الآخر، فقصده في أحدهما ابتغاء فضل الله لا يقدح في صحة قَصْدِهِ في الآخر ابتغاء ثوابه، وقضاء المناسك، ولما أمر تعالى قبل ذلك بالتزود للآخرة أباح التزود في الدنيا؛ لئلا يظن أن ذلك محظور.

ح. إباحة النسك، وطلب الحلال.

ط. يدل قوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ على كَوْنٍ بعرفة يلزم الإفاضة منه إلى المشعر الحرام الذي هو الجمع والمزدلفة، فيدل على كون بعرفة، وكون بالمزدلفة، وليس فيه بيان وجوبه ووقته وكيفيته، وقد ثبت بالسنة أن الوقوف بعرفة ركن قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج) ووقته من حين تزول الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، والاختيار أن يقف بعد الزوال إلى غروب الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، والاختيار أن يقف بعد الزوال إلى غروب الشمس، ثم يدفع، فابتداء الوقوف بالنهار، وآخره بالليل، هذا قول أكثر الفقهاء، وحكي عن مالك بن أنس أن وقت الوقوف بالليل، وإن لم يقف ليلاً لم يجز ولو وقف بالنهار، والأول هو الصحيح، وتدل عليه السنة، ويجمع في عرفات بين الظهر والعصر، ثم يقف حتى تغرب الشمس، ثم يدفع فيأتي مزدلفة، فيجمع بين المغرب والعشاء، والإمام شرط في الجميع عند أبي حنيفة، وكذلك المكان، وقال أبو يوسف ومحمد: ليس بشرط، ثم يبيت بالمزدلفة، ويغلس بصلاة الفجر، ثم يدفع قبل طلوع الشمس، وكان أهل الجاهلية يدفعون عن عرفة قبل غروب الشمس، ويدفعون من مزدلفة بعد طلوعها، ويقولون: أَشِرْقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِير، فأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمخالفتهم.

ي. أن المعارف ليست ضرورة؛ لذلك قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾

ك. وجوب الإفاضة من عرفة، ومن المزدلفة، فأما الدفع من عرفة فوقته بعد غروب الشمس يوم عرفة، فإن دفع قبل غروب الشمس فقال أبي حنيفة: عليه دم، فإن عاد ودفع مع الإمام سقط عنه الدم، وقال زفر: لا يسقط عنه الدم، وقال الشافعي: لا شيء عليه، وقال مالك بن أنس: لا يجوز وقوفه، فإن عاد وإلا فات حجه، وهذا مبني على أن الوقوف في جزء من الليل واجب عندنا وليس بركن، وأما الدفع من مزدلفة فقبل طلوع الشمس، وإن دفع قبل طلوع الفجر، ولم يكن له كون بها بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس من غير عذر فعليه دم، لأنه واجب، وقد بَيَّنَّا الخلاف فيه؛ لأن عند الشافعي ليس ذلك بواجب فلا شيء عليه، فإن لم يبت في مزدلفة وأدرك الوقوف قبل طلوع الفجر فلا شيء عليه؛ لأن البيتوتة بها، لأجل الوقوف، وإذا دفع فيها، وأتى منى رمى جمرة العقبة، وقطع التلبية عند أول حصاة، وقال مالك بن أنس: إذا وقف بعرفة فأما المقيم فيقطع التلبية إذا استلم الحجر، وقال مالك بن أنس: إذا رأى البيت.

24. قراءات وحجج:

أ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ بالرفع والتنوين، ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ بالنصب، وقرأ أبو جعفر جميع ذلك بالرفع والتنوين، وقرأ الباقون الجميع بالنصب، ووجه الأول بيّن، باختلاف الإعراب بيتهما اختلاف المعنى، فالأول على النهي، والثاني على النفي والإخبار بأن الحج قد استدار في ذي الحجة، وكان أحق بالنصب لعموم النفي، والأول قد يقع من الخاطئ فلا يصلح فيه عموم النفي، ووجه القراءة الثانية عموم النهي، ووجه القراءة الثالثة عموم النفي للمبالغة في النهي.

ب. أثبت أبو عمرو الياء في: ﴿فَاتَّقُونِ﴾ على الأصل، وحذف الآخرون للتخفيف، ودلالة الكسر عليه.

25. مسائل نحوية:

أ. ﴿الْحَجِّ﴾ رفع لأنه ابتداء، وخبره: ﴿أَشْهُرٍ﴾، تقديره: وقت الحج أشهر، عن الفراء، وأشهر الحج أشهر، عن الزجاج، وقيل: الحج في أشهر، عن القاضي، وقيل: الحج حج، أشهر، عن أبي علي، ويجوز في العربية نصب أشهر على معنى الحج شهر ذي الحجة.

ب. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ شرط وجوابه محذوف، تقديره: يجازيكم الله به، و﴿يَعْلَمْهُ الله﴾ دليل عليه مؤكدًا له.

ج. ﴿ثُمَّ﴾: للترتيب، وإنما رتب الإفاضة على المعنى الذي دل عليه الكلام، كأنه قال: أحرموا بالحج كما بين لكم ثم أفيضوا، وقيل: ثم أفيضوا من مزدلفة.

د. صرفت عرفات، وهو مؤنث معرفة لأنها على حكاية الجمع كما يجب أن يحكى المذكر إذا سمي به، وهو الاختيار بالإجماع، ويجوز فيه ترك الصرف تشبيهًا بالواحد فيسقط التنوين ويترك الإعراب، وجوز بعضهم فتح التاء بغير تنوين نحو: طلحة، وأنكر ذلك الزجاج.

هـ. الكاف في قوله: ﴿كَمَا﴾ كاف التشبيه، ووجه التشبيه أنه ينبغي أن يكون الشكر والذكر بمنزلة النعمة في العظم، وإن معناه معنى المخففة من الثقيلة للتوكيد.

و. ﴿كُنْتُمْ﴾ لا موضع له من الإعراب؛ لأنه بعد حرف غير عامل.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/826.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)..:

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الرفث: أصله في اللغة الإفحاش في النطق، قال العجاج: عن اللغا ورفث التكلم، وقيل: الرفث بالفرج الجماع، وباللسان: المواعدة للجماع، وبالعين: الغمز للجماع.

ب. الفسوق: الخروج من الطاعة.

ج. الجدال في اللغة والمجادلة والمنازعة والمشاجرة والمخاصمة نظائر، وجدلت الحبل: فتلته، والجديل: زمام البعير فعيل بمعنى مفعول، والمجدل: القصر، والجدالة: الأرض ذات العمل الرقيق، وغلام جادل: إذا ترعرع واشتد.

د. الزاد، الطعام الذي يتخذ للسفر، والمزود: وعاء يجعل فيه الزاد، وكل من انتقل بخير من عمل أو كسب فقد نزود منه تزودا.

هـ. اللب: العقل، سمي بذلك لأنه أفضل ما في الانسان، وأفضل كل شئ لبه.

و. الجناج: الحرج في الدين، وهو الميل عن الطريق المستقيم.

ز. الابتغاء: الطلب.

ح. الإفاضة مأخوذة من فيض الإناء عن امتلائه، فمعنى أفضتم: دفعتم من عرفات إلى المزدلفة عن اجتماع وكثرة، ويقال: أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا فيه، وأكثروا التصرف، وأفاض الرجل إناءه: إذا صبه، وأفاض الرجل بالقداح: إذا ضرب بها، لأنها تقع متفرقة، قال أبو ذؤيب:

çوكأنهن ربابة، وكأنه...يسر، يفيض على القداح، ويصدعé

وأفاض البعير بجرته: إذا رمى بها متفرقة كثيرة، قال الراعي:

çوأفضن بعد كظومهن بجرة...من ذي الأباطح إذ رعين حقيلاé

فالإفاضة في اللغة لا تكون إلا عن تفرق أو كثرة.

ط. عرفات: اسم للبقعة المعروفة يجب الوقوف بها في الحج، ويوم عرفة: يوم الوقوف بها، واختلف في سبب تسميتها بعرفات، فقيل: لأن إبراهيم عليه السلام عرفها بما تقدم له من النعت لها والوصف، روي ذلك عن علي وابن عباس.، وقيل: إنها سميت بذلك لأن آدم وحواء اجتمعا فيها فتعارفا بعد أن كانا افترقا، عن الضحاك والسدي، وقد رواه أصحابنا أيضا، وقيل: سميت بذلك لعلوها وارتفاعها، ومنه عرف الديك، وقيل: سميت بذلك لأن إبراهيم كان يريه جبرائيل المناسك، فيقول عرفت عرفت، عن عطاء، وروى عن ابن عباس أن إبراهيم رأى في المنام أنه يذبح ابنه، فأصبح يروي يومه أجمع أي: يفكر أهو أمر من الله أم لا، فسمي بذلك يوم التروية، ثم رأى في الليلة الثانية، فلما أصبح عرف أنه من الله فسمي يوم عرفة، وروي أن جبريل، قال لآدم هناك: اعترف بذنبك واعرف مناسكك، فقال: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ الآية، فلذلك سميت عرفة.

ي. المشعر الحرام، هو المزدلفة سميت مشعرا لأنه معلم للحج والصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده من أعمال الحج، وإنما سمي المشعر الحرام مزدلفة لأن جبريل قال لإبراهيم بعرفات: ازدلف إلى المشعر الحرام، فسمي المزدلفة، وسمي جمعا لأنه يجمع به بين المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين، وسميت منى منى لأن إبراهيم تمنى هناك أن يجعل الله مكان ابنه كبشا، يأمره بذبحه فدية له.

ك. الاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: التغطية للذنب، والفرق بين غفور وغافر أن في غفور مبالغة لكثرة المغفرة، فأما غافر فيستحق الوصف به من وقع منه الغفران، والعفو: هو المغفرة، وقد فرق بينهما بان العفو: ترك العقاب على الذنب، والمغفرة: تغطية الذنب بإيجاب المثوبة، ولذلك كثرت المغفرة في صفات الله دون صفات العباد، فلا يقال أستغفر السلطان كما يقال أستغفر الله.

2. ﴿الْحَجِّ﴾ أي: أشهر الحج ﴿أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ أي: أشهر مؤقتة معينة لا يجوز فيها التبديل والتغيير، بالتقديم والتأخير اللذين كان يفعلهما النسأة الذين أنزل فيهم: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ الآية، وأشهر الحج:

أ. عندنا(2).: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، على ما روي عن أبي جعفر، وبه قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم.

ب. وقيل: هي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، عن عطاء والربيع وطاوس، وروي ذلك في أخبارنا.

3. إنما صارت هذه أشهر الحج، لأنه لا يصح الاحرام بالحج إلا فيها بلا خلاف، وعندنا لا يصح أيضا الإحرام بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج، إلا فيها، ومن قال: إن جميع ذي الحجة من أشهر الحج، قال: لأنه يصح أن يقع فيها بعض أفعال الحج مثل صوم الأيام الثلاثة، وذبح الهدي.

4. سؤال وإشكال: كيف سمي الشهران، وبعض الثالث أشهرا؟ والجواب: إن الاثنين قد يقع عليه لفظ الجمع، كما في قوله: (ظهراهما مثل ظهور الترسين)، وأيضا فقد يضاف الفعل إلى الوقت، وإن وقع في بعضه، ويضاف الوقت إليه كذلك، تقول: صليت صلاة يوم الجمعة، وصلاة يوم العيد، وإن كانت الصلاة في بعضه، وقدم زيد يوم كذا، وإن كان قدم في بعضه، فكذلك جاز أن يقال في شهر الحج ذو الحجة، وإن وقع الحج في بعضه.

5. ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ معناه: فمن أوجب على نفسه فيهن الحج، أي: فمن أحرم فيهن بالحج بلا خلاف، أو بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج على مذهبنا.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ﴾:

أ. قيل: كني بالرفث عن الجماع هاهنا عند أصحابنا، وهو قول ابن مسعود وقتادة.

ب. وقيل: هو مواعدة الجماع، والتعريض للنساء به، عن ابن عباس وابن عمر وعطا.

ج. وقيل: هو الجماع والتعريض له بمداعبة أو مواعدة، عن الحسن.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا فُسُوقَ﴾:

أ. روى أصحابنا أنه الكذب.

ب. وقيل: هو معاصي الله كلها، عن ابن عباس والحسن، وقتادة، وهذا أعم، ويدخل فيه الكذب.

ج. وقيل: هو التنابز بالألقاب لقوله: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ عن الضحاك.

د. وقيل: هو السباب لقوله: سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر عن إبراهيم ومجاهد.

هـ. وقال بعضهم: لا يجوز أن يراد به هنا إلا ما نهي المحرم عنه مما يكون حلالا له إذا أحل، لاختصاصه بالنهي عنه، وهذا تخصص للعموم بلا دليل، وقد يقول القائل: ينبغي لك أن تقيد لسانك في رمضان، لئلا يفسد صومك، وقد جاء في الحديث: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولا يكون يوم صومك كيوم فطرك، فإنما خصه بذلك لعظم حرمته.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾:

أ. روى أصحابنا أنه قول لا والله وبلى والله صادقا أو كاذبا.

ب. إنه المراء والسباب والاغضاب على جهة المحك واللجاج، عن ابن عباس وابن مسعود والحسن.

ج. إن معناه لا جدال في أن الحج قد استدار في ذي الحجة، لأنهم كانوا ينسئون الشهور، فيقدمون ويؤخرون فربما اتفق في غيره، عن مجاهد والسدي.

9. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ معناه: ما تفعلوا من خير يجازكم الله العالم به، لأن الله عالم بجميع المعلومات على كل حال، إلا أنه جعل يعلمه في موضع يجازه للمبالغة في صفة العدل أي: إنه يعاملكم معاملة من يعلمه إذا ظهر منكم، فيجازي به، وذلك تأكيد أن الجزاء لا يكون إلا بالفعل دون ما يعلم أنه يكون منهم قبل أن يفعلوه.

10. في قوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ قولان:

أ. أحدهما: إن معناه أن قوما كانوا يرمون بأزوادهم، ويتسمون بالمتوكلة، فقيل لهم: تزودوا من الطعام، ولا تلقوا كلكم على الناس، وخير الزاد مع ذلك التقوى، عن الحسن وقتادة ومجاهد.

ب. الثاني: إن معناه تزودوا من الأعمال الصالحة ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، وذكر ذلك في أثناء أفعال الحج، لأنه أحق شئ بالاستكثار من أعمال البر فيه.

11. ﴿وَاتَّقُونِ﴾ فيما أمرتكم به، ونهيتكم عنه ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ يا ذوي العقول.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾:

أ. قيل: كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج، فرفع الله بهذه اللفظة الإثم عمن يتجر في الحج، عن ابن عباس ومجاهد والحسن وعطاء، وفي هذا تصريح بالإذن في التجارة، وهو المروي عن أئمتنا.

ب. وقيل: كان في الحج اجراء ومكارون، وكان الناس يقولون إنه لا حج لهم فبين سبحانه أنه لا إثم على الحاج في أن يكون أجيرا لغيره، أو مكاريا.

ج. وقيل: معناه لا جناح عليكم أن تطلبوا المغفرة من ربكم، رواه جابر عن أبي جعفر عليه السلام.

﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ أي: دفعتم عنها بعد الاجتماع فيها، ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ وفي هذا دلالة على أن الوقوف بالمشعر الحرام فريضة، كما ذهبنا إليه، لأن ظاهر الأمر على الوجوب، فقد أوجب الله الذكر فيه، ولا يجوز أن يوجب الذكر فيه إلا وقد أوجب الكون فيه، ولأن كل من أوجب الذكر فيه، فقد أوجب الوقوف، وتقدير الكلام: فإذا أفضتم من عرفات، فكونوا بالمشعر الحرام، واذكروا الله فيه.

13. ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ معناه: واذكروه بالثناء والشكر على حسب نعمته عليكم بالهداية، فإن الشكر يجب أن يكون على حسب النعمة في عظم المنزلة، كما يجب أن يكون على مقدارها لو صغرت النعمة، ولا يجوز التسوية بين من عظمت نعمته، وبين من صغرت نعمته، وتقدير الكلام: واذكروه ذكرا مثل هدايته إياكم.

14. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ﴾ أي: وإنكم كنتم ﴿مِنْ قِبَلِهِ﴾:

أ. أي: من قبل الهدى.

ب. وقيل: من قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فتكون الهاء كناية عن غير مذكور.

15. ﴿لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ عن النبوة والشريعة، فهداكم إليه.

16. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: إن المراد به الإفاضة من عرفات، وإنه أمر لقريش وحلفائها، وهم الحمس، لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفة، ولا يفيضون منها، ويقولون: نحن أهل حرم الله، فلا نخرج منه، وكانوا يقفون بالمزدلفة ويفيضون منها، فأمرهم الله بالوقوف بعرفة، والإفاضة منها، كما يفيض الناس، والمراد بالناس سائر العرب، عن ابن عباس وعائشة وعطاء ومجاهد والحسن وقتادة، وهو المروي عن الباقر عليه السلام، وقال الضحاك: إنه أمر لجميع الحاج أن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم، عن الضحاك قال: ولما كان إبراهيم إماما، كان بمنزلة الأمة، فسماه وحده ناسا.

ب. الثاني: إن المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر، قبل طلوع الشمس للرمي والنحر، عن الجبائي قال: والآية تدل عليه لأنه قال: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾، ثم قال: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾ فوجب أن يكون إفاضة ثانية، فدل ذلك على أن الإفاضتين واجبتان.

17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿النَّاسِ﴾:

أ. قيل: المراد به إبراهيم كما أنه في قوله ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ نعيم بن مسعود الأشجعي.

ب. وقيل: إن الناس إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ومن بعدهم من الأنبياء، عن أبي عبد الله.

ج. وقيل: أراد بالناس آدم، عن سعيد بن جبير والزهري.

د. وقيل: هم أهل اليمن وربيعة، عن الكلبي.

هـ. وقيل: هم العلماء الذين يعلمون الدين ويعلمونه الناس.

18. سؤال وإشكال: إذا كان ثم للترتيب، فما معنى الترتيب هاهنا؟ والجواب: روى أصحابنا في جوابه: إن هاهنا تقديما وتأخيرا وتقديره ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾، فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.

19. ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ أي: أطلبوا المغفرة منه بالندم على ما سلف من المعاصي، ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ أي: كثير المغفرة، ﴿رَحِيمٌ﴾ واسع الرحمة.

20. قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ بالرفع، ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ بالفتح، وقرأ أبو جعفر جميع ذلك بالرفع والتنوين، وقرأ الباقون، الجميع بالفتح،الحجة: حجة من فتح الجميع أن يقول: إنه أشد مطابقة للمعنى المقصود،ألا ترى أنه إذا فتح فقد نفى جميع الرفث والفسوق، كما أنه إذا قال: لا ريب، فقد نفى جميع هذا الجنس، فإذا رفع ونون، فكأن النفي لواحد منه، ألا ترى أن سيبويه يرى أنه إذا قال: لا غلام عندك، ولا جارية، فهو جواب من سأل فقال: أغلام عندك أم جارية؟ فالفتح أولى، لأن النفي قد عم، والمعنى عليه، وحجة من رفع أنه يعلم من الفحوى أنه ليس المنفي رفثا واحدا، ولكنه جميع ضروبه، وأن النفي قد يقع فيه الواحد موقع الجميع، وإن لم يبن فيه الاسم مع لا نحو: ما رجل في الدار.

21. مسائل نحوية:

أ. ﴿الْحَجِّ﴾: مبتدأ، و﴿أَشْهُرٍ﴾: خبره، وتقديره أشهر الحج أشهر معلومات، ليكون الثاني هو الأول في المعنى، أو الحج حج أشهر معلومات، فحذف المضاف أي: لا حج إلا في هذه الأشهر، فالأشهر على هذا: متسع فيها، مخرجة عن الظروف، والمعنى على ذلك، ألا ترى أن الحج في الأشهر، وقد يجوز أن يجعل الحج الأشهر على الاتساع، لكونه فيها، ولكثرته من الفاعلين له، كما قالت الخنساء: ترتع ما رتعت حتى ادكرت،...فإنما هي إقبال، وإدبار جعلتها الإقبال والإدبار لكثرتهما منها، وقوله ﴿فَلَا رَفَثَ﴾: إذا فتحت فعلى البناء، وقد تقدم بيانه فيما مضى، وإذا رفعت فعلى الابتداء، ويكون في الحج خبرا لهذه المرفوعات، وإذا فتحت ما قبل المرفوع، وأثبت ما بعده مرفوعا، جاز أن يكون عطفا على الموضع، وجاز أن يكون بمعنى ليس، كما في قوله [1]: من صد عن نيرانها [2]...فأنا ابن قيس لا براح وما بعد الفاء في موضع الرفع، لوقوعه موقع الفعل المضارع بعد الفاء، والفاء مع ما بعده في محل الجزم، أو في محل الرفع، لأنه جواب شرط مبني

ب. ﴿جُنَاحَ﴾: اسم ليس، وخبره: ﴿عَلَيْكُمْ﴾، وموضع ﴿أَنْ تَبْتَغُوا﴾: نصب على تقدير ليس عليكم جناح في أن تبتغوا، فلما سقط في عمل فيها معنى جناح، والمعنى لستم تأثمون في ﴿أَنْ تَبْتَغُوا﴾

ج. عرفات: اسم معرفة لمواضع جرت مجرى موضع واحد لاتصال بعضها ببعض، وإنما صرفت وإن كان فيها سببان من أسباب منع الصرف، وهو التعريف والتأنيث لأنها على حكاية الجمع، فالتنوين فيها بإزاء النون في مسلمون، ولو سميت امرأة بمسلمون لم يحذف هذه النون، وتقول: أقبلت مسلمون، ورأيت مسلمين، ويجوز في عرفات حذف التنوين أيضا، تشبيها بالواحد إذا كان اسما لواحد، إلا أنه لا يكون إلا مكسورا، وإن أسقطت التنوين، ومثلها أذرعات في قول امرئ القيس:

çتنورتها من أذرعات، وأهلها...بيثرب أدنى دارها نظر عالé

أكثر الرواية بالتنوين، وقد أنشد بالكسر بغير تنوين، والأول اختيار النحويين لما ذكرنا من اجرائهم إياه مجرى المسلمون، وأما فتح التاء فخطأ.

د. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ﴾ إن هنا هي المخففة من الثقيلة بدلالة أن لام الابتداء معها، وإذا خففت لم تعمل إن.

هـ. ﴿وكنتم من قبله لمن الضالين﴾ لا موضع له من الإعراب، لأنه وقع بعد حرف غير عامل، وإنما هذه الواو عطفت جملة على جملة.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/529.

(2) يقصد الإمامية.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾، في الحجّ لغتان: فتح الحاء، وهي لأهل الحجاز، وبها قرأ الجمهور، وكسرها، وهي لتميم، وقيل: لأهل نجد، وبها قرأ الحسن، قال سيبويه: يقال: حجّ حجّا، كقولهم: ذكر ذكرا، وقالوا: حجّة، يريدون: عمل سنة، قال الفرّاء: المعنى: وقت الحجّ هذه الأشهر، وقال الزجّاج: معناه: أشهر الحجّ أشهر معلومات.

2. في أشهر الحجّ قولان:

أ. أحدهما: أنها شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة، قاله ابن مسعود، وابن عمر وابن عباس، وابن الزّبير، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، والشّعبيّ، وطاووس والنّخعيّ، وقتادة، ومكحول، والضّحّاك، والسّدّيّ، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل، والشّافعيّ، م.

ب. الثاني: أنها شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، وهو مرويّ عن ابن عمر أيضا، وعطاء، وطاووس ومجاهد، والزّهريّ، والرّبيع، ومالك بن أنس، قال ابن جرير الطّبريّ: إنّما أراد هؤلاء أنّ هذه الأشهر ليست أشهر العمرة، إنما هي للحجّ، وإن كان عمل الحجّ قد انقضى بانقضاء أيام منى، وقد كانوا يستحبّون أن يفعلوا العمرة في غيرها، قال ابن سيرين: ما أحد من أهل العلم شكّ في أنّ عمرة في غير أشهر الحجّ أفضل من عمرة في أشهر الحجّ.

3. إنما قال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ﴾، وهي شهران وبعض الآخر على عادة العرب، قال الفرّاء: تقول العرب: له اليوم يومان لم أره، وإنما هو يوم، وبعض آخر، وتقول: زرتك العام، وأتيتك اليوم، وإنّما وقع الفعل في ساعة، وذكر ابن الأنباريّ في هذا قولين:

أ. أحدهما: أنّ العرب توقع الجمع على التّثنية، إذا كانت التّثنية أقلّ الجمع، كقوله تعالى: ﴿أُولئِكَ مبرّؤون مِمَّا يَقُولُونَ‏﴾، وإنما يريد عائشة وصفوان، وكذلك قوله: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾، يريد: داوود وسليمان.

ب. الثاني: أنّ العرب توقع الوقت الطّويل على الوقت القصير، فيقولون: قتل ابن الزّبير أيام الحجّ، وإنما كان القتل في أقصر وقت.

4. اختلف العلماء فيمن أحرم بالحجّ قبل أشهر الحجّ:

أ. فقال عطاء، وطاووس ومجاهد، والشّافعيّ: لا يجزئه ذلك، وجعلوا فائدة قوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ أنه لا ينعقد الحجّ إلّا فيهنّ.

ب. وقال أبو حنيفة، ومالك، والثّوريّ، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل: يصحّ الإحرام بالحجّ قبل أشهر، فعلى هذا يكون قوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾، أي: معظم الحجّ يقع في هذه الأشهر، كما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الحجّ عرفة)

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾:

أ. قال ابن مسعود: هو الإهلال بالحجّ والإحرام به.

ب. وقال طاووس وعطاء: هو أن يلبّي.

ج. وروي عن عليّ وابن عمر ومجاهد والشّعبيّ في آخرين: أنه إذا قلّد بدنته فقد أحرم، وهذا محمول على أنه قلّدها ناويا الحجّ.

د. ونصّ الإمام أحمد بن حنبل في رواية الأثرم: أنّ الإحرام بالنّيّة، قيل له: يكون محرما بغير تلبية؟ قال نعم إذا عزم على الإحرام، وهذا قول مالك والشّافعيّ، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الدّخول في الإحرام إلّا بالتّلبية أو تقليد الهدي وسوقه.

6. ﴿فَلَا رَفَثَ﴾، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر: (فلا رفث ولا فسوق) بالضّمّ والتنوين، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ بغير تنوين، ولم يرفع أحد منهم لام (جدال) إلا أبو جعفر، قال أبو عليّ: حجّة من فتح أنه أشدّ مطابقة للمعنى المقصود، لأنه بالفتح قد نفى جميع الرّفث والفسوق، كقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، فإذا رفع ونوّن، كان النفي لواحد منه، وإنما فتحوا لام (الجدال)، ليتناول النفي جميع جنسه، فكذلك ينبغي أن يكون جمع الاسمين قبله، وحجّة من رفع أنه قد علم من فحوى الكلام نفي جميع الرّفث، وقد يكون اللفظ واحدا والمراد بالمعنى الجميع، قال الشاعر: (فقتلا بتقتيل وضربا بضربكم)

7. في الرّفث ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه الجماع، قاله ابن عمر، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة في آخرين.

ب. الثاني: أنه الجماع، وما دونه من التّعريض به، وهو مرويّ عن ابن عمر أيضا، وابن عباس، وعمرو بن دينار في آخرين.

ج. الثالث: أنه اللّغو من الكلام، قاله أبو عبد الرّحمن اليزيديّ.

8. في الفسوق ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه السّباب، قاله ابن عمر، وابن عباس، وإبراهيم في آخرين.

ب. الثاني: أنه التّنابز بالألقاب، مثل أن تقول لأخيك: يا فاسق، يا ظالم، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.

ج. الثالث: أنه المعاصي، قاله الحسن، وعطاء، وطاووس ومجاهد، وقتادة في آخرين، وهو الذي نختاره، لأنّ المعاصي تشمل الكلّ، ولأنّ الفاسق: الخارج من الطّاعة إلى المعصية.

9. ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، الجدال: المراء، وفي معنى الكلام قولان:

أ. أحدهما: أنّ معناه: لا يمارينّ أحد أحدا، فيخرجه المراء إلى الغضب، وفعل ما لا يليق بالحجّ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عمر، وابن عباس، وطاووس وعطاء، وعكرمة، والنّخعيّ، وقتادة، والزّهريّ، والضّحّاك في آخرين.

ب. الثاني: أنّ معناه: لا شكّ في الحجّ ولا مراء، فإنه قد استقام أمره وعرف وقته وزال النّسيء عنه، قال مجاهد: كانوا يحجّون في ذي الحجّة عامين، وفي المحرّم عامين، ثم حجّوا في صفر عامين، وكانوا يحجّون في كلّ سنة في كلّ شهر عامين حتى وافقت حجّة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بسنة، ثم حجّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من قابل في ذي الحجّة، فذلك حين قال: (إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض)، وإلى هذا المعنى ذهب السّدّيّ عن أشياخه، والقاسم بن محمّد.

10. ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ قال ابن عباس: كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون: نحن المتوكّلون، فيسألون الناس، فأنزل الله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، قال الزجّاج: أمروا أن يتزوّدوا، وأعلموا أن خير ما تزوّد تقوى الله عزّ وجلّ.

11. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، قال ابن عباس: كانوا يتّقون البيوع والتّجارة في الموسم، ويقولون: أيّام ذكر؛ فنزلت هذه الآية.

12. الابتغاء: الالتماس، والفضل هاهنا: النّفع بالتّجارة والكسب؛ قال ابن قتيبة: أفضتم، بمعنى: دفعتم، وقال الزجّاج: معناه: دفعتم بكثرة، يقال: أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا فيه، وأكثروا التّصرّف.

13. في تسمية (عرفات) قولان:

أ. أحدهما: أنّ الله تعالى بعث جبريل إلى إبراهيم فحجّ به، فلمّا أتى عرفات قال قد عرفت، فسمّيت (عرفة)، قاله عليّ عليه السّلام‏.

ب. الثاني: أنها سمّيت بذلك لاجتماع آدم وحوّاء، وتعارفهما بها، قاله الضّحّاك‏، قال الزجّاج؛ والمشعر: المعلم، سمّي بذلك لأنّ الصلاة عنده، والمقام والمبيت والدّعاء من معالم الحجّ، وهو مزدلفة وهي جمع يسمّى بالاسمين.

14. قال ابن عمر ومجاهد: المشعر الحرام المزدلفة كلّها.

15. ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾، أي: جزاء هدايته لكم، وفي فائدة تكرير الذّكر أربعة وجوه:

أ. أحدها: أنه كرّره للمبالغة في الأمر به.

ب. الثاني: أنه وصل بالذّكر الثاني ما لم يصل بالذّكر الأوّل، فحسن تكريره، فالمعنى: اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته.

ج. الثالث: أنه كرّره ليدلّ على مواصلته، والمعنى: اذكروه ذكرا بعد ذكر، ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم النّحويّ.

د. الرابع: أنّ الذّكر في قوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾، هو: صلاة المغرب والعشاء اللّتان يجمع بينهما بالمزدلفة، والذّكر في قوله: ﴿كَمَا هَدَاكُمْ﴾ هو: الذّكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع، حكاه القاضي أبو يعلى.

16. في هاء الكناية في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها ترجع إلى الإسلام، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: أنها ترجع إلى الهدى، قاله مقاتل، والزجّاج.

ج. الثالث: أنها ترجع إلى القرآن، قاله سفيان الثّوريّ.

17. ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾، قالت عائشة: كانت قريش ومن يدين بدينها، وهم الحمس، يقفون عشيّة عرفة بالمزدلفة، يقولون: نحن قطين البيت، وكان بقية العرب والناس يقفون بعرفات، فنزلت هذه الآية، قال الزجّاج: سمّوا الحمس لأنهم تحمّسوا في دينهم، أي: تشدّدوا، والحماسة: الشّدّة في كلّ شيء.

18. في المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال‏:

أ. أحدها: أنهم جميع العرب غير الحمس، ويدلّ عليه حديث عائشة، وهو قول عروة، ومجاهد، وقتادة.

ب. الثاني: أنّ المراد بالناس هاهنا: إبراهيم الخليل عليه السّلام، قاله الضّحّاك بن مزاحم.

ج. الثالث: أنّ المراد بالناس آدم، قاله الزّهريّ، وقد قرأ أبو المتوكّل، وأبو نهيك، ومورّق العجليّ: (النّاسي) بإثبات الياء.

د. الرابع: أنهم أهل اليمن وربيعة، فإنهم كانوا يفيضون من عرفات، قاله مقاتل.

19. في المخاطبين بذلك قولان:

أ. أحدهما: أنه خطاب لقريش، وهو قول الجمهور.

ب. الثاني: أنه خطاب لجميع المسلمين، وهو يخرّج على قول من قال النّاس آدم، أو إبراهيم.

20. الإفاضة هاهنا على ما يقتضيه ظاهر اللفظ: هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى صبيحة النّحر، إلّا أنّ جمهور المفسّرين على أنها الإفاضة من عرفات، فظاهر الكلام لا يقتضي ذلك، كيف يقال: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾، ثم أفيضوا من عرفات!؟ غير أنّي أقول: وجه الكلام على ما قال أهل التّفسير: إنّ فيه تقديما وتأخيرا، تقديره: ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله.

21. ﴿الْغَفُورُ﴾: من أسماء الله، عزّ وجلّ، وهو من قولك: غفرت الشيء: إذا غطّيته، فكأنّ الغفور السّاتر لعبده برحمته، أو السّاتر لذنوب عباده، والغفور: هو الذي يكثر المغفرة، لأنّ بناء المفعول للمبالغة من الكثرة، كقولك: صبور، وضروب، وأكول.

__________

(1) زاد المسير: 1/164.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. من المعلوم بالضرورة أن الحج ليس نفس الأشهر فلا بد هاهنا من تأويل وفيه وجوه:

أ. أحدها: التقدير: أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف وهو كقولهم: البرد شهران، أي وقت البرد شهران.

ب. الثاني: التقدير الحج حج أشهر معلومات، أي لا حج إلا في هذه الأشهر، ولا يجوز في غيرها كما كان أهل الجاهلية يستجيزونها في غيرها من الأشهر، فحذف المصدر المضاف إلى الأشهر.

ج. الثالث: يمكن تصحيح الآية من غير إضمار وهو أنه جعل الأشهر نفس الحج لما كان الحج فيها كقولهم: ليل قائم، ونهار صائم.

2. أجمع المفسرون على أن شوالا وذا القعدة من أشهر الحج واختلفوا في ذي الحجة:

أ. فقال عروة بن الزبير: إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك.

ب. وقال أبو حنيفة: العشر الأول من ذي الحجة من أشهر الحج، وهو قول ابن عباس وابن عمر والنخعي والشعبي ومجاهد والحسن.

ج. وقال الشافعي: التسعة الأولى من ذي الحجة من ليلة النحر من أشهر الحج.

3. احتج من ذكر أنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك بوجوه:

أ. الأول: أن الله تعالى ذكر الأشهر تلفظ الجمع وأقله ثلاثة.

ب. الثاني: أن أيام النحر يفعل فيها بعض ما يتصل بالحج، وهو رمي الجمار والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيام بعد العشر، ومذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر.

4. أجاب المخالفون لمالك:

أ. عن الأول: من وجهين:

أحدهما: أن لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد، بدليل قوله: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: 4]

الثاني: أنه نزل بعض الشهر منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا إنما رآه في ساعة منها والجواب عن.

ب. عن الثاني: أن رمي الجمار يفعله الإنسان وقد حج بالحلق والطواف والنحر من إحرامه فكأنه ليس من أعمال الحج، والحائض إذا طافت بعده فكأنه في حكم القضاء لا في حكم الأداء.

5. الذين قالوا إن عشرة أيام من أول ذي الحجة هي من أشهر الحج، تمسكوا فيه بوجهين:

أ. الأول: أن من المفسرين من زعم أن يوم الحج الأكبر يوم النحر.

ب. الثاني: أن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج، وهو طواف الزيارة، وأما الشافعي فإنه احتج على قوله بأن الحج يفوت بطلوع الفجر يوم النحر، والعبادة لا تكون فائته مع بقاء وقتها، فهذا تقرير هذه المذاهب.

6. سؤال وإشكال: أنه تعالى قال من قبل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189] فجعل كل الأهلة مواقيت للحج، والجواب: أن تلك الآية عامة، وهذه الآية وهي قوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ خاصة والخاص مقدم على العام.

7. سؤال وإشكال: أنه اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا: من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله، ومن بعد داره البعد الشديد لا يجوز أن يحرم من دويرة أهله بالحج إلا قبل أشهر الحج، وهذا يدل على أن أشهر الحج غير مقيدة بزمان مخصوص، والجواب: أن النص لا يعارضه الأثر المروي عن الصحابة.

8. في قوله تعالى: ﴿مَعْلُومَاتٍ﴾ وجوه:

أ. أحدها: أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها، ليس كالعمرة التي يؤتي بها في السنة مرارا، وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع وعلى هذا القول، فالشرع لم يأت على خلاف ما عرفوا وإنما جاء مقررا له.

ب. الثاني: أن المراد بها معلومات ببيان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ج. الثالث: المراد بها أنها مؤقتة في أوقات معينة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها، لا كما يفعله الذين نزل فيهم:‏ ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: 37]

9. اختلف في الإهلال بالحج قبل أشهر الحج:

أ. قال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج، وبه قال أحمد وإسحاق، واحتج بقوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ وأشهر جمع تقليل على سبيل التنكير، فلا يتناول الكل، وإنما أكثره إلى عشرة وأدناه ثلاثة وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى، فثبت أن المراد أن أشهر الحج ثلاثة، والمفسرون اتفقوا على أن تلك الثلاثة: شوال، وذو القعدة، وبعض من ذي الحجة، وإذا ثبت هذا وجب أن لا يجوز الإحرام بالحج قبل الوقت، ويدل عليه ثلاثة أوجه:

الأول: أن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياسا على الصلاة.

الثاني: أن الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت، لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر، حكما فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى.

الثالث: أن الإحرام لا يبقى صحيحا لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء فلأن لا ينعقد صحيحا لأداء الحج قبل الوقت أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء.

ب. قال مالك والثوري وأبو حنيفة: لا يجوز في جميع السنة، وحجة أبي حنيفة وجهان:

الأول: قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [الحج: 189] فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج، وهي ليست بمواقيت للحج فثبت إذن أنها مواقيت لصحة الإحرام، ويجوز أن يسمى الإحرام حجا مجازا كما سمي الوقت حجا في قوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ بل هذا أولى لأن الإحرام إلى الحج أقرب من الوقت.

الثاني: أن الإحرام التزام للحج، فجاز تقديمه على الوقت كالنذر.

10. أجاب القائلون بأنه لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج:

أ. عن الأول: أن الآية التي ذكرناها أخص من الآية التي تمسكتم بها.

ب. عن الثاني: أن الفرق بين النذر وبين الإحرام أن الوقت معتبر لأداء والاتصال للنذر بالأداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ، وأما الإحرام فإنه مع كونه التزاما فهو أيضا شروع في الأداء وعقد عليه، فلا جرم افتقر إلى الوقت.

11. معنى‏ ﴿فَرَضَ﴾ في اللغة ألزم وأوجب، يقال: فرضت عليك كذا أي أوجبته وأصل معنى الفرض في اللغة الحز والقطع، قال ابن الأعرابي: الفرض الحز في القدح وفي الوتد وفي غيره، وفرضة القوس، الحز الذي يقع فيه الوتر، وفرضة الوتد الحز الذي فيه، ومنه فرض الصلاة وغيرها، لأنها لازمة للعبد، كلزوم الحز للقدح، ففرض هاهنا بمعنى أوجب، وقد جاء في القرآن: فرض بمعنى أبان، وهو قوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾ [النور: 1] بالتخفيف، وقوله: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم: 2] وهذا أيضا راجع إلى معنى القطع، لأن من قطع شيئا فقد أبانه من غيره والله تعالى إذا فرض شيئا أبانه عن غيره، ففرض بمعنى أوجب، وفرض بمعنى أبان، كلاهما يرجع إلى أصل واحد.

12. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ حذف، والتقدير: فمن ألزم نفسه فيهن الحج، والمراد بهذا الفرض ما به يصير المحرم محرما إذ لا خلاف أنه لا يصير حاجا إلا بفعل يفعله، فيخرج عن أن يكون حلالا ويحرم عليه الصيد واللبس والطيب والنساء والتغطية للرأس إلى غير ذلك، ولأجل تحريم هذه الأمور عليه سمي محرما، لأنه فعل ما حرم به هذه الأشياء على نفسه، ولهذا السبب أيضا سميت البقعة حرما لأنه يحرم ما يكون فيها مما لولاه كان لا يحرم فقوله تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ يدل على أنه لا بد للمحرم من فعل يفعله لأجله يصير حاجا ومحرما.

13. اختلف الفقهاء في الفعل الذي يتحقق به فرض الحج:

أ. قال الشافعي: أنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية، وحجة الشافعي، ومن وافقه وجوه:

الأول: قوله تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ وفرض الحج لا يمكن أن يكون عبارة عن التلبية أو سوق الهدي فإنه لا إشعار ألبتة في التلبية بكونه محرما لا بحقيقة ولا بمجاز فلم يبق إلا أن يكون فرض الحج عبارة عن النية، وفرض الحج موجب لانعقاد الحج، بدليل قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ﴾ فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج.

الثاني: ظاهر قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وإنما لكل امرئ ما نوى)

الثالث: القياس وهو أن ابتداء الحج كف عن المحظورات، فيصح الشروع فيه بالنية كالصوم.

ب. وقال أبو حنيفة: لا يصح الشروع في الإحرام بمجرد النية حتى ينضم إليها التلبية أو سوق الهدى، وحجة أبي حنيفة، ومن وافقه وجهان:

الأول: ما روي أبو منصور الماتريدي في (تفسيره) عن عائشة أنها قالت: لا يحرم إلا من أهل أو لبّى.

الثاني: أن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع فيه إلا بنفس النية كالصلاة.

ج. قال القفال في (تفسيره): يروى عن جماعة أن من أشعر هديه أو قلده فقد أحرم، وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال إذا قلد أو أشعر فقد أحرم، وعن ابن عباس: إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة والحج فقد أحرم.

14. قرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ بالرفع والتنوين‏ ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ بالنصب، والباقون قرؤوا الكل بالنصب، والكلام في الفرق بين القراءتين في المعنى يجب أن يكون مسبوقا بمقدمتين:

أ. الأولى: أن كل شيء له اسم، فجوهر الاسم دليل على جوهر المسمى، وحركات الاسم وسائر أحواله دليل على أحوال المسمى، فقولك: رجل يفيد الماهية المخصوصة، وحركات هذه اللفظة، أعني كونها منصوبة ومرفوعة ومجرورة، دال على أحوال تلك الماهية وهي المفعولية والفاعلية والمضافية، وهذا هو الترتيب العقلي حتى يكون الأصل بإزاء الأصل، والصفة بإزاء الصفة، فعلى هذا الأسماء الدالة على الماهيات ينبغي أن يتلفظ بها ساكنة الأواخر فيقال: رحل جدار حجر، وذلك لأن تلك الحركات لما وضعت لتعريف أحوال مختلفة في ذات المسمى فحيث أريد تعريف المسمى من غير التفات إلى تعريف شيء من أحواله وجب جعل اللفظ خاليا عن الحركات، فإن أريد في‏ بعض الأوقات تحريكه وجب أن يقال بالنصب، لأنه أخف الحركات وأقربها إلى السكون.

ب. الثانية: إذا قلت: لا رجل بالنصب، فقد نفيت الماهية، وانتفاء الماهية يوجب انتفاء جميع أفرادها قطعا، أما إذا قلت: لا رجل بالرفع والتنوين، فقد نفيت رجلا منكرا مبهما، وهذا بوصفه لا يوجب انتفاء جميع أفراد هذه الماهية إلا بدليل منفصل، فثبت أن قولك: لا رجل بالنصب أدل على عموم النفي من قولك: لا رجل بالرفع والتنوين.

15. إذا عرفت هاتين المقدمتين فلنرجع إلى الفرق بين القراءتين:

أ. أما الذين قرؤوا ثلاثة: بالنصب فلا إشكال، وأما الذين قرؤوا الأولين بالرفع مع التنوين، والثالث بالنصب فذلك يدل على أن الاهتمام بنفي الجدال أشد من الاهتمام بنفي الرفث والفسوق وذلك لأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة والجدال مشتمل على ذلك، لأن المجادل يشتهي تمشية قوله، والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله، والمجادل لا ينقاد للحق، وكثيرا ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء فلما كان الجدال مشتملا على جميع أنواع القبح لا جرم خصه الله تعالى في هذه القراءة بمزيد الزجر والمبالغة في النفي.

ب. أما المفسرون فإنهم قالوا: من قرأ الأولين بالرفث والثالث بالنصب فقد حمل الأولين على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكون رفث ولا فسوق وحمل الثالث على الإخبار بانتفاء الجدال، هذا ما قالوه إلا أنه ليس بيان أنه لم خص الأولان بالنهي وخص الثالث بالنفي.

16. الرفث فسرناه في قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة: 187] والمراد:

أ. قيل: الجماع.

ب. وقال الحسن: المراد منه كل ما يتعلق بالجماع فالرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها، والرفث باليد اللمس والغمز، والرفث بالفرج الجماع، وهؤلاء قالوا: التلفظ به في غيبة النساء لا يكون رفثا.

ج. وقال آخرون: الرفث هو قول الخنا والفحش، واحتج هؤلاء بالخبر واللغة:

أما الخبر فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم)، ومعلوم أن الرفث هاهنا لا يحتمل إلا قول الخنا والفحش.

أما اللغة فهو أنه روي عن أبي عبيد أنّه قال: الرفث الإفحاش في المنطق، يقال أرفث الرجل إرفاثا، وقال أبو عبيدة: الرفث اللغو من الكلام.

17. الفسق والفسوق واحد وهما مصدران لفسق يفسق، وقد ذكرنا فيما قبل أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة، واختلف المفسّرون:

أ. كثير من المحققين حملوه على كل المعاصي قالوا: لأن اللفظ صالح للكل ومتناول له، والنهي عن الشيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه، فحمل اللفظ على بعض أنواع الفسوق تحكم من غير دليل، وهذا متأكد بقوله تعالى: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: 50]، وبقوله: ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ [الحجرات: 7]

ب. وذهب بعضهم إلى أن المراد منه بعض الأنواع ثم ذكروا وجوها:

الأول: المراد منه السباب واحتجوا عليه بالقرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ [الحجرات: 11] وأما الخبر فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)

الثاني: المراد منه الإيذاء والإفحاش، قال تعالى: ﴿لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ‏﴾ [البقرة: 282]

الثالث: قال ابن زيد: هو الذبح للأصنام فإنهم كانوا في حجهم يذبحون لأجل الحج، ولأجل الأصنام، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: 121] وقوله: ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام: 145]

الرابع: قال ابن عمر: إنه العاصي في قتل الصيد وغيره مما يمنع الإحرام منه.

الخامس: أن الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة، والفسوق هو الجماع ومقدماته على سبيل الزنا.

السادس: قال محمد بن الطبري: الفسوق، هو العزم على الحج إذا لم يعزم على ترك محظوراته.

18. الجدال: فعال من المجادلة، وأصله من الجدل الذي من القتل، يقال: زمام مجدول وجديل، أي مفتول، والجديل اسم الزمام لأنه لا يكون إلا مفتولا، وسميت المخاصمة مجادلة لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه، وذكر المفسرون وجوها في هذا الجدال:

أ. الأول: قال الحسن: هو الجدال الذي يخاف منه الخروج إلى السباب والتكذيب والتجهيل.

ب. الثاني: قال محمد بن كعب القرظي: إن قريشا كانوا إذا اجتمعوا بمنى، قال بعضهم: حجنا أتم، وقال آخرون: بل حجنا أتم، فنهاهم الله تعالى عن ذلك.

ج. الثالث: قال مالك في (الموطأ) الجدال في الحج أن قريشا كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح وكان غيرهم يقفون بعرفات وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء: نحن أصوب، ويقول هؤلاء: نحن أصوب، قال الله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحج: 67، 68] قال مالك هذا هو الجدال فيما يروى والله أعلم.

د. الرابع: قال القاسم بن محمد: الجدال في الحج أن يقول بعضهم: الحج اليوم، وآخرون يقولون: بل غدا، وذلك انهم أمروا أن يجعلوا حساب الشهور على رؤية الأهلة، وآخرون كانوا يجعلونه على العدد فبهذا السبب كانوا يختلفون فبعضهم يقول: هذا اليوم يوم العيد وبعضهم يقول: بل غدا، فالله تعالى نهاهم عن ذلك، فكأنه قيل لهم: قد بينا لكم أن الأهلة مواقيت للناس والحج، فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه من غير هذه الجهة.

هـ. الخامس: قال القفال تعالى: يدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق عليهم ذلك وقالوا: نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) وتركوا الجدال حينئذ.

و. السادس: قال عبد الرحمن بن زيد: جدالهم في الحج بسبب اختلافهم في أيهم المصيب في الحج لوقت إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ز. السابع: أنهم كانوا مختلفين في السنين فقيل لهم: لا جدال في الحج فإن الزمان استدار وعاد إلى ما كان‏ عليه الحج في وقت إبراهيم عليه السلام، وهو المراد بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجة الوداع: (ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض)

19. ذكر القاضي كلاما حسنا في هذا الموضع فقال: قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ يحتمل أن يكون خبرا وأن يكون نهيا كقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [السجدة: 2] أي لا ترتابوا فيه:

أ. وظاهر اللفظ للخبر فإذا حملناه على الخبر كان معناه أن الحج لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال، بل يفسد لأنه كالضد لها وهي مانعة من صحته، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى، إلا أن يراد بالرفث الجماع المفسد للحج، ويحمل الفسوق على الزنا لأنه يفسد الحج، ويحمل الجدال على الشك في الحج ووجوبه لأن ذلك يكون كفرا فلا يصح معه الحج وإنما حملنا هذه الألفاظ الثلاثة على هذه المعاني حتى يصح خبر الله بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج، فإن قيل: أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحج فاسدا ويجب على صاحبه المضي فيه، وإذا كان الحج باقيا معها لم يصدق الخبر بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج، قلنا: المراد من الآية حصول المضادة بين هذه الأشياء وبين الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء، وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء بدليل أنه يجب قضاؤها، والحجة الفاسدة التي يجب عليه المضي فيها شيء آخر سوى تلك الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء، وأما الجدال الحاصل بسبب الشك في وجوب الحج فظاهر أنه لا يبقى معه عمل الحج لأن ذلك كفر وعمل الحج مشروط بالإسلام فثبت أنا إذا حملنا اللفظ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق الجدال على ما ذكرناه.

ب. أما إذا حملناه على النهي وهو في الحقيقة عدول عن ظاهر اللفظ فقد يصح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش، وأن يراد بالفسوق جميع أنواعه، وبالجدال جميع أنواعه، لأن اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام فيكون النهي عنها نهيا عن جميع أقسامها، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية كالحث على الأخلاق الجميلة، والتمسك بالآداب الحسنة، والاحتراز عما يحبط ثواب الطاعات.

20. الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص، وهو قوله: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة: قوة شهوانية بهيمية، وقوة غضبية سبعية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة، أعني الشهوانية، والغضبية، والوهمية:

أ. فقوله‏ ﴿فَلَا رَفَثَ﴾ إشارة إلى قهر الشهوانية.

ب. وقوله: ﴿وَلَا فُسُوقَ﴾ إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب.

ج. وقوله: ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأسمائه، وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم، والمخاصمة معهم في كل شيء.

21. لما كان منشأ الشر محصورا في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله، والانخراط في سلك الخواص من عباده، فلا يكون فيه هذه الأمور، وهذه أسرار نفسية هي المقصد الأقصى من هذه الآيات، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلا عنها، ومن الله التوفيق في كل الأمور.

22. من الناس من عاب الاستدلال والبحث والنظر والجدال واحتج بوجوه:

أ. أحدها: أنه تعالى قال ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال، ولو كان الجدال في الدين طاعة وسبيلا إلى معرفة الله تعالى لما نهى عنه في الحج، بل على ذلك التقدير كان الاشتغال بالجدال في الحج ضم طاعة إلى طاعة فكان أولى بالترغيب فيه.

ب. ثانيها: قوله تعالى: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: 58] عابهم بكونهم من أهل الجدل، وذلك يدل على أن الجدل مذموم.

ج. ثالثها: قوله: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46] نهي عن المنازعة.

23. جمهور المتكلمين قالوا: الجدال في الدين طاعة عظيمة، واحتجوا عليه بقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125] وبقوله تعالى حكاية عن الكفار إنهم قالوا لنوح عليه السلام: ﴿يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ [هود: 32] ومعلوم أنه ما كان ذلك الجدال إلا لتقرير أصول الدين.

24. التوفيق بين هذه النصوص، هو:

أ. أن نحمل الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل، وطلب المال والجاه.

ب. والجدل الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله، والذب عن دين الله تعالى.

25. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197] قبل هذه الآية أمر الله تعالى بفعل ما هو خير وطاعة، فقال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ [البقرة: 196]، وقال: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ ونهى عما هو شر ومعصية فقال: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ ثم عقب الكل بقوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ وقد كان الأولى في الظاهر أن يقال: وما تفعلوا من شيء يعلمه الله، حتى يتناول كل ما تقدم من الخير والشر، إلا أنه تعالى خص الخير بأنه يعلمه الله لفوائد ولطائف:

أ. أحدها: إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته، وإذا علمت منك الشر سترته وأخفيته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا، فكيف في العقبى.

ب. ثانيها: أن من المفسرين من قال في تفسير قوله: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ [طه: 15] معناه: لو أمكنني أن أخفيها عن نفسي لفعلت فكذا هذه الآية، كأنه قيل للعبد: ما تفعله من خير علمته، وأما الذي تفعله من الشر فلو أمكن أن أخفيه عن نفسي لفعلت ذلك.

ج. ثالثها: أن السلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع: كل ما تتحمله من أنواع المشقة والخدمة في حقي فأنا عالم به ومطلع عليه، كان هذا وعدا له بالثواب العظيم، ولو قال ذلك لعبده المذنب المتمرد كان توعدا بالعقاب الشديد، ولما كان الحق سبحانه أكرم الأكرمين لا جرم ذكر ما يدل على الوعد بالثواب، ولم يذكر ما يدل على الوعيد بالعقاب.

د. رابعها: أن‏ جبريل عليه السلام لما قال ما الإحسان؟ فقال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فههنا بين للعبد أنه يراه ويعلم جميع ما يفعله من الخيرات لتكون طاعة العبد للرب من الإحسان الذي هو أعلى درجات العبادة، فإن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه ليس بغافل عن أحواله كان أحرص على العمل وأكثر التذاذا به وأقل نفرة عنه.

هـ. خامسها: أن الخادم إذا علم اطلاع المخدوم على جميع أحواله وما يفعله كان جده واجتهاده في أداء الطاعات وفي الاحتراز عن المحظورات أشد مما إذا لم يكن كذلك، فلهذه الوجوه أتبع تعالى الأمر بالحج والنهي عن الرفث والفسوق والجدال بقوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾

26. في قوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن المراد: وتزودوا من التقوى، والدليل عليه قوله بعد ذلك: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران: سفر في الدنيا وسفر من الدنيا، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد، وهو الطعام والشراب والمركب والمال، والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضا من زاد، وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه، وهذا الزاد خير من زاد الأول لوجوه:

الأول: أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن.

ثانيها: أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم.

ثالثها: أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرة، آمنة من الانقطاع والزوال.

رابعها: أن زاد الدنيا وهي كل ساعة في الإدبار والانقضاء، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة، وهي كل ساعة في الإقبال والقرب والوصول.

خامسها: أن زاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشهوة والنفس، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس، فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى.

فكأنه تعالى قال لما ثبت أن خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب، يعني إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأمور وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد لما فيه كثرة المنافع، وقال الأعشى في تقرير هذا المعنى:

çإذا أنت لم ترحل بزاد من التقى‏...ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله‏...وأنك لم ترصد كما كان أرصداé

ب. الثاني: أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون: إنا متوكلون، ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموا الناس وغصبوهم، فأمرهم الله تعالى أن يتزودوا، فقال: وتزودوا ما تبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم، وعن ابن زيد: أن قبائل من العرب كانوا يحرمون الزاد في الحج والعمرة فنزلت، وروى محمد بن جرير الطبري عن ابن عمر قال كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها فنهوا عن ذلك بهذه الآية قال القاضي: وهذا بعيد لأن قوله: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ راجع إلى قوله: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ فكان تقديره: وتزودوا من التقوى والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات، فإن أردنا تصحيح هذا القول، ففيه وجهان:

أحدهما: أن القادر على أن يستصحب الزاد في السفر إذا لم يستصحبه عصى الله في ذلك، فعلى هذا الطريق صح دخوله تحت الآية.

الثاني: أن يكون في الكلام حذف ويكون المراد: وتزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى.

27. ﴿وَاتَّقُونِ﴾ فيه تنبيه على كمال عظمة الله وجلاله، وهو كقول الشاعر: (أنا أبو النجم وشعري شعري‏)، وأثبت أبو عمرو الياء في قوله: ﴿وَاتَّقُونِ﴾ على الأصل، وحذفها الآخرون للتخفيف ودلالة الكسر عليه.

28. ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ لباب الشيء ولبه هو الخالص منه، ثم اختلفوا بعد ذلك:

أ. فقال بعضهم: إنه اسم للعقل لأنه أشرف ما في الإنسان، والذي تميز به الإنسان عن البهائم وقرب من درجة الملائكة، واستعد به للتمييز بين خير الخيرين، وشر الشرين.

ب. وقال آخرون: أنه في الأصل اسم للقلب الذي هو محل العقل، والقلب قد يجعل كناية عن العقل قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37] فكذا هاهنا جعل اللب كناية عن العقل، فقوله: ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ معناه: يا أولي العقول، وإطلاق اسم المحل على الحال مجاز مشهور، فإنه يقال لمن له غيرة وحمية: فلان له نفس، ولمن ليس له حمية: فلان لا نفس له فكذا هاهنا.

29. سؤال وإشكال: إذا كان لا يصح إلا خطاب العقلاء فما الفائدة في قوله: ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، والجواب: معناه: إنكم لما كنتم من أولي الألباب كنتم متمكنين من معرفة هذه الأشياء والعمل بها فكان وجوبها عليكم أثبت وإعراضكم عنها أقبح، ولهذا قال الشاعر:

çولم أر في عيوب الناس شيئا...كنقص القادرين على التمام‏é

ولهذا قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: 179] يعني الأنعام معذورة بسبب العجز، أما هؤلاء القادرون فكان إعراضهم أفحش، فلا جرم كانوا أضل.

30. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ في الآية حذف والتقدير: ليس عليكم جناح في أن تبتغوا فضلا.

31. الشبهة كان حاصلة في حرمة التجارة في الحج من وجوه:

أ. أحدها: أنه تعالى منع عن الجدال فيما قبل هذه الآية، والتجارة كثيرة الإفضاء إلى المنازعة بسبب المنازعة في قلة القيمة وكثرتها، فوجب أن تكون التجارة محرمة وقت الحج.

ب. ثانيها: أن التجارة كانت محرمة وقت الحج في دين أهل الجاهلية، فظاهر ذلك شيء مستحسن لأن المشتغل بالحج مشتغل بخدمة الله تعالى، فوجب أن لا يتلطخ هذا العمل منه بالأطماع الدنيوية.

ج. ثالثها: أن المسلمين لما علموا أنه صار كثير من المباحات محرمة عليهم في وقت الحج، كاللبس والطيب والاصطياد والمباشرة مع الأهل غلب على ظنهم أن الحج لما صار سببا لحرمة اللبس مع مساس الحاجة إليه فبأن يصير سببا لحرمة التجارة مع قلة الحاجة إليها كان أولى.

د. رابعها: عند الاشتغال بالصلاة يحرم الاشتغال بسائر الطاعات فضلا عن المباحات فوجب أن يكون الأمر كذلك في الحج فهذه الوجوه تصلح أن تصير شبهة في تحريم الاشتغال بالتجارة عند الاشتغال بالحج، فلهذا السبب بين الله تعالى هاهنا أن التجارة جائزة غير محرمة.

32. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ على وجوه:

أ. الأول: أن المراد هو التجارة، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [المزمل: 20] وقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ [القصص: 73]

ب. الثاني قول أبي مسلم فإنه حمل الآية على ما بعد الحج، قال: والتقدير: فاتقون في كل أفعال الحج، ثم بعد ذلك‏ ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾

ج. الثالث: أن المراد بقوله تعالى: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجا أعمالا أخرى تكون موجبة لاستحقاق فضل الله ورحمته مثل إعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وهذا القول منسوب إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام، واعترض القاضي عليه بأن هذا واجب أو مندوب، ولا يقال في مثله: لا جناح عليكم فيه، وإنما يذكر هذا اللفظ في المباحات، والجواب: لا نسلم أن هذا اللفظ لا يذكر إلا في المباحات والدليل عليه قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ [النساء: 101] والقصر بالإنفاق من المندوبات، وأيضا فأهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن ضم سائر الطاعات إلى الحج يوقع خللا في الحج ونقصا فيه، فبين الله تعالى أن الأمر ليس كذلك بقوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ [الممتحنة: 10]

33. الذي يدل على صحة كون المراد من قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ هو التجارة وجهان:

أ. الأول: ما روى عطاء عن ابن مسعود وابن الزبير أنهما قرءا: أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج.

ب. الثاني: الروايات المذكورة في سبب النزول:

فالرواية الأولى: قال ابن عباس: كان ناس من العرب يحترزون من التجارة في أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في ترك البيع والشراء بالكلية، وكانوا يسمون التاجر في الحج: الداج ويقولون: هؤلاء الداج، وليسوا بالحاج، ومعنى الداج: المكتسب الملتقط، وهو مشتق من الدجاجة، وبالغوا في الاحتراز عن الأعمال، إلى أن امتنعوا عن إغاثة الملهوف، وإغاثة الضعيف وإطعام الجائع، فأزال الله تعالى هذا الوهم، وبين أنه لا جناح في التجارة، ثم أنه لما كان ما قبل هذه الآية في أحكام الحج، وما بعدها أيضا في الحج، وهو قوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ دل ذلك على أن هذا الحكم واقع في زمان الحج، فلهذا السبب استغنى عن ذكره.

والرواية الثانية: ما روي عن ابن عمر أن رجلا قال له إنا قوم نكري وإن قوما يزعمون أنه لا حج لنا، فقال: سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عما سألت ولم يرد عليه حتى نزل قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ فدعاه وقال: أنتم حجاج‏.

الرواية الثالثة: أن عكاظ ومجنة وذا المجاز كانوا يتجرون في أيام الموسم فيها، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يتجروا في الحج بغير إذن، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت هذه الآية.

الرواية الرابعة: قال مجاهد: إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بعرفة ولا منى، فنزلت هذه الآية.

34. أكثر الذاهبين إلى كون المراد من قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ هو التجارة حملوا الآية على التجارة في أيام الحج، وأما أبو مسلم فإنه حمل الآية على ما بعد الحج، قال: والتقدير: فاتقون في كل أفعال الحج، ثم بعد ذلك‏ ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ونظيره قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 10]، وهذا القول ضعيف من وجوه:

أ. الفاء في قوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ يدل على أن هذه الإفاضة حصلت بعد انتفاء الفضل، وذلك يدل على وقوع التجارة في زمان الحج.

ب. أن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لا على موضع الشبهة ومعلوم أن محل الشبهة هو التجارة في زمن الحج، فأما بعد الفراغ من الحج فكل أحد يعلم حل التجارة.

ج. عدم صحة قياس الحج على الصلاة بأن الصلاة أعمالها متصلة فلا يصح في أثنائها التشاغل بغيرها، وأما أعمال الحج فهي متفرقة بعضها عن بعض، ففي خلالها يبقى المرء على الحكم الأول حيث لم يكن حاجا لا يقال: بل حكم الحج باق في كل تلك الأوقات، بدليل أن حرمة التطيب واللبس وأمثالهما باقية، لأنا نقول: هذا قياس في مقابلة النص فيكون ساقطا.

35. اتفقوا على أن التجارة إذا أوقعت نقصانا في الطاعة لم تكن مباحة، أما إن لم توقع نقصانا ألبتة فيها فهي من المباحات التي الأولى تركها، لقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5] والإخلاص أن لا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم حكاية عن الله تعالى: (أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه)، والحاصل أن الإذن في هذه التجارة جار مجرى الرخص.

36. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ الإفاضة الاندفاع في السير بكثرة، ومنه يقال: أفاض البعير بجرته، إذا وقع بها فألقاها منبثة، وكذلك أفاض الأقداح في الميسر، معناه جمعها ثم ألقاها متفرقة، وإفاضة الماء من هذا لأنه إذا صب تفرق والإفاضة في الحديث إنما هي الاندفاع فيه بإكثار وتصرف في وجوهه، وعليه قوله تعالى: ﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: 61] ومنه يقال للناس: فوض، وأيضا جمعهم فوضى ويقال: أفاضت العين دمعها فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء حتى يتفرق، فقوله تعالى: ﴿أَفَضْتُمْ﴾ أي دفعتم بكثرة، وأصله أفضتم أنفسكم، فترك ذكر المفعول، كما ترك في قولهم: دفعوا من موضع كذا وصبوا، وفي حديث أبي بكر: ونزل في وادي قيروان وهو يخدش بعيره بمحجنه.

37. ﴿عَرَفَاتٍ﴾ جمع عرفة، سميت بها بقعة واحدة، كقولهم: ثوب أخلاق، وبرمة أعشار، وأرض سباسب، والتقدير: كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمى مجموع تلك القطع بعرفات، فإن قيل: هلا منعت من الصرف وفيها السببان: التعريف والتأنيث قلنا: هذه اللفظة في الأصل اسم لقطع كثيرة من الأرض كل واحدة منها مسماة بعرفة، وعلى هذا التقدير لم يكن علما ثم جعلت علما لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف.

38. اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة، وذلك الموضع المخصوص سمي بعرفات.

39. ذكروا في تعليل اسم يوم التروية قولان:

أ. أحدهما: من روي يروي تروية، إذا تفكر وأعمل فكره ورويته، وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أن آدم عليه السلام أمر ببناء البيت، فلما بناه تفكر فقال: رب إن لكل عامل أجرا فما أجري على هذا العمل؟ قال: إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك، قال: يا رب زدني قال: أغفر لأولادك إذا طافوا به، قال: زدني قال: أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك، قال: حسبي يا رب حسبي‏.

ثانيها: أن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح مفكرا هل هذا من الله تعالى أو من الشيطان؟ فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال: عرفت يا رب أنه من عندك.

ثالثها: أن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في غدهم بعرفات.

ب. الثاني: من رواه من الماء يرويه إذا سقاه من عطش، وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أن أهل مكة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق، وكان الحاج يستريحون في هذا اليوم من مشاق السفر، ويتسعون في الماء، ويروون بهائمهم بعد مقاساتهم قلة الماء في طريقهم.

الثاني: أنهم يتزودون الماء إلى عرفة.

الثالث: أن المذنبين كالعطاش الذي وردوا بحار رحمة الله فشربوا منها حتى رووا.

40. فضل يوم التروية دل عليه قوله تعالى: ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ [الشفع: 3] عن ابن عباس بأن الشفع التروية وعرفة، والوتر يوم النحر، وعن عبادة أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (صيام عشر الأضحى كل يوم منها كالشهر، ولمن يصوم يوم التروية سنة، ولمن يصوم يوم عرفة سنتان)، وروى أنس أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه، ومن صام يوم عرفة أعطاه الله تعالى مثل ثواب عيسى بن مريم عليه السلام)

41. ليوم عرفة عشرة أسماء، خمسة منها مختصة به، وخمسة مشتركة بينه وبين غيره:

أ. أما الخمسة الأولى:

أحدها: عرفة.

الثاني: يوم إياس الكفار من دين الإسلام، ومعناه أنهم يئسوا من قوم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يرتدوا راجعين إلى دينهم.

الثالث: يوم إكمال الدين، ومعناه أنه تعالى ما أمرهم بعد ذلك بشيء من الشرائع.

الرابع: يوم إتمام النعمة، فأعظم النعم نعمة الدين، لأن بها يستحق الفوز بالجنة والخلاص من النار، وقد تمت في ذلك اليوم وكذلك قال في آية الوضوء ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6] ولما جاء البشير وقدم على يعقوب، قال على أي دين تركت يوسف؟ قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة.

الخامس: يوم الرضوان، لأنه تعالى رضي بدينهم الذي تمسكوا به وهو الإسلام فهي بشارة بشرهم بها في ذلك اليوم فلا يوم أكمل من اليوم الذي بشرهم فيه بإكمال الدين.

ب. أما الأسماء الخمسة الأخرى ليوم عرفة:

فأحدها: يوم الحج الأكبر قال الله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾ [التوبة: 3] وهذا الاسم مشترك بين عرفة والنحر، واختلف الصدر الأول من الصحابة والتابعين فيه، فمنهم من قال إنه عرفة، وسمي بذلك لأنه يحصل فيه الوقوف بعرفات والحج عرفة إذا لو أدركه وفاته سائر مناسك الحج أجزأ عنها الدم، فلهذا السبب سمي بالحج الأكبر قال الحسن: سمي به لأنه اجتمع فيه الكفار والمسلمون، ونودي فيه أن لا يحج بعده مشرك، وقال ابن سيرين: إنما سمي به لأنه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلها من اليهود والنصارى وحج المسلمون ولم يجتمع قبله ولا بعده، ومنهم من قال إنه يوم النحر لأنه يقع فيه أكثر مناسك الحج، فأما الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزئ في الليل وروى القولان جميعا عن علي وابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ثانيها: الشفع.

ثالثها: الوتر.

رابعها: الشاهد.

خامسها: المشهود في قوله: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ [البروج: 3]

42. في اشتقاق عرفة ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه مشتق من المعرفة، وفيه ثمانية أقوال:

الأول: قول ابن عباس: إن آدم وحواء التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه فسمى اليوم عرفة، والموضع عرفات، وذلك أنهما لما أهبطا من الجنة وقع آدم بسر نديب، وحواء بجدة، وإبليس بنيسان، والحية بأصفهان، فلما أمر الله تعالى آدم بالحج لقي حواء بعرفات فتعارفا.

ثانيها: أن آدم علمه جبريل مناسك الحج، فلما وقف بعرفات قال له: أعرفت؟ قال نعم، فسمى عرفات.

ثالثها: قول علي وابن عباس وعطاء والسدي: سمي الموضع عرفات لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة.

رابعها: أن جبريل كان علم إبراهيم عليه السلام المناسك، وأوصله إلى عرفات، وقال له: أعرفت كيف تطوف وفي أي موضع تقف؟ قال نعم.

خامسها: أن إبراهيم عليه السلام وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يلتقيا سنين، ثم التقيا يوم عرفة بعرفات.

سادسها: ما ذكرناه من أمر منام إبراهيم عليه السلام.

سابعها: أن الحاج يتعارفون فيه بعرفات إذا وقفوا.

ثامنها: أنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة.

ب. الثاني: في اشتقاق عرفة أنه من الاعتراف لأن الحجاج إذا وقفوا في عرفة اعترفوا للحق بالربوبية والجلال والصمدية والاستغناء ولأنفسهم بالفقر والذلة والمسكنة والحاجة ويقال: إن آدم وحواء عليهما السلام لما وقفا بعرفات قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا، فقال الله سبحانه وتعالى الآن عرفتما أنفسكما.

ج. الثالث: أنه من العرف وهو الرائحة الطيبة قال تعالى: ﴿يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ‏﴾ [محمد: 6] أي طيبها لهم، ومعنى ذلك أن المذنبين لما تابوا في عرفات فقد تخلصوا عن نجاسات الذنوب، ويكتسبون به عند الله تعالى رائحة طيبة، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك)

43. خص الله تعالى يوم عرفة من بين سائر أيام الحج بفضائل:

أ. منها أنه تعالى خص صومه بكثرة الثواب‏، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين)، وعن أنس كان يقال في أيام العشر: كل يوم بألف ويوم عرفة بعشرة آلاف بل يستحب للحاج الواقف بعرفات أن يفطر حتى يكون وقت الدعاء قوي القلب حاضر النفس.

ب. ومنها أن هذا اليوم يوم صلة الواصلين:‏ ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: 3] ويوم قطيعة القاطعين‏: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: 3] ويوم إقالة عثر النادمين وقبول توبة التائبين:‏ ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23] فكما تاب برحمته على آدم فيه فكذلك يتوب على أولاده‏: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ [الشورى: 25] وهو أيضا يوم وقد الوافدين:‏ ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا﴾ [الحج: 27] وفي الخبر (الحاج وقد الله، والحاج زوار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائرة)

ج. جمع الله تعالى هذه الأشياء في أربع آيات، في قوله: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾ [المائدة: 3] الآية، قال عمر وابن عباس: نزلت هذه الآية عشية عرفة، وكان يوم الجمعة والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام، وذلك في حجة الوداع، وقد اضمحل الكفر، وهدم بنيان الجاهلية، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لو يعلم الناس ما لهم في هذه الآية لقرت أعينهم)، فقال يهودي لعمر: لو أن هذه الآية نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال عمر: أما نحن فجعلناه عيدين، كان يوم عرفة ويوم‏ الجمعة.

44. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بكيفية الحج وترتيب أعماله، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

45. الوقوف بعرفة ركن لا يدرك الحج إلا به فمن فاته الوقوف في وقته وموضوعه فقد فاته الحج ووقت الوقوف يدخل بزوال الشمس من يوم عرفة، ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة، وإذا حضر الحاج هناك في هذا الوقت لحظة واحدة من ليل أو نهار فقد كفى، وقال أحمد: وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة، ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر، فإذا غربت الشمس دفع الإمام من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة.

في تسمية المزدلفة أقوال:

أ. أحدها: أنهم يقربون فيها من منى والازدلاف القرب.

ب. الثاني: أن الناس يجتمعون فيها والاجتماع الازدلاف.

ج. الثالث: أنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون بالوقوف.

46. يقال للمزدلفة: جمع:

أ. لأنه يجمع فيها بين صلاة العشاء والمغرب، وهذا قول قتادة.

ب. وقيل إن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء، وازدلف إليها أي دنا منها.

47. إذا أتى الإمام المزدلفة: جمع المغرب والعشاء بإقامتين، ثم يبيتون بها، فإن لم يبت بها فعليه دم شاة، فإذا طلع الفجر صلوا صلاة الصبح بغلس والتغليس بالفجر هاهنا أشد استحبابا منه في غيرها، وهو متفق عليه، فإذا صلوا الصبح أخذوا منها الحصى للرمي، يأخذ كل إنسان منها سبعين حصاة، ثم يذهبون إلى المشعر الحرام، وهو جبل يقال له قزح، وهو المراد من قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ وهذا الجبل أقصى المزدلفة مما يلي منى، فيرقى فوقه إن أمكنه، أو وقف بالقرب منه إن لم يمكنه، وبحمد الله تالي يهلله ويكبره.

48. كان أهل الجاهلية قد غيروا مناسك الحج عن سنة إبراهيم عليه السلام، وذلك أن قريشا وقوما آخرين سموا أنفسهم بالحمس، وهم أهل الشدة في دينهم، والحماسة الشدة يقال: رجل أحمس وقوم حمس، ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفات، ويقولون لا نخرج من الحرم ولا نتركه في وقت الطاعة وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس، والذي يقفون بمزدلفة يفيضون إذا طلعت الشمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير، ومعناه: أشرق يا ثبير بالشمس كيما نندفع من مزدلفة فيدخلون في غور من الأرض، وهو المنخفض منها، وذلك أنهم جاوزوا المزدلفة وصاروا في غور من الأرض، فأمر الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بمخالفة القوم في الدفعتين، وأمره بأن يفيض من عرفة بعد غروب الشمس، وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس، والآية لا دلالة فيها على ذلك، بل السنة دلت على هذه الأحكام.

49. الصحيح أن الآية تدل على أن الحصول بعرفة واجب في الحج، وذلك أن الآية دالة على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام عند الإفاضة من عرفات، والإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج، فإذا لم يأت به فلم يكن آتيا بالحج المأمور به، فوجب أن لا يخرج عن العهدة وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطا أقصى ما في الباب أن الحج يحصل عند ترك بعض المأمورات إلا أن الأصل ما ذكرناه، وإنما يعدل عنه بدليل منفصل وذهب كثير من العلماء إلى أن الآية لا دلالة فيها على أن الوقوف شرط ونقل عن الحسن أن الوقوف بعرفة واجب، إلا أنه إن فاته ذلك قام الوقوف بجميع الحرم مقامه، وسائر الفقهاء أنكروا ذلك واتفقوا على أن الحج لا يحصل إلا بالوقوف بعرفة.

50. ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ يدل أن الحصول عند المشعر الحرام واجب ويكفي فيه المرور به كما في عرفة، فأما الوقوف هناك فمسنون، وروي عن علقمة والنخعي أنهما قالا: الوقوف بالمزدلفة ركن بمنزلة الوقوف بعرفة وحجتهما قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ وذلك لأن الوقوف بعرفة لا ذكر له صريحا في الكتاب وإنما وجب بإشارة الآية أو بالسنة، والمشعر الحرام فيه أمر جزم، وقال جمهور الفقهاء: إنه ليس بركن، واحتجوا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه)، وبقوله: (من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة فقد فاته الحج)، قالوا: وفي الآية إشارة إلى ما قلنا لأن الله تعالى قال: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ أمر بالذكر لا بالوقوف، فعلم أن الوقوف عند المشعر الحرام تبع للذكر، وليس بأصل، وأما الوقوف بعرفة فهو أصل لأنه قال ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ ولم يقل من الذكر بعرفات.

51. ﴿الْمَشْعَرِ﴾ المعلم وأصله من قولك: شعرت بالشيء إذا علمته، وليت شعري ما فعل فلان، أي ليت علمي بلغه وأحاط به، وشعار الشيء أعلامه، فسمى الله تعالى ذلك الموضع بالمشعر الحرام، لأنه معلم من معالم الحج، ثم اختلفوا:

أ. فقال قائلون: المشعر الحرام هو المزدلفة، وسماها الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده، هكذا قاله الواحدي في (البسيط)، وهو أقرب لأن الفاء في قوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة.

ب. قال الزمخشري: الأصح أنه قزح، وهو آخر حد المزدلفة.

52. اختلفوا في الذكر المأمور به عند المشعر الحرام:

أ. فقال بعضهم: المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك، والصلاة تسمى ذكرا، قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]، والدليل عليه أن قوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ أمر وهو للوجوب، ولا ذكر هناك يجب إلا هذا.

ب. أما الجمهور فقالوا: المراد منه ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل، وعن ابن عباس أنه نظر إلى الناس في هذه الليلة وقال: كان الناس إذا أدركوا هذه الليلة لا ينامون.

53. سؤال وإشكال: لما قال ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ فلم قال مرة أخرى‏ ﴿وَاذْكُرُوهُ﴾ وما الفائدة في هذا التكرير؟ والجواب: من وجوه:

أ. أحدها: أن مذهبنا أن أسماء الله تعالى توقيفية لا قياسية فقوله أولا: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ أمر بالذكر، وقوله ثانيا: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ أمر لنا بأن نذكره سبحانه بالأسماء والصفات التي بينها لنا وأمرنا أن نذكره بها، لا بالأسماء التي نذكرها بحسب الرأي والقياس.

ب. ثانيها: أنه تعالى أمر بالذكر أولا، ثم قال ثانيا: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ أي وافعلوا ما أمرناكم به من الذكر كما هداكم الله لدين الإسلام، فكأنه تعالى قال إنما أمرتكم بهذا الذكر لتكونوا شاكرين لتلك النعمة، ونظيره ما أمرهم به من التكبير إذا أكملوا شهر رمضان، فقال: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 185] وقال في (الأضاحي): ﴿كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [الحج: 37]

ج. ثالثها: أن قوله أولا: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ أمر بالذكر باللسان وقوله ثانيا: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ أمر بالذكر بالقلب، وتقريره أن الذكر في كلام العرب ضربان:

أحدهما: ذكر هو ضد النسيان.

الثاني: الذكر بالقول، فما هو خلاف النسيان قوله: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف: 63]، وأما الذكر الذي هو القول فهو كقوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: 200] ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 203] فثبت أن الذكر وارد بالمعنيين فالأول: محمول على الذكر باللسان، الثاني: على الذكر بالقلب، فإن بهما يحصل تمام العبودية.

د. رابعها: قال ابن الأنباري: معنى قوله: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ يعني اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته.

هـ. خامسها: يحتمل أن يكون المراد من الذكر مواصلة الذكر، كأنه قيل لهم: اذكروا الله واذكروه أي اذكروه ذكرا بعد ذكر، كما هداكم هداية بعد هداية، ويرجع حاصله إلى قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 41]

و. سادسها: أنه تعالى أمر بالذكر عند المشعر الحرام، وذلك إشارة إلى القيام بوظائف الشريعة، ثم قال بعده: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ والمعنى أن توقيف الذكر على المشعر الحرام فيه إقامة لوظائف الشريعة، فإذا عرفت هذا قربت إلى مراتب الحقيقة، وهو أن ينقطع قلبك عن المشعر الحرام، بل عن من سواه فيصير مستغرقا في نور جلاله وصمديته، ويذكره لأنه هو الذي يستحق لهذا الذكر ولأن هذا الذكر يعطيك نسبة شريفة إليه بكونك في هذه الحالة تكون في مقام العروج ذاكرا له ومشتغلا بالثناء عليه، وإنما بدأ بالأول وثنى بالثاني لأن العبد في هذه الحالة يكون في مقام العروج فيصعد من الأدنى إلى الأعلى وهذا مقام شريف لا يشرحه المقال ولا يعبر عنه الخيال، ومن أراد أن يصل إليه، فليكن من الواصلين إلى العين، دون السامعين للأثر.

ز. سابعها: أن يكون المراد ب الأول هو ذكر أسماء الله تعالى وصفاته الحسنى، والمراد بالذكر الثاني: الاشتغال بشكر نعمائه، والشكر مشتمل أيضا على‏ الذكر، فصح أن يسمى الشكر ذكرا، والدليل على أن الذكر الثاني هو الشكر أنه علقه بالهداية، فقال: ﴿كَمَا هَدَاكُمْ﴾ والذكر المرتب على النعمة ليس إلا الشكر.

ح. ثامنها: أنه تعالى لما قال‏ ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ جاز أن يظن أن الذكر مختص بهذه البقعة وبهذه العبادة، يعني الحج فأزال الله تعالى هذه الشبهة فقال‏ ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ يعني اذكروه على كل حال، وفي كل مكان، لأن هذا الذكر إنما وجب شكرا على هدايته، فلما كانت نعمة الهداية متواصلة غير منقطعة، فكذلك الشكر يجب أن يكون مستمرا غير منقطع.

ط. تاسعها: أن قوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك، ثم قوله: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ والمراد منه التهليل والتسبيح.

54. سؤال وإشكال: ما المراد من الهداية في قوله: ﴿كَمَا هَدَاكُمْ﴾؟ والجواب:

أ. منهم من قال: إنها خاصة، والمراد منه كما هداكم بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم عليه السلام.

ب. ومنهم من قال: لا بل هي عامة متناولة لكل أنواع الهداية في معرفة الله تعالى، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه.

55. سؤال وإشكال: الضمير في قوله: ﴿مِنْ قِبَلِهِ﴾ إلى ماذا يعود؟ والجواب:

أ. يحتمل أن يكون راجعا إلى‏ ﴿الْهَدْيَ﴾ والتقدير: وإن كنتم من قبل أن هداكم من الضالين.

ب. وقال بعضهم: إنه راجع إلى القرآن، والتقدير: واذكروه كما هداكم بكتابه الذي بين لكم معالم دينه، وإن كنتم من قبل إنزاله ذلك عليكم من الضالين.

56. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ وجهان(2).:

أ. أحدهما: وما كنتم من قبله إلا الضالين.

ب. الثاني: قد كنتم من قبله من الضالين، وهو كقوله: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: 4] وقوله: ﴿وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [الشعراء 186]

57. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قولان:

أ. الأول: المراد به الإفاضة من عرفات.

ب. الثاني: وهو اختيار الضحاك: أن المراد من هذه الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر، وقوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ﴾ المراد بالناس إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما، وذلك أنه كانت طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس، فالله تعالى أمرهم بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.

ج. وفي الآية وجه ثالث ذكره القفال، وهو أن يكون قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفة وأنه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث كما يقال: هذا مما فعله الناس قديما، فهذا جملة الوجوه في تقرير مذهب من قال المراد من هذه الإفاضة من عرفات.

58. القائلون بأن المراد به الإفاضة من عرفات اختلفوا، فالأكثرون منهم ذهبوا إلى أن هذه الآية أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس، وذلك أنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويحتجون بوجوه:

أ. أحدها: أن الحرم أشرف من غيره فوجب أن يكون الوقوف به أولى.

ب. ثانيها: أنهم كانوا يترفعون على الناس ويقولون: نحن أهل الله فلا نحل حرم الله.

ج. ثالثها: أنهم كانوا لو سلموا أن الموقف هو عرفات لا الحرم، لكان ذلك يوهم نقصا في الحرم ثم ذلك النقص كان يعود إليهم، ولهذا كان الحمس لا يقفون إلا في المزدلفة، فأنزل الله تعالى هذه الآية أمرا لهم بأن يقفوا في عرفات، وأن يفيضوا منها كما تفعله سائر الناس، وعلى هذا التأويل فقوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ يعني لتكن إفاضتكم من حيث أفاض سائر الناس الذين هم واقفون بعرفات، ومن القائلين بأن المراد بهذه الآية الإضافة من عرفات من يقول قوله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾ أمر عام لكل الناس، وقوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ المراد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فإن سنتهما كانت الإفاضة من عرفات، وروي‏ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس، ويخالف الحمس، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيسا يقتدي به، وهو كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران: 173] يعني أبا سفيان، وإيقاع اسم الجمع على الواحد المعظم مجاز مشهور، ومنه قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1]

59. سؤال وإشكال: على القول بأن المراد الإفاضة من عرفات: هو أن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ يقتضي ظاهره أن هذه الإفاضة غير ما دل عليه قوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ [البقرة: 198] لمكان‏ ﴿ثُمَّ﴾ فإنها توجب الترتيب، ولو كان المراد من هذه الآية: الإفاضة من عرفات، مع أنه معطوف على قوله:‏ ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ كان هذا عطفا للشيء على نفسه وأنه غير جائز ولأنه يصير تقدير الآية: فإذا أفضتم من عرفات، ثم أفيضوا من عرفات وإنه غير جائز، فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذه الآية متقدمة على ما قبلها، والتقدير: فاتقون يا أولي الألباب، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم، فإذا أفضتم من عرفات فذكروا الله، وعلى هذا الترتيب يصح في هذه الإفاضة أن تكون تلك بعينها، قلنا: هذا وإن كان محتملا إلا أن الأصل عدمه، وإذا أمكن حمل الكلام على القول الثاني من غير التزام إلى ما ذكرتم فأي حاجة بنا إلى التزامه، والجواب: أجاب القائلون بهذا عن ذلك بأن‏ ﴿ثُمَّ﴾ هاهنا على مثال ما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: 13 ـ 17] أي كان مع هذا من المؤمنين، ويقول الرجل لغيره: قد أعطيتك اليوم كذا وكذا، ثم أعطيتك أمس كذا فإن فائدة كلمة ﴿ثُمَّ﴾ هاهنا تأخر أحد الخبرين عن الآخر، لا تأخر هذا المخبر عنه عن ذلك المخبر عنه.

60. سؤال وإشكال: على القول بأن المراد من هذه الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر: هو أن القول لا يتمشى إلا إذا حملنا لفظ ﴿مِنْ حَيْثُ﴾ في قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ على الزمان، وذلك غير جائز، فإنه مختص بالمكان لا بالزمان، والجواب: أجاب القائلون بهذا عن ذلك بأن التوقيت بالزمان والمكان يتشابهان جدا فلا يبعد جعل اللفظ المستعمل في أحدهما مستعملا في الآخر على سبيل المجاز.

61. ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ المراد من الناس:

أ. إما الواقفون بعرفات.

ب. وإما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وأتباعهما.

ج. وفيه قول ثالث وهو قول الزهري، أن المراد بالناس في هذه الآية: آدم عليه السلام، واحتج بقراءة سعيد بن جبير ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ وقال: هو آدم نسي ما عهد إليه، ويروى أنه قرأ الناس بكسر السين اكتفاء بالكسرة عن الياء، والمعنى: أن الإفاضة مع عرفات شرع قديم فلا تتركوه.

62. ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ فالمراد منه الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب، وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد، ويكون غرضه في ذلك تحصيل مرضات الله تعالى لا لمنافعه العاجلة كما أن ذكر الشهادتين لا ينفع إلا والقلب حاضر مستقر على معناهما، وأما الاستغفار باللسان من غير حصول التوبة بالقلب فهو إلى الضرر أقرب.

63. سؤال وإشكال: كيف أمر الله تعالى بالاستغفار مطلقا، وربما كان فيهم من لم يذنب فحينئذ لا يحتاج إلى الاستغفار، والجواب: أنه إن كان مذنبا فالاستغفار واجب، وإن لم يذنب إلا أنه يجوز من نفسه أنه قد صدر عنه تقصير في أداء الواجبات، والاحتراز عن المحظورات، وجب عليه الاستغفار أيضا تداركا لذلك الخلل المجوز، وإن قطع بأنه لم يصدر عنه ألبتة خلل في شيء من الطاعات، فهذا كالممتنع في حق البشر، فمن أين يمكنه هذا القطع في عمل واحد، فكيف في أعمال كل العمر، إلا أن بتقدير إمكانه فالاستغفار أيضا واجب، وذلك لأن طاعة المخلوق لا تليق بحضرة الخالق، ولهذا قالت الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، فكان الاستغفار لازما من هذه الجهة، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة)

64. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ غفور يفيد المبالغة، وكذا الرحيم، وهذه الآية تدل على أنه تعالى يقبل التوبة من التائب، لأنه تعالى لما أمر المذنب بالاستغفار، ثم وصف نفسه بأنه كثير الغفران كثير الرحمة، فهذا يدل قطعا على أنه تعالى يغفر لذلك المستغفر، ويرحم ذلك الذي تمسك بحبل رحمته وكرمه.

65. اختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية:

أ. فقال قائلون: إنها عند الدفع من عرفات إلى الجمع.

ب. وقال آخرون: إنها عند الدفع من الجمع إلى منى.

66. هذا الاختلاف مفرع على ما ذكرنا أن قوله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾ على أي الأمرين يحمل؟ قال القفال: ويتأكد القول الثاني بما روى نافع عن ابن عمر، قال خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عشية يوم عرفة فقال: (يا أيها الناس إن الله عز وجل يطلع عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم، والتبعات عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله) فقال أصحابه: يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إني سألت ربي عز وجل بالأمس شيئا لم يجد لي به: سألته التبعات فأبى علي به فلما كان اليوم أتاني جبريل عليه السلام فقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول لك: التبعات ضمنت عوضها من عندي)(3).

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 5/315.

(2) الكلام هنا للقفال.

(3) لا نرى صحة هذا الحديث، لدلالته الواضحة على الإرجاء المعارض لقوانين الجزاء في القرآن الكريم.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ لما ذكر الحج والعمرة سبحانه وتعالى في قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ﴾ [البقرة: 196] بين اختلافهما في الوقت، فجميع السنة وقت للإحرام بالعمرة، ووقت العمرة، وأما الحج فيقع في السنة مرة، فلا يكون في غير هذه الأشهر.

2. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ ابتداء وخبر، وفي الكلام حذف تقديره: أشهر الحج أشهر، أو وقت الحج أشهر، أو وقت عمل الحج أشهر، وقيل التقدير: الحج في أشهر، ويلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ أحد بنصبها، إلا أنه يجوز في الكلام النصب على أنه ظرف، قال الفراء: الأشهر رفع، لان معناه وقت الحج أشهر معلومات، قال الفراء: وسمعت الكسائي يقول: إنما الصيف شهران، وإنما الطيلسان‏ قال أشهر.

3. اختلف في الإهلال بالحج غير أشهر الحج، فروي عن ابن عباس: من سنة الحج أن يحرم به في أشهر الحج، وقال عطاء ومجاهد وطاووس والأوزاعي: من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حجه ويكون عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة، وبه قال الشافعي وأبو ثور، وقال الأوزاعي: يحل بعمرة، وقال أحمد بن حنبل: هذا مكروه، وروي عن مالك، والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة كلها، وهو قول أبي حنيفة، وقال النخعي: لا يحل حتى يقضي حجه، لقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189]

4. ما ذهب إليه الشافعي أصح، لان تلك عامة، وهذه الآية خاصة، ويحتمل أن يكون من باب النص على بعض أشخاص العموم، لفضل هذه الأشهر على غيرها، وعليه فيكون قول مالك صحيح.

5. ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ أي الزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا، وبالإحرام فعلا ظاهرا، وبالتلبية نطقا مسموعا، قاله ابن حبيب وأبو حنيفة في التلبية، وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج، وهو قول الحسن بن حي، قال الشافعي: تكفي النية في الإحرام بالحج، وأوجب التلبية أهل الظاهر وغيرهم.

6. أصل الفرض في اللغة: الحز والقطع، ومنه فرضة القوس والنهر والجبل، ففرضية الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الخز للقدح، وقيل: ﴿فَرَضَ﴾ أي أبان، وهذا يرجع إلى القطع، لان من قطع شيئا فقد أبانه عن غيره.

7. ﴿مِنَ﴾ رفع بالابتداء ومعناها الشرط، والخبر قوله: ﴿فَرَضَ﴾، لان من ليست بموصولة، فكأنه قال رجل فرض، وقال: ﴿فِيهِنَّ﴾ ولم يقل فيها، فقال قوم: هما سواء في الاستعمال، وقال المازني أبو عثمان: الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة، والقليل ليس كذلك، تقول: الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ويؤيد ذلك قول الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ﴾ [التوبة: 36] ثم قال ﴿مِنْهَا﴾

8. ﴿فَلَا رَفَثَ﴾ قال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة والحسن وعكرمة والزهري ومجاهد ومالك: الرفث الجماع، أي فلا جماع لأنه يفسده، وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج، وعليه حج قابل والهدى، وقال عبد الله ابن عمر وطاووس وعطاء وغيرهم: الرفث الإفحاش للمرأة بالكلام، لقوله: إذا أحللنا فعلنا بك كذا، من غير كناية، وقاله ابن عباس أيضا، وقال قوم: الرفث الإفحاش بذكر النساء، كان ذلك بحضرتهن أم لا، وقيل: الرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من أهله، وقال أبو عبيدة: الرفث اللغا من الكلام، وأنشد:

çورب أسراب حجيج كظم‏...عن اللغا ورفث التكلم‏é

يقال: رفث يرفث، بضم الفاء وكسرها، وقرا ابن مسعود فلا رفوث على الجمع، قال ابن العربي: المراد بقوله ﴿فَلَا رَفَثَ﴾ نفيه مشروعا لا موجودا، فإنا نجد الرفث فيه ونشاهده، وخبر الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا، كقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228] معناه: شرعا لا حسا، فإنا نجد المطلقات لا يتربصن، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي، وهذا كقوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 79] إذا قلنا: إنه وارد في الأدميين ـ وهو الصحيح ـ أن معناه لا يمسه أحد منهم شرعا، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع، وهذه الدقيقة هي التي فاتت العلماء فقالوا: إن الخبر يكون بمعنى النهي، وما وجد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد، فإنهما مختلفان حقيقة ومتضادان وصفا.

9. ﴿وَلَا فُسُوقَ﴾ يعني جميع المعاصي كلها، قاله ابن عباس وعطاء والحسن، وكذلك قال ابن عمر وجماعة: الفسوق إتيان معاصي الله عز وجل‏ في حال إحرامه بالحج، كقتل الصيد وقص الظفر واخذ الشعر، وشبه ذلك، وقال ابن زيد ومالك: الفسوق الذبح للأصنام، ومنه قوله تعالى: ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الانعام: 145]، وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالألقاب، ومنه قوله: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ﴾ [الحجرات: 11]، وقال ابن عمر أيضا: الفسوق السباب، ومنه قوله عليه السلام: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، والقول الأول أصح، لأنه يتناول جميع الأقوال، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) خرجه مسلم وغيره، وجاء عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال)

10. قال الفقهاء: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله تعالى فيه أثناء أدائه، وقال الفراء: هو الذي لم يعص الله سبحانه بعده، ذكر القولين ابن العربي.. والحج المبرور هو الذي لم يعص الله سبحانه فيه لا بعده، قال الحسن: الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وقيل غير هذا.

11. ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ قرئ فلا رفث ولا فسوق بالرفع والتنوين فيهما، وقرئا بالنصب بغير تنوين، وأجمعوا على الفتح في ﴿وَلَا جِدَالَ﴾، وهو يقوي قراءة النصب فيما قبله، ولان المقصود النفي العام من الرفث والفسوق والجدال، وليكون الكلام على نظام واحد في عموم المنفي كله، وعلى النصب أكثر القراء، والأسماء الثلاثة في موضع‏ رفع، كل واحد مع لا)، وقوله ﴿فِي الْحَجِّ﴾ خبر عن جميعها، ووجه قراءة الرفع أن لا بمعنى (ليس) فارتفع الاسم بعدها، لأنه اسمها، والخبر محذوف تقديره: فليس رفث ولا فسوق في الحج، دل عليه ﴿فِي الْحَجِّ﴾ الثاني الظاهر وهو خبر ﴿لا جِدالَ﴾، وقال أبو عمرو بن العلاء: الرفع بمعنى فلا يكونن رفث ولا فسوق، أي شي يخرج من الحج، ثم ابتدأ النفي فقال: ولا جدال، فيحتمل أن تكون كان تامة، مثل قوله: ﴿وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ﴾ فلا تحتاج إلى خبر، ويحتمل أن تكون ناقصة والخبر محذوف، كما تقدم آنفا، ويجوز أن يرفع رفث وفسوق بالابتداء، ولا للنفي، والخبر محذوف أيضا، وقرا أبو جعفر بن القعقاع بالرفع في الثلاثة، ورويت عن عاصم في بعض الطرق، وعليه يكون ﴿فِي الْحَجِّ﴾ خبر الثلاثة، كما قلنا في قراءة النصب، وإنما لم يحسن أن يكون ﴿فِي الْحَجِّ﴾ خبر عن الجميع مع اختلاف القراءة، لان خبر ليس منصوب وخبر ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ مرفوع، لان ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ مقطوع من الأول وهو في موضع رفع بالابتداء، ولا يعمل عاملان في اسم واحد، ويجوز ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ تعطفه على الموضع، وأنشد النحويون:

çلا نسب اليوم ولا خلة...اتسع الخرق على الراقع‏é

ويجوز في الكلام فلا رفث ولا فسوقا ولا جدال في الحج عطفا على اللفظ على ما كان يجب في لا قال الفراء: ومثله:

çفلا أب وابنا مثل مروان وابنه‏...إذا هو بالمجد ارتدى وتأزراé

وقال أبو رجاء العطاردي: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ بالنصب فيهما، ولا جدال بالرفع والتنوين، وأنشد الأخفش:

çهذا وجدكم الصغار بعينه‏...لا أم لي إن كان ذاك ولا أب‏é

12. قيل: إن معنى ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ النهي، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا، ومعنى ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ النفي، فلما اختلفا في المعنى خولف بينهما في اللفظ، قال القشيري: وفيه نظر، إذ قيل: ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ نهي أيضا، أي لا تجادلوا، فلم فرق بينهما.

13. ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ الجدال وزنه فعال من المجادلة، وهي مشتقة من الجدل وهو القتل، ومنه زمام مجدول، وقيل: هي مشتقة من الجدالة التي هي الأرض، فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه، فيكون كمن ضرب به الجدالة، قال الشاعر:

çقد أركب الآلة بعد الآلة... وأترك العاجز بالجدالهé

منعفرا لست له محاله

14. اختلفت العلماء في المعنى المراد بقوله تعالى: ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ على أقوال ستة:

أ. قال ابن مسعود وابن عباس وعطاء: الجدال هنا أن تماري مسلما حتى تغضبه فينتهي إلى السباب، فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها.

ب. وقال قتادة: الجدال السباب.

ج. وقال ابن زيد ومالك بن أنس: الجدال هنا أن يختلف الناس: أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام، كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب، ثم يتجادلون بعد ذلك، فالمعنى على هذا التأويل: لا جدال في مواضعه.

د. وقالت طائفة: الجدال هنا أن تقول طائفة: الحج اليوم، وتقول طائفة: الحج غدا.

هـ. وقال مجاهد وطائفة معه: الجدال المماراة في الشهور حسب ما كانت عليه العرب من النسيء، كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة، ويقف بعضهم بجمع وبعضهم بعرفة، ويتمارون في الصواب من ذلك.. على هذين التأويلين(2). لا جدال في وقته ولا في موضعه، وهذان القولان أصح ما قيل في تأويل قوله ﴿وَلَا جِدَالَ﴾، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) الحديث، وسيأتي في براءة، يعني رجع أم الحج كما كان، أي عاد إلى يومه ووقته، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لما حج: (خذوا عني مناسككم) فبين بهذا مواقف الحج ومواضعه.

و. وقال محمد بن كعب القرظي: الجدال أن تقول طائفة: حجنا أبر من حجكم، ويقول الآخر مثل ذلك.

ز. وقيل: الجدال كان في الفخر بالآباء.

15. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ شرط وجوابه، والمعنى:

أ. قيل: أن الله يجازيكم على أعمالكم، لان المجازاة إنما تقع من العالم بالشيء.

ب. وقيل: هو تحريض وحث على حسن الكلام مكان الفحش، وعلى البر والتقوى في الأخلاق مكان الفسوق والجدال.

ج. وقيل: جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد ما نهوا عنه.

16. ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ أمر باتخاذ الزاد:

أ. قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد: نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجئ إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالزاد، وقال عبد الله بن الزبير: كان الناس يتكل بعضهم على بعض بالزاد، فأمروا بالزاد، وكان للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في مسيره راحلة عليها زاد، وقدم عليه ثلاثمائة رجل من مزينة، فلما أرادوا أن ينصرفوا قال: (يا عمر زود القوم)

ب. وقال بعض الناس: ﴿تَزَوَّدُوا﴾ الرفيق الصالح، وقال ابن عطية: وهذا تخصيص ضعيف، والاولى في معنى الآية: وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة.

17. القول الأول أصح، فإن المراد الزاد المتخذ في سفر الحج المأكول حقيقة كما ذكرنا، كما روى البخاري عن ابن عباس قال كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ وهذا نص فيما ذكرنا، وعليه أكثر المفسرين، قال الشعبي: الزاد التمر والسويق، ابن جبير: الكعك والسويق، قال ابن العربي: (أمر الله تعالى بالتزود لمن كان له مال، ومن لم يكن له مال فإن كان ذا حرفة تنفق في الطريق أو سائلا فلا خطاب عليه، وإنما خاطب الله أهل الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون: نحن المتوكلون، والتوكل له شروط، من قام بها خرج بغير زاد ولا يدخل في الخطاب، فإنه خرج على الأغلب من الخلق وهم المقصرون عن درجة التوكل الغافلون عن حقائقه، والله عز وجل أعلم)، قال أبو الفرج الجوزي: (وقد لبس إبليس على قوم يدعون التوكل، فخرجوا بلا زاد وظنوا أن هذا هو التوكل وهم على غاية الخطأ، قال رجل لأحمد بن حنبل: أريد أن أخرج‏ إلى مكة على التوكل بغير زاد، فقال له أحمد: اخرج في غير القافلة، فقال لا، إلا معهم، قال فعلى جرب‏ أو الحاجة إلى السؤال والتكفف)، وقيل: فيه تنبيه على أن هذه الدار ليست بدار قرار، قال أهل الإشارات: ذكرهم الله تعالى سفر الآخرة وحثهم على تزود التقوى، فإن التقوى زاد الآخرة، قال الأعشى:

çإذ أنت لم ترحل بزاد من التقى‏...ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألا تكون كمثله‏...وأنك لم ترصد كما كان أرصداé

وقال آخر:

çالموت بحر طامح موجه‏...تذهب فيه حيلة السابخ‏

يا نفس إني قائل فاسمعي‏...مقالة من مشفق ناصح‏

لا يصحب الإنسان في قبره‏...غير التقى والعمل الصالح‏é

18. ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ خص أولي الألباب بالخطاب ـ وإن كان الامر يعم الكل ـ لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله، وهم قابلو أوامره والناهضون بها، والألباب جمع لب، ولب كل شي: خالصه، ولذلك قيل للعقل: لب، قال النحاس: سمعت أبا إسحاق يقول قال لي أحمد بن يحيى ثعلب: أتعرف في كلام العرب شيئا من المضاعف جاء على فعل؟ قلت نعم، حكى سيبويه عن يونس: لببت تلب، فاستحسنه وقال: ما أعرف له نظيرا.

19. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، ﴿جُنَاحَ﴾ أي إثم، وهو اسم ليس، ﴿أَنْ تَبْتَغُوا﴾ في موضع نصب خبر ليس، أي في أن تبتغوا، وعلى قول الخليل والكسائي أنها في موضع خفض.

لما أمر الله تعالى بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال رخص في التجارة، المعنى: لا جناح عليكم في أن تبتغوا فضل الله، وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة، قال الله تعالى: ﴿فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 10]، والدليل على صحة هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس قال (كانت‏ عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ في مواسم الحج)

20. في الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه خلافا للفقراء، أما إن الحج دون تجارة أفضل، لعروها عن شوائب الدنيا وتعلق القلب بغيرها، روى الدارقطني في سننه عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر: إني رجل أكري في هذا الوجه، وإن ناسا يقولون: إنه لا حج لك، فقال ابن عمر: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فسأله مثل هذا الذي سألتني، فسكت حتى نزلت هذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن لك حجا)

21. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ﴾ أي اندفعتم، ويقال: فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصب عن نواحيه. ورجل فياض، أي مندفق بالعطاء. قال زهير:

çوأبيض فياض يداه غمامة... على معتفيه ما تغب فواضلهé

وحديث مستفيض، أي شائع.

22. ﴿مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ قراءة الجماعة ﴿عَرَفَاتٍ﴾ بالتنوين، وكذلك لو سميت امرأة بمسلمات، لان التنوين هنا ليس فرقا بين ما ينصرف وما لا ينصرف فتحذفه، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين، قال النحاس: هذا الجيد، وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات، يقول: هذه عرفات يا هذا، ورأيت عرفات يا هذا، بكسر التاء وبغير تنوين، قال لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين، وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء، تشبيها بتاء فاطمة وطلحة، وأنشدوا:

çتنورتها من أذرعات وأهلها...بيثرب أدنى دارها نظر عال‏é

والقول الأول أحسن، وأن التنوين فيه على حده في مسلمات، الكسرة مقابلة الياء في مسلمين والتنوين مقابل النون.

23. عرفات: اسم علم، سمي بجمع كأذرعات، وقيل: سمي‏ بما حوله، كأرض سباسب‏، فسمي اليوم عرفة، والموضع عرفات، قاله الضحاك، وقيل غير هذا لما تقدم ذكره عند قول تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: 128]، قال ابن عطية: والظاهر أن اسمه مرتجل كسائر أسماء البقاع، وعرفة هي نعمان الأراك، وفيها يقول الشاعر:

çتزودت من نعمان عود أراكة...لهند ولكن لم يبلغه هنداé

وقيل: هي مأخوذة من العرف وهو الطيب، قال الله تعالى: ﴿عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ [محمد: 6] أي طيبها، فهي طيبة بخلاف (منى) التي فيها الفروث‏ والدماء، فلذلك سميت عرفات، ويوم الوقوف، يوم عرفة، وقال بعضهم: أصل هذين الاسمين من الصبر، يقال: رجل عارف إذا كان صابرا خاشعا ويقال في المثل: النفس عروف وما حملتها تتحمل. قال: (فصبرت عارفة لذلك حرة)، أي نفس صابرة. وقال ذو الرمة: (عروف لما خطت عليه المقادر)، أي صبور على قضاء الله، فسمي بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم، وصبرهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمال الشدائد، لإقامة هذه العبادة.

24. أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك قبل الزوال، وأجمعوا على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل، إلا مالك بن أنس فإنه قال لا بد أن يأخذ من الليل شيئا، وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الامة في تمام حجه، والحجة للجمهور مطلق قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ ولم يخص ليلا من نهار، وحديث عروة بن مضرس قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في الموقف من جميع، فقلت: (يا رسول الله، جئتك من جبلي طئ، أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله إن تركت من جبل‏ وتم حجه)، أخرجه غير واحد من الأئمة، منهم أبو داوود والنسائي والدارقطني واللفظ له، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال أبو عمر: حديث عروة بن مضرس الطائي حديث ثابت صحيح، رواه جماعة من أصحاب الشعبي الثقات عن الشعبي عن عروة بن مضرس، منهم إسماعيل بن أبي خالد وداوود بن أبي هند وزكريا بن أبي زائدة وعبد الله بن أبي السفر ومطرف، كلهم عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام، وحجة مالك من السنة الثابتة: حديث جابر الطويل، خرجه مسلم، وفيه: فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأفعاله على الوجوب، لا سيما في الحج وقد قال (خذوا عني مناسككم)

25. اختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه مع صحة الحج، فقال عطاء وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم: عليه دم، وقال الحسن البصري: عليه هدي، وقال ابن جريج: عليه بدنة، وقال مالك: عليه حج قابل، والهدى ينحره في حج قابل، وهو كمن فاته الحج، فإن عاد إلى عرفة حتى يدفع بعد مغيب الشمس فقال الشافعي: لا شي عليه، وهو قول أحمد وإسحاق وداوود، وبه قال الطبري، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا يسقط عنه الدم وإن رجع بعد غروب الشمس، وبذلك قال أبو ثور.

26. لا خلاف بين العلماء في أن الوقوف بعرفة راكبا لمن قدر عليه أفضل، لان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كذلك وقف إلى أن دفع منها بعد غروب الشمس، وأردف أسامة بن زيد، وهذا محفوظ في حديث جابر الطويل وحديث علي، وفي حديث ابن عباس أيضا، قال جابر: ثم ركب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات‏ المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه، الحديث، فإن لم يقدر على الركوب وقف قائما على رجليه داعيا، ما دام يقدر، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف، وفي الوقوف راكبا مباهاة وتعظيم للحج: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، قال ابن وهب في موطئة قال لي مالك: الوقوف بعرفة على الدواب والإبل أحب إلي من أن أقف قائما، قال: ومن وقف قائما فلا بأس أن يستريح.

27. ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا أفاض من عرفة يسير العنق‏ فإذا وجد فجوة نص، قال هشام بن عروة: والنص فوق العنق‏، وهكذا ينبغي على أئمة الحاج فمن دونهم، لان في استعجال السير إلى المزدلفة استعجال الصلاة بها، ومعلوم أن المغرب لا تصلى تلك الليلة إلا مع العشاء بالمزدلفة، وتلك سنتها.

28. ظاهر عموم القرآن والسنة الثابتة يدل على أن عرفة كلها موقف، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف)، رواه مسلم وغيره من حديث جابر الطويل، وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر)، قال ابن عبد البر: هذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث علي بن أبي طالب، وأكثر الآثار ليس فيها استثناء بطن عرنة من عرفة، وبطن محسر من المزدلفة، وكذلك نقلها الحفاظ الثقات الإثبات من أهل الحديث في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر، قال أبو عمر: واختلف الفقهاء فيمن وقف بعرفة بعرنة، فقال مالك فيما ذكر ابن المنذر عنه: يهريق دما وحجه تام، وهذه رواية رواها خالد بن نزار عن مالك، وذكر أبو المصعب أنه كمن لم يقف وحجه فائت، وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عرنة، وروي عن ابن عباس قال: من أفاض من عرنة فلا حج له، وهو قول ابن القاسم وسالم، وذكر ابن المنذر هذا القول عن الشافعي، قال: وبه أقول: لا يجزيه أن يقف بمكان أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ألا يوقف به، قال ابن عبد البر: الاستثناء ببطن عرنة من عرفة لم يجئ مجيئا تلزم حجته، لا من جهة النقل ولا من جهة الإجماع.

29. ذكر هنا(3). بعض المباحث التفصيلية المرتبطة بالوقوف بعرفة وصيام يومه وغيرها، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

30. يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم، يكفر الله فيه الذنوب العظام، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية) أخرجه الصحيح، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، وروى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء)، وفي الموطأ عن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر)، قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: (أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة)، قال أبو عمر: روى هذا الحديث أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم ابن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن أبيه، ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره، وليس بشيء، والصواب ما في الموطأ، وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة والرحمة، وأكثر الدعاء فأجابه: (إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها، قال يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم) فلم يجبه تلك العشية، فلما كان الغداة غداة المزدلفة اجتهد في الدعاء فأجابه: (إني قد غفرت لهم)، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقيل له: تبسمت يا رسول الله في ساعة لم تكن تتبسم فيها؟ فقال: (تبسمت من عدو الله إبليس إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثى التراب على رأسه ويفر)، وذكر أبو عبد الغني الحسن بن علي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين وإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسؤال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له)، قال أبو عمر: هذا حديث غريب من حديث مالك، وليس محفوظا عنه إلا من هذا الوجه، وأبو عبد الغني لا أعرفه، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد، وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الأحكام(4)..

31. ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

أ. قيل: الخطاب للحمس، فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحرم، وكانوا يقولون: نحن قطين‏ الله، فينبغي لنا أن نعظم الحرم، ولا نعظم شيئا من الحل، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم إن عرفة موقف إبراهيم عليه السلام لا يخرجون من الحرم، ويقفون بجمع ويفيضون منه ويقف الناس بعرفة، فقيل لهم: أفيضوا مع الجملة، و(ثم) ليست في هذه الآية للترتيب وإنما هي لعطف جملة كلام هي منها منقطعة.. وهو الصحيح.

ب. وقال الضحاك: المخاطب بالآية جملة الأمة، والمراد بالناس إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ [آل عمران: 173] وهو يريد واحدا، ويحتمل على هذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى، وهي التي من المزدلفة، فتجي‏ء ثم على هذا الاحتمال على بابها، وعلى هذا الاحتمال عول‏ الطبري، والمعنى: أفيضوا من حيت أفاض إبراهيم من مزدلفة جمع، أي ثم أفيضوا إلى منى لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع.. ويكون في هذا حجة لمن أوجب الوقوف بالمزدلفة، للأمر بالإفاضة منها.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏2/405.

(2) أي الرابع والخامس.

(3) تفسير القرطبي: ‏2/421.

(4) لا نرى صحة الأحاديث الدالة على الإرجاء المعارض لقوانين الجزاء في القرآن الكريم.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ﴾ فيه حذف، والتقدير: وقت الحج أشهر، أي: وقت عمل الحج؛ وقيل‏ التقدير: الحج في أشهر؛ وفيه أنه يلزم النصب مع حذف حرف الجر لا الرفع، قال الفرّاء: الأشهر رفع لأن معناه: وقت الحج أشهر معلومات؛ وقيل التقدير: الحج حج أشهر معلومات.

2. اختلف في الأشهر المعلومات، فقال ابن مسعود، وابن عمر، وعطاء، والربيع، ومجاهد، والزهري: هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة كله؛ وبه قال مالك، وقال ابن عباس، والسدي، والشعبي، والنخعي: هي شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، وقد روي أيضا عن مالك، ويظهر فائدة الخلاف في ما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر، فمن قال إن ذا الحجة كله من الوقت؛ لم يلزمه دم التأخير، ومن قال ليس إلا العشر منه؛ قال يلزمه دم التأخير.

3. استدلّ بهذه الآية من قال إنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وهو عطاء، وطاووس ومجاهد، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، قالوا: فمن أحرم بالحج قبلها أحلّ بعمرة، ولا يجزيه عن إحرام الحج، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنها لا تجزيه، وقال أحمد وأبو حنيفة: إنه مكروه فقط، وروي نحوه عن مالك، والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة من غير كراهة، وروي مثله عن أبي حنيفة، وعلى هذا القول ينبغي أن ينظر في فائدة توقيت الحج بالأشهر المذكورة في الآية، وقد قيل: إن النص عليها لزيادة فضلها، وقد روي القول بجواز الإحرام في جميع السنة عن إسحاق بن راهويه، وإبراهيم النخعي، والثوري، والليث بن سعد، واحتج لهم بقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج، ولم يخص الثلاثة أشهر، ويجاب بأن هذه الآية عامة، وتلك خاصة، والخاص مقدّم على العام، ومن جملة ما احتجوا به القياس للحج على العمرة، فكما يجوز الإحرام للعمرة في جميع السنة، كذلك يجوز للحج، ولا يخفى أن هذا القياس مصادم للنصّ القرآني فهو باطل، فالحق ما ذهب إليه الأوّلون؛ إن كانت الأشهر المذكورة في قوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ﴾ مختصة بالثلاثة المذكورة بنص أو إجماع، فإن لم يكن كذلك فالأشهر جمع شهر، وهو من جموع القلة يتردد ما بين الثلاثة إلى العشرة، والثلاثة هي المتيقنة فيجب الوقوف عندها.

4. معنى قوله: ﴿مَعْلُومَاتٍ﴾ أن الحج في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها، ليس كالعمرة، أو المراد: معلومات ببيان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو معلومات عند المخاطبين، لا يجوز التقدّم عليها ولا التأخر عنها.

5. ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ أصل الفرض في اللغة: الحزّ والقطع، ومنه فرضة القوس والنهر والجبل، ففريضة الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الحزّ للقوس؛ وقيل معنى فرض: أبان، وهو أيضا يرجع إلى القطع، لأن من قطع شيئا فقد أبانه عن غيره، والمعنى في الآية: فمن ألزم نفسه فيهنّ الحج بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا، وبالإحرام فعلا ظاهرا، وبالتلبية نطقا مسموعا، وقال أبو حنيفة: إن إلزامه نفسه يكون بالتلبية، أو بتقليد الهدي وسوقه، وقال الشافعي: تكفي النية في الإحرام بالحج.

6. الرّفث: قال ابن عباس، وابن جبير، والسدي، وقتادة، والحسن، وعكرمة، والزهري، ومجاهد، ومالك: هو الجماع، وقال ابن عمر، وطاووس وعطاء، وغيرهم: الرّفث: الإفحاش بالكلام، قال أبو عبيدة: الرّفث: اللغا من الكلام، يقال: رفث يرفث بكسر الفاء وضمها.

7. الفسوق: الخروج عن حدود الشرع؛ وقيل: هو الذبح للأصنام؛ وقيل: التنابز بالألقاب؛ وقيل: السباب، والظاهر أنه لا يختص بمعصية معينة، وإنما خصّصه من خصّصه بما ذكر باعتبار أنه قد أطلق على ذلك الفرد اسم الفسوق، كما قال سبحانه في الذبح للأصنام: ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾، وقال في التنابز ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ﴾، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم في السّباب (سباب المسلم فسوق)، ولا يخفى على عارف أن إطلاق اسم الفسوق على فرد من أفراد المعاصي لا يوجب اختصاصه به.

8. الجدال: مشتق من الجدل، وهو: الفتل، والمراد به هنا المماراة؛ وقيل: السّباب؛ وقيل: الفخر بالآباء، والظاهر الأوّل.

9. قرئ بنصب الثلاثة ورفعها، ورفع الأوّلين، ونصب الثالث؛ وعكس ذلك، ومعنى النفي لهذه الأمور النهي عنها.

10. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ حثّ على الخير بعد ذكر الشرّ، وعلى الطاعة بعد ذكر المعصية، وفيه أن كل ما يفعلونه من ذلك فهو معلوم عند الله لا يفوت منه شيء.

11. ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ فيه الأمر باتخاذ الزاد، لأن بعض العرب كانوا يقولون كيف نحجّ بيت ربنا ولا يطعمنا؟ فكانوا يحجون بلا زاد ويقولون: نحن متوكلون على الله سبحانه؛ وقيل: المعنى: تزوّدوا لمعادكم من الأعمال الصالحة: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ والأوّل أرجح، كما يدل على ذلك سبب نزول الآية.

12. ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ إخبار بأن خير الزاد اتقاء المنهيات، فكأنه قال اتقوا الله في إتيان ما أمركم به من الخروج بالزاد فإن خير الزاد التقوى؛ وقيل: المعنى: فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة والحاجة إلى السؤال والتكفف.

13. ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ فيه التخصيص لأولي الألباب بالخطاب بعد حث جميع العباد على التقوى، لأن أرباب الألباب هم القابلون لأوامر الله، الناهضون بها، ولبّ كل شيء: خالصه.

14. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ فيه الترخيص لمن حجّ في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق، وهو المراد بالفضل هنا، ومنه قوله تعالى: ﴿فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ أي: لا إثم عليكم في أن تبتغوا فضلا من ربكم مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج.

15. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ﴾ أي: دفعتم، يقال: فاض الإناء: إذا امتلأ ماء حتى ينصبّ من نواحيه؛ ورجل فيّاض: أي: متدفقة يداه بالعطاء، ومعناه: أفضتم أنفسكم، فترك ذكر المفعول، كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا.

16. ﴿عَرَفَاتٍ﴾: اسم لتلك البقعة، أي: موضع الوقوف، وقرأه الجماعة بالتنوين، وليس التنوين هنا للفرق بين ما ينصرف وما لا ينصرف، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين، قال النحّاس: هذا الجيد، وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات، قال لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين، وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء تشبيها بتاء فاطمة.. وقال في الكشّاف: فإن قلت هلّا منعت الصرف، وفيها السببان التعريف والتأنيث، قلت: لا يخلو التأنيث، إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدّرة كما في سعاد، فالتي في لفظها ليست للتأنيث‏ وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، ولا يصح تقدير التاء فيها لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها، كما لا تقدّر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها.

17. سميت: عرفات، لأن الناس يتعارفون فيها؛ وقيل: إن آدم التقى هو وحواء فيها فتعارفا؛ وقيل غير ذلك، قال ابن عطية: والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع.

18. استدل بالآية على وجوب الوقوف بعرفة، لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده، والمراد بذكر الله عند المشعر الحرام دعاؤه، ومنه التلبية والتكبير؛ وسمّي المشعر مشعرا من الشعار، وهو العلامة، والدعاء عنده من شعائر الحج، ووصف بالحرام لحرمته؛ وقيل: المراد بالذكر: صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعا، وقد أجمع أهل العلم على أن السنة أن يجمع الحاجّ بينهما فيها، والمشعر: هو جبل قزح الذي يقف عليه الإمام، وقيل: هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر.

19. ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ الكاف نعت مصدر محذوف، وما: مصدرية، أو كافة، أي: اذكروه ذكرا حسنا، كما هداكم هداية حسنة، وكرّر الأمر بالذكر تأكيدا ـ وقيل: الأول: أمر بالذكر عند المشعر الحرام؛ والثاني: أمر بالذكر على حكم الإخلاص.. وقيل المراد بالثاني: تعديد النعمة عليهم.

20. (إن) في قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ﴾ مخففة، كما يفيده دخول اللام في الخبر، وقيل: هي بمعنى قد، أي: قد كنتم، والضمير في قوله: ﴿مِنْ قِبَلِهِ﴾ عائد إلى الهدى؛ وقيل: إلى القرآن.

21. قيل: الخطاب في قوله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾ للحمس من قريش، لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة، وهي من الحرم، فأمروا بذلك ـ وعلى هذا تكون ثم لعطف جملة على جملة لا للترتيب ـ وقيل: الخطاب لجميع الأمة، والمراد بالناس: إبراهيم، أي: ثم أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم، فيحتمل أن يكون أمرا لهم بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن يكون إفاضة أخرى وهي التي من المزدلفة، وعلى هذا تكون ثم على بابها، أي: للترتيب، وقد رجّح هذا الاحتمال الأخير ابن جرير الطبري.

22. إنّما أمروا بالاستغفار لأنهم في مساقط الرحمة، ومواطن القبول، ومظنات الإجابة.. وقيل: إن المعنى: استغفروا للذي كان مخالفا لسنة إبراهيم، وهو وقوفكم بالمزدلفة دون عرفة.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/230.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الْحَجِّ﴾ أي: أوقات أعماله، ﴿أَشْهُرٍ﴾ وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجّة، أي عشرة الأول، نزل منزلة الكلّ لغاية فضله، قال الثعالبيّ: وقد جاء في تفسير أشهر الحجّ وعشر ذي الحجّة ـ وفي بعضها تسع ـ فمن عبر بالتسع أراد الأيام، ومن عبر بالعشر أراد الليالي؛ ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الحجّ عرفة، وقد تبينت أنه يفوت الوقوف بطلوع الفجر.

2. ﴿مَعْلُومَاتٍ﴾ أي: قبل نزول الشرع عند الناس، لا يشكلن عليهم، وآذن هذا أنّ الأمر بعد الشرع على ما كان عليه‏ ﴿فَمَنْ فَرَضَ﴾ أي: أوجب على نفسه‏ ﴿فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ بإحرامه‏ ﴿فَلَا رَفَثَ﴾ أي: خروج عن حدود الشريعة بارتكاب محظورات الإحرام وغيرها كالسباب والتنابز بالألقاب، ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ أي: مماراة أحد من الرفقة والخدم والمكارين‏ ﴿فِي الْحَجِّ﴾ أي: في أيامه، بل ينبغي أن يوجد فيها كلّ خير من خيرات الحجّ، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه، والإشعار بعلة الحكم؛ فإنّ زيارة البيت المعظم، والتقرب بها إلى الله عزّ وجلّ، من موجبات ترك الأمور المذكورة، وإيثار النفي للمبالغة في النهي؛ والدلالة على أنّ ذلك حقيق بأن لا يكون، فإنّ ما كان منكرا مستقبحا في نفسه، ففي تضاعيف الحجّ أقبح، كليس الحرير في الصلاة.

3. قال بعضهم: النكتة في منع هذه الأشياء على أنها آداب لسانية: تعظيم شأن الحرم، وتغليظ أمر الإثم فيه، إذ الأعمال تختلف باختلاف الزمان والمكان، فللملأ آداب غير آداب الخلوة مع الأهل، ويقال في مجلس الإخوان ما لا يقال في مجلس السلطان، ويجب أن يكون المرء في أوقات العبادة والحضور مع الله تعالى على أكمل الآداب، وأفضل الأحوال، وناهيك بالحضور في البيت الذي نسبه الله سبحانه إليه.. وأما السرّ فيها على أنها محرمات الإحرام، فهو أن يتمثل الحاج أنّه بزيارته لبيت الله تعالى مقبل على الله تعالى، قاصد له، فيتجرّد عن عاداته ونعيمه، وينسلخ من مفاخره ومميزاته على غيره، بحيث يساوي الغنيّ الفقير، ويماثل الصعلوك الأمير، فيكون الناس من جميع الطبقات في زيّ كزيّ الأموات، وفي ذلك ـ من تصفية النفس، وتهذيبها، وإشعارها بحقيقة العبودية لله، والأخوّة للناس ـ ما لا يقدر قدره، وإن كان لا يخفى أمره.

4. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ حث على الخير عقيب النهي عن الشرّ، وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق البرّ والتقوى، ومكان‏ الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة، وقد روي‏ فيمن حجّ ولم يرفث ولم يفسق أنّه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وذلك، لأنّ الإقبال على الله تعالى بتلك الهيئة، والتقلب في تلك المناسك على الوجه المشروع، يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها، ويدخلها في حياة جديدة: لها فيها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت.

5. ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ وروى البخاريّ‏ عن عكرمة عن ابن عباس قال كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون ويقولون: نحن المتوكلون! فإذا قدموا مكّة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، أي: وتزوّدوا ما تتبلغون به وتكفّون به وجوهكم عن الناس، واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم، ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، أي: الاتقاء عن الإبرام والتثقيل عليهم، وقال ابن عمر: إنّ من كرم الرجل طيب زاده في السفر، وكان يشترط على من صحبه الجودة.. نقله ابن كثير، ويقال: في معنى الآية: وتزودوا من التقوى للمعاد، فإنّ الإنسان لا بدّ له من سفر في الدنيا، ولا بدّ فيه من زاد، ويحتاج فيه إلى الطعام والشراب والمركب؛ وسفر من الدنيا إلى الآخرة، ولا بدّ فيه من زاد أيضا وهو تقوى الله، والعمل بطاعته، واتقاء المحظورات..! وهذه الزاد أفضل من الزاد الأول، فإنّ زاد الدنيا يوصل إلى مراد النفس وشهواتها، وزاد الآخرة يوصل إلى النعيم المقيم في الآخرة.. وثمّة وجه آخر: وهو أنّ قوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ أمر باتخاذ الزاد هو طعام السفر، وقوله‏ ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ إرشاد إلى زاد الآخرة وهو استصحاب التقوى‏ إليها بعد الأمر بالزاد للسفر في الدنيا، كما قال تعالى‏ ﴿وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف: 26]، لما ذكر اللباس الحسيّ نبّه مرشدا إلى اللباس المعنويّ وهو الخشوع والطاعة، وذكر أنّه خير من هذا وأنفع.

6. ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أي: اتقوا عقابي وعذابي في مخالفتي وعصياني يا ذوي العقول والأفهام، فإنّ قضية اللبّ تقوى الله، ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لبّ له كما قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: 179]، وقد قرئ بإثبات الياء في‏ ﴿اتَّقُونِ‏﴾ على الأصل، وبحذفها للتخفيف ودلالة الكسرة عليه.

7. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ قال الراغب: كانت العرب تتحاشى من التجارة في الحجّ، حتى إنّهم كانوا يتجنبون المبايعة إذا دخل العشر، وحتى سمّوا من تولّى متجرا في الحجّ: الداج دون الحاج؛ فأباح الله ذلك؛ وعلى إباحة ذلك، دلّ قوله: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج: 27] وقوله: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [المزمل: 20]

8. في الآية الترخيص لمن حجّ في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق ـ وهو المراد بالفضل هنا ـ ومنه قوله تعالى: ﴿فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 10]، أي: لا إثم عليكم في أن تبتغوا في مواسم‏ الحجّ رزقا ونفعا وهو الربح في التجارة مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحجّ.

9. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ ـ أي دفعتم منها ـ ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ أي: بالتلبية، والتهليل، والتكبير، والثناء، والدعوات، و(المشعر الحرام): موضع بالمزدلفة، ميمه مفتوحة وقد تكسر، وقد وهم من ظنه جبيلا بها، سمّي به لأنه معلم للعبادة وموضع لها ـ كذا في (القاموس وشرحه)، ونقل الفخر عن الواحديّ في (البسيط): إنّ (المشعر الحرام) هو المزدلفة، سمّاها الله تعالى بذلك، لأن الصلاة والمقام والمبيت به، والدعاء عنده، واستقر به الفخر قال لأن الفاء في قوله‏ ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ تدلّ على أنّ الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلّا بالبيتوتة بالمزدلفة.. قال البيضاويّ: ويؤيد الأول ما روى جابر: أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما صلّى الفجر ـ يعني بالمزدلفة بغلس ـ ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام‏، أي: فإنه يدلّ على تغاير المزدلفة والمشعر الحرام لمكان مسيره صلّى الله عليه وآله وسلّم منها إلى المشعر الحرام،! وإنما قال (يؤيد) لأنه يجوز أن يؤول المشعر الحرام في الحديث بالجبل، إمّا بحذف المضاف، أو بتسمية الجزء باسم الكلّ ـ أفاده السيلكوتي.

10. قال ابن القيّم في (زاد المعاد) في سياق حجته صلّى الله عليه وآله وسلّم: فلمّا غربت الشمس واستحكم غروبها أفاض من عرفة بالسكينة من طريق المأزمين، ثم جعل يسير العنق ـ وهو ضرب من السير ليس بالسريع ولا البطيء ـ فإذا وجد فجوة ـ وهو المتسع ـ نصّ سيره ـ أي: رفعه فوق ذلك ـ وكان يلبي في مسيره ذلك لا يقطع التلبية، حتى أتى المزدلفة فتوضأ، ثم أمر المؤذن بالأذان فأذّن، ثم أقام فصلّى المغرب قبل حطّ الرحال وتبريك الجمال؛ فلمّا حطّوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة ثم صلّى العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان، ولم يصلّ بينهما شيئا؛ فلمّا طلع الفجر صلاها في أول الوقت، ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام، فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرّع والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جدا، وذلك قبل طلوع الشمس.

11. قال بعض الأئمة: ما أحقّ الذكر عند المشعر الحرام بأن يكون واجبا أو نسكا، لأنّه مع كونه مفعولا له صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومندرجا تحت قوله: خذوا عني مناسككم، فيه أيضا النصّ القرآنيّ بصيغة الأمر: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾

12. ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ بدلائل الكتاب، أي: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة، فمفاد التشبيه التسوية في الحسن والكمال، كما تقول: اخدمه كما أكرمك، يعني: لا تتقاصر خدمتك عن إكرامه، وفيه تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحجّ.

13. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ﴾ أي: من قبل الهدى‏ ﴿لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ الجاهلين بالإيمان والطاعة، و(إن) هي المخففة، و(اللام) هي الفارقة.

14. ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ أي: من عرفة لا من المزدلفة، وفي الخطاب وجهان:

أ. أحدهما: أنّه لقريش، وذلك لما كانوا عليه من الترفّع على الناس والتعالي عليهم، وتعظّمهم عن أن يساووهم في الموقف، وقولهم: نحن أهل الله، وقطّان حرمه، فلا نخرج منه فيقفون بجمع، وسائر الناس بعرفات.

ب. ثانيهما: أنّه أمر لجميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس يعني: إبراهيم عليه السلام، قال الراغب: وسمّاه الناس لأنّ (الناس) يستعمل على ضربين:

أحدهما للنوع من غير اعتبار مدح وذم.

الثاني المدح اعتبارا بوجود تمام الصورة المختصة بالإنسانية، وليس ذلك في هذه اللفظة، بل في اسم كلّ جنس ونوع ـ نحو: هذه فرس وفلان رجل، وليس هذا بفرس ولا فلان برجل ـ أي: ليس فيه معناه المختصّ‏ بنوعه، وبهذا النظر نفي السمع والبصر عن الكفار؛ فعلى هذا سمّي إبراهيم (الناس) على سبيل المدح ـ وهو أن الواحد يسمّى باسم الجماعة تنبيها على أنه يقوم مقامهم في الحكم ـ وعلى هذا قول الشاعر:

çوليس على الله بمستنكر...أن يجمع العالم في واحدé

وعلى هذا قال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: 120]

15. سؤال وإشكال: ما معنى كلمة (ثمّ) فإنّها تستلزم تراخي الشيء عن نفسه، سواء عطف على مجموع الشرط والجزاء، أو الجزاء فقط؟ والجواب:

أ. إن كلمة (ثمّ) ليست للتراخي، بل مستعارة للتفاوت بين الإفاضتين ـ أي: الإفاضة من عرفات والإفاضة من مزدلفة ـ والبعد بينهما بأنّ أحدهما صواب والآخر خطأ، قال التفتازاني: لما كان المقصود من قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ المعنى التعريضيّ، كان معناه: ثمّ لا تفيضوا من مزدلفة، والمقصود من إيراد كلمة (ثمّ) التفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأنّ أحدهما صواب والآخرى خطأ.

ب. وأجاب بعضهم بأنّ (ثمّ) بمعنى الواو.

16. ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ عما سلف من المعاصي‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، قال ابن كثير: كثيرا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات، ولهذا ثبت في (صحيح مسلم): أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا وثلاثين، وفي (الصحيحين): أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين، وقد روى ابن جرير هاهنا حديث عباس بن مرداس السلمي في استغفاره صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمته عشية عرفة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/71.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الْحَجُّ أشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ عند الناس، وقت الحجِّ أشهر، أو الحجُّ ذو أشهر: شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجَّة، ولا يشكل علينا الجمع لأنَّ المعنى أنَّ الحجَّ يوقع في ثلاثة أشهر والأمر كذلك، فإنَّه يوقع في التسعة الأولى: وفي ليلة النحر للمراهق، فذو الحجَّة بذلك محلٌّ للحجِّ، بل يوقع باقي أعماله أيضًا بعد ذلك، ولا يلزم من كون شهر محلًّا لكذا أن يكون في كلِّ يوم منه، تقول: فعلت كذا سنة كذا، وإنَّما فعلته في ساعة منها، أو عشرون أو ثلاثون، ووقت العمرة السنة كلُّها، وقيل: نزَّل بعض الشهر منزلة الشهر في قوله: ﴿أَشْهُرٌ﴾ إذ لم يقل: شهران وعشرة أيَّام، أو شهران وعشرون يومًا، وزعم بعض أنَّ الجمع المركَّب من آحادٍ بعضُها حقيقةٌ وبعضُها مجازٌ، ليس جمعًا بين الحقيقة والمجاز، وليس كذلك عندي، وأجاز الشافعيَّة الجمع بينهما.

2. وزعم بعض أنَّ الآية على أنَّ أقلَّ الجمع اثنان مجازًا أو حقيقة، وَأَمَّا من قال ثلاثون يومًا فقد أتمَّ ثلاثة أشهر، ومذهبنا الأوَّل، فلا يفوت طواف الزيارة والسعي ما دام غير ناقض لإحرامه، ولو عامًا أو أكثر، وفاته بالعشرين على الثاني، وبالثلاثين على الثالث، فيقضي الحجَّ مستأنفًا على القولين، ونسب الثالث لمالك في رواية عنه، وابن عمر والزهري، وروي عن الشافعيِّ شاذًّا، وَأَمَّا الإحرام به فلا يجوز بعد عرفة، وأجازه الشافعيُّ ليلة النحر شاذًّا مردودًا، وعن إملاء الشافعيِّ: يجوز الإحرام به في جميع ذي الحجَّة، وهو أشذُّ وأبعد؛ وَأَمَّا الوقوف فلا يصحُّ إلَّا في يوم عرفة في عرفة، إلَّا المراهق فله الوقوف فيها ليلة النحر، وعن أبي حنيفة: شهران وعشرة لأنَّ الطواف ركن يوقع فيه لا قبله، والخلاف لفظيٌّ، فإنَّ ما قبل طلوع فجر النحر من وقت الإحرام والركن الأعظم ـ وهو الوقوف ـ وما بعد ذلك وقتٌ للركن العظيم ـ وهو الطواف ـ وما ليس ركنًا، وزعم أبو حنيفة فيما قيل عنه أنَّه يجوز الإحرام قبل شوال بالحجِّ على كراهة، والتحقيق أنَّه أجازه قبله؛ لأنَّه عنده شرط كالوضوء للصلاة.

3. ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ على نفسه بالإحرام به مع النيَّة ولو بلا لفظ، ومع التلبية به مع اللفظ والقصد للدخول فيه، كالدخول في الصلاة، هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة بالتلبية مع النيَّة، أو سوق الهدي معها أيضًا؛ لأنَّ الإحرام في الحجِّ عقد على الأداء، فلا بدَّ معه من ذكر وهو التلبية أو ما قام مقامه وهو السَّوْق كالإحرام في الصلاة، وقال الشافعيُّ: تجزي النيَّة بلا تلفُّظ ولا تلبية؛ لأنَّ الإحرام التزام الكفِّ عن المحظورات، فيصير شارعًا بالنيَّة كالصوم، ومن أفسد حجًّا أو عمرة ولو نفلا لزمه قضاؤها ولو عند من لا يوجب قضاء نفل العبادة منَّا، وكذا قال الشافعيُّ وأبو حنيفة.

4. وقوله: ﴿فِيهِنَّ﴾ دليل على أنَّه لا يصحُّ الإحرام بالحجِّ في غير أشهره فيبطل، وقيل: يصير عمرة، وأجيب بأنَّ المراد بـ (فِيهِنَّ) الكمال ونفي الكراهة، وليس كذلك فإنَّ قوله: ﴿أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ نصٌّ في تخصيص أشهر، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا ينبغي لأحد أن يُحرم بالحجِّ إلَّا في أشهره) أراد به التحريم، بدليل الأحاديث الناصَّة على أنَّه لا يصحُّ الإحرام بالحجِّ قبل أشهره.

5. ﴿فَلَا رَفَثَ﴾ لا جماع، كما تُعورف شرعًا، أو فلا فحش: كلام في أمر الجماع ومقدِّماته، وهو المعنى الحقيقيُّ للرفث، وعليه فبالأَولى أن لا جماع، ﴿وَلَا فُسُوقَ﴾ في الحجِّ ولا غيره، ومنها السبُّ والتلقيب، فمن فعل كبيرة بعد الإحرام لزمه دم.

6. ﴿وَلَا جِدَال فِي الْحَجِّ﴾ في أيَّامه بعد الإحرام به، ولو مع المكاري أو الخادم أو الرفقة، ومن جادل حتَّى أغضب أو غضب لزمه دم، ولو في الحقِّ أو المباح، وقيل: المراد: لا جدال في أيَّام الحجِّ ولو قبل الإحرام، واللفظ إخبار والمعنى إنشاء، أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا؛ أو إخبار لفظًا ومعنى، أي: لا يثبت ذلك في دين الله، وإن كان فمِن دينِ الجاهليَّة والشيطانِ، والفسوق محرَّم على الحاجِّ وغيره، وذكر هنا للتغليظ كالنهي عن لبس الحرير في حقِّ الرجل حال الصلاة مع أنَّه محرَّم في غيرها أيضًا، أو الفسوق بمعنى الخروج، أي: لا تخرجوا عن حدِّ الشرع إلى المعصية ولو صغيرة، وإلى ما لا يجوز في الإحرام كلبس المخيط والتطيُّب والصيد، وزعم بعض أنَّ الجدال بالحقِّ غير منهيٍّ عنه، ويردُّه مخالفة ظاهر الآية، وأنَّه يفضي إلى شرٍّ، وقد قال الله تعالى : ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمُ إِلَّا مِرَآءً ظَاهِرًا﴾ [الكهف: 22]، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من ترك المراء وهو محقٌّ، بني له بيت في أعلى الجنَّة؛ ومن تركه وهو مبطل بني له في ربضها) وغير ذلك.. وعدم ذكره في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من حجَّ ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه) لا يدلُّ على عدم النهي عنه؛ لأنَّ عدم ذكر الشيء لا يدلُّ على انتفائه، ويروى أنَّ معنى ﴿لَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾: اتركوا الخلاف في الحجِّ، إذ كانت قريش تقف بالمزدلفة وسائر الناس بعرفة، وكانوا يقدِّمون الحجَّ عامًا ويؤخِّرونه عامًا، فأزال الله ذلك؛ فنقول أيضًا: لا جدال في ذلك ولا في غيره، ولو لم يضمر للحجِّ لتأكيد شأنه.

7. ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ كالكلام الحسن مكان الرفث، والبرِّ والتحصُّن مكان الفسوق، والوفاق بالأخلاق الحميدة مكان الجدال في الحجِّ، وغيره كالصدقة والصوم والنفل وسائر العبادة، ﴿يَعْلَمْهُ اللهُ﴾ فيجازيكم به، وكذلك يعلم الشرَّ لكن لم يذكره؛ لأنَّ المقام مقام مقابلة الخير بالخير، أو أراد العلم بالجزاء.

8. ﴿وَتَزَوَّدُواْ﴾ لآخرتكم بالأعمال الصالحة وترك ما ينهى عنه، وترك الطمع والسؤال مع وجود الغنى عنه، فمن لم يتزوَّد لها هلك بالنار، كما يموت مسافر بلا زاد ﴿فَإِنَّ﴾ لأنَّ ﴿خَيْرَ الزَّادِ﴾ لأنَّ الزاد يشمل زاد الدنيا وزاد الآخرة ﴿التَّقْوَى﴾ الحذر عن ترك الفرض وفعل المحرَّم، ومنه الإلحاح في السؤال، بل مطلق السؤال، بلا حاجة إليه مضطرَّة، والخروج إلى الحجِّ بلا زاد فيكون عيالاً على الناس وثقلاً عليهم، فالتحرُّز عن ذلك من جملة التقوى، ويروى أنَّ حُجَّاج اليمن كانوا يفعلون ذلك، ويزعمون أنَّ ذلك توكُّل على الله، فأوحى الله أن تزوَّدوا ما يبلغكم ويرجعكم، كما رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عبَّاس  ، حتَّى فسَّروا الزاد بطعام المسافر وشرابه طبق ما يفعل اليمانيُّون، ويقولون: (نحن حجَّاج بيت ربِّنا ووفد إليه فلا يُطعمنا!)، وربَّما أفضى بهم ذلك إلى النهب والغصب، وما ذكرته أوَّلا هو الراجح لأنَّه ظاهر الآية، وعلى الأخير يكون المعنى: اصنعوا الزاد لسفر الحجِّ؛ لأنَّ خير الأزواد تقوى، ومن لا يصنعه يخرج عن التقوى بالطمع والسؤال.

9. ﴿وَاتَّقُونِ يَآ أُوْلِي الَالْبَابِ﴾ فقد وضعت فيكم من العقل ما يميل بكم عن المخالفة.

10. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ﴾ أيُّها المسلمون على الإطلاق ﴿جُنَاحٌ﴾ إثمٌ ﴿اَنْ تَبْتَغُواْ﴾ في أن تطلبوا ﴿فَضْلاً﴾ رزقًا ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ التجارةَ في الحجِّ، هذا ترخيص ونهي لهم عن تحريم التَّجْر بعد الإحرام، فإنَّه لا ينقص ثوابًا ولا يحبطه، والترك أولى، وهو موافق لقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ﴾، وإن كانت التجارة تنقص فرضًا حرمت، أو مستحبًّا كُرهت، وإذا شوركت العبادة بغيرها، قال ابن عبد السلام: فلا أجر لها، ولو كانت الأغلب والباعث، وقال الغزالي: إن كان الأغلب دنيويًّا فلا ثواب، أو أخرويًّا فبقدره، وإن تساويا سقطَا؛ وعندي أنَّه يثاب بقدره، ولو أقلُّ قليل، وبه قال ابن حجر.

11. وكانوا يكرهون التجر أو يحرِّمونه في الحجِّ، فنزلت الآية مبيحة بلا جدال ولا فسوق في أسواقكم: عكاظ ومجنَّة وذي المجاز وغيرها، أسواق تقام في مواسم الحجِّ، وعكاظ من التعاكظ وهو التفاخر، يتفاخرون ويتناشدون، بين نخلة والطائف عشرين يومًا، من أوَّل ذي القعدة، ومجنَّة على أميال من مكَّة، وذو المجاز على فرسخ من عرفة.

12. ومنع أبو مسلم التجر في الحجِّ، وحمل الآية على ما بعد الفراغ من الحجِّ، كقوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الَارْضِ﴾ [الجمعة: 10]، ويردُّه أنَّ الحمل على إباحة ما تُوهِّم حرمته أو كراهته أولى من الحمل على ما عُلم إباحته، وهو التجر بعد الفراغ من الحجِّ، وَأَمَّا الصلاة فأعمالها متَّصلة لا يقاس عليها الحجُّ؛ لأنَّ أعماله متفرِّقة، وكان ابن عبَّاس يقرأ قراءة تفسير: (أن تبتغوا فضلاً من ربِّكم في مواسم الحجِّ)، وكذا ابن مسعود.

13. قال أبو أمامة لابن عمر: (نكرِي للحُجَّاجِ ويقول الناس: لا حجَّ لنا، ونحن نفعل أفعال الحجِّ كلَّها، فقال: سئل صلّى الله عليه وآله وسلّم عمَّا سألت فنزلت الآية، فقال: (أنتم الحجَّاج أنتم الحجَّاج)، وتدلُّ على ذلك الفاء في قوله: ﴿فَإِذَآ أَفَضتُّمْ﴾ أفضتم أنفسكم، أي: دفعتموها دفعًا شبيهًا بإفاضة الإنسان الماء في الكثرة والسرعة، وذلك هو الأصل، ولا يَرِد أنَّ غير الكثير وغير المسرع لا يتمُّ بل يتمُّ، أوْ لا يذكر الله عند المشعر الحرام بل يذكره فيه.

14. ﴿مِّنْ عَرَفَاتٍ﴾ منوَّن تنوين مقابلة؛ لأنَّه بصيغة جمع المؤنَّث السالم، أو جمع مؤنَّث سالم سمِّي به؛ والمفرد عرفة، وعرفة جمع عارف، تسميةً للمحلِّ باسم الحال، وذلك أنَّه تعارف آدم وحوَّاء فيها، ويتعارف الناس فيها، وعرَّفها جبريل لآدم وإبراهيم ومحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولقول جبريل فيها: (اِعترف بذنبك، واعرف المناسك)، أو لعلوِّها كما قيل لعرف الديك، أو عرفة اسم مفرد وضع للبقعة كعرفات بصيغة الجمع فهما اسمان، ويرجِّحه أنَّ الأصل عدم الانتقال من الجمع إلى جمع آخر، ولكون تنوينه للمقابلة ثبت مع العَلَميَّة والتأنيث كحمزات، وهو تأنيث البقعة؛ وصيغة جمع المؤنَّث لسالم صيغة تأنيث فيراعَى التأنيث في المنع ولو مِمَّا يردُّ إليه الضمير مذكَّرًا، كالهندات علَمًا لرجل، وسكون ما قبل تائه لا يبطل تأنيثه، ولو لم يكن في نية التأنيث كَرَغَبُوت، وأيضًا هي عوض عن تاء المفرد في الجملة.

15. ولزم من الإفاضة أنَّهم فيها، كأنَّه قيل: قفوا في عرفات وأفيضوا منها، فإذا أفضتم منها فاذكروا الله.. إلخ، والإفاضة من عرفات واجبة؛ لأنَّ الأمر المجرَّد للوجوب، وهو لا يتمُّ إلَّا بالكون في عرفات، وما لا يتمُّ الواجب إلَّا به فهو واجب، وهو ظاهر بلا تكلُّف عندي، إلَّا أنَّ الكون فيها لا يستلزم اللبث، فيتقوَّى وجوب الوقف بالإجماع والحديثِ، بل يدلُّ على ذلك لفظ الإفاضة؛ لأنَّهما بعد لبث الماء في شأن الماء، فكذا في شأن اللبث.

16. ﴿فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ ولزم من الذكر عنده أنَّهم أفاضوا إلى المزدلفة ولبثوا فيها، وكأنَّه قيل: أفيضوا منها إلى المزدلفة ثمَّ إلى المشعر الحرام فاذكروا الله فيه، أي: بعد المبيت فيها بالتلبية والتهليل والدعاء، والمشعر الحرام: جبل في آخر المزدلفة يسمَّى (قُـزَح) كعُمر، اسم لملَك موكَّل بالسحاب، أو لملِك من الملوك، أو شيطان في الأصل، روى مسلم أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وقف به يذكر الله ويدعوه حتَّى أسفر جدًّا، وسمِّي المشعر لأنَّه علامة من علامات الحجِّ معظَّمة لأنَّه من الحرم ومحلُّ العبادة، وقيل: المشعر الحرام: ما بين مَأْزَمَيْ عرفة ووادي مُحَسِّر، ويروى: ما بين وادي مزدلفة المشعر الحرام ووادي مُحَسِّر ليس من الموقف، ووادي مُحَسِّر خمس مائة ذراع طولاً، وخمس وأربعون ذراعًا عرضًا، وفي مسلم عن جابر أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لَمَّا صلَّى الفجر ـ أي: في المزدلفة ـ بغلَس، ركب ناقته حتَّى أتى المشعر الحرام، فدعا وكبَّر وهلَّل، فدلَّ الحديث على القول الثاني، إلَّا أن يؤوَّل المشعر الحرام في الحديث بالجبل، أو بتسمية الجزء باسم الكلِّ، والمعنى: واذكروا الله لذاته إعظامًا وإجلالاً واستحقاقًا عند المشعر الحرام.

17. ﴿وَاذْكُرُوهُ﴾ أيضًا ﴿كَمَا هَدَاكُمْ﴾ أي: لهدايته إيَّاكم عن الضلالة إلى المناسك وغيرها من دينه تعالى  ، أو اذكروه ذكرًا شبيهًا بهدايته إيَّاكم إلى ذلك في الحسن، أو اذكروه على نحو ما علَّمكم لا تغيِّروه، ﴿وَإِنْ﴾ الشأن، أو أنَّكم، خفِّفت وأهملت، وليست نافية بدليل اللام في قوله: ﴿كُنتُم مِّن قَبْلِهِ﴾ أي: من قبل الهدى المعلوم من قوله: ﴿كَمَا هَدَاكُم﴾ ﴿لَمِنَ الضَّآلِّينَ﴾ الجاهلين للتوحيد والعبادة، وهداكم الله تعالى إليهما أحوج ما أنتم، للفترة، ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ﴾ منها يا قريش ومن يكون معهم، والمفعول به محذوف، أي: أنفسَكم، ﴿مِنْ حَيْثُ أفَاضَ النَّاسُ﴾ سائر العرب والعجم أنفُسَهم، أو (أفاض) في الموضعين موافق (فَاضَ) فهو لازم، والمراد: الإفاضة من عرفات.

18. والخطاب لقريش والحكم عام؛ لأنَّ خصوص السبب لا ينافي عموم الحكم، وقيل: الضمير للعموم لا لقريش خاصَّة فيدخلون بالأولى، قيل: هو أوضح؛ لأنَّ الضمائر قبلُ وبعدُ للعموم، قلت: يناسب خصوص قريش عموم إفاضة الناس، وأنَّهم الذين لا يفيضون كما يفيض غيرهم، وقيل: الناس إبراهيم لأنَّه أبوهم، والمعروف بالمناسك، وكرَّر الإفاضة من عرفات للتأكيد، وليبيِّن لهم أنَّهم ليسوا أولى من غيرهم، بل هم وغيرهم سواء، وإنَّما الشرف بالتقوى لا بالنسب والمكان، وكانوا: يقولون: نحن من ولد إبراهيم، ثمَّ إنَّا سكَّان الحرم وأهل الله، فلا نخرج منه، فيقفون بالمزدلفة منه، وسائرُ الناس يقفون بعرفات خارجة عنه.

19. أو (ال) للكمال، أي: أفاض الناس الكاملون في شأن الوقوف، وهم الذين يقفون في عرفات، فذلك ذمٌّ لقريش ومن ينحو نحوهم، ترفَّعوا فجازاهم الله بأنَّهم دون غيرهم لأنَّهم خالفوا موقف إبراهيم عليه السلام وغيرهم وافَقه، و(ثمَّ) للترتيب في الرتبة لا في الزمان، يعني أنَّ الإفاضة من عرفات هي العالية لا الإفاضة من المزدلفة للواقف فيها دون عرفات، وقيل: الإفاضة الثانية: من المزدلفة إلى منًى بعد الوقوف في عرفات، وهو قول جماعة، وعليه الضحَّاك، ورجَّحه الطبريُّ، فيكون الخطاب للناس كلِّهم، قريش وغيرهم، أو لَهم وفي حكمهم غيرُهم، فالترتيب في الزمان على أصله، أي: من حيث أفاض الناس الأوائل قبلكم من لدن آدم ومن لدن إبراهيم عليه السلام ، لا تغيِّروه كما غيَّرته جاهليَّتكم، إذ كنتم من قبل الهدى من الضالِّين.

20. ﴿وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ﴾ من ضلالكم وتغييركم المناسك، وفيه دليل أنَّ الكفَّار مخاطبون بالفروع، وأنَّهم مؤاخذون على الذنوب، ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لمن آمن واستغفر.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/358.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ معناه أن الوقت الذي يؤدى فيه الحج أشهر يعلمها الناس، وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة؛ أي: إنه يؤدى في هذه الأشهر، ولا يلزم أن يكون من أول يوم منها إلى آخر يوم؛ بل معناه أنه يصح الإحرام به من غرة أولها وتنتهي أركانه وواجباته في أثناء آخرها، فالوقوف في التاسع من ذي الحجة وبقية المناسك في أيام العيد وهي يوم النحر، الذي فسر به قوله تعالى: ﴿يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾ وأيام التشريق، وجوز بعض السلف تأخير طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة.

2. اختلف العلماء في قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾، فقال بعضهم: إنها الأشهر الثلاثة ومن أولها إلى آخرها، ويروى عن ابن مسعود وابن عمر وعليه مالك، وقال بعضهم: إنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، ويروى عن ابن عباس وعليه أبو حنيفة والشافعي وأحمد، ولا حجة في الآية لأحد على تحديده، والمتبادر منها ما ذكرناه، وقوله تعالى: ﴿مَعْلُومَاتٍ﴾ إقرار لما كان عليه العرب في الجاهلية من أشهر الحج؛ لأنه منقول بالتواتر العملي من عهد إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وهو يتضمن بطلان النسيء فيها، لأنه جاهلي معروف.

3. استدل بالآية على أنه لا يجوز الإحرام بالحج في غير هذه الأشهر، لأنه شروع في العبادة في غير وقتها كمن يصلي قبل دخول الوقت، ويروى عن بعض علماء التابعين وعليه الشافعي والأوزاعي وأبو ثور من أئمة الفقه، وقال أبو حنيفة وأحمد: إنه جائز مع الكراهة، ومالك بلا كراهة.

4. بحث بعض العلماء في لفظ الأشهر وكونها جمع قلة، وهل ورد في بيانها نص أو إجماع؟ وأقول: إنه بحث لا وجه له، فالمراد بقوله تعالى: ﴿مَعْلُومَاتٍ﴾ أنها هي أشهر الحج المعروفة للعرب قبل الإسلام، ولا خلاف في أنها الثلاثة التي ذكرناها، ولذلك لم يؤثر عن الصحابة فيها إلا ما قيل في الثالث منها: هل تكون أيامه كلها أيام حج أم تنتهي أركان الحج في العاشر منه؟

5. الآية ظاهرة في أن الحج لا يكون إلا في هذه الأشهر، ولعل هذا هو سر جعلها خبرا عنه، ولما كان أعظم أركانه ـ وهو الوقوف بعرفة ـ يكون في التاسع من الثالث علم أن الحج لا يتكرر فيها، فمن أحرم بالحج بعد هذا اليوم فلا حج له، قال تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ أي: أوجبه وألزمه نفسه بالشروع فيه وقد مر بيان كيفيته.

6. ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ تقدم تفسير الرفث في آيات الصيام وأنه كناية عن الجماع، والفسوق: الخروج عن حدود الشرع بأي فعل محظور، وقيل: إن المراد به الذبح للأصنام خاصة، وخصه بعضهم بالسباب والتنابز بالألقاب، والجدال: قيل هو بمعنى الجلاد من الجدل بمعنى القتل، وقيل هو المراء بالقول، وهو يكثر عادة بين الرفقة والخدم في السفر؛ لأن مشقته تضيق الأخلاق، هذا هو المشهور.. ويجوز حملها على جميع معانيها الحقيقية وغيرها على قول الشافعي وابن جرير المختار عندنا، ويكون النفي المراد به النهي في بعضها للتحريم كالرفث بمعنى الجماع لا يفسد النسك، وفي بعضها الآخر للكراهة الشديدة كالرفث بمعنى الكلام الصريح في أمور الوقاع، وقال محمد عبده: إن تفسير الكلمات الثلاث ينبغي أن يكون متناسبا وبحسب حال القوم في زمن التشريع، فأما الرفث فهو كما قيل: الجماع، وأما الفسوق: فهو الخروج عما يجب على المحرم إلى الأشياء التي كانت مباحة في الحل، كالصيد والطيب والزينة باللباس المخيط، والجدال: هو ما كان يجري بين القبائل من التنازع والتفاخر في الموسم، فبهذا يكون التناسب بين الكلمات، وإلا حملت كلها على مدلولها اللغوي، فجعل الرفث قول الفحش، والفسوق التنابز بالألقاب على حد ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ﴾ والجدال المراء والخصام، فتكون هذه المناهي كلها آدابا لسانية.

7. النكتة في منع هذه الأشياء (على أنها آداب لسانية) تعظيم شأن الحرم وتغليظ أمر الإثم فيه؛ إذ الأعمال تختلف باختلاف الزمان والمكان، فللملأ آداب غير آداب الخلوة مع الأهل، ويقال في مجلس الإخوان ما لا يقال في مجلس السلطان، ويجب أن يكون المرء في أوقات العبادة والحضور مع الله تعالى على أكمل الآداب وأفضل الأحوال، وناهيك بالحضور في البيت الذي نسبه الله سبحانه إليه، وقد بينا معنى هذه النسبة في تفسير ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾

8. أما السر فيها ـ على أنها من محرمات الإحرام ـ فهو أن يتمثل الحاج أنه بزيارته لبيت الله تعالى مقبل على الله تعالى قاصد له، فيتجرد عن عاداته ونعيمه، وينسلخ من مفاخره ومميزاته على غيره، وبحيث يساوي الغني الفقير، ويماثل الصعلوك الأمير، فيكون الناس من جميع الطبقات في زي كزي الأموات، وفي ذلك من تصفية النفس وتهذيبها وإشعارها من حقيقة العبودية لله والأخوة للناس ما لا يقدر قدره، وإن كان لا يخفى أمره، وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين (من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وذلك أن الإقبال على الله تعالى بتلك الهيئة والتقلب في تلك المناسك على الوجه المشروع يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها ويدخلها في حياة جديدة، لها فيها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

9. من بلاغة الإيجاز في الآية التصريح في مقام الإضمار بذكر الحج ثلاث مرات، المراد بأولها زمان الحج كقولهم: البرد شهران، وبالثاني الحج نفسه المسمى بالنسك، وبالثالث ما يعم زمان أدائه ومكانه وهو أرض الحرم وما يتبعها كعرفات، كما تعم الظرفية في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ جميع أرض الحرم وإن كان الضمير فيه راجعا إلى المسجد الحرام، فقد كان عبد الله بن عمر يضرب خيامه خارج حدود الحرم فيطوف كل يوم في المسجد ويصلي ثم يجيء خيامه فيبيت فيها، وعلل ذلك بأنه يخاف أن يهين أحد خدمه فيكون ملحدا في المسجد الحرام، فجميع أمكنة الحرم من شعائر الله ومشاعره وحرماته التي يجب احترامها، وأهمها اجتناب الرفث والفسوق والجدال بالباطل فيها، إلا أن الرفث بين الزوجين يحل بالتحلل من النسك لأنه في نفسه ليس قبيحا، ولو قال: (فمن فرضه فيهن فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه)، لم يؤد هذه المعاني كلها.

10. من القراءات فيها قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب (رفث وفسوق) بالرفع (وجدال) بالفتح والباقون بالفتح، وهو أبلغ؛ لأنه نفي لجنس هذه الأشياء يشمل جميع أفرادها بالنص ويتضمن معنى النهي عنها بطريق الأولوية.

11. ثم قال تعالى بعد النهي عن هذه المحظورات: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ وفيه التفات إلى الخطاب ويشعر العطف بمحذوف تقديره: أن اتركوا هذه الأمور الممنوعة في الحج لتخلية نفوسكم وتصفيتها، وحلوها بعد ذلك بفعل الخير لتتم لكم تزكيتها، فإن النفوس بعد ذلك تكون أشد استعدادا للاتصاف بالخير، والله لا يضيع عليكم أقل شيء منه؛ لأنه عالم به وبأنكم وافقتم فيه سنته وشريعته.

12. ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ قالوا: إن هذا نزل في ردع أهل اليمن عن ترك التزود زعما أنه من مقتضى التوكل على الله، فقد أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس أنه قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن متوكلون، ثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت، فالمراد بالتقوى على هذا اتقاء السؤال وبذل ماء الوجه.. قال محمد عبده: وهو غير ظاهر من العبارة، بل المتبادر منها أن الزاد هو زاد الأعمال الصالحة وما تدخر من الخير والبر كما يرشد إليه التعليل في قوله: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ والمعنى من التقوى معروف وهو ما به يتقي سخط الله، وليس ذلك إلا البر والتنزه عن المنكر، ولا يعلل بأن التقوى خير زاد إلا وهو يريد التزود منها، أما معنى الذي ذكروه فلا يصلح مرادا من الآية؛ لأنه لولا ما أوردوا من السبب لم يخطر ببال سامع اللفظ، والسبب ليس مذكورا في الآية ولا مشارا إليه فيها فلا يصلح قرينة على المراد من ألفاظها، نعم إن السبب قد ينير السبيل في فهم الآية، ولكن يجب أن تكون مفهومة بنفسها؛ لأن السبب ليس من القرآن، ولذلك أتمها بقوله: ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ يعني من كان له لب وعقل فليتقني فإنه يكون على نور من فائدة التقوى وأهلا للانتفاع بها.

13. يدخل في فعل الخير والطاعة الأخذ بالأسباب كالتزود وتحامي وسائل الحاجة إلى السؤال المذموم.

14. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ متصل بما قبله واقع موقع الاستدراك والاحتراس مما عساه يسبق إلى الفهم من الأمر بالتزود من التقوى وعمل البر والخير وهو خير الزاد، ثم من مخاطبة أولي الألباب بالأمر بالتقوى تعريضا بأن غير المتقي لا لب له ولا عقل، وهو أن أيام الحج لا يباح فيها غير أعمال البر والخير، فيحرم فيها ما كانت عليه العرب في الجاهلية من التجارة والكسب في الموسم، كما يحرم الرفث والفسوق والجدال الذي هو من لوازم التجارة غالبا، والترفه بزينة اللباس المخيط والحلق، والإفضاء إلى النساء، فأزال هذا الوهم من الفهم وعلمنا أن الكسب في أيام الحج مع ملاحظة أنه فضل من الله غير محظور؛ لأنه لا ينافي الإخلاص له في العبادة، وإنما الذي ينافي الإخلاص هو أن يكون القصد إلى التجارة، بحيث لو لم يرج الكسب لم يسافر لأجل الحج، هذا ما عليه الجماهير، وحمل أبو مسلم ذلك على ما بعد الحج ومنع الكسب في أيامه، ويرد عليه نزول الآية في سياق أحكام الحج، ونفي الجناح الذي لا معنى له في غير الحج وما ورد في أسباب نزولها، أخرج البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم؛ فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك فنزلت، وقرأ ابن عباس الآية بزيادة في موسم الحج، وأعتقد أنه قاله تفسيرا، وأخرج أحمد وابن أبي جرير والحاكم وغيرهم من طرق عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نكري ـ أي الرواحل للحجاج ـ فهل لنا من حج؟ فقال ابن عمر: (جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية ـ وذكرها ـ فدعاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: أنتم حجاج) وفي رواية أن ابن عمر قال لهم: ألستم تلبون؟ ألستم تطوفون بين الصفا والمروة؟ ألستم ألستم؟ ثم ذكر ما تقدم، قال محمد عبده: كان بعض المشركين وبعض المسلمين في أول الإسلام يتأثمون في أيام الحج من كل عمل حتى كانوا يقفلون حوانيتهم، فعلمهم الله تعالى أن الكسب طلب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص، وقال: إن قوله تعالى: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يشعر بأن ابتغاء الرزق مع ملاحظة أنه فضل من الله تعالى نوع من أنواع العبادة، ويروى أن عمر قال في هذا المقام لسائل: وهل كنا نعيش إلا بالتجارة؟

15. لكن قال بعض العلماء: إن نفي الجناح يقتضي أن هذه الإباحة رخصة، وأن الأولى تركها في أيام الحج، وهذا لا ينافي ما قاله إذا أريد بأيام الحج الأيام التي تؤدى فيها المناسك بالفعل لا كل أيام شوال وذي القعدة وذي الحجة أو عشره الأول، وذلك أن لكل وقت عبادة لا تزاحمها فيه عبادة أخرى كالتلبية للحجاج والتكبير في أيام العيد والتشريق والتلبية عند الإحرام بالحج كتكبيرة الإحرام في الصلاة وهو ذكر الحج الخاص الذي يكرر في أثنائه إلى انتهاء الوقوف بعرفة أو إلى رمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم يستحب التكبير، وللعلماء خلاف في التحديد.

16. المراد من الآية أن الكسب مباح في أيام الحج إذا لم يكن هو المقصود بالذات، وأنه مع حسن النية وملاحظة أنه فضل من الرب تعالى يكون فيه نوع عبادة، وأن التفرغ للمناسك في أيام أدائها أفضل، والتنزه عن جميع حظوظ الدنيا في تلك البقاع الطاهرة أكمل.

17. ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ الإفاضة من المكان: الدفع منه، مستعار من إفاضة الماء، وأصله أفضتم أنفسكم، ويقال أيضا: أفاض في الكلام إذا انطلق فيه كما يفيض الماء ويتدفق، وعرفات معروفة وهي موقف الحاج في النسك يجتمع فيها كل عام ألوف كثيرة من الناس، وقد جاء هذا الاسم بصيغة الجمع، وقيل: إنه جمع وضع لمفرد كأذرعات وهو مرتجل، وذكروا وجوها للتسمية أحسنها أنه يتعرف فيه الناس إلى ربهم بالعبادة، أو أنه يشعر بتعارف الناس فيه، وعرفة اسم لليوم يقف فيه الحجاج بعرفات، وهو تاسع ذي الحجة، وأطلق أيضا على المكان في كلامهم، ولعرفات أربعة حدود: حد إلى جادة طريق المشرق، والثاني إلى حافات الجبل الذي وراء أرضها، والثالث إلى البساتين التي تلي قرنيها على يسار مستقبل الكعبة، والرابع وادي عرنة ـ بضم ففتح ـ وليست عرنة ولا نمرة ـ بفتح فكسر ـ من عرفات.

18. الوقوف بعرفات أعظم أركان الحج وكلها موقف، والمشعر الحرام: جبل المزدلفة يقف عليه الإمام ويسمى قزح ـ بضم ففتح ـ وسمي مشعرا؛ لأنه معلم للعبادة، ووصف بالحرام لحرمته، وقيل: هو المزدلفة كلها من مأزمي عرفات إلى وادي محسر ـ بكسر السين المهملة المشددة ـ وليس هو من مزدلفة ولا من منى بل هو مسيل ماء بينهما في الأصل، وقد استوت أرضه الآن أو هو من منى.

19. المعنى: أنه يطلب من الحاج إذا دفع من عرفات إلى المزدلفة أن يذكر الله عند المشعر الحرام فيها بالدعاء والتكبير والتهليل والتلبية، وقيل بصلاة العشاءين جمعا، وليس هو المتبادر بل قالوه لينطبق على قولهم: الأمر للوجوب، مع قولهم: إن الذكر هناك غير واجب، والظاهر أنه واجب للآية وفعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في بيان المناسك مع قوله: (خذوا عني مناسككم) أو (لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لا أحج بعد حجتي هذه) هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث جابر، وهو كقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فكل ما التزمه صلّى الله عليه وآله وسلّم في صلاته ونسكه فهو واجب مبين لما أجمل في كتاب الله، وأما المسنون من أعماله ما لم يلتزمه وما صحت فيه الرخصة عنه كقوله: (وقفت هنا وعرفة كلها موقف ومنى كلها منحر)، وفي حديثه عنده أيضا (أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصوا (أي: ناقته المجدوعة وهذا اسمها وهو بالفتح والقصر ويمد) حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس) الحديث ـ وهو دليل على أن المشعر الحرام هو قزح وأن الذكر غير صلاة العشاءين جمعا، والمبيت بمزدلفة (وتسمى جمعا) من جملة المناسك.. قال محمد عبده: أمر بالذكر عند المشعر الحرام للاهتمام به؛ لأنهم ربما تركوه بعد المبيت، ولم يذكر المبيت؛ لأنه كان معروفا لا يخشى التهاون فيه، والقرآن لم يبين كل المناسك بل المهم، وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الباقي بالعمل.

20. ثم قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ أي: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إذ أنجاكم من الشرك واتخاذ الوسطاء كما كنتم في الجاهلية تذكرونه مع ملاحظة غيره بينكم وبينه لا يفرغ قلبكم له، وكانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، فالكاف للتشبيه لا للتعليل كما قيل: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ أي: وإنكم كنتم من قبله من زمرة الضالين عن الحق في عقائدكم وأعمالكم الراسخين في الضلال، قال محمد عبده: أي من قبل الله الذي آمنتم به إيمانا صحيحا بهداية الإسلام دون الخيال الذي كنتم تدعونه إلها، وتجعلون له وسطاء شركاء يقربون إليه ويشفعون عنده فإن ذلك الخيال لا حقيقة له، وبهذا التقرير يستغنى عن تقدير المضاف، ولا بأس بجعل ضمير ﴿قَبْلَهُ﴾ للهدى كما قال الجلال وغيره لسبق فعله، ويمكن أن يراد به القرآن كما قال بعضهم اكتفاء بدلالة المقام كقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾

21. ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ جعل المفسر الجلال كغيره الخطاب هنا لقريش خاصة، إذ ورد في حديث عائشة عند الشيخين: (أن قريشا ومن دان دينهم ـ وهم الحمس ـ كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف مع العرب في عرفات، فأمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها) أي إبطالا لما كانت عليه قريش، فالمراد بهذه الإفاضة: الدفع من عرفات كالأولى قال: و﴿ثُمَّ﴾ للترتيب في الذكر، وأنكر محمد عبده هذا؛ لأن الأسلوب ينافيه، وذلك أن الخطاب في الآيات كلها عام، قال: وهم يذكرون هذا كثيرا ولا يذكرون له نكتة تزيل التفاوت من النظم، ويمكن أن يقال هنا إنه بعد أن ذكر كذا وكذا من أحكام الحج قال هذا كأن المعنى هكذا: بعد ما تبين لكم ما تقدم كله من أعمال الحج وليس فيها امتياز أحد على أحد، ولا قبيل على قبيل، وعلمتم أن المساواة وترك التفاخر من مقاصد هذه العبادة، بقي شيء آخر وهو أن تلك العادة المميزة لا وجه لها، فعليكم أن تفيضوا مع الناس من مكان واحد.

22. المتبادر أن المراد بالإفاضة هنا الدفع من مزدلفة؛ لأنه ذكر الدفع من عرفات في خطاب المؤمنين كافة، وهو لا يكون إلا بعد الوقوف، فعلم أنهم سواء في الوقوف بعرفات وفي الإفاضة منها إلى مزدلفة، وبعد أن أمرهم بما يتوقع أن يغفلوا عنه فيها عند المشعر الحرام منها ذكر الإفاضة منها، وقوله: ﴿ثُمَّ﴾ يفيد أن الإفاضة من مزدلفة يجب أن تكون مرتبة على الإفاضة من عرفات ومتأخرة عنها، ففيه تأكيد إبطال تلك العادة.

23. ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ يشعر بأنه لا معنى للامتياز في الموقف ترفعا عن الناس إذ كانوا بعد ذلك يتساوون في الإفاضة، فإن غير قريش من العرب كانوا يفيضون من المزدلفة أيضا، فالآية تتضمن إبطال ما كانت عليه قريش مع كون المراد بالإفاضة فيها الدفع من مزدلفة، ولعل هذا هو المراد من الأثر وأنه روي بالمعنى، والظاهر أن المراد بالناس الجنس، وقيل: إبراهيم وإسماعيل ومن كان على دينهما.

24. ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ يراد به الاستغفار مما أحدثوا بعد إبراهيم من تغيير المناسك وإدخال الشرك وأعماله فيها، وإلا فهو استغفار من الضلال الذي ذكرهم به في الآية قبلها، ومن عامة الذنوب في الحج وغيره، وهذا هو الذي يوجه إلى من بعد أولئك الذين أسلموا في الصدر الأول بعد أن كانوا مشركين ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي: واسع المغفرة والرحمة لمن استغفره تائبا منيبا.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/181.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. بعد أن ذكر الله تعالى أعمال الحج وبين ما يجب على المحصر أن يفعله من ذبح الهدى وعدم الحلق حتى يبلغ الهدى محله، ثم ذكر حكم من لم يجد ذلك، أعقب هذا بذكر زمان الحج، وما يجب على من أوجب على نفسه الحج من ترك الرفث والفسوق والجدال، ثم ختم ذلك بطلب التمسك بالآداب الصالحة والتزود بها ليوم المعاد، فهي خير زاد، كما طلب خشيته تعالى والخوف من عقابه.

2. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ أي لأداء فريضة الحج أشهر معلومة لدى الناس، وهى شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، وهذا هو المروي عن ابن عباس، وجرى عليه أبو حنيفة والشافعي وأحمد.

3. في قوله: ﴿مَعْلُومَاتٍ﴾، إقرار لما كان عليه العرب في الجاهلية من اعتبار هذه الأشهر أشهرا للحج، ونقل ذلك بالتواتر العمليّ من لدن إبراهيم وإسماعيل، وجاء الإسلام مقررا لما عرف ولم يغيره.

4. فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر معرفة أن أفعال الحج لا تصح إلا فيها، وإن كان الإحرام يصح في غيرها، لأنه شرط للحج فيجوز تقديمه على وقت أدائه كتقديم الطهارة على أداء الصلاة.

5. ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ أي فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسوق الهدى، لأن الحج عبادة لها تحريم وتحليل، فلا يكفى للشروع فيه مجرد النية بل لا بد من فعل به يشرع فيه.

6. ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ أي لا يفعل الحاج شيئا من هذه الأفعال لأنه مقبل على الله قاصد لرضاه، فينبغي أن يتجرد عن عاداته وعن التمتع بنعيم الدنيا، وينسلخ عن مفاخره ومميزاته عن غيره بحيث يتساوى الغنى والفقير والصعلوك والأمير، وفي هذا تهذيب للنفس وإشعار لها بالعبودية لله تعالى، وقد جاء في الصحيحين عن أبى هريرة أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال:‏ (من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، إلى ما في ذلك من تعظيم شأن الحرم وتغليظ أمر الإثم فيه، لأن المرء في أوقات العبادة ومناجاة الله، يجب أن يكون على أكمل الآداب وأفضل الأحوال، وللمرء في المجتمع من الآداب ما ليس له حين الخلوة، وله في مجلس السلطان ما ليس له مع الإخوان.

7. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا لتصفو نفوسكم وتتخلى عن الرذائل وتتحلى بالفضائل، وتكون أكثر استعدادا لعمل الخير، وأطوع لامتثال أوامر الشرع، والله يعلم ما تفعلون، فيجازيكم بأعمالكم ويثيبكم على أفعالكم.

8. ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ أي واتخذوا التقوى زادكم لمعادكم، فإنها خير زاد.

9. ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أي وأخلصوا لي يا أهل العقول والأفهام بأداء ما أوجبته عليكم من الفرائض، واجتناب ما حرمته عليكم، تنجوا بذلك مما تخافون من غضبى وعقابي، وتدركوا ما تطلبون من الفوز برضاي ورحمتي.

10. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ جاء هذا كالاستدراك: والاحتراس مما عساه يسبق إلى الفهم من منع التجارة في الحج؛ ذاك أن الآيات السابقة أرشدت إلى حرمة الرفث والفسوق والجدال في الحج، والتجارة تفضى إلى الجدال والنزاع في قيم السلع قلة وكثرة، فعقب ذلك ببيان حكمها، وأبان أن الكسب في أيام الحج مع ملاحظة أنه فضل من الله غير محظور، لأنه لا ينافى الإخلاص في هذه العبادة، وإنما الذي ينافيها أن يكون المقصد التجارة فحسب، بحيث لو لم يرج الكسب لم يسافر للحج.

11. كان المسلمون في ابتداء الإسلام يتأثمون من كل عمل دنيوي أيام الحج، حتى إنهم كانوا يقفلون حوانيتهم، فأعلمهم الله أن الكسب طلب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص.

12. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي لا حرج ولا إثم في الكسب أيام الحج إذا لم يكن هو المقصد بالذات، إذ هو مع حسن النية وملاحظة أنه فضل من الله عبادة، ولكن التفرغ لأداء المناسك في تلك الأوقات أفضل، والتنزه عن حظوظ الدنيا أكمل، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله‏ ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾

13. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ أي يطلب من الحاج إذا دفع من عرفات إلى المزدلفة أن يذكر الله عند المشعر الحرام بالدعاء والتحميد والثناء والتلبية، وإنما طلب منه ذلك خشية أن يتركه بعد المبيت، فطلب منه المضيّ في الذكر ما دام في هذا الموضع.

14. ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ أي واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه، بأن يكون بتضرع وخيفة وطمع في ثوابه، صادر عن رغبة ورهبة كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم:‏ (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ولا تعدلوا عنه إلى ما كنتم تفعلونه في الجاهلية من الشرك واتخاذ الوسطاء بينكم وبينه، فلا تفرغ قلوبكم له، فقد كانوا يقولون في التلبية: لبّيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.

15. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ أي وإنكم كنتم من قبل هذا الهدى من الضالين عن الحق في العقائد والأعمال بعباد الأوثان والأصنام، وباتخاذ الوسطاء الذين يشفعون عنده ويقربون إليه زلفى.

16. ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ روى البخاري ومسلم: أن قريشا ومن دان دينهم من كنانة وجديلة وقيس وهم الحمس (واحدهم أحمس وهو الشديد الصّلب في الدين والقتال) كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف مع العرب في عرفات، فأمر الله نبيه أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، ليبطل ما كانت عليه قريش، فالمعنى ـ عليكم أن تفيضوا مع الناس من مكان واحد تحقيقا للمساواة وتركا للتفاخر وعدم الامتياز لأحد عن أحد، وذلك من أهمّ مقاصد الدين.

17. ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ مما أحدثتم من تغيير المناسك بعد إبراهيم، وإدخال الشرك في أعمال الحج، ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي إنه تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يستغفره مع الإنابة والتوبة.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/99.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ استئناف ابتدائي للإعلام بتفصيل مناسك الحج، والذي أراه أن هذه الآيات نزلت بعد نزول قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ في [سورة آل عمران: 97]، فإن تلك الآية نزلت بفرض الحج إجمالا، وهذه الآية فيها بيان أعماله، وهو بيان مؤخر عن المبين، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة واقع غير مرة، فيظهر أن هذه الآية نزلت في سنة تسع، تهيئة لحج المسلمين.. وبين نزول هذه الآية ونزول آية ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ [البقرة: 196] نحو من ثلاث سنين فتكون فيما نرى من الآيات التي أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بوضعها في هذا الموضع من هذه السورة للجمع بين أعمال الحج وأعمال العمرة، وهي وصاية بفرائض الحج وسننه ومما يحق أن يراعى في أدائه، وذكر ما أراد الله الوصاية به من أركانه وشعائره، وقد ظهرت عناية الله تعالى بهذه العبادة العظيمة، إذ بسط تفاصيلها وأحوالها مع تغيير ما أدخله أهل الجاهلية فيها.

2. وصف الأشهر بمعلومات حوالة على ما هو معلوم للعرب من قبل، فهي من الموروثة عندهم عن شريعة إبراهيم، وهي من مبدأ شوال إلى نهاية أيام النحر، وبعضها بعض الأشهر الحرم، لأنهم حرموا قبل يوم الحج شهرا وأياما وحرموا بعده بقية ذي الحجة والحرام كلّه، لتكون الأشهر الحرم مدة كافية لرجوع الحجيج إلى آفاقهم، وأما رجب فإنما حرّمته مضر لأنه شهر العمرة، فقوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ أي في أشهر، لقوله بعده: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ ولك أن تقدر: مدة الحج أشهر، وهو كقول العرب (الرطب شهرا ربيع)

3. المقصود من قوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ﴾:

أ. يحتمل أن يكون تمهيدا لقوله: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ تهوينا لمدة ترك الرفث والفسوق والجدال، لصعوبة ترك ذلك على الناس، ولذلك قللت بجمع القلة، فهو نظير ما روى مالك في (الموطأ): أن عائشة قالت لعروة بن الزبير يا ابن أختي إنما هي عشر ليال فإن تخلج في نفسك شيء فدعه، تعني أكل لحم الصيد.

ب. ويحتمل أن يكون تقريرا لما كانوا عليه في الجاهلية من تعيين أشهر الحج فهو نظير قوله: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ [التوبة: 36] الآية.

ج. وقيل: المقصود بيان وقت الحج ولا أنثلج له.

4. الأشهر المقصودة هي شوال وذو القعدة وذو الحجة لا غير، وإنما اختلفوا في أن ذا الحجة كله شهر أو العشر الأوائل منه أو التسع فقط، أو ثلاثة عشر يوما منه، فقال بالأول ابن مسعود وابن عمر والزهري وعروة بن الزبير وهو رواية ابن المنذر عن مالك، وقال بالثاني ابن عباس والسدي وأبو حنيفة وهو رواية ابن حبيب عن مالك، وقال بالثالث الشافعي، والرابع قول في مذهب مالك ذكره ابن الحاجب في (المختصر) غير معزو.

5. إطلاق الأشهر على الشهرين وبعض الشهر عند أصحاب القولين الثالث والرابع مخرّج على إطلاق الجمع على الاثنين أو على اعتبار العرب الدخول في الشهر أو السنة كاستكماله، كما قالوا: ابن سنتين لمن دخل في الثانية، وكثرة هذا الخلاف تظهر فيمن أوقع بعض أعمال الحج مما يصح تأخيره كطواف الزيارة بعد عاشر ذي الحجة، فمن يراه أوقعه في أيام الحج لم ير عليه دما ومن يرى خلافه يرى خلافه.

6. اختلفوا في الإهلال بالحج قبل دخول أشهر الحج، فقال مجاهد وعطاء والأوزاعي والشافعي وأبو ثور: لا يجزئ ويكون له عمرة كمن أحرم للصلاة قبل وقتها، وعليه: يجب عليه إعادة الإحرام من الميقات عند ابتداء أشهر الحج، واحتج الشافعي بقوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾، وقال أحمد: يجزئ ولكنه مكروه، وقال مالك وأبو حنيفة والنخعي: يجوز الإحرام في جميع السنة بالحج والعمرة إلّا أن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة، لأن عمر بن الخطاب كان ينهى عن ذلك ويضرب فاعله بالدّرة، ودليل مالك في هذا ما مضى من السنة، واحتج النخعي بقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189] إذ جعل جميع الأهلة مواقيت للحج ولم يفصل، وهذا احتجاج ضعيف، إذ ليس في الآية تعميم جميع الأهلة لتوقيت الحج بل مساق الآية أن جميع الأهلة صالحة للتوفيق إجمالا، مع التوزيع في التفصيل فيوقت كل عمل بما يقارنه من ظهور الأهلة على ما تبينه أدلة أخرى من الكتاب والسنة، ولاحتمال الآية عدة محامل في وجه ذكر أشهر الحج لا أرى للأئمة حجة فيها لتوقيت الحج.

7. ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ تفريع على هاته المقدمة لبيان أن الحج يقع فيها وبيان أهم أحكامه، ومعنى فرض: نوى وعزم، فنية الحج هي العزم عليه وهو الإحرام، ويشترط في النية عند مالك وأبي حنيفة مقارنتها لقول من أقوال الحج وهو التلبية، أو عمل من أعماله‏ كسوق الهدي، وعند الشافعي يدخل الحج بنية ولو لم يصاحب قولا أو عملا وهو أرجح؛ لأن النية في العبادات لم يشترط فيها مقارنتها لجزء من أعمال العبادة، ولا خلاف أن السنة مقارنة الإهلال للاغتسال والتلبية واستواء الراحلة براكبها.

8. ضمير ﴿فِيهِنَّ﴾ للأشهر، لأنه جمع لغير عاقل فيجري على التأنيث، ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ جواب من الشرطية، والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى‏ ﴿فَلَا رَفَثَ﴾ من ضمير يعود على (من)؛ لأن التقدير فلا يرفث.

9. نفي الرفث والفسوق والجدال نفي الجنس مبالغة في النهي عنها وإبعادها عن الحاج، حتى جعلت كأنها قد نهي الحاج عنها فانتهى فانتفت أجناسها، ونظير هذا كثير في القرآن كقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: 228] وهو من قبيل التمثيل بأن شبهت حالة المأمور وقت الأمر بالحالة الحاصلة بعد امتثاله فكأنه امتثل وفعل المأمور به فصار بحيث يخبر عنه بأنه فعل كما قرره في (الكشاف) في قوله: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ فأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.

10. قرأ الجمهور بفتح أواخر الكلمات الثلاث المنفية بلا، على اعتبار (لا) نافية للجنس نصا، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع (رفث) و(فسوق) على أن (لا) أخت ليس نافية للجنس غير نص وقرءا (ولا جدال) بفتح اللام على اعتبار (لا) نافية للجنس نصا وعلى أنه عطف جملة على جملة فروي عن أبي عمرو أنّه قال الرفع بمعنى لا يكون رفث ولا فسوق يعني أن خبر (لا) محذوف وأن المصدرين نائبان عن فعليهما وأنهما رفعا لقصد الدلالة على الثبات مثل رفع‏ ﴿الْحَمْدُ لله﴾ [الفاتحة: 2] وانتهى الكلام ثم ابتدأ النفي فقال: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ على أن‏ ﴿فِي الْحَجِّ﴾ خبر (لا)، والكلام على القراءتين خبر مستعمل في النهي.

11. الرفث اللغو من الكلام والفحش منه قاله أبو عبيدة واحتج بقول العجاج:

çوربّ أسراب حجيج كظّم‏...عن اللّغا ورفث التّكلّم‏é

وفعله كنصر وفرح وكرم والمراد به هنا الكناية عن قربان النساء، وأحسب أن الكناية بهذا اللفظ دون غيره لقصد جمع المعنيين الصريح والكناية، وكانوا في الجاهلية يتوقون ذلك، قال النابغة:

çحيّاك ربّي فإنّا لا يحلّ لنا...لهو النساء وإنّ الدّين قد عزما

يريد من الدين الحج، وقد فسروا قوله: لهو النساء بالغزل، وهذا خبر مراد به مبالغة النهي اقتضى أن الجماع في الحج حرام، وأنه مفسد للحج وقد بينت السنة ذلك بصراحة، فالدخول في الإحرام يمنع من الجماع إلى الإحلال بطواف الإفاضة وذلك جميع وقت الإحرام، فإن حصل نسيان فقال مالك: هو مفسد ويعيد حجه إذا لم يمض وقوف عرفة، وإلّا قضاه في القابل نظرا إلى أن حصول الالتذاذ قد نافى تجرد الحج والزهد المطلوب فيه بقطع النظر عن تعمد أو نسيان، وقال الشافعي في أحد قوليه وداوود الظاهري: لا يفسد الحج وعليه هدي، وأما مغازلة النساء والحديث في شأن الجماع فذريعة ينبغي سدها، لأنه يصرف القلب عن الانقطاع إلى ذكر الله في الحج.

12. ليس من الرفث إنشاد الشعر القديم الذي فيه ذكر الغزل؛ إذ ليس القصد منه إنشاء الرفث، وقد حدا ابن عباس راحلته وهو محرم ببيت فيه ذكر لفظ من الرفث، فقال له صاحبه حصين بن قيس: أترفث وأنت محرم؟ فقال: إن الرفث ما كان عند النساء أي الفعل الذي عند النساء أي الجماع.

13. الفسوق معروف وقد تقدم القول فيه غير مرة، وقد قيل: أراد به هنا النهي عن الذبح للأصنام وهو تفسير مروي عن مالك، وكأنه قاله لأنه يتعلق بإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية غير أن الظاهر شمول الفسوق لسائر الفسق وقد سكت جميع المفسرين عن حكم الإتيان بالفسوق في مدة الإحرام، وقرن الفسوق بالرفث الذي هو مفسد للحج يقتضي أن إتيان الفسوق في مدة الإحرام مفسد للحج كذلك، ولم أر لأحد من الفقهاء أن الفسوق مفسد للحج، ولا أنه غير مفسد سوى ابن حزم فقال في (المحلّى): إن مذهب الظاهرية أن المعاصي كلها مفسدة للحج، والذي يظهر أن غير الكبائر لا يفسد الحج وأن تعمد الكبائر مفسد للحج وهو أحرى بإفساده من قربان النساء الذي هو التذاذ مباح.

14. الجدال مصدر جادله إذا خاصمه خصاما شديدا وقد بسطنا الكلام عليه عند قوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [في سورة النساء: 107]، إذ فاتنا بيانه هنا، واختلف في المراد بالجدال هنا فقيل السباب والمغاضبة، وقيل تجادل العرب في اختلافهم في الموقف؛ إذ كان بعضهم يقف في عرفة وبعضهم يقف في جمع وروي هذا عن مالك.

15. اتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير (الكشاف) وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء يحضرون الموسم، وقال: من بدا له أن يجادل في شيء فليفعل، فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلا: بماذا فسرت قوله تعالى: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ وأنه وجم لها، وأنا أحسب إن صحت هذه الحكاية أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته، لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم.

16. اتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى.

17. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ عقب به النهي عن المنهيات لقصد الاتصاف بأضداد تلك المنهيات فكأنه قال: لا تفعلوا ما نهيتم عنه وافعلوا الخير فما تفعلوا يعلمه الله، وأطلق علم الله وأريد لازمه وهو المجازاة على المعلوم بطريق الكناية فهو معطوف على قوله: ﴿فَلَا رَفَثَ﴾

18. ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ معطوف على جملة: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ باعتبار ما فيها من الكناية عن الترغيب في فعل الخير، والمعنى وأكثروا من فعل الخير، والتزود إعداد الزاد وهو الطعام الذي يحمله المسافر، وهو تفعّل مشتق من اسم جامد وهو الزاد كما يقال تعمّم وتقمّص أي جعل ذلك معه، فالتزود مستعار للاستكثار من فعل الخير استعدادا ليوم الجزاء شبه بإعداد المسافر الزاد لسفره بناء على إطلاق اسم السفر والرحيل على الموت، قال الأعشى في قصيدته التي أنشأها لمدح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وذكر فيها بعض ما يدعو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إليه أخذا من هذه الآية وغيرها:

çإذا أنت لم ترحل بزاد من التقى‏...ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت أن لا تكون كمثله‏...وأنّك لم ترصد بما كان أرصداé

19. قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ بمنزلة التذييل أي التقوى أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص، ويجوز أن يستعمل التزود مع ذلك في معناه الحقيقي على وجه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فيكون أمرا بإعداد الزاد لسفر الحج تعريضا بقوم من أهل اليمن كانوا يجيئون إلى الحج دون أي زاد ويقولون نحن متوكلون على الله‏ فيكونون كلا على الناس بالإلحاف.

20. ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ﴾ إلخ إشارة إلى تأكيد الأمر بالتزود تنبيها بالتفريع على أنه من التقوى لأن فيه صيانة ماء الوجه والعرض، وقوله: ﴿وَاتَّقُونِ﴾ بمنزلة التأكيد لقوله‏ ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ ولم يزد إلا قوله‏ ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ المشير إلى أن التوقي مما يرغب فيه أهل العقول.

21. الألباب: جمع لب وهو العقل، واللب من كل شيء: الخالص منه، وفعله لبب يلب بضم اللام قالوا وليس في كلام العرب فعل يفعل بضم العين في الماضي والمضارع من المضاعف إلا هذا الفعل حكاه سيبويه عن يونس وقال ثعلب ما أعرف له نظيرا.

22. ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ بمنزلة التذييل أي التقوى أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص، وموقع قوله: ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ على احتمال أن يراد بالتزود معناه الحقيقي مع المجازي إفادة الأمر بالتقوى التي هي زاد الآخرة بمناسبة الأمر بالتزود لحصول التقوى الدنيوية بصون العرض.

23. التقوى مصدر اتقى إذا حذر شيئا، وأصلها تقيي قلبوا ياءها واوا للفرق بين الاسم والصفة، فالصفة بالياء كامرأة تقي كخزيى وصدي، وقد أطلقت شرعا على الحذر من عقاب الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه وقد تقدمت عند قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]

24. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ جملة معترضة بين المتعاطفين بمناسبة النهي عن أعمال في الحج تنافي المقصد منه فنقل الكلام إلى إباحة ما كانوا يتحرجون منه في الحج وهو التجارة ببيان أنها لا تنافي المقصد الشرعي إبطالا لما كان عليه المشركون، إذ كانوا يرون التجارة للمحرم بالحج حراما، فالفضل هنا هو المال، وابتغاء الفضل التجارة لأجل الربح كما هو في قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [المزمل: 20]، وقد كان أهل الجاهلية إذا خرجوا من سوق ذي المجاز إلى مكة حرم عندهم البيع والشراء قال النابغة:

çكادت تساقطني رحلي وميثرتي... بذي المجاز ولم تحسس به نغما

من صوت حرمية قالت وقد ظعنوا... هل في مخفيكم من يشتري أدما

قلت لها وهي تسعى تحت لبتها... لا تحطمنك إن البيع قد زرماé

أي انقطع البيع وحرم، وعن ابن عباس: كانت عكاظ ومجنّة، وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثّموا أن يتّجروا في المواسم فنزلت: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في موسم الحج) ا ه، أي قرأها ابن عباس بزيادة في مواسم الحج، وقد كانت سوق عكاظ تفتح مستهل ذي القعدة وتدوم عشرين يوما وفيها تباع نفائس السلع وتتفاخر القبائل ويتبارى الشعراء، فهي أعظم أسواق العرب وكان موقعها بين نخلة والطائف، ثم يخرجون من عكاظ إلى مجنة ثم إلى ذي المجاز، والمظنون أنهم يقضون بين هاتين السوقين بقية شهر ذي القعدة؛ لأن النابغة ذكر أنه أقام بذي المجاز أربع ليال وأنه خرج من ذي المجاز إلى مكة فقال يذكر راحلته:

çباتت ثلاث ليال ثم واحدة... بذي المجاز تراعي منزلا زيماé

ثم ذكر أنه خرج من هنالك حاجّا فقال: (كادت تساقطني رحلي وميثرتي‏)

25. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ الفاء عاطفة على قوله: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ [البقرة: 197] الآية، عطف الأمر على النهي، وقوله: ﴿إذا أفضتم﴾ شرط للمقصود وهو: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾، والإفاضة هنا: الخروج بسرعة وأصلها من فاض الماء إذا كثر على ما يحويه فبرز منه وسال؛ ولذلك سموا إحالة القداح في الميسر إفاضة والمجيل مفيضا، لأنه يخرج القداح من الرّبابة بقوة وسرعة أي بدون تخيّر ولا جسّ لينظر القدح الذي يخرج، وسمّوا الخروج من عرفة إفاضة لأنهم يخرجون في وقت واحد وهم عدد كثير فتكون لخروجهم شدة، والإفاضة أطلقت في هاته الآية على الخروج من عرفة والخروج من مزدلفة، والعرب كانوا يسمون الخروج من عرفة الدّفع، ويسمون الخروج من مزدلفة إفاضة، وكلا الإطلاقين مجاز؛ لأن الدفع هو إبعاد الجسم بقوة، ومن بلاغة القرآن إطلاق الإفاضة على الخروجين؛ لما في أفاض من قرب المشابهة من حيث معنى الكثرة دون الشدة، ولأن في تجنّب دفعتم تجنبا لتوهم السامعين أن السير مشتمل على دفع بعض الناس بعضا؛ لأنهم كانوا يجعلون في دفعهم ضوضاء وجلبة وسرعة سير فنهاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك في حجة الوداع وقال (ليس البرّ بالإيضاع فإذا أفضتم فعليكم بالسّكينة والوقار)

26. ﴿عَرَفَاتٍ﴾ اسم واد ويقال: بطن وهو مسيل متّسع تنحدر إليه مياه جبال تحيط به تعرف بجبال عرفة بالإفراد، وقد جعل عرفات علما على ذلك الوادي بصيغة الجمع بألف وتاء، ويقال له: عرفة بصيغة المفرد، وقال الفرّاء: قول الناس يوم عرفة مولّد ليس بعربي محض، وخالفه أكثر أهل العلم فقالوا: يقال عرفات وعرفة، وقد جاء في عدة أحاديث (يوم عرفة)، وقال بعض أهل اللغة: لا يقال: يوم عرفات.

27. في وسط وادي عرفة جبيل يقف عليه ناس ممن يقفون بعرفة ويخطب عليه الخطيب بالناس يوم تاسع ذي الحجة عند الظهر، ووقف عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم راكبا يوم عرفة، وبني في أعلى ذلك الجبيل علم في الموضع الذي وقف فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقف الأئمة يوم عرفة عنده، ولا يدرى وجه اشتقاق في تسمية المكان عرفات أو عرفة، ولا أنه علم منقول أو مرتجل، والذي اختاره الزمخشري وابن عطية أنه علم مرتجل، والذي يظهر أن أحد الاسمين أصل والآخر طارئ عليه وأن الأصل (عرفات) من العربية القديمة وأن عرفة تخفيف جرى على الألسنة، ويحتمل أن يكون الأصل (عرفة) وأن عرفات إشباع من لغة بعض القبائل.

28. ذكر (عرفات) باسمه في القرآن يشير إلى أن الوقوف بعرفة ركن الحج وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (الحج عرفة)، سمي الموضع عرفات الذي هو على زنة الجمع بألف وتاء فعاملوه معاملة الجمع بألف وتاء ولم يمنعوه الصرف مع وجود العلمية، وجمع المؤنث لا يمنع من الصرف؛ لأن الجمع يزيل ما في المفرد من العلمية؛ إذ الجمع بتقدير مسمّيات بكذا، فما جمع إلّا بعد قصد تنكيره، فالتأنيث الذي يمنع الصرف مع العلمية أو الوصفية هو التأنيث بالهاء.

29. ذكر الإفاضة من (عرفات) يقتضي سبق الوقوف به؛ لأنه لا إفاضة إلّا بعد الحلول بها، وذكر (عرفات) باسمه تنويه به يدل على أن الوقوف به ركن فلم يذكر من المناسك باسمه غير عرفة والصفا والمروة، وفي ذلك دلالة على أنهما من الأركان، خلافا لأبي حنيفة في الصفا والمروة، ويؤخذ ركن الإحرام من قوله: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ [البقرة: 197]، وأما طواف الإفاضة فثبت بالسنة وإجماع الفقهاء.

30. ﴿مِنَ﴾ ابتدائية، والمعنى فإذا أفضتم خارجين من عرفات إلى المزدلفة، والتصريح باسم (عرفات) في هذه الآية للرد على قريش؛ إذ كانوا في الجاهلية يقفون في (جمع) وهو المزدلفة؛ لأنهم حمس، فيرون أن الوقوف لا يكون خارج الحرم، ولما كانت مزدلفة من الحرم كانوا يقفون بها ولا يرضون بالوقوف بعرفة، لأن عرفة من الحل كما سيأتي، ولهذا لم يذكر الله تعالى المزدلفة في الإفاضة الثانية باسمها وقال: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ لأن المزدلفة هو المكان الذي يفيض منه الناس بعد إفاضة عرفات، فذلك حوالة على ما يعلمونه.

31. ﴿الْمَشْعَرِ﴾ اسم مشتق من الشعور أي العلم، أو من الشّعار أي العلامة، لأنه أقيمت فيه علامة كالمنار من عهد الجاهلية، ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم يدفعون من عرفات آخر المساء فيدركهم غبس ما بعد الغروب وهم جماعات كثيرة فخشوا أن يضلوا الطريق فيضيق عليهم الوقت.

32. وصف المشعر بوصف (الحرام) لأنه من أرض الحرم بخلاف عرفات، والمشعر الحرام هو (المزدلفة)، سميت مزدلفة لأنها ازدلفت من منى أي اقتربت؛ لأنهم يبيتون بها قاصدين التصبيح في منى، ويقال للمزدلفة أيضا (جمع) لأن جميع الحجيج يجتمعون في الوقوف بها، الحمس وغيرهم من عهد الجاهلية، قال أبو ذؤيب:

çفبات بجمع ثم راح إلى منّى... فأصبح رادا يبتغي المزج بالسّحلé

فمن قال إن تسميتها جمعا لأنها يجمع فيها بين المغرب والعشاء فقد غفل عن كونه اسما من عهد ما قبل الإسلام، وتسمى المزدلفة أيضا (قزح) ـ بقاف مضمومة وزاي مفتوحة ممنوعا من الصرف ـ باسم قرن جبل بين جبال من طرف مزدلفة ويقال له: الميقدة لأن العرب في الجاهلية كانوا يوقدون عليه النيران، وهو موقف قريش في الجاهلية، وموقف الإمام في المزدلفة على قزح، روى أبو داوود والترمذي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أصبح بجمع أتى قزح فوقف عليه وقال: هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف.

33. مذهب مالك أن المبيت سنة وأما النزول حصة فواجب، وذهب علقمة وجماعة من التابعين والأوزاعي إلى أن الوقوف بمزدلفة ركن من الحج فمن فاته بطل حجه تمسكا بظاهر الأمر في قوله: فَاذْكُرُوا اللهَ.

34. كانت العرب في الجاهلية لا يفيضون من عرفة إلى المزدلفة حتى يجيزهم أحد (بني صوفة) وهم بنو الغوث بن مر بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر وكانت أمه جرهمية، لقب الغوث بصوفة؛ لأن أمه كانت لا تلد فنذرت إن هي ولدت ذكرا أن تجعله لخدمة الكعبة فولدت الغوث وكانوا يجعلون صوفة يربطون بها شعر رأس الصبي الذي ينذرونه لخدمة الكعبة وتسمى الرّبيط، فكان الغوث يلي أمر الكعبة مع أخواله من جرهم فلما غلب قصي بن كلاب على الكعبة جعل الإجازة للغوث ثم بقيت في بنيه حتى انقرضوا، وقيل إن الذي جعل أبناء الغوث لإجازة الحاجّ هم ملوك كندة، فكان الذي يجيز بهم من عرفة يقول:

çلا همّ إني تابع تباعه... إن كان إثم فعلى قضاعه‏é

لأن قضاعة كانت تحل الأشهر الحرم، ولما انقرض أبناء صوفة صارت الإجازة لبني سعد بن زيد مناءة بن تميم ورثوها بالقعدد فكانت في آل صفوان منهم وجاء الإسلام وهي بيد كرب بن صفوان قال أوس بن مغراء:

çلا يبرح الناس ما حجّوا معرّفهم‏...حتّى يقال أجيزوا آل صفواناé

35. ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ الواو عاطفة على قوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ والعطف يقتضي أن الذكر المأمور به هنا غير الذكر المأمور به في قوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ فيكون هذا أمرا بالذكر على العموم بعد الأمر بذكر خاص فهو في معنى التذييل بعد الأمر بالذكر الخاص في المشعر الحرام.

36. يجوز أن يكون المراد من هذه الجملة هو قوله: ﴿كَمَا هَدَاكُمْ﴾ فموقعها موقع التذييل، وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف بل تفصل وعدل عن مقتضى الظاهر فعطفت بالواو باعتبار مغايرتها للجملة التي قبلها بما فيها من تعليل الذكر وبيان سببه وهي مغايرة ضعيفة لكنها تصحح العطف كما في قول الحارث بن همام الشيباني:

çأيا ابن زيّابة إن تلقني‏...لا تلقني في النّعم العازب‏

وتلقني يشتدّ بي أجرد...مستقدم البركة كالراكب‏é

فإن جملة تلقني الثانية هي بمنزلة بدل الاشتمال من لا تلقني في النعم العازب لأن معناه لا تلقني راعي إبل وذلك النفي يقتضي كونه فارسا؛ إذ لا يخلو الرجل عن إحدى الحالتين فكان الظاهر فصل جملة تلقني تشتد بي أجرد لكنه وصلها لمغايرة ما.

37. ﴿كَمَا هَدَاكُمْ﴾ تشبيه للذكر بالهدى وما مصدرية، ومعنى التشبيه في مثل هذا المشابهة في التساوي أي اذكروه ذكرا مساويا لهدايته إياكم فيفيد معنى المجازاة والمكافأة فلذلك يقولون إن الكاف في مثله للتعليل وقد تقدم الفرق بينها وبين كاف المجازاة عند قوله تعالى: ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ [البقرة: 167] وكثر ذلك في الكاف التي اقترنت بها (ما) كيف كانت، وقيل ذلك خاص بما الكافة والحق أنه وارد في الكاف المقترنة بما وفي غيرها.

38. ضمير ﴿مِنْ قِبَلِهِ﴾ يرجع إلى الهدى المأخوذ من ما المصدرية و(إن) مخففة، من إنّ‏ الثقيلة، والمراد ضلالهم في الجاهلية بعبادة الأصنام وتغيير المناسك وغير ذلك.

39. ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الذي عليه جمهور المفسرين أن ثم للتراخي الأخباري للترقي في الخبر وأن الإفاضة المأمور بها هنا هي عين الإفاضة المذكورة في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ [البقرة: 198] وأن العطف بثم للعودة إلى الكلام على تلك الإفاضة، فالمقصود من الأمر هو متعلق‏ ﴿أَفِيضُوا﴾ أي قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ إشارة إلى عرفات فيكون متضمنا الأمر بالوقوف بعرفة لا بغيرها إبطالا لعمل قريش الذين كانوا يقفون يوم الحج الأكبر على (قزح) المسمى بجمع وبالمشعر الحرام فهو من المزدلفة وكان سائر العرب وغيرهم يقف بعرفات فيكون المراد بالناس في جمهورهم من عدا قريشا.. فالمخاطب بقوله: ﴿أَفِيضُوا﴾ جميع المسلمين والمراد بالناس عموم الناس يعني من عدا قريشا ومن كان من الحمس الذين كانوا يفيضون من المزدلفة وهم قريش ومن ولدوا وكنانة وأحلافهم.

40. روى الطبري عن ابن أبي نجيح قال: كانت قريش لا أدري قبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس رأيا قالوا: نحن ولاة البيت وقاطنو مكة فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم ـ يعني لأن عرفة من الحل ـ فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم فلذلك تركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك.. يعني فكانوا لا يفيضون إلّا إفاضة واحدة بأن ينتظروا الحجيج حتى يردوا من عرفة إلى مزدلفة فيجتمع الناس كلهم في مزدلفة ولعل هذا وجه تسمية مزدلفة بجمع، لأنها يجمع بها الحمس وغيرهم في الإفاضة فتكون الآية قد ردت على قريش الاقتصار على الوقوف بمزدلفة.

41. وقيل: المراد بقوله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾ الإفاضة من مزدلفة إلى منى، فتكون (ثم) للتراخي والترتيب في الزمن أي بعد أن تذكروا الله عند المشعر الحرام وهي من السنة القديمة من عهد إبراهيم عليه السلام فيما يقال، وكان عليها العرب في الجاهلية وكانت الإجازة فيها بيد خزاعة ثم صارت بعدهم لبني عدوان من قيس عيلان، وكان آخر من تولى الإجازة منهم أبا سيّارة عميلة بن الأعزل أجاز بالناس أربعين سنة إلى أن فتحت مكة فأبطلت الإجازة وصار الناس يتبعون أمير الحج، وكانوا في الجاهلية يخرجون من مزدلفة يوم عاشر ذي الحجة بعد أن تطلع الشمس على ثبير وهو أعلى جبل قرب منى وكان الذي يجيز بهم يقف قبيل طلوع الشمس مستقبل القبلة ويدعو بدعاء يقول فيه: (اللهم بغّض بين رعائنا، وحبّب بين نسائنا، واجعل المال في سمحائنا، اللهم كن لنا جارا ممن نخافه، أوفوا بعهدكم، وأكرموا جاركم، وأقروا ضيفكم)، فإن قرب طلوع الشمس قال (أشرق ثبير كيما نغير) ويركب أبو سيارة حمارا أسود فإذا طلعت الشمس دفع بهم وتبعه الناس وقد قال في ذلك راجزهم:

çخلّوا السبيل عن أبي سيّاره‏...وعن مواليه بني فزاره‏

حتّى يجيز سالما حماره‏...مستقبل القبلة يدعو جاره‏

أي يدعو الله تعالى لقوله: (اللهم كن لنا جارا ممن نخافه)، فقوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ أي من المكان الذي يفيض منه سائر الناس وهو مزدلفة، وعبر عنه بذلك لأن العرب كلهم يجتمعون في مزدلفة، ولولا ما جاء من الحديث لكان هذا التفسير أظهر لتكون الآية ذكرت الإفاضتين بالصراحة وليناسب قوله بعد: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ [البقرة: 200]

42. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ عطف على‏ ﴿أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ أمرهم بالاستغفار كما أمرهم بذكر الله عند المشعر الحرام، وفيه تعريض بقريش فيما كانوا عليه من ترك الوقوف بعرفة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/227.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ قد بين في الآية السابقة بعض أحكام الحج، وفي هذه الآية الكريمة يبين ميقاته، وما ينبغي للمؤمن في وقت حجه.

2. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ أي وقت الحج أشهر معلومات، وإنما جعلت النسبة إلى الحج نفسه، لَا إلى وقته، فكأن الإسناد إليه ـ للإشارة إلى أن هذه الأشهر لأنها ميقات تلك العبادة المقدسة، تكتسب تقديسًا منها، وكأنها هي.

3. الأشهر المعلومات اتفق على أن منها شوالا وذا القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة؛ واختلف في العشرين الأخيرة أهي منها أم ليست منها؟ وعلى أنها ليست منها الأكثرون والصحاح من الروايات.

4. هذه الأشهر سميت أشهر الحج؛ لأن أركانه تستوفى فيها، وتؤخذ الأهبة له فيها، ويحرم به فيها؛ ولكن قال أبو حنيفة ومالك والشافعي: يصح الإحرام بالحج قبلها؛ وذلك رأي جمع من التابعين؛ ورأى الشافعي تابعًا لبعض الصحابة والتابعين أن الإحرام بالحج لَا يكون إلا في أشهره، كما أن نية الصيام لَا تكون إلا في رمضان، وكما أن نية الصلاة لَا تكون إلا وقت أدائها؛ وإن ذلك هو ما يشير إليه قوله تعالى (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) إذ جعلهن وعاء الفرض وظرفه.

5. معنى فرض الحج فيهن الإحرام به؛ فإذا أحرم بالحج نزه نفسه ولسانه عن كل قول يؤدي إلى نزاع؛ ولذا قال سبحانه: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ). وقد فسر بعض العلماء الرفث بما يكون بين الرجل والمرأة؛ والفسوق بالخروج عن محظورات الحج، كلبس المخيط والحلق من غير رخصته، والصيد، وغير ذلك مما حظر الله سبحانه. والجدال هو المماراة.

6. فسر بعض العلماء الرفث بأنه النطق بالفحش مما يكون بين الرجل والمرأة وغيره؛ والفسوق بالسباب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، والجدال: المماراة والمنازعة.. وعندي أن مرمى القول الكريم هو النهي عن كل قول يجعل اللسان غير نزه، وكل قول يؤدي إلى النزاع، والجدال يؤدي إلى الخصام؛ لأنهم اجتمعوا على مائدة الرحمن الروحية ليتعارفوا، وليتلاقوا، وليقوى اتحادهم، ويعتزوا بعزة الله، فيجب اجتناب كل ما يؤدي إلى النزاع والخصام.

7. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ وإذا كنتم قد تنزهتم في حجكم عن كل شر فاعلموا أنكم اجتمعتم لعمل الخير، فتنافسوا فيه، وتبادلوا النفع، وليتعرف الشرقي حال الغربي، واعملوا على ما يقوي جمعكم، ويزيل الضر عنكم، ويدفع عنكم كيد الكائدين؛ فإن الحج الذي يزكي نفوسكم لَا يثمر ثمرته، ولا ينتهي إلى غايته، إلا إذا اعتبرتموه المؤتمر الأكبر لدولتكم، والمجتمع الأعظم لممثلي أمتكم؛ وإن الوادي المقدس هو ناديكم الذي اجتمعتم فيه؛ واعلموا أن خيركم محسوب لكم ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ سبحانه، فيعرف المحسن والمسيء، وحسب المحسن فضلا أن يعرف الله فضله، وأن يكون عنده من الأخيار الأبرار، وأن يكون عمله مقدورًا من ربه، مذكوراً عنده؛ ثم إنه يجازي الإحسان إحسانا، وما عنده خير وأبقى.

8. ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ التزود هنا معنوي نفسي، لَا مادي مالي؛ فالتزود: الإكثار من التقوى، وتهذيب النفس، وإشعار المؤمن بمودة المؤمن، وتوثيق العلاقة به، والتحاب على مائدة الرحمن، وتحت سلطان الديان. والدليل على أن الزاد معنوي لَا مادي قوله سبحانه من بعد معللا لطلبه، مثبتًا الحكمة من أمره: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ ففي الكلام استعارة، وهو تشبيه التقوى والمودة والمحبة والإخلاص الذي يملأ قلب الحاج بالزاد المادي؛ لأن الأول غذاء القلوب، كما أن هذا غذاء الأجسام.

9. قال بعض العلماء إن التزود مادي، وهو نهي للحجاج الذين لَا يتزودون في حجهم ويتكففون الناس، وقد كان يفعل ذلك أهل اليمن فنهوا عنه، ولكن المعنى الواضح من الآية هو الأول؛ ولذلك أردفت الآية بالأمر بالتقوى أمرًا عاما فقال سبحانه: ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أي اتخذوا من عمل الخير واجتناب الشر، والقيام بالطاعات والامتناع عن المنهيات وقاية من غضبي، وخص ذوي الألباب بالنداء، وهم ذوو العقول المدركة الواعية للإشارة إلى أن من لَا يتقى الله ليس عنده لب يدرك، ولا قلب يعي، ولا إرادة تعمل على مقتضى العقل والحكمة. إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار، والله سبحانه وتعالى هو العليم الخبير.

10. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ هذه الآيات الكريمات في ذكر بقية مناسك الحج، وقد ابتدأت الآيات السابقة، فذكرت ابتداءه، وأشارت إلى انتهائه، وكيف يكون الانتهاء، وفي هذه الآية بيان أو بالأحرى إشارة إلى ركن الحج الركين الذي يفوت الحج بفواته، وهو الوقوف بعرفات، فهذه الآيات وما سبقها في موضوع واحد.

11. انتهت الآية السابقة بأن الحاج عليه أن يتزود من المعاني الروحية؛ لأنها لب الحج ومعناه، وغايته ومرماه: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، وقد ابتدئت هذه الآيات ببيان أن التزود الروحي لَا يتنافى مع بعض الأغراض المادية، إذا توافرت التقوى، وتسامت النفس وعلت قوة الروح، فإن المادة في هذه الحال تكون مطية الروح، وفي خدمة المبادئ الفاضلة؛ فليست التقوى في الإسلام هي التجرد النفسي، والانخلاع من دواعي الجسم أو تعذيب الجسم لتطهير الروح؛ إنما التقوى في الإسلام تقوية الروح لتسيطر على الجسم، وتقوية الجسم ليؤدي مقاصد الروح، ويصل إلى غاياتها ومراميها؛ ولذلك أردفت الآية الداعية إلى طلب الزاد الروحي من التقوى بالآية التي تنفي الإثم عن مطالب الجسد، ما دامت خاضعة لقوة الإرادة والعقل؛ لأن المادة ومقتضياتها من ملاذ ومتع ليست محرمة في الإسلام، بل هي محللة على أن تكون أمة للعقل والروح والإرادة الحازمة الفاضلة لَا أن تكون سيدا حاكما مسيرًا، أو أن تكون الغاية والقصد، فتلك هي الحيوانية.

12. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ الجناح هنا الإثم؛ وأصله من جنحِ إذا مال؛ يقال جنحت السفينة إذا مالت؛ وقال تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ ولما كان الإثم ميلا متطرفا نحو الباطل صارت كلمة الجناح تطلق على الإثم لما فيه من معنى الانحراف المائل عن الحق، والابتغاء: الطلب الشديد، والفضل أصل معناه الزيادة وهي تكون في الخير وفى الشر، ولكن يعبر عن الزيادة القبيحة بأنها فضول، وعن الزيادة في الخير بأنها فضل؛ فزيادة العالم على الجاهل فضل، وزيادة المصلح على المفسد فضل، وزيادة الأعمال والمقاصد الخيرة على غيرها فضيلة.

13. تطلق كلمة فضل ويراد بها المال الحلال من التجارة التي لوحظت فيها الفضيلة، ولقد جاء ذلك في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وقد تطابقت كلمة المفسرين على أن الفضل في هذه الآية الكريمة هو المال الحلال المكتسب من التجارة أو غيرها؛ لأنه جاء في السنة النبوية التصريح بذلك؛ فقد كان الناس يتأثمون من الاتجار في عشر ذي الحجة الأولى؛ لأنهم يحسبون أن تلك الأيام تكون للعبادة خالصة لَا يخالطها أي أمر من أمور الدنيا؛ وكانوا يسمون من يتجر في هذه الأيام الداج لَا الحاج؛ لأنهم أعوان الحجيج في غايتهم الروحية، فنزل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، ولقد روى أن رجلا سأل ابن عمر فقال: إنا قوم نكري، أي نستأجر، فهل لنا من حج؛ فقال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، والمعنى على هذا: ليس عليكم إثم أن تبتغوا رزقا حلالا في أيام الحج، على أن تكونوا في طلبكم وأخذكم بالأسباب معتمدين على الله الخالق المنعم الذي رباكم، وأنشأكم ونماكم؛ فإضافة الرزق إلى الله ليس معناه أن نطلبه بالدعاء والتفويض، بل معناه أن نأخذ في الأسباب ونسعى، ثم نفوض أمور المقادير إلى مدبر الكون العليم الخبير.

14. إباحة طلب المال في الحج لايقتصر على الاتجار الآحادي، أو طلب المال من الآحاد فقط، بل يشمل العمل على التبادل الجماعي، ونمو الاقتصاد بين الأقاليم الإسلامية؛ فأهل الخبرة بشئون المال من الحجاج يتصل بعضهم ببعض من الأقاليم المختلفة، ويعرف أهل كل إقليم ما عند الآخرين من فاضل الرزق الذي تخرجه أرض الله، وما ينقصهم من أسباب الحياة، ويتبادلون الفائض، ويسدون النقص وهو ما يسمى في لغة العصر الحاضر التبادل التجاري؛ فيعم الخير، ولا يكون إقليم من الأقاليم الإسلامية في نقص من الموارد، وآخر في الكثير منها، وهذه تكون إحدى منافع الحج المادية التي اشتمل عليها قوله تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾

15. قال بعض العلماء: إن الاتجار وطلب المال هو من قبيل الرخصة؛ لأن الله لم يطلبه بل نفَى الإثم، فقد قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ ونفي الإثم يشير إلى أنه عفو، لَا مباح، أي أن الأولى تركه، ونحن انخالف أصحاب هذا الرأي لأن الرخصة تقتضي أن تكون هناك عزيمة مانعة من الكسب، ولم يقم دليل على منع الكسب، فيبقى على الإباحة الأصلية، وجاءت الآية الكريمة مؤكدة لهذه الإباحة بنفي الإثم، ولأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خَطَّأ الذين يتوهمون أن الاتجار مانع من الحج؛ ولا يكون الفعل من قبيل العفو إلا إذا كان موضوعه غير مباح، ولكنه لأحوال خاصة نفَى الإثم نحو كل لهو باطل إلا لعب الرجل بقوسه.. إلخ. وطلب المال الحلال أمر مباح بإطلاق؛ ولقد قال رجل لعمر: يا أمير المؤمنين كنتم تتجرون في الحج فقال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج!؟

16. فوق ذلك أن المعنى العام الذي يهيئ له الحج وهو التبادل التجاري بين المسلمين أجمعين، بأن يقدم كل إقليم فائض ما عنده لأهل الإقليم الذي ينقصه؛ هو أمر مطلوب يقوي الوحدة الإسلامية، وهو إحدى منافع الحج المذكورة في قوله: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾، كما نوهنا؛ فما نفَى عنه الإثم هنا ذكر فائدة هناك، فكان مشروعا على سبيل الإباحة من الآحاد؛ وأحسب أنه مطلوب على سبيل الوجوب من الجماعات الإسلامية، فهو من قبيل المباح بالجزء المطلوب بالكل، أي أنه مباح للآحاد أن يتجروا في الحج، وواجب على جماعة كل إقليم وأهل الخبرة منهم أن يقيموا أسباب التبادل التجاري، فالحج فرصته المهياة لهم، ولا فرصة سواه، أو تبلغ درجته.

17. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ الفاء هنا لتفصيل بعض ما أجمل من قبل في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾.. والإفاضة السير متدافعين في جمع متزاحمينَ، وذلك تشبيه لهم بالماء إذا أفاض ودفع بعضه بعضا فانتشر وسال من حافتي الوادي أو الإناء.

18. عرفات هو الجبل المعروف الذي اتفق الفقهاء على أن الوقوف عنده هو ركن الحج الأكبر حتى لقد قال عليه السلام، كما ذكرنا من قبل: (الحج عرفة) وسمي اليوم التاسع يوم عرفة؛ لأنه اليوم الذي يقف فيه الحجيج في ذلك الجبل الذي شرفه الله ذلك التشريف، وقد اختلف في السبب في تسميته عرفات مع اتفاقهم على أنه اسم مرتجل لَا منقول؛ فقال بعضهم: لأن إبراهيم عليه السلام عرفه بمجرد أن وصف له، وقيل لأن إبراهيم عليه السلام علمه جبريل فيه مناسك الحج، فكان يقول: عرفت، عرفت.. وقيل لأن آدم وحواء تعارفا فيه.. وقيل لأن عرفات من عرف بمعنى طيبه الله بالعرف بخلاف منى، فإن فيها الذبح وأفراث الذبائح.. وأحسن تعليل للتسمية ما جاء في الزمخشري: قيل لأن الناس يتعارفون فيها، وهذا ما أختاره، وإن كانت الأسماء لَا تعلل؛ ذلك لأن عرفات يجتمع الناس جميعًا عليه في وقت واحد، فيجري التعارف بينهم، وليست هذه الخاصة في غيره من المناسك، فغيره يؤدي أفرادا أو جماعة، أما هذا فيؤدي في جماعة زاخرة، هي جماعة الحجاج أجمعين.

19. المشعر الحرام: هو المزدلفة؛ وسمي كذلك؛ لأنه من معالم الحج التي لا يصح أن يعمل فيها إلا ما ورد به النص، وهو منسك له حرمة وتقديس، وقد سمي المزدلفة؛ لأن الحجيج يزدلفون إليه من عرفات، كما سمي جمعًا؛ لأنهم يجتمعون فيه، ولأنهم يجمعون فيه بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير، كما يجمعون بين صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم في عرفات. ووقت الوقوف بعرفات عند الجمهور من بعد زوال اليوم التاسع إلى فجر اليوم العاشر؛ والوقوف بمزدلفة بعد فجر اليوم العاشر.

20. روى المسور بن مخرمة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خطب الناس فقال: (أما بعد فإن هذا اليوم الحج أبر، ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم، وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس مخالفًا هدينا هدي أهل الشرك) ويبين ذلك عمل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد كان يدفع من عرفات بعد الغروب ويدفع من المزدلفة قبل الشروق، بينما المشركون كانوا يدفعون من عرفات قبل أن تغيب الشمس، ومن المزدلفة بعد أن تطلع.

21. الوقوف بالمزدلفة ليس شأنه في الحج شأن الوقوف بعرفات، فجمهور الفقهاء على أن من تركها لَا يفوته الحج.. وعرفات لها امتدادات أربعة؛ فهي تمتد في أولها: إلى طريق المشرق، وثانيها: يمتد إلى حافة الجبل الذي وراءها، وثالثها: إلى البساتين التي تلي قرنيها على يسار مستقبل الكعبة، والرابع: وادي عرنة، وليس منها؛ ولذا لَا يصح الوقوف فيه.. والمزدلفة تمتد من عرفات إلى وادي محسر، وليس منها، بل هو في أصله مسيل ماء، وقد استوت أرضه الآن.

22. الآية الكريمة تشير إلى ذلك العمل الإجماعي الذي يقوم به الحجيج، وقد وقفوا في عرفات تهز أعطافهم، وتنير قلوبهم ابتهالات جموعهم الضارعة، وتلبيتهم نداء الله الجامع، وتعلو الأرواح، وتسمو عن منازل الأشباح، تنادي الألسنة رب العالمين، وتناجي القلوب علام الغيوب؛ حتى إذا قضوا الساعات في تلك المشاهد الربانية، وتلك المدارك الروحية، أفاضوا مسرعين إلى المشعر الحرام، سائرين حيث سار محمد النبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن قبله أبو الأنبياء إبراهيم، وقد طولبوا بالذكر الحكيم، بأن يذكروا الله وهم في المشعر الحرام بالقلوب المبتهلة الخاشعة، وبالألسنة الجاهرة التي تقرع أجواز الفضاء بذكر الله العلي العليم (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر لَا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد)

23. ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ الخطاب في هذه الجملة الكريمة، إما أن نجعله خطابا خاصا بالذين صاحبوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ أنجاهم ربهم من ضلال الوثنية ورجسها إلى نور الوحدانية وسموها، ويكون المعنى اذكروا الله وقوموا له بحق العبودية، واملئوا قلوبكم وألسنتكم وأعمالكم بذكره دائما، واجعلوه مقترنا بكل ما يكون منكم في وجودكم الإنساني؛ فقلوبكم لَا يملؤها سواه، وألسنتكم لا تضرع لغير الله، وأعمالكم لَا يقصد بها إلا وجه الله؛ فإن ذلك ثمن الهداية، وأجر التوفيق؛ ولذا قال: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ أي في مقابل هدايتكم، فالكاف التي تفيد في أصل معناها التشبيه تقتضي أن يكون المعنى اجعلوا الذكر لله مشابها ومساويا للهداية الربانية التي فاض نورها عليكم، وإنكم لتعلمون ذلك الفضل السابغ، وإشراق الهداية إن تذكرتم ما كنتم عليه من قبل ذلك النور الذي قذف الله به في قلوبكم.

24. ولذا ذكر حالهم ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ إن هنا هي المخففة من الثقيلة؛ أي إن حالكم أنكم كنتم من قبل هدايته من زمرة الضالين وجماعتهم، فاعرفوا ماضيكم من حاضر أولئك الذين ما زالوا على ضلالهم ووازنوا بين حالكم وحالهم؛ فإن تلك الموازنة تريكم نعمة ربكم عليكم، وتريكم حالكم كما كنتم من قبل، ولذا عبر عن حالهم الماضية بالوصف إذ قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ أي من هذه الزمرة الضالة التي ترون حالها، ولم يقل إنكم ضللتم من قبل.

25. إذا كان الخطاب للصحابة الأولين فعلى غيرهم أن يعرف فضل الهداية، وإن لم يسبقها ضلال، فليذكر الله إذ وفقه من أول الأمر، وكان في الإمكان أن يكون من الضالين، وإن جعلنا الخطاب في الآية لجماعة المسلمين عامة الماضين واللاحقين الذين توارثوا الهداية الإسلامية ولم يسبق إليهم شرك، ولم يكونوا من أهل الوثنية، يكون الذكر لأن الله جنبهم إياها، فباعد عنهم أسبابها؛ فإن معنى الهداية هو إنقاذ نفوسهم من وساوس الشيطان؛ فإن له على كل قلب لمة؛ فإن أصابت من كتب الله عليه الضلال انحدر فيه، وإن أصابت من كتب الله عليه الهداية تذكر الله وعظمته، فساق الله إليه هدايته؛ ويكون المعنى اذكروا الله سبحانه وتعالى ذكرا مساويا لهدايتكم مشابها لها، وبقدرها، وإنكم لولا هذه الهداية كنتم من الحائرين، ولولا نور الحق لبقيتم في حيرتكم أو لسرتم في مخارف الشيطان.

26. ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ بعد أن أشار سبحانه إلى الوقوف بعرفة والإفاضة إلى المزدلفة، وذكر الله فيهما، بين طريق الإفاضة فقال هذه الجملة الكريمة، واستعمال ﴿ثُمَّ﴾ لبيان الترتيب والتراخي البياني أو المعنوي؛ ففي الأول ذكر مطلق الإفاضة، ثم ذكر طريق الإفاضة وكيف تكون، كمن يقول: أحسن إلى الناس ثم لَا تحسن إلى غير كريم؛ لبيان التفاوت بين مطلق الإحسان وتخصيص الكريم بالإحسان؛ وكذلك هنا كان التعبير بـ (ثُمَّ) لبيان التفاوت في الفضل بين مطلق الإفاضة، والإفاضة مع الناس وفي جمعهم الزاخر المتدافع ليشعر كل مسلم بأنه في منزلة واحدة مع غيره من المؤمنين، فيستوي السوقة والأمير، والكبير والصغير، والغني والفقير والحاكم والمحكوم؛ فتصقل هذه الزحمة القدسية قلوب المؤمنين، وتشعرهم بالمساواة أجمعين، فهذه الجملة عامة في خطابها تشمل الحجاج أجمعين إلى يوم الدين؛ فهم جميعا مطالبون بأن يفيضوا مع الناس، ومن حيث يسيرون، لَا يختص أحد بطريق، ولا يمنع لأحد طريق ولا يكون لفريق مسلك، وللناس مسلك، ولا يمنع الناس حتى يمر بعض الناس؛ بل الجميع في المرتفع والمهبط، والسير والموقف سواء، لأنهم في ساحات رب العالمين الذي يعطي من يشاء ويمنع من يشاء.

27. قال بعض مفسري السلف: إن الخطاب في هذه الجملة خاص بقريش وحلفائها؛ لأنهم في الجاهلية كانوا يسمون أنفسمهم الحمس يقفون بالمزدلفة، ولا يقفون مع سائر الناس بعرفة، فأمرهم الله سبحانه بأن يقفوا كما يقف كل الناس، ويفيضوا كما يفيض كل الناس، وعندي أن الخطاب عام، ويدخل فيه النهي عن هذه الحال التي كانت من قريش ) ومرمى الآية في معناها العام أو الخاص هو التسوية المطلقة بين الناس في تلك البقعة المباركة وفي ذلك المنسك المعظم.

28. ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ختم سبحانه الآية الكريمة التي تشتمل على آخر منسك من مناسك الحج، إذ يكون بعده التحلل، وإن بقيت بعض العبادات الأخرى، بالأمر بالاستغفار وهو طلب المغفرة من الله القدير؛ وطلب المغفرة فور العبادة أمر توحي به النفس المؤمنة البرة؛ وذلك لأن العبادة تطهر قلب العابد، وتزيل أدرانه، فتجعله يحس بما كان منه قبلها، فيضرع إلى المولى أن يستره بستره، ويصفح عنه بعفوه، ولأن المؤمن الخالص الإيمان كلما أرهفت مشاعره وقويت روحه، أحس بأنه مقصر أمام المنعم، لَا يصل إلى الوفاء بحقه، فيلجأ إلى الاستغفار عن التقصير، ولأن الاستغفار نفسه عبادة، وهو أبر الطاعات، ولذا يقول بعض الصوفية: رب معصية أورثت ذلا وانكسارًا، خير من طاعة أورثت دلا واستكبارًا.

29. الاستغفار ثمرة الحج، لأنه التطهير النهائي للنفس، فيعود الحاج الذي لم يفسق ولم يرفث كيوم ولدته أمه، ولقد ذيل سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى كثير المغفرة، وأن الغفران وصف له سبحانه في معاملته لعباده؛ والسبب في ذلك أنه رحيم بالناس؛ ومن الرحمة بهم أن يغفر للمذنب ليعطيه فرصة النجاة من ماضيه واطراح مآثمه، واستقبال حياة جديدة نزهة يخم فيها بالطهر وينتفع منه الناس؛ وذلك رحمة به وبالناس؛ فالمجتمع يستفيد من كثرة التائبين، ولا يستفيد من كثرة اليائسين من رحمة الله، إذ يستمرون في غيهم يأسا من غفران ربهم؛ ولذا قال سبحانه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/598.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:(1).

1. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ هي شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، فمن أحرم قبلها لم يصح منه الحج، ومن أحرم فيها صح، وأتى ببقية الأعمال.

2. ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ أي ألزم نفسه بالحج في هذه الأيام ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ الرفث الجماع، فإذا جامع الرجل زوجته، وهو محرم فسد حجه، تماما كما لو جامع أو أكل وهو صائم، وعليه المضي في إكمال حجه، ثم القضاء في العام المقبل، كما هو الحكم فيمن أفسد صومه برمضان، والفسوق الكذب والسباب، أما الجدال فجاء تفسيره في روايات أهل البيت عليه السلام بقول الرجل: لا والله، وبلى والله.

3. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ كانوا في الجاهلية يتاجرون ويكتسبون ايام الحج، فتوهم البعض ان هذا محرم، فأزال الله سبحانه هذا الوهم، وبيّن ان الاكتساب لا يتنافى مع الإخلاص في أعمال الحج.

4. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ عرفات موقف معلوم، والافاضة من عرفات الخروج منها، والمشعر الحرام المكان المعروف بالمزدلفة، والوقوف فيها واجب، تماما كالوقوف في عرفات.

5. ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾. قيل: ان قريشا كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات ترفعا وتكبرا، فأمر الله نبيه أن يقف بها ويخرج منها مع الناس، ليبطل ما كانت عليه قريش.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/304.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ أي زمان الحج أشهر معلومات عند القوم وقد بينته السنة وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة، وكون زمان الحج من ذي الحجة بعض هذا الشهر دون كله لا ينافي عده شهرا للحج فإنه من قبيل قولنا: زمان مجيئي إليك يوم الجمعة مع أن المجيء إنما هو في بعضه دون جميعه.

2. في تكرار لفظ الحج ثلاث مرات في الآية على أنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الإيجاز، فإن المراد بالحج الأول زمان الحج، وبالحج الثاني نفس العمل، وبالثالث زمانه ومكانه، ولولا الإظهار لم يكن بد من إطناب غير لازم كما قيل.

3. فرض الحج جعله فرضا على نفسه بالشروع فيه لقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ الآية، و﴿الرَّفَثُ﴾ كما مر مطلق التصريح بما يكنى عنه، و﴿الْفُسُوقُ﴾ هو الخروج عن الطاعة، والجدال المراء في الكلام، لكن السنة فسرت الرفث بالجماع، والفسوق بالكذب، والجدال بقول لا والله وبلى والله.

4. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾، تذكرة بأن الأعمال غير غائبة عنه تعالى، ودعوة إلى التقوى لئلا يفقد المشتغل بطاعة الله روح الحضور ومعنى العمل، وهذا دأب القرآن يبين أصول المعارف ويقص القصص ويذكر الشرائع ويشفع البيان في جميعها بالعظة والوصية لئلا يفارق العلم العمل، فإن العلم من غير عمل لا قيمة له في الإسلام، ولذلك ختم هذه الدعوة بقوله: ﴿واتقوني يا أولي الألباب﴾، بالعدول من الغيبة إلى التكلم الذي يدل على كمال الاهتمام والاقتراب والتعين.

5. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، هو نظير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ إلى أن قال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾، فبدل البيع بالابتغاء من فضل الله فهو هو، ولذلك فسرت السنة الابتغاء من الفضل في هذه الآية من البيع فدلت الآية على إباحة البيع أثناء الحج.

6. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾، الإفاضة هي الصدور عن المكان جماعة فهي تدل على وقوف عرفات كما تدل على الوقوف بالمشعر الحرام، وهي المزدلفة.

7. ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ أي واذكروه ذكرا يماثل هدايته إياكم وأنكم كنتم من قبل هدايته إياكم لمن الضالين.

8. ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾، ظاهره إيجاب الإفاضة على ما كان من دأب الناس وإلحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل أن قريشا وحلفاءها وهم الحمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة وكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله لا نفارق الحرم فأمرهم الله سبحانه بالإفاضه من حيث أفاض الناس وهو عرفات، وعلى هذا فذكر هذا الحكم بعد قوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾، بثم الدالة على التأخير اعتبار للترتيب الذكري، والكلام بمنزلة الاستدراك، والمعنى أن أحكام الحج هي التي ذكرت غير أنه يجب عليكم في الإفاضة أن تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة، وربما قيل: إن في الآيتين تقديما وتأخيرا في التأليف، والترتيب: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس. فإذا أفضتم من عرفات.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/64.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ أي وقت الحج أشهر معلومات، وهن شوال وذو القعدة للإحرام بالحج، وذو الحجة لأعمال الحج كلها، إلاَّ أن الإحرام ينتهي وقته بانتهاء ليلة النحر، ولطواف الزيارة والوقوف بعرفة وغير ذلك، لكل منها وقت معيّن، ويجمعها الشهر ذو الحجة، ولذلك سمّي ذا الحجة وسمي يوم النحر يوم الحج الأكبر؛ لأنه أول وقت طواف الزيارة، أو هو وقته الإختياري وهو العاشر من ذي الحجة، وفيه من أعمال الحج غير الطواف، فظهر: أن الحجة من أشهر الحج، كما قال الإمام القاسم بن محمد فيما نقلته آنفاً عنه، ومن قال: إن أشهر الحج: شوال، والقعدة وحدهما فقد أبعد؛ لأن شهر الحجة متبادر أعظم منهما، وإنما فيهما الرواية، ولذلك قال تعالى: ﴿مَعْلُومَاتٍ﴾ لأن ذا الحجة معروف بالحج من عهد الجاهلية والإسلام، وتجويز أن المراد شهران خلاف الظاهر، والاحتجاج بقوله: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم:4] ضعيف؛ لأنه يستغنى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف، فلا يحتج على استعمال الجمع في غير ذلك، ولو جاء نادراً فلا يفسر به القرآن لتعسر فهمه؛ لأن من الفصاحة سلامة الكلام عن استعمال غريب اللغة النادر الذي لا يفهمه إلاَّ النادر من أهل اللغة كما ذكروا في علم البيان.

2. ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ أوجبه على نفسه بالإحرام له والدخول فيه بالتلبية بنية الدخول في الحج أو كلمة: أحرمت لك، أو نحوها مما هو من أعمال الحج مع النية كالتقليد للهدي.

3. ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ فكل ذلك محرم على الحاج، الرفث كناية عن الجماع وعن الكلام الذي يستحيا منه، والفسوق: الفجور والخباثة بكل أنواعها من الظلم والإلحاد في الحرم وسبّ أولياء الله ومدح الظلمة وغير ذلك، والجدال ظاهر، وظاهره المنع من الجدال على الإطلاق، ولعل السبب أنه يوجه القلب إلى موادّ الجدل والأخذ والرد، ويشغله عن ذكر الله والدعاء والاستغفار ويثير الغضب فيشغل القلب أشد من ذلك، ومع كون الحج قد علم الله أنه يلتقي فيه أهل المذاهب المختلفة، فلو جعل الجدال فيه جائزاً واستعد كل أناس للجدال عن مذهبهم واختاروا لذلك منهم أقواهم في الجدل لصار الحج ملتقى جدل وكان مظنة أن تثور فيه الفتن بسبب ما يؤدي إليه الجدل من الغيظ، وذلك شغل عن اغتنام تلك المواقف لذكر الله والدعاء والتماس رقة القلب، وهذا أمر واضح والجدال بالحق له وقت غير الحج، فلا يخص من عموم هذه الآية.

4. يمكن بيان الحق بغير جدال، فإن قبل الخصم فالمراد، وإن لم يقبل جعلت بينك وبينه موعداً لما بعد الحج، وإن تعذر ذلك جعلت له موعداً ليدلي بما في نفسه بشأن ما أدليت له من الحجة، فإن وجدته منصفاً زدت له من البيان ما يحلّ الإشكال بدون مرادّة في الكلام ومغالبة تؤذي وتغيظ، وإن وجدته لا يفيده شيء لتعصبه وبُعده عن الحق تركته واعتذرت بهذه الآية الكريمة، فهما أمران مختلفان؛ بيان الحق بلا جدل والجدل لبيان الحق، فيعمل بالأول ويترك الثاني عملاً بالآية.

5. سؤال وإشكال: بل يجب الجدال بالحق؛ لأن الله أوجب التبليغ وحرم الكتمان؟ والجواب: قد بينّا أنه يمكن الجمع بين الدليلين، فيبين الحق بلا جدال، ويترك الخصم يجادل نفسه إن أراد الحق، أعني يفكر فيما ورد عليه من البيان، وما كان يعتقده حجة وينظر أيهما أصح فاستعمال هذه الطريقة أنفع من المغالبة والمماراة، وما بدا له من إشكال بعد التفكير والنظر الكامل سأل عنه سؤالاً بلا جدال، وأجيب عنه بلا جدال، ثم عاد إلى النظر والتفكير وحده، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ [سبأ:46]

6. الحاصل: بيان الحق بغير جدال، جمعاً بين الدليلين، وترجيحاً لحكمة منع الجدال في الحج التي ذكرتها آنفاً، مع أن الجدال أكثره داعية إلى التعصب فهو عكس المطلوب، وإنما ينبغي أن يكون بالتي هي أحسن، وهي كلمة جامعة تحتها آداب:

أ. منها: ترك المقاطعة في الكلام، وترك الخصم يدلي بما في نفسه كله بدون مغافصة.

ب. ومنها: ترك رفع الكلام أكثر من إسماع الخصم.

ج. ومنها: ترك التسجيل عليه بالخطأ قبل أن يمهل حتى ينظر في الحجة.

د. ومنها: إحالته إلى البحث وذكر مواضع البحث حتى يقدر على ذلك حيث الإشكال يستدعي ذلك، ولا يمكن حله في مجلس واحد كإثبات تواتر حديث أو صحته.

هـ. ومنها: ترك الاحتيال لإفحامه قبل أن يقتنع بالدليل، هذا حيث المقصود الإفادة، فأما إن كان المقصود قطع الجدال وكان لا يرضى بتركه إلاَّ بهذه الحيلة وكانت الحال لا يمكن فيها البيان لعذر شرعي فلا بأس بها.

و. ومنها: الإجابة على الخصم في كل ما أورد عليك، وإن كان في رأيك ضعيفاً، وترك الجواب قد يكون مراوغة وفراراً من حجة الخصم، فهو عيب، وقد يكون عجلةً على الكلام بما في نفسك، فهذا تقصير؛ لأنه لا يفوت ما في نفسك، ويمكن أن تقوله من بعد فاصبر حتى ترد عليه، فإن كان جاهلاً ـ والجواب لا يفيده لجهله ـ قلت له: إنه لا يستفيد من جوابك إلا بعد أن يقرأ ويتعلم، وإن كان قد انتقل عن موضوع الجدال قلت له: هذا انتقال، وإن كان أورد عليك سؤالاً تخشى من الجواب عليه ضرراً من الناس، لأنهم يغضبون عليك ويضرونك أو يهتكون عرضك حتى يمنع من قبولهم منك كلمة الحق فلا بأس أن تروغ عن الجواب لعذر شرعي كما مر، وكما قال الشاعر:

çيا رب جوهر علم لو أبوح به... لقيل لي أنت ممن يعبد الوثناé

7. بالجملة أدب الجدل: بيان الحق بقدر الإمكان، واجتناب ما يثير الخصم إلاَّ بيان الحق بقدر الإمكان ومحاولة تقريب الفائدة بقدر الإمكان.

8. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ هذا حث على اغتنام فعل الخير في الحج، ولذلك عقبه بقوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ فأنتم في سفر بعيد ومهبط أحدكم على جنة أو نار، فتزودوا في هذه الحياة زاداً يبلغكم الجنة، والحج بما فيه من الدعاء عند البيت، وفي عرفات وسائر المشاعر سبب للتقوى التي هي خير الزاد، وكذلك التوبة هناك والاستغفار وكل عمل سبب للتوفيق وطرد الشيطان وتنوير القلب، كل ذلك سبب للتقوى، فكل مسافر يحتاج إلى الزاد لئلا ينقطع، والتقوى زاد خير من كل زاد؛ لأنها تبلغ صاحبها الجنة وتنجيه من النار.

9. ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ فكل ذي لبّ أي كل عاقل إذا استعمل عقله ونظر في عاقبته وأنه لا بد أن يلقى ربه ويسأله ويحاسبه ويجازيه وأنه لا بد صائر إلى الجنة أو النار وأنه لا طلب للجنة ولا هرب من النار إلاَّ في هذه الحياة، فمن حقه أن يتقي الله؛ لأن من شأن العاقل أن يتدبر عواقب الأمور.

10. قال الشرفي في (المصابيح): (وفي أحكام هذه الآية يقول إمامنا المنصور بالله عليه السلام: الأشهر المعلومات: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، أما الأولان وعشر ذي الحجة فظاهر، وأما ما وراء العشر من ذي الحجة فلتمام ما بقي من أعمال الحج كصيام ثلاثة أيام للمتمتع الذي لم يجد الهدي، وكطواف الزيارة، ويباح فيها [أي في الحجة] الإحرام بالعمرة للمتمتع وللقِران مع الحج في أولها، والإحرام بالعمرة للمفرد في آخرها، ويكره تأخير الصيام للمتمتع [عنها] وطواف الزيارة لغير عذر عنها، وتدل على أن فرض الحج فيهن، وأما غيرهن فلا دليل عليه، وقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ مجمل، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ مبين، ويجب رد المجمل إلى المبين و[تدل] على تحريم الرفث وهو الجماع، وكل قول فاحش، والفسوق، وهو تعمد المعاصي، وتدل على أن فعل المعصية من المحرم أغلظ، وتحريم الجدال، ويجب على صاحب الحق أن يبينه لما تقدم من تحريم كتمان الحق، فمتى بيّن الحق فلا يزيد عليه للنهي عن الجدال، وتدل على وجوب الزاد وأن خير الزاد التقوى، ومن التقوى ترك السؤال لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تسأل الناس شيئاً ولو سوطك إن يسقط منك حتى تنزل إليه، فتأخذه) ونحو ذلك، وتدل على الحث على فعل الخير كله، وقوله: ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ من تمّ عقله فإنه داخل فيمن أمره الله بالتقوى)

11. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ فقفوا في عرفات ابتغاء فضل الله بطاعته والأعمال الصالحة في عرفات، والتلبية، والدعاء، والذكر، والاستغفار، ولا تتحرجوا من الوقوف فيها كما كانت قريش تفعل وتقف في مزدلفة لئلا تخرج من الحرم، فاخرجوا من الحرم ابتغاء فضل الله، ويدخل في ابتغاء فضل الله التجارة في الحج بدون تقصير في طاعة الله.

12. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ ﴿الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ مكان في (مزدلفة) مشهور، وذكر الله عنده يتناول ذكره في الصلوات: المغرب، والعشاء، والفجر، وغيرها، وذكر الله عند المشعر ذكره في مزدلفة، فهي كلها عند المشعر الحرام وزيادة القرب منه قبل الخروج من مزدلفة مشروع.

13. ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ ﴿وَاذْكُرُوهُ﴾ شكراً على هدايته إياكم بعد الضلال، فقد كنتم من قبل رحمة الله لكم بالرسول والقرآن لمن الضالين، فلولا الله لما اهتديتم ولبقيتم على ضلالكم من الشرك وتحريم ما أحل الله، والخرافات في الحج: كالوقوف في مزدلفة، والطواف بالعراء، والصلاة بالمكاء، والتصدية، وغير ذلك كثير.

14. ﴿ثُمَّ﴾ بعد ذكر الله عند المشعر الحرام ﴿أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ بلا اختلاف بينهم من وقف بعرفات ومن وقف بمزدلفة حيث يفيضون من مزدلفة إلى منى أجمعون، هذا هو ظاهر الآية وتحويلها عن ظاهرها لأجل رواية عروة بن الزبير لا يصح عندي.

15. ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فتلك مواقف استغفار يرجى فيها القبول، مع أن الله غفور رحيم لا تختص مغفرته ورحمته بتلك المواقف، فاستغفروه؛ لأنه ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/289.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ الأشهر التي يجوز فيها الإحرام للحج ثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة ـ في العشر الأول منه ـ ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ فإذا فرض الإنسان فيها على نفسه الحج بالإحرام، فيجب عليه أن يلتزم بمحرمات الإحرام التي تقف في مقدمتها هذه الثلاثة التي فسّرت في السنّة الشريفة، ﴿فَلَا رَفَثَ﴾ الذي كني به عن الجماع، ﴿وَلَا فُسُوقَ﴾ الذي فسر بالكذب، ﴿وَلَا جِدَالَ﴾ الذي فسر بقول: لا والله وبلى والله، وذلك لأهميتها في المجال التربوي في حياة الإنسان.

2. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ وختمت هذه الآية بالتذكير بأن الأعمال الخيّرة التي يقوم بها الإنسان لا تغيب عن علم الله الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة، وذلك من أجل أن يشعر بالحاجة إلى الإخلاص في عمله عندما يحس بأنه موضع رقابة الله. ومن أجل أن يعينه ذلك على الاستمرار والزيادة، لأنه بعين الله الذي يقدّر لكل إنسان جهده وعمله، لأن الله لا يضيع عمل عامل من الناس من ذكر أو أنثى، فيدفعه ذلك إلى تحمل الصعوبات والمشاق الكثيرة في سبيل الله طمعا في ثواب الله ورضاه.

3. ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ فهو الذي يبقى للإنسان من بعد موته فيجده عند الله محضرا، وقد جاء في قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾، وهو الذي تلتقي فيه الدنيا والآخرة في التقاء العمل الصالح بعواقبه الطيبة، والمسؤولية بنتائجها الخيرة، ثم أكد الموضوع بكلمة تحمل الكثير من المعاني الحميمة التي تربط الخالق بالمخلوقين، لأنها تمثل دعوته الرحيمة في أن يعيشوا الجو الحميم بالحاجة إلى الإحساس بوجود الله وحضوره في وعيهم، الذي يؤدي إلى الالتزام بخط التقوى عندهم.

4. ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وكان هذا النداء انطلاقة رائعة توحي للإنسان بأن كل هذه القضايا هي من وحي العقل الذي لا يدعو إلا إلى ما فيه الخير كل الخير في الدنيا والآخرة، ليستنفر الإنسان عقله في كل وقت فلا يغيب عنه في أي مجال حتى لا تنهار حياته في لحظات الجنون.

5. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ورد في بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن هذه الفقرة واردة لبيان الرخصة للمؤمنين في ممارسة الأعمال التجارية بعد فراغهم من الحج، لأنهم كانوا يشعرون بالحرج في ذلك، وربما كانوا يعانون من الشعور بعقدة الذنب في حال ممارستهم لها. وهذا المعنى ظاهر من الآية من خلال التعبير بعبارة:

6. ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ المشعرة بأن هناك إحساسا لديهم بوجود شيء من هذا القبيل، ولأن التعبير عن السعي في طلب الرزق، بالابتغاء من فضل الله، هو من التعابير القرآنية المألوفة كما ورد في قوله تعالى في سورة الجمعة: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وربما يكون في هذا التعبير إشارة إلى أن طلب الرزق لا يتنافى مع الأجواء النفسية الروحية التي يحصل عليها من العبادة، لأنه طلب من فضل الله، كما أن العبادة انطلاق في آفاق الله، وقد أشرنا فيما تقدم إلى الأحاديث الواردة في اعتبار طلب الحلال عبادة تقرب الإنسان إلى الله، بل ورد في بعضها أن العبادة سبعون جزءا أفضلها طلب الحلال.

7. في ضوء ذلك، يمكننا فهم الواقعية الإسلامية في خط التشريع العبادي في امتثال الحج الذي يختلف عن الصلاة والصوم، بأنه عبادة متحركة في انطلاق الناس من كل مكان في العالم إلى البيت الحرام الذي يؤدون فيه ـ أو قريبا منه ـ مناسك حجهم في أعمال معينة، وأوقات محدودة لا تتنافى مع القيام بنشاط آخر يتصل بالجانب الاقتصادي الذي قد تتاح فيه للناس هناك أكثر من فرصة لإقامة علاقات تجارية مع بعضهم البعض، بحيث توفّر عليهم قطع المسافات البعيدة التي قد يضطرون إلى الذهاب إليها في مجال آخر، كما يمكنهم فيه ممارسة التجارة الفعلية مستفيدين من هذا الموسم العالمي الذي يلتقي فيه الناس من سائر أنحاء العالم ليشتروا ما يحتاجون إليه من الأغذية والألبسة والهدايا التي يأخذونها معهم إلى أهلهم.

8. وهكذا نجد أن موسم الحج يساهم في إيجاد سوق إسلامية منفتحة على النشاط التجاري الفعلي، والعلاقات الاقتصادية بين رجال الأعمال من مختلف الشعوب الإسلامية التي قد تتحول إلى علاقات سياسية وأمنية وثقافية في تطورها العملي في نهاية المطاف، وقد جاء في رواية هشام بن الحكم عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ما يشير إلى ذلك، فقد سأله هشام عن الصلة التي من أجلها كلف الله العباد الحج والطواف بالبيت، فقال عليه السلام: (أمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمّال، ولتعرف آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كل قوم [إنما] يتكلمون على بلادهم وما فيها هلكوا، وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح، وعميت الأخبار)، وهذا ما يؤكد خط التوازن الإسلامي في وعي مسألة الدنيا في حاجاتها والآخرة في غاياتها. فليس هناك تناقض بينهما، بل إن السير في خط التشريع الإسلامي يضمن للإنسان الدنيا والآخرة، فتكون الدنيا مزرعة للآخرة، وتكون الآخرة غاية تحقق للدنيا طهارتها وصفاءها وحركيتها في طريق الله.

9. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ من أعمال الحج أن يقف الناس في عرفات من الزوال إلى الغروب وقفة خاشعة فيها الكثير من العبادة والتأمل والنفاذ إلى أعماق الروح في لحظة صفاء ونقاء.. إنها وقفة الحياة أمام الله تستلهمه وتستهديه وتفتح قلبها أمامه في آلامها وآمالها من أجل أن يلهمها الصواب فيما تفكر، ويهديها الصراط المستقيم ويجعل لها من أمرها يسرا فيكشف عنها آلامها ويحقق لها أحلامها.

10. قد نستوحي كل ذلك من ملاحظة أن النسك هنا الوقوف في عرفات، تماما كما لو أن الإنسان يعيش في رحلة طويلة تجهده، وتتعبه، وتكلفه الكثير من الخسائر، وتواجهه بالكثير مما يقوم به من أعمال ومشاريع، فيشعر بالحاجة إلى وقفة يتخفف فيها من متاعبه، ويراجع فيها حساباته، ويعرف فيها ماذا بقي له من الرحلة وما مضى منها، ليبدأ من موقع التجدد الروحي الذي يملأ كيانه في رحلة جديدة واعية لكل أوضاع الحاضر والمستقبل.

11. يفيض الحاج من عرفات بعد أن يستكمل هذا الموقف الروحي في التأمل الخاشع، والدعاء المنفتح على الله، والصلاة السابحة في آفاقه، لينتقل إلى فريضة أخرى مماثلة، ولكن في مكان آخر: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ الذي يجب فيه الوقوف من جديد من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ـ على مذهب الإمامية ـ وفي ما بين الطلوعين ـ على رأي الآخرين ـ وهي وقفة جديدة في وقت جديد، يعيش الإنسان فيها ذكر الله الذي هدانا إلى طريق الحق بعد أن كنا من قبله من الضالين ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾، فنعرف بذلك نعمة الهدى ونتلمس فيه معنى النعمة فيما يوحيه للإنسان من معاني الرضى والروح والطمأنينة، ويبعده عن نوازع الشك والقلق والضياع، ويوجهه إلى الحياة الرحبة الطاهرة الخالية من كل دنس أو رجس أو التواء، والقريبة إلى الحب والخير والسّلام. أو يؤدي به ـ في نهاية المطاف ـ إلى عفو الله ورضوانه في جنة عرضها السماء والأرض أعدت للمتقين، مما يضمن له خير الدنيا والآخرة، وينطلق ليتعرف ـ في مقابل ذلك ـ النتائج السلبية للضلال في داخل النفس وخارجها، في الحياة الفردية والاجتماعية في الدنيا وفي الاخرة.. وبذلك يحس بالشكر العميق لنعمة الهدى، ويعيش الشعور بالامتنان لله الذي وهبه هذه النعمة بأكثر مما يحس به إزاء النعم المادية التي وهبها له في هذه الحياة.

12. لعل في التذكير بحالة الضلال دعوة إلى أن يدخل الإنسان في عملية مقارنة بين حياته في داخل أجواء الضلال وبين حياته في أجواء الهدى، ليعرف نعمة الهدى من مواقع حياته الطبيعية لا من مواقع الفكر والنظرية فحسب.

13. ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ يقال: إن قريش كانت لا تفيض من حيث يفيض النّاس، لأنها تشعر بموقعها المميز الذي يختلف عن مواقع الناس من حيث العلو والرفعة والكبرياء، فكانت لا تقف بعرفات. وقد جاء فيما رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس: «كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾، لقد جاءت هذه الآية لتلغي من نفوسهم كل هذه النوازع الطبقية التي تدفعهم إلى الاستعلاء على الآخرين، لا سيما في مثل هذا الموقف الذي أراده الله من أجل إلغاء كل الفوارق التي تميزهم عن بعضهم البعض، ليشعروا بالصفة الواحدة التي تجمعهم أمام الله، وهي أنهم عباد الله الواحد الأحد؛ فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، فلا معنى ـ بعد ذلك ـ لأن يميز أحد نفسه عن أخيه في موقع أو في ظرف انطلاقا من الشعور بالتفوق والكبرياء، وهناك تفسير آخر للآية: (وهو أن المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر عن الجبائي قال: والآية تدل عليه، لأنه قال: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ ثم قال: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾، فوجب أن يكون إفاضة ثانية، فدلّ ذلك على أن الإفاضتين واجبتان، والناس المراد به إبراهيم، كما أنه في قوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ [آل عمران: 173] نعيم بن مسعود الأشجعي)

14. لعل الوجه الأول أقرب وأظهر، لأن إرادة شخص واحد من الناس خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلا بدليل، ولا دليل هنا على ذلك، كما لا دليل فيها على أن هناك إفاضتين، لأن كلمة الإفاضة من عرفات ذكرت لبيان التشريع، أما الآية الثانية فربما وردت لبيان الطريق الذي يسلكه الحجاج في الإفاضة وهو الطريق العام.

15. ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ ودعاهم بعد ذلك إلى أن يستغفروه من كل ما يمكن أن يحدث في أنفسهم من المشاعر السلبية البعيدة عن خط الإيمان وروحيته ووعدهم بالمغفرة والرحمة، ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لأن الرحمة والمغفرة من صفاته الذاتية التي امتنّ بها على عباده ليدخلهم في رحمته ورضوانه.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/99.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:

1. تواصل هذه الآيات الشريفة بيان أحكام الحجّ وزيارة بيت الله الحرام وتقرّر طائفة من التشريعات الجديدة.. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾، والمراد بهذه الأشهر: هي شوال، ذي القعدة، ذي الحجّة (شهر ذي الحجّة بكامله أو العشرة الأوائل منه) وهذه الأشهر تسمّى (أشهر الحجّ) لأنّ قسماً من أعمال الحجّ والعمرة لا يمكن الإتيان بها في غير هذه الأشهر، وقسماً آخر يجب الإتيان بها في اليوم التاسع إلى الثاني عشر من شهر ذي الحجّة، والسبب في أنّ القرآن الكريم لم يصرّح باسماء هذه الأشهر لأنّها معلومة للجميع وقد أكّد عليها القرآن الكريم بهذه الآية، وهي تستبطن نفياً لأحد التقاليد الخرافيّة في الجاهليّة حيث كانوا يستبدلون هذه الأشهر بغيرها في حالة حدوث حرب بينهم فيقدّموا ويؤخّروا منها كيف ما شاؤوا، فالقرآن يقول: (إنّ هذه الأشهر معلومة ومعيّنة فلا يصحّ تقديمها وتأخيرها)

2. ثمّ تأمر الآية الكريمة فيمن أحرم إلى الحجّ وشرع بأداء مناسك الحجّ وتقول: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾

3. ﴿رَفَثَ﴾ بالأصل بمعنى الكلام والحديث المتضمّن ذكر بعض الاُمور القبيحة أعمّ من الاُمور الجنسيّة أو مقدّماتها، ثمّ بات كناية عن الجماع، ولكنّ البعض ذهبوا إلى أنّ مفردة ﴿رَفَثَ﴾ لا تطلق على هذا النوع من الكلام إلاّ في حضور النساء، فلو كان الحديث في غياب النساء فلا يسمّى بالرّفث.. وذهب البعض إلى أنّ الأصل في هذه الكلمة هو الميل العملي للنّساء من المزاح واللّمس والتماس البدني الّذي ينتهي بالمقاربة الجنسيّة.

4. ﴿فُسُوقٌ﴾ بمعنى الذّنب والخروج من طاعة الله، و﴿جِدَالَ﴾ تأتي بمعنى المكالمة المقرونة بالنّزاع، وهي في الأصل بمعنى شدّ الحبل ولفّه، ومن هذا استعملت في الجدال بين اثنين، لأنّ كلّ منهما يشدّ الكلام ويحاول إثبات صحّة رأيه ونظره.. على كلّ حال، ورد هذا الأمر للحجّاج في حرمة المقاربة مع الأزواج، وكذلك وجوب اجتناب الكذب والفحش (مع أنّ هذا العمل حرام أيضاً في غير مواضع الإحرام ولكنّه ورد النهي عنه في أعمال الحجّ بالخصوص ضمن المحرّمات الخمسة والعشرين على المحرم)

5. كذلك من المحرّمات على المحرم في الحجّ هو الجدال والقسم بالله تعالى سواء كان على حقّ أم باطل، وهو قول (لا والله، بلى والله)

6. هكذا ينبغي أن تكون أجواء الحجّ طاهرة من التمتّعات الجنسيّة وكذلك من الذنوب والجدال العقيم وأمثال ذلك، لأنّها أجواء عباديّة تتطلّب الإخلاص وترك اللّذائذ الماديّة وتقتبس روح الإنسان من ذلك المحيط الطّاهر قوّة جديدة تسوقها إلى عالم آخر بعيداً عن عالم المادّة، وفي نفس الوقت تقوّي الاُلفة والإتحاد والإتّفاق والاُخوّة بين المسلمين بإجتناب كلّ ما ينافي هذه الاُمور.

7. طبعاً لكلّ واحد من هذه الأحكام الشرعيّة شروح وشرائط مذكورة في كتب مناسك الحجّ الفقهيّة.

8. بعد ذلك تعقّب الآية وتبيّن المسائل المعنويّة للحجّ وما يتعلّق بالإخلاص وتقول ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾، وهذا أوّل لطف إلهي يناله الصالحون، فالمرحلة الأُولى من لذّة الإنسان المؤمن هي إحساسه بأنّ ما يعمله في سبيل الله إنّما هو بعين الله، ويا لها لذّة.

9. تضيف الآية: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، هذه الآية أمرت بحمل الزاد، قيل: إن جماعة من أهل اليمن كانوا يحجّون دون أن يصحبوا معهم زاداً للطريق، قائلين: نحن ضيوف الله وطعامنا عليه، وهذه الفقرة من الآية أمرت بحمل الزاد، لأن الله سبحانه هيّأ للجميع طعامهم بالطرق الطبيعية.. والآية تشير في الوقت نفسه إلى مسألة معنوية هي زاد التقوى، فهناك حاجة إلى زاد من نوع آخر هو التقوى.

10. العبارة تنطوي على توعية المسلمين بالنسبة لعطاء الحجّ المعنوي وتفتّح أبصارهم على ما في ساحة الحجّ من معان عميقة تشدّ الإنسان بتاريخ الرسل والأنبياء وبمشاهد تضحية إبراهيم بطل التوحيد، وبمظاهر عظمة الله سبحانه ممّا لا يوجد في مكان آخر، ولابدّ للحاج أن يستلهم من هذه الساحه زاداً يعينه على مواصلة مسيرته نحو الله فيما بقي من عمره.

11. ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ الحديث موجّه إلى أُولي الألباب والعقول، والتركيز عليهم بانتهاج التقوى لأنهم هم القادرون على التزوّد كما ينبغي من العطاء التربوي لمناسك الحجّ، والآخرون لا ينالون منها سوى المظاهر والقشور.

12. الآية التالية ترفع بعض الاشتباهات في مسألة الحجّ وتقول: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، لقد كان التعامل الاقتصادي بكافّة ألوانه محضوراً في موسم الحجّ عند الجاهليّين، وكانوا يعتقدون ببطلان الحجّ إذا اقترن بالنّشاط الإقتصادي، فالآية مورد البحث تعلن بطلان هذا الحكم الجاهلي وتؤكّد أنّه لا مانع من التعامل الإقتصادي والتّجاري في موسم الحجّ، وتسمح بابتغاء فضل الله في هذا الموسم عن طريق العمل والكد.

13. هذا النمط من التفكير كان سائداً في العصر الجاهلي ونجده كذلك في زماننا هذا وأنّ هذه العبادة العظيمة ـ يعني الحجّ ـ يجب أن تكون خالصة من أيّة شوائب ماديّة، ولكن بما أنّ سائر العاملين في هذا السبيل مضافاً إلى الناس الّذين يقصدون بيت الله من بعيد الدّيار يمكنهم أن يحلّوا الكثير من مشاكلهم الاقتصاديّة في سفر الحجّ هذا، ولهذا السبب أبطل القرآن الكريم هذا اللّون من التفكير، ويُحق لهؤلاء الأشخاص أن يأتوا بعبادة الحجّ ويؤدّوا مناسكه ضمن أداء خدماتهم الأخرى ولا يكونوا في مضيقة من هذه الجهة، بل أنّ النصوص الإسلاميّة التي تتحدّث عن حكمة الحجّ تشير أيضاً إلى الجوانب الإقتصادية إضافة إلى الجوانب الأخلاقية والسياسية والثقافية، وتوضّح أنّ سفر المسلمين من كلِّ فجٍّ عميق إلى بيت الله الحرام لعقد مؤتمر الحجّ العظيم يستطيع أن يكون منطلقاً لتحرّك اقتصادي عامّ في المجتمعات الإسلامية، وذلك يتحقّق باجتماع الأدمغة الإقتصادية الإسلامية المفكّرة قبل أداء المناسك أو بعده لوضع أُسس اقتصاد سليم في المجتمعات الإسلامية يقوم على أساس التعاون والتبادل الإقتصادي بين أبناء الأُمّة الإسلامية، والإستغناء عن الأجانب والأعداء، وبلوغ المستوى الممكن اللائق من الإكتفاء الذاتي.

14. من هنا، فهذه المعاملات والمبادلات التجارية سبل لتقوية بنية المجتمع الإسلامي أمام أعداء الإسلام، ذلك لأنّ أيّ شعب من الشعوب لا يمكن أن ينال استقلاله الكامل دون أن يقوم على أساس اقتصادي قوي، ولكن النشاط الاقتصادي في موسم الحجّ ينبغي طبعاً أن ينضوي تحت الأبعاد العبادية والأخلاقية للحجّ، لا أن يقدّم ويهيمن عليها، وواضح أنّ الحجّاج لهم الوقت الكافي قبل أعمال الحجّ وبعده لمثل هذا النشاط.

15. يروي هشام بن الحكم أنّه سأل الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام عن العلّة الّتي لأجلها كلّف الله العباد الحجّ والطواف بالبيت، فقال: (فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد ولينتفع بذلك المكاري والجمّال.. ولو كان كلّ قوم إنّما يتكلّمون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح)

16. ثمّ تعطف الآية الشريفة على ما تقدّم من مناسك الحجّ وتقول ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾، ثمّ تقول الآية في حديثها هذا: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ فهذا المقطع يتضمّن أمراً بالإفاضة أي بالإندفاع والحركة من المشعر الحرام إلى أرض منى.

17. في نهاية الآية تُعطي أمراً بالإستغفار والتوبة وتقول: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

18. في هذا المقطع من الآيات إشارة إلى ثلاث مواقف من مواقف الحجّ (عرفات) وهي صحراء وتقع على بعد 20 كيلومتراً تقريباً من مكّة ويجب على الحجّاج أن يقفوا في هذا المحل من ظهر يوم التاسع من ذي الحجّة إلى غروب الشمس فيشتغلوا بالعبادة والذكر، ثمّ الوقوف بـ (المشعر الحرام أو المزدلفة) حيث يبيتون هناك ليلة عيد الأضحى ويبقون هناك إلى قبل طلوع الشمس مشغولين بالدعاء والمناجاة مع الله تعالى، والثالث أرض (منى) وهي محل ذبح الأضاحي ورمي الجمرات وحلّ الإحرام واداء مناسك العيد.

19. في سبب تسمية هذه الأرض بهذا الاسم قيل.: إنّ إبراهيم عليه السلامقال حين أراه جبرائيل مناسك الحجّ: (عرفت، عرفت)، وقيل إن هذه القصة وقعت لآدم وحواء، وقيل أيضاً أن آدم وحواء تعارفا في هذا المكان، وقيل أن حجاج بيت الله يتعارفون فيما بينهم في هذا المكان، وتفسيرات اُخرى.. ولا يبعد أن تكون التسمية إشارة إلى حقيقة أُخرى أيضاً، وهي أن هذه الأرض المشرّفة التي تبدأ منها أُولى مراحل الحجّ محيط مناسب جدّاً لمعرفة الله تعالى. والحاجّ في هذا الموقف يشعر حقّاً بانشداد روحي ومعنوي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات.

20. الحجيج في هذه الأرض القاحلة متجمّعون بشكل واحد وبزيّ واحد، قد هربوا من بريق الحياة وزخرفها وصخبها وضجيجها ولاذوا بهذه الأرض المشرّفة المفعمة بذكريات الرسالات السماوية، حيث يحمل نسيمها نداء جبرائيل وصوت الخليل ودعوة النبيّ الخاتِم، وصحبه المجاهدين، وتنطق أرضها بصور الجهاد والتضحية والإنقطاع إلى الله على مرّ التاريخ، كأنّ هذه الأرض نافذه تشرف على عالم ما وراء الطبيعة، يرتوي فيها الإنسان من منهل العرفان، وينساق مع تسبيح الخليقة العام، بل يعود أيضاً إلى ذاته التي انفصل عنها زمناً طويلاً فيعرف نفسه، ويعرف أنّه ليس بذلك الكائن اللاهث ليل نهار وراء جمع الحطام والمتاع دون أن يرويه شيء، بل إنّه جوهر آخر كان يجهله قبل الوقوف في عرفات.. نعم إنّها (عرفات) وما أجمل هذا الاسم! وما أعمق مدلوله!

21. بشأن تسمية (المشعر الحرام) بهذا الاسم قيل: إنّه مركز لشعائر الحجّ، ومعلم من معالم هذه العبادة العظيمة.. ومن المهمّ أن نفهم أنّ (المشعر) من مادة (الشعور)، ففي تلك الليلة التاريخية المثيرة (ليلة العاشر من ذي الحجّة) حيث حجّاج بيت الله الحرام قد أنهوا المرحله الاُولى من هذه الدورة التربوية في عرفات واندفعوا نحو المشعر الحرام ليقضوا ليلة يفترشون فيها الأرض ويلتحفون السماء، ضمن إطار أرض محدودة الأبعاد أشبه ما تكون ـ وهي تموج بآلاف الحجّاج ـ بأرض المحشر.. في مثل هذه الظروف الزمانية والمكانية.. وفي إطار الإلتزام بالإحرام وواجباته ومحرّماته، تجيش في النفس الإنسانية مشاعر خاصّة تربط الإنسان بالملأ الأعلى وتحلق به في أبعاد جديدة سامية.. ومن هنا كانت تلك الأرض مشعراً.

22. جاء في بعض الروايات الشريفة أن قبائل قريش كانت ترى لنفسها مكانة دينية خاصّة بين العرب، وكان أفرادها يسمّون أنفسهم (الحُمس) ويرون أنّهم أبناء إبراهيم عليه السلام وسدنة الكعبة، ولذلك كانوا يترفّعون على بقية القبائل العربية. ومن هنا فإنهم تركوا الوقوف في عرفات لأنّها خارج الحرم المكّي، وما كانوا يودّون أن يحترموا أرضاً تقع خارج حرم مكّة، ظنّاً منهم أنّ ذلك يقلّل من شأنهم بين قبائل العرب، مع علمهم بأنّ الوقوف في عرفات من مناسك الحجّ الإبراهيمي، الآية الكريمة تبطل كلّ هذه الأوهام وتأمر بوقوف الحجّاج جميعاً في عرفات، ثمّ التحرك منها نحو المشعر الحرام، ومن ثمّ الإتجاه إلى مِنى دون أن يكون لأحد امتياز على آخر ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾

23. الإفاضة التي تأمر بها الآية هي الإفاضة من المشعر الحرام إلى مِنى، لأنّها جاءت بعد ذكر الإفاضة من عرفات إلى المشعر،ومسبوقة بـ (ثمّ) التي تفيد الترتّب الزماني، ويكون مدلول الآيتين معاً الأمر بالوقوف الجماعي بعرفات، ثمّ الإفاضة منها إلى المشعر الحرام، ومن ثمّ إلى مِنى.

24. ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ الأمر بالإستغفار في اختتام الآية حثّ على ترك تلك الأوهام والأفكار الجاهلية، والاتجاه نحو تعلّم دروس الحجّ في المساواة، و﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

25. قد يتساءل أحد عن الرّابطة بين قوله تعالى ﴿ابتغاء فضل الله﴾ ومسألة الوقوف بعرفات والإفاضة منها إلى المشعر الحرام وثمّ إلى مِنى الّتي وردت الآية الشريفة منضمّة بعضها إلى بعض، يمكن أن تكون الرّابطة هي الإشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ السعي المادي والاقتصادي إذا كان لله ومن أجل الحياة الشريفة فيكون هذا نوع من العبادة حال مناسك الحجّ، أو أنّ حركة وانتقال الحجّاج من مكّة إلى عرفات ومنها إلى المواقف الاُخرى يستلزم عادةً نفقات وخدمات كبيرة، فلو كان كلّ نوع من العلم والكسب في هذه الأيّام محرّم على الحجّاج فمن الواضح أنّهم سيقعون في حرج ومشقّة، فلهذا ذكرت الآية الشريفة هذه العبارات منضمّة ومتتالية، أو يقال أن المفهوم منها هو أنّ الآية تحذّر الحجّاج أن لا يُنسيكم العمل والكسب وسائر الفعاليّات الإقتصادية ذكر الله والتوجّه إليه وإدراك عظمته في هذه المواقف الشريفة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/32.