...

📥 للتعريف بالكتاب وتحميله

📥 للبحث في الآيات القرآنية وعناوينها

اختر جزءا من الكتاب:

اختر عنوانا من الكتاب:

113. العدل بين النساء والصلح

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈113⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 129]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾، لا هي أيم، ولا هي ذات زوج(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾، لا مطلقة، ولا ذات بعل(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٧٣.

(2) ابن أبي شيبة ٤/٢٣٣.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا﴾، تصلحوا بين الناس(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٨٤.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾، يقول: فلا تمل إلى التي تحب كل الميل، ولكن اعدل في قسمة الليالي والنهار، والنفقة(1).

2. روي أنّه قال في الآية: يقول: إن أحببت واحدة وأبغضت واحدة فاعدل بينهما(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٨٣.

(2) وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾، لا تعمدوا الإساءة(1).

__________

(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ١٢٢.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ معناه كالمسجونة(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 123.

ابن سيرين:

روي عن محمد بن سيرين (ت 110 هـ) أنّه قال: سألت عبيدة السلماني عن قول الله: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾، قال: بنفسه(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٧١.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾، في الحب(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة ٤/٢٣٣.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿كَالْمُعَلَّقَةِ﴾، قال كالمسجونة، كالمحبوسة(1).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٧٦.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ في المودة(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/279.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم قال عز وجل: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾ في الحب أن يستوي حبهن في قلوبكم، ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ فلا تقدرون على ذلك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا﴾ أمرهن، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الميل والجور؛ ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا﴾ حين ملت إلى الشابة برضا الكبيرة، ﴿رَحِيمًا﴾ بك حين رخص لك في الصلح، فإن أبت الكبيرة الصلح إلا أن تسوي بينها وبين الشابة أو تطلقها كان ذلك لها(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٢.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾، المعلقة: التي ليست بمخلاة ونفسها فتبتغي لها، وليست متهيئة كهيئة المرأة من زوجها، لا هي عند زوجها، ولا مفارقة فتبتغي لنفسها، فتلك المعلقة(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٧٥.

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ يقول سبحانه: ولن تستطيعوا أن تساووا بينهن في المحبة أبدا، ولو جهدتم جهدكم؛ إذ هن مختلفات في أعينكم وموافقتكم وقلوبكم؛ فلم يكلفكم المساواة بينهن في المحبة لهن، كما كلفكم المساواة بينهن في غير ذلك من أمرهن؛ لأنه علم سبحانه: أن ذلك مما لا تقدرون عليه، ولا تستطيعون أبدا المصير إليه، ولن يكلف الله عز وجل عباده ما لا ينالونه، ولا يقدرون عليه، ولا يطيقونه؛ ألا تسمع كيف يقول ذو الجلال والإكرام والطول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ويقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾، ويقول عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، ويقول جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾، يريد: ما جعل عليكم في الدين والتحقيق، من عسر ولا تشديد ولا تضييق.

2. ولعمر العماة المتجبرين، والغواة المبطلين: ما من ضيق ولا عسر ولا تكليف لما لا يطاق من الأمر ـ أشد من هذا، لو كان كما يقول الجاهلون، وينسب إلى الله عز وجل الظلمة الضالون؛ بل كلف سبحانه يسيرا، وأعطى على كل قليل كثيرا، ولم يجز لعباده من ذلك أمرا؛ بل أحدث لهم عنه نهيا وزجرا؛ فتعالى عن ذلك الكريم ذو الجبروت، المتفضل ذو الرأفة والملكوت؛ والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/273.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عن ابن عَبَّاسٍ في قوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾ في إيفاء الحق أن يستوي في قلوبكم الحب ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ على العدل؛ لا تقدرون عليه في ذلك.

2. ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾، إلى التي تحب في النفقة والقسم؛ فتأتي الشابة التي تعجبك، وتدع الأخرى بغير قسم ولا نفقة، روي عن عمر أنه كان يقول: اللهُمَّ أما قلبي فلا أملك، ولكن أرجو أن أعدل فيما سوى ذلك.

3. والعدل ـ هاهنا ـ التسوية؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: ﴿وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ ليس هو ضد الجور؛ ولكن التسوية: يسوون بين ربهم وبين الأصنام في العبادة، وعن عبيدة قال: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ في الحب، وروي عن أبي قلابة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يعدل بين نسائه في القسمة ويقول: (اللهُمَّ هذه قِسمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا تَمْلِكُ أَنْتَ وَلَا أَمْلِكُ.

4. وأصل ذلك: أن في كل ما كان المرء مدفوعا مضطرًّا ـ فإنه غير مكلف في ذلك، وفي كل ما كان باختيار منه وإيثار غير عليه ـ فإنه مكلف في ذلك، والحب مما يدفع المرء فيه ويضطر، ولا صنع له فيه، لم يكلف التسوية فيما يكون مدفوعًا فيه مضطرا؛ لأنه لا يملك التسوية، وعلى هذا يخرج قولنا: إن الكافر مكلف بالإيمان في حال الكفر؛ لشغله به، واختاره فعل الكفر، ليس كالمضطر، وقد ذكرنا ـ فيما تقدم ـ: أن الاستطاعة تكون على ضربين: استطاعة أحوال وأسباب، واستطاعة أفعال، والاستطاعة التي هي استطاعة الأحوال والأسباب من نحو الصحة والسلامة وغيرهما يجوز فبل ومع وبعد، وأما استطاعة الأفعال فإنها لا تكون إلا مع الفعل.

5. ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾: في النفقة والقسمة، معناه: لا يحملنكم شدة الحب والميل بالقلب أن تتركوا الإنفاق عليها وإيفاء الحق، أعني: حق القسم.

6. ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ ليست بأيم ولا ذات بعل، ليست هي بأيم تتكلف هي مؤنتها كما تتكلف الأيم، ولا ذات بعل يتحمل البعل مؤنتها، وفي حرف أبي بن كعب: (فتذروها كالمسجونة)، وهو ما ذكرنا: لا ينفق هو عليها، ولا يطلقها؛ لتتزوج زوجًا آخر، فهي كالمحبوسة.

7. ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا﴾ هو ما ذكرنا في قوله عز وجل: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا﴾، ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ هذا ينقض قول من يقول: إنه لم يكن رحيمًا ثم صار رحيمًا؛ لأنه أخبر أنه كان رحيمًا، وهو يقول: صار رحيما، وبالله العصمة.

8. ثم المسألة: بأن المرأة إذا جعلت أيامها لضرتها، كان لها أن ترجع وتفسخ ذلك؛ لأنها جعلت لها ما لم يجب بعدُ ولم يلزم؛ فكان كمن أبرأ آخر عن حق لم يجب بعد، فإن إبراءه ـ باطل، له أن يعود إليه، فيأخذه به إذا وجب؛ فعلى ذلك هذا.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٨٠.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾، أي لن تقدروا على العدل بينهن في محبة قلوبكم، إذ هن مختلفات في أعيانكم وشهواتكم، فلما علم بذلك لم يعتب عليكم، لعلمه عز وجل بما ركب فيكم، لأن الرجل إذا كانت عنده زوجتان فكان يحب إحداهما أكثر من محبة الأخرى، وكان يميل إلى محبة هذه وإلى الحديث معها، ومحبة النظر إلى محاسنها، وتخف نفسه وجوارحه إليها، فليس يقدر على أن يفعل ذلك لغيرها، لأن هذا تركيب من الله جعله لها، ونعمة أنعم بها عليها، لما جعل سبحانه من زينة جوارحها، وحسن صورتها، وخفة روحها(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/252.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾ يعني بقلوبكم ومحبتكم ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ أن تعدلوا في المحبة.

2. ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ أي تميلوا بأفعالكم فتتبعوها أهواءكم ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ يعني لا أيم ولا ذات زوج.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/196.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾ يعني بقلوبكم ومحبتكم، ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ فيه تأويلان:

أ. أحدهما: ولو حرصتم أن تعدلوا في المحبة، وهو قول مجاهد.

ب. الثاني: ولو حرصتم في الجماع، وهو قول ابن عباس.

2. ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ أي فلا تميلواْ بأفعالكم فتُتْبِعُوهَا أهواءَكم، ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ يعني لا أيِّماً ولا ذات زوْج.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٣٤).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نفى الله تعالى في هذه الآية ان يقدر أحد من عباده على التسوية بين النساء والأزواج في حبهنّ والميل إليهن حتى لا يكون ميله إلى واحدة منهنّ إلا مثل ما يميل إلى الأخرى، لأن ذلك تابع لما فيه من الشهوة، وميل الطبع، وذلك من فعل الله تعالى، ولا صنع للخلق فيه، وان حرص على ذلك كل الحرص، وليس يريد بذلك نفي القدرة على التسوية بينهن في النفقة، والكسوة والقسمة، لأنه لو كان كذلك لما امر الله تعالى بالتسوية في جميع ذلك، لأنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه، كما قال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا﴾ وقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا مَا آتَاهَا﴾ ولا تجوز المناقضة في كلامه تعالى، ولو حملنا على أنه نفي الاستطاعة في التسوية بينهن في النفقة، جاز أن يكون المراد به ان ذلك لا يخف عليكم بل يثقل ويشق عليكم تسويتهن، لميلكم إلى بعضهن، فأباح الله تعالى حينئذ ورخص ان يفضل بعضهن على بعض في ما زاد على الواجب من القسمة والنفقة، ولا يؤاخذه بذلك.

2. ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ معناه فلا تعدلوا بأهوائكم عمن لم تملكوا محبته منهن كل الميل حتى يحملكم ذلك على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب لهن عليكم من حق القسمة، والنفقة والكسوة، والعشرة بالمعروف.

3. ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾، يعني تذروا التي لا تميلون إليها كالمعلقة يعني كالتي هي لا ذات زوج، ولا هي ايم، وبه قال مجاهد وعبيدة، والحسن وابن عباس وقتادة وابن زيد والضحاك وسفيان، والطبري والجبائي والبلخي وغيرهم، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وابن عبد الله عليه السلام، وروى ابو ملكية أن الآية نزلت في عائشة وروى ابو قلابة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انه كان يقسم بين نسائه ويقول: اللهم هذه قسمتي في ما املك فلا تلمني فيما تملك، ولا املك‏.

4. ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا﴾ يعني في القسمة بين الازواج والتسوية بينهن في النفقة. والكسوة والعشرة بالمعروف، وتتركوا الميل‏ الذي نهاكم الله عنه، من تفضيل واحدة على الأخرى في ذلك.

5. ﴿فإن اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ تستر عليكم ما مضى منكم من الحيف في ذلك إذا تبتم، ورجعتم إلى الاستقامة والتسوية بينهن، ويرحمكم بترك المؤاخذة على ذلك، وكذلك كان يفعل فيما مضى مع غيركم يعني في قبول التوبة من‏ كل تائب مقلع نادم على ما فرط وروي عن علي عليه السلام انه كان له امرأتان، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخرى، وروي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن ابائه (عليهم السلام) ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقسم بين نسائه في مرضه، فيطاف به بينهن‏، وكان معاذ بن جبل له امرأتان ماتتا في الطاعون أقرع بينهما أيهما تدفن قبل الأخرى؟

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/349.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الاستطاعة من الطوع يقال: تطاوع لهذا الأمر حتى تستطيعه، وتطوع: تكلف استطاعته، والاستطاعة والقوة والقدرة من النظائر.

2. لما تقدم ذكر النشوز والمصالحة بين أن العبد إنما يطالب بما يقدر عليه، دون ما لا يقدر عليه، وأن تكليفه يتعلق بما يستطيعه تأديبًا منه تعالى، فقال سبحانه: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾ فيه قولان:

أ. الأول: لا تطيقون العدل بالتسوية بينهن في المحبة؛ لأن ذلك مما لا تقدرون عليه، عن ابن عباس وعبيدة السلماني والحسن وقتادة.

ب. الثاني: أن تعدلوا بالتسوية في الأموال مع اختلاف الدواعي التي تصرف عن التسوية، فتصير بمنزلة من قد توفرت دواعيه إلى الشيء دون ضده في أنه قد خرج عن حد من يجوز أن يقع منه، فصار بمنزلة من لا يقدر عليه.

3. ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ أي لا تميلوا عن التسوية فيما تقدرون عليه من النفقة والقسم والمعاشرة بالمعروف، فسووا بينهن في ذلك ﴿فَتَذَرُوهَا﴾ أي تتركوها ﴿كَالْمُعَلَّقَةِ﴾:

أ. قيل: لا زوجة ولا مطلقة؛ لما فيه من الإضرار بها، عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن والربيع.

ب. وقيل: كالمجنونة، عن قتادة والكلبي.

ج. وقيل: لن تستطيعوا العدل بينهن، فلا تتعمدوا الإساءة، عن مجاهد، وروي عن النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك) وروي: (أنت أعلم بما لا أملك)

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا﴾:

أ. قيل: تصلحوا أعمالكم وتتقوا المعاصي، عن أبي علي.

ب. وقيل: تصلحوا بالعدل في الصحبة، وتتقوا الله في أمرها، عن الأصم.

ج. وقيل: تتقوا بالتوبة بما سلف منكم من الميل.

د. وقيل: تصلحوا أمر النساء على ما تراضون، وتتقوا الميل.

5. ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾:

أ. يعني يغفر ما سلف منكم؛ لأن مراده الرحمة لكم، والنعمة عليكم.

ب. وقيل: غفورا لما سلف رحيمًا بأن جعل لكم مخرجًا وبيانًا، عن الأصم.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. أنه تعالى لا يؤاخذ العبد بما لا يستطيعه حيث رفع الحرج مما لا يستطيعه من الحب والشهوة.

ب. أن الاستطاعة قبل الفعل؛ إذ لو كان غير مستطيع للفرائض قبل الدخول فيها لما أحدثها.

ج. وجوب التسوية بين النساء فيما يملك حيث أمر بترك الميل.

د. استدلت الْمُجْبِرَة بالآية على تكليف ما لا يطاق ولا حجة لهم فيه؛ لأن العبد لم يكلف ما لا يستطيع، وإنما كلف ما يستطيع على ما قدمنا، فأما الاستطاعة فهي عرض يحل المستطيع، والمستطيع جملة الشخص، ويصير مستطيعًا باستطاعة، وهي قبل الفعل غير موجبة للفعل، وتتعلق بالضدين ويفعل بها المباشر والمتولد هذا كله قول مشايخنا، وفي كل مسألة منها خلاف ليس هذا موضعه.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/97.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الاستطاعة، والقوة، والقدرة، نظائر.

ب. السعة: خلاف الضيق، والواسع: في صفات القديم اختلف في معناه وقيل: إنه واسع العطاء أي: المكرمة، وقيل: هو واسع الرحمة، ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ وقيل: إنه واسع المقدور.

2. لما تقدم ذكر النشوز والصلح بين الزوجين، عقبه سبحانه بأنه لا يكلف من ذلك ما لا يستطاع، فقال: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾:

أ. أي: لن تقدروا أن تسووا بين النساء في المحبة والمودة بالقلب، ولو حرصتم على ذلك كل الحرص، فإن ذلك ليس إليكم، ولا تملكونه، فلا تكلفونه، ولا تؤاخذون به، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة.

ب. وقيل: معناه لم تقدروا أن تعدلوا بالتسوية بين النساء في كل الأمور، من جميع الوجوه، من النفقة، والكسوة، والعطية، والمسكن، والصحبة، والبر، والبشر، وغير ذلك، والمراد به أن ذلك لا يخفف عليكم، بل يثقل ويشق، لميلكم إلى بعضهن.

3. ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ أي: فلا تعدلوا بأهوائكم على من لم يتملكوا محبة منهم كل العدول، حتى يحملكم ذلكم على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب لهن عليكم، من حق القسمة، والنفقة، والكسوة، والعشرة بالمعروف ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ أي: تذروا التي لا تميلون إليها، كالتي هي لا ذات زوج، ولا أيم عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله:

أ. ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره أنه سأل رجل من الزنادقة أبا جعفر الأحول، عن قوله سبحانه ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، ثم قال: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ وبين القولين فرق؟ قال: (فلم يكن عندي جواب في ذلك، حتى قدمت المدينة، فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام، فسألته عن ذلك، فقال: أما قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ فإنه عنى في النفقة، وأما قوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا﴾ فإنه عنى في المودة، فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودة، قال فرجعت إلى الرجل فأخبرته، فقال: هذا ما حملته من الحجاز.

ب. وروى أبو قلابة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يقسم بين نسائه، ويقول: اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك، ولا أملك﴾

4. ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا﴾ يعني في القسمة بين الأزواج، والتسوية بينهن في النفقة، وغير ذلك ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الله في أمرهن، وتتركوا الميل الذي نهاكم الله عنه، في تفضيل واحدة على الأخرى، ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ يستر عليكم ما مضى منكم من الحيف في ذلك، إذا تبتم ورجعتم إلى الاستقامة، والتسوية بينهن، ويرحمكم بترك المؤاخذة على ذلك، وكذلك كان يفعل فيما مضى مع غيركم:

أ. وروي عن جعفر الصادق عليه السلام، عن آبائه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقسم بين نسائه في مرضه، فيطاف به بينهن.

ب. وروي أن عليا كان له امرأتان، فكان إذا كان يوم واحدة، لا يتوضأ في بيت الأخرى.

ج. وكان معاذ بن جبل له امرأتان ماتتا في الطاعون، فأقرع بينهما أيهما تدفن قبل الأخرى.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/183.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾ قال أهل التفسير: لن تطيقوا أن تسووا بينهنّ في المحبة التي هي ميل الطّباع، لأن ذلك ليس من كسبكم‏ ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ على ذلك‏.

2. ﴿فَلَا تَمِيلُوا﴾ إلى التي تحبّون في النّفقة والقسم، وقال مجاهد: لا تتعمّدوا الإساءة فتذروا الأخرى كالمعلّقة قال ابن عباس: المعلّقة: التي لا هي أيّم، ولا ذات بعل، وقال قتادة: المعلّقة: المسجونة.

3. ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا﴾ أي: بالعدل في القسمة ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الجور ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا﴾ لميل القلوب.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/483.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ قولان:

أ. الأول: لن تقدروا على التسوية بينهن في ميل الطباع، وإذا لم تقدروا عليه لم تكونوا مكلفين به، قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ فهذا يدل على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع ولا جائز الوقوع، وقد ذكرنا أن الأشكال لا زم عليهم في العلم وفي الدواعي.

ب. الثاني: لا تستطيعون التسوية بينهن في الأقوال والأفعال لأن التفاوت في الحب يوجب التفاوت في نتائج الحب، لأن الفعل بدون الداعي ومع قيام الصارف محال.

2. ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ المعنى أنكم لستم منهيين عن حصول التفاوت في الميل القلبي لأن ذلك خارج عن وسعكم، ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك التفاوت في القول والفعل، روى الشافعي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ أنه كان يقسم ويقول: (هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك)

3. ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ يعني تبقى لا أيما ولا ذات بعل، كما أن الشيء المعلق لا يكون على الأرض ولا على السماء، وفي قراءة أبي: فتذروها كالمسجونة، وفي الحديث‏ (من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل)، روي‏ أن عمر بن الخطاب بعث إلى أزواج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بمال فقالت عائشة: إلى كل أزواج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث عمر بمثل هذا؟ فقالوا: لا، بعث إلى القرشيات بمثل هذا، وإلى غيرهن بغيره، فقالت للرسول ارفع رأسك وقل لعمر: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه، فرجع الرسول فأخبره فأتم لهن جميعا.

4. ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا﴾ بالعدل في القسم‏ ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الجور ﴿فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾:

أ. ما حصل في القلب من الميل إلى بعضهن دون البعض.

ب. وقيل: المعنى: وإن تصلحوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة، وتتقوا في المستقبل عن مثله غفر الله‏ لكم ذلك، وهذا الوجه أولى لأن التفاوت في الميل القلبي لما كان خارجا عن الوسع لم يكن فيه حاجة إلى المغفرة.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/238.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب، فوصف الله تعالى حالة البشر وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض، ولهذا كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، ثم نهى فقال: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾، قال مجاهد: لا تتعمدوا الإساءة بل الزموا التسوية في القسم والنفقة، لأن هذا مما يستطاع، وسيأتي بيان هذا في ﴿الْأَحْزَابُ﴾ مبسوطا إن شاء الله تعالى، وروى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)

2. ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ أي لا هي مطلقة ولا ذات زوج، قاله الحسن، وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شي، لأنه لا على الأرض استقر ولا على ما علق عليه انحمل، وهذا مطرد في قولهم في المثل: ارض من المركب بالتعليق)، وفي عرف النحويين فمن تعليق الفعل، ومنه في حديث أم زرع في قول المرأة زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق، وقال قتادة: كالمسجونة، وكذا قرأ أبي فتذروها كالمسجونة)، وقرأ ابن مسعود فتذروها كأنها معلقة)، وموضع ﴿فَتَذَرُوهَا﴾ نصب، لأنه جواب النهي، والكاف في ﴿كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ في موضع نصب أيضا.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/407.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾ أخبر سبحانه: بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على الوجه الذي لا ميل فيه ألبتة؛ لما جبلت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه دون هذه، وزيادة في المحبة ونقصان هذه، وذلك بحكم الخلقة، بحيث لا يملكون قلوبهم، ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية، ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اللهم‏ هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك) ولما كانوا لا يستطيعون ذلك ولو حرصوا عليه وبالغوا فيه نهاهم عزّ وجلّ عن أن يميلوا كل الميل، لأن ترك ذلك وتجنب الجور كل الجور في وسعهم، وداخل تحت طاقتهم، فلا يجوز لهم أن يميلوا عن إحداهنّ إلى الأخرى كل الميل، حتى يذروا الأخرى كالمعلقة التي ليست ذات زوج ولا مطلقة، تشبيها بالشيء الذي هو معلق غير مستقر على شيء وفي قراءة أبيّ: (فتذروها كالمسجونة)

2. قوله: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا﴾ أي: ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم فيها من عشرة النساء والعدل بينهنّ‏ ﴿وَتَتَّقُوا﴾ كل الميل الذي نهيتم عنه‏ ﴿فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ لا يؤاخذكم بما فرط منكم.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/602.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ﴾ نظرًا وكلامًا وإقبالاً ومؤانسة ونفقة وقسمة وغير ذلك ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ وصرفتم مجهودكم في العدل، كما لا تستطيعون بلوغ حقِّ الوالدين والميزان وأوَّلِ الوقت، ﴿فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ﴾ بتعمُّد ترك ما قدرتم عليه من العدل، وفي ذلك إباحة ما هو كالضروريِّ إلى الطاقة، فإنَّه مَن تَرَكَ ما قدر عليه عمدًا فقد مال حينئذ كلَّ الميل في هذه الفعلة، كما أنَّه من خرج من الباب ولو مرَّة فقد خرج خروجًا كلِّـيًّا، أي: خالصًا، ولو رجع، وما لا يُدرَك كلُّه لا يترك بعضه، وإن شئت فقل: ما لا يدرك بعضه لا يترك كلُّه، أو ما لا يدرك كلُّه لا يترك كلُّه، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تجب عليه العدالة، ويعدل، ويقول: (اللهمَّ هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك)، وهذا كما قال تعالى: ﴿وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾، وعن النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقَّيه مائل)، ولفظ أبي داود والترمذيِّ والنسائيِّ عن أبي هريرة: (ساقط) بدل (مائل)، وقال جابر بن زيد: (كانت لي امرأتان، فلقد كنت أعدل بينهما حتَّى أعدَّ القبل)، وذكر مجاهد أنَّهم كانوا يستحبُّون أن يسوُّوا بين الضرائر، حتَّى إنَّه يتطيَّب لهذه كما يتطيَّب لهذه، وكره ابن سيرين أن يتوضَّأ في بيت هذه دون الأخرى.

2. ﴿فَتَذَرُوهَا﴾ منصوب في جواب النفي مفيد للتفريع فقط، أو مجزوم عطفًا على مدخول (لَا)، وهو أبلغ، كأنَّه قيل: لا تميلوا، فلا تذروا.

3. ﴿كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ لا باعل ولا مطلَّقة، ولا غير متزوِّجة، هذا فرض مسألة ولا يلزم وجودها، ويتصوَّر فيمن عقد عليها وتأخَّر شأنها إلى أمر، كرضا الزوج أو رضاها، وإلى انكشاف أمر مبهم، وذلك تشبيه بمن عُلِّقت فلا هي في السماء ولا في الأرض لتستريح، ﴿وَإِن تُصْلِحُواْ﴾ ما أفسدتم من شأنهنَّ ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ فساد شأنهنَّ بعد، ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ لكلِّ تائب مدارك لإصلاح ما أفسد، أو هو يغفر لكم ما صدر منكم من الميل إن تبتم وأصلحتم ما أفسدتم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/309.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾ أي: تساووا بينهن في جميع الوجوه، بحيث لا يقع ميل مّا إلى جانب إحداهن، في شأن من الشؤون، فإنه وإن وقع القسم الصوريّ ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، كما قاله ابن عباس وغيره‏ ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ أي على إقامة العدل، وبالغتم في ذلك، لأن الميل يقع بلا اختيار في القلب، وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقسم بين نسائه، فيعدل، ثم يقول: اللهم! هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك، يعني القلب، رواه أحمد وأهل السنن‏.

2. ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ أي: إذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل إليها، وقال المهايميّ: فلا تميلوا، أي عن امرأة كل الميل فتتركوا المستطاع من القسط ﴿فَتَذَرُوهَا﴾ أي: التي ملتم عنها ﴿كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ بين السماء والأرض، لا تكون في إحدى الجهتين، لا ذات زوج ولا مطلقة، وروى أبو داود الطيالسيّ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وأحد شدقيه ساقط، كذا رأيته في (ابن كثير) شدقيه، بشين معجمة ثم دال، ورواية أصحاب السنن المنقولة: وشقه (بمعجمة ثم قاف) ساقط، وفي رواية: مائل‏.

3. ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا﴾ أي نفوسكم بالتسوية والقسمة والعدل فيما تملكون‏ ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الحيف والجور ﴿فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فيغفر لكم ما سلف من ميلكم.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/365.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ هذه الآية فتوى أخرى غير الفتاوى المبينة في الآيتين قبلها والمستفتون عنها هم الذين كان عندهم زوجتان أو أكثر من قبل نزول ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: 3] ومثلهم من عدد بعد ذلك ناويا العدل حريصا عليه ثم ظهر له وعورة مسلكه، واشتباه أعلامه، والتحديد بين ما يملكه وما لا يملكه اختياره منه، فالورع من هؤلاء يحاول أن يعدل بين امرأتيه حتى في إقبال النفس، والبشاشة والأنس، وسائر الأعمال والأقوال، فيرى أنه يتعذر عليه ذلك لأن الباعث على الكثير منه الوجدان النفسي، والميل القلبي، وهو مما لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره، ولا يملك آثاره الطبيعية، ولوازمه الفطرية، فخفف الله برحمته على هؤلاء المتقين المتورعين، وبين لهم أن العدل الكامل بين النساء غير مستطاع ولا يتعلق به التكليف، كأنه يقول: مهما حرصتم على أن تجعلوا المرأتين كالغرارتين المتساويتين في الوزن، وهو حقيقة معنى العدل فلن تستطيعوا ذلك بحرصكم عليه، ولو قدرتم عليه لما قدرتم على إرضائهما به، وإذا كان الأمر كذلك في الواقع.

2. ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ إلى المحبوبة منهن بالطبع، المالكة لما لا تملكه الأخرى من القلب، فتعرضوا بذلك عن الأخرى ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ كأنها غير متزوجة وغير مطلقة، فإن الذي يغفر لكم من الميل وما يترتب عليه من العمل بالطبع، هو ما لا يدخل في الاختيار، ولا يكون من تعمد التقصير أو الإهمال، فعليكم أن تقوموا لها بحقوق الزوجية الاختيارية كلها.

3. ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي وإن تصلحوا في معاملة النساء وتتقوا ظلمهن وتفضيل بعضهن على بعض في المعاملات الاختيارية كالقسم والنفقة فإن الله يغفر لكم ما دون ذلك مما لا ينضبط بالاختيار كالحب ولوازمه الطبيعية من زيادة الإقبال وغير ذلك لأن شأنه سبحانه المغفرة والرحمة لمستحقها.

4. يظن بعض الميالين إلى منع تعدد الزوجات أنه يمكن أن يستنبط من هذه الآية وآية: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: 3] أن التعدد غير جائز لأن من خاف عدم العدل لا يجوز له أن يزيد على الواحدة وقد أخبر الله تعالى أن العدل غير مستطاع وخبره حق لا يمكن لأحد بعده أن يعتقده أنه يمكنه العدل بين النساء، فعدم العدل صار أمرا يقينيا ويكفي في تحريم التعدد أن يخاف عدم العدل بأن يظنه ظنا، فكيف إذا اعتقده يقينيا؟

5. كان يكون هذا الدليل صحيحا لو قال تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ ولم يزد على ذلك، ولكنه لما قال: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ الخ علم أن المراد بغير المستطاع من العدل هو العدل الكامل الذي يحرص عليه أهل الدين والورع كما بيناه في تفسير الآية وهو ظاهر من قوله: ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ فإن العدل من المعاني الدقيقة التي يشتبه الحد الأوسط منها بما يقاربه من طرفي الإفراط والتفريط ولا يسهل الوقوف على حده والإحاطة بجزئياته ولا سيما الجزئيات المتعلقة بوجدانات النفس كالحب والكره وما يترتب عليهما من الأعمال، فلما أطلق في اشتراط العدل اقتضى ذلك الإطلاق أن يفكر أهل الدين والورع والحرص على إقامة حدود الله وأحكامه في ماهية هذا العدل وجزئياته ويتبينوها كما تقدم آنفا، فبين لهم سبحانه في هذه الآية ما هو المراد من العدل وأنه ليس هو الفرد الكامل الذي يعم أعمال القلوب والجوارح لأن هذا غير مستطاع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

6. نعم إن في الآية موعظة وعبرة لمن يتأملها من غير أولئك الورعين الحريصين على إقامة حدود الله وأحكامه بقدر الطاقة لمن يتأملها ويعتبر بها من عباد الشهوات والأهواء الذين لا يقصدون من الزوجية إلا تمتيع النفس باللذة الحيوانية الموقتة من غير مراعاة أركان الحياة الزوجية التي بينها الله تعالى في قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21] ولا مراعاة أمر النسل وصلاح الذرية، أولئك السفهاء الذين يكثرون من الزواج ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، يتزوجون الثانية: لمحض الملل من الأولى: وحب التنقل، ثم الثالثة والرابعة لأجل ذلك، لا يخطر في بال واحد منهم أمر العدل، ولا أنه يجب لإحداهن عليه شيء وقد ينوي من أول الأمر أن يظلم الأولى: ويهضم حقها، ولا يشعر بأنه ارتكب في ذلك إثما، ولا أغضب الله واستهان بأحكامه، وبين هؤلاء وأولئك قوم يزعمون أنهم على شيء من الدين ومراعاة أحكامه يظنون أن العدل بين المرأتين أمر سهل فيقدمون على التزوج بالثانية والثالثة والرابعة قبل أن يتفكروا في حقيقة العدل الواجب وماهيته.

7. ألا فليتق الله الذواقون! ألا فليتق الله المترفون! ألا فليتفكروا في ميثاق الزوجية الغليظ! وفي حقوقها المؤكدة! ألا فليتفكروا في عاقبة نسلهم ومستقبل ذريتهم! ألا فليتفكروا في حال أمتهم التي تتألف من هذه البيوت المبنية على دعائم الشهوات والأهواء وفساد الأخلاق والذرية التي تنشأ بين أمهات متعاديات وزوج شهواني ظالم! ألا فليتفكروا في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 129]! وليحاسبوا أنفسهم ليعلموا هل هم من المصلحين لأمر نسائهم ونظام بيوتهم أم من المفسدين، وهل هم من المتقين الله في هذا الأمر أم من المتساهلين أو الفاسقين؟؟

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/365.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

بين الله تعالى أن العدل بين النساء في حكم المستحيل، فعلى الرجل أن يعمل جهد المستطاع فقال:‏ ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ أي مهما حرصتم على العدل والمساواة بين المرأتين، حتى لا يقع ميل إلى إحداهما ولا زيادة ولا نقص، فلن تستطيعوا ذلك ولو قدرتم عليه لما قدرتم على إرضائها به، ومن ثم رفع الله ذلك عنكم وما كلفكم إلا العدل فيما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم، لأن الباعث على الكثير من هذا الميل هو الوجدان النفسي والميل القلبي الذي لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره ولا يملك آثاره الطبيعية، ولهذا خفف الله ذلك عنكم وبين أن العدل الكامل غير مستطاع ولا يتعلق به تكليف.

1. ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ أي وإذا كان ذلك غير مستطاع فعليكم ألا تميلوا كل الميل إلى من تحبون منهن وتعرضوا عن الأخرى.

2. ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ أي فتجعلوها كأنها ليست بالمتزوجة ولا بالمطلقة، فإن الذي يغفره لكم من الميل هو ما لا يدخل في اختياركم ولا يكون فيه تعمد التقصير أو الإهمال، أما ما يقع تحت اختياركم فعليكم أن تقوموا به، إذ لا هوادة فيه.

3. ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي وإن تصلحوا في معاملة النساء وتتقوا ظلمهن وتفضيل بعضهن على بعض فيما يدخل في اختياركم كالقسم والنفقة فإن الله يغفر لكم ما دون ذلك مما لا يدخل في اختياركم كالحب وزيادة الإقبال وغير ذلك.

4. وفى الآية عظة وعبرة لمن يتأملها من عبّاد الشهوات الذين لا يقصدون من الزوجية إلا التمتع باللذات الحيوانية دون مراعاة أهم أسس الحياة الزوجية التي ذكرها الله في قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ ولا يلاحظون أمر النسل وإصلاح الذرية، هؤلاء السفهاء الذوّاقون الذين يكثرون من الزواج ما استطاعوا، ولا باعث لهم إلا حب التنقل والملل من السابقة، ولا يخطر لهم أمر العدل في بال ـ عليهم أن يتقوا الله ويكفروا في ميثاق الزوجية وفى حقوقها المؤكدة وفى عاقبة نسلهم وشئون ذريتهم وفى حال أمتهم التي تتألف من هذه البيوت المبنية على أسس الشهوات والأهواء وفى حال ذريتهم التي تنشأ بين أمهات متعاديات.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/173.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مرة أخرى نجدنا أمام المنهج الفريد، وهو يواجه واقع النفس البشرية وملابسات الحياة البشرية، بالواقعية المثالية، أو المثالية الواقعية، ويعترف بما هو كامن في تركيبها من ازدواج عجيب فريد: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾

2. إن الله الذي فطر النفس البشرية، يعلم من فطرتها أنها ذات ميول لا تملكها، ومن ثم أعطاها لهذه الميول خطاما، خطاما لينظم حركتها فقط، لا ليعدمها ويقتلها!

3. من هذه الميول أن يميل القلب البشري إلى إحدى الزوجات ويؤثرها على الأخريات، فيكون ميله إليها أكثر من الأخرى أو الأخريات، وهذا ميل لا حيلة له فيه؛ ولا يملك محوه أو قتله.. فماذا؟ إن الإسلام لا يحاسبه على أمر لا يملكه؛ ولا يجعل هذا إثما يعاقبه عليه؛ فيدعه موزعا بين ميل لا يملكه وأمر لا يطيقه! بل إنه يصارح الناس بأنهم لن يستطيعوا أن يعدلوا بين النساء ـ ولو حرصوا ـ لأن الأمر خارج عن إرادتهم.. ولكن هنالك ما هو داخل في إرادتهم، هناك العدل في المعاملة، العدل في القسمة، العدل في النفقة، العدل في الحقوق الزوجية كلها، حتى الابتسامة في الوجه، والكلمة الطيبة باللسان.. وهذا ما هم مطالبون به، هذا هو الخطام الذي يقود ذلك الميل، لينظمه لا ليقتله!

4. ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾.. فهذا هو المنهي عنه، الميل في المعاملة الظاهرة، والميل الذي يحرم الأخرى حقوقها فلا تكون زوجة ولا تكون مطلقة.. ومعه الهتاف المؤثر العميق في النفوس المؤمنة؛ والتجاوز عما ليس في طاقة الإنسان.

5. ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، ولأن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بجملة ما فيها من مزاج فريد مؤلف من القبضة من الطين والنفخة من روح الله، وبجملة ما فيها من استعدادات وطاقات، وبواقعيتها المثالية، أو مثاليتها الواقعية، التي تضع قدميها على الأرض، وترف بروحها إلى السماء، دون تناقض ودون انفصام.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/771.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية أمور:

أ. أولا: ضياع أمانة (العدل) في القسمة بين الزوجات، التي حملها الزوج، ودعى من الله إلى الوفاء بها، وهو ـ وإن يكن أمرا قد تجاوز الله سبحانه وتعالى عنه في تلك الحال ـ هو تضييع لتلك الأمانة، وعدوان عليها.. وهذا أقل ما فيه أنه يدعو الإنسان أن يفكر طويلا قبل أن يدخل في هذه التجربة، ويعرّض نفسه لأن يكون في عداد الظالمين المعتدين.. وهذا أقلّ ما فيه أيضا أن يزهّد الإنسان في التزوج بأكثر من وحدة.

ب. وثانيا: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ يقطع كل أمل عند من تحدثه نفسه بأنه ـ إذا جمع أكثر من امرأة في عصمته ـ قادر على أن يحقق العدل بينهما.. فذلك أمر فوق مقدور البشر، إذ كان الحكم فيه للقلب، ولا سلطان للإنسان على قلبه.

ج. وثالثا: من ابتلى بهذه التجربة ـ تجربة الجمع بين أكثر من زوجة ـ فعليه أن يستشعر دائما أن ميزان العدل الممسك به بين زوجاته لن يستقيم أبدا، فهو قلق مضطرب، يميل هنا مرة، ويميل هناك مرة.. وهكذا.. والمطلوب منه في تلك الحال أن يحفظ توازن هذا الميزان في يده، مع ميله واضطرابه، وإلا شالت إحدى كفتيه فكانت في السماء، على حين هوت الأخرى فلصقت بالأرض.. وبهذا يفقد الميزان أثره وفاعليته..

د. ورابعا: قوله تعالى: ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾.. الضمير هنا للمرأة التي جار عليها زوجها، فلم يعطها من حقوق الزوجية شيئا.. فهي زوج وليست زوجا.. وإطلاقها في تلك الحال خير من إمساكها..

هـ. وخامسا: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ إيذان من الله سبحانه وتعالى بالتجاوز عن الاضطراب الذي يقع في ميزان العدل بين الزوجات إذا اتّقى الزوج ربّه في النساء اللائي في يده، وأعطى كل واحدة منهن حقها قدر المستطاع.. وإلا فهو آثم ظالم، لا تناله مغفرة الله ورحمته.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/920.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عذر الله تعالى الناس في شأن النساء فقال: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾ أي تمام العدل، وجاء بـ (لن) للمبالغة في النفي، لأنّ أمر النساء يغالب النفس، لأنّ الله جعل حسن المرأة وخلقها مؤثّرا أشدّ التأثير، فربّ امرأة لبيبة خفيفة الروح، وأخرى ثقيلة حمقاء، فتفاوتهنّ في ذلك وخلوّ بعضهنّ منه يؤثّر لا محالة تفاوتا في محبّة الزوج بعض أزواجه، ولو كان حريصا على إظهار العدل بينهنّ، فلذلك قال: ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾، وأقام الله ميزان العدل بقوله: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾، أي لا يفرط أحدكم بإظهار الميل إلى إحداهنّ أشدّ الميل حتّى يسوء الأخرى بحيث تصير الأخرى كالمعلّقة، فظهر أنّ متعلّق‏ ﴿تَمِيلُوا﴾ مقدّر بإحداهنّ، وأنّ ضمير ﴿فَتَذَرُوهَا﴾ المنصوب عائد إلى غير المتعلّق المحذوف بالقرينة، وهو إيجاز بديع.

2. المعلّقة: هي المرأة التي يهجرها زوجها هجرا طويلا، فلا هي مطلّقة ولا هي زوجة، وفي حديث أمّ زرع (زوجي العشنّق إن أنطق أطلّق وإن أسكت أعلّق)، وقالت ابنة الحمارس:

çإنّ هي إلّا حظة أو تطليق‏...أو صلف أو بين ذاك تعليق‏é

3. دلّ قوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا﴾ إلى قوله: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ على أنّ المحبّة أمر قهري، وأنّ للتعلّق بالمرأة أسبابا توجبه قد لا تتوفّر في بعض النساء، فلا يكلّف الزوج بما ليس في وسعه من الحبّ والاستحسان، ولكنّ من الحبّ حظّا هو اختياري، وهو أن يروض الزوج نفسه على الإحسان لامرأته، وتحمّل ما لا يلائمه من خلقها أو أخلاقها ما استطاع، وحسن المعاشرة لها، حتّى يحصّل من الألف بها والحنوّ عليها اختيارا بطول التكرّر والتعوّد، ما يقوم مقام الميل الطبيعي، فذلك من الميل إليها الموصى به في قوله: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾، أي إلى إحداهنّ أو عن إحداهنّ.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/270.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الحياة الزوجية تحقيق العدالة الكاملة غير ممكن، ولذا وجب التسامح، فقال تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ إن الله سبحانه وتعالى نفى استطاعة العدالة بين النساء نفيا مؤكدا، لأن حرفـ (لن) لتأكيد النفي فالعدالة بمعنى تنفيذ كل الحقوق المقررة والواجبات النفسية أمر غير ممكن مهما يكن حرص الإنسان على العدالة.

2. وقد فرض العلماء أن هذه العدالة غير الممكنة لا تكون إلا إذا كان الرجل ذا زوجين فأكثر، وذلك ظاهر؛ لأن العدالة النفسية بالمساواة في الإقبال القلبي والمحبة، أمر غير ممكن؛ لأن الناس بحكم الخلقة لا يملكون نزعات نفوسهم وميول قلوبهم، ولقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقسم بين زوجاته في كل ما هو ظاهر كالمبيت والكسوة والنفقة، وكل ما يتعلق بصورة الحياة الزوجية، ولكنه وهو أكمل البشر لم يستطع العدالة النفسية، ولذلك كان يقول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اللهم إن هذا قسمى فيما أملك، فلا تؤاخذنى فيما تملك ولا أملك)

3. وقد ادعى بعض الكتاب في أول هذا القرن العشرين الميلادى وتبعه غيره، أنه بضم آية ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء] إلى هذه الآية التي نتكلم في معناها يكون منع تعدد الزوجات، وما هكذا تفهم النصوص في‏ القوانين فضلا عن نصوص القرآن فإن البداهة تتجه إلى التوفيق، والتوفيق يبدو بادئ النظر، وهو أن هذه الآية موضوعها نفسى، والآية التي في صدر السورة موضوعها العدالة الظاهرة، وقد وضح هذا المعنى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديث الذى رويناه، وهو عجزه صلّى الله عليه وآله وسلّم عن العدالة النفسية، وعلى فرض أن التوفيق غير ممكن إن سايرنا تلك المدارك المحدودة، فإن المتأخر ينسخ المتقدم، والمتأخر هو هذه الآية التي نتكلم في معناها، وهي تطالب بالعدالة المطلقة، بل طالبت بالممكن فقال تعالى: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا﴾

4. المعلقة هي التي تهمل نفسيا ومعنويا وحبا ومودة، فلا هي ذات زوج تنال الحقوق الزوجية أو بعضها، ولا هي خالية الأزواج، ترجو أن يوفقها الله تعالى وهذا تشبيه بالشيء المعلق بشيء من الأشياء؛ لأنه لا يكون قد استقر على الأرض، ولا ما علق عليه تحمله، أو يستطيع تحمله.

5. وإنه لأجل الوصول إلى هذا الحل الذى لا يكون فيه شطط يجب التدخل لإصلاح ذات البين، ولذا قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا﴾ وهذه هي المرتبة الثانية من الشقاق التي يتعذر فيها على الزوجين أن يقوما بعلاجها، ولذا يستمد العلاج من المتصلين بهما وهو المنصوص عليه في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا﴾ [النساء] وعند التدخل للإصلاح يجب أن تكون تقوى الله هي التي تحكم الحكمين ولذا قرن الإصلاح بالتقوى، فإن كان إصلاح القلوب مع تقواها، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر ما عساه يكون من تجاوز للحد قبل ذلك، ولذا ختم سبحانه وتعالى هذا الجزء من العلاج بقوله: ﴿فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي أن غفرانه البالغ ورحمته الواسعة المستمرة المؤكدة يفيضان على المصلحين المتقين؛ فإن لم يجد هذا كانت المرتبة الأخيرة، وهي الفراق.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1885.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ العدل بين النساء على نوعين: مقدور كالمساواة في الإنفاق، وطيب الحديث، وغير مقدور كالمحبة وميل القلب، بل والجماع أيضا.. فقد ينشط الرجل للواحدة ما لا ينشط للأخرى.. والعدل بين النساء المطلوب هو العدل في الإنفاق، لأنه مستطاع، أما العدل في الحب وما اليه مما لا يملكه الإنسان فلا يكلف به، وبهذا يفرق بين هذه الآية، وبين قوله تعالى في أول السورة: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ بين النساء)، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: أما قوله: فان خفتم أن لا تعدلوا فانه عنى به النفقة، وأما قوله: ولن تستطيعوا أن تعدلوا فانه عنى به المودة، ونحن من الذين يؤمنون ايمانا قاطعا بأنه لا شيء أصعب منالا من العدالة، لأنها في حقيقتها وجوهرها التحرر من سيطرة الشهوات، كما جاء في بعض الأخبار ان العادل من خالف هواه، وأطاع مولاه، ولا يتسنى هذا الا للصفوة.

2. ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ مع الزوجة المحبوبة، وتحرموا الأخرى من حقوقها ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ لا مزوجة لها ما للزوجات، ولا مطلقة تستطيع الزواج بمن تريد.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/454.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1.﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ بيان الحكم العدل بين النساء الذي شرع لهن على الرجال في قوله تعالى في أول السورة: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: 3] وكذا يومئ إليه قوله في الآية السابقة: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ فإنه لا يخلو من شوب تهديد، وهو يوجب الحيرة في تشخيص حقيقة العدل بينهن، والعدل‏ هو الوسط بين الإفراط والتفريط، ومن الصعب المستصعب تشخيصه، وخاصة من حيث تعلق القلوب تعلق الحب بهن، فإن الحب القلبي مما لا يتطرق إليه الاختيار دائما.

2. فبين تعالى أن العدل بين النساء بحقيقة معناه، وهو اتخاذ حاق الوسط حقيقة مما لا يستطاع للإنسان ولو حرص عليه، وإنما الذي يجب على الرجل أن لا يميل كل الميل إلى أحد الطرفين وخاصة طرف التفريط فيذر المرأة كالمعلقة لا هي ذات زوج فتستفيد من زوجها، ولا هي أرملة فتتزوج أو تذهب لشأنها، فالواجب على الرجل من العدل بين النساء أن يسوي بينهن عملا بإيتائهن حقوقهن‏ من غير تطرف، والمندوب عليه أن يحسن إليهن ولا يظهر الكراهة لمعاشرتهن ولا يسيء إليهن خلقا، وكذا كانت سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

3. وهذا الذيل أعني قوله: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ هو الدليل على أن ليس المراد بقوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ نفى مطلق العدل حتى ينتج بانضمامه إلى قوله تعالى:‏ ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ إلغاء تعدد الأزواج في الإسلام كما قيل، وذلك أن الذيل يدل على أن المنفي هو العدل الحقيقي الواقعي من غير تطرف أصلا بلزوم حاق الوسط حقيقة، وأن المشرع هو العدل التقريبي عملا من غير تحرج، على أن السنة النبوية ورواج الأمر بمرأى ومسمع من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والسيرة المتصلة بين المسلمين يدفع هذا التوهم.

4. على أن صرف قوله تعالى في أول آية تعدد الأزواج:‏ ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3] إلى مجرد الفرض العقلي الخالي عن المصداق ليس إلا تعمية يجل عنها كلامه سبحانه، ثم قوله: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ تأكيد وترغيب للرجال في الإصلاح عند بروز أمارات الكراهة والخلاف ببيان أنه من التقوى والتقوى يستتبع المغفرة والرحمة، وهذا بعد قوله: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ تأكيد على تأكيد.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/102.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ قد قال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ فمن تزوج اثنتين أو أكثر فإنه يقع في المشكلة، فالميل ثلاثة أقسام:

أ. الأول: الميل اليسير بسبب غلبة الحب مثلاً مع التسوية في المبيت والإنفاق الواجب، ومع إخفاء الميل بقدر المستطاع؛ لئلا يضر التي مال عنها بالغيظ والغم، فهذا لا يبعد جوازه، وقد روى في (مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام): عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام في قول الله عزَّ وجل: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ قال: (هذا في الحب والجماع، وأما النفقة والكسوة والبيتوتة فلا بد من العدل في ذلك)

ب. الثاني من الميل: التقصير في التسوية في المبيت والواجب من النفقة، فهذا لا يجوز، ولكن تجوز المصالحة عند خشيته، كما في الآية التي قبل هذه، فإن أبى أحدهما الصلح فلا بد من العدل أو الطلاق.

ج. الثالث: ما نهي عنه في هذه الآية ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ فهذا لا يجوز ولا بالصلح؛ لأن الله نهى عنه، وإن أباح الصلح وخصه بالنهي دون ما دونه ـ والله أعلم.

2. ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا﴾ بعد الفساد بتركها كالمعلقة وذلك بحسن العشرة أو المصالحة على بعض الحقوق ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الله بالتوبة من ما مضى والطاعة ﴿فَإِنَّ الله﴾ يغفر ما مضى؛ لأنه ﴿كَانَ﴾ وما زال ﴿غَفُورًا رَحِيمًا﴾، ومعنى ﴿كَانَ﴾ إثباتُ الشيء فيما مضى لا نفيه في الحال، فهو يكون في بعض الأمور منتفياً في الحال وفي بعض ثابتاً، ولم أقل: لم يزل؛ لأنه مفهوم كان ولكنه لأنه الواقع، أما ﴿غَفُورًا﴾ فمن حين خلق المكلفين وكثرت مغفرته لهم، وأما ﴿رَحِيمًا﴾ فهو بمعنى مَن شأنه أن يرحم، فيكون صفة له في الأزل، فشأنه في الأزل أن يفعل ما يفعله الراحم، وهذا واضح لأنه في المخلوق صفة مشبهة ليس اسم فاعل.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/182.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ في حجم العاطفة، أو في نوعية الشعور، أو في أسلوب التعبير عنه، ما دامت العناصر الجسدية الجمالية وغير الجمالية أو المؤثرات الذاتية، من خلال ما تتصف به هذه المرأة أو تلك من ثقافة وأخلاق وطريقة حياة، أو غيرها، موجودة مما يترك في نفس الإنسان تأثيرا مختلفا لا يملك الإنسان معه السيطرة على نوازعه الداخلية؛ فلا يمكن أن يكلّف الإنسان بالعدل بهذا المعنى، لأنه قد يشبه التكليف بغير المقدور مهما بذل الإنسان من جهد، أو أثار من أجواء؛ بل القضية في العدل، هي قضية السلوك العملي في المعاملة الحياتية؛ وذلك بأن يعاملها كزوجة فيما جعل الله لها من حقوق، بحيث تشعر بأنها تعيش معه كزوجة حقيقية، في النفقة والمعاشرة ضمن النطاق المفروض لها، فلا يجوز له أن يهجرها هجرانا كليا ويقبل على الأخرى إقبالا كليا، بحيث لا يبقى لها من الزواج إلا الاسم، بينما تعيش في الواقع عيشة المطلّقة، فتبقى كالمعلّقة التي لا تحس بمعنى العلاقة الزوجية في حياتها، ولا تشعر بلذّة الحرية التي تشعر بها المرأة غير المتزوجة في طريقة حياتها؛ فإن في ذلك الظلم الكبير الذي يبغضه الله لأنه يحوّل الزواج إلى سجن مظلم لا تملك فيه المرأة أيّ بصيص من النور.

2. ويوجّه الله للرجال ـ بعد ذلك ـ الأمر بالإصلاح والتقوى في مثل هذه الحالات التي تتعرض فيها العلاقة الزوجية للانهيار أو التضعضع، ويعدهم بالمغفرة والرحمة إن كان هناك خطأ سابق في التصرف، وذلك من خلال الإخبار بأنه كان غفورا رحيما.

3. تحدثنا في بداية السورة، كيف حاول البعض أن يجعل من هذه الآية دليلا على أن الإسلام يحرّم التعدد في الزوجات، لأنه اشترط العدل في البداية، ثم أعلن استحالته هنا، الأمر الذي يدل على أن الحديث عن الإباحة المعلّقة، حديث عن شيء لا يمكن تحققه، ولكننا أوضحنا هنا وهناك، أن العدل هناك، هو العدل في النفقة وغيرها من الحقوق العملية التي فرضها الله، أما العدل المستحيل، فهو المساواة في العاطفة والمشاعر وأساليب المعاشرة، مع أن مثل هذا الاتجاه في الفهم يجعل القرآن متحدثا عن الفرضيات غير المعقولة، وذلك سبيل لا يتناسب مع حكمة الله في كتابه.

4. وقد نجد في بعض أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السّلام ما يؤكد هذا التمايز بين مفهوم العدل في آية التعدد ومفهومه في هذه الآية، فقد جاء في تفسير العياشي بسنده عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام‏ في قول الله عز وجل‏ ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ قال: في المودة، وجاء في الكافي بإسناده عن نوح بن شعيب ومحمد بن الحسن قال‏: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم، فقال له: أليس الله حكيما؟ قال بلى، وهو أحكم الحاكمين، قال فأخبرني عن قوله عز وجل: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ أليس هذا فرض؟ قال بلى، قال فأخبرني عن قوله عز وجل: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ أيّ حكيم يتكلم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب، فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد الله (جعفر الصادق عليه السّلام)، فقال: يا هشام في غير وقت حجّ ولا عمرة، قال: نعم، جعلت فداك، الأمر أهمّني، إنّ ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء قال: وما هي؟ قال: فأخبره بالقصة، فقال له أبو عبد الله عليه السّلام: أمّا قوله عز وجل: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ يعني في النفقة، وأمّا قوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ يعني في المودة.

5. هناك ملاحظة، وهي أن التدقيق في كلمة (المعلّقة)، قد توحي بأن من المفروض في علاقة الرجل بزوجته أن تحس المرأة بمعنى الزوجية في‏ حياتها الزوجية سواء أكان ذلك في استمرار الإنفاق عليها بما يجب لها من النفقة، فلا ينفق عليها زمانا ليحرمها في زمان آخر، أم في معاشرتها في البيت من حيث تواجد الزوج معها في حياة طبيعية، فلا يسافر عنها مدة طويلة كالذين يهاجرون ويغتربون ليتركوا زوجاتهم في وحدة موحشة كما لو لم تكن زوجة، أم في حقها من الجنس بحسب حاجتها إلى ذلك، بما يلبي جوعها ويعصمها من الانحراف ويحصّنها بالعفة على أساس الاكتفاء الجنسي، فيمنحها حاجتها منه كلما أرادت إذا لم يكن هناك مانع صحيّ أو غيره مما يمنعه من القيام بذلك وفي ضوء ذلك، فإننا نتحفظ على التحديد الفقهي بانحصار حقها في كل أربعة أشهر مرة، لأن ذلك يجعلها كالمعلّقة من الناحية الجنسية، باعتبار عدم انسجام هذا الحدّ الزمني مع العلاقة الزوجية الطبيعية، وهكذا يجتذب الرفض الإسلامي لتحوّل المرأة إلى شخصية (المرأة المعلّقة) العنوان الإيجابي في تعميق المعنى الزوجي في علاقة الرجل بزوجته.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/492.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نستنتج من الجملة التي وردت في نهاية الآية السابقة ـ التي تمّ البحث عنها والتي دعت الرجال إلى فعل الخير والتزام التقوى ـ إنّها تعتبر نوعا من التهديد للأزواج من الرجال، بأن يراقبوا حالهم ولا ينحرفوا قيد شعرة عن جادة الحق والعدالة لدى التعامل مع زوجاتهم، وقد يرد اعتراض وهو: إنّ تحقيق العدالة في مجال الحبّ والعلاقات القلبية أمر بعيد المنال، فكيف يمكن إذن والحالة هذه اتباع العدل مع الزوجات؟ وردا على الاعتراض المذكور توضح الآية من سورة النساء، بأنّ تحقيق العدالة في مجال الحبّ بين الزوجات أمر غير ممكن، مهما بذل الإنسان من سعي في هذا المجال فتقول الآية: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾

2. يتبيّن من عبارة ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ هذه وجود أشخاص بين المسلمين كانوا يسعون كثيرا لتحقيق تلك العدالة المطلوبة، ولعل سعيهم ذلك كان من أجل الحكم المطلق الذي طالب المسلمين باتّباع العدل من زوجاتهم والذي ورد في الآية الثّالثة من سورة النساء، التي تقول: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾

3. بديهي أنّ أي حكم سماوي لا يمكن أن ينزل على خلاف فطرة البشر، كما لا يمكن أن يكون تكليفا بما لا يطاق، ولمّا كانت العلاقات القلبية تنتج عن عوامل يكون بعضها خارجا عن إرادة الإنسان، لم يحكم الله بتحقيق العدالة في مجال الحبّ القلبي بين الزوجات، أمّا فيما يخص الأعمال وأسلوب التعامل ورعاية الحقوق بين الأزواج ممّا يمكن للإنسان تحقيقه، فقد تمّ التأكيد على تحقيق العدالة فيه.

4. ولكي لا يسيء الرجال استغلال هذا الحكم، طالبت الآية الرجال بأن لا يظهروا الميل الكامل لإحدى الزوجات إذا تعسر عليهم تحقيق المساواة في حبّهم لهنّ جميعا، كي لا يضيع حق الأخريات ولا يحرن في أمرهنّ ماذا يفعلن! حيث تقول الآية: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾

5. وتحذر الآية في آخرها أولئك الذين يجحفون في حقّ زوجاتهم، وتطالبهم بأن يتبعوا طريق الإصلاح والتقوى، ويعرضوا عمّا فات في الماضي، كي يشملهم الله برحمته وعفوه، فتقول الآية: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

6. لقد وردت روايات اشتملت على مواضيع تخص مسألة تحقيق العدالة بين الزّوجات، وتبيّن عظمة هذا الحكم والقانون الإسلامي، من هذه الروايات ما روي عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السّلام‏ أنّه كان له امرأتان، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الاخرى)، وروي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام‏ (أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقسم بين نسائه في مرضه، فيطاف به بينهن)، وكان معاذ بن جبل له امرأتان ماتتا في الطاعون أقرع بينهما أيّهما تدفن قبل الاخرى؟ أي أيّهما يقدم أوّلا في الدفن لكي يتجنب ما من شأنه أن يخدش العدل المفروض اتباعه بين الزوجات.

7. سؤال وإشكال: كنّا قد نوّهنا ـ في هامش الآية من نفس هذه السورة ـ بأنّ بعضا ممن ليس لهم علم استنتجوا ـ من ضم تلك الآية إلى هذه الآية ـ أن تعدد الزوجات مشروط بتحقيق العدالة بينهنّ، وأنّه لمّا كان تحقيق العدالة أمرا غير ممكن، فلذلك قالوا بأنّ الإسلام قد منع تعدد الزوجات، ويفهم من الروايات الإسلامية أنّ أوّل من طرح هذا الرأي هو (ابن أبي العوجاء) وكان من أصحاب المذهب المادي، ومن المعاصرين للإمام الصّادق عليه السّلام، وجاء طرحه لرأيه هذا في نقاش له مع المفكر الإسلامي المجاهد (هشام بن الحكم) فلما أعيى (هشاما) الجواب توجه من بلدته الكوفة إلى المدينة المنورة (لمعرفة الجواب) فقدم على الإمام الصّادق عليه السّلام فتعجب الإمام من مقدمه قبل حلول موسم الحج أم العمرة، ولكن هشاما أخبر الإمام بسؤال ابن أبي العوجاء، فكان جواب الإمام الصّادق عليه السّلام على السؤال هو أنّ المقصود بالعدالة الواردة في الآية الثّالثة من سورة النساء، هي العدالة في النفقة (وضرورة رعاية الحقوق الزوجية وأسلوب التعامل مع الزوجة) أمّا العدالة الواردة في الآية من نفس السورة (والتي اعتبر تحقيقها أمرا مستحيلا) فالمقصود بها العدالة في‏ الميول القلبية، وعلى هذا الأساس فإن تعدد الزوجات ليس ممنوعا ولا مستحيلا إذا روعيت فيه الشروط الإسلامية، فلما رجع هشام بالجواب إلى ابن أبي العوجاء حلف هذا الأخير أن هذا الجواب ليس من عندك.

8. ومعلوم أنّ تفسيرنا لكلمتي العدالة ـ الواردتين في الآية الثّالثة والآية من سورة النساء ـ بمعنين يختلف أحدهما عن الآخر، إنّما هو للقرينة الواضحة الواردة مع كل من الآيتين المذكورتين، لأنّ الآية الأخيرة تأمر الإنسان أن لا يميل ميلا شديدا لإحدى زوجاته ويترك الأخريات في الحيرة من شأنهنّ، ولهذا فهي تدل على جواز تعدد الزوجات مع اشتراط أن لا يحصل إجحاف بحق إحداهنّ لحساب الأخرى، مع الإذعان باستحالة تحقق المساواة في الحب القلبي لكلا الزوجتين، أمّا في الآية الثّالثة من سورة النساء فقد ورد التصريح في أوّلها بجواز تعدد الزوجات.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/477.

114. التفريق وإغناء الله

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈114⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 130]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا﴾، الطلاق(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٧٨.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. عن عاصم بن حميد، قال: كنت عند الإمام الصادق فأتاه رجل فشكا إليه الحاجة فأمره بالتزويج، قال فاشتدت به الحاجة، فأتى الإمام الصادق فسأله عن حاله، فقال له: اشتدت بي الحاجة، قال: فارق، ففارق، قال: ثم أتاه فسأله عن حاله، فقال: أثريت وحسن حالي، فقال الإمام الصادق أنّه قال: إني أمرتك بأمرين أمر الله بهما، قال الله عز وجل: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ وقال: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾(1).

2. روي أنّه قال: أفضل الوصايا وألزمها أن لا تنسى ربك، وأن تذكره دائما ولا تعصيه، وتعبده قاعدا وقائما، ولا تغتر بنعمته، واشكره أبدا، ولا تخرج من تحت أستار رحمته وعظمته وجلاله فتضل وتقع في ميدان الهلاك، وإن مسك البلاء والضراء وأحرقتك نيران المحن، واعلم أن بلاياه محشوة بكراماته الأبدية، ومحنة مورثة رضاه وقربته، ولو بعد حين، فيا لها من نعم لمن علم ووفق لذلك!(2).

__________

(1) الكافي 5/331.

(2) مصباح الشريعة: 162.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾:

أ. أي: الزوجان إن تفرقا؛ لما لم يقدر الزوج على التسوية بينهن ﴿يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾: المرأة تتزوج آخر، والرجل بامرأة أخرى.

ب. ويحتمل: ﴿كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ أن كل واحد منهما ـ وإن كان غنيا بالآخر في حال النكاح ـ فالله قادر على أن يغني كل واحد منهما بعد الافتراق، كما كان يرزق قبل الفراق.

2. وفيه دليل قطع طمع الارتزاق من غير الله، وإن جاز أن يجعل غيره سببًا في ذلك؛ لأنه قال عز وجل: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ﴾؛ ليعلم كلٌّ أن غناه لم يكن بالآخر؛ حيث وعد لهما الغناء، وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ـ دليل قطع طمع الارتزاق بعضهم من بعض في النكاح؛ لما وعد لهم الغناء إذا كانوا فقراء.

3. وفيه دليل وقوع الفرقة بينهما بالمرأة، بالمكنى من الكلام؛ لمشاركتهما فيه، وإن كان الزوج هو المنفرد بالفراق؛ لما أضاف الفعل إليهما بقوله: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ﴾ وكذلك قوله تعالى: ﴿فَارِقُوهُنَّ﴾، و﴿سَرِّحُوهُنَّ﴾

4. وفيه دليل لزوم النفقة في العدة؛ لأنه ذكر الافتراق، والفراق إنما يكون بانقضاء العدة، ثم أخبر عز وجل عن غناء كل واحد منهما بالآخر قبل الفراق؛ دل أن للمرأة غناء بالزوج ما دامت بالعدة.

5. وقوله عز وجل: ﴿وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا﴾:

أ. قيل: واسعًا: جودًا.

ب. وقيل: واسعًا: يوسع على كل منهما رزقه، ﴿حَكِيمًا﴾ حكم على الزوج: إمساكًا بمعروف أو تسريحًا بإحسان.

ج. وقيل: حكيمًا؛ حيث حكم فرقتهما، وأصل الحكيم: أن يضع كل شيء موضعه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٨١.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ أي من قدرته لأنه واسع القدرة ويحتمل أن يكون يغن الله كل واحد من صاحبه بمن هو خير منه.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/197.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ يعني الزوجين إن تفرقا بالطلاق.

2. قوله تعالى: ﴿يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه:

أ. أحدها: يغني الله كل واحد منهما بالقناعة والصبر عن صاحبه، ومعنى قوله: ﴿مِنْ سَعَتِهِ﴾ أي من رحمته، لأنه واسع الرحمة.

ب. الثاني: يغني الله كل واحد منهما عن صاحبه بمن هو خير منه، ومعنى قوله: ﴿مِنْ سَعَتِهِ﴾ أي من قدرته لأنه واسع القدرة.

ج. الثالث: يغني الله كل واحد منهما بمال يكون أنفع له من صاحبه.

3. معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ سَعَتِهِ﴾ أي من غناه لأنه واسع الغنى.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٣٤).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن الزوجين اللذين تقدم ذكرهما، متى أبى كل واحد منهما مصالحة الآخر فإن تطالب المرأة بنصيبها من القسمة والنفقة والكسوة ويمتنع الزوج من إجابتها إلى ذلك، لميله إلى الأخرى ومحبته لها، أو لصغر سنها أو جمالها ويتفرقا حينئذ بالطلاق، فإن الله يغني كل واحد منهما من سعته يعني من فضله ورزقه‏.

2. ﴿وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ يعني كان لم يزل هكذا واسع الفضل على عبادة، رحيما بهم في ما يدبرهم به وفي الآية دليل على أن الأرزاق كلها بيد الله وهو الذي يتولاها لعباده وإن كان ربما أجراها على يدي من يشاء من عباده وقال ابن عباس: ﴿كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ يعني من رزقه وهذه الجملة بها قال مجاهد وجميع المفسرين.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/351.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الغنى: سعة المقدرة والمنافي للحاجة.

ب. السعة: خلاف الضيق، وهو في صفات الله تعالى سعة المقدور، أو سعة الرحمة.

2. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا﴾ الزوج والزوجة إذا عجز كل واحد عن إيفاء حق صاحبه فخافا ألَّا يقيما حدود الله فطلقها وخالعها جاز، وإنما ذكر ذلك لوجوه:

أ. أحدها: بيان جواز المفارقة.

ب. الثاني: تسلية لهما.

ج. الثالث: بيان تفصيل الأحكام إن اختارا أن يجتمعا، أو يتفرقا.

3. سؤال وإشكال: لم شرط تفرقهما في الرزق، وهو يرزقهما: تفرقا أو اجتمعا؟ والجواب: لوجهين:

أ. أحدهما: تسلية لهما.

ب. الثاني: أنه أغنى كل واحد من الزوجين بالآخر، فإذا تفرقا فالله تعالى القيم بأمر كل واحد، وسمي الطلاق فرقة؛ لأنه ينافي الاجتماع الذي كان قبله من المجامعة والمساكنة التي ملكها بعقد النكاح.

4. ﴿يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ أي يغني كل واحد برزقه إما بزوج هو أصلح لها، أو برزق واسع، وأما الزوج فإما أن يغنيه بزوجة هي أصلح له أو برزق واسع ﴿وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا﴾:

أ. قيل: واسع الرحمة والفضل، عن أبي علي.

ب. وقيل: واسع المقدور يقدر أن يؤتيه ما وعد، وقيل الواسع: الجواد، عن أبي مسلم.

5. ﴿حَكِيمًا﴾:

أ. أي حكيما فيما قضى في النكاح والفرقة وسائر الأحكام.

ب. وقيل: حكيمًا في جميع ما قضى وقدر من أمور عباده، عن أبي علي.

6. تدل الآية الكريمة على أن لهما الفرقة كما لهما أن يجتمعا بالمصالحة، فأما الفرقة إذا قال لامرأته: فارقتك، فهي كناية إن نوى الطلاق كان طلاقًا بائنًا، وكذلك سائر الكنايات غير ثلاث: اعتدِّي، واستبرئي رحمك، وأنت واحدة، فإنها تقع بالنية، وتكون رجعيًّا، وقال الشافعي: الفراق صريح، والواقع بالكنايات رجعي، وإن نوى بالكنايات واحدة أو ثلاثًا كان كذلك، وإن نوى ثنتين فهي واحدة عند مشايخنا، وقال الشافعي: تقع ثنتين، وهو قول زفر.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/97.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ يعني: إذا أبى كل واحد من الزوجين مصلحة الآخر، بأن تطالب المرأة بنصيبها من القسمة، والنفقة، والكسوة، وحسن العشرة، ويمتنع الرجل من إجابتها إلى ذلك، ويتفرقا حينئذ بالطلاق، فإنه سبحانه يغني كل واحد منهما من سعته أي: من سعة فضله ورزقه ﴿وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ أي لم يزل واسع الفضل على العباد، حكيما فيما يدبرهم به.

2. في هذه الآية دلالة على أن الأرزاق كلها بيد الله، وهو الذي يتولاها بحكمته، وإن كان ربما أجراها على يدي من يشاء من بريته.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/184.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا﴾ يقول: وإن أبت المرأة أن تسمح لزوجها بإيثار التي يميل إليها، واختارت الفرقة، فإنّ الله يغني كلّ واحد من سعته، قال ابن السّائب: يغني المرأة برجل، والرجل بامرأة.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/484.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾، ذكر الله تعالى جواز الصلح إن أرادا ذلك، فإن رغبا في المفارقة فالله سبحانه بيّن جوازه بهذه الآية أيضا، ووعد لهما أن يغني كل واحد منهما عن صاحبه بعد الطلاق، أو يكون المعنى أنه يغني كل واحد منهما بزوج خير من زوجه الأول، ويعيش أهنأ من عيشه الأول.

2. ﴿وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ المعنى أنه تعالى لما وعد كل واحد منهما بأنه يغنيه من سعته وصف نفسه بكونه واسعا، وإنما جاز وصف الله تعالى بذلك لأنه تعالى واسع الرزق، واسع الفضل، واسع الرحمة، واسع القدرة، واسع العلم، فلو ذكر تعالى أنه واسع في كذا لا ختص ذلك بذلك المذكور، ولكنه لما ذكر الواسع وما أضافه إلى شيء معين دلّ على أنه واسع في جميع الكمالات، وتحقيقه في العقل أن الموجود إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته، والواجب لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى، وما سواه ممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الله الواجب لذاته، وإذا كان كذلك كان كل ما سواه من الموجودات فإنما يوجد بإيجاده وتكوينه، فلزم من هذا كونه واسع العلم والقدرة والحكمة، والرحمة، والفضل والجود، والكرم.

3. ﴿حَكِيمًا﴾ قال ابن عباس: يريد فيما حكم ووعظ وقال الكلبي: يريد فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/239.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ أي وإن لم يصطلحا بل تفرقا فليحسنا ظنهما بالله، فقد يقيض للرجل امرأة تقر بها عينه، وللمرأة من يوسع عليها، وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر، فأمره بالنكاح، فذهب الرجل وتزوج، ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر، فأمره بالطلاق، فاسأل عن هذه الآية فقال: أمرته بالنكاح لعله من أهل هذه الآية: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت: (فلعله من أهل هذه الآية وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته)

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/408.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا﴾ أي: لم يتصالحا بل فارق كل واحد منهما صاحبه‏ ﴿يُغْنِ الله كُلًّا﴾ منهما، أي: يجعله مستغنيا عن الآخر، بأن يهي‏ء للرجل امرأة توافقه وتقرّ بها عينه، وللمرأة رجلا تغتبط بصحبته، ويرزقهما.

2. ﴿مِنْ سَعَتِهِ﴾ رزقا يغنيهما به عن الحاجة ﴿وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ واسع الفضل، صادرة أفعاله على جهة الإحكام والإتقان.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/603.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَّتَفَرَّقَا﴾ بالطلاق أو الفداء، وهو طلاق خلافا لجابر بن زيد إذ عدَّه فُرقة غير طلاق، ﴿يُغْنِ اللهُ كُلًّا﴾ عن الآخر، المرأة برجل آخر، والرجل بامرأة أخرى، أو بسلو المحبِّ منهما للآخر عنه، وذلك تسلية، وقيل: زجر عن الفرقة.

2. ﴿مِن سَعَتِهِ﴾ غناه الواسع لخلقه، ﴿وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ غنيًّا مبرما لأفعاله، لا خلل ولا عبث.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/310.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا﴾ أي الزوج والمرأة بالطلاق، بأن لم يتفق الصلح بينهما، فاختارا الفرقة ﴿يُغْنِ الله كُلًّا﴾ أي: منهما، أي يجعله مستغنيا عن الآخر ﴿مِنْ سَعَتِهِ﴾ أي: غناه وجوده وقدرته، وفيه زجر لهما عن المفارقة رغما لصاحبه، وتسلية لهما بعد الطلاق‏ ﴿وَكَانَ الله وَاسِعًا﴾ أي: واسع الفضل‏ ﴿حَكِيمًا﴾ في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/366.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا﴾ أي وإن يتفرق الزوجان اللذان يخافا كلاهما أو أحدهما أن لا يقيما حدود الله كالذي يكره امرأته لدمامتها أو كبرها ويريد أن يتزوج غيرها ولم يتصالح معها على شيء يرضيان به، وكالذي عنده زوجان لا يقدر أن يعدل بينهما ولا تسمح له المرغوب عنها بشيء من حقوقها بمقابل ولا غير مقابل، إن يتفرق هذان على ترجيح الطلاق على دوام الزوجية (كما يدل على إسناد الفعل إليهما) وعدم حرص أحد منهما على استرضاء الآخر وصلحه.

2. ﴿يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ يغن الله كلا منهما عن صاحبه بسعة فضله فقد يسخر للمرأة رجلا خيرا منه يقوم لها بحقوقها، ويجعل له من امرأة أخرى عنده أو يتزوجها من تحصنه وترضيه فيستقيم أمر بيته وتربية أولاده، وإنما يكون كل منهما جديرا بإغناء الله إياه عن الآخر بزوج خير منه إذا التزما في التفرق حدود الله بأن يجتهد كل منهما في الاتفاق والصلح حتى إذا ظهر لهما بعد إجالة الرأي فيه والتروي في أسبابه ووسائله أنه غير مستطاع لهما تفرقا بإحسان يحفظ كرامتهما ولا يكونان به مضغة في أفواه الناس، وقدوة سيئة لفاسدي الأخلاق.

3. ﴿وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ أي كان ولا يزال واسع الفضل والرحمة يوفق بين الأقدار، ويؤلف بين المسببات والأسباب، حكيما فيما شرعه من الأحكام، جاعلا لها على وفق مصالح الناس.

4. وقد يكون من أسباب الرغبة في كل من الزوجين المتفرقين ما يراه الناس من حسن تعاملهما في تفرقهما، والتزامهما فيه حفظ كرامتهما، وإنما قلت: (قد يكون) للإشارة إلى أن هذا إذا لم يكن مرغبا لدهماء الناس وتحوتهم، فهو أكبر المرغبات لكرامهم وفضلائهم وإنما الخير فيهم فإن الرجل الفاضل الكريم إذا علم أن امرأة اختلفت مع بعلها لأن نفسها الشريفة لم تقبل أن ينشز أو يعرض عنها، أو يقرن بها من لا يعدل بينها وبينها، وهي مع ذلك لم تخدش كرامته بقول ولا فعل وإنما أحبت أن تتفق معه على طريقة عادلة فلم يمكن، فتفرقا بأدب وإحسان حفظ به شرفهما، وحسن به ذكرهما، وعلم أنه هو الذي أساء إليها، لا لعيب في أخلاقها ولا لسوء في أعمالها بل لتعلق قلبه بغيرها، فإن هذا الفاضل الكريم يرى فيها أفضل صفات الزوجية التي يتساهل لأجلها فيما عداها، فإن كانت فتاة رغب فيها الفتيان وغيرهم، وإن كانت نصفا رغب فيها كثيرون من أمثالها في السن وشرف الأدب، وأكثر الناس رغبة في مثلها من يتزوجون لأجل المصلحة والقيام بحقوق الزوجية، لا لمحض إرضاء الشهوة الحيوانية، وهم الذين يرجى أن تدوم لهم العيشة المرضية، كذلك كرائم النساء وأولياؤهن يرغبون في الرجل إذا علموا أنه يمسك المرأة بمعروف أو يسرحها بإحسان، ولا يلجئه إلى الطلاق إلا الخوف من عدم إقامة حدود الله.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/367.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله تعالى أن الفراق قد يكون فيه الخير إذا لم يمكن الوفاق فقال: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ أي وإن يتفرق الزوجان اللذان يخافان ألا يقيما حدود الله، بأن كره الرجل امرأته لدمامتها أو كبرها وأراد أن يتزوج غيرها أو كان عنده زوجان ولم يقدر على العدل بينهما ـ يغن الله كلا منهما عن صاحبه بسعة فضله ووافر إحسانه وجوده، فقد يسخّر للمرأة رجلا خيرا منه، كما يهيئ له امرأة أخرى تحصنه وترضيه وتقوم بشئون بيته وأولاده، ولن يكون كل منهما جديرا بعناية الله وإغنائه عن الآخر، إلا إذا التزما حدود الله، بأن اجتهدا في الوفاق والصلح وظهر لهما بعد التفكير والتروّي في الأسباب أنه غير مستطاع، فافترقا وهما حافظان لكرامتهما عما يجعلهما عرضة للنقد ونهش العرض، فإن ذلك مما يرغب الناس فيهما، لما يرونه فيهما من الأخلاق الفاضلة وعدم التلاحي والتنابذ والتهاجى واختلاق الأكاذيب، فالرجل ذو الخلق الكريم إذا علم أن امرأة اختلفت مع بعلها لأنها لم تقبل أن تعيش مع من يعرض عنها أو يترفع عليها بل أحبت أن تعيش معه بطريق عادلة ـ رأى فيها أفضل صفات الزوجية، وكذلك كرائم النساء وأولياؤهن يرغبون في الرجل إذا علموا أنه يمسك المرأة بمعروف أو يسرحها بإحسان ولا يلجئه إلى الطلاق إلا الخوف من عدم إقامة حدود الله.

2. ﴿وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ أي وكان الله ولا يزال واسع الفضل والرحمة، حكيما فيما شرعه من الأحكام التي جعلها وفق مصالح العباد.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/175.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. حين تجف القلوب، فلا تطيق هذه الصلة؛ ولا يبقى في نفوس الزوجين ما تستقيم معه الحياة، فالتفرق إذن خير، لأن الإسلام لا يمسك الأزواج بالسلاسل والحبال، ولا بالقيود والأغلال؛ إنما يمسكهم بالمودة والرحمة؛ أو بالواجب والتجمل، فإذا بلغ الحال أن لا تبلغ هذه الوسائل كلها علاج القلوب المتنافرة، فإنه لا يحكم عليها أن تقيم في سجن من الكراهية والنفرة؛ أو في رباط ظاهري وانفصام حقيقي!

2. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا﴾.. فالله يعد كلا منهما أن يغنيه من فضله هو، ومما عنده هو؛ وهو سبحانه يسع عباده ويوسع عليهم بما يشاء في حدود حكمته وعلمه بما يصلح لكل حال.

3. إن دراسة هذا المنهج، وهو يعالج مشاعر النفوس، وكوامن الطباع، وأوضاع الحياة في واقعيتها الكلية.. تكشف عن عجب لا ينقضي، من تنكر الناس لهذا المنهج.. هذا المنهج الميسر، الموضوع للبشر، الذي يقود خطاهم من السفح الهابط، في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة؛ وفق فطرتهم واستعداداتهم؛ ولا يفرض عليهم أمرا من الارتفاع والتسامي، إلا وله وتر في فطرتهم يوقع عليه؛ وله استعداد في طبيعتهم يستجيشه؛ وله جذر في تكوينهم يستنبته.. ثم هو يبلغ بهم ـ بعد هذا كله ـ إلى ما لا يبلغه بهم منهج آخر.. في واقعية مثالية، أو مثالية واقعية.. هي صورة طبق الأصل من تكوين هذا الكائن الفريد.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/772.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ هو دعوة إلى إطلاق سراح المرأة التي لا تنال حظوة عند زوجها، ولا ينظر إليها نظرة الرجل إلى المرأة وما لها من حقوق مادية ومعنوية عنده.. فإطلاقها في تلك الحال خير لها من إمساكها، الذي هو إيذاء لها، وإهدار لوجودها..

2. والمرأة التي يمسك بها الرجل، وهي في هذا الوضع الجائر.. إمّا أن تكون ذات مال، يريدها الرجل لمالها.. فليتركها، وليطلق سراحها.. والله سبحانه وتعالى يغنيه من فضله، وأول هذا الغنى هو أن يحفظ كرامته، ويحترم رجولته، فلا يكون طعامه وشرابه من هذا المال الذي يسلبه من يد ضعيفة، دون مقابل له، وإما أن تكون فقيرة مستضعفة، لا تجد من يكفلها، فهي مقيمة على هذا الضيم، لقاء لقمة عيش، أو كسوة بدن.. فلتخلّص نفسها من هذا القيد، ولتحرّر روحها، وتصحح إنسانيتها، فتلك هي الحياة، ولا حياة مع الذلة والمسكنة، ومع شبع البطن وجوع الروح، وكسوة الجسد، وعرى الإنسانية!

3. والله سبحانه وتعالى هو الرزّاق ذو القوة المتين.. قد كفل لها رزقها، كما كفل لكل كائن حيّ رزقه: ﴿وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا﴾! فمن سعة فضله‏ يقوت الأحياء، ومن بالغ حكمته أن يدعو الإنسان إلى السموّ بروحه، والاستعلاء بذاته.. فذلك هو الإنسان.. أما ما وراء ذلك من ماديات الإنسان فهي تبع، وليست أصلا، وهي ثان وليست أولا.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/922.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وسّع الله عليهما إن لم تنجح المصالحة بينهما فأذن لهما في الفراق بقوله: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾

2. في قوله: ﴿يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ إشارة إلى أنّ الفراق قد يكون خيرا لهما لأنّ الفراق خير من سوء المعاشرة، ومعنى إغناء الله كلّا: إغناؤه عن الآخر، وفي الآية إشارة إلى أنّ إغناء الله كلّا إنّما يكون عن الفراق المسبوق بالسعي في الصلح.

3. ﴿وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ تذييل وتنهية للكلام في حكم النساء.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/271.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ أي إنه إذ لم يستطيعا إصلاح ما بينهما، ولم يصلح غيرهما ذلك الإصلاح لم يبق إلا أن يتفرقا، وهذا ما تقتضيه الفطرة، ولذلك أسند التفرق إليهما معا، لا إلى أحدهما؛ لأن التفرق بالطلاق نتيجة تفرق القلوب، وإنه إذا كانت هذه الحال أغنى الله كل واحد عن الآخر من سعة الرحمة التي يرحم بها عباده.

2. ﴿وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ وكان الله تعالى ولا يزال واسع الرحمة فكلمة (واسعا) على تقدير مضاف، وهو الرحمة، وكان ولا يزال حكيما، يشرع بعباده بمقتضى حكمته ما هو أصلح لهم، ولو كانت النفوس تنزعج له أو تبغضه، وإن المرأة الفاضلة الكريمة إذا أعرض زوجها أو استعلى عليها ولم يمكن إصلاح ستجد من المجتمع من يقدر فضلها، ويبدلها من الناشز عدلا من الرجل، اللهم أصلح أمورنا، وابسط المودة بيننا، إنك سميع الدعاء.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1886.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾، ينبغي قبل كل شيء أن يعمل الزوجان على ازالة أسباب الخلاف والشقاق بينهما، لأن الصلح خير، فان تعذر فالطلاق هو الأفضل دفعا لأشد الضررين.. وفضل الله ورزقه يتسع للطرفين اجتمعا أو افترقا.. فقد يسخر للمطلقة رجلا خيرا من الأول، ويسخر للمطلق امرأة خيرا من الأولى.

2. الخلاصة ان ما تقدم يدور حول محور واحد هو ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ والإمساك أفضل، مع عدم المفسدة، ومعها فالتسريح هو الأفضل، فكما خلق الله علاجا ناجحا للأمراض الجسمية فقد خلق دواء منجحا للأمراض الاجتماعية.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/455.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ أي وإن تفرق الرجل والمرأة بطلاق يغن الله كلا منهما بسعته، والإغناء بقرينة المقام إغناء في جميع ما يتعلق بالازدواج من الايتلاف والاستيناس والمس وكسوة الزوجة ونفقتها فإن الله لم يخلق أحد هذين الزوجين للآخر حتى لو تفرقا لم يوجد للواحد منهما زوج مدى حياته بل هذه السنة سنة فطرية فاشية بين أفراد هذا النوع يميل إليها كل فرد بحسب فطرته.

2. ﴿وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ تعليل للحكم المذكور في قوله: ﴿يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/103.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَتَفَرَّقَا﴾ بالطلاق أو غيره من أسباب التفرق ﴿يُغْنِ الله كُلًّا﴾ أي كلاً منهما عن صاحبه ﴿مِنْ سَعَتِهِ﴾ قال في (الكشاف): (والسعة: الغنى والمقدرة، والواسع: الغني المقتدر) الأولى: أن تفسير السعة بالغنى أو الاقتدار، إنما يصح لسعة الحال التي تقابل ضيق الحال، فأما السعة المضافة إلى الله فهي ما يفيده وصفة بأنه واسع، قال الشرفي في (المصابيح): (وإنما جاز وصف الله بذلك؛ لأنه واسع الرزق، واسع الفضل، واسع الرحمة، واسع القدرة، واسع العلم فلو ذكر الله تعالى أنه واسع كذا لاختص بذلك المذكور، لكنه لما ذكر الواسع وما أضافه إلى شيء معين دل على أنه واسع في جميع الكمالات)، ونحوه في (مفردات الراغب الأصفهاني)

2. ﴿حَكِيمًا﴾ دليل أنه جوز الطلاق بحكمته فالاعتراض على شرع الطلاق إنما هو جهل بالحكمة مع كونه كفراً، فقد يكون الطلاق فَرَجاً لأحد الزوجين أو لهما معاً، حتى كأنه خرج من السجن، مع أن الله قد رخص للزوج لئلا يضطر إلى الطلاق مع بقاء المصلحة في بقاء الزواج حيث رخص في تزوج ثنتين وثلاث وأربع، فلا يضطر الزوج إلى طلاق الأولى: لرغبته في الثانية: وهكذا.

3. وكذلك رخص في الصلح كما مر وفيه إبقاء للزواج، ومع شرعه تعالى للطلاق شرَع الرجعة إذا لم يكن خُلْعاً ولا ثالثاً وكانت مدخولة، وقال تعالى: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق:1] فقد يندم الراغب في الطلاق فتكون الرجعة تيسيراً له وإبقاءً للزواج، ثم إن الله أحكم الحاكمين قد حكم به فلا معنى لاعتراض الكفار.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/183.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الحديث السابق كله وارد في حالة إرادة الإبقاء على علاقة الزواج بينهما؛ أما إذا شعرا بأن الحياة لم تعد محتملة في هذا الجو، ورأيا أن التجربة فاشلة، وأن النتائج لا تسير في الاتجاه السليم الذي يخدم حياتهما ومسئوليتهما أمام الله، فإن بإمكانهما أن يتفرقا دون أن يخافا من مشاكل الفقر أو الحاجة، لأن الله الذي منحهما الغنى والاكتفاء في داخل الحياة الزوجية هو الذي يمنحهما ذلك في خارجها، لأن خزائنه واسعة لا تنفذ؛ وكان الله واسعا في ملكه وفي عطائه، حكيما في تقديره الرزق لعباده؛ فلا يخشى أحد الضياع في كل حالاته، لأن الله هو الذي يرعاه ويحميه ويقوده إلى كل خير بكرمه ورحمته وحكمته.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/494.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تشير الآية الكريمة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّه لو استحال مواصلة الحياة الزوجية للطرفين ـ الزوج والزوجة ـ واستحال الإصلاح بينهما، فإنّهما ـ والحالة هذه ـ غير مرغمين على الاستمرار في مثل هذه الحياة المرّة الكريهة، بل يستطيعان أن ينفصلا عن بعضهما وعليهما اتخاذ موقف شجاع وحاسم في هذا المجال دون خوف أو رهبة من المستقبل.

2. لأنّهما لو انفصلا في مثل تلك الحالة فإن الله العليم الحكيم سيغنيهما من فضله ورحمته، فلا يعدمان الأمل في حياة مستقبلية أفضل، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا﴾.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/480.

115. عظمة الله وغناه

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈115⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ [النساء: 131 ـ 132]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: ﴿وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا﴾ غنيا عن خلقه، ﴿حَمِيدًا﴾ مستحمدا إليهم(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٧٩.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾، يعني: شهيدا أن فيها عبيدا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾، يعني: دافعا مجيرا(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٣٩٩.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾، حفيظا(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٨٠.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا﴾، في سلطانه عما عندكم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٨٥.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ من الخلق عبيده، وفي ملكه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا﴾ عن عباده وخلقه، ﴿حَمِيدًا﴾ عند خلقه في سلطانه(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾، يعني: شهيدا، فلا شاهد أفضل من الله عز وجل أن من فيهما عباده، وفي ملكه(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٣.

الثوري:

روي عن محمد بن الحسين، أنه كتب لسفيان الثوري (ت 161 هـ)، فأملى عليه: من أبي عبد الله إلى أبي فلان، أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله، فإنها وصية الله خلقه، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا﴾، إنك إن اتقيت الله كفاك الله ما همك، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٨٥.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وصى الخلق كلهم: ﴿أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾، ثم قوله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾:

أ. قيل: وصينا: أمرنا.

ب. وقيل: وصينا: فرضنا على الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم: ﴿أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾

2. وقوله عز وجل: ﴿أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾:

أ. قيل: أي أمرناهم أن يوحدوا الله ويتقوا الشرك.

ب. وقال مقاتل: ﴿أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾، أي: وحدوا الله.

ج. وقيل: قوله تعالى: ﴿أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾، أي: أطيعوه فيما أمركم ونهاكم عنه.

د. ويحتمل: ﴿أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾، أي: اتقوا عذاب الله ونقمته، ولا تعبدوا غيره دونه.

3. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾، ولم تتقوا فيما أمركم الله ونهاكم، ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ذكر هذا على أثر قوله: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾؛ ليعلموا أنه لم يأمرهم بذلك لحاجة له في عبادتهم، ولم يأمر لمنفعة نفسه؛ إذ من له ملك ما في السماوات وما في الأرض لا يحتاج إلى آخر ينتفع به؛ ولكن ليعلموا أنه تعالى إنما أمرهم بذلك لحاجتهم في ذلك، ولمنفعة أنفسهم؛ ألا ترى أنه قال عز وجل: ﴿وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا﴾ غنيًّا عن عبادتكم له وطاعتكم إياه، وحميدًا في سلطانه، ويكون غنيًّا عن خلقه في الأزل، حميدًا في فعله، وذلك الحميد في الفعل يخرج على إتقان الفعل وإحكامه، أو على إحسانه إلى خلقه، وإنعامه عليهم.

﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ هو ما ذكرنا من غنائه عن عبادة خلقه وطاعتهم له.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٨٣.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى قوله: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ بين في هذه الآية بأن له ملك ما في السموات وما في الأرض، لا يتعذر عليه إغناء كل واحد من الزوجين عند التفرق، وإيناسه من وحشته ثم رجع إلى توبيخ من سعى في أمر بني أبيرق وتعنيفهم، ووعيد من فعل فعل المرتد منهم، فقال: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا﴾ أهل التوراة والإنجيل وهم الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أي وأمرناكم أيضاً أيها الخلق‏ ﴿أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾ والتقدير بان اتقوا الله واحذروا أن تعصوه، وتخالفوا أمره ونهيه‏.

2. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ يعني تجحدوا وصيته إياكم أيها المؤمنون، فتخالفوها، ﴿فإن لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني له ملك ما فيهما، فلا يستحضر بخلافكم وصيته ولا ان تكونوا أمثال اليهود والنصارى، بل تضرون أنفسكم بما يحل بكم من عقابه، وغضبه‏ ﴿وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا﴾ لم يزل، غير محتاج إلى خلقه وإن الخلق‏ هم المحتاجون إليه ﴿حَمِيدًا (131)﴾ يعني مستوجب الحمد عليكم بصنائعه الحميدة إليكم، وآلائه الجميلة، فاستدعوا ذلك باتفاء معاصيه، والمسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به وهذه الجملة مروية عن علي عليه السلام وهو قول جميع المفسرين.

3. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ بمعنى له ملك ما فيهما، وهو القيم بجميعه والحافظ له لا يغرب عنه علم شيء ولا يئوده حفظه وتدبيره‏ ﴿وَكَفي بِاللهِ وَكِيلًا﴾ يعني كفي الله حافظاً.

4. سؤال وإشكال: لم كرر قوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ الآيتين، إحداهما عقيب الأخرى؟ والجواب: لاختلاف الخبرين: الاول في الآية الأولى عن حاجة الخلق إلى بارئه، وغناه تعالى عن خلقه، وفي الثانية: حفظ الله تعالى إياهم وعلمه بهم، وتدبيره لهم.

5. سؤال وإشكال: هلا قال وكان الله غنياً حميداً أو كفي به وكيلا؟ والجواب: ما ذكره في الآية الأولى يصلح ان يختم به وصف الله تعالى بالغناء وأنه محمود، ولم يذكر فيها ما يقتضي وصفه بالحفظ والتدبير، فلذلك كرر قوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/352.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أصل الاتقاء: الحاجز، من قولهم: اتقيته بالترس، وقيل: أصل التقوى قلة الكلام، وأصل التاء الواو، وأصل الوقاية ما يقي الشيء ووقيت الشيء أقيه وَقْيًا واتقيته.

2. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجوه:

أ. أولها: أنه اتصل به اتصال التسلية عما فات بالفرقة من الألفة بما يوجب الرغبة إليه تعالى؛ لأنه يملك السماوات والأرض، لا تفنى خزائنه، ولا يخيب سائله، ثم ذكر الوصية بالتقوى؛ لأنه به ينال خير الدنيا والآخرة، وأجمل ذلك لأن تفاصيلها قد مرت، ثم بَيَّنَ أن نفعها يعود عليهم؛ لأنه تعالى غني عن جميع الأشياء، عن علي بن عيسى.

ب. ثانيها: أنه يتصل بقوله: ﴿يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ أي: أنه يفعل ذلك لأن له ما في السماوات والأرض، وهو الجواد، والأمر بالتقوى يتصل بالأمر بالتقوى في الآية المتقدمة، تقديره: وصاكم كما وصينا من قبلكم بتقوى الله، وأعلمناكم أنه غني عنكم؛ لأن له ما في السماوات والأرض فيدعوكم إلى ما أعد لكم من الثواب؛ لنفع يرجع إليكم لا للاستكثار بكم أو لنفع يعود إليه، عن أبي مسلم.

ج. وقيل: لما بين الأحكام والأوامر عقب ذلك بأن له ما في السماوات إنما يأمركم لنفعكم فأطيعوه.

3. سؤال وإشكال: لماذا كرر ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ثلاث مرات؟ والجواب:

أ. قيل: تأكيدًا وتذكيرًا.

ب. وقيل: البيان عن علل ثلاث: وذلك لأنه وجبت طاعته فيما قضى به؛ لأن له ملك السماوات والأرض، وكان غنيًّا عن جميع الأشياء مستحقًّا للحمد على جميع النعم؛ لأن له ملك السماوات والأرض، وكان وكيلاً على جميع الأشياء؛ لأن له ملك السماوات والأرض.

4. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ خلقًا وملكًا، وذكر بلفظ ﴿مَا﴾؛ لأنه أراد الجنس، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا﴾ أمرنا ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ اليهود والنصارى أعطوا التوراة والإنجيل، وغيرهم أنزل عليهم سائر الكتب، ﴿وَإِيَّاكُمْ﴾ يعني وصيناكم أيها المسلمون في كتابكم ﴿أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾:

أ. قيل: وحدوه ولا تشركوا به شيئًا.

ب. وقيل: اتقوا عذابه باتقاء معاصيه.

5. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ تجحدوا بما أمركم به ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾:

أ. قيل: معناه إن تكفروا فلله عباد يوحدونه كالملائكة والمؤمنين.

ب. وقيل: إنكم بخلافكم لا تضرون غير أنفسكم؛ لأنه غني عنكم له ما في السماوات.

ج. وقيل: له ما في السماوات والأرض فهو يقدر على الانتقام منكم، ومنع عطائه عنكم.

6. ﴿وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا﴾:

أ. قيل: كان غنيًّا عن طاعتكم، وله الحمد حيث دعاكم إلى ما فيه حظكم، عن أبي مسلم.

ب. وقيل: هو غني عنكم ومع غنائه يحمدكم على طاعتكم إذا أطعتموه.

ج. وقيل: هو الغني الذي يجب حمده على نعمه فهو مستحق للحمد، عن أبي علي.

7. معنى الغني:

أ. أنه لا يجوز عليه الحاجة، عن أبي علي وأبي هاشم ثم اختلفا، فقال أبو علي: هو غني لذاته، وقال أبو هاشم: صفات النفي لا تعلل بالذات ولا بالمعنى.

ب. وقيل: الغني: هو القادر الذي لا يعجزه شيء فهو من صفات الذات، عن أبي القاسم.

8. الغنى على ضربين: غنى بالنفس، فلا يحتاج إلى شيء وغنى بالشيء، وذلك ينبئ عن الحاجة؛ لأنه ليس بمستغن.

9. اختلف في معنى الحميد:

أ. قيل: الحامد لخلقه.

ب. وقيل: المستحق للحمد، عن أبي علي.

ج. وقيل المستحمد لخلقه بإحسانه إليهم ونعمه عليهم.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾:

أ. قيل: حفيظًا، عن قتادة.

ب. وقيل: شهيدًا أن مَنْ فيها عبيده، عن ابن عباس.

ج. وقيل: قائمًا بالتدبير.

د. وقيل: ترجع إلى قوله: ﴿يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ أي: فحسبكم الله ضامنًا للكفاية والوكالة، عن أبي مسلم.

11. تدل الآية الكريمة على:

أ. عظيم قدرته وملكه؛ حيث خلق السماوات والأرض وما فيها، وذلك [لا] يتأتى إلا من القادر للذات.

ب. تقوية نفوس الزوجين بالانقطاع إليه، وأنه يكفي العباد بتدبيره الذي لو وكل إلى الخلق لعجزوا عنه.

ج. أن في صفاته الواسع، وقد ثبت معناه، وكذلك الحميد والوكيل، فيبطل قول الباطنية: إنه لا يوصف بالنفي، ولا بالإثبات.

12. مسائل لغوية ونحوية:

أ. الباء: في قوله: ﴿وَكَفَى بِاللهِ﴾ زائدة معناه وكفى الله، فدخلت الباء تأكيدًا.

ب. اللام في قوله: ﴿لِلَّهِ﴾ لام الإضافة، وقيل: أصلها الملك من قولهم: المال لزيد، وتستعمل في غيره للاختصاص به، كالاختصاص بالملك، وقيل: أصله الاختصاص بالشيء.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/100.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر سبحانه بعد اخباره بإغناء كل واحد من الزوجين بعد الافتراق من سعة فضله، ما يوجب الرغبة إليه في ابتغاء الخير منه فقال: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ إخبارا عن كمال قدرته، وسعة ملكه، أي: فإن من يملك ما في السماوات، وما في الأرض، لا يتعذر عليه الإغناء بعد الفرقة، والإيناس بعد الوحشة.

2. ثم ذكر الوصية بالتقوى فإن بها ينال خير الدنيا والآخرة، فقال: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من اليهود، والنصارى، وغيرهم ﴿وَإِيَّاكُمْ﴾ أي: وأوصيناكم أيها المسلمون في كتابكم ﴿أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾ وتقديره بأن اتقوا الله أي: اتقوا عقابه باتقاء معاصيه، ولا تخالفوا أمره ونهيه ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ أي: تجحدوا وصيته إياكم، وتخالفوها ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ لا يضره كفرانكم وعصيانكم.

3. وهذه إشارة إلى أن أمره جميع الأمم بطاعته ونهيه إياهم عن معصيته، ليس استكثارا بهم عن قلة، ولا استنصارا بهم عن ذلة، ولا استغناء بهم عن حاجة، فإن له ما في السماوات وما في الأرض ملكا، وملكا، وخلقا، لا يلحقه العجز، ولا يعتريه الضعف، ولا تجوز عليه الحاجة، وإنما أمرنا ونهانا نعمة منه علينا ورحمة بنا.

4. ﴿وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا﴾ أي لم يزل سبحانه غير محتاج إلى خلقه، بل الخلائق كلهم محتاجون إليه ﴿حَمِيدًا﴾ أي: مستوجبا للحمد عليكم بصنائعه الحميدة إليكم، وآلائه الجميلة لديكم، فاستديموا ذلك باتقاء معاصيه، والمسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به.

5. ثم قال: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ أي: حافظا لجميعه، لا يعزب عنه علم شيء منه، ولا يئوده حفظه، وتدبيره، ولا يحتاج مع سعة ملكه إلى غيره.

6. وجه التكرار لقوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ في الآيتين ثلاث مرات:

أ. قيل: إنه للتأكيد والتذكير.

ب. وقيل: إنه للإبانة عن علل ثلاث:

أحدها: بيان إيجاب طاعته فيما قضى به لأن له ملك السماوات والأرض.

الثاني: بيان غناه في الأرض.

الثالث: بيان حفظه إياهم، وتدبيره لهم، لأن له ملك السماوات والأرض.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/185.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر الله تعالى ما يوجب الرّغبة إليه في طلب الخير، فقال: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ يعني: أهل التّوراة، والإنجيل، وسائر الكتاب‏ ﴿وَإِيَّاكُمْ﴾ يا أهل القرآن‏ ﴿أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾ قيل: وحّدوه‏ ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ بما أوصاكم به‏ ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فلا يضرّه خلافكم، وقيل: له ما في السماوات، وما في الأرض من الملائكة، فهم أطوع له منكم، وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى (الغنيّ الحميد)، وفي آل عمران معنى (الوكيل)

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/484.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان:

أ. الأول: أنه تعالى لما ذكر أنه يغني كلا من سعته، وأنه واسع أشار إلى ما هو كالتفسير لكونه واسعا فقال‏: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني من كان كذلك فإنه لا بدّ وأن يكون واسع القدرة والعلم والجود والفضل والرحمة.

ب. الثاني: أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين بيّن أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد، لأن مالك السموات والأرض كيف يعقل أن يكون محتاجا إلى عمل الإنسان مع ما هو عليه من الضعف والقصور، بل إنما أمر بها رعاية لما هو الأحسن لهم في دنياهم وأخراهم.

2. ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله﴾ المراد بالآية أن الأمر بتقوى الله شريعة عامة لجميع الأمم لم يلحقها نسخ ولا تبديل، بل هو وصية الله في الأولين والآخرين.

3. ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ فيه وجهان:

أ. الأول: أنه متعلق بوصينا، يعني ولقد وصينا من قبلكم الذين أوتوا الكتاب.

ب. الثاني: أنه متعلق بأوتوا، يعني الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وصيناهم بذلك.

4. ﴿وَإِيَّاكُمْ﴾ بالعطف على‏ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ والكتاب اسم للجنس يتناول الكتب السماوية، والمراد اليهود والنصارى.

5. ﴿أَنِ اتَّقُوا الله﴾ كقولك: أمرتك الخير، قال الكسائي: يقال أوصيتك أن افعل كذا وأن تفعل كذا، ويقال: ألم آمرك أن ائت زيدا، وأن تأتي زيدا، قال تعالى: ﴿أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ [الأنعام: 14]، وقال‏: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ [النمل: 91]

6. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ عطف على قوله: ﴿اتَّقُوا الله﴾ والمعنى: أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض، وفيه وجهان:

أ. الأول: أنه تعالى خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها، فحق كل عاقل أن يكون منقادا لأوامره ونواهيه يرجو ثوابه ويخاف عقابه.

ب. الثاني: أنكم إن تكفروا فإن لله ما في سماواته وما في أرضه من أصناف المخلوقات من يعبده ويتقيه، وكان مع ذلك غنيا عن خلقهم وعن عبادتهم، ومستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه، وإن لم يحمده أحد منهم فهو في ذاته محمود سواء حمدوه أو لم يحمدوه.

7. سؤال وإشكال: ما الفائدة في تكرير قوله: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾؟ والجواب: ذكر الله تعالى هذه الكلمات في هذه الآية ثلاث مرات لتقرير ثلاثة أمور:

أ. أولها: أنه تعالى قال ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء: 130] والمراد منه كونه تعالى جوادا متفضلا، فذكر عقيبه قوله: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ والغرض تقرير كونه واسع الجود والكرم.

ب. ثانيها: قال‏: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ والمراد منه أنه تعالى منزّه عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين، فلا يزداد جلاله بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات، فذكر عقيبه قوله: ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ والغرض منه تقرير كونه غنيا لذاته عن الكل.

ج. ثالثها: قال: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ والمراد منه أنه تعالى قادر على الإفناء والإيجاد، فإن عصيتموه فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية، وعلى أن يوجد قوما آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه، فالغرض هاهنا تقدير كونه سبحانه وتعالى قادرا على جميع المقدورات.

د. إذا كان الدليل الواحد دليلا على مدلولات كثيرة فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل به على أحد تلك المدلولات، ثم يذكره مرة أخرى ليستدل به على الثاني، ثم يذكره ثالثا ليستدل به على المدلول الثالث، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة، لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى، فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال.

هـ. وأيضا فإذا أعدته ثلاث مرات وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله تنبه الذهن حينئذ لكون تخليق السموات والأرض دالا على أسرار شريفة ومطالب جليلة، فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر فيها والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى، ولما كان الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفة الله، وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده، لا جرم كان في غاية الحسن والكمال.

8. ﴿وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ معناه أنه تعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بالقدرة على جميع المقدورات، فإن قدرته على الأشياء لو كانت حادثة لافتقر حدوث تلك القدرة إلى قدرة أخرى ولزم التسلسل.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/239.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي الأمر بالتقوى كان عاما لجميع الأمم: وقد مضى القول في التقوى ﴿وَإِيَّاكُمْ﴾ عطف على ﴿الَّذِينَ﴾، ﴿أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾ في موضع نصب، قال الأخفش: أي بأن اتقوا الله، وقال بعض العارفين: هذه الآية هي رحى آي القرآن، لأن جميعه يدور عليها.

2. سؤال وإشكال: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ إن قال قائل: ما فائدة هذا التكرير؟ والجواب: عنه جوابان:

أ. أحدهما: أنه كرر تأكيدا، ليتنبه العباد وينظروا ما في ملكوته وملكه وأنه غني عن العالمين.

ب. الثاني: أنه كرر لفوائد: فأخبر في الأول أن الله تعالى يغني كلا من سعته، لان له ما في السماوات وما في الأرض فلا تنفد خزائنه، ثم قال أوصيناكم وأهل الكتاب بالتقوى ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ أي وإن تكفروا فإنه غني عنكم، لأن له ما في السماوات وما في الأرض، ثم أعلم في الثالث بحفظ خلقه وتدبيره إياهم بقوله: ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ لان له ما في السماوات وما في الأرض.

3. قال: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ ولم يقل من في السماوات، لأنه ذهب به مذهب الجنس، وفي السماوات والأرض من يعقل ومن لا يعقل.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/408.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ هذه الجملة مستأنفة لتقرير كمال سعته سبحانه؛ وشمول قدرته‏ ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أمرناهم فيما أنزلناه عليهم من الكتب، واللام في الكتاب: للجنس‏ ﴿وَإِيَّاكُمْ﴾ عطف على الموصول‏.

2. ﴿أَنِ اتَّقُوا الله﴾ أي: أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وهو في موضع نصب بقوله: ﴿وَصَّيْنَا﴾ أو منصوب بنزع الخافض، قال الأخفش: أي: بأن اتقوا الله، ويجوز أن تكون أن: مفسرة، لأن التوصية في معنى القول.

3. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ معطوف على قوله: ﴿أَنِ اتَّقُوا﴾ أي: وصيناهم وإياكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا، وفائدة هذا التكرير: ليتنبه العباد على سعة ملكه، وينظروا في ذلك، ويعلموا أنه غنيّ عن خلقه‏.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/604.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. استشهد لكمال غناه وقدرته بقوله: لله حقيقة الملك في الكون وكمال القدرة والمشيئة: ﴿وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الَارْضِ﴾ خلقًا وملكًا، وأوسع منهنَّ، فهنَّ تمثيل، وهذا في معنى التعليل، لقوله: ﴿وَاسِعًا﴾، بل زعم بعض أنَّ الواو تكون للتعليل.

2. ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ جنس الكتاب: التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله، وهم اليهود والنصارى وغيرهم من الأمم، ﴿مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُم﴾ أيَّتها الأمَّة، لم يقل: وصَّيناكم والذين أوتوا الكتاب من قبلكم، مراعاة لترتيب الوجود خارجًا، ﴿أَن﴾ تفسيريَّة؛ لأنَّ في التوصية معنى القول، وأجاز بعضٌ المصدريَّةَ داخلة على الأمر، أي: بأن، ﴿اِتَّقُواْ اللهَ﴾ أجِلُّوه، أو خافوا عقابه.

3. ﴿وَإن تَكْفُرُواْ﴾ بالله أو أنبيائه أو كتبه أو ببعض لم يضرَّه كفركم ﴿فَإنَّ لِلهِ﴾ أي: لأنَّ لله ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الَارْضِ﴾ وجميع ما سواه، فلا تضرُّه معصية ولا طاعة، والواو عاطفة لمحذوف، أي: وصَّينا وقلنا لكم ولهم؛ فالخطاب في (تَكْفُرُوا) للتغليب، وإنَّما ساغ ذلك الحذف للتوسُّع في القول، ويجوز أن يكون الخطاب لهذه الأمَّة وأهل الكتاب، ﴿وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا﴾ عن طاعة خلقه ﴿حَمِيدًا﴾ محمودًا في أفعاله وأقواله وصفاته، كفروا أو آمنوا، علموا أنه محمود أو لم يعلموا.

4. ﴿وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الَارْضِ﴾ كرَّره للدلالة على كونه غنيًّا حميدًا، الموجب للتقوى، وجميع ما سواه محتاج إليه، وللدلالة وتوطئةً لقوله: ﴿وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلاً﴾، ولقوله: ﴿اِنْ يَّشَأْ يُذْهِبْكُمُ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَاتِ بئَاخَرِينَ﴾

5. معنى (وَكِيلاً): شهيدًا أنَّ ما في السماوات والأرض لله، أو وكيلاً في تدبير الأمور، فذلك موجب لأنْ يَتوكَّلَ عليه كلُّ أحد، فالوكيل في وصف الله: القائم برزق العباد وسائر أشيائهم، والوكالة بهذا المعنى صفة فعل، والخطاب للكافرين به صلّى الله عليه وآله وسلّم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/310.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ جملة مستأنفة منبهة على كمال سعته وعظم قدرته أي: كيف لا يكون واسعا وله ما فيهما من الخلائق والأرزاق وغيرهما؟ فله أن يعطي ما شاء منهما لمن شاء من عبيده، وعلى هذا، فهي متعلقة بما قبلها، أو أتى بها تمهيدا لما بعدها من العمل بوصيته، إعلاما بأنه مالك ما في السموات والأرض والحاكم فيهما.

2. ولهذا قال‏ ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي: من الأمم السابقة، و﴿الْكِتَابِ﴾ اسم جنس يتناول الكتب السماوية ﴿وَإِيَّاكُمْ﴾ معطوف على (الذين) ﴿أَنِ اتَّقُوا الله﴾ أي: وصينا كلّا منكم ومنهم بالتقوى، وهي عبادته وحده، لا شريك له، والمعنى: أن وصيته قديمة ما زال يوصي الله بها عباده، ولستم بها مخصوصين، لأنهم بالتقوى يسعدون عنده‏.

3. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ أي: بالله‏ ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي: فهو مالك الملك كله، لا يضره كفركم لغناه المطلق، فما الوصية إلا لفلاحكم رحمة بكم، كما في الآية الأخرى‏ ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم: 8]، وقال تعالى: ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى الله﴾ [التغابن: 6] ﴿وَكَانَ الله غَنِيًّا﴾ عن عباده‏ ﴿حَمِيدًا﴾ أي: محمودا في ذاته، حمدوه أو لم يحمدوه.

4. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ذكره ثالثا، إما لتقرير كونه تعالى غنيا حميدا فإن جميع المخلوقات تدل، بحاجتها على غناه، وبما أفاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات، على كونه حميدا، وإما تمهيدا للاحقه من الشرطية، وهو بيان كونه تعالى قادرا على جميع المقدورات، أي: له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا، فهو قادر على الإفناء والإيجاد، فإن عصيتموه، أيها الناس، فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية، وعلى أن يوجد قوما آخرين يشتغلون بعبادته وتعظيمه، فذكر هذه الكلمات في هذا المقام ثلاث مرات لتقرير ثلاثة أمور في سياقها، كما بيّنا.

5. ﴿وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾ أي: ربّا حافظا توكل بالقيام بجميع ما خلق.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/366.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اقتضت حكمة الله في ترتيب كتابه أن يجيء بعد تلك الأحكام العملية في شؤون النساء واليتامى أو بعدها وبعد ما قبلها من الأحكام المتعلقة بأهل الكتاب أيضا وأن يعقب عليها بآيات في العلم الإلهي تذكر المخاطبين بتلك الأحكام بعظمته وسعة ملكه واستغنائه عن خلقه، وقدرته على ما يشاء من التصرف فيهم أو إثباتهم على طاعته فيما شرعه لهم لخيرهم ومصلحتهم، ـ تذكرهم بذلك ليزدادوا بتدبرها أيمانا يحملهم على العمل لها، والوقوف عند حدودها، وهي هذه الآيات.

2. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ملكا وخلقا وعبيدا فبأمره وحده قام نظام الأكوان، وله وحده التدبير والتكليف الذي ينتظم به أمر الإنسان ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله﴾ في إقامة سننه، ولإقامة دينه وشريعته، فبإقامة السنن تعلو معارفكم الإلهية، وترتقي مرافقكم الدنيوية، وبإقامة الأحكام والآداب الدينية، تتزكى أنفسكم وتنتظم مصالحكم المدنية والاجتماعية، ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ نعمه عليكم وتتركوا تقواه في ذلك ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ لا ينقص كفركم من ملكه شيئا وإنما ضرره عليكم، كما أن منفعة الشكر خاصة بكم.

3. ﴿وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا﴾ غنيا عن كل شيء بذاته لذاته، ولأن كل شيء له ومنه، محمودا بذاته لذاته وكمال صفاته، محمودا على جميع أفعاله، لأنه أحسن كل شيء خلقه، فهو لا يحتاج إلى شكركم لتكميل نفسه، ولا إلى حمدكم لتحقيق حمده، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44] وفي الحديث القدسي المروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ربه عز وجل: (يا عبادي! إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) رواه مسلم وهو آخر حديث طويل اكتفينا منه بمحل الشاهد في موضوعنا.

4. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ أعاد تذكيرهم بكونه مالك السماوات والأرض أي العوالم كلها ليتمثلوا عظمته، ويستحضروا الدليل على غناه وحمده، فيعلموا أنه إذا كان قد توكل بإغناء كل من الزوجين إذا أقاما حدوده في تفرقهما فإنه قادر على ذلك كما أنه قادر على إنجاز كل ما وعد وأوعد به، فيجب أن يكتفوا به في التوكل لهم، ويستعمل الوكيل بمعنى المهيمن والمسيطر والرقيب.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/368.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن أمر سبحانه بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين، بين أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد، لأن كل ما في السموات والأرض ملكه فهو مستغن عنهم وقادر على إثابتهم على طاعته فيما شرعه لخيرهم ومصلحتهم، بل ليزدادوا بتدبرها إيمانا يحملهم على العمل بها والوقوف عند حدودها.

2. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ خلقا وملكا، فهو وحده مدبر الأكوان، فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفقر ولا الإيناس بعد الوحشة إلى نحو هذا مما ينبئ بعظيم القدرة وكمال الجود والإحسان.

3. ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله﴾ أي ولقد أمرنا من قبلكم من اليهود والنصارى وغيرهم من سالف الأمم كما أمرناكم بتقوى الله في إقامة سننه وإقامة شريعته، فبالأولى: ترقى معارفكم، وبالثانية: تزكو نفوسكم وتنتظم مصالحكم الدينية والدنيوية.

4. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي وإن تكفروا أنعم الله وتجحدوا فضله وإحسانه فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا يضره كفركم ومعاصيكم كما لا ينفعه شكركم وتقواكم، وقد وصاكم وإياهم بهما لرحمته لا لحاجته.

5. ثم زاد ما سلف توكيدا فقال: ﴿وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا﴾ أي وكان الله غنيا عن كل شيء بذاته، محمودا بذاته‏ وكمال صفاته، فهو لا يحتاج إلى شكركم لتكميل نفسه‏ ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ وفي الحديث القدسي‏ (يا عبادي إنّكم لن تبلغوا ضرّى فتضرونى، ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه) رواه مسلم.

6. ثم أعاد ما سلف لزيادة التوكيد فقال: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾ أي له سبحانه ما فيهما خلقا وملكا يتصرف فيهما كيفما شاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة، وكفى به قيّما وكفيلا يوكّل به أمر العباد في أرزاقهم وأقواتهم وسائر شئونهم.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/176.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لأن هذه الأحكام الخاصة بتنظيم الحياة الزوجية، قطاع من المنهج الرباني لتنظيم الحياة كلها؛ ولأن هذا المنهج بجملته قطاع من الناموس الكوني، الذي أراده الله للكون كله، فهو يتوافق مع فطرة الله للكون، وفطرة الله للإنسان، الذي يعيش في هذا الكون.. لأن هذه هي الحقيقة العميقة في هذا المنهج الشامل الكبير، يجيء في سياق السورة بعد الأحكام الخاصة بتنظيم الأسرة، ما يربطها بالنظام الكوني كله؛ وسلطان الله في الكون كله، وملكية الله للكون كله، ووحدة الوصية التي وصى الله بها الناس في كتبه كلها؛ وثواب الدنيا وثواب الآخرة.. وهي القواعد التي يقوم عليها المنهج كله، قواعد الحق والعدل والتقوى: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا﴾

2. يكثر في القرآن التعقيب على الأحكام، وعلى الأوامر والنواهي بأن لله ما في السماوات وما في الأرض؛ أو بأن لله ملك السماوات والأرض، فالأمران متلازمان في الحقيقة، فالمالك هو صاحب السلطان في ملكه؛ وهو صاحب حق التشريع لمن يحتويهم هذا الملك، والله وحده هو المالك، ومن ثم فهو وحده صاحب السلطان الذي يشرع به للناس، فالأمران متلازمان.

3. كذلك يبرز هنا من وصية الله سبحانه لكل من أنزل عليهم كتابا.. الوصية بالتقوى، وذلك بعد تعيين من له ملكية السماوات والأرض، ومن له حق الوصية في ملكه: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله﴾، فصاحب السلطان الحقيقي هو الذي يخشى ويخاف، وتقوى الله هي الكفيلة بصلاح القلوب، وحرصها على منهجه في كل جزئياته.

4. كذلك يبين لمن يكفرون ضآلة شأنهم في ملك الله؛ وهو أن أمرهم عليه سبحانه؛ وقدرته على الذهاب بهم والمجيء بغيرهم: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾.. فهو سبحانه إذ يوصيهم بتقواه، لا يعنيه في شيء ولا يضره في شيء ألا يسمعوا الوصية، وأن يكفروا، فإن كفرهم لن ينقص من ملكه شيئا.. ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/772.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة استعرض القرآن الكريم وجوه الناس: من مؤمنين، ومنافقين، وكافرين، وأقام كل فريق منهم بالمكان الذي هو أهل له، من قرب أو بعد من الله، وما أعدّ له من ثواب أو عقاب.. وقد ختمت هذه الآيات باستعراض لقدرة الله سبحانه، وسعة ملكه، وبسطة نفوذه، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾.. ثم تلا ذلك وقفة مع المؤمنين فيما يعنيهم من أمر دينهم، وكان ذلك في أمور تتصل بالنساء وعلاقة الرجال بهن، وقد جاءهم من الله في هذا البلاغ المبين.. وهنا في هذه الآيات استدعاء للناس جميعا، من مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، ليشهدوا جلال الله وعظمته، فيما صوّر وخلق مما في السموات والأرض، وكلها صنعة يده، وحوزة ملكه: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾!

2. في تقديم الخبر على المبتدأ في قوله تعالى: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ما يفيد اختصاص الله سبحانه وتعالى وحده بالملكية لما في السموات والأرض.. لا يشاركه في ذلك شريك..

3. في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله﴾ بعد هذا الاستعراض لقدرة الله وسلطانه المتفرد على هذا الوجود ـ في هذا جلاء لغشاوات الضلال التي انعقدت على كثير من البصائر فحجبت عنها الرؤية الواضحة للّه، فلم تره إلا في ضباب هذه الضلالات.. ربّا مع أرباب، وإلها في مجمع من الآلهة..!

4. فإذا نظر الإنسان إلى ما في ملكوت السموات والأرض من آثار رحمة الله، وقدرته، وعلمه وحكمته، ثم استمع لدعوة الحق سبحانه وتعالى التي يدعو بها عباده إليه: ﴿أَنِ اتَّقُوا الله﴾ ـ كان خليقا به، لو أمعن النظر، وأحسن التفكير ـ أن يستجيب لدعوة الله، وأن يؤمن به، ويتّقى حرماته.. فتلك هي الصلة السليمة التي ينبغي أن تقوم بين الإنسان وخالقه، وتلك هي الوصاة التي يوصّى الله بها عباده، ويحملها إليهم رسله!

5. ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله﴾.. والمراد بالذين أوتوا الكتاب من قبلنا، هم اليهود والنصارى، حيث هم الذين التقوا بالمسلمين من أهل الكتاب، وإن كان هناك كثيرون من المؤمنين أصحاب كتاب سماوي غير اليهود والنصارى، ولكن ذهبوا وذهبت كتبهم، ولهذا كان ذكر أهل الكتاب في القرآن دائما، مقصودا به اليهود والنصارى وحدهم.

6. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ هو مقابل لقوله سبحانه: ﴿أَنِ اتَّقُوا الله﴾.. فالمراد بتقوى الله هنا، هو الإيمان به إيمانا صحيحا، غير مشوب بشرك أو ضلال.

7. ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ إشارة إلى أن إيمان المؤمنين وشرك المشركين، ونفاق المنافقين، وكفر الكافرين، كل ذلك لا متعلّق له بالله، إذ لا يؤثر ذلك في قدرة الله، ولا يزيد أو ينقص من سلطانه شيئا.. فهو المالك لكل شيء والقائم على كل شى‏ء.

8. ولهذا جاءت خاتمة الآية هكذا: ﴿وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا﴾ أي أنه سبحانه في غنى عن خلقه، لا ينفعه إيمان المؤمنين، ولا يضرّه كفر الكافرين، وإنما يعود نفع الإيمان أولا وآخرا إلى صاحبه، كما يعود ضرر الكفر أولا وآخرا إلى صاحبه.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ [الروم: 44] أي فلأنفسهم يصلحون الطريق الذين يصلهم بالله، ويوصلهم إلى مرضاته ونعيم جنّاته، والحميد، هو المستأهل للحمد، المستحق له من جميع مخلوقاته، إذ أوجدهم من عدم، وألبسهم نعمة الوجود.. فالحمد للّه، هو تسبيحة المخلوقات جميعا، من آمن منهم بالله ومن لم يؤمن، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44]

9. سؤال وإشكال: قد يقال: كيف يسبّح الكافر بحمد الله، وهو ينكره ولا يعترف بوجوده؟ والجواب: أن الكافر إنما هو صنعة الله، وهو يعيش في ملك، الله ويتقلب في نعمه، وأنه منقاد لمشيئة الله في كل نفس يتنفسه، وفي كل‏ عمل يعمله، ثم هو آخر أمره صائر إلى الله.. إنه لم يخلق نفسه، ثم إنه لن يميت نفسه.. بل الله سبحانه هو الذي أوجده، وهو الذي يميته.. ثم هو الذي تولّاه منذ أوجده إلى أن أماته.. فهو وإن اشتمل باطنه على الكفر بالله، وبفضله عليه، فإن وجوده كلّه وما يحيط به هو صوت جهورىّ، يؤذّن بحمد الله، ويسبّح بآلائه ونعمائه.

10. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾ تسبيحة أخرى من تسبيحات الحمد للّه، والإقرار بألوهيته، والولاء له من مخلوقاته جميعا، وكفى به ـ سبحانه وتعالى ـ وكيلا، يدبّر أمر هذه المخلوقات، ويقيمها على ما تقضى به حكمته.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/923.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جملة ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ معترضة بين الجمل التي قبلها المتضمنة التحريض على التقوي والإحسان وإصلاح الأعمال من قوله: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ [النساء: 128]، وقوله: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا﴾ [النساء: 129] وبين جملة ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا﴾ الآية، فهذه الجملة تضمّنت تذييلات لتلك الجمل السابقة، وهي مع ذلك تمهيد لما سيذكر بعدها من قوله: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ لأنها دليل لوجوب تقوى الله.

2. المناسبة بين هذه الجملة والتي سبقتها: وهي جملة ﴿يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء: 130] أنّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض قادر على أن يغني كلّ أحد من سعته، وهذا تمجيد لله تعالى، وتذكير بأنّه ربّ العالمين، وكناية عن عظيم سلطانه واستحقاقه للتقوى.

3. جملة ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ عطف على جملة ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: 116]

4. جعل الأمر بالتقوى وصية: لأنّ الوصية قول فيه أمر بشيء نافع جامع لخير كثير، فلذلك كان الشأن في الوصية إيجاز القول لأنّها يقصد منها وعي السامع، واستحضاره كلمة الوصية في سائر أحواله، والتقوى تجمع الخيرات، لأنّها امتثال الأوامر واجتناب المناهي، ولذلك قالوا: ما تكرّر لفظ في القرآن ما تكرّر لفظ التقوي يعنون غير الأعلام، كاسم الجلالة، وفي الحديث عن العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله: كأنّها موعظة مودّع فأوصنا، قال: (أوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ والسمع والطاعة)، فذكر التقوي في‏ ﴿أَنِ اتَّقُوا الله﴾ تفسير لجملة ﴿وَصَّيْنَا﴾، فإن فيه تفسيرية، والإخبار بأنّ الله أوصى الذين أوتوا الكتاب من قبل بالتقوى مقصود منه إلهاب همم المسلمين للتهمّم بتقوى الله لئلّا تفضلهم الأمم الذين من قبلهم من أهل الكتاب، فإنّ للائتساء أثرا بالغا في النفوس، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 183]، والمراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى، فالتعريف في الكتاب تعريف الجنس فيصدق بالمتعدّد.

5. التقوى المأمور بها هنا منظور فيها إلى أساسها وهو الإيمان بالله ورسله ولذلك قوبلت بجملة ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، وبيّن بها عدم حاجته تعالى إلى تقوى الناس، ولكنّها لصلاح أنفسهم، كما قال: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر: 7]، فقوله: ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ كناية عن عدم التضرّر بعصيان من يعصونه، ولذلك جعلها جوابا للشرط، إذ التقدير فإنّه غنيّ عنكم، وتأيّد ذلك القصد بتذييلها بقوله: ﴿وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا﴾ أي غنيّا عن طاعتكم، محمودا لذاته، سواء حمده الحامدون وأطاعوه، أم كفروا وعصوه.

6. ظهر بهذا أنّ جملة ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ معطوفة على جملة ﴿أَنِ اتَّقُوا الله﴾ فهي من تمام الوصية، أي من مقول القول المعبّر عنه ب ﴿وَصَّيْنَا﴾، فيحسن الوقف على قوله: ﴿حَمِيدًا﴾، وأمّا جملة ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾ فهي عطف على جملة ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا﴾، أتى بها تمهيدا لقوله: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ فهي مراد بها معناها الكنائي الذي هو التمكّن من التصرّف بالإيجاد والإعدام، ولذلك لا يحسن الوقف على قوله: ﴿وَكِيلًا﴾

7. تكرّرت جملة ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ هنا ثلاث مرّات متتاليات متّحدة لفظا ومعنى أصليا، ومختلفة الأغراض الكنائية المقصودة منها، وسبقتها جملة نظيرتهنّ: وهي ما تقدّم من قوله: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ [النساء: 126]، فحصل تكرارها أربع مرات في كلام متناسق:

أ. أمّا الأولى السابقة فهي واقعة موقع التعليل لجملة ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116]، ولقوله: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 116]، والتذييل لهما، والاحتراس لجملة ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: 125]، كما ذكرناه آنفا.

ب. وأما الثانية التي بعدها فواقعة موقع التعليل لجملة ﴿يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾

ج. وأما الثالثة التي تليها فهي علّة للجواب المحذوف، وهو جواب قوله: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾؛ فالتقدير: وإن تكفروا فإنّ الله غنيّ عن تقواكم وإيمانكم فإنّ له ما في السماوات وما في الأرض وكان ولا يزال غنيّا حميدا.

د. وأمّا الرابعة التي تليها فعاطفة على مقدّر معطوف على جواب الشرط تقديره: وإن تكفروا بالله وبرسوله فإنّ الله وكيل عليكم ووكيل عن رسوله وكفى بالله وكيلا.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/271.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين، وما يجب من علاج لأدواء النفوس فيها، ووجوب العدالة الممكنة بها، وما يجب عند تعذر العدالة الحقيقية، وأنه إذا تعصى الداء، وتعذر العلاج كان الفراق آخر الدواء، في هذه الحال يكون كلاهما في سعة من رحمة الله الواسعة، في هذه الآيات يشير سبحانه إلى سعة ملكه، وأن كل شيء في ملكه وتحت سلطانه، فهو الذى يغنى كلا، وهو القادر على كل شيء وأنه بعد بيان عظم قدرته وسلطانه يبين وجوب العدالة بين الناس في علاقاتهم بعضهم ببعض، كما يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله﴾ [النساء] وقد توسطت هذه الآيات الدالة على عظم سلطان الله تعالى بين الأمر بالعدل في داخل الأسرة، وهي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وبين الأمر بالعدالة في المجتمع الأكبر، وكان ذلك التوسط لتربية المهابة من الله في قلب المؤمن، فيتجه إلى العدل الذى هو ميزان العلاقات الإنسانية كلها.

2. جاء في تفسير الطبري وجه آخر للمناسبة قال فيه ما نصه: (وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ تنبيها منه لخلقه على موضع الرهبة عند فراق أحدهم زوجه، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوحشة بفراق سكنه وزوجه، وتذكيرا منه أنه هو الذى له الأشياء كلها، وأن من كان له ملك جميع الأشياء فغير متعذر عليه أن يغنيه وكل ذي فاقة وحاجة ويؤنس كل ذي وحشة)

3. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي لله وحده ما في السموات والأرض من مطر ينزل، وأرض تنتج، وشمس تمد الكون بالدفء والحرارة والضوء، وقمر منير، ونجوم تزين السماء الدنيا، وهو سبحانه وتعالى يملك ذلك كله ملك اختصاص وسلطان وقدرة وإنشاء، فهو الذى أبدعه على غير مثال سبق، وهو رب الدين في السماء والأرض، وهو الذى يوزع الأرزاق بمقتضى حكمته، وهو القاهر فوق عباده، يقيم العدل ويغنى كلا من سعته بما يشاء، وأنه لم يترك‏ الناس هملا، بل أنزل عليهم الكتب السماوية تدعو إلى التفكير في ملكه، وخلقه، وتتجه إلى عبادته سبحانه وتعالى وحده وتقواه وحده، ولذا قال ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله﴾ الخطاب في هذا النص لأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والكتاب المراد به جنس الكتاب، لا واحده، أي الذين أوتوا علم النبوة من قبلكم برسل أرسلوا إليهم، وكتب سجلت أوامر الله تعالى ونواهيه، وخطاب من الوحى الإلهي نزل إليهم، وقد دعاهم سبحانه وتعالى كما دعاكم إلى أن تتقوا الله تعالى في كل أعمالكم، بحيث تتربى مهابته في قلوبكم، فتذكرونه في كل تصرفاتكم، فإن وسوست نفوسكم بظلم ذكرتموه فامتنعتم، وإن همت بفساد ذكرتموه فاعتصمتم، وإن أصابكم جزع ذكرتموه فاطمأننتم، وإن أصابكم فاقة ذكرتموه فصبرتم، وإن أصابتكم بأساء ذكرتموه فارتضيتم، وإن أصابتكم نعماء ذكرتموه فشكرتم، فالأمر بالتقوى أمر جامع لكل معانى الإيمان والتوحيد.

4. ولذا أكد سبحانه الأمر بالتقوى بأربعة مؤكدات:

أ. أولها: التأكيد باللام وقد، فـ (قد) وحدها مؤكدة، واللام تتضمن معنى القسم فهي مؤكد آخر، وهذا ما تضمنه قوله تعالى: (ولقد) في صدر الكلام.

ب. ثانيها: التعبير بقوله ـ جل جلاله ـ (وصينا)، فإن التوصية تكون طلبا مشددا لا يقتصر على زمان الأمر، بل يتعاقب الطلب بتعاقب الأزمان والدهور، ولا يقتصر على زمان دون زمان، وهذا يفيد أن الأمر بالتقوى قانون محكم، لا يعتريه فسخ ولا تغيير مهما تختلف العصور؛ لأنه لب الأديان.

ج. ثالثها: ذكر كتب النبيين السابقين مع خطاب أمة خاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن ذلك الذكر يفيد أن التقوي شريعة السماء.

د. رابعها: التعبير بـ (أن) في قوله تعالى جلت قدرته‏ ﴿أَنِ اتَّقُوا الله﴾ فإنها هي (أن) المفسرة، أي أنه سبحانه وتعالى يفسر وصيته الخالدة الباقية بأنها شيء واحد، وهو الأمر بالتقوى، ومن المقرر في علم البيان العربي أن الإبهام ثم البيان‏ يؤكد المعنى في النفس أفضل تأكيد، وقد قال الزمخشري إن لفظ (أن) يحتمل أن تكون أن فيه مصدرية، والمعنى: وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، والتعبير بالمصدر المؤول المنسبك من (أن) وما يليها فيه توكيد لمعنى المصدرية؛ إذ فيه تصوير واضح للفعل والقيام به، وإن قوله تعالى و﴿إِيَّاكُمْ﴾ هو من قبيل عطف الضمير على الاسم الظاهر، فيكون في موضع النصب، ولذلك انفصل الضمير.

5. وقد أكد سبحانه وتعالى وصيته الخالدة ببيان نتيجة مخالفتها، وأنها لمنفعة العبادة، فقال سبحانه: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وإن الأمر بالتقوى فيه خيركم، إذ فيه سلامة اعتقادكم، واطمئنان قلوبكم؛ وصلاح جموعكم، ومنع الفساد في الأرض، وإن جحدتم أوامر الله تعالى، ولم تعبدوه وحده، وتخشوه حق الخشية، فستفسد أموركم أنتم، ولن يضر الله منكم شيء لأنه مالككم، ومالك كل ما في السموات والأرض، وهو بهذا الملك الظاهر والسلطان القاهر، يستغنى عن تقواكم، وهو المستحق للحمد الدائم، والمحمود في ذاته وشرائعه وأوامره ونواهيه في إنشائه وإبداعه، فلا يضيره كفر الكافر، ولا ينقص من سلطانه فجور الفاجر؛ لأن الجميع في قبضة يده وتحت سلطانه.

6. ولقد قال ابن جرير الطبري في معنى هذه الآية الكريمة: (وإن تجحدوا وصيته إياكم فتخالفوها فإن لله ما في السموات وما في الأرض، يقول فإنكم لا تضرون بخلافكم وصيته غير أنفسكم، ولا تعدون في كفركم هذا أن تكونوا أمثال اليهود والنصارى في نزول عقوبته بكم، وحلول غضبه عليكم، كما حل بهم، إذ بدلوا عهده، ونقضوا ميثاقه، فغير بهم ما كانوا فيه من خفض العيش، وأمن السرب، وجعل منهم القردة والخنازير، وذلك أن له ملك جميع ما حوته السموات والأرض، لا يمتنع عليه شيء أراد تجميعه.. من إعزاز من أراد إعزازه، وإذلال من أراد إذلاله)، ويرى من هذا التخريج أنه يرى أن الخطاب باحتمال الكفر موجه إلى الأمة المحمدية، ويكون قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ كلام مستأنف يبين نتائج مخالفة الأمر بالتقوى المؤكد، والذى جاءت به شرائع السماء كلها، وهذا هو الظاهر.

7. وقد قرر بعض العلماء أنه يجوز أن يكون في ضمن الوصية المؤكدة، ويكون المعنى: ووصينا أولى الكتاب وإياكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض، وإننا نرى أن الأول أظهر، وقد سار عليه ابن جرير، ووضح المعنى على أساسه.. وقد أكد سبحانه عظيم سلطانه، وحاجتهم إليه وغناه ـ جل ثناؤه ـ عنهم، فقال تعالت كلماته: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾ الوكيل هو من يتولى الأمر ويحفظه ويرعاه، والمعنى: كفى أن يكون الله تعالى حافظا للإنسان يتولاه، ويكلؤه ويقيه، فإذا كان الله تعالى غنيا عن عباده فعباده فقراء إليه، كما قال سبحانه: ﴿وَالله الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ [محمد] فعلى المؤمن أن يتقى الله تعالى، وأن يعلم أنه مالك أمره، وهو الذى يتوكل عليه، وأن الله سبحانه يحب المتوكلين لأنهم يحسون بقدرته، وعظم سلطانه، فكل متوكل عليه سبحانه يحس بعظم سلطان ربه، وضالة سلطانه وقدره وذلك إيمان صادق، إذا قام بما يستطيع، وما تمكنه قدرته المحدودة، ويترك بعد ذلك الأمر لربه.

8. هنا أمر يجب أن نشير إليه، وهو تكرار قوله تعالى: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فقد ذكر ذلك القول السامي ثلاث مرات، فلماذا كان ذلك التكرار؟ إنه بلا شك بهذا التكرار يتأكد المعنى الذى يشتمل عليه القول، ولكن هذا التوكيد للمعنى جاء في كل مرة مبينا معنى خاصا:

أ. فالذكر الأول كان لتربية الإحساس بعدله، وعظم سلطانه وسعة رحمته، وأنه تسع رحمته كل الناس، فينصف المظلوم، ويبسط الرزق لذى الفاقة، فلا يضيق أحد الزوجين بالفراق، بل الله سبحانه يكلؤه، ويسعه برحمته.

ب. وذكر ذلك القول في‏ المرة الثانية لبيان استغنائه عن خلقه، وأن تقواهم لمصلحة أنفسهم ولخيرهم، وليس له بها حاجة بل هو الغنى المحمود دائما.

ج. وذكر هذا الكلام في المرة الثالثة لبيان حاجة الناس إليه، وأنهم فقراء إليه في مقابل غناه عنهم، تعالى الله علوا كبيرا.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1887.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، تكلمنا عن التكرار في القرآن بصورة عامة ونتكلم الآن عن تكرار هذه الآية خاصة، لأنها أكثر الآيات ذكرا وتكرارا في القرآن، ثم نشير إلى تكرارها هنا بصوره أخص، حيث ذكرت بنصها الحرفي مرتين في آية واحدة، وأعيدت كذلك مرة ثالثة في الآية التي تليها بلا فاصل.

2. أما سبب تكرارها بوجه عام فلأن موضوعها الكون الذي يستدل به، وبما يحويه على وجود الله وصفاته، كالعلم والقدرة والارادة والحكمة فهو الدليل الجامع لجميع الدلائل والمدلولات بشتى أنواعها.. وعلى هذا يكون ذكر هذه الآية ذكرا للدليل على وجود الله وعظمته.

3. وأما ذكرها هنا ثلاث مرات فانه للإشارة إلى فوائد ثلاث:

أ. الأولى: قال تعالى‏ في الآية السابقة: ﴿يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ فناسب الاستدلال على هذه السعة بأن له ما في السموات والأرض.

ب. الثانية: قال: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي هو غني عمن كفر لأن له ما في السموات وما في الأرض.

ج. الثالثة: قال: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾، والمراد انه قادر على افناء من يعصي، وإيجاد من يطيع، لأن له ما في السموات وما في الأرض.. وعلى هذا فكل مرة من المرات الثلاث لها سبب موجب، ومقرونة بفائدة جديدة.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/457.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله﴾ تأكيد في دعوتهم إلى مراعاة صفة التقوى في جميع مراحل المعاشرة الزوجية، وفي كل حال، وأن في تركه كفرا بنعمة الله بناء على أن التقوى الذي يحصل بطاعة الله ليس إلا شكرا لأنعمه، أو أن ترك تقوى الله تعالى لا منشأ له إلا الكفر إما كفر ظاهر كما في الكفار والمشركين، أو كفر مستكن مستبطن كما في الفساق من المؤمنين.

2. وبهذا الذي بيناه يظهر معنى قوله: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي إن لم تحفظوا ما وصينا به إياكم والذين من قبلكم وأضعتم هذه الوصية ولم تتقوا وهو كفر بالله، أو عن كفر بالله فإن ذلك لا يضر الله سبحانه إذ لا حاجة له إليكم وإلى تقواكم، وله ما في السماوات والأرض، وكان الله غنيا حميدا.

3. سؤال وإشكال: ما وجه تكرار قوله: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فقد أورد ثلاث مرات؟ والجواب: أما الأول فإنه تعليل لقوله: ﴿وَكَانَ الله وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ وأما الثاني فإنه واقع موقع جواب الشرط في قوله: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ والتقدير: وإن تكفروا فإنه غني عنكم، وتعليل للجواب وقد ظهر في قوله: ﴿وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا﴾، وأما الثالث فإنه استيناف وتعليل بوجه لقوله: ﴿إِنْ يَشَأْ﴾

4. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾ قد مر بيان معنى ملكه تعالى مكررا، وهو تعالى وكيل يقوم بأمور عباده وشئونهم وكفى به وكيلا لا يحتاج فيه إلى اعتضاد وإسعاد، فلو لم يرتض أعمال قوم وأسخطه جريان الأمر بأيديهم أمكنه أن يذهب بهم ويأتي بآخرين، أو يؤخرهم ويقدم آخرين، وبهذا المعنى الذي يؤيده بل يدل عليه السياق يرتبط بما في هذه الآية قوله في الآية التالية ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ﴾

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/104.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فيه دلالة على أن من فيهما عباده يحكم فيهم ما يريد، فالأحكام الماضية في السورة وغيرها كلها حق، ومن ذلك الصلح بين الزوجين والتفرق إن كان، فعلى العباد أن يطيعوه ليتقوا عذابه، ولقد وصى بتقواه الأولين والآخرين، فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس، وهي نعمة ورحمة لمن قَبِلَها.

2. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ نعمة الله وتخالفوا وصيته، أو وإن تكفروا بوصيته وتجحدوا أنها منه ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فإنما أنتم عبيد عصوا ربهم فاستحقوا العقاب ﴿وَكَانَ الله غَنِيًّا﴾ كقوله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنْكُمْ﴾ [الزمر:7] وهنا زيادة الإطلاق، فهو ما زال غنياً عن كل شيء ﴿حَمِيدًا﴾ مستحقاً للحمد أهلاً لئن يُحمَد ولو لم تحمدوه وكفرتم نعمته، وهذا يرجح تفسير الكفر هنا بكفر النعمة.

3. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾ فهو مدبر شؤون عباده بأرزاقهم وغيرها من أحوالهم، وبما شرع لهم من الأحكام، وبما أنزل من الكتب، وأوحاه إلى الرسل، وبما جعل من العقول والأسماع والأبصار، وتدبير أسباب سعادتهم في الآخرة، وسلامتهم من العذاب، وغير ذلك من تدبير شؤونهم ﴿وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾ توكل إليه أمور عباده؛ لأنه القدير العليم الرحيم الكريم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/185.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إنها الحقيقة التي تفرض نفسها على الحياة والفكر والشعور، وتتحرك في كل اتجاه في عملية تحدّ وإيحاء بالقوة والثقة، ودعوة للالتزام والانضباط والعمل.. ففي البداية كانت للإيحاء بالثقة بأن الله يغني كلّا من سعته، لأن ملكه وسع السموات والأرض وما فيهنّ، فكيف يمكن للإنسان مع هذه‏ الحقيقة أن يخاف الفقر على نفسه في أية حالة من الحالات؟ ثم كانت الدعوة إلى التقوى ومراقبة الله في كل الأمور، والعمل بطاعته فيما يأمر به وما ينهى عنه؛ هذه الدعوة التي وجهها الله إلى أهل الكتاب وإلى المسلمين وأراد منهم الالتزام بها في خط الإيمان وأطلق هذه الحقيقة ـ بعد ذلك ـ في مقام التحدي لمن أراد أن يكفر بالله ولا يراقبه، بأن الله كان غنيا عنهم حميدا في كل أفعاله، لأنهم جزء مما في السموات والأرض الذي هو ملك الله سبحانه، ثم وجههم إلى أن يعملوا ليكونوا تحت رعايته التي هي سر وجودهم ووجود كل شيء في السموات والأرض، مما يحتويه ملكه، مما يتصرف به من دون أن تحتاج الموجودات معه إلى أيّ مخلوق؛ ﴿وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾ في القيام بأمور عباده وشؤونهم.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/497.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد أوضحت الآية السابقة أن إذا اقتضت الضرورة لزوجين أن ينفصلا عن بعضهما دون أن يجدا حلا بديلا عن الانفصال فلا مانع من ذلك، وليس عليهما أن يخافا من حياة المستقبل، لأن الله سيشملهما بكرمه وفضله، ويزيل احتياجاتهما برحمته وبركته، أمّا في الآية الكريمة فإنّ الله يؤكّد قدرته على إزالة ورفع تلك الاحتياجات، لأنّه مالك ما في السموات وما في الأرض‏ ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وإنّ من يملك ملكا لا نهاية له كهذا الملك، ويملك قدرة لا نفاذ لها أبدا، لن يكون عاجزا ـ مطلقا ـ عن رفع احتياجات خلقه وعباده.

2. ولكي تؤكّد الآية ضرورة التقوى في هذا المجال وفي أي مجال آخر، تشير الآية إلى أنّ اليهود والنصارى وكل من كان له كتاب سماوي قبل المسلمين قد طلب منهم جميعا كما طلب منكم مراعاة التقوى‏ ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله﴾

3. بعد ذلك تتوجه الآية إلى مخاطبة المسلمين، فتؤكد لهم أن الالتزام بحكم التقوى سيجلب النفع لهم، وأن ليس لله بتقواهم حاجة، كما تؤكد أنّهم إذا عصوا وبغوا، فإنّ ذلك لا يضرّ الله أبدا، لأنّ الله هو مالك ما في السّموات وما في الأرض، فهو غير محتاج إلى أحد أبدا، ومن حقّه أن يشكره عباده دائما وأبدا، ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا﴾، الغنى وعدم الحاجة هما من صفات الله سبحانه وتعالى ـ حقيقة ـ لأنّه عزّ وجلّ غني بالذات، وارتفاع حاجات غيره وزوالها إنّما يتمّ بعونه ومدده، وكل المخلوقات محتاجة إليه احتياجا ذاتيا، لذلك فهو يستحق ـ لذاته ـ أن يشكره عباده ومخلوقاته، كما أنّ كمالاته التي تجعله أهلا للشكر ليست خارجة عن ذاته، بل هي كلّها في ذاته، وهو ليس كالمخلوقات التي تمتلك صفاتا كمالية عرضية خارجية مكتسبة من الغير.

4. في الآية التالية جرى التأكيد ـ وللمرة الثّالثة ـ على أنّ كل ما في السموات وما في الأرض هو ملك للّه، وإنّ الله هو الحافظ والمدبر والمدير لكل الموجودات‏ ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾

5. سؤال وإشكال: قد يرد سؤال ـ هنا ـ عن سبب تكرار موضوع واحد لثلاث مرات وفي فواصل متقاربة جدّا، وهل أن هذا التكرار من أجل التأكيد على الأمر الوارد في هذا الموضوع، أم هناك سرّ آخر؟ والجواب: بالإمعان في مضمون الآيات يظهر لنا أن الموضوع المتكرر ينطوي في كل‏ مرّة على أمر خاص:

أ. ففي المرّة الأولى: حيث تحمل الآية وعدا لزوجين بأنّهما إذا انفصلا فإن الله سيغنيهما ولأجل إثبات قدرة الله على ذلك، يذكر الله ملكيته لما في السموات وما في الأرض.

ب. أمّا في المرّة الثّانية فإنّ الآية توصي بالتقوى، ولكي لا يحصل وهم بأن إطاعة هذا الأمر ينطوي على نفع أو فائدة للّه، أو أن مخالفته ينطوي على الضرر له، فقد تكررت الجملة للتأكيد على عدم حاجة الله لشيء، وهو مالك ما في السموات وما في الأرض، وهذا الكلام يشبه في الحقيقة ما قاله أمير المؤمنين علي عليه السّلام في مستهل خطبة الهمّام الواردة في كتاب نهج البلاغة حيث قال عليه السّلام: (بأنّ الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيّا عن طاعتهم آمنا عن معصيتهم لأنه لا تضرّه معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/481.

116. غنى الله عن عباده وسنة الاستبدال

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈116⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ [النساء: 133]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

أبو هريرة:

روي عن أبي هريرة (ت 58 هـ) أنّه قال: تلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الآية: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ محمد: ٣٨]، فقالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على منكب سلمان، ثم قال: هذا وقومه(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٨٢.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾، قال قادر ـ والله ـ ربنا على ذلك؛ أن يهلك من خلقه ما شاء، ويأت بآخرين من بعدهم(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٨٢.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ثم قال عز وجل: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ بالموت ﴿أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ يعني: بخلق غيركم أطوع منكم، ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ أن يذهبكم ويأت بغيركم إذا عصيتموه(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٣.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ تأويله والله أعلم ـ:

أ. أي من له ما في السماوات وما في الأرض يقدر أن يذهبكم، أي: يهلككم، ويأتي بآخرين أخير منكم، وأخوف وأطوع لله منكم، لكنه لا يفعل؛ لأنه غني عن عبادتكم وطاعتكم، لم يخلقكم في الابتداء لحاجته في عبادتكم أو لمنفعة له؛ ولكن لحاجة أنفسكم ومنافعكم.

ب. ثم يحتمل قوله عز وجل: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾: في قوم خاص، كما كان في الأمم الخالية من الإهلاك عند المعاندة والمكابرة.

ج. ويحتمل في الكل ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾، أي: يهلككم: الكل، ويأت بآخرين.

2. وقوله عز وجل: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ أي: كان الله على الإهلاك والإبدال قديرًا، ولا قوة إلا بالله.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٨٤.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ روينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال لما نزلت هذه الآية ضرب بيده على ظهر سلمان وقال: (هم قوم هذا) يعني عجم الفرس.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/197.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ روى سهل بن أبي صالح عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه لما نزلت ضرب بيده على ظهر سلمان وقال: (هُمْ قَوْمُ هّذا) يعني عجم الفرس.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٣٤).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ معناه، ان يشأ الله أيها الناس ان يهلككم، ويفنيكم ويأت بقوم آخرين غيركم ينصرون نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ويؤازرونه، كان الله تعالى على ذلك قديراً، فوبخ تعالى بهذه الآيات الخائنين الذين خانوا الدرع‏ وساعدوهم على ذلك، ودافعوا عنهم وحذر أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يكونوا مثلهم وان يفعلوا فعل المرتد منهم في ارتداده ولحاقه بالمشركين وبين أن من فعل ذلك لا يضر إلا نفسه، لأنه المحتاج إليه تعالى وغناه عنه عز وجل وعن جميع الخلق.

2. ‏ وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه لما نزلت هذه الآية ضرب بيده على ظهر سلمان، فقال: هم قوم هذا رواه ابو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/353.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. قيل: لما ذكر ملك السماوات والأرض وغناه عن الخلق ذكر اقتداره على خلقه بالإهلاك والإنجاء والاستبدال، ثم ذكر في الآية الثانية: عظيم ملكه وقدرته بأن جزاء الدارين عنده، ذكره على بن عيسى.

ب. وقيل: لما ذكر أن له ما في السماوات والأرض بقدرته عليها، ذكر قدرته على التغيير والتبديل والإفناء والإعادة، ثم عقب ذلك ببيان كمال قدرته بأن عنده جزاء الدنيا والآخرة، فمن أراد شيئًا منها فهو القادر على إيصاله إليه، عن أبي مسلم.

2. قيل: نزلت في الَّذِينَ خانوا في الدرع الذي مضى ذكره، وذكر الأصم أن العرب كانت تنكر البعث، ويقولون: لا دار إلا الدنيا، وهي طلبتهم، فأنزل الله تعالى الآية، وأمرهم بطلب الدارين من عنده.

3. ﴿إِنْ يَشَأْ﴾ يعني الله الذي له ما في السماوات والأرض إن يشأ ﴿يُذْهِبْكُمْ﴾:

أ. قيل: فيه محذوف، أي: إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم، والمعنى يذهبكم بالإهلاك ﴿أَيُّهَا النَّاسُ﴾ قيل: خطاب لأهل مكة.

ب. وقيل: خطاب للكفار والمنافقين.

ج. وقيل: للذين ذبوا عن الخائن في الدرع.

د. وقيل: خطاب لجميع الذابين، عن الأصم وأبي علي، وهو الصحيح.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾:

أ. قيل: بناس آخرين لنصرة الإيمان والَّذِينَ هم خير وأطوع، قيل: هم أهل المدينة بدل أهل مكة.

ب. وقيل: هو على التقدير يعني أنه قادر على إماتة جميع الخلق وإيجاد خلق آخر، وهو إشارة إلى كمال قدرته ووعيد للقوم.

ج. وقيل: هم العجم بدل العرب، وروي أنه لما نزلت هذه الآية ضرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يده على ظهر سلمان وقال: (هم قوم هذا) يعني عجم الفرس.

5. ﴿وَكَانَ اللهُ﴾ لم يزل ﴿عَلَى ذَلِكَ﴾ الإبدال والإفناء والإعادة ﴿قَدِيرًا﴾ أي: قادرًا.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. عظيم قدرته على تبديل الخلق وإفنائهم، وذلك لأنه يقدر على إعادة مقدوراته الباقية بعد عدمها، ولا يجوز ذلك في مقدورات القدر.

ب. أن منافع الدارين عنده، فينبغي أنْ يطلب من جهته، وفيه ترغيب للعبد في فعل ما ينال به رضوانه وثوابه.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/102.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر سبحانه غناه عن الخلق بأن له ملك السماوات والأرض، عقب ذلك بذكر كمال قدرته على خلقه، وأن له الإهلاك، والإنجاء، والاستبدال بعد الإفناء، فقال: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾:

أ. يعني إن يشأ الله يهلككم ﴿أَيُّهَا النَّاسُ﴾ ويفنكم.

ب. وقيل: فيه محذوف أي: إن يشأ أن يذهبكم، يذهبكم أيها الناس ﴿وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ أي: بقوم آخرين غيركم، ينصرون نبيه، ويؤازرونه.

2. يروى أنه لما نزلت هذه الآية، ضرب النبي يده على ظهر سلمان، وقال: هم قوم هذا يعني عجم الفرس.

3. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ أي لم يزل سبحانه، ولا يزال، قادرا على الإبدال والإفناء والإعادة.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/186.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ قال ابن عباس: يريد المشركين والمنافقين‏ ﴿وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ أطوع له منكم، وقال أبو سليمان: هذا تهدّد للكفّار، يقول: إن يشأ يهلككم كما أهلك من قبلكم إذ كفروا به، وكذّبوا رسله.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/484.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ والمراد منه أنه تعالى قادر على الإفناء والإيجاد، فإن عصيتموه فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية، وعلى أن يوجد قوما آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه، فالغرض هاهنا تقدير كونه سبحانه وتعالى قادرا على جميع المقدورات.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/241.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ يعني بالموت ﴿أَيُّهَا النَّاسُ﴾، يريد المشركين والمنافقين، ﴿وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ يعني بغيركم، ولما نزلت هذه الآية ضرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على ظهر سلمان وقال: (هم قوم هذا)، وقيل: الآية عامة، أي وإن تكفروا يذهبكم ويأت بخلق أطوع لله منكم، وهذا كما قال في آية أخرى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾

2. في الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورئاسة فلا يعدل في رعيته، أو كان عالما فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس، أن يذهبه ويأتي بغيره، ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ والقدرة صفة أزلية، لا تتناهى مقدوراته، كما لا تتناهى معلوماته، والماضي والمستقبل في صفاته بمعنى واحد، وإنما خص الماضي بالذكر لئلا يتوهم أنه يحدث في ذاته وصفاته، والقدرة هي التي يكون بها الفعل ولا يجوز وجود العجز معها.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/409.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ أي: يفنكم‏ ﴿وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ أي: بقوم آخرين غيركم، وهو كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾

__________

(1) فتح القدير: ‏1/604.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿اِنْ يَّشَأْ يُذْهِبْكُمُ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَاتِ بئَاخَرِينَ﴾ بدَلَكم، دفعة من جنسكم، وقيل: من جنس آخر، ورد بأنَّ لفظ (آخر) لا يستعمل إلَّا في المغايرة بين أبعاض جنس واحد، فلا تقل: جاءت أَمَة وعبدٌ آخر، ولا رجلٌ وامرأة أخرى، وأيضًا لا دليل في الآية على غير الجنس المذكور، فلزم أن يكون المقدَّر من جنس ما ذكر، أي: بناس آخرين، أو قوم آخرين، والصحيح جواز: (مررت برجلين وآخر)، لظهور أنَّ المراد ورجل آخر، ولا يشترط أن يقال: وآخريْن بالتثنية، ويجوز: (جاء زيد وأخرى)، أي: ونسمة أخرى، وفيه أنَّه لا دليل على المحذوف، نعم (جاء زيد وآخر) تريد: ورجل آخر، أو إنسان آخر.

2. المراد: يأت بآخرين من الإنس، أو للناس كلِّهم، فالمراد بآخرين الجنُّ أو ما شاء الله، وذلك تثبيت لأهل الطاعة عليها، وتهديد لأهل المعصية بإذهابهم والإتيان بمن يعبده: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ [القتال: 38]

3. روي أنَّه لَمَّا نزلت ضرب يده على ظهر سلمان وقال: (هم قوم هذا)، يريد أبناء فارس، ولم نتحقَّق قومًا من الفرس مخصوصين مجتمعين على إقامة الدين إلَّا عبد الرحمن بن رستم إمامنا بالمغرب وأولاده، ومن تبعهم.

4. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ ذَالِكَ﴾ المذكور من إذهاب من شاء، والإتيان بغيرهم ﴿قَدِيرًا﴾ فإنَّه على كلِّ شيء قدير.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/312.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ أي: يفنكم ويستأصلكم بالمرّة ﴿أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ أي: ويوجد، دفعة مكانكم، قوما آخرين من البشر، أو خلقا آخرين مكان الإنس يعني أن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم، ولعدم تعلق مشيئته المبنيّة على الحكم بالبالغة بإفنائكم، لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

2. ﴿وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ﴾ أي: إهلاككم بالمرة وتخليق غيركم‏ ﴿قَدِيرًا﴾ بليغ القدرة، كما قال تعالى:‏ ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: 38]، وقال تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾ [إبراهيم: 19]، ففيه تقرير لغناه وقدرته، وتهديد لمن كفر به، قال بعض السلف، ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره!

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/367.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ إذا علمتم أيها الناس أن لله ما في السماوات وما في الأرض يتصرف فيه كيف شاء فاعلموا أنه إن يشأ أن يذهبكم بعذاب ينزله بكم أو أمة قوية يسلطها عليكم فتسلب استقلالكم حتى تجعلكم عبيدا أو كالعبيد لها لا تستطيعون أن تقوموا بمصالحكم ومنافعكم التي بها وحدتكم فإن يذهبكم ﴿وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ يحلون محلكم في الوجود أو الحكم والتصرف، وقال في سورة أخرى: ﴿إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، ما ذلك على الله بعزيز﴾ [إبراهيم: 20،19] وفي سورة أخرى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38]

2. قيل إن الآية من قبيل هاتين الآيتين في تهديد المشركين الذين كانوا يؤذون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقاومون دعوته، والظاهر أنها تنبيه للناس وتوجيه لأفكارهم إلى التأمل في سننه تعالى بحياة الأمم وموتها وكون هذه السنن إذا تعلقت بها المشيئة لا مرد لها ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ لأن بيده ملكوت كل شيء.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/369.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ أي إن يرد إفناءكم واستئصالكم من الوجود وإيجاد قوم آخرين من البشر يحلون محلكم في الحكم والتصرف فهو قادر على ذلك، لأن كل ما في السموات والأرض فهو تحت قبضته وخاضع لسلطانه.

2. والخلاصة ـ إن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم، ولأن مشيئته لم تتعلق بهذا الإفناء لحكم ومصالح أرادها سبحانه، لا لعجز عن ذلك، تعالى الله علوا كبيرا.

3. ومثل هذه الآية قوله تعالى:‏ ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾

4. وفى هذه الآيات تهديد للمشركين الذين كانوا يؤذون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقاومون دعوته، وتنبيه للناس إلى التأمل في سنن الله التي جرت في حياة الأمم وموتها، وإن هذه السنن إذا تعلقت بها المشيئة وقعت لا محالة.

5. ﴿وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ أي وكان الله قديرا على ذلك الإفناء وإيجاد خلق آخر، إذ بيده ملكوت كل شيء لكنه لحكم يعلمها لم تتعلق إرادته بذلك.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/177.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الله تعالى قادر على أن يذهب بهم ويستبدل قوما غيرهم، إنما هو يوصيهم بالتقوى لصلاحهم هم، ولصلاح حالهم.

2. وبقدر ما يقرر الإسلام كرامة الإنسان على الله؛ وتكريمه على كل ما في الأرض، وكل من في الكون.. بقدر ما يقرر هو أنه على الله حين يكفر به، ويعتو ويتجبر، ويدعي خصائص الألوهية بغير حق.. فهذه كفاء تلك في التصور الإسلامي، وفي حقيقة الأمر والواقع كذلك.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/773.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ هو تذكير بقدرة الله، كما هو إشارة إلى ضآلة شأن الإنسان الذي يخيّل له من جهله وغروره أنه سيّد هذا الوجود، ثم يمتد به حبل هذا الجهل والغرور، فيحسب أنه هو الذي يخلق، ويرزق، وأنه ليس له خالق أو رازق! وهذا سفه وضلال، فلو شاء الله أن يردّ الناس إلى عدم، كما أنشأهم من عدم، لكان ذلك على الله يسيرا.. ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]

2. في قوله تعالى: ﴿وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ إثارة لغريزة حب البقاء في الإنسان، ودعوة له إلى التشبث بوجوده، وفي ذلك ما يحمله على اللّجإ إلى الله، والولاء له، والتعلق بذاته، حتى لا يقع تحت هذا الحكم الذي يكاد يذهب به مذهب الضياع والفناء.

3. سؤال وإشكال: هؤلاء الآخرون.. على أية صفة يكونون؟ أهم ناس كهؤلاء الناس، أم مخلوقات من أجناس أخرى من غير جنسهم؟ وإذا كان هؤلاء الآخرون هم صورة أخرى لهؤلاء الناس، فما الحكمة من إذهاب هؤلاء والإتيان بأولئك؟ والجواب: ـ والله أعلم ـ هو أن يكون هؤلاء الآخرون من عالم الناس.. فهذا هو الذي يحرك مشاعر الغيرة في هؤلاء الذين يراد بهم التحول عن مكانهم ليشغله غيرهم من بنى جنسهم، حيث لا تكون الغيرة والتنافس إلا بين أفراد الجنس، وبين جماعاته، ثم إن الناس ليسوا على حال واحدة ـ وإن كانوا جنسا واحدا ـ فمنهم المؤمنون ومنهم الكافرون، وفيهم المهتدون وفيهم الضالون.. وعلى هذا يمكن أن يكون الإذهاب للضالين الكافرين، والإتيان للمؤمنين المهتدين، أو لمن يغلب فيهم الإيمان والهدى على الكفر والضلال.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/926.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جملة ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ واقعة موقع التفريع عن قوله: ﴿غَنِيًّا حَمِيدًا﴾، والخطاب بقوله: ﴿أَيُّهَا النَّاسُ﴾ للناس كلّهم الذين يسمعون الخطاب تنبيها لهم بهذا النداء.

2. معنى‏ ﴿يَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ يوجد ناسا آخرين يكونون خيرا منكم في تلقي الدين، وقد علم من مقابلة قوله: ﴿أَيُّهَا النَّاسُ﴾ بقوله: ﴿بِآخَرِينَ﴾ أنّ المعنى بناس آخرين غير كافرين، على ما هو الشائع في الوصف بكلمة آخر أو أخرى، بعد ذكر مقابل‏ للموصوف، أن يكون الموصوف بكلمة آخر بعضا من جنس ما عطف هو عليه باعتبار ما جعله المتكلّم جنسا في كلامه، بالتصريح أو التقدير، وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى لزوم ذلك، واحتفل بهذه المسألة الحريري في (درّة الغوّاص)، وحاصلها: أنّ الأخفش الصغير، والحريري، والرضيّ، وابن يسعون، والصقلي، وأبا حيان، ذهبوا إلى اشتراط اتّحاد جنس الموصوف بكلمة آخر وما تصرّف منها مع جنس ما عطف هو عليه، فلا يجوز عندهم أن تقول: ركبت فرسا وحمارا آخر، ومثّلوا لما استكمل الشرط بقوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 184] ثم قال: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 185] وبقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم: 19، 20] فوصف مناة بالأخرى لأنّها من جنس اللات والعزّى في أنّها صنم، قالوا: ومثل كلمة آخر في هذا كلمات: سائر، وبقية، وبعض، فلا تقول: أكرمت رجلا وتركت سائر النساء، ولقد غلا بعض هؤلاء النحاة فاشترطوا الاتحاد بين الموصوف بآخر وبين ما عطف هو عليه حتّى في الإفراد وضدّه، قاله ابن يسعون والصقلي، وردّه ابن هشام في (التذكرة) محتجّا بقول ربيعة بن مكدم:

çولقد شفعتهما بآخر ثالث‏...وأبى الفرار لي الغداة تكرمي‏é

وبقول أبي حيّة النميري:

çوكنت أمشي على رجلين معتدلا...فصرت أمشي على أخرى من الشّجرé

وقال قوم بلزوم الاتّحاد في التذكير وضدّه، واختاره ابن جنّي، وخالفهم المبرّد، واحتجّ المبرّد بقول عنترة:

çوالخيل تقتحم الغبار عوابسا...من بين شيظمة وآخر شيظم‏é

وذهب الزمخشري وابن عطية إلى عدم اشتراط اتّحاد الموصوف بآخر مع ما عطف هو عليه، ولذلك جوزا في هذه الآية أن يكون المعنى: ويأت بخلق آخرين غير الإنس، واتّفقوا على أنّه لا يجوز أن يوصف بكلمة آخر موصوف لم يتقدّمه ذكر مقابل له أصلا، فلا تقول: جاءني آخر، من غير أن تتكلّم بشيء قبل، لأنّ معنى آخر معنى مغاير في الذات مجانس في الوصف، وأمّا قول كثير:

çصلّى على عزّة الرحمن وابنتها...لبنى وصلّى على جاراتها الأخرé

فمحمول على أنّه جعل ابنتها جارة، أو أنّه أراد: صلى على حبائبي: عزّة وابنتها وجاراتها حبائبي الأخر، وقال أبو الحسن لا يجوز ذلك إلا في الشعر، ولم يأت عليه بشاهد، قال أبو الحسن: وقد يجوز ما امتنع من ذلك بتأويل، نحو: رأيت فرسا وحمارا آخر بتأويل أنّه دابّة، وقول امرئ القيس:

çإذا قلت هذا صاحبي ورضيته‏...وقرّت به العينان بدّلت آخراé

وقد يجعل بيت كثير من هذا، ويكون الاعتماد على القرينة، وقد عدّ في هذا القبيل قول العرب: (تربت يمين الآخر)، وفي الحديث: قال الأعرابي للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ الآخر وقع على أهله في رمضان) كناية عن نفسه، وكأنّه من قبيل التجريد، أي جرّد من نفسه شخصا تنزيها لنفسه من أن يتحدّث عنها بما ذكره، وفي حديث الأسلمي في (الموطأ): أنّه قال لأبي بكر (إنّ الآخر قد زنى) وبعض أهل الحديث يضبطونه ـ بالقصر وكسر الخاء ـ،، وصوّبه المحقّقون.

3. في الآية إشارة إلى أنّ الله سيخلف من المشركين قوما آخرين مؤمنين، فإنّ الله أهلك بعض المشركين على شركه بعد نزول هذه الآية، ولم يشأ إهلاك جميعهم، وفي الحديث: لعلّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده‏.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/273.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد هذا بين سبحانه قدرته القاهرة، وأنه هو الذى أنشأ الناس، وطالبهم بالعبادة، وأن من أنشأ يستطيع الإفناء، ويستطيع التبديل والتغيير في خلقه، فيستبدل بالناس ناسا، وبالأقوام أقواما، ولذلك قال سبحانه: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ والمعنى الجملي للنص السامي إن يشإ الله تعالى أيها الناس إفناءكم ويأت بآخرين، فإنه سبحانه وتعالى يفعل؛ لأنه على ذلك قادر قدرة مطلقة لا يحدها حد، وهي العامة الشاملة لكل شيء وهنا نجد جواب الشرط قد حذف ودل عليه قوله تعالى: ﴿وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ وحذفه مع ما يدل عليه يجعل الذهن يتجه إلى تعرف مدى عظمته وقدرته، وحذف مفعول المشيئة في قوله: ﴿إِنْ يَشَأْ﴾ قد دل عليه جواب الشرط في قوله: ﴿يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾

2. سؤال وإشكال: من هم الناس الذين خوطبوا بذلك الخطاب؟ والجواب: يحتمل هذا وجهين:

أ. أحدهما: أن يكون الخطاب للناس في أمة محمد، ومن كانوا قبلهم، ويكون الكلام تابعا لمقول القول المقدر عند من قدره في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ ويكون أيضا قوله تعالى: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾ له هذه التبعية، ويكون الكلام كله في خطاب السابقين واللاحقين، وقد قلنا إن ذلك غير الظاهر.. وعلى هذا الوجه يكون المعنى: إن يشأ سبحانه أن يذهب بهذا العالم الإنساني ويأتي بعالم‏ آخر يعبده ويؤمن به فإنه الفاعل المختار المريد، ويكون القصد بيان قدرة الله تعالى الشاملة، وإثبات أن كفر الكافر ليس بعيدا عن تقديره، وإيمان المؤمن كذلك، فهو الذى خلق الإنسان صالحا لأن يسلك طريق الشر وطريق الخير، وأن ذلك بإرادته، ولو أراد غيره لكان ما أراد لأنه هو الذى يقول للشى‏ء كن فيكون، وهو الذى خلق الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ويكون ذلك كقوله تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [فاطر]

ب. الثاني: أن يكون الخطاب في أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو بهذا يشمل المؤمنين والمشركين، ويكون للمشركين بشكل خاص، وإن اختلاف التوجيه على هذا النحو يترتب عليه الاختلاف في جواب الشرط، وهو من الذين يذهبهم الله تعالى، ويأتي بآخرين، وله القدرة التامة على تنفيذ ما يقول تعالى؟.. وعلى هذا الوجه يكون المعنى إن استمررتم على الشرك أو كان منكم الكفر بعد الإيمان فإن الله تعالى بمقتضى سننه في الفطرة الإنسانية يفنيكم بإذهاب قوتكم وسيطرة الفساد عليكم، ويجيء من بعدكم من ينصر الحق، ويكون النص كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد] وكقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54]

3. وقد ذيل الله سبحانه النص الكريم ببيان قدرته الكاملة على ذلك التغيير، فقال تعالى: ﴿وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى قدير على ذلك التغيير والتبديل الذى تستغربونه وتستبعدونه، وقد قدم الجار والمجرور وهو قوله: ﴿عَلَى ذَلِكَ﴾ لموضع الاهتمام وهو التغيير والتبديل، الذى يستبعدونه لفرط إحساس المشركين بقوتهم، وغرورهم بدولتهم، واستضعافهم لشأن المؤمنين الصادقين.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1892.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾، والمراد انه قادر على افناء من يعصي، وإيجاد من يطيع، لأن له ما في السموات وما في الأرض.. وعلى هذا فكل مرة من المرات الثلاث لها سبب موجب، ومقرونة بفائدة جديدة.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/457.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾ قد مر بيان معنى ملكه تعالى مكررا (2)، وهو تعالى وكيل يقوم بأمور عباده وشئونهم وكفى به وكيلا لا يحتاج فيه إلى اعتضاد وإسعاد، فلو لم يرتض أعمال قوم وأسخطه جريان الأمر بأيديهم أمكنه أن يذهب بهم ويأتي بآخرين، أو يؤخرهم ويقدم آخرين، وبهذا المعنى الذي يؤيده بل يدل عليه السياق يرتبط بما في هذه الآية قوله في الآية التالية ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ﴾

2. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾، السياق وهو الدعوة إلى ملازمة التقوى الذي أوصى الله به هذه الأمة ومن قبلهم من أهل الكتاب يدل على أن إظهار الاستغناء وعدم الحاجة المدلول عليه بقوله: ﴿إِنْ يَشَأْ﴾ إنما هو في أمر التقوى والمعنى أن الله وصاكم جميعا بملازمة التقوى فاتقوه، وإن كفرتم فإنه غني عنكم‏ وهو المالك لكل شيء المتصرف فيه كيفما شاء ولما شاء إن يشأ أن يعبد ويتقى ولم تقوموا بذلك حق القيام فهو قادر أن يؤخركم ويقدم آخرين يقومون لما يحبه ويرتضيه، وكان الله على ذلك قديرا، وعلى هذا فالآية ناظرة إلى تبديل الناس إن كانوا غير متقين بآخرين من الناس يتقون الله، وقد روي‏ أن الآية لما نزلت ضرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يده على ظهر سلمان وقال: إنهم قوم هذا، وهو يؤيد هذا المعنى، وعليك بالتدبر فيه.

3. وأما ما احتمله بعض المفسرين، أن المعنى: إن يشأ يفنكم ويوجد قوما آخرين مكانكم أو خلقا آخرين مكان الإنس، فمعنى بعيد عن السياق، نعم، لا بأس به في مثل ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾ [إبراهيم: 20]

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/104.

(2) أعدنا ذكر هذا هنا لارتباطه بهذا المقطع أضا

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يُذْهِبْكُمْ﴾ يتوفاكم ﴿وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ ليعبدوه ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)﴾ لم يزل قديراً على إذهابكم منذ خلقكم وعلى الإتيان بغيركم من قبل ذلك.

2. وهذا تنبيه إلى معرفة رحمته ومغفرته كقوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ﴾ [الكهف:58] وأكد أنه غني عن عباده، وأنه لا ينقصه إعدامهم وإنما تعليمهم وإرشادهم وما كلفهم به من الأحكام في هذه السورة وغيرها رحمة لهم ونعمة؛ لأنهم إذا أطاعوه صاروا إلى السعادة الدائمة.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/185.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يتعاظم التحدي والإيحاء بالقوة في مقابل الإيحاء بالضعف البشري للمخاطبين في قوله تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾، قد يكون المراد من الإذهاب الموت والفناء، كما ذكر البعض، وقد يكون المراد منه تبديلهم بآخرين من الناس ممن يتقون؛ وقد روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ أنها لما نزلت، ضرب يده على ظهر سلمان وقال: إنهم قوم هذا يعني عجم الفرس.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/498.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر الله ملكيته لما في السموات وما في الأرض للمرّة الثّالثة كمقدمة للموضوع الذي يلي في الآية، ثمّ يبيّن ـ عز من قائل ـ أنّه لا يأبه في أن يزيل قوما عن الوجود، ليأتي مكانهم بقوم آخرين أكثر استعدادا وعزما وأكثر دأبا في طاعة الله وعبادته، والله قادر على هذا الأمر ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾

2. في تفسير (التبيان) وتفسير (مجمع البيان) نقلا عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه حين نزلت هذه الآية ربت على كتف سلمان الفارسي وقال بأن المعنى بالآخرين في الآية هم قوم من العجم من بلاد فارس، وهذا الكلام ـ في الحقيقة ـ تنبؤ بالخدمات الكبيرة التي قدمها المسلمون الإيرانيون إلى الإسلام.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/483.

117. النية والثواب

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈117⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 134]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ بعمله فليعمل لآخرته ﴿فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا﴾ يعني: الرزق في الدنيا، ﴿و﴾ ثواب ﴿الْآخِرَةِ﴾ يعني: الجنة، ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ بأعمالكم(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٣.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ أي: من كان منكم يريد الدنيا ليست له رغبة في الآخرة نؤته ما قسم له فيها من رزق، ولا حظ له في الآخرة، ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا﴾ أي: سميع ما تقولون(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٨٦.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ قال بعض أهل التأويل: من كان يريد بعمله الذي يعمله عرَض الدنيا، ولا يريد به الله ـ آتاه الله ما أحب من عرض الدنيا، أو دفع عنه ما أحب في الدنيا؛ فليس له في الآخرة من ثواب؛ لأنه عمل لغير الله، وهو كقوله عز وجل: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، ومن أراد بعمله الذي يعمله في الدنيا، ثواب الآخرة ـ آتاه الله تعالى من عرض الدنيا ما أحب، ودفع عنه، وجزاه في الآخرة الجنة؛ بعمله في الدنيا، وتحتمل الآية ـ غير هذا ـ وجوهًا كأنها أشبه من هذا:

أ. أحدها: أنهم كانوا يتخذون من دون الله آلهة يعبدونها؛ طلبًا للرياسة والعز والشرف؛ كقوله عز وجل: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾، فأخبر أن العز والشرف ليس في ذلك؛ ولكن عند الله عز الدنيا والآخرة.

ب. الثاني: أنهم كانوا يعبدون الأوثان والأصنام، ويقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾ ويقولون:، ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ﴾؛ فأخبر أن ليس في عبادتكم هذه الأوثان دون الله ـ لكم زلفى، ولا ثواب، ولكن اعبد الله؛ فعنده الدنيا والآخرة.

ج. الثالث: يحتمل: أن يكونوا عبدوا هذه الأصنام؛ لمنافع يتأملون بذلك في الدنيا والسعة في الدنيا؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ﴾ الآية؛ فعلى ذلك قوله عز وجل: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ لا عند من تطلبون.

د. ويحتمل أن تكون الآية في أهل المراءاة والنفاق، الذين يراءون بأعمالهم الصالحة في الدنيا؛ يريدون ثواب الدنيا لا غير.

2. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا﴾ لمقالتكم ﴿بَصِيرًا﴾ بما تريدون وتعملون، وهو وعيد.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٨٤.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ ثواب الدنيا الغنيمة وثواب الآخرة الجنة.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/197.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ ثواب الدنيا النعمة، وثواب الآخرة الجنة.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٣٤).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم أخبر تعالى من كان ممن أظهر الايمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهل النفاق الذين يبطنون الكفر، ويظهرون الايمان، يريد ثواب الدنيا يعني عرض الدنيا بإظهاره بلسانه في الايمان.

2. ﴿فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا﴾ يعني جزاؤه في الدنيا منها، وثوابه فيها هو ما يأخذ من الفيء والغنيمة إذا شهد مع‏ المسلمين الحرب، وأمنه على نفسه وماله وذريته، وأما ثوابه في الآخرة فنار جهنم.

3. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ يعني انه كان لم يزل على صفة يجب ان يسمع المسموعات إذا وجدت، ويبصر المبصرات إذا وجدت، وهذه الصفة هي كونه حياً لا آفة فيه والصفة حاصلة له في الأزل والآفات مستحيلة عليه، فوجب وصفه بانه سميع بصير وإنما ذكر ها هنا ذلك، ليبين ان ما يقوله المنافقون إذا لقوا المؤمنين فإن الله يسمعه ويعلمه وهو قولهم: إنا مؤمنون بصيراً بما يضمرونه وينطوون عليه من النفاق.

4. موضع كان في قوله: ﴿مَنْ كَانَ﴾ جزم، لأنه شرط والجواب الفاء، وارتفعت (يريد) لأنه ليس فيها حرف عطف كما قال: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾ وقال: ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها﴾ جزم، لأنه جواب الشرط.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/354.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الثواب: الجزاء الآخر، وأصله من تاب يتوب: إذا رجع، والمتابة: الموضع الذي يرجع إليه.

ب. القدير: القادر إلا أن فيه مبالغة، والقادر: منَ يصحّ منه الفعل، والله تعالى قادر لم يزل؛ لأنه على صفة يصح منه الفعل، وإنما امتنع؛ لأن الفعل لا يصح وجوده فيما لم يزل..

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾:

أ. قيل: ثواب الدنيا الغنيمة والمنافع التي تصل إلى المجاهدين مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وثواب الآخرة الجنة ونعيمها، ومعناه: من كان يطلب بغزوه الغنيمة فلا يجعل قصده ذلك فقط؛ فإنه تعالى يملك الدنيا والآخرة فليطلب المجاهد الثوابين عند الله تعالى، عن أبي علي.

ب. وقيل: هو وعيد للمنافقين ومن يجري مجراهم، وثواب الآخرة العقاب، وثواب الدنيا منافعها، وتقديره: من كان يريد بعمله وما يظهر من الإيمان ثواب الدنيا فإن الله يؤتيه ذلك، وهو ما يعطيه من الغنائم ومنافع الدنيا، والأمن على النفس والمال وجزاؤه في الآخرة النار، ومن كان يفعله لثواب الآخرة فالله يعطيه ذلك.

ج. وقيل: عنى به الَّذِينَ أعانوا بني أبيرق.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾:

أ. قيل: ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا﴾ يعني لم يزل سميعًا أي: على صفة يسمع المسموع إذا وجد، وهو سامع لما يقولونه ﴿بَصِيرًا﴾ عالمًا لم يزل بما تنطوي عليه الضمائر من الإخلاص أو العدول إلى الهوى؛ لأن المجازاة تقع على حقيقة الأمر على الظاهر.

ب. وقيل: سميعًا لما يقوله أهل النفاق إذا خلوا إلى شياطينهم، بصيرًا بما يسرون من نفاقهم.

4. تدل الآية الكريمة على أنه تعالى يسمى سميعًا بصيرًا قديرًا، خلاف ما تقوله الباطنية، وقد بَيَّنَّا الخلاف في سميع وبصير، وأنهما صفتان غير كونه عالمًا عند مشايخنا البصرية، وعند البغدادية ترجع إلى كونه عالمًا.

5. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ﴾ قيل: معناه التوكيد كقوله: ﴿مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ قال علي بن عيسى: وذلك لا يصح؛ لأنها تزاد للتوكيد فيما وقع، وفي الجزاء لم تقع وقيل: معناه يكن.

ب. سؤال وإشكال: كيف دخلت الفاء في جواب الشرط، وعنده تعالى ثواب الدنيا والآخرة وقعت هذه الإرادة أو لم تقع؟ والجواب: تقديره فينبغي أن يطلب ثواب الدنيا، وقيل: تقديره: فالله يعطيه ثواب الدنيا والآخرة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/102.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر سبحانه عظم ملكه وقدرته، بأن جزاء الدارين عنده، فقال: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ أي: الغنيمة والمنافع الدنيوية، أخبر سبحانه عمن أظهر الايمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، من أهل النفاق، يريد عرض الحياة الدنيا، بإظهار ما أظهره من الايمان بلسانه.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾:

أ. قيل: أي: يملك سبحانه الدنيا والآخرة، فيطلب المجاهد الثوابين عند الله، عن أبي علي الجبائي.

ب. وقيل: إنه وعيد للمنافقين، وثوابهم في الدنيا ما يأخذونه من الفئ والغنيمة، إذا شهدوا الحرب مع المسلمين، وأمنهم على نفوسهم، وأموالهم، وذراريهم، وثوابهم في الآخرة النار.

3. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ أي: لم يزل على صفة يجب لأجلها أن يسمع المسموعات، ويبصر المبصرات، عند الوجود، وهذه الصفة هي كونه حيا لا آفة به.

4. وقيل: إنما ذكر هذا ليبين أنه يسمع ما يقول المنافقون إذا خلوا إلى شياطينهم، ويعلم ما يسرونه من نفاقهم.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/186.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ قيل: إنّ هذه الآية نزلت من أجل المنافقين كانوا لا يصدّقون بالقيامة، وإنما يطلبون عاجل الدنيا، ذكره أبو سليمان، وقال الزجّاج: كان مشركو العرب يتقرّبون إلى الله ليعطيهم من خير الدنيا، ويصرف عنهم شرّها، ولا يؤمنون بالبعث، فأعلم الله عزّ وجلّ أن خير الدنيا والآخرة عنده، وذكر الماورديّ أن المراد بثواب الدنيا: الغنيمة في الجهاد، وثواب الآخرة: الجنّة، قال والمراد بالآية: حثّ المجاهد على قصد ثواب الله.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/484.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ والمعنى أن هؤلاء الذين يريدون بجهادهم الغنيمة فقط مخطئون، وذلك لأن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، فلم اكتفى بطلب ثواب الدنيا مع أنه كان كالعدم بالنسبة إلى ثواب الآخرة، ولو كان عاقلا لطلب ثواب الآخرة حتى يحصل له ذلك ويحصل له ثواب الدنيا على سبيل التبع.

2. سؤال وإشكال: كيف دخل الفاء في جواب الشرط وعنده تعالى ثواب الدنيا والآخرة سواء حصلت هذه الإرادة أو لم تحصل؟ والجواب: تقرير الكلام: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده الله تعالى، وعلى هذا التقدير يتعلق الجزاء بالشرط.

3. ﴿وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ يعني يسمع كلامهم أنهم لا يطلبون من الجهاد سوى الغنيمة ويرى أنهم لا يسعون في الجهاد ولا يجتهدون فيه إلا عند توقع الفوز بالغنيمة، وهذا كالزجر منه تعالى لهم عن هذه الأعمال.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/241.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ أي من عمل بما افترضه الله عليه طلبا للآخرة آتاه الله ذلك في الآخرة، ومن عمل طلبا للدنيا آتاه بما كتب له في الدنيا وليس له في الآخرة من ثواب، لأنه عمل لغير الله كما قال تعالى: ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾، وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ﴾

2. وهذا على أن يكون المراد بالآية المنافقون والكفار، وهو اختيار الطبري، وروي أن المشركين كانوا لا يؤمنون بالقيامة، وإنما يتقربون إلى الله تعالى ليوسع عليهم في الدنيا ويرفع عنهم مكروهها، فأنزل الله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ أي يسمع ما يقولونه ويبصر ما يسرونه.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/410.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ هو من يطلب بعمله شيئا من أمور الدنيا، كالمجاهد يطلب الغنيمة دون الأجر ﴿فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ فما باله يقتصر على أدنى الثوابين وأحقر الأجرين، وهلا طلب بعمله ما عند الله سبحانه، وهو ثواب الدنيا والآخرة، فيحرزهما جميعا، ويفوز بهما، وظاهر الآية العموم، وقال ابن جرير الطبري: إنها خاصة بالمشركين والمنافقين‏.

2. ﴿وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ يسمع ما يقولونه، ويبصر ما يفعلونه.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/604.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ فقط ولا يؤمن بالآخرة أو آمن بها أو أهمل ثوابها لا يسأله، كمن يجاهد للغنيمة أو هاجر لامرأة يتزَّوجها، وكمن يرائي، فقد أخطأ أو خسر، أو فلا يقتصر عليه، وليطلب ثواب الآخرة معه ﴿فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالَاخِرَةِ﴾ أي: لأنَّ عند الله، أو من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده، وكيف يقتصر على ثواب الدنيا الفاني المتكدِّر الناقص؟ وهلَّا طلب ثواب الآخرة الدائم الكامل الخالص من الكدورة الذي لا يوجد إلَّا عند الله جلَّ وعلا؟ وما له لا يطلبه ويتبعه غيره، والدنيا كالعدم في جنب الآخرة؟، والآية كقوله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَّقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ [البقرة: 200]، وقوله: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ يَّقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الَاخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201]، أو ﴿فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالَاخِرَةِ﴾، فيعطي كلًّا ما أراد، ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الَاخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُوتِهِ مِنْهَا﴾ [الشورى: 20]

2. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا﴾ بِكُلِّ قول ﴿بَصِيرًا﴾ عليمًا بكُلِّ فعل وغيره، فيجازي على ذلك، فهو يعلم مَن قَصَدَ بهجرته أو جهادٍ غيرَ الله، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من كان همُّه الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت همَّته الدُّنيا فرَّق الله تعالى ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدُّنيا إلَّا ما كتب له)، وعنه: (أوَّل الناس يقضى عليه من يؤتى بِهِ فيعرف نعم الله فيقرُّ بها، فيقال: ما عملت فيها؟ فيقول: قاتلت فيك حتَّى استشهدت، فيقول الله تعالى: كذبت، قاتلت ليقال جريء فقد قيل، فيسحب على وجهه إلى النَّار، ورجل تعلَّم بالعلم وعلَّمه وقرأ القرآن ويقول: فعلت ذلك لله تعالى، فيقال: بل ليقال عالم قارئ فقد قيل، فيسحب على وجهه إلى النَّار، ورجل ذو مال يقول ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلَّا أنفقت فيها، فيقال بل ليقال جواد وقد قيل، فيسحب على وجهه إلى النَّار).

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/312.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ كالمجاهد يجاهد للغنيمة ﴿فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أي: فما له يطلب أخسهما، فليطلبهما، أو الأشرف منهما، كما قال تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَالله سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [البقرة: 200 ـ 202]، وقال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ [الشورى: 20] الآية، وقال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾ [الإسراء: 18] الآية.

2. قال بعضهم: عني بالآية مشركو العرب، فإنهم كانوا يقرون بالله تعالى، خالقهم، ولا يقرون بالبعث يوم القيامة، وكانوا يتقربون إلى الله تعالى ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها ﴿وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ فلا يخفى عليه خافية، ويجازي كلّا بحسب قصده.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/368.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ﴾ منكم بسعيه وكدحه وجهاده في حياته ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ ونعيمها بالمال والجاه ﴿فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ جميعا وقد وهبكم من القوى والجوارح وهداية الحواس والعقل والوجدان والدين ما يمكنكم به نيل ذلك فعليكم أن تطلبوا الثوابين جميعا ولا تكتفوا بالأدنى الفاني عن الأعلى الباقي والجمع بينهما ميسور لكم، ومما تناله قدرتكم، فمن سفه النفس، وأفن الرأي، أن ترغبوا عنه، والآية تدل على أن الإسلام يهدي أهله إلى سعادة الدارين، وأن يتذكروا أن كلا من ثواب الدنيا وثواب الآخرة من فضل الله ورحمته، وقد سبق بيان هذا في تفسير: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201]

2. ﴿وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ سميعا لأقوال العباد في مخاطباتهم ومناجاتهم، بصيرا بجميع أمورهم في جميع حالاتهم، فيجب عليهم أن يراقبوه في أقوالهم وأفعالهم، فذلك الذي يعينهم على تزكية نفوسهم، والوقوف عند حدود العدل والفضيلة التي يستقيم بها أمر دنياهم، ويستعدون به للحياة الأبدية في آخرتهم.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/370.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أي من يرد منكم بسعيه وجهاده في حياته نعيم الدنيا بالمال والجاه ونحوهما، فعند الله ثواب الدارين معا بما أعطاكم من العقل والشعور وهداية الحواس، فعليكم أن تطلبوهما معا، ولا تكتفوا بما هو أدناهما وهو ما يفنى وتتركوا أغلاهما وهو ما يبقى، مع أن الجمع بينهما هيّن ميسور لكم وهو تحت قدرتكم وسلطانكم، فمن خطل الرأي أن تتركوا ذلك وترغبوا عنه، بل عليكم أن تقولوا ـ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ـ، وفى الآية إيماء إلى أن الدين يهدى أهله إلى السعادتين، وإلى أن ثواب الدنيا والآخرة من فضله تعالى ورحمته.

2. ﴿وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ أي وكان الله سميعا لأقوال عباده حين مخاطباتهم ومناجاتهم، بصيرا بجميع أمورهم في سائر حالاتهم، فعليهم أن يراقبوه في الأقوال والأفعال، وبذا تزكو نفوسهم وتقف عند حدود الفضيلة التي بها تستقيم أمورهم في دنياهم ويستعدون لحياة أبدية في آخرتهم يكون فيها نعيمهم وثوابهم.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/178.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

يختم الله تعالى هذا التعقيب بتوجيه القلوب الطامعة في الدنيا وحدها، إلى أن فضل الله أوسع.. فعنده ثواب الدنيا والآخرة.. وفي استطاعة الذين يقصرون همهم على الدنيا، أن يتطلعوا بأنظارهم وراءها؛ وأن يأملوا في خير الدنيا وخير الآخرة.

1. إنه ليكون من الحمق، كما يكون من سقوط الهمة، أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معا؛ وإلى ثواب الدنيا وثواب الآخرة جميعا ـ وهذا ما يكفله المنهج الإسلامي المتكامل الواقعي المثالي ـ ثم يكتفي بطلب الدنيا، ويضع فيها همه؛ ويعيش كالحيوان والدواب والهوام؛ بينما هو يملك أن يعيش كالإنسان! قدم تدب على الأرض وروح ترف في السماء، وكيان يتحرك وفق قوانين هذه الأرض؛ ويملك في الوقت ذاته أن يعيش مع الملأ الأعلى!

2. وأخيرا فإن هذه التعقيبات المتنوعة ـ كما تدل على الصلة الوثيقة بين الأحكام الجزئية في شريعة الله والمنهج الكلي للحياة ـ تدل في الوقت ذاته على خطورة شأن الأسرة في حساب الإسلام، حتى ليربطها بهذه الشئون الكبرى؛ ويعقب عليها بوصية التقوي الشاملة للأديان جميعا؛ وإلا فالله قادر على أن يذهب بالناس ويأتي بغيرهم يتبعون وصيته؛ ويقيمون شريعته.. وهو تعقيب خطير، يدل على أن أمر الأسرة كذلك خطير في حساب الله، وفي منهجه للحياة.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/773.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ هو دعوة لأولئك الذين يقيمون وجودهم كله على هذه الحياة الدنيا، فلا يلتفتون إلى أمر الآخرة، ولا يعملون لها، وبهذا يضيّقون على أنفسهم، ويحجزونها في هذه الدائرة المحدودة، مع أنهم ـ لو عقلوا ـ لملئوا أيديهم من خير الدنيا والآخرة جميعا.. إذ ليس بين الدنيا والآخرة تعارض وتنافر.. فالدنيا ـ في حقيقتها ـ مزرعة للآخرة، وإحسان العمل في الدنيا، وإقامته على وجه صحيح مثمر، هو في ذاته عمل للآخرة.

2. ﴿وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ أي أنه سبحانه وتعالى مطّلع على أعمال العباد، يسمع ما يقولون، ويبصر ما يعملون، فما كان من أعمالهم وأقوالهم خالصا للدنيا وحدها، فقد استوفوا حظهم منه، ولا نصيب لهم في الآخرة.. وما كان منها للدنيا والآخرة معا، كان لهم منه نصيب في الدنيا وفي الآخرة.. أما نصيب‏ الدنيا فقد استوفوه وهم فيها، وأما ما كان للآخرة فهو مدّخر لهم عند الله يجزون به يوم لقائه.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/927.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ لمّا كان شأن التقوي عظيما على النفوس، لأنّها يصرفها عنها استعجال الناس لمنافع الدنيا على خيرات الآخرة، نبّههم الله إلى أنّ خير الدنيا بيد الله، وخير الآخرة أيضا، فإن اتقوه نالوا الخيرين.

2. يجوز أن تكون الآية تعليما للمؤمنين أن لا يصدّهم الإيمان عن طلب ثواب الدنيا، إذ الكلّ من فضل الله، ويجوز أن تكون تذكيرا للمؤمنين بأن لا يلهيهم طلب خير الدنيا عن طلب الآخرة، إذ الجمع بينهما أفضل، وكلاهما من عند الله، على نحو قوله: ﴿فمنهم من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب بما كسبوا﴾ أو هي تعليم للمؤمنين أن لا يطلبوا خير الدنيا من طرق الحرام، فإنّ في الحلال سعة لهم ومندوحة، وليتطلّبوه من الحلال يسهّل لهم الله حصوله، إذ الخير كلّه بيد الله، فيوشك أن يحرم من‏ يتطلّبه من وجه لا يرضيه أو لا يبارك له فيه، والمراد بالثواب في الآية معناه اللغوي دون الشرعي، وهو الخير وما يرجع به طالب النفع من وجوه النفع، مشتقّ من ثاب بمعنى رجع، وعلى الاحتمالات كلّها فجواب الشرط بـ ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ محذوف، تدلّ عليه علّته، والتقدير: من كان يريد ثواب الدنيا فلا يعرض عن دين الله، أو فلا يصدّ عن سؤاله، أو فلا يقتصر على سؤاله، أو فلا يحصّله من وجوه لا ترضي الله تعالى: كما فعل بنو أبيرق وأضرابهم، وليتطلّبه من وجوه البرّ لأنّ فضل الله يسع الخيرين، والكلّ من عنده، وهذا كقول القطامي:

çفمن تكن الحضارة أعجبته‏...فأيّ رجال بادية تراناé

التقدير: فلا يغترر أو لا يبتهج بالحضارة، فإنّ حالنا دليل على شرف البداوة.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/275.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ الثواب ما يعود على الإنسان من أي عمل يعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ثم أطلق الثواب في القرآن على الجزاء، وذلك في مقابل العقاب الذى هو جزاء الشر، والمراد هنا على هذا الأساس نعيم الدنيا، والنتائج الطيبة لأعمال الدنيا، ومعنى النص السامي من يكون من شأنه وطوية نفسه أن يطلب نعيم الدنيا وما فيها من خير، فإن الله‏ تعالى يعطيه ما يطلب إن اتجه إلى طلبها عن طريق الحق والدين، فإن الله تعالى ذا السلطان الكامل في الدنيا والآخرة هو وحده عنده نعيمهما معا، فمن أراد الدنيا عن طريق الخير والحق، فإنه سينال ذلك بتوفيق الله تعالى وتمكينه.

2. هذا الكلام يطوى في ثناياه معانى ثلاثة:

أ. أولها: أن الاستجابة لما يطلبه الله سبحانه وتعالى تؤدى إلى خير الدنيا من عزة ورفعة وقوة وسلطان في الأرض، وتعاون على إصلاحها ومنع فسادها، وتواصل وتراحم، من غير تقاطع ولا تدابر.

ب. ثانيها: أن من يطلب الدنيا من غير طلب الآخرة ولا يستجيب لداعى الله، يكون قد طلب الأخس وترك الأخطر منهما، ولا يكون طالبا لها على وجه الحق، ويكون محاسبا على كل ما نال من مغانم في هذه، ولذا قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [آل عمران: 145]

ج. ثالثها: أن النص الكريم يفيد قدرة الله، وكمال سلطانه، وعدله في الثواب والعقاب، وأنه يعلم الخير ويجزى عليه والشر ويعاقب صاحبه‏ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة] ولذا ختم سبحانه الآية بقوله: ﴿وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى عالم علما دائما أزليا علم من يسمع ما يجهر به ويسر، ومن يطلع على حركات النفوس، وخلجات القلوب، وما يجيش في الصدور، وعالم علم من يبصر أدق الأعمال وأخفاها من خير أو شر، وإنه مجازى كل إنسان على مقتضى هذا العلم الذى لا تخفى عليه خافية.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1893.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، أي ان ثواب الدنيا والآخرة يمكن تحققهما والحصول عليهما، مع الايمان والتقوى، ومن ظن ان ثواب الدنيا لا يجتمع مع التقوي فهو مخطئ، لأن ما من شيء يحقق للإنسان سعادته وكرامته في هذه الحياة إلا ويقره الدين، بل يأمر به، ويحث عليه بشرط واحد، هو أن لا تكون سعادته شقاء لغيره، وكرامته امتهانا لسواه.

2. اذن لا تصادم أبدا بين ثواب الدنيا وثواب الآخرة، وانما التضاد والتصادم بين الظلم وثواب الآخرة، بين الغش والخداع والسلب والنهب، وبين مرضاة الله ونعيمه وجنانه.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/457.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ بيان آخر يوضح خطأ من يترك تقوى الله ويضيع وصيته بأنه إن فعل ذلك ابتغاء ثواب الدنيا ومغنمها فقد اشتبه عليه الأمر فإن ثواب الدنيا والآخرة معا عند الله وبيده، فما له يقصر نظره بأخس الأمرين ولا يطلب أشرفهما أو إياهما جميعا؟ كذا قيل.

2. الأظهر أن يكون المراد ـ والله أعلم ـ أن ثواب الدنيا والآخرة وسعادتهما معا إنما هو عند الله سبحانه فليتقرب إليه حتى من أراد ثواب الدنيا وسعادتها فإن السعادة لا توجد للإنسان في غير تقوى الله الحاصل بدينه الذي شرعه له فليس الدين إلا طريق السعادة الحقيقية، فكيف ينال نائل ثوابا من غير إيتائه تعالى وإفاضته من عنده وكان الله سميعا بصيرا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/105.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ من الله أو من عباده كالعامل بالأجرة ﴿فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ فليطلبه من الله بالدعاء وإخلاص العبادة فهو خير له من ثواب الدنيا وحده.

2. ﴿وَكَانَ الله سَمِيعًا﴾ لمن دعاه ﴿بَصِيرًا﴾ لا يخفى عليه عبادة مَن عبده فيجزيه خيراً، ويصلح له أمر دنياه، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق:2 ـ 3]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4]

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/186.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تطوف الآية بالمشاعر العميقة للإنسان، عندما يقف وجها لوجه أمام قضية المصير؛ فقد يفكر بثواب الدنيا، باعتبار أن ذلك هو معنى مصيره فيما يتصور، ثم يبدأ في الخضوع لهذا ولذلك من أجل الحصول عليه، فيشرك بعبادة الله غيره، ويبتعد عن الله سبحانه، في الوقت الذي يريد الله منه أن يقف لحظة للتفكير، ليفكّر بأن هؤلاء لا يملكون شيئا من ثواب الدنيا بعيدا عن ملك الله الذي يعطيهم إياه، فلماذا لا يقدر الله حق قدره، ويعرف أن الدنيا والآخرة بيده، وأن ثوابهما بإرادته، وأن عليه أن يتوجه إلى الله ليحصل على ثواب الدنيا والآخرة منه، فيلتقي مصير الدنيا لديه بمصير الآخرة، وذلك بأن يدعو الله في سره وعلانيته ويبتهل إليه بنبضات قلبه وخفقات روحه، ويعمل في سبيل الله في كل المجالات التي يريد الله للحياة أن تتحرك فيها.. ﴿وَكَانَ الله سَمِيعًا﴾ لكل كلمات الخير والخشوع والخضوع التي تنطلق من قلبه وشفتيه، ﴿بَصِيرًا﴾ بكل المواقف الحقة التي يقفها من أجله.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/498.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية الكريمة ورد الحديث فيها عن أناس يزعمون أنّهم مسلمون، ويشاركون في ميادين الجهاد، ويطبقون أحكام الإسلام، دون أن يكون لهم هدف إلهي، بل يهدفون لنيل مكاسب مادية مثل غنائم الحرب فتنبه الآية إلى أنّ الذين يطلبون الأجر الدنيوي يتوهمون في طلبهم هذا، لأنّ الله عنده ثواب الدنيا والآخرة معا ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، فلماذا لا يطلب ـ ولا يرجو ـ هؤلاء، الثوابين معا!؟ والله يعلم بنوايا الجميع، ويسمع كل صوت، ويرى كل مشهد، ويعرف أعمال المنافقين وأشباههم، ﴿وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا﴾

2. وتكرر هذه الآية الأخيرة حقيقة أنّ الإسلام لا ينظر فقط إلى الجوانب المعنوية والأخروية، بل أن ينشد لأتباعه السعادتين المادية والمعنوية معا.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/484.

118. العدالة الشاملة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈118⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 135]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة كانت البقرة أول سورة نزلت، ثم أردفها النساء، قال فكان الرجل يكون عنده الشهادة قبل ابنه، أو ذوي رحمه، فيلوي بها لسانه، أو يكتمها، مما يرى من عسرته، حتى يوسر فيقضي؛ فنزلت: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله﴾ حتى ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ﴾ الآية، أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق، ولو على أنفسهم، أو آبائهم، أو أبنائهم، لا يحابوا غنيا لغناه، ولا يرحموا مسكينا لمسكنته، وذلك قوله: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾(2).

3. روي أنّه قال: معناه: كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كانت(3).

4. روي أنّه قال: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾، فتذروا الحق، فتجوروا(2).

5. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله﴾ الآية، الرجلان يجلسان عند القاضي، فيكون لي القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر(4).

6. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ يعني: ألسنتكم بالشهادة، ﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾ عنها(5).

7. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾، يقول: تلوي لسانك بغير الحق، وهي اللجلجة، فلا يقيم الشهادة على وجهها، والإعراض: الترك(5).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.

(2) ابن جرير ٧/٥٨٦.

(3) تفسير الثعلبي ٣/٣٩٨.

(4) ابن أبي شيبة ٧/٢٢٨.

(5) ابن جرير ٧/٥٩٠.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ﴾ يعني: قوامين بالعدل، ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ يقول: لو كان لأحد عليك حق، فأقررت به على نفسك، ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ يعني: أو على الوالدين والأقربين، فاشهد به عليهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾، يعني: أن الله أولى بالغني والفقير من غيره(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾ يعني: في الشهادات ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ يعني: عن الحق(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٨٦.

(2) ابن أبي حاتم ٤/١٠٨٨.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿تَلْوُوا﴾: تحرفوا، و﴿تُعْرِضُوا﴾: تتركوا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ يقول: تبدلوا الشهادة، ﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾ يقول: تكتموها(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٩٠.

(2) آدم بن أبي إياس ـ كما في تفسير مجاهد ص ٢٩٥.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: في قوله: ﴿فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾، معناه: الله أعلم بهما(1).

__________

(1) تفسير البغوي ٢/٢٩٨.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: هذا في الشهادة، فأقم الشهادة، يا ابن آدم، ولو على نفسك، أو الوالدين، والأقربين، أو على ذي قرابتك، وأشراف قومك، فإنما الشهادة لله، وليست للناس، وإن الله تعالى رضي بالعدل لنفسه والإقساط، والعدل ميزان الله في الأرض، به يرد الله من الشديد على الضعيف، ومن الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحق، وبالعدل يصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويرد المعتدي، ويوبخه، تعالى ربنا وتبارك، وبالعدل يصلح الناس، يا ابن آدم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾، يقول: الله أولى بغنيكم وفقيركم، ولا يمنعك غنى غني ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم، فإن ذلك من الحق، قال وذكر لنا: أن نبي الله موسى عليه السلام قال يا رب، أي شيء وضعت في الأرض أقل؟ قال العدل أقل ما وضعت(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾، قال تدخل في شهادتك ما يبطلها، أو تعرض عنها فلا تشهد بها(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٨٧.

(2) عبد الرزاق في تفسيره ١/١٧٦.

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: في شهادة الوالد لولده وذي القرابة، كان ذلك فيما مضى من السنة في سلف المسلمين، وكانوا يتأولون في ذلك قول الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ الآية، فلم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الرجل لامرأته، ثم دخل(1)، الناس بعد ذلك، فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من أقربائهم، وصار ذلك من الولد، والوالد، والأخ، والزوج، والمرأة، لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان(2).

__________

(1) دخل الناس: داخَلهم فساد، اللسان (دخل).

(2) ابن جرير ٧/٥٨٦.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: نزلت في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، اختصم إليه رجلان؛ غني، وفقير، فكان ضلعه(1)، مع الفقير؛ يرى أن الفقير لا يظلم الغني، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير؛ فقال: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ الآية(2).

2. روي أنّه قال: ﴿قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾: قوامين بالعدل(3).

3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾، أما ﴿تَلْوُوا﴾ فتلوي للشهادة، فتحرفها حتى لا تقيمها، وأما ﴿تُعْرِضُوا﴾ فتعرض عنها، فتكتمها، وتقول: ليس عندي شهادة(4).

__________

(1) ضلعه: ميله، النهاية (ضلع).

(2) ابن جرير ٧/٥٨٥.

(3) علَّقه ابن أبي حاتم ٤/١٠٨٦.

(4) ابن جرير ٧/٥٩١.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ قال قوامين بالشهادة، ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ يقول: على نفسك، ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ يقول: على نفسك، أو على الوالدين والأقربين، قريبا كان أو بعيدا، غنيا كان أو فقيرا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٨٦.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: نزلت في رجل كانت عنده شهادة على أبيه، فأمره الله عز وجل أن يقيمها لله عز وجل، ولا يقول: إني إن شهدت عليه أجحفت بماله، وإن كان فقيرا هلك وازداد فقره، ويقال: إنه أبو بكر?، الشاهد على أبيه أبي قحافة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ﴾ يعني: قوالين ﴿بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله﴾ يقول سبحانه: أقيموا الشهادة لله بالعدل، ﴿وَلَوْ﴾ كانت الشهادة ﴿عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ﴾ على ﴿الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾(1).

3. روي أنّه قال: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾ في الشهادة والقرابة، واتقوا ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ عن الحق إلى الهوى(2).

4. روي أنّه قال: ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من كتمان الشهادة وإقامتها ﴿خَبِيرًا﴾(2).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٣.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٤.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله﴾ إلى آخر الآية، قال لا يحملك فقر هذا على أن ترحمه، فلا تقيم عليه الشهادة، قال يقول هذا للشاهد(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ فتكتموا الشهادة، يلوي: ينقص منها، أو تعرض عنها، فتكتمها، فيأبى أن يشهد عليه، يقول: أكتم عنه لأنه مسكين أرحمه، فيقول: لا أقيم الشهادة عليه، ويقول: هذا غني أبقيه، وأرجو ما قبله، فلا أشهد عليه، فذلك قوله: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٨٧.

(2) ابن جرير ٧/٥٩١.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه قال: كتب أبي في رسالته إلي وسألته عن الشهادات لهم، قال: فأقم الشهادة لله عز وجل ولو على نفسك أو الوالدين أو الأقربين فيما بينك وبينهم، فإن خفت على أخيك ضرا فلا(1).

__________

(1) التهذيب 6/276.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عن ابن عَبَّاسٍ قال: كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كانت: من قريب أو بعيد، ولو على نفسه فأقر بها، وكذلك قال عامة أهل التأويل.

2. ﴿قَوَّامِينَ﴾: قوالين لله، ولكن يكون في كل عمل وكل قول يلزم أن يقوم لله، ويجعل الشهادة له؛ فإذا فعل هكذا ـ لا يمنعه عن القيام بها قربُ أحد ولا بعده، ولا ما يحصل على نفسه أو والديه، وكذلك قال الله تعالى في آية أخرى: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾ فإذا جعلها للهِ عز وجل لم يجعلها للمخلوق، أمكن له القيام بها، وإن كان على نفسه أو من ذكرتم ما يمنع القيام بها فهو مختلف: أما على نفسه؛ لنفع يطمع أو لدفع ضرر يدفع بذلك، وأما على الوالدين بالاحتشام يحتشم منهما؛ فيمتنع عن أداء ما عليه، وأما القرابة: بطلب الغناء لهم ودفع الفقر عنهم؛ فأخبر أنه أولى بهم؛ فلا يمنعك غناء أحد منهم ولا فقره ـ القيامَ بها، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ في تأويل هذه الآية.

3. قوله عز وجل: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ قيل فيه بوجهين:

أ. قيل: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ وتعملوا لغير الله.

ب. وقيل: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾؛ كراهة أن تعدلوا.

ج. ويحتمل: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾: عن الحق من الصرف بالعدول.

4. وقوله عز وجل: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾ فيه لغتان.

أ. (تلُوا) بواو واحدة، من الولاية؛ يقول: كونوا عاملين للهِ، وقائلين له، مؤدين الشهادة له، وإن كنتم وليتم ذلك.

ب. وقيل: (تَلْوُوا) بواوين، من التحريف؛ يقول: لا تتبعوا الهوى، ولا تحرفوا الشهادة، ولا تعرضوا عنها وتكتموها.

ج. وفي حرف حفصة: (إن يكونوا غنيا أو فقيرًا فالله أولى بهما)

5. وعن قتادة: فالله أولى بهما، يقول: الله أولى بغنيكم وفقيركم؛ فلا يمنعكم غناء غنى أن تشهد عليه لحق علمته، ولا أمر ثبت لفقير أن تشهد عليه بحق علمته، وفي حرف حفصة: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾، وهو من الولاية التي ذكرنا، وقيل: وإن تلووا: من التحريف وطلب الإبطال.

6. وفي حرف ابن مسعود: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا بين الناس)، وهو من العدل؛ على ما ذكرنا، وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الصرف والعدول عن الحق.

7. ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ خرج على الوعيد، على كل ما ذكر: من منع الشهادة، والقيام للهِ بها، وتحريف ما لزمهم، وبالله العصمة، وبمثل ذلك رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخرِ فَلْيُقِم شَهَادَتَهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَومِ الْآخِرِ فَلَا يَجْحَدْ حَقًّا هُوَ عَلَيهِ، وَلْيؤُده عفوًا، وَلَا يُلْجئْهُ إِلَى سُلْطَانٍ، وَلَا إِلَى خُصُومَةٍ لِيَقْطَعَ بِهَا حَقَّهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ خَاصَمَ إِلَيَّ فَقَضَيتُ لَهُ عَلَى أَخِيهِ بِحَق لَيسَ هُوَ لَهُ عَلَيهِ ـ فَلَا يَأْخُذنَّهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعةً مِنْ جَهَنَّمَ)، وروي في خبر آخر: (يَا ابْنَ آدَمَ، أَقِمِ الشهَادَةَ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ، أَوْ عَلَى قَرَابَتِكَ، أَوْ شَرَفِ قَوْمِكَ؛ فَإِنَّمَا الشَهَادَةُ للهَ وَلَيسَتْ للنَّاسِ، إِنَّ اللهَ رَضِي بِالْعَدْل والإقْسَاطِ لِنَفْسِهِ، وَالْعَدْلُ مِيزَانُ اللهِ فِي الأَرْضِ: يَرُدُّ عَلَى الْمَظْلُومِ مِنَ الظَالِمِ، وَعَلَى الضَّعِيفِ مِنَ الشَدِيدِ، وَعَلَى الْمُحِقِّ مِنَ الْمُبطِلِ، وَبِالْحَق يُصَدقُ اللهُ الصادِقَ، وَيُكَذبُ اللهُ الكَاذِبَ، وًيرُدُّ المُعْتَدِي وُيوَبِّخُهُ، وَبِالْعَدْلِ أَصْلَحَ اللهُ النَّاسَ)

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٨٥.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا بِالْقِسْطِ﴾ يعني بالعدل ﴿شُهَدَاءَ لله﴾ يعني بالحق ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ وشهادة الإنسان على نفسه هو إقراره لما عليه لخصمه ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ فيما لهم وعليهم.

2. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ أي في الميل إلى أحد الخصمين ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾ تلووا هو لي الرجل لسانه بالشهادة كما يلوي الرجل دَيْن الرجل إذا مطله ومنه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لي الواحد يبيح عرضه وماله)، وهذا خطاب للشهود.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/197.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ يعني بالعدل ﴿شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾ يعني بالحق، ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراراه بما عليه من الحق لخصمه، ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ أن يشهد عليهم لا لهم.

2. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ قال السدي: نزلت في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد اختصم إليه رجلان: غني وفقير، فكان ميله مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغني، فأمره الله عز وجل أن يقوم بالقسط في الغني والفقير فقال: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾، وقال ابن عباس: نزلت في الشهادة لهم وعليهم.

3. ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾ قرأ ابن عباس وحمزة بواو واحدة، وهي من الولاية أي تلوا أمور الناس أو تتركواْ، وهذا للولاة والحكام، وقرأ الباقون: ﴿تَلْوُوا﴾ بواوين، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: هو أن يلوي الإنسان لسانه بالشهادة كما يلوي الرجل ديْن الرجل إذا مطله، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (ولَيُّ الْوَاجِدِ يُبِيْحُ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ) وقال الأعشى:

çيلوونني ديني النهار وأقتضى … ديني إذا وقذ النعاس الرُّقداé

وتكون على هذه القراءة والتأويل هذا خطاب الشهود.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٣٥).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ ابن عامر وحمزه (وإن تلوا) بضم اللام، بعدها واو واحدة ساكنة، والباقون يسكنون اللام بواوين بعدها أولهما مضمومة، حجة من قرأ بواو واحدة أن قال إن ولاية الشيء اقبال عليه وخلاف الاعراض عنه، والمعنى أن تقبلوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً فيجازي المحسن المقبل بإحسانه، والمسيء المعرض‏ باعراضه وتركه الإقبال على ما يلزمه ان يقبل عليه قال ولو قرأت بالواوين، لكان فيه تكرار، لأن اللي كالاعراض إلا ترى ان قوله: ﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ﴾ معناه أعراض منهم، وترك الانقياد للحق ومثله‏ ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ معناه انحراف وأخذ فيما لا ينبغي ان يأخذوا به، وحجة من قرأ بالواوين من لووا ان تقول لا يمتنع ان تتكرر اللفظتان المختلفتان بمعنى واحد على وجه التأكيد، كقوله: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ وكقول الشاعر:

çوهند اتى من دونها...النأي والبعد é

وقول آخر: (والفي قولها كذباً وميتاً) وقالوا: أيضا يجوز ان يكون تلوا كان أصله تلووا، وان الواو التي هي عين همزت لانضمامها، كما همزت في قوله: (أدروا) وألقيت حركة الهمزة على اللام التي هي فاء، فصار تلوا أجاز ذلك الزجاج والفراء وأبو علي الفارسي.

2. معنى الآية ان الله تعالى لما حكى عن الذين سعوا إلى رسول الله في امر بني أبيرق وقيامهم لهم بالعذر، وذبهم عنهم من حيث كانوا أهل فقر وفاقة، أمر الله المؤمنين ان يكونوا ﴿قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ يعني بالعدل والقسط، والاقساط: العدل يقال: أقسط الرجل إقساطا إذا عدل وأتي بالقسط وقسط يقسط قسوطاً: إذا أجاز وقسط البعير يقسط قسطاً إذا يبصت يده ويد قسط، أي يابسة (شهد الله) وهو جمع شهيد ونصب شهداء على الحال من الضمير في قوله: ﴿قَوَّامِينَ﴾ وهو ضمير الذين آمنوا.

3. ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ يعني ولو كانت شهادتكم على أنفسكم أو على والديكم أو على أقرب الناس إليكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحتها، وقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها لغنى غني، ولا فقر فقير، فتجوروا، فإن الله قد سوى بين الغني والفقير فيما ألزمكم من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل، وهو تعالى أولى بهما وأحق، لأنه مالكهما وإلههما دونكم وهو أعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك، وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلا تتبعوا الهوى في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغني أو فقير إلى أحدهما، فتعدلوا عن الحق أي تجوزوا عنه وتضلوا ولكن قوموا بالقسط، وأدوا الشهادة على ما أمركم الله عز وجل بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.

4. سؤال وإشكال: كيف تكون شهادة الإنسان على نفسه حتى يأمر الله تعالى بذلك؟ والجواب: بأن يكون عليه حق لغيره، فيقر له ولا يجحده، فأدب الله تعالى المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا، وخيانتهم ما خانوا وإضافتهم ذلك إلى غيرهم فهذا اختيار الطبري، وقال السدي: انها نزلت في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد اختصم اليه رجلان غني وفقير، فكان ضلعه مع الفقير، لظنه أن الفقير لا يظلم الغني، فأبى الله تعالى إلا القيام بالقسط في أمر الغني والفقير قال: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أو فَقِيرًا فَاللهُ أولى بِهِمَا﴾ وهذا الوجه فيه بعد، لأنه لا يجوز على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحكم ان يميل إلى أحد الخصمين سواء كان غنياً أو فقيراً فإن ذلك ينافي عصمته وقال ابن عباس: أمر الله سبحانه المؤمنين أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم، أو أبنائهم، ولا يجابوا غنياً لغناه، ولا مسكيناً لمسكنته وهذا هو الأولى، لأنه أليق بالظاهر من غير عدول عنه.

5. في الآية دلالة على جواز شهادة الوالد لولده والولد لوالده، وكل ذي قرابة لمن يقرب منه، فقال ابن شهاب: كان سلف المسلمين على ذلك حتى دخل الناس فيما بعدتهم، وظهرت فيهم أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتم إذا كان من أقربائهم وجاز ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة وبمعنى قول ابن عباس، قال قتادة، وابن زيد.

6. ﴿فَاللهُ أولى بِهِمَا﴾ إنما ثنى، ولم يقل به لأنه أراد (فالله أولى بغناء الغني وفقر الفقير) لأن ذلك منه تعالى وقال قوم: لم يقصد غنياً بعينه، ولا فقيراً بعينه‏ وهو مجهول وما ذلك حكمه جاز الردّ عليه التوحيد والتثنية والجميع، وفي قراءة أبي (فالله أولى بهم) وقال قوم: (أو) بمعنى الواو في هذا الموضع، فلذلك ثنى وقال آخرون: جاز تثنية قوله: (بهما)، لأنهما قد ذكرا، كما قيل: وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما وقيل جاز ذلك، لأنه أضمر فيه (من) كأنه قال وله أخ أو اخت إن يكون من خاصم غنياً أو فقيراً، بمعنى غنيين أو فقيرين‏ ﴿فَاللهُ أولى بِهِمَا﴾

7. قوله تعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ يحتمل ثلاثة أوجه:

أ. أحدها: لا تتبعوا الهوى في ان تعدلوا عن الحق، فتجوروا بترك إقامة الشهادة بالحق.

ب. والثاني: ان يكون التقدير لا تتبعوا أهواء أنفسكم هرباً من ان تعدلوا في إقامة الشهادة.

ج. والثالث: فلا تتبعوا الهوى، لتعدلوا، كما يقال: لا تتبع هواك لترضي ربك، بمعنى أنهاك عنه كيما ترضى ربك بتركه، ذكره الفراء والزجاج.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أو تُعْرِضُوا﴾:

أ. قال قوم: معناه وان تلووا أيها الحكام في الحكم لاحد الخصمين على الآخر، أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً وحملوا الآية على أنها نزلت في الحكام ذهب اليه السدي على ما قال إنها نزلت في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. وروي عن ابن عباس أنه قال: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي، فيكون لي القاضي واعراضه لأحدهما على الآخر.

ج. وقال اخرون: معناه وان تلوا أيها الشهداء في شهادتكم، فتحرفوها، فلا تقيموها أو تعرضوا عنها، فتركوها ذهب اليه ابن عباس ومجاهد.

د. وقال مجاهد: معنى تلووا تبدلوا الشهادة أو تعرضوا أي تكتموها وهو قول أبي جعفر عليه السلام وبه قال ابن زيد والضحاك.

هـ. وأولى التأويلين قول من قال إنه لي الشهادة لمن شهد له أو عليه بان يحرفها بلسانه أو يتركها، فلا يقيمها، ليبطل بذلك شهادته وأعراضه عنها فلو ترك إقامتها فلا يشهد بها، وسياق الآية يدل على ما قال ابن عباس.

9. ﴿فإن اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ معناه انه كان عالماً بما يكون منهم من اقامة الشهادة، وتحريفها والاعراض عنها، واللي‏ هو المطل لما يجب من الحق قال الأعشى:

çيلوينني ديني النهار واقتضي...ديني إذا رقد النعاس الرقداé

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/354.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. القَوَّام: فَعَّالٌ من القيام، وهو أن يكون عادته القيام بالقسط، كما يقال: رجل صَوَّام كثير الصوم عادته ذلك، ورجل صَبَّار، ومنه: فَعَّال لما يشاء.

ب. القسط والإقساط: العدل، يقال: أقسط: إذا عدل، وقسط: إذا جار، قال تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ أي: اعدلوا، وقال: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾

ج. اللي: الدفع، ومنه: لَيُّ الواجد ظلم، يعني دفع الواجد غريمه ظلم، ولوى برأسه: أماله، وألوى بيده: أشار، ولواه بِدَيْنِهِ يلويه ليًّا وليانًا: مَطلَهُ.

د. الشهداء: جمع شهيد، فعيل بمعنى فاعل، كعليم وعالم، عن أبي مسلم.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت الآية في القضاة والحكام، نُهوا عن الميل إلى أحد الخصمين، عن ابن عباس.

ب. وقيل: نزلت في اليهود حتى لا يغيروا الشهادة لمكان الغنى والفقر، أو يميل إلى أحد لقرابة أو غيرها.

3. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها أقوال:

أ. الأول: لما تقدم ذكر النساء والنشوز والمصالحة بينهن وبين الأزواج عقبه بالأمر بالقيام لله بحقه في عباده، وفي الشهادة فيما فرض لبعضهم على بعض، في معنى قول الأصم.

ب. الثاني: أنها تتصل بقصة بني أبيرق لما ذَبُّوا عن الخائن، فَنُهوا عن ذلك، وأمروا بإقامة الشهادة لله على وجه الحق، وقد مضت تلك القصة، وذلك أنه مضى في السورة ذكر الشهادة في مواضع نحو ما شهدوا عليهم في أموال اليتامى، وقوله: ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ في الزنا، ومضى ذكر التحاكم فخاطب القضاة والشهود عقيب ذلك كله بالقيام بالحق، وترك الميل.

ج. الثالث: قيل يتصل بقوله: ﴿فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ فمتى أردتم ذلك أيها المؤمنون فكونوا قوامين بالقسط.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾:

أ. قيل: يعني لتكن عادتكم القيام بالعدل في القول والفعل.

ب. وقيل: قوموا بحق الله في عباده.

ج. وقيل: كونوا قوالين بالعدل، عن ابن عباس.

د. وقيل: قوامين بالشهادة بالعدل.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾:

أ. قيل: كونوا قائلين بالعدل عند الشهادة لله.

ب. وقيل: كونوا شهداء لله، يشهدون بالصدق لبعضهم على بعض.

6. ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ يعني لتشهدوا بالحق على أنفسكم، والشهادة على نفسه قيل: بالإقرار للخصم، وإقراره له شهادة، وشهادته على نفسه تقبل، ولنفسه لا تقبل.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ﴾:

أ. قيل: يعني وإن كانت الشهادة على والديه.

ب. وقيل: كانت الشهادة للوالدين والولد جائزة في ابتداء الإسلام ثم نسخ، عن ابن شهاب.

ج. وقيل: المراد على الوالدين لهما، وذلك مقبول بالاتفاق.

8. ﴿وَالْأَقْرَبِينَ﴾ يعني وإن كانت الشهادة على الأقربين في الرحم منكم، فلا تميلوا إليه، ولكن أَقيموها بالقسط ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا﴾ يعني لا تحابوا غنيًّا لغناه، ولا ترحموا فقيرًا لفقره ﴿فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ يعني أولى بأن يحكم عليهما بما فيه الصلاح، وقد سوى بين الفقير والغني فيما أمركم به.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾:

أ. قيل: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا﴾ أنتم ﴿الْهَوَى﴾

ب. وقيل: لا تكن شهادتكم للهوى.

ج. وقيل: لا تتبعوا الهوى بالميل إلى أحد الخصمين في الحكم والشهادة، ولكن اتبعوا أمر الله وإعانة المظلوم.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾:

أ. قيل: معناه لا تتبعوا الهوى لتعدلوا كقولهم: لا تتبع هواك ليرضى ربك، عن الفراء، وتقديره: لا تتبع هواك كيما يرضى ربك.

ب. وقيل: فيه إضمار؛ لأن تقديره: لا تتبعوا الهوى أن تعدلوا أي: لا تقوموا بالعدل، قيل: لتعدلوا لتصرفوا الحق إلى غير أهله، عن الأصم.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾:

أ. قيل: تلوي لسانك أيها الشاهد بالشهادة فتحرفها، ولا تقيمها بالقسط، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد والضحاك وعطية.

ب. وقيل: تلووا فتُدفعوا إلى إقامة شهادتكم من لي الغريم.

ج. وقيل: تلووا أعناقكم عما أمركم الله تعالى به متغافلين، فلن يخفى فعلكم عليه، عن أبي مسلم.

د. وتلووا: قيل: تلوا أمور الناس من الولاية يعني وإن وليتم الحكم والشهادة فلا تغيروها عن وجهها.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾:

أ. قيل: عن الشهادة فتكتموها ولا تقيموها.

ب. وقيل: اللَّيُّ ببذل الشهادة، والإعراض كتمانها.

13. ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ يعني عليمًا بما تعملون فيها من التبديل والكتمان يجازيكم به، وأدخل ﴿كَانَ﴾ ليعلم أنه كان عليمًا لم يزل بما يفعله العباد.

14. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن الواجب على المرء سلوك طريقة العدل في نفسه وغيره بعيدًا كان أو قريبًّا، غنيًّا كان أو فقيرًا، ولا ينبغي أن يتبع الهوى.

ب. أنه متى كان عليه حق يجب أن يقر به، وإن لحقته مضرة.

ج. أنه يجب أن يشهد على غيره من غير محاباة.

د. وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هـ. أنه يجب على الحاكم أن يعدل في الحكم، وقد روي عن ابن عباس في معنى الآية أنهما الرجلان يجلسان إلى القاضي، فيكون لي القاضي وإعراضه على أحدهما دون الآخر، فتدل على أصل من أصول أدب القاضي، وأصل فيه أن يسوي بين الخصمين، فيدل على اعتبار أحوال القاضي وكيف يصنع.

و. أن شهادته على أولاده وآبائه مقبولة؛ لأنه لا تهمة فيه، ولا خلاف أن شهادته على هَؤُلَاءِ لا تقبل، فأما شهادته لهم فالأكثر على أنه لا يجوز، والأقل على أنها تجوز، واختلفوا في شهادة أحد الزوجين لصاحبه، فعندنا لا تجوز، وقال الشافعي: تجوز، ولا خلاف أنه يجوز للأخ والأخت والعم والخال ونحوهم من الأقارب.

ز. أن الشهادة تجب أن تقام بالقسط، ولا يعتبر الغني والفقير، فكان من الجائز أن الشاهد إذا عرف فقره ووجوب حق عليه، ومتى شهد حبس فلا يشهد، فأزال الله تعالى هذه الشبهة عن القلوب.

ح. أن الغنى والفقر من قبله تعالى؛ فلذلك قال الله تعالى: ﴿فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾

ط. أنه يلزم القسط كل من يَليَ أمرًا من قاض أو شاهد، وأن ينوي أن يقيمه لله، ولا ينوي ممايلة ومضارة، ويجب عدم اتباع الهوى بزيادة أو نقصان أو تحريف أو كتمان، وجميع ذلك يضر بالخصم.

15. قرأ ابن عامر وحمزة: (تَلُوا) بواو واحدة ساكنة وضم اللام، وقرأ الباقون بواوين مضمومة الواو ساكنة اللام، وهو الاختيار؛ لموافقة تفسير أهل العلم أنها بمعنى تلوي أيها الإنسان بالشهادة، فأما قراءة حمزة ففي وجهه قولان:

أ. الأول: أنه من الولاية أي: تلوا أمر الناس، وقمتم به.

ب. الثاني: على تقدير تَلوؤُ بهمزة الواو لانضمامها، ثم تلقى حركتها على الساكن الذي قبلها وتحذف على أضعف الوجهين، والقراءة الثانية: من لي الغريم، وهو المطل والدفع، فكأنه يدفع بالشهادة أحد الحقين بالشهادة الأخرى..

16. مسائل لغوية ونحوية:

أ. في نصب ﴿شَهِيدًا﴾ ثلاثة أوجه:

الأول: الحال مما في ﴿قَوَّامِينَ﴾

الثاني: أنه خبر ﴿كُونُوا﴾ على أن لها خبرين بمنزلة خبر واحد، نحو: هذا حُلْوٌ حامض.

الثالث: أن يكون صفة لـ ﴿قَوَّامِينَ﴾، أو ﴿الْوَالِدَيْنِ﴾ محله خفض، تقديره: أو على الوالدين.

ب. ﴿تُعْرِضُوا﴾ عطف على تلووا.

ج. ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ جواب الجزاء.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/105.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. القسط والإقساط: العدل، يقال: أقسط الرجل إقساطا: إذا عدل وأتى بالقسط، وقسط الرجل، يقسط، قسوطا: إذا جار، ويقال قسط البعير، يقسط، قسطا: إذا يبست يده، ويد قسطاء: أي يابسة، فكأن معنى إقساط: إقام الشيء على حقيقته في التعديل، وكان قسط: أي جار معناه: يبس الشيء وأفسد جهته المستقيمة، والقوام: فعال من القيام، وهو أن يكون عادته القيام.

ب. اللي: الدفع، يقال: لويت فلانا حقه: إذا دفعته ومطلته، ومنه الحديث: (لي الواجد ظلم) أي: مطل الغني جور.

2. لما ذكر سبحانه أن عنده ثواب الدنيا والآخرة، عقبه بالأمر بالقسط، والقيام بالحق، وترك الميل والجور، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ أي: دائمين على القيام بالعدل، ومعناه: ولتكن عادتكم القيام بالعدل في القول والفعل.

3. ﴿شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾: وهو جمع شهيد، أمر الله تعالى عباده بالثبات والدوام على قول الحق، والشهادة بالصدق، تقربا إليه وطلبا لمرضاته، وعن ابن عباس: (كونوا قوالين بالحق في الشهادة على من كانت، ولمن كانت، من قريب أو بعيد)

4. ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ أي: على والديكم، وعلى أقرب الناس إليكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على الصحة والحق، ولا تميلوا فيها لغنى غني، أو لفقر فقير، فإن الله قد سوى بين الغني والفقير فيما ألزمكم، من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل، وفي هذا دلالة على جواز شهادة الولد لوالده، والوالد لولده، وعليه وشهادة كل ذي قرابة لقريبه، وعليه وإليه، ذهب ابن عباس في قوله: أمر الله سبحانه المؤمنين أن يقولوا الحق، ولو على أنفسهم، أو آبائهم، ولا يحابوا غنيا لغناه، ولا مسكينا لمسكنته، وقال ابن شهاب الزهري: كان سلف المسلمين على ذلك، حتى دخل الناس فيما بعدهم، وظهرت منهم أمور، حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم، وأما شهادة الإنسان على نفسه، فيكون بالإقرار للخصم، فإقراره له شهادة منه على نفسه، وشهادته لنفسه لا تقبل.

5. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ معناه: إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا، أو المشهود له غنيا أو فقيرا، فلا يمنعكم ذلك عن قول الحق، والشهادة بالصدق، وفائدة ذلك أن الشاهد ربما امتنع عن إقامة الشهادة للغني على الفقير، لاستغناء المشهود له، وفقر المشهود عليه فلا يقيم الشهادة شفقة على الفقير، وربما امتنع عن إقامة الشهادة للفقير على الغني، تهاونا للفقير، وتوقيرا للغني، أو خشية منه، أو حشمة له، فبين سبحانه بقوله: ﴿فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ أنه أولى بالغني والفقير، وأنظر لهما من سائر الناس، أي: فلا تمتنعوا من إقامة الشهادة على الفقير شفقة عليه، ونظرا له، ولا من إقامة الشهادة للغني لاستغنائه عن المشهود به، فإن الله تعالى أمركم بذلك مع علمه بغناء الغني، وفقر الفقير، فراعوا أمره فيما أمركم به، فإنه أعلم بمصالح العباد منكم.

6. ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾: يعني هوى الأنفس في إقامة الشهادة، فتشهدوا على إنسان لإحنة بينكم وبينه، أو وحشة، أو عصبية، وتمتنعوا الشهادة له، لأحد هذه المعاني، وتشهدوا للإنسان بغير حق، لميلكم إليه، بحكم صداقة أو قرابة ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ أي: لأن تعدلوا يعني لأجل أن تعدلوا في الشهادة، قال الفراء: (هذا كقولهم لا تتبع هواك لترضي ربك)، أي كيما ترضي ربك، وقيل: إنه من العدول: الذي هو الميل والجور، ومعناه: ولا تتبعوا الهوى في أن تعدلوا عن الحق، أو لأن تعدلوا عن الحق.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾:

أ. قيل: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ أي تمطلوا في أداء الشهادة، ﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾ عن أدائها، عن ابن عباس، ومجاهد.

ب. وقيل: إن الخطاب للحكام أي: وإن تلووا أيها الحكام في الحكم لأحد الخصمين، على الآخر، ﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾ عن أحدهما إلى الآخر، عن ابن عباس، والسدي.

ج. وقيل معناه: ان تلووا أي تبدلوا الشهادة، أو تعرضوا، أي تكتموها، عن ابن زيد، والضحاك، وهو المروي عن أبي جعفر.

د. وقد روي عن ابن عباس في معنى قوله: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾ إنهما الرجلان، يجلسان بين يدي القاضي، فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما عن الآخر.

8. ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ معناه: إنه كان عالما بما يكون منكم من إقامة الشهادة، أو تحريفها، والاعراض عنها.

9. في هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسلوك طريقة العدل في النفس والغير.

10. قرأ ابن عامر وحمزة: (أن تلوا) بضم اللام، وواو واحدة ساكنة، والباقون: ﴿تَلْوُوا﴾ بواوين: الأولى: مضمومة، والثانية: ساكنة، من قرأ بواو واحدة، فحجته أن يقول: إنه من الولاية، وولاية الشيء إقبال عليه، وخلاف الاعراض عنه، فيكون المعنى: إن تقبلوا أو تعرضوا، فإن الله خبير بأعمالكم، يجازي المحسن المقبل بإحسانه، والمسئ المعرض بإعراضه وتركه الاقبال على ما يلزمه، أن يقبل عليه، قال وإذا قرأت ﴿تَلْوُوا﴾ فهي من اللي، واللي: مثل الاعراض، فيكون كالتكرير، ألا ترى أن قوله: (لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون) معناه الاعراض، وترك الانقياد للحق؟ ومن قرأ ﴿تَلْوُوا﴾ من لوى، فحجته أن يقول: لا ينكر أن يتكرر اللفظان بمعنى واحد، نحو قوله: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ وقول الشاعر: (وهند أتى من دونها النأي والبعد) وقول آخر: (وألفى قولها كذبا ومينا) وقيل: (إن تلوا) يجوز أن يكون تلووا، وإن الواو التي هي عين، همزت لانضمامها كما همزت في أدؤر، ثم طرحت الهمزة، وألقيت حركتها على اللام التي هي فاء، فصارت تلوا، كما تطرح الهمزة في أدؤر، وتلقى حركتها على الدال، فتصير آدر.

11. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿شُهَدَاءَ﴾: نصب على الحال من الضمير في قوله: ﴿قَوَّامِينَ﴾ وهو ضمير ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ويجوز أن يكون خبر كان على أن لها خبرين نحو: هذا حلو حامض، ويجوز أن يكون صفة لقوامين إن يكن غنيا، أو فقيرا، فالله أولى بهما، لم يقل به، لأنه أراد: فالله أولى بغناء الغني، وفقر الفقير، لان ذلك منه سبحانه، وقيل: إنما ثني الضمير، لان أو في هذا الموضع بمعنى الواو، وقيل: إنه لم يقصد غنيا بعينه، ولا فقيرا بعينه، فهو مجهول، وما ذلك حكمه يجوز أن يعود إليه الضمير بالتوحيد والتثنية، وقد ذكر أن في قراءة أبي (فالله أولى بهم)، وقيل: إنما قال بهما لأنهما قد ذكرا كما قال: ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ فلكل واحد منهما، وقيل: إنما جاز ذلك لأنه أضمر فيه من خاصم على ما نذكره في المعنى مشروحا.

ب. ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾: يجوز أن يكون في موضع نصب بأنه مفعول له: أي هربا من أن تعدلوا، وكراهة أن تعدلوا، ويجوز أن يكون في موضع جر على معنى: فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/187.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن فقيرا وغنيّا اختصما إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان صغوه‏ مع الفقير يرى أنّ الفقير لا يظلم الغنيّ، فنزلت هذه الآية، هذا قول السّدّيّ.

ب. الثاني: أنها متعلّقة بقصّة ابن أبيرق، فهي خطاب للذين جادلوا عنه، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ‏.

2. (القوّام): مبالغة من قائم، و(القسط): العدل، قال ابن عباس: كونوا قوّالين بالعدل في الشهادة على من كانت، ولو على أنفسكم، وقال الزجّاج: معنى الكلام: قوموا بالعدل، واشهدوا لله بالحقّ، وإن كان الحقّ على الشّاهد، أو على والديه، أو قريبه‏.

3. ﴿أَنْ يَكُنَّ﴾ المشهود له‏ ﴿غَنِيًّا﴾ فالله أولى به، وإن يكن فقيرا فالله أولى به، فأما الشهادة على النفس، فهي إقرار الإنسان بما عليه من حقّ، وقد أمرت الآية بأن لا ينظر إلى فقر المشهود عليه، ولا إلى غناه، فإنّ الله تعالى أولى بالنّظر إليهما، قال عطاء: لا تحيفوا على الفقير، ولا تعظّموا الغنيّ، فتمسكوا عن القول فيه، وممّن قال إن الآية نزلت في الشّهادات، ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، والزّهريّ، وقتادة، والضّحّاك.

4. في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ أربعة أقوال:

أ. أحدها: أن معناه: فلا تتّبعوا الهوى، واتّقوا الله أن تعدلوا عن الحقّ، قاله مقاتل.

ب. الثاني: ولا تتّبعوا الهوى لتعدلوا، قاله الزجّاج.

ج. الثالث: فلا تتّبعوا الهوى كراهية أن تعدلوا عن الحقّ.

د. الرابع: فلا تتّبعوا الهوى فتعدلوا، ذكرهما الماورديّ.

5. ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، والكسائيّ، تلووا، بواوين، الأولى: مضمومة، واللام ساكنة، وفي معنى هذه القراءة ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن يلوي الشاهد لسانه بالشهادة إلى غير الحقّ، قال ابن عباس: يلوي لسانه بغير الحقّ، ولا يقيم الشهادة على وجهها، أو يعرض عنها ويتركها، وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير، والضّحّاك، وقتادة، والسّدّيّ، وابن زيد.

ب. الثاني: أن يلوي الحاكم وجهه إلى بعض الخصوم، أو يعرض عن بعضهم، روي عن ابن عباس أيضا.

ج. الثالث: أن يلوي الإنسان عنقه إعراضا عن أمر الله لكبره وعتوه، ويكون: (أو تعرضوا) بمعنى: وتعرضوا، ذكره الماورديّ، وقرأ الأعمش، وحمزة، وابن عامر: (تلوا) بواو واحدة، واللّام مضمومة، والمعنى: أن تلوا أمور الناس، أو تتركوا، فيكون الخطاب للحكّام.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/485.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في اتصال الآية بما قبلها وجوه:

أ. الأول: أنه لما تقدم ذكر النساء والنشوز والمصالحة بينهن وبين الأزواج عقبه بالأمر بالقيام بأداء حقوق الله تعالى وبالشهادة لإحياء حقوق الله، وبالجملة فكأنه قيل: إن اشتغلت بتحصيل مشتهياتك كنت لنفسك لا لله، وإن اشتغلت بتحصيل مأمورات الله كنت لله لا لنفسك، ولا شك أن هذا المقام أعلى وأشرف، فكانت هذه الآية تأكيدا لما تقدم من التكاليف.

ب. الثاني: أن الله تعالى لما منع الناس عن أن يقصروا عن طلب ثواب الدنيا وأمرهم بأن يكونوا طالبين لثواب الآخرة ذكر عقيبه هذه الآية، وبين أن كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله حتى يصير من الذين يكونون في آخر مراتب الإنسانية وأول مراتب الملائكة، فأما إذا عكس هذه القضية كان مثل البهيمة التي منتهى أمرها وجدان علف، أو السبع الذي غاية أمره إيذاء حيوان.

ج. الثالث: أنه تقدم في هذه السورة أمر الناس بالقسط كما قال‏: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ [النساء: 3] وأمرهم بالإشهاد عن دفع أموال اليتامى إليهم، وأمرهم‏ بعد ذلك ببذل النفس والمال في سبيل الله، وأجرى في هذه السورة قصة طعمة بن أبيرق واجتماع قومه على الذب عنه بالكذب والشهادة على اليهودي بالباطل، ثم إنه تعالى أمر في هذه الآيات بالمصالحة مع الزوجة، ومعلوم أن ذلك أمر من الله لعباده بأن يكونوا قائمين بالقسط، شاهدين لله على كل أحد، بل وعلى أنفسهم، فكانت هذه الآية كالمؤكد لكل ما جرى ذكره في هذه السورة من أنواع التكاليف.

2. القوّام مبالغة من قائم، والقسط العدل، فهذا أمر منه تعالى لجميع المكلفين بأن يكونوا مبالغين في اختيار العدل والاحتراز عن الجور والميل.

3. ﴿شُهَدَاءَ لله﴾ أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها، ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم، وشهادة الإنسان على نفسه لها تفسيران:

أ. الأول: أن يقر على نفسه لأن الإقرار كالشهادة في كونه موجبا إلزام الحق.

ب. الثاني: أن يكون المراد وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره.

4. في نصب‏ ﴿شُهَدَاءَ﴾ ثلاثة أوجه:

أ. الأول: على الحال من‏ ﴿قَوَّامِينَ﴾

ب. الثاني: أنه خبر على أن‏ ﴿كُونُوا﴾ لها خبران.

ج. الثالث: أن تكون صفة لقوامين.

5. إنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه:

أ. الأول: أن أكثر الناس عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان في محل المسامحة وأحسن الحسن، وإذا صدر عن غيرهم كان في محل المنازعة فالله سبحانه نبّه في هذه الآية على سوء هذه الطريقة، وذلك أنه تعالى أمرهم بالقيام بالقسط أولا، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانيا، تنبيها على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير.

ب. الثاني: أن القيام بالقسط عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير، وهو الذي عليه الحق، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير.

ج. الثالث: أن القيام بالقسط فعل، والشهادة قول، والفعل أقوى من القول.

6. سؤال وإشكال: إنه تعالى قال: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18] فقدم الشهادة على القيام بالقسط، وهاهنا قدم القيام بالقسط، فما الفرق؟ والجواب: شهادة الله تعالى عبارة عن كونه تعالى خالقا للمخلوقات، وقيامه بالقسط عبارة عن رعاية القوامين بالعدل في تلك المخلوقات، فيلزم هناك أن تكون الشهادة مقدمة على القيام بالقسط، أما في حق العباد فالقيام بالقسط عبارة عن كونه مراعيا للعدل ومباينا للجور، ومعلوم أنه ما لم يكن الإنسان كذلك لم تكن شهادته على الغير مقبولة، فثبت أن الواجب في قوله: ﴿شَهِدَ الله﴾ أن تكون تلك الشهادة مقدمة على القيام بالقسط والواجب هاهنا أن تكون الشهادة متأخرة عن القيام بالقسط، ومن تأمل علم أن هذه الأسرار مما لا يمكن الوصول إليها إلا بالتأييد الإلهي.

7. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾ أي إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تكتموا الشهادة إما لطلب رضا الغنى أو الترحم على الفقير، فالله أولى بأمورهما ومصالحهما، وكان من حق الكلام أن يقال: فالله أولى به، لأن قوله: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ في معنى إن يكن أحد هذين إلا أنه بنى الضمير على الرجوع إلى المعنى دون اللفظ، أي الله أولى بالفقير والغني، وفي قراءة أُبي فالله أولى بهم، وهو راجع إلى قوله‏ ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ وقرأ عبد الله: إن يكن غني أو فقير، على (كان) التامة.

8. ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ والمعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل، وتحقيق الكلام أن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر، فتقدير الآية: فلا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا يعني اتركوا متابعة الهوى لأجل أن تعدلوا.

9. ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ وفي الآية قراءتان قرأ الجمهور ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ بواوين، وقرأ ابن عامر وحمزة تلوا:

أ. أما قراءة ﴿تَلْوُوا﴾ ففيه وجهان:

أحدهما: أن يكون بمعنى الدفع والاعراض من قولهم: لواه حقه إذا مطله ودفعه.

الثاني: أن يكون بمعنى التحريف والتبديل من قولهم: لوى الشيء إذا فتله، ومنه يقال: التوى هذا الأمر إذا تعقد وتعسر تشبيها بالشيء المنفتل.

ب. أما تلوا ففيه وجهان:

الأول: أن ولاية الشيء إقبال عليه واشتغال به، والمعنى أن تقبلوا عليه فتتموه أو تعرضوا عنه فإن الله كان بما تعملون خبيرا فيجازى المحسن المقبل بإحسانه والمسيء المعرض بإساءته، والحاصل: إن تلووا عن إقامتها أو تعرضوا عن إقامتها.

الثاني: قال الفرّاء والزجاج: يجوز أن يقال: تلوا أصله تلووا ثم قلبت الواو همزة، ثم حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها فصار ﴿تَلْوُوا﴾ وهذا أضعف الوجهين.

10. ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فهو تهديد ووعيد للمذنبين ووعد بالإحسان للمطيعين.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/241.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ﴾ ﴿قَوَّامِينَ﴾ بناء مبالغة، أي ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها، ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما، ثم ثنى بالأقربين إذ هم مظنة المودة والتعصب، فكان الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه، فجاء الكلام في السورة في حفظ حقوق الخلق في الأموال.

2. لا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية، وأن شهادة الولد على الوالدين الأب والأم ماضية، ولا يمنع ذلك من برهما، بل من برهما أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل، وهو معنى قوله تعالى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ فإن شهد لهما أو شهدا له، وقد اختلف فيها قديما وحديثا، فقال ابن شهاب الزهري: كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ، ويتأولون في ذلك قول الله تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله﴾ فلم يكن أحديتهم في ذلك من السلف الصالح، ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والزوجة، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعي وابن حنبل، وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا، وروي عن عمر بن الخطاب أنه أجازه، وكذلك روي عن عمر بن عبد العزيز، وبه قال إسحاق والثوري والمزني، ومذهب مالك جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلا إلا في النسب، وروى عنه ابن وهب أنها لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيب من مال يرثه، وقال مالك وأبو حنيفة: شهادة الزوج لزوجته لا تقبل، لتواصل منافع الأملاك بينهما وهي محل الشهادة، وقال الشافعي: تجوز شهادة الزوجين بعضهما لبعض، لأنهما أجنبيان، وإنما بينهما عقد الزوجية وهو معرض للزوال، والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص فيما عدا المخصوص فبقي على الأصل، وهذا ضعيف، فإن الزوجية توجب الحنان والمواصلة والألفة والمحبة، فالتهمة قوية ظاهرة، وقد روى أبو داوود من حديث سليمان بن موسى عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم، قال الخطابي: ذو الغمر هو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة، فترد شهادته عليه للتهمة، وقال أبو حنيفة: شهادته على العدو مقبولة إذا كان عدلا، والقانع السائل والمستطعم، وأصل القنوع السؤال، ويقال في القانع: إنه المنقطع إلى القوم يخدمهم ويكون في حوائجهم، وذلك مثل الأجير أو الوكيل ونحوه، ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر المنفعة إلى نفسه، لأن القانع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع، وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعا فشهادته مردودة، كمن شهد لرجل على شراء دار هو شفيعها، أو كمن حكم له على رجل بدين وهو مفلس، فشهد المفلس على رجل بدين ونحوه، قال الخطابي: ومن رد شهادة القانع لأهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس قوله أن يرد شهادة الزوج لزوجته، لأن ما بينهما من التهمة في جر المنفعة أكثر، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والحديث حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه، لأنه يجر به النفع لما جبل عليه من حبه والميل إليه، ولان يمتلك عليه ماله، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنت ومالك لأبيك)

3. ﴿شُهَدَاءَ لله﴾ نصب على النعت لـ ﴿قَوَّامِينَ﴾، وإن شئت كان خبرا بعد خبر، قال النحاس: وأجود من هذين أن يكون نصبا على الحال بما في ﴿قَوَّامِينَ﴾ من ذكر الذين آمنوا، لأنه نفس المعنى، أي كونوا قوامين بالعدل عند شهادتكم، قال ابن عطية: والحال فيه ضعيفة في المعنى، لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط، ولم ينصرف ﴿شُهَدَاءَ﴾ لأن فيه ألف التأنيث.

4. ﴿لله﴾ معناه لذات الله ولوجهه ولمرضاته وثوابه، ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿شُهَدَاءَ﴾، هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس، وأن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق فيقر بها لأهلها، فذلك قيامه بالشهادة على نفسه، كما تقدم، أدب الله جل وعز المؤمنين بهذا، كما قال ابن عباس: أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم، ويحتمل أن يكون قوله: ﴿شُهَدَاءَ لله﴾ معناه بالوحدانية لله، ويتعلق قوله: ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ بـ ﴿قَوَّامِينَ﴾ والتأويل الأول أبين.

5. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ في الكلام إضمار وهو اسم كان، أي إن يكن الطالب أو المشهود عليه غنيا فلا يراعى لغناه ولا يخاف منه، وإن يكن فقيرا فلا يراعى إشفاقا عليه، ﴿فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ [أي] فيما اختار لهما من فقر وغنى، قال السدي: اختصم إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم غني وفقير، فكان ضلعه [صلّى الله عليه وآله وسلّم] مع الفقير، ورأى أن الفقير لا يظلم الغني، فنزلت الآية.

6. ﴿فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ إنما قال: ﴿بِهِمَا﴾ ولم يقل ﴿بِهِ﴾ وإن كانت ﴿أَوْ﴾ إنما تدل على الحصول الواحد، لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما، وقال الأخفش: تكون ﴿أَوْ﴾ بمعنى الواو، أي إن يكن غنيا وفقيرا فالله أولى بالخصمين كيفما كانا، وفيه ضعف، وقيل: إنما قال: ﴿بِهِمَا﴾ لأنه قد تقدم ذكر هما، كما قال تعالى: ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾

7. ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾ نهي، فإن اتباع الهوى مرد، أي مهلك، قال الله تعالى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ فاتباع الهوى يحمل على الشهادة بغير الحق، وعلى الجور في الحكم، إلى غير ذلك، وقال الشعبي: أخذ الله تعالى على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا، ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ في موضع نصب.

﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾ قرئ ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ من لويت فلانا حقه ليا إذا دفعته به، والفعل منه لوى) والأصل فيه لوى) قلبت الياء ألفا لحركتها وحركة ما قبلها، والمصدر ﴿لَيًّا﴾ والأصل لويا، وليانا والأصل لويانا، ثم أدغمت الواو في الياء، وقال القتبي: ﴿تَلْوُوا﴾ من اللي في الشهادة والميل إلى أحد الخصمين، وقرأ ابن عامر والكوفيون تلوا) أراد قمتم بالأمر [وأعرضتم، من قولك: وليت الأمر، فيكون في الكلام معنى التوبيخ للإعراض عن القيام بالأمر، وقيل: إن معنى (تلوا) الإعراض، فالقراءة بضم اللام تفيد معنيين: الولاية والإعراض، والقراءة بواوين تفيد معنى واحدا وهو الإعراض، وزعم بعض النحويين أن من قرأ (تلوا) فقد لحن، لأنه لا معنى للولاية ها هنا، قال النحاس وغيره: وليس يلزم هذا ولكن تكون (تلوا) بمعنى ﴿تَلْوُوا﴾ وذلك أن أصله ﴿تَلْوُوا﴾ فاستثقلت الضمة على الواو بعدها واو أخرى، فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين، وهي كالقراءة بإسكان اللام وواوين، ذكره مكي، وقال الزجاج: المعنى على قراءته ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ ثم همز الواو الأولى: فصارت ﴿تَلْوُوا﴾ ثم خففت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام فصارت تلوا) وأصلها ﴿تَلْوُوا﴾، فتتفق القراءتان على هذا التقدير، وذكره النحاس ومكي وابن العربي وغيرهم، قال ابن عباس: هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر، فاللي على هذا مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنفاذه للذي يميل القاضي إليه، قال ابن عطية: وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك، والله حسيب الكل، وقال ابن عباس أيضا والسدي وابن زيد والضحاك ومجاهد: هي في الشهود يلوي الشاهد الشهادة بلسانه ويحرفها فلا يقول الحق فيها، أو يعرض عن أداء الحق فيها، ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة، وكل إنسان مأمور بأن يعدل، وفي الحديث: لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)، قال ابن الأعرابي: عقوبته حبسه، وعرضه شكايته.

8. استدلّ بعض العلماء في رد شهادة العبد بهذه الآية، فقال: جعل الله تعالى الحاكم شاهدا في هذه الآية، وذلك أدل دليل على أن العبد ليس من أهل الشهادة، لأن المقصود منه الاستقلال بهذا المهم إذا دعت الحاجة إليه، ولا يتأتى ذلك من العبد أصلا فلذلك ردت الشهادة.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/351.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قَوَّامِينَ﴾ صيغة مبالغة، أي: ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق، وأما شهادته على والديه: فبأن يشهد عليهما بحق للغير، وكذلك الشهادة على الأقربين، وذكر الأبوين لوجوب برّهما وكونهما أحبّ الخلق إليه، ثم ذكر الأقربين، لأنهم مظنة المودّة والتعصب، فإذا شهدوا على هؤلاء بما عليهم فالأجنبي من الناس أحرى أن يشهدوا عليه، وقد قيل: إن معنى الشهادة على النفس: أن يشهد بحق على من يخشى لحوق ضرر منه على نفسه وهو بعيد، وقوله:

2. ﴿شُهَدَاءَ لله﴾ خبر بعد خبر لكان، أو حال، ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث، وقال ابن عطية: الحال فيه ضعيفة في المعنى، لأنها تخصص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط، وقوله: ﴿لله﴾ أي: لمرضاته وثوابه، وقوله: ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ متعلق بشهداء، هذا المعنى الظاهر من الآية؛ وقيل: معنى‏ ﴿شُهَدَاءَ لله﴾: بالوحدانية، فيتعلق قوله: ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ بقوّامين، والأوّل أولى.

3. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ اسم كان مقدّر، أي: إن يكن المشهود عليه غنيا فلا يراعى لأجل غناه، استجلابا لنفعه، أو استدفاعا لضره، فيترك الشهادة عليه، أو فقيرا فلا يراعى لأجل فقره رحمة له، وإشفاقا عليه، فيترك الشهادة عليه.

4. إنما قال: ﴿فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾ ولم يقل: به، مع أن التخيير إنما يدل على الحصول لواحد، لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما، وقال الأخفش: تكون أو بمعنى الواو؛ وقيل: إنه يجوز ذلك مع تقدّم ذكرهما كما في قوله: ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾، وقد تقدّم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا، وقرأ أبيّ: فالله أولى بهم، وقرأ ابن مسعود: إن يكن غنيّ أو فقير على أن: كان، تامة.

5. ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾ نهاهم عن اتباع الهوى، وقوله: ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ في موضع نصب، وهو إما من العدل، كأنه قال فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس؛ أو من العدول، كأنه قال فلا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق، أو كراهة أن تعدلوا عن الحق.

6. ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ من الليّ، يقال: لويت فلانا حقه: إذا دفعته عنه، والمراد ليّ الشهادة ميلا إلى المشهود عليه، وقرأ ابن عامر والكوفيون: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ من الولاية، أي: وإن تلوا الشهادة وتتركوا ما يجب عليكم من تأديتها على وجه الحق، وقد قيل: إن هذه قراءة تفيد معنيين: الولاية، والإعراض، والقراءة الأولى: تفيد معنى واحدا وهو الإعراض، وزعم بعض النحويين أن القراءة الثانية: غلط ولحن، لأنه لا معنى للولاية هاهنا، قال النحاس وغيره: وليس يلزم هذا، ولكن يكون تلوا بمعنى تلووا، وذلك أن أصله تلووا فاستثقلت الضمة على الواو بعدها واو أخرى فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين، وذكر الزجاج نحوه.

7. ﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾ أي: عن تأدية الشهادة من الأصل‏ ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ أي: لما تعملون من الليّ والإعراض أو من كل عمل، وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة كما تجب عليه، وقد روي أن هذه الآية تعمّ القاضي والشهود، أما الشهود فظاهر، وأما القاضي فذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين أو يلوي عن الكلام معه؛ وقيل: هي خاصة بالشهود.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/605.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ﴾ مبالغين في القيام كثرة وكيفًا، مستمرِّين على ذلك؛ فلا شهادة للعبد، لأنَّه لا يكون قوَّامًا، إذ لا يخرج ولا يعمل إلَّا بسيِّده، ﴿بِالْقِسْطِ﴾ العدل ﴿شُهَدَآءَ لِلهِ﴾ لوجه الله بالحقِّ لا لغرض دنيويٍّ، وسواء القريب والبعيد نفعًا أو ضرًّا عمومًا، ولو خصَّ الضرّ في قوله: ﴿وَلَوْ﴾ كانت الشهادة ﴿عَلَى أَنفُسِكُم﴾ مضرَّة عليها، أو ولو كنتم شهداء على أنفسكم.

2. والمراد بالشهادة بيان الحقِّ، فتشمل الإقرار على النفس، وإن أبقي الكلام على ظاهره كان جمعًا بين الحقيقة والمجاز، أو يحمل على عموم المجاز؛ وذلك أنَّ شهادة المرء على نفسه غير معهودة، إلَّا أنَّه قد يقال الإقرار في أصل اللغة شهادة، وقد جاء ﴿تَشْهَدُ عَلَيْهِمُ أَلْسِنَتُهُمْ﴾ [النور: 24]، أو ولو شهدتم على أنفسكم، أو ولو كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم، ولا يعلَّق بـ (قَوَّامِينَ) لأنَّ (لَوْ) قاطعة عن ذلك؛ لأنَّها تطلب فعلاً وَلَا بُدَّ، وهي وصليَّة، ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالَاقْرَبِينَ﴾ كالابن والأخ والعمِّ.

3. ﴿إِنْ يَّكُنْ﴾ أي: المشهود عليه ﴿غَنِيًّا اَوْ فَقِيرًا﴾ فلا تمتنعوا من إقامة الشهادة أو لا تجوروا ميلاً وترحُّمًا، ﴿فَاللهُ﴾ لأنَّ الله ﴿أَوْلَىٰ بِهِمَا﴾ منكم، وأعلم بالمحقِّ والمبطل.

4. اختصم غنيٌّ وفقير إلى النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وكان النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يظنُّ أنَّ الفقير لا يظلم الغنيَّ، فأمره الله في هذه الآية بالقيام بالقسط مع الغنيِّ والفقير، وكأنَّه قيل: الله أولى بالفقير والغنيِّ، وأَنظَرُ لهما، والمراد: الجنس، بدليل قراءة أُبَيٍّ: (فالله أولى بهم)، ولا تعرض في الآية للشهادة لهم بل عليهم، وحملها بعض على الوجهين معًا، وللآية اتِّصَال بقصة طعمة بن أبيرق المتقدِّمة، إذ شهد له قومه بالباطل لقرابته.

5. ثنَّى الضمير مع أنَّ العطف بـ (أَوْ) لأنَّه إنَّما يُحذَر مثلُ ذلك حيث تجب المطابقة، كالخبر مع المبتدأ، والحال مع صاحبه، والنعت مع منعوته، لا في غير ذلك كما هنا، مع أنَّه يجوز عود الضمير هنا إلى الغني والفقير المدلول عليهما بقوله: ﴿غَنِيًّا اَوْ فَقِيرًا﴾، لا إلى المذكورين في الآية، فإنَّه أولى بجنس الغنيِّ والفقير، ومع أنَّه يجوز عوده إلى المشهود له والمشهود عليه على أيِّ وصف كان، والمدَّعِي والمدَّعَى عليه كذلك، وكلٌّ إمَّا فقيرٌ أو غنيٌّ، أو كلاهما فقير، أو كلاهما غنيٌّ، وعطف الأوَّل بـ (أَوْ) لأنَّه مقابل الأنفس بخلاف الثاني، وذلك كما كان بعدُ غنيًّا للمقابلة، أي: غنيًّا يُرجى نفعه أو يُخافُ ضرُّه، أو فقيرًا يُترحَّم عليه، ووجه الإفراد أنَّ (أَوْ) لأحد الشيئين، وقيل: (أَوْ) بمعنى الواو، وقيل: للتفصيل.

6. ﴿فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ﴾ لأن تعدلوا، أي: لأن تميلوا عن الحقِّ، أو كراهة أن تعدلوا، أي: كراهة أن تعملوا بالحقِّ، أو نهيتكم لتكونوا عادلين، من العدل ضدّ الجور.

7. ﴿وَإِن تَلْوُواْ﴾ ألسنتكم عن تحمُّل شهادة الحقِّ أو حكومة العدل، أي: الحقِّ، أو تلووها بالتحريف، وعن ابن عبَّاس: (اللَّيُّ: المطل في أدائها)، ﴿أَوْ تُعْرِضُواْ﴾ عن أدائها، ولا يصحُّ أن يراد باللَّيِّ والإعراض معنى واحد، كقوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَآئِكَةُ كُلُّهُمُ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: 30، وسورة ص: 73] ولو أجازه الفارسيُّ؛ لأنَّ العطف بـ (أَوْ) لا بالواو، وقيل: إنَّ الخطاب للحكَّام، وإنَّ اللَّيَّ الحكمُ بالباطل، وإنَّ الإعراض عدم الالتفات إلى أحد الخصمين، وهو رواية عن ابن عبَّاس  ، ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ جازاكم الله على اللَّيِّ أو الإعراض لأنَّ الله ﴿كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من اللَّيِّ والإعراض وغيرهما ﴿خَبِيرًا﴾

8. كان السلف يجيزون شهادة الوالد للولد، والولد للوالد، حتَّى ظهر من الناس ما حمل الوُلَاة على اتِّهام الناس، فتُركت شهادة من يُتَّهم، وكذلك كان ابن عبَّاس يجيز شهادة كلٍّ للآخر.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/314.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ أي مقتضى إيمانكم المبالغة والاجتهاد في القيام بالعدل والاستقامة، إذ به انتظام أمر الدارين الموجب لثوابهما، ومن أشده القيام بالشهادة على وجهها، فكونوا ﴿شُهَدَاءَ لله﴾ أي: مقيمين للشهادة بالحق، مؤدين لها لوجهه تعالى، ولو كانت الشهادة ﴿عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ فاشهدوا عليها بأن تقروا بالحق عليها ولا تكتموه‏ ﴿أَوْ﴾ على‏ ﴿الْوَالِدَيْنِ﴾ أي الأصول‏ ﴿وَالْأَقْرَبِينَ﴾ أي الأولاد والإخوة وغيرهم، فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد.

2. ﴿أَنْ يَكُنَّ﴾ أي: من تشهدون عليه‏ ﴿غَنِيًّا﴾ يبتغي في العادة رضاه ويتقي سخطه‏ ﴿أَوْ فَقِيرًا﴾ يترحم عليه غالبا، أو يخاف من الشهادة عليه أن يلجئ الأمر إلى أن يعطي ما يكفيه‏ ﴿فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾ أي: من المشهود عليه، واعلم بما فيه صلاحهما، فلولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها، لأن أنظر لعباده من كل ناظر.

3. ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ أي: إرادة العدول عن أمر الله الذي هو مصلح أموركم، وأمور المشهود عليهم، لو نظرتم ونظروا إليه، قال ابن كثير: أي: لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم، على ترك العدل في شؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8] ومن هذا قول عبد الله بن رواحة، لما بعثه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله! لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من أعدائكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض‏ ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ أي: تحرفوا ألسنتكم عن الشهادة على وجهها ﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾ أي: عنها بكتمها ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فيجازيكم على ذلك، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: 283].

4. قال بعض مفسري الزيدية: لهذه الآية ثمرات، هي أحكام:

أ. الأول: وجوب العدل على القضاة والولاة، وأن لا يعدل عن القسط لأمر تميل إليه النفوس وشهوات القلوب من غنى أو فقر أو قرابة، بل يستوي عنده الدنيء والشريف والقريب والبعيد، ويروى أن عمر أقام حدّا على ولد له، فذاكره في حق القرابة، فقال: إذا كان يوم القيامة شهدت عند الله أن أباك كان يقيم عليك الحدود، الحكم

ب. الثاني: أنه يجب الإقرار على من عليه الحق ولا يكتمه، لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ والمراد بالشهادة على النفس الإقرار، وهذا ظاهر، وقيل المعنى: ولو كانت الشهادة وبالا ومضرة على أنفسكم وآبائكم، بأن تكون الشهادة على سلطان ظالم، وهذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء إذا خشي مضرة دون القتل، هل يجب عليه الشهادة أم لا؟ فقيل: يجب لأنه لا يحفظ ماله بتلف مال غيره، وعن الشافعية والمتكلمين، وصحح للمذهب، أنه لا يجب، لأن الشهادة أمر بمعروف، وشرطه أن لا يؤدي إلى منكر، ولكن إنما يسقط عنه أداء الشهادة بحصول الظن لمضرته، لا بمجرد الخشية، وقد قال المؤيد بالله في (الإفادة): على الشاهد أن يشهد وإن خشي على نفسه وماله، لأن الذي يخشاه مظنون، ولعله غير كائن، يؤول على أن مراده مجوّز لا أنه قد ظن حصول المضرة، وهذا يجوز له الشهادة مع الخشية على نفسه، قال في (شرح الإبانة): يجوز إذا كان قتله إعزازا للدين، كالنهي عن المنكر، أمّا لو كتم لغير عذر فلا إشكال في عصيانه، وعن ابن عباس: ذلك من الكبائر، الحكم

ج. الثالث: يتعلق بقوله تعالى:‏ ﴿شُهَدَاءَ لله﴾ أي: تشهدون لوجه الله كما أمركم، وفي هذا دلالة على أن أخذ الأجرة على تأدية الشهادة لا يجوز، لأنه لم يقمها للّه، وقد استثنى أهل الفقه صورا جوّزوا أخذ الأجرة على تأدية الشهادة، منها: إذا طلب إلى موضع، لأن الخروج غير واجب عليه، ومنها: إذا كان غيره يشهد ويحصل به الحق، فإن شهادته غير لازمة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/368.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قد علم مما سبق مكان هذه الآيات وما بعدها إلى آخر السورة مما قبلها وهي أحكام عامة في الإيمان والعمل وأحوال المنافقين وأهل الكتاب في ذلك، فأما قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ الخ فهو يتصل بما قبله من الآيات القريبة خاصة بما فيه من الأمر العام بالقسط بعد الأمر بالقسط في اليتامى والنساء، فهنالك خص اليتامى والنساء في سياق الاستفتاء فيهن، ولأن حقهن آكدا، وظلمهن معهود، وهاهنا عمم الأمر بالقسط لأن العدل حفاظا النظام، وقوام أمر الاجتماع، وبما فيه من الشهادة لله بالحق ولو على النفس أو الوالدين والأقربين وعدم محاباة أحد في ذلك لغناه، أو مراعاته لفقره، لأن العدل والحق مقدمان على الحقوق الشخصية وحقوق القرابة وغيرها، وكانت محاباة الأقربين معهودة في الجاهلية، لأن أمرهم قائم بالعصبية، فالواحد منهم كان ينصر قومه وأهل عصبيته لأنه يعتز بهم، كما يظلم النساء واليتامى لضعفهن، وعدم الاعتزاز بهن، فحضر الله محاباة المرء نفسه أو أهله هنا وإعطاءهم ما ليس لهم من الحق، يقابل حظر ظلم النساء واليتامى هناك وهضم ما لهن من الحق، روى ابن المنذر من طريق ابن جرير عن مولى لابن عباس قال: لما قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة كانت البقرة أول سورة نزلت ثم أردفتها سورة النساء قال: فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابنه أو ابن عمه أو ذوي رحمه فيلوي بها لسانه أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر فيقضي فنزلت ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله﴾ فتأمل كيف بقي تأثير المحاباة فيهم بعد الإسلام حتى نزلت الآية.

2. القوامون بالقسط هم الذين يقيمون العدل بالإتيان به على أتم الوجوه وأكملها وأدومها فإن ﴿قَوَّامِينَ﴾ جمع قوام وهو المبالغ في القيام بالشيء، والقيام بالشيء هو الإتيان به مستويا تاما لا نقص فيه ولا عوج، ولذلك أمر تعالى بإقامة الصلاة وإقامة الشهادة وإقامة الوزن بالقسط، لتأكيد العناية بهذه الأشياء، ومن بنى جدارا مائلا أو ناقصا لا يقال إنه أقام البناء أو أقام الجدار، قال تعالى: فوجدوا فيها ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾ [الكهف: 77]، وإنما احتاج الجدار إلى الإقامة لأنه كان مائلا متداعيا للسقوط، وهذه العبارة أبلغ ما يمكن أن يقال في تأكيد أمر العدل والعناية به، فالأمر بالعدل والقسط مطلقا يكون بعبارات مختلفة بعضها آكد من بعض: تقول اعدلوا أو أقسطوا، وتقول كونوا عادلين أو مقسطين، وهذه أبلغ لأنها أمر بتحصيل الصفة لا بمجرد الإتيان بالقسط الذي يصدق بمرة، وتقول: أقيموا القسط، وأبلغ منه: كونوا قائمين بالقسط، وأبلغ من هذا وذاك: كونوا قوامين بالقسط، أي لتكن المبالغة والعناية بإقامة القسط على وجهه صفة من صفاتكم، بأن تتحروه بالدقة التامة حتى يكون ملكة راسخة في نفوسكم.

3. والقسط يكون في العمل كالقيام بما يجب من العدل بين الزوجات والأولاد، ويكون في الحكم بين الناس ممن يوليه السلطان أو يحكمه الناس فيما بينهم، وكان ينبغي أن يكون المسلمون بمثل هذه الهداية أعدل الأمم وأقومهم بالقسط، وكذلك كانوا عندما كانوا مهتدين بالقرآن، وصدق على سلفهم قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: 181] ثم خلف من بعد أولئك السلف خلف نبذوا هداية القرآن وراء ظهورهم، حتى صارت جميع الأمم تضرب المثل بظلم حكامهم وسوء حالهم، وتفخر عليهم بالعدل، بل صار الذين ليس لهم من الإسلام إلا اسمه يلتمسون من تلك الأمم القسط، وما يهدي إليه من العلم.

4. ﴿شُهَدَاءَ لله﴾ خبر بعد خبر أي كونوا شهداء لله والشهداء جمع شهيد بوزن (فعيل) والأصل في صيغة (فعيل) أن تدل على الصفات الراسخة كعليم وحكيم فهو على هذا أمر بالعناية بأمر الشهادة والرسوخ فيها، وقد تقدم تفسير الشهادة في تفسير أواخر سورة البقرة.. ومعنى كون الشهادة لله أن يتحرى فيها الحق الذي يرضاه ويأمر به من غير مراعاة ولا محاباة لأحد.

5. ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ أي كونوا شهداء بالحق لوجه الله وامتثال أمره واتباع شرعه، الذي تنالون به مرضاته ومثوبته، ولو كانت الشهادة على أنفسكم، بأن يثبت بها الحق عليكم ومن أقر على نفسه بحق فقد شهد عليها لأن الشهادة إظهار الحق أو على والديكم وأقرب الناس إليكم كأولادكم وإخوتكم، فإنه ليس من بر الوالدين ولا من صلة رحم الأقربين أن يعانوا على ما ليس لهم بحق، بالإعراض عن الشهادة عليهم، أو ليها والتحريف فيها لأجلهم، وإنما البر والصلة في الحق والمعروف والحق أحق أن يتبع والذين يتعاونون على الظلم وهضم حقوق الناس يتعاون الناس على ظلمهم وهضم حقوقهم، فتكون المحاباة في الشهادة من أسباب فشو الظلم والعدوان، وذلك من المفاسد التي لا يأمن شرها أحد من الناس، فالمحاباة في الشهادة مفسدة ضررها عام وإن كانت لمصلحة يريد المحابي بها نفع أهله أو الشفقة على فقير أو العصبية لغني ولذلك قال عز وجل:

6. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾ أي إن يكن المشهود عليه من الأقربين أو غيرهم غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، وشرعه أحق أن يتبع فيهما، فلا تحابوا الغني طمعا في بره، ولا خوفا من شره، ولا الفقير عطفا عليه ورحمة به، فمرضاة الفقير ليست خيرا لكم ولا له من مرضاة الله تعالى، ولا أنتم أرحم بالفقير وأعلم بمصلحته من ربه عز وجل، ولولا أنه تعالى يعلم أن العدل وإقامة الشهادة بالحق، هي خير للشاهد والمشهود عليه، سواء كان غنيا أو فقيرا لما شرع الله ذلك وأوجبه، روى ابن جرير عن السدي في الآية قال: (نزلت في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اختصم إليه رجلان غني وفقير فكان حلفه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير)، أي كان ميله القلبي موجها إلى الفقير لظنه أنه لا يتصدى لظلم الغني، وهو وإن ظن ذلك لا يحكم إلا بالحق الذي تظهره البينة والحجة سواء أنزلت الآية في ذلك أم لا، وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في هذه الآية أنه قال ونعم ما قال: هذا في الشهادة، فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك أو الوالدين أو الأقربين أو على ذي قرابتك وأشراف قومك، فإنما الشهادة لله وليست للناس، وإن الله رضي بالعدل لنفسه والإقساط، والعدل ميزان الله في الأرض، به يرد الله من الشديد على الضعيف، ومن الصادق على الكاذب، ومن المبطل على المحق، وبالعدل يصلح الصادق ويكذب الكاذب ويرد المعتدي ويوبخه تعالى ربنا وتبارك، وبالعدل يصلح الناس، يا ابن آدم، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، ويقول الله أنا أولى بغنيكم وفقيركم، ولا يمنعك غنى غني ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم فإن ذلك من الحق.

7. ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ أي فلا تتبعوا الهوى وميل النفس إلى أحد ممن كلفتم العدل فيهم، أو الشهادة لهم أو عليهم، كراهة أن تعدلوا، بل آثروا العدل على الهوى، فبذلك يستقيم الأمر في الورى، أو لا تتبعوا الهوى لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل فالهوى مزلة الأقدام.

8. ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ كتبت ﴿تَلْوُوا﴾ في المصحف الإمام بواو واحدة لتحتمل القراءتين المتواترتين وهي قراءة الكوفيين (تلوا) بضم اللام وإسكان الواو من الولاية وقراءة الباقين بسكون اللام وضم الواو من اللي والمعنى على الأول: وإن تلوا أمر الشهادة وتؤدوها، أو تعرضوا على تأديتها وتكتموها، فإن الله كان خبيرا بعملكم لا يخفى عليه قصدكم ونيتكم فيه، وعلى الثاني وإن تلووا ألسنتكم بالشهادة وتحرفوها، أو تعرضوا عنها فلا تؤدوها، فإن الله كان بعملكم هذا خبيرا فيجازيكم عليه، وقد ذكرهم هنا بكونه خبيرا ولم يقل عليما لأن الخبرة هي العلم بدقائق الأمور وخفاياها، فهي التي تناسب هذا المقام الذي تختلف فيه النيات، ويكثر فيه الغش والاحتيال، حتى أن الإنسان ليغش نفسه ويلتمس لها العذر في كتمان الشهادة أو التحريف فيها، فهل يتدبر المسلمون الآية كما أمرهم الله بتدبر القرآن فيقيموا العدل والشهادة بالحق، أم يعملون برأي أهل الحيل الذين يزعمون أن الله كلفهم اتباعهم دون اتباع كتابه والاهتداء به؟

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/370.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن أمر سبحانه بالقسط في اليتامى والنساء في سياق الاستفتاء فيهن، لأن حقهن آكد وضعفهن معهود ـ عمم الأمر هنا بالقسط بين الناس، لأن قوام أمور الاجتماع لا يكون إلا بالعدل، وحفظ النظام لا يتم إلا به وبما فيه من الشهادة لله بالحق ولو على النفس والوالدين والأقربين وعدم محاباة أحد لغناه أو لفقره، لأن العدل مقدم على حقوق النفس وحقوق القرابة وغيرها، وقد كانت سنة الجاهلية محاباة ذوى القربى، لأنه يعتزّ بهم كما كانوا يظلمون النساء واليتامى لضعفن وعدم الاعتزاز بهن.

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ القوام: هو المبالغ في القيام بالشيء والإتيان به مستوفيا تاما لا نقص فيه، وقد أمر الله بإقامة الصلاة وإقامة الشهادة وإقامة الوزن بالقسط تأكيدا للعناية بهذه الأشياء، أي فلتجعلوا العناية بإقامة القسط على وجهه صفة ثابتة لكم راسخة في نفوسكم، والعدل كما يكون في الحكم بين الناس ممن يوليه السلطان أو يحكّمه الناس فيما بينهم، يكون في العمل كالقيام بما يجب بين الزوجات الأولاد من النّصفة والمساواة بينهم، ولو سار المسلمون على هدى القرآن لكانوا أعدل الأمم وأقومهم بالقسط، وقد كانوا كذلك ردحا من الدهر حين كانوا مهتدين بهديه، ولكن قد خلف من بعدهم خلف نبذوا تلك الهداية وراء ظهورهم فصارت تضرب بهم الأمثال في ظلم حكامهم وسوء أحوالهم.

3. ﴿شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ أي كونوا شهداء لله بأن تتحرّوا الحق الذي يرضاه ويأمر به من غير مراعاة أحد ولا محاباته، ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن يثبت بها الحق عليكم (ومن أقر على نفسه بحق فقد شهد عليها، لأن الشهادة إظهار الحق) أو على والديكم وأقرب الناس إليكم كأولادكم وإخوتكم، إذ ليس من بر الوالدين ولا من صلة ذوى الرحم أن يعانوا على ما ليس لهم بحق الإعراض عن الشهادة عليهم أو ليّها والتحريف فيها، بل البر والصلة في الحق والمعروف، وليس من شك في أن الحياة قصاص، فالذين يتعاونون على الظلم وهضم حقوق الناس، يتعاون الناس على ظلمهم وهضم حقوقهم، فتكون المحاباة من أسباب فشوّ الظلم والعدوان والمفاسد التي لا يؤمن شرها.

4. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾ أي إن يكن المشهود عليه من الأقارب أو غيرهم غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، وشرعه أحق أن يتبع فيهما، فحذار أن تحابوا غنيا طمعا في برّه، ولا خوفا من أذاه وشره، ولا فقيرا عطفا عليه وشفقة به، فمرضاة كل منهما ليست خيرا لكم ولا لهما من مرضاة الله، ولستم أعلم بمصلحتهما من ربهما، ولولا أنه يعلم أن العدل وإقامة الشهادة بالحق خير للشاهد والمشهود عليه لما شرع ذلك ولا أوجبه.

5. ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ أي فلا تتبعوا الهوى لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل، إذ في الهوى الزلل، ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ أي وإن تلووا ألسنتكم بالشهادة وتحرّفوها أو تعرضوا عنها فلا تؤدوها فالله خبير بأعمالكم لا يخفى عليه قصدكم فهو مجازيكم بما تعملون. وعبر بالخبير ولم يعبر بالعليم، لأن الخبرة العلم بدقائق الأمور وخفاياها، والشهادة يكثر فيها الغشّ والاحتيال حتى لقد يغش الإنسان فيها نفسه ويلتمس المعاذير في كتمان الشهادة أو تحريفها، فليتدبر المسلمون ذلك، وليعملوا بهدى كتابهم، ويقيموا الشهادة بالحق، ففي ذلك فلاحهم في دينهم ودنياهم.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/179.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا الدرس حلقة من سلسلة التربية المنهجية، التي تولتها يد الرعاية الإلهية؛ لإخراج الأمة التي قال الله فيها: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.. وهي حلقة من المنهج الثابت المطرد الخطو، المرسوم الأهداف لمعالجة النفس البشرية بالدواء الذي صنعه صانع هذه النفس سبحانه الخبير بدروبها ومنحنياتها، البصير بطبيعتها وحقيقتها، العليم بضروراتها وأشواقها، وبمقدراتها وطاقاتها..

2. وهذه الحلقة كما ترسم قواعد المنهج واتجاهاته الثابتة، الموضوعة للناس جميعا، في أجيالهم كلها، لترفعهم من سفوح الجاهلية ـ حسب مكانهم في الدرج ـ وتعرج بهم في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة.. هي‏ كذلك ـ في الوقت ذاته ـ ترتسم فيها حال الجماعة المسلمة الأولى، المخاطبة بهذا القرآن؛ وتبرز من بين السطور صورة لهذه الجماعة إذ ذاك ـ كما هي ـ بكل ما فيها من بشرية، وبكل ما في بشريتها من ضعف وقوة؛ ومن رواسب جاهلية ومشاعر فطرية.. وتبرز كذلك طريقة المنهج في علاجها وتقويتها وتثبيتها على الحق الذي تمثلة؛ بكل ما في وقفتها مع الحق من جهد وتضحية.

3. ويبدأ الدرس بنداء الجماعة المؤمنة إلى النهوض بتكاليف دورها، في إقامة العدل بين الناس على النحو الفريد الذي لم يقم إلا على يد هذه الجماعة ـ العدل الذي تتعامل فيه الجماعة مع الله مباشرة؛ متخلصة من كل عاطفة أو هوى أو مصلحة ـ بما في ذلك ما يسمى مصلحة الجماعة أو الأمة أو الدولة! ـ متجردة من كل اعتبار آخر غير تقوى الله ومرضاته.. العدل الذي رأينا نموذجا منه في الدرس العملي الذي ألقاه الله سبحانه بذاته العلية على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى الجماعة المسلمة في حادث اليهودي الذي سلف ذكره.

4. يبدأ الدرس بنداء الذين آمنوا ليقيموا هذا العدل.. بصورته هذه.. ومنزّل هذا القرآن يعلم حقيقة المجاهدة الشاقة، التي تتكلفها إقامة العدل على هذا النحو، وفي النفس البشرية ضعفها المعروف، وعواطفها تجاه ذاتها وتجاه الأقارب؛ وتجاه الضعاف من المتقاضين وتجاه الأقوياء أيضا، تجاه الوالدين والأقربين، وتجاه الفقير والغني؛ تجاه المودة وتجاه الشنآن.. ويعلم أن التجرد من هذا كله يحتاج إلى جهاد شاق، جهاد للصعود إلى هذه القمة على سفوح ملساء! لا تتعلق فيها النفس بشيء إلا بحبل الله.

5. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)﴾.. إنه نداء للذين آمنوا، نداء لهم بصفتهم الجديدة، وهي صفتهم الفريدة، صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى؛ وولدوا ميلادا آخر، ولدت أرواحهم، وولدت تصوراتهم، وولدت مبادئهم وأهدافهم، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم.. أمانة القوامة على البشرية، والحكم بين الناس بالعدل.. ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته وكان له معناه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فبسبب من اتصافهم بهذه الصفة، كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى، وبسبب من اتصافهم بهذه الصفة كان التهيؤ والاستعداد للنهوض بهذه الأمانة الكبرى..

6. وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم؛ تسبق التكليف الشاق الثقيل: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾.. إنها أمانة القيام بالقسط.. بالقسط على إطلاقه، في كل حال وفي كل مجال، القسط الذي يمنع البغي والظلم ـ في الأرض ـ والذي يكفل العدل ـ بين الناس ـ والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين.. ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين ـ كما رأينا في قصة اليهودي ـ ويتساوى الأقارب والأباعد، ويتساوى الأصدقاء والأعداء، ويتساوى الأغنياء والفقراء..

7. ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾.. حسبة للّه، وتعاملا مباشرا معه، لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم، ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة، ولا تعاملا مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية، ولكن شهادة للّه، وتعاملا مع الله، وتجردا من كل ميل، ومن كل هوى، ومن كل مصلحة، ومن كل اعتبار.

8. ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾.. وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في وجه ذاتها، وفي وجه عواطفها، تجاه ذاتها أولا، وتجاه الوالدين والأقربين ثانيا.. وهي محاولة شاقة.. أشق كثيرا من نطقها باللسان، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل.. إن مزاولتها عمليا شيء آخر غير إدراكها عقليا، ولا يعرف هذا الذي نقوله إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعيا..

9. ولكن المنهج يجند النفس المؤمنة لهذه التجربة الشاقة، لأنها لا بد أن توجد، لا بد أن توجد في الأرض هذه القاعدة، ولا بد أن يقيمها ناس من البشر.

10. ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية؛ حين يكون المشهود له أو عليه فقيرا، تشفق النفس من شهادة الحق ضده، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه، أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده بحكم الرواسب النفسية الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية، وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا؛ تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته، أو قد يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده! وهي مشاعر فطرية أو مقتضيات اجتماعية لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع.. والمنهج يجند النفس تجاهها كذلك كما جندها تجاه حب الذات، وحب الوالدين والأقربين.

11. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾.. وهي محاولة شاقة.. ولا نفتأ نكرر أنها محاولة شاقة.. وأن الإسلام حين دفع نفوس المؤمنين ـ في عالم الواقع ـ إلى هذه الذروة، التي تشهد بها تجارب الواقع التي وعاها التاريخ ـ كان ينشئ معجزة حقيقية في عالم البشرية، معجزة لا تقع إلا في ظل هذا المنهج الإلهي العظيم القويم.

12. ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾.. والهوى صنوف شتى ذكر منها بعضها.. حب الذات هوى، وحب الأهل والأقربين هوى، والعطف على الفقير ـ في موطن الشهادة والحكم ـ هوى، ومجاملة الغني هوى، ومضارته هوى، والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والدولة والوطن ـ في موضع الشهادة والحكم ـ هوى، وكراهة الأعداء ولو كانوا أعداء الدين ـ في موطن الشهادة والحكم ـ هوى.. وأهواء شتى الصنوف والألوان.. كلها مما ينهى الله الذين آمنوا عن التأثر بها، والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها.

13. وأخيرا يجيء التهديد والإنذار والوعيد من تحريف الشهادة، والإعراض عن هذا التوجيه فيها.. ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)﴾.. ويكفي أن يتذكر المؤمن أن الله خبير بما يعمل، ليستشعر ماذا وراء هذا من تهديد خطير، يرتجف له كيانه.. فقد كان الله يخاطب بهذا القرآن المؤمنين!

14. حدث أن عبد الله بن رواحة لما بعثه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة، حسب عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد فتح خيبر.. أن حاول اليهود رشوته ليرفق بهم! فقال لهم: (والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولأنتم والله أبغض إليّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم، على أن لا أعدل فيكم).. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض! لقد كان قد تخرج في مدرسة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على المنهج الرباني المنفرد، وكان إنسانا من البشر خاض هذه التجربة الشاقة ونجح؛ وحقق ـ كما حقق الكثيرون غيره في ظل ذلك المنهج ـ تلك المعجزة التي لا تقع إلا في ظل ذلك المنهج!

15. لقد مضت القرون تلو القرون بعد تلك الفترة العجيبة؛ وحفلت المكتبات بكتب الفقه والقانون؛ وحفلت الحياة بالتنظيمات والتشكيلات القضائية؛ وضبط الإجراءات والشكليات التنظيمية، وامتلأت الرؤوس بالكلام عن العدالة؛ وامتلأت الأفواه بالحديث عن إجراءاتها الطويلة.. ووجدت نظريات وهيئات وتشكيلات منوعة لضبط هذا كله.. لكن التذوق الحقيقي لمعنى العدالة؛ والتحقق الواقعي لهذا المعنى في ضمائر الناس وفي حياتهم؛ والوصول إلى هذه الذروة السامقة الوضيئة.. لم يقع إلا في ذلك المنهج.. في تلك الفترة العجيبة في ذروة القمة.. وبعدها على مدار التاريخ في الأرض التي قام فيها الإسلام، وفي القلوب التي عمرت بهذه العقيدة، وفي الجماعات والأفراد التي تخرجت على هذا المنهج الفريد.

16. وهذه حقيقة ينبغي أن يتنبه إليها الذين يؤخذون بالتشكيلات القضائية التي جدت؛ وبالإجراءات القضائية التي استحدثت؛ وبالأنظمة والأوضاع القضائية التي نمت وتعقدت، فيحسبون أن هذا كله أقمن بتحقيق العدالة وأضمن مما كان في تلك الإجراءات البسيطة في تلك الفترة الفريدة! في تلك القرون البعيدة! وأن الأمور اليوم أضبط وأحكم مما كانت على صورتها البسيطة! هذا وهم تنشئه الأشكال والأحجام في تصورات من لا يدركون حقائق الأشياء والأوضاع.. إن المنهج الرباني وحده هو الذي يبلغ بالناس ما بلغ على بساطة الأشكال وبساطة الأوضاع.. وهو وحده الذي يمكن أن يبلغ بالناس هذا المستوي على ما استحدث من الأشكال والأوضاع! وليس معنى هذا أن نلغي التنظيمات القضائية الجديدة، ولكن معناه أن نعرف أن القيمة ليست للتنظيمات، لكن للروح التي وراءها، أيا كان شكلها وحجمها وزمانها ومكانها.. والفضل للأفضل بغض النظر عن الزمان والمكان!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/773.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المؤمنون هم أمناء الله بين الناس على دينه، وهم ميزان العدل لشريعته، فإذا اضطرب ميزان العدل في أيديهم، فقد خانوا دين الله، واعتدوا على شريعته، ولم يصبحوا ـ لذلك ـ أهلا لأن يكونوا أولياء الله، ولا أن يحسبوا في المؤمنين به.

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله﴾ هو أمر ملزم للمؤمنين جميعا.. فردا فردا، وجماعة جماعة، وأمة أمة.. والقسط هو العدل، والقسطاس: الميزان، وأقسط القاضي: عدل، وقسط جار وظلم.. والقوّام: كثير القيام، في مبالغة واهتمام.

3. في قوله تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ ما يشعر بأن حمل أمانة العدل ليس أمرا هينا، وإنما هو حمل ثقيل، لا يقوى عليه إلّا من وثق إيمانه بالله، وأخلى نفسه من نوازع الضعف المادية والمعنوية، فلا يجعل لنفسه أو لمخلوق حسابا في أداء هذه الأمانة وإقامة ميزانها مستقيما على ما أمر الله به.. وكلمة (قوامين) غير كلمة (قائمين).. لأنها تشعر بالشدّ والجذب‏ والمعاناة، في لفظها، وفي معناها، المستدلّ عليه من هذا اللفظ: (قوامين)!

4. والشهداء، هم الشهود، الذين يحضرون مجلس القضاء، ويشهدون الفصل في الخصومة، ويدلون بما شهدوه وأشهدوا عليه بين المتخاصمين.. فميزان العدل لا يقيمه القاضي وحده، وإنما يد الشهود ممسكة بهذا الميزان، مشتركة مع القاضي في إقامته معتدلا أو مائلا.. ولهذا كان أمر الله هنا بإقامة ميزان العدل، متجها إلى القاضي، وإلى الشهود معا: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾.. وفي إضافة الشهادة إلى الله تكريم لها، واحتفاء بها، ورفع لقدرها، إذ كانت محسوبة على الله، لأنها تقيم شرعه، وتحق الحقّ الذي هو حرمة الله، فالذي يؤدى الشهادة على وجهها إنما يؤديها للّه، وينصر بها حق الله، والذي ينحرف بها، ويشوّه وجهها، إنما هو معتد على الله، خائن لأمانته.

5. ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ أي ولو كانت الشهادة تدين أنفسكم، وتلحق الضرر بكم.. فحق الله عليكم أوجب من حق أنفسكم إن كنتم تؤمنون بالله، وتؤثرون مرضاته!

6. ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ معطوف على قوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ أي كونوا قوامين بالقسط شهداء للّه، ولو كان في ذلك إدانة لكم أو لوالديكم، أو للأقربين منكم.

7. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ أي أدّوا الشهادة على وجهها، وأقيموا ميزان العدل منها، دون حيف على الفقير لفقره وضعفه، ودون عدوان على الغنى لصالح الفقير ودفع الضرر عنه.. فالحق هو الحق، وفي ساحته يتساوى الناس جميعا، دون نظر إلى ما يتلبّس بهم من ظروف وأحوال..

8. الضمير في قوله تعالى: ﴿أَنْ يَكُنَّ﴾ يرجع إلى المشهود له والمحكوم لصالحه من المتنازعين، ممن كان غناه أو فقره محل تقدير الشاهد، وانحراف شهادته، أو كان محل نظر القاضي وموضع عطفه.. والمعنى: إن يكن المشهود له أو المحكوم لصالحه غنيا أو فقيرا، فليس من شأنكم أيها الشهود ولا من حقكم أيها القضاة أن تدخلوا هذا في حسابكم، وأن تترضّوا عواطفكم على حساب الحق والعدل.. لأن الله سبحانه وتعالى هو أولى منكم بتقدير حال كل من الغنى والفقير، إذ لو شاء لأفقر الغنىّ وأغنى الفقير، أو شاء لأغناهما جميعا أو لأفقرهما معا..

9. ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ هو تحذير من تلك الأهواء والعواطف التي يجدها القاضي أو الشاهد، لذوى قرابته، وأصدقائه، أو لأصحاب الجاه والسلطان، أو لأهل الحاجة والضر.. فهذه العواطف من شأنها أن تنحرف بالشاهد عن أن يؤدى الشهادة على وجهها، كما أنها تمسك يد القاضي أن يقيم ميزان العدل في مجلس القضاء، إن لم يقم عليها وازع من دين وخلق.

10. ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ في تأويل مصدر، مجرور بلام التعليل، والتقدير: فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا، أي لإقامة العدل لا تتبعوا الهوى.

11. ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)﴾ اللّيّ: الميل والانحراف، والمراد به تغيير وجه الشهادة، يقال: لوى فلان وجهه عن الشيء يلويه ليا إذا نظر إليه مزورا أو منحرفا، ومنه قوله تعالى في اليهود وفي تحريفهم الكلم عن مواضعه: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ [النساء: 46]

12. في الآية الكريمة تحذير من الانحراف بالشهادة، أو الإعراض عنها، أو كتمانها، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) [البقرة: 282]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/928.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ انتقال من الأمر بالعدل في أحوال معيّنة من معاملات اليتامى والنساء إلى الأمر بالعدل الذي يعمّ الأحوال كلّها، وما يقارنه من الشهادة الصادقة، فإنّ العدل في الحكم وأداء الشهادة بالحقّ هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي، والانحراف عن ذلك ولو قيد أنملة يجرّ إلى فساد متسلسل.

2. صيغة ﴿قَوَّامِينَ﴾ دالّة على الكثرة المراد لازمها، وهو عدم الإخلال بهذا القيام في حال من الأحوال، والقسط العدل، وقد تقدّم قوله تعالى: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ في سورة آل عمران [18]، وعدل عن لفظ العدل إلى كلمة القسط لأنّ القسط كلمة معرّبة أدخلت في كلام العرب لدلالتها في اللغة المنقولة منها على العدل في الحكم، وأمّا لفظ العدل فأعمّ من ذلك، ويدلّ لذلك تعقيبه بقوله: ﴿شُهَدَاءَ لله﴾ فإنّ الشهادة من علائق القضاء والحكم.

3. ﴿لله﴾ ظرف مستقرّ حال من ضمير ﴿شُهَدَاءَ﴾ أي لأجل الله، وليست لام تعدية ﴿شُهَدَاءَ﴾ إلى مفعوله، ولم يذكر تعلّق المشهود له بمتعلّقه وهو وصف‏ ﴿شُهَدَاءَ﴾ لإشعار الوصف بتعيينه، أي المشهود له بحقّ، وقد جمعت الآية أصلي التحاكم، وهما القضاء والشهادة.

4. جملة ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ حالية، و(لو) فيها وصلية، وقد مضى القول في تحقيق موقع (لو) الوصلية عند قوله تعالى: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ في سورة آل عمران [91]، ويتعلّق‏ ﴿عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ بكلّ من‏ ﴿قَوَّامِينَ﴾ و﴿شُهَدَاءَ﴾ ليشمل القضاء والشهادة.

5. الأنفس: جمع نفس؛ وأصلها أن تطلق على الذات، ويطلقها العرب أيضا على صميم القبيلة، فيقولون: هو من بني فلان من أنفسهم، فيجوز أن يكون‏ ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ هنا بالمعنى المستعمل به غالبا، أي: قوموا بالعدل على أنفسكم، واشهدوا لله على أنفسكم، أي قضاء غالبا لأنفسكم وشهادة غالبة لأنفسكم، لأنّ حرف (على) مؤذن بأنّ متعلّقة شديد فيه كلفة على المجرور بعلى، أي ولو كان قضاء القاضي منكم وشهادة الشاهد منكم بما فيه ضرّ وكراهة للقاضي والشاهد، وهذا أقصى ما يبالغ عليه في الشدّة والأذى، لأنّ أشقّ شيء على المرء ما يناله من أذى وضرّ في ذاته، ثمّ ذكر بعد ذلك الوالدان والأقربون لأنّ أقضية القاضي وشهادة الشاهد فيما يلحق ضرّا ومشقّة بوالديه وقرابته أكثر من قضائه وشهادته فيما يؤول بذلك على نفسه، ويجوز أن يراد: ولو على قبيلتكم أو والديكم وقرابتكم، وموقع المبالغة المستفادة من (لو) الوصلية أنّه كان من عادة العرب أن ينتصروا بمواليهم من القبائل ويدفعوا عنهم ما يكرهونه، ويرون ذلك من إباء الضيم، ويرون ذلك حقّا عليهم، ويعدّون التقصير في ذلك مسبّة وعارا يقضي منه العجب، قال مرّة بن عداء الفقعسي:

çرأيت مواليّ الآلى يخذلونني‏...على حدثان الدهر إذ يتقلب‏é

ويعدّون الاهتمام بالآباء والأبناء في الدرجة الثانية، حتّى يقولون في الدعاء: (فذاك أبي وأمي)، فكانت الآية تبطل هذه الحميّة وتبعث المسلمين على الانتصار للحقّ والدفاع عن المظلوم، فإن أبيت إلّا جعل الأنفس بمعنى ذوات الشاهدين فاجعل عطف (الوالدين والأقربين) بعد ذلك لقصد الاحتراس لئلّا يظنّ أحد أنّه يشهد بالحقّ على نفسه لأنّ ذلك حقّه، فهو أمير نفسه فيه، وأنّه لا يصلح له أن يشهد على والديه أو أقاربه لما في ذلك من المسبّة والمعرّة أو التأثّم، وعلى هذا تكون الشهادة مستعملة في معنى مشترك بين الإقرار والشهادة، كقوله: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18]

6. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ استئناف واقع موقع العلّة لمجموع جملة ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله﴾: أي إن يكن المقسط في حقّه، أو المشهود له، غنيّا أو فقيرا، فلا يكن غناه ولا فقره سببا للقضاء له أو عليه والشهادة له أو عليه، والمقصود من ذلك التحذير من التأثّر بأحوال يلتبس فيها الباطل بالحقّ لما يحفّ بها من عوارض يتوهّم أنّ رعيها ضرب من إقامة المصالح، وحراسة العدالة، فلمّا أبطلت الآية التي قبلها التأثّر للحميّة أعقبت بهذه الآية لإبطال التأثّر بالمظاهر التي تستجلب النفوس إلى مراعاتها فيتمحّض نظرها إليها، وتغضي بسببها عن تمييز الحقّ من الباطل، وتذهل عنه، فمن النفوس من يتوهّم أنّ الغنى يربأ بصاحبه عن أخذ حقّ غيره، يقول في نفسه: هذا في غنية عن أكل حقّ غيره، وقد أنعم الله عليه بعدم الحاجة، ومن الناس من يميل إلى الفقير رقّة له، فيحسبه مظلوما، أو يحسب أنّ القضاء له بمال الغنيّ لا يضرّ الغنيّ شيئا؛ فنهاهم الله عن هذه التأثيرات بكلمة جامعة وهي قوله: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾

7. وهذا الترديد صالح لكلّ من أصحاب هذين التوهّمين، فالذي يعظّم الغنيّ يدحض لأجله حقّ الفقير، والذي يرقّ للفقير يدحض لأجله حقّ الغنيّ، وكلا ذلك باطل، فإنّ الذي يراعي حال الغنيّ والفقير ويقدّر إصلاح حال الفريقين هو الله تعالى، فقوله: ﴿فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾ ليس هو الجواب، ولكنّه دليله وعلّته، والتقدير: فلا يهمّكم أمرهما عند التقاضي، فالله أولى بالنظر في شأنهما، وإنّما عليكم النظر في الحقّ، ولذلك فرّع عليه قوله: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ فجعل الميل نحو الموالي والأقارب من الهوى، والنظر إلى الفقر والغنى من الهوى.

8. والغنيّ: ضد الفقير، فالغنى هو عدم إلى الاحتياج إلى شيء وهو مقول عليه بالتفاوت، فيعرف بالمتعلّق كقوله: (كلانا غنيّ عن أخيه حياته)، ويعرف بالعرف يقال: فلان غني، بمعنى له ثروة يستطيع بها تحصيل حاجاته من غير فضل لأحد عليه، فوجدان أجور الأجراء غنى، وإن كان المستأجر محتاجا إلى الأجراء، لأنّ وجدان الأجور يجعله كغير المحتاج، والغنى المطلق لا يكون إلّا لله تعالى.

9. والفقير: هو المحتاج إلّا أنه يقال افتقر إلى كذا، بالتخصيص، فإذا قيل: هو فقير، فمعناه في العرف أنّه كثير الاحتياج إلى فضل الناس، أو إلى الصبر على الحاجة لقلّة ثروته، وكلّ مخلوق فقير فقرا نسبيا، قال تعالى: ﴿وَالله الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ [محمد: 38]

10. واسم‏ ﴿يَكُنْ﴾ ضمير مستتر عائد إلى معلوم من السياق، يدلّ عليه قوله: ﴿قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله﴾ من معنى التخاصم والتقاضي، والتقدير: أن يكن أحد الخصمين من أهل هذا الوصف أو هذا الوصف، والمراد الجنسان، و(أو) للتقسيم، وتثنية الضمير في قوله: ﴿فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾ لأنّه عائد إلى (غنيا وفقيرا) باعتبار الجنس، إذ ليس القصد إلى فرد معيّن ذي غني، ولا إلى فرد معيّن ذي فقر، بل فرد شائع في هذا الجنس وفي ذلك الجنس.

11. ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ محذوف منه حرف الجرّ، كما هو الشأن مع أن المصدرية، فاحتمل أن يكون المحذوف لام التعليل فيكون تعليلا للنهي، أي لا تتّبعوا الهوى لتعدلوا، واحتمل أن يكون المحذوف (عن)، أي فلا تتّبعوا الهوى عن العدل، أي معرضين عنه.

12. وقد عرفت قاضيا لا مطعن في ثقته وتنزّهه، ولكنّه كان مبتلى باعتقاد أنّ مظنّة القدرة والسلطان ليسوا إلّا ظلمة: من أغنياء أو رجال، فكان يعتبر هذين الصنفين محقوقين فلا يستوفي التأمّل من حججهما.

13. وبعد أن أمر الله تعالى ونهى وحذّر، عقّب ذلك كلّه بالتهديد فقال: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾، واللّي: الفتل والثّني، وتفرّعت من هذا المعنى الحقيقي معان شاعت فساوت الحقيقة، منها: عدول عن جانب وإقبال على جانب آخر فإذا عدّي بعن فهو انصراف عن المجرور بعن، وإذا عديّ بإلى فهو انصراف عن جانب كان فيه، وإقبال على المجرور بعلى، قال تعالى: ﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ [آل عمران: 153] أي لا تعطفون على أحد، ومن معانيه: لوى عن الأمر تثاقل، ولوى أمره عنّي أخفاه، ومنها: ليّ اللسان، أي تحريف الكلام في النطق به أو في معانيه، وتقدّم عند قوله تعالى: ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ في سورة آل عمران [78]، وقوله: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ في هذه السورة [46]، فموقع فعلـ ﴿تَلْوُوا﴾ هنا موقع بليغ لأنّه صالح لتقدير متعلّقه المحذوف مجرورا بحرف (عن) أو مجرورا بحرف (على) فيشمل معاني العدول عن الحقّ في الحكم، والعدول عن الصدق في الشهادة، أو التثاقل في تمكين المحقّ من حقّه وأداء الشهادة لطالبها، أو الميل في أحد الخصمين في القضاء والشهادة.

14. وأمّا الإعراض فهو الامتناع من القضاء ومن أداء الشهادة والمماطلة في الحكم مع ظهور الحقّ، وهو غير الليّ كما رأيت، وقرأه ابن عامر، وحمزة، وخلف: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ ـ بلام مضمومة بعدها واو ساكنة ـ فقيل: هو مضارع ولي‏ الأمر، أي باشره، فالمعنى: وإن تلوا القضاء بين الخصوم، فيكون راجعا إلى قوله: ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ ولا يتّجه رجوعه إلى الشهادة، إذ ليس أداء الشهادة بولاية، والوجه أنّ هذه القراءة تخفيف‏ ﴿تَلْوُوا﴾ نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فالتقى واوان ساكنان فحذف أحدهما، ويكون معنى القراءتين واحدا.

15. ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ كناية عن وعيد، لأنّ الخبير بفاعل السوء، وهو قدير، لا يعوزه أن يعذّبه على ذلك، وأكّدت الجملة بـ (إنّ) و(كان)

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/276.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة أمر الله بالعدل، ولو كان في مصلحة الكافرين، وأمر بالعدل بين الأزواج، وإنه أساس قيام الأسرة، وإن كان العدل في الأسرة أمرا شاقا؛ لأنه يتصل بالنفوس، لا بالأمور المادية، إذ العدل في الحقوق الظاهرة يكون سهلا ليس صعبا، أما المساواة في الأمور النفسية فمن الأمور التي تشق على النفوس، ثم بين سبحانه وتعالى سلطانه الكامل، ورقابته على الأعمال ما ظهر منها وما بطن، وتستوى في ذلك أعمال الجوارح، وأعمال القلوب وخلجات النفوس، في هذه الآية يبين أن العدل خاصة أهل الإيمان وقد أمر الله به المؤمنين، لأنه مقتضى الإيمان وهذا العدل يعم العدو والولي على السواء.

2. ولذلك قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله﴾ النداء (يا أيها) للتنبيه، وقد اختير اللفظ الدال على النداء للبعيد لتعظيم التنبيه إلى الأمر الخطير الذى يدعوهم إليه، وهو العدالة التي بها ميزان السماء والأرض، والتي هي دعامة الإسلام الأولى، وسمته ومظهره، ومعنى (قوامين) أن تقوموا على القسط وهو العدل وترعوه حق رعايته، فقوام صيغة مبالغة من قام بالأمر، وقام عليه وتعهده، وهو أبلغ من كونوا عدولا؛ لأن القوام بالعدل تكون فيه خصال ثلاث:

أ. أولاها: أن يعدل في ذات نفسه، فلا يظلم أحدا.

ب. الثانية: أن تكون العدالة شأنا ملازما له لا يفترق عنه، لتكون كالسجية من سجاياه، والملكة من الملكات.

ج. ثالثها: أن يرعى العدل في غيره، فلا يعدل فقط في القضية التي تعرض عليه ليقضى فيها، بل يعمل على منع الظلم حيث كان، وأيا كان، فليس قواما بالقسط من يرى مظلوما يظلم، أو ضعيفا يهضم، ولا يمنع الاستمرار في ظلمه، ولو لم يكن قاضيا يحكم بين الناس، وهذا تطبيق لقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم)

3. وقد أمر الله تعالى بالعدل بهذه الصيغة فقال: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ فلم يقل تعالت كلماته (اعدلوا)، أو (قوموا بالقسط).. بل قال سبحانه: ﴿كُونُوا﴾ وهذا التعبير يقتضى أمرين:

أ. أحدهما: أن يروضوا أنفسهم على العدالة، ويربوها ويعلموها لشباب هذه الأمة، ويفطموا النفوس عن شهواتها، فإنه لا يذهب بالعدل إلا الشهوة، فليربوا أنفسهم على السيطرة عليها، وجعلها أمة ذلولا، لتكون النفس عادلة دائما.

ب. وثانيهما: أن ينصبوا أنفسهم لنشر لواء العدل، فلا يتركوا ظالما يرتع، ولا مظلوما يخضع، سواء أكان الظالم فردا أو جماعة، أم كان أمة، فأمة العدل يجب أن تكون قوامة بالعدل.

4. إن القوامة على العدل توجب عدالة الإنسان في نفسه، وأهله، وولده، وصحبه، وكل من يتصل به، وتوجب منع الظلم أنى يكون، وتوجب العدل في الولاية والقضاء، والصلح بين الناس.

5. هناك أمر هو سبيل الحق، وطريق معرفته، وهو الشهادة، إذ هي السبيل للعدل في القضاء والولاية والصلح، وهي سبيل إحقاق الحق، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ﴿شُهَدَاءَ لله﴾، ومعنى الشهادة لله تعالى، أن يقول الحق طلبا لرضا الحق جل جلاله، لا يلتفت إلى رضا المخلوق، أيا كان ذلك المخلوق، فإن تحرى رضا المخلوق قد يذهب بالحق، ويضعف سلطانه، وإن الشاهد إذا لاحظ جانب الله في شهادته قال الحق من غير تلعثم ولا اضطراب، وأفاض الله تعالى عليه نورا، فلا يضل في شهادته، ولا يخطئ ناحية من نواحي الحق.

6. فهم بعض المفسرين أن قوله تعالى: ﴿شُهَدَاءَ لله﴾ حال من الذين آمنوا، والمعنى على هذا كونوا قائمين بالحق حال كونكم شهداء به لله تعالى، وعلى هذا التفسير تكون القوامة على الحق مقصورة على الشهادة غير عامة، وقد ضعفه أكثر المفسرين، وجمهورهم على أن قوله تعالى:‏ ﴿شُهَدَاءَ لله﴾ خبر بعد خبر، أي أن هناك أمرين طلبهما المولى جل شأنه:

أ. أولهما: القوامة بالقسط، وهذا عام للشهادة وغيره.

ب. ثانيهما: أنه خص الشهادة بالذكر، لأنها السبيل للحق، والشهادة لأجل رضا الله تعالى هي السبيل لكل عدل وكل حق.

7. الشهادة لله تعالى توجب ألا يحابى قريب لقرابته، ولا يحابى غنى لغناه، ولذا قال تعالى: ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ والمعنى اجعلوا الشهادة لله تعالى فلا تنطقوا إلا بالحق، ولو أدى ذلك إلى أن تكون العاقبة ألما ينزل بالوالدين والأقربين، فالمحاباة على حساب الغير ظلم، وصلة الرحم لا تبرر الظلم، وليس من الإحسان إلى الوالدين أن تقرهما على الظلم، وترضى لهما أن يأكلا الحقوق، كما أنه لا يصح أن تكون الرحمة بالأقارب الأقربين طريقا للظلم، فإن هذه لا تكون رحمة حقيقية، ولكنها شفقة جنونية، فالأولى حملهم على الحق، وذلك بأداء الشهادة لله، وبالحق.

8. سؤال وإشكال: قد يسأل سائل: ما معنى الشهادة على النفس؟ والجواب: أجاب عن ذلك المفسرون بأن الشهادة على النفس هي الإقرار عليها بما ارتكبت، وقد قال‏ الزمخشري أن يشهد بما يؤدى إلى وبالها، بأن يشهد على سلطان ظالم فيؤذيه، وقد قال في ذلك: (ويجوز أن يكون المعنى وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم أو على آبائكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره)، وإنه بهذا الذى قرره جار الله الزمخشري ننتهى إلى أن الشهادة على الوالدين والأقربين تكون بإلزامهم بحقوق عليهم مباشرة، وتكون بالنسبة للأنفس بالإقرار بإلزامها، وتكون بالشهادة في الأمور التي ربما تؤدى إلى الإضرار بهم كشهادتهم في أمر عام قد يؤدى إلى حرمانهم من المزايا التي يطلبونها، كمن يشهد بمجرى ماء لشخص تؤدى إلى حرمانهم من بعض ما يبغون، وقد تكون بالشهادة على أصحاب السطوة الذين يؤذون من يشهد عليهم.. وهكذا.

9. قال قتادة في معنى هذه الآية: (أقم الشهادة يا بن آدم، ولو على نفسك أو الوالدين، أو الأقربين، أو على ذي قرابتك، وأشراف قومك، وإنما الشهادة لله، وليست للناس، وإن الله تعالى رضى بالعدل لنفسه، والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض، به يرد الله من الشديد على الضعيف، ومن الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحق.. وبالعدل يصلح الناس)

10. قد يكون سبب الانحراف في العدل أو الشهادة أن تكون الخصومة بين غنى وفقير، فقال سبحانه: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾ أي لا يصح أن يكون اختلاف المتخاصمين أو المتعاملين، أو المشتركين غنى وفقرا سببا في اجتناب العدالة، فلا يمنع الغنى حقا لغناه، ولا يعطى أحد غير حقه لفقره، كما لا يصح أن يحابى الغنى أو يعفى من العقاب لجاه ماله، ويعاقب الفقير بعقوبة أشد لفقره، فالفقر والغنى بأمر الله تعالى، ولذا قال: ﴿فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾ أي فالله سبحانه وتعالى هو الأولى والأجدر بحساب الغنى والفقير، وهو الذى رتب الحقوق والواجبات، وقسم الأموال بحكمته، ونظمها بإرادته، وهو الأعلم بمصالح العباد، وهو الذى‏ يتولى النظر لكليهما بعين رحمته، ويفيض هدايته، روى ابن جرير عن السدى أنه قال: نزلت في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ اختصم إليه رجلان، غنى وفقير، وكان ضلعه مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغنى، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغنى والفقير: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾

11. الذى يستفاد من هذه الرواية مع أصل النص الكريم أن الغنى أو الفقر لا يصح أن يكونا سببا في التفاوت في الحكم؛ لأن الله هو الذى نظم الكون بما فيه ومن فيه، فهو الذى أراد للفقير الفقر مع الأسباب، وأراد للغنى الغنى مع الأسباب الظاهرة لدينا، والمصلحة الإنسانية هو سبحانه وحده قدرها، فهو أولى بأن يكون الغنى له لأنه هو الذى منحه، وأن يكون الفقير له لأنه هو الذى منعه، فابتلى الأول بالمال، وابتلى الثاني بالحرمان، هذا حكم الله، وقد رأينا ناسا يحاربون الغنى، ورأينا مع الأسف قضاة يمنعون بعض الحقوق، ويمنحون باسم الغنى والفقر، فهذا (محمد) خير البشر عندما علم الله ـ الذى يعلم السر وأخفى ـ أنه يضلع مع الفقير بقلبه، ذكره بأن الله أولى بالغنى والفقير، وأنه مقسم الأرزاق، فكيف يسوغ لأحد من البشر أن يظلم غنيا لماله!!؟ أو يحابيه لذلك.

12. سؤال وإشكال: لم ثنى الضمير في‏ ﴿أَوْلَى بِهِمَا﴾ وكان حقه أن يوحد، لأن قوله: إن يكن غنيا أو فقيرا في معنى إن يكن أحد هذين؟ والجواب: قال الزمخشري: قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ إلى المذكور، فلذلك ثنى ولم يفرد، وهو جنس الغنى وجنس الفقير، كأنه قيل: (فالله أولى بجنسى الغنى والفقير، أي بالأغنياء والفقراء).. في هذا التخريج الذى ذكره الزمخشري إشارة إلى أن الغنى والفقر أمران ثابتان في هذا الوجوب، لا يمكن أن تخلو منهما الجماعة الإنسانية، لأن ذلك تنظيم الله تعالى، وإرادته الخالدة، وهو الذى يتفق مع الطبيعة الإنسانية؛ لأن القدر متفاوتة والأعمال مختلفة، ونتائج الأعمال كثمرات الزرع والشجر، تختلف باختلاف ما يزرع وما يغرس، وإن‏ اتحدت الأعمال فقدر الله تعالى يسير الوجود، هذان زارعان يزرعان في قطع من الأرض متجاورات يبذران بذرا واحدا، وتسقى أراضيهما من ماء واحد، ومع هذا فذلك يأتي بزرع طيب، والآخر يأتي برديء أو هذا يبيع بسعر جيد، وذاك يتأخر شهرا أو يتقدم شهرا فيبيع بسعر دون الأول، فمن ظن أنه يستطيع إزالة ما بين الغنى والفقر، فإنه يظن أنه يستطيع مغالبة القدر.

13. إن الميل في الشهادة أو في الحكم عن الحق سببه هو اتباع للهوى، ولذا نهى الله تعالى عن اتباع الهوى فقال: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ (الفاء) هنا هي التي تسمى فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، كأنه يقول إن اتجهتم إلى الحق تطلبونه، ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾، بل اتبعوا داعى العقل وحكم الشرع، والهوى هو الخضوع للشهوات، وعدم الخضوع لحكم العقل، وما يوجبه الشرع، ومن اتباع الهوى الخضوع للنزعات الوقتية، والظاهر، وعدم البحث عن ذات الحقائق، فمن الخضوع للهوى أن تمنع الغنى حقا لمجرد أنه غنى، وتحابى الفقير لمجرد أنه فقير، فهذا من قبيل الخضوع لمجرد الإحساس من غير تفكير وبحث عن الحقائق، فإن الغنى لا يحل ظلمه، والفقير لا يقر على ظلم.

14. معنى النص الكريم: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾ وتجنبوه لكى تعدلوا، وتتجهوا إلى الحق من غير تعويق من العواطف أو الأحاسيس التي تلقى وهما لا حقيقة، فقوله تعالى: ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ في مقام بيان الغاية لعدم اتباع الهوى، فهو تعليل للنهى، ولا حاجة فيه إلى تقدير، ومؤدى الكلام على ذلك نهيتم عن اتباع الهوى لتعدلوا، والكثيرون من المخرجين على تقدير محذوف، والمعنى على ذلك لا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق إن اتبعتم الهوى، فإن الهوى من القاضي أو الشاهد يذهب بالحق ويضيعه، وإن هذا التخريج فيه تقديران: أولهما: كلمة مخافة، وثانيهما: تقدير أن تعدلوا عن الحق، والأظهر، والأكثر اتفاقا مع السياق والنسق البياني هو التخريج الأول، وما لا يحتاج إلى تقدير أولى مما يحتاج إلى تقدير.

15. ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ قراءة الجمهور في هذا النص الكريم بواوين‏ ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ وقرأ حمزة وبعض الكوفيين بواو واحدة، ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾ ومعنى النص على القراءة الأولى وإن تلووا في الحكم أو في الشهادة بأن تحكموا بغير الحق، أو تشهدوا بغير الحق، أو تحرفوه، أو توجهوا الكلام إلى غير وجهته في الشهادة بأن تظهروا في الكلام معنى، وتعرضوا بغيره قاصدين له لكيلا تكون الشهادة على وجهها، فإن كل هذا لي للكلام، إذ لي الكلام تحريفه وتوجيهه إلى غير وجهته السليمة، وذلك يشمل قول الباطل والحكم به، وتلوية مقاصد القول وإبهامه، والإعراض معناه الامتناع المطلق عن الشهادة أو الحكم.

16. وجواب الشرط هو التهديد الشديد بالعذاب الأليم، تضمنه قوله سبحانه: ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾، أي أن علم الله المستمر الذى يعلم به دقائق الأشياء والنفوس وخفاياها قائم على أعمالكم وقلوبكم، وظواهركم وبواطنكم فاحذروه، اللهم اجعلنا من القوامين بالقسط، الشهداء بالحق، الذين لا يتبعون الهوى، ولكن يعدلون في أنفسهم وذويهم وأهليهم، وما ولوا.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1895.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ما رأيت آية في كتاب الله تتصل بالدين الا وأحسست بالبعد والتفاوت بين‏ الدين كما حدده الله في كتابه، والدين كما نمارسه في سلوكنا.. نحن نتحدث عن الدين، وندعو اليه على انه من الله، وانه ليس لنا من أمره شيء واننا عبيد له، تماما كما نحن عبيد للّه.. هذا ما أعلمناه وجهرنا به.. ولكن بين الدين كما أعلمناه ودعونا اليه، وبين سلوكنا الذي وصفناه بالدين ـ بون شاسع، وتضاد واضح.. وان دل هذا على شيء فإنما يدل على انّا في حقيقة الأمر والواقع منافقون، سواء أشعرنا بذلك، أم لم نشعر، ولو فسرنا الدين بأن الله فوّض تشريع الحلال والحرام إلى الهيئة الدينية، كما يزعم بعض أهل الأديان، لكان بينه وبين سلوكنا شيء من الانسجام، اما ان نقول: ان الدين للّه، ومن الله، ثم لا ننسجم معه في سلوكنا فهو النفاق بعينه.

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، وفي الآية 152 من سورة الانعام: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُوا﴾ ومعناه ان الدين حاكم علينا وعلى آبائنا وأبنائنا، وانه إذا تصادمت المصلحة الشخصية مع الدين فعلينا ان نؤثر الدين، ولو أدى ذلك إلى ذهاب النفس والنفيس، تماما كما فعل سيد الشهداء الحسين بن علي عليه السلام.. ولو قارن واحد من الناس هذه الحقيقة القرآنية مع سلوكنا لأنتهي إلى اننا نؤثر مصالحنا ومصالح ذوينا على الدين، وإذا حقق ودقق في البحث آمن بأن المصدر الأول والأخير للدين عندنا هو المصلحة والمنفعة، لا كتاب الله، ولا سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

3. هذا هو واقعنا، أو واقع أكثرنا، أو واقع الكثير منا.. ولكن لا نشعر بهذا الواقع، ولا ننتبه اليه، لأن الأنانية قد طغت على عقولنا، وفصلتنا عن واقعنا وعن أنفسنا، وأعمتنا عن الحق، وأوهمتنا ان دين الله هو مصلحتنا بالذات، وما عداها فليس بشيء أقول هذا، لا حقدا على أحد، ولا بدافع الحاجة والحرمان.. فاني بفضل الله في غنى عن خلقه.. ولكن هذا ما أحسه في أعماقي، ويحس به كثيرون غيري من العارفين المنصفين، ولا بد لهذا الاحساس من واقع يعكسه ـ فيما أعتقد ـ كما اعتقد انه لا دواء لهذا الداء إلا أن نتهم أنفسنا، ونعتقد انّا عاديون كغيرنا، لنا ميول وأهواء يجب أن نحذرها ونخالفها.. أقول هذا، وأنا على علم بأنه صرخة في واد، لأنه شكوى من أنفسنا لأنفسنا التي هي أعدى أعدائنا.

4. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾، في كل فرد من أفراد الإنسان استعداد لتقبل الخير والشر، وهو في الوقت نفسه مفطور على تخير الأول دون الثاني، بحيث لو خلي وفطرته لفعل ما يعتقد انه خير، ولا ينحرف عنه إلا لعلة خارجة عن ذاته وفطرته.. ومما استدلّ به علماء الكلام على هذه الحقيقة ان العاقل لو خيّر بين ان يصدق ويعطى دينارا، وبين أن يكذب ويعطى دينارا، ولا ضرر عليه فيهما لاختار الصدق على الكذب، اذن، العاقل لا يكذب إلا لعلة، كالخوف أو الطمع، أو هوى مع قريب، أو كراهة لعدو، أو رحمة بفقير، أو مجاملة لغني، وما إلى ذلك.

5. وقد نهى سبحانه عن الامتناع من الشهادة على الغني خوفا أو طمعا أو مجاملة، وعن الامتناع منها على الفقير لفقره ومسكنته، وقال، عظم من قال: ﴿أَنْ يَكُنَّ﴾ ـ المشهود عليه ـ ﴿غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾، أي أنه أرحم بالفقير منا، وأعرف بمصلحته ومصلحة الغني، وما علينا نحن إلا أن نقول الحق، سواء أكان لهما، أم عليهما.

6. ولم يذكر سبحانه من الدوافع الموجبة للزيغ والانحراف إلا مجاملة الغني، والرحمة بالفقير.. ولكن السبب عام، فالحق يجب أن يقال في كل موطن، والعدل يجب أن يتبع حتى مع أعداء الدين، ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾، أي لكي تعدلوا، والمعنى على هذا انكم تصيرون من أهل العدل بترك الهوى ومخالفته، وقيل: التقدير كراهة ان تعدلوا، أي انكم تتبعون الهوى كرها بالعدل، وان الله نهاهم عن ذلك، والأول أقرب.

7. اختلف الفقهاء في معنى العدالة، وأطالوا الكلام، فمنهم من قال انها ظاهر الإسلام، مع عدم ظهور الفسق، وقال آخر: انها ملكة راسخة في النفس تبعث على فعل الواجب، وترك المحرم، وثالث: انها الستر والعفاف، ورابع انها ترك الكبائر، مع عدم الإصرار على الصغائر.

8. في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ إيماء إلى أن العدالة هي مخالفة الهوى، ووصف علي أمير المؤمنين عليه السلام أخا له في الله فيما وصف انه (كان إذا بدهه ـ أي فجأه ـ أمران نظر أيهما أقرب إلى الهوى فخالفه)، وقال: (كان أول عدله نفي الهوى عن نفسه)، وقال حفيده الإمام جعفر الصادق عليه السلام: اما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه.

9. ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾، الليّ هو المطل والتسويف، والمعنى لا تسوفوا في أداء الشهادة، ولا تعرضوا عنها.. ثم هدد وتوعد بأن من يفعل ذلك يعلم به الله، ويعاقبه عليه.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/458.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله﴾ القسط هو العدل، والقيام بالقسط العمل به والتحفظ له، فالمراد بالقوامين بالقسط القائمون به أتم قيام وأكمله، من غير انعطاف وعدول عنه إلى خلافه لعامل من هوى وعاطفة أو خوف أو طمع أو غير ذلك، وهذه الصفة أقرب العوامل وأتم الأسباب لاتباع الحق وحفظه عن الضيعة، ومن فروعها ملازمة الصدق في أداء الشهادة والقيام بها.

2. ومن هنا يظهر أن الابتداء بهذه الصفة في هذه الآية المسوقة لبيان حكم الشهادة ثم ذكر صفة الشهادة من قبيل التدرج من الوصف العام إلى بعض ما هو متفرع عليه كأنه قيل، كونوا شهداء لله، ولا يتيسر لكم ذلك إلا بعد أن تكونوا قوامين بالقسط فكونوا قوامين بالقسط حتى تكونوا شهداء لله.

3. ﴿شُهَدَاءَ لله﴾ اللام فيه للغاية أي كونوا شهداء تكون شهادتكم لله كما قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لله﴾ [الطلاق: 2] ومعنى كون الشهادة لله كونها اتباعا للحق ولأجل إظهاره وإحيائه كما يوضحه قوله: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ قوله تعالى، ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ أي ولو كانت على خلاف نفع‏ أنفسكم أو والديكم أو أقربائكم فلا يحملنكم حب منافع أنفسكم أو حب الوالدين والأقربين أن تحرفوها أو تتركوها، فالمراد بكون الشهادة على النفس أو على الوالدين والأقربين أن يكون ما تحمله من الشهادة لو أدى مضرا بحاله أو بحال والديه وأقربيه سواء كان المتضرر هو المشهود عليه بلا واسطة كما إذا تخاصم أبوه وإنسان آخر فشهد له على أبيه، أو يكون التضرر مع الواسطة كما إذا تخاصم اثنان وكان الشاهد متحملا لأحدهما ما لو أداه لتضرر به نفس الشاهد أيضا ـ كالمتخاصم الآخر ـ.

4. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾ إرجاع ضمير التثنية إلى الغني والفقير مع وجود (أو) الترديدية لكون المراد بالغني والفقير هو المفروض المجهول الذي يتكرر بحسب وقوع الوقائع وتكررها فيكون غنيا في واقعة، وفقيرا في أخرى، فالترديد بحسب فرض البيان وما في الخارج تعدد، كذا ذكره بعضهم، فالمعنى أن الله أولى بالغني في غناه، وبالفقير في فقره: والمراد ـ والله أعلم ـ: لا يحملنكم غنى الغني أن تميلوا عن الحق إليه، ولا فقر الفقير أن تراعوا حاله بالعدول عن الحق بل أقيموا الشهادة لله سبحانه ثم خلوا بينه وبين الغني والفقير فهو أولى بهما وأرحم بحالهما، ومن رحمته أن جعل الحق هو المتبع واجب الاتباع، والقسط هو المندوب إلى إقامته، وفي قيام القسط وظهور الحق سعادة النوع التي يقوم بها صلب الغني، ويصلح بها حال الفقير، والواحد منهما وإن انتفع بشهادة محرفة أو متروكة في شخص واقعة أو وقائع لكن ذلك لا يلبث دون أن يضعف الحق ويميت العدل، وفي ذلك قوة الباطل وحياة الجور والظلم، وفي ذلك الداء العضال وهلاك الإنسانية.

5. ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ أي مخافة أن تعدلوا عن الحق والقسط باتباع الهوى وترك الشهادة لله فقوله: ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ مفعول لأجله ويمكن أن يكون مجرورا بتقدير اللام متعلقا بالاتباع أي لأن تعدلوا.

6. ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ اللي بالشهادة كناية عن تحريفها من لي اللسان، والإعراض ترك الشهادة من رأس، وقرئ‏ ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ بضم اللام وإسكان الواو من ولي يلي ولاية، والمعنى: وإن وليتم أمر الشهادة وأتيتم بها أو أعرضتم فإن الله خبير بأعمالكم يجازيكم بها.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/109.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خطاب لمن آمن؛ لأن إيمانه حجة عليه، وإذا كان إيمانه باقياً فهو يدعوه إلى الطاعة ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ لم يقل: قوموا بالقسط، بل أمر بملازمة القيام بالقسط حتى يكون المؤمن قوَّاماً بالقسط، يسمى بمثال المبالغة، وأمرهم بذلك أمراً يدل على الوجوب، وأكده بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ الأولاد والإخوة والأخوات، فيجب أن لا تأخذهم عاطفةٌ تصدهم عن القيام بالقسط بالعدل والشهادة بالحق.

2. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ مَن عليه الحق، فاشهدوا عليه لا يمنعكم غنى الغني، ولا فقر الفقير ﴿فَالله أَوْلَى﴾ بالغني والفقير، فعليكم أن تطيعوا أمره فيهما ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ إما هوى في غني لأجل غناه، فكثير من الناس يداري الغني ويكره إغضابه أو فعل ما يكره، وكذلك الفقير قد تدعو الرحمة له إلى الرفق به، وأن لا يحمل ما يثقل عليه، وكلاهما من الهوى ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾ عن ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ بكلمة الحق والقيام بالقسط، ويظهر أن هذا خطاب عام للشهود والحكام.

3. ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾ لَيُّ الشهادة: تحويلها عن وجهها ليبطل الحق أو بعضه، والإعراض: الإعراض عن القيام بالقسط، والإعراض عن الشهادة بالحق كتماناً لها.

4. ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ عالماً بما تعملون بظاهره وخبره الباطن، وهذا تخويف للمؤمنين بأنه يجزيهم إذا لَووا أو أعرضوا الجزاء الأوفى، قال الشرفي في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: دلَّت على تحريم الشهادة بغير الحق، وعلى تحريم الإعراض عن أداء الشهادة بالحق)

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/186.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نلاحظ على هاتين الروايتين (2) أنهما لا تتناسبان مع روحية العدالة لدى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم التي تنطلق من خلال التأكيد على إعطاء صاحب الحق حقه من دون فرق في صفة صاحب الحق، ولا معنى للقول بأن الفقير، لا يظلم الغني، لأن الظلم لا ينطلق دائما من خلال القوة التي لا يملكها الفقير بل قد ينطلق من خلال العقدة التي يحملها الإنسان للإنسان الآخر أو الحسد الذي يوحي إليه بالتمرد عليه من خلال بعض الظروف الملائمة لأوضاعه، ولذلك، فلا يمكن نسبة هذا الموقف البعيد عن خط العدل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو رسول العدالة المنفتحة على الحق لا على الشخص، هذا مع ملاحظة أن الخطاب موجّه للناس بشكل عام، لا للنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والله العالم.

2. تواصل الآيات القرآنية النداء تلو النداء للمؤمنين، لتكون خطواتهم العملية في هدى الشخصية الإسلامية التي أرادها الله، لتكون عنصرا قويا ثابتا لبناء الحياة على أساس العدل الذي هو الهدف الكبير للحياة في تطلعات الإسلام وأهدافه؛ فلا بد للمؤمنين من تأكيد هذا الهدف في تكوينهم الذاتي، ليكونوا الصورة الحقيقية للواقع العملي الذي يعملون من أجله.

3. ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ والقسط هو العدل، أن يكونوا قائمين به؛ أن يجعلوا حياتهم قياما به من أجل أن يستوعب كل علاقاتها ومعاملاتها وأعمالها وأقوالها، بحيث تتحول كل نشاطاتهم إلى حركة دائبة في هذا السبيل، لا أن يكون ذلك جانبا محدودا من النشاطات.

4. ﴿شُهَدَاءَ لله﴾ لا للعاطفة ولا للمزاج؛ ولا للمصلحة، أو للطمع، وذلك بأن يواجه الواقع الموضوعي كما هو، من خلال ما يراه وما يسمعه، بعيدا عن أية مؤثرات أخرى، على أساس أن دور الشهادة هو أن يكشف الحقيقة لتكون أساسا للعدل الذي هو ـ في محتواه ـ لله.

5. ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾، لأن الله أقرب إليه من نفسه، فلا ينظر في شهادته مصلحة نفسه ورضاها، بل مصلحة العدل الذي يلتقي به رضا الله.

6. ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا قيمة للعلاقات الشخصية أمام علاقته بالله، فإنها تنتهي عند حدود رضاه، وتلك هي قصة القيم الكبرى في الحياة، فإنها تتقدم كل شيء مهما كانت عظمته، لتكون الأشياء كلها في خدمتها من أجل أن تكون في خدمة الإنسان في دوره‏ الحقيقي أمام الله؛ وبذلك تتصاغر العواطف والمشاعر لتتحول إلى هواء ودخان، لتبقى للحياة عناصرها الأساسية الدائمة.

7. ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾ فلا يفكر الإنسان ـ أمام خط العدل ـ أن يشهد لمصلحة الغني لغناه، أو ضد مصلحته من أجل العقدة الذاتية تجاه الغني، أو يشهد للفقير على أساس العاطفة التي تتفاعل إنسانيا وعاطفيا مع مظاهر الفقر وآلامه، مما قد يوحي بالانحراف عن الحق.

8. ﴿فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾ فإن الله هو الذي يتكفل بمصالح عباده برحمته التي تشملهم جميعا؛ وتلك هي حكمته التي ارتكزت على أساس أن الانحراف عن العدل، مراعاة لبعض الخصوصيات، يسيء إلى المستفيدين منه، في المستقبل أكثر مما ينفعهم.

9. ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ عن الحق، بل اتبعوا الحق الذي يقودكم إلى العدل، وتلك هي وصية الله التي يجب أن تلتزموا بها ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ أي إن تنحرفوا ﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾ عن السير مع وصايا الله وتعليماته، فستواجهون الموقف الصعب أمامه غدا يوم القيامة؛ ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فلا تحاولوا أن تعتذروا بما لا مجال لقبول العذر فيه، لأن الله يعلم واقع الأشياء، إذا كان الناس من حولكم يعلمون ظواهرها من دون النفاذ إلى الأعماق.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/500.

(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. على غرار الأحكام التي وردت في الآيات السابقة حول تطبيق العدالة مع الأيتام والزوجات تذكر الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ مبدأ أساسيا وقانونا كليا في مجال تطبيق العدالة في جميع الشؤون والموارد بدون استثناء، وتأمر جميع المؤمنين بإقامة العدالة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾، ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة (قوامين) هي جمع لكلمة (قوّام) وهي صيغة مبالغة من (قائم) وتعني (كثير القيام) أي أن على المؤمنين أن يقوموا بالعدل في كل الأحوال والأعمال وفي كل العصور والدهور، لكي يصبح العدل جزءا من طبعهم وأخلاقهم، ويصبح الانحراف عن العدل مخالفا ومناقضا لطبعهم وروحهم.

2. والإتيان بكلمة (القيام) في هذا المكان، يحتمل أن يكون بسبب أنّ الإنسان حين يريد القيام بأي عمل، يجب عليه أن يقوم على رجليه بصورة عامّة ويتابع ذلك العمل، وعلى هذا الأساس فإن التعبير هنا بالقيام كناية عن العزم والإرادة الرّاسخة والإجراء لإنجاز العمل، حتى لو كان هذا العمل من باب حكم القاضي الذي لا يحتاج إلى القيام لدى ممارسة عمله.

3. ويمكن أن يكون التعبير بالقيام جاء لسبب آخر، وهو أنّ كلمة (القائم) تطلق عادة على شيء يقف بصورة عمودية على الأرض دون أن يكون فيه انحراف إلى اليمين أو الشمال، وعلى هذا فإن المعنى المراد منه في الآية يكون تأكيدا لضرورة تحقيق العدالة دون أقل انحراف إلى أي جهة كانت.

4. ولتأكيد الموضوع جاءت الآية بكلمة (الشهادة) فشددت على ضرورة التخلي عن كل الملاحظات والمجاملات أثناء أداء الشهادة، وأن يكون هدف الشهادة بالحق هو كسب مرضاة الله فقط، حتى لو أصبحت النتيجة في ضرر الشاهد أو أبيه أو أمه أو أقاربه‏ ﴿شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، وقد شاع هذا الأمر في كل المجتمعات، وبالأخص المجتمعات الجاهلية، حيث كانت الشهادة تقاس بمقدار الحبّ والكراهية ونوع القرابة بين الأشخاص والشاهد، دون أن يكون للحق والعدل أثر فيما يفعلون.

5. وقد نقل عن ابن عباس حديث يفيد أنّ المسلمين الجدد كانوا بعد وصولهم إلى المدينة يتجنبون الإدلاء بالشهادة لاعتبارات القرابة والنسب، إذا كانت الشهادة تؤدي إلى الإضرار بمصالح اقربائهم، فنزلت الآية المذكورة محذرة لمثل هؤلاء، ولكن ـ وكما تشير الآية الكريمة ـ فإنّ هذا العمل لا يتناسب وروح الإيمان لأنّ المؤمن الحقيقي هو ذلك الشخص الذي لا يعير اهتماما للاعتبارات في مجال الحق والعدل، ويتغاضى عن مصلحته ومصلحة أقاربه من أجل تطبيق الحق والعدل.

6. وتفيد هذه الآية أنّ للأقارب الحق في الإدلاء بالشهادة لصالح ـ أو ضد ـ بعضهما البعض، شرط الحفاظ على مبدأ العدالة (إلّا إذا كانت القرائن تشير إلى وجود انحياز أو تعصب في الموضوع)

7. وتشير الآية بعد ذلك عوامل الانحراف عن مبدأ العدالة، فتبيّن أنّ ثروة الأغنياء يجب أن لا تحول دون الإدلاء بالشهادة العادلة، كما أنّ العواطف والمشاعر التي تتحرك لدى الإنسان من أجل الفقراء، يجب أن تكون سببا في الامتناع عن الأدلاء بالشهادة العادلة حتى ولو كانت نتيجتها لغير صالح الفقراء، لأنّ الله أعلم من غيره بحال هؤلاء الذين تكون نتيجة الشهادة العادلة ضدهم، فلا يستطيع صاحب الجاه والسلطان أن يضرّ بشاهد عادل يتمتع بحماية الله، ولا الفقير سيبيت جوعانا بسبب تحقيق العدالة، تقول الآية في هذا المجال: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا﴾

8. وللتأكيد أكثر تحكم الآية بتجنّب اتّباع الهوى، لكي لا يبقى مانع أمام سير العدالة وتحقيقها إذ تقول الآية: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ يمكن أن تكون عبارة (تعدلوا) اشتقاقا إمّا من مادة (العدالة) أو من مادة (العدول) فإن كانت من مادة (العدالة) يكون معنى الجملة القرآنية هكذا: فلا تتبعوا الهوى لأن تعدلوا أي لكي تستطيعوا تحقيق العدل، وأما إذا كانت من مادة (العدول) يكون المعنى هكذا: فلا تتبعوا الهوى في أن تعدلوا أي لا تتبعوا الهوى في سبيل الانحراف عن الحق.

9. ويتّضح من هذه الجملة ـ بجلاء ـ أن مصدر الظلم والجور كلّه، هو اتّباع الهوى، فالمجتمع الذي لا تسوده الأهواء يكون بمأمن من الظلم والجور.

10. ولأهمية موضوع تحقيق العدالة، يؤكّد القرآن هذا الحكم مرّة أخرى، فيبيّن أنّ الله ناظر وعالم بأعمال العباد ـ فهو يشهد ويرى كل من يحاول منع صاحب‏ الحق عن حقّه، أو تحريف الحق، أو الاعراض عن الحق بعد وضوحه، فتقول الآية: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ وعبارة (تلووا) مشتقة من المصدر (لي) على وزن (طي) وتعني المنع والإعاقة وقد وردت في الأصل بمعنى اللي والبرم.

11. وجملة ﴿إِنْ تَلْوُوا﴾ تشير ـ في الواقع ـ إلى تحريف الحق وتغييره، بينما تشير جملة (تعرضوا) إلى الامتناع عن الحكم بالحق، وهذا هو ذات الشيء المنقول عن الإمام الباقر عليه السّلام‏.

12. والطريف أن الآية اختتمت بكلمة ﴿خَبِيرًا﴾ ولم تختتم بكلمة (عليما) لأنّ كلمة (خبير) تطلق بحسب العادة على من يكون مطلعا على جزئيات ودقائق موضوع معين، وفي هذا دلالة على أن الله يعلم حتى أدنى انحراف يقوم به الإنسان عن مسير الحق والعدل بأي عذر أو وسيلة كان، وهو يعلم كل موطن يتعمد فيه إظهار الباطل حقا، ويجازي على هذا العمل.

13. وتثبت الآية اهتمام الإسلام المفرط بقضية العدالة الاجتماعية، وإن مواطن التأكيد المتكررة في هذه الآية تبيّن مدى هذا الاهتمام الذي يوليه الإسلام لمثل هذه القضية الإنسانية الاجتماعية الحساسة، وممّا يؤسف له كثيرا أن نرى الفارق الكبير بين عمل المسلمين وهذا الحكم الإسلامي السامي، وإن هذا هو سرّ تخلف المسلمين.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/485.

119. أركان الإيمان والضلال البعيد

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈119⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 136]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: إن عبد الله بن سلام، وأسدا وأسيدا ابني كعب، وثعلبة بن قيس، وسلاما ابن أخت عبد الله بن سلام، وسلمة ابن أخيه، ويامين بن يامين؛ أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، إنا نؤمن بكتابك، وموسى، والتوراة، وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (بل آمنوا بالله، ورسوله محمد، وكتابه القرآن، وبكل كتاب كان قبله)، فقالوا: لا نفعل، فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾، قال فآمنوا كلهم(1).

__________

(1) أبو نعيم في معرفة الصحابة ٥/٢٨٢٢.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: هذا خطاب للمؤمنين(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٤٠١.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، يعني: بالغيب الذي فيه جزاء الأعمال(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٠.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ يعني بذلك: أهل الكتاب، كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل، وأقروا على أنفسهم بأن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما بعث الله رسوله دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن، وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق، فمنهم من صدق النبي واتبعه، ومنهم من كفر(1).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: أراد به المنافقين، يقول: يا أيها الذين آمنوا باللسان آمنوا بالقلب(1).

2. روي أنّه قال: قوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ﴾، قال كفر بالله، واليوم الآخر(2).

__________

(1) تفسير البغوي ٢/٢٩٩.

(2) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٠.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: خاطب بهذا من آمن من أهل الكتاب؛ وذلك أنهم قالوا عند إسلامهم: أنؤمن بكتاب محمد، ونكفر بما سواه!؟(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين ١/٤١٣.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾، يقول: فقد أخطأ(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩١.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ يعني: محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ نزول كتاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾ عن الهدى ﴿ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، وبما أوعد الله عز وجل من الثواب والعقاب(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٤.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يحتمل قوله عز وجل: ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ ـ وجوهًا:

أ. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فيما مضى من الوقت، آمِنوا في حادث الوقت.

ب. ويحتمل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾، أي: اثبتوا عليه.

ج. ويحتمل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بألسنتكم، ﴿آمَنُوا﴾ بقلوبكم؛ كقوله تعالى: ﴿آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾.

د. ويحتمل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عند رؤية البأس والعذاب، ﴿آمَنُوا﴾ في الحقيقة؛ كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾

هـ. ويحتمل وجهًا آخر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ببعض الرسل، ﴿آمَنُوا﴾ بالرسل كلهم كما آمن المؤمنون؛ كقوله تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾، وهم كانوا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض؛ كقوله عز وجل: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾

و. ويحتمل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمحمدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يبعث، ﴿آمَنُوا﴾ به إذا بعث؛ لأنهم كانوا يؤمنون به قبل أن يبعث، فلما بعث تركوا الإيمان به؛ كقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾

2. ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ يعني: محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾، أي: آمنوا بالكتاب الذي نزل على رسوله، وهو مُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾، أي: آمنوا ـ أيضًا ـ بالكتب السماوية التي أنزلها الله، تعالى.

3. ثم الإيمان بالله حقيقة ـ إيمانٌ بجميع الرسل والكتب؛ لأن كل نبي كان يدعو إلى الإيمان بجميع ذلك، وكذلك في كل كتاب من الكتب السماوية دعاء إلى الإيمان بجملتهم؛ ألا ترى أن الكفر بواحد منهم ـ كفرٌ بالله وبجميع الرسل والكتب وما ذكر، وبالله العصمة.

4. قوله عز وجل: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يحتمل هذا وجهين:

أ. يحتمل: ومن يكفر بجميع ما ذكر؛ ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، وهو على التأكيد.

ب. ويحتمل: ومن يكفر بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر؛ فقد كان ما ذكر؛ لأن الكفر بواحد من ذلك كفْرٌ بالكل، حتى لو أنكر آية من آيات الله تعالى كفر بالله، وبالكتب وبالرسل كلها، والله الموفق.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٨٧.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾: قيل: إنه أمر الذين آمنوا باللسان أن يؤمنوا بقلوبهم، وقد يمكن أن يكون هذا أمراً منه بالثبات على الإيمان، والمواظبة والحرص على طاعة الرحمن، والصبر والاجتهاد في البر والإحسان(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/253.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ فإن قيل: كيف قال آمنوا وأخبر عنهم أنهم قد آمنوا والجواب: عن هذا جوابان:

أ. أحدهما: يا أيها الذين آمنوا لمن كان قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقيل: خطاباً لليهود والنصارى..

ب. الثاني: يا أيها الذين آمنوا بأفواههم آمنوا بقلوبكم ويكون خطاباً للمنافقين.

ج. ويحتمل وجه آخر وهو أن يكون خطاباً للمؤمنين أي دوموا على إيمانكم.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/197.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾

1. سؤال وإشكال: كيف قيل لهم ﴿آمِنُوا﴾ وحُكِي عنهم أنهم آمنوا؟ والجواب: عن ذلك ثلاثة أجوبة:

أ. أحدها: يا أيها الذين آمنواْ بمن قبل محمد من الأنبياء آمنواْ بالله ورسوله ويكون ذلك خطاباً ليهود والنصارى.

ب. الثاني: معناه يا أيها الذين آمنوا بأفواههم أمنواْ بقلوبكم، وتكون خطاباً للمنافقين.

ج. الثالث: معناه يا أيها الذين آمنوا داومواْ على إيمانكم، ويكون هذا خطاباً للمؤمنين، وهذا قول الحسن.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٣٦).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ ابن كثير وأبو عمر وابن عامر والكسائي عن أبي بكر (الكتاب الذي نزل والكتاب الذي أنزل) بضم النون، والهمزة وكسر الزاء الباقون بفتحهما، فمن فتحهما حمله على قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾، وقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ ومن ضمها حملهما على قوله: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، وقوله: ﴿يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ﴾ وكل جيد سايغ.

2. في معنى قوله تعالى: ﴿يَا أيها الَّذِينَ آمنوا آمنوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: وهو المعتمد عليه عندنا واللائق بمذهبنا ان المعنى يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بالإقرار بالله ورسوله، وصدقوهما، وآمنوا بالله ورسوله في الباطن، ليطابق باطنكم ظاهركم ويكون الخطاب خاصا بالمنافقين الذين كانوا يظهرون خلاف ما يبطنون، والكتاب الذي نزل على رسوله هو القرآن أمرهم بالتصديق به والكتاب الذي انزل من قبل، يعني التوراة والإنجيل أمرهم بالتصديق بهما، وانهما من عند الله.

ب. الثاني: ما اختاره الجبائي والزجاج والبلخي ان يكون ذلك خطاباً لجميع المؤمنين‏ الذين هم مؤمنون على الحقيقة ظاهراً أو باطناً أمرهم الله تعالى أن يؤمنوا به في المستقبل بان يستديموا الايمان، ولا ينتقلوا عنه، لأن الايمان الذي هو التصديق لا يبقى وإنما يستمر بان يجدده الإنسان حالا بعد حال وهذا أيضاً وجه جيد.

ج. الثالث: ما اختاره الطبري من ان ذلك خطاب لأهل الكتاب اليهود والنصارى أمرهم الله تعالى بأن يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والكتاب الذي أنزل عليه كما آمنوا بما معهم من الكتب: التوراة والإنجيل ويكون.

3. ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ اشارة إلى ما معهم من الإنجيل والتوراة ويكون وجه أمرهم بالتصديق لهما وان كانوا مصدقين بهما، لاحد أمرين:

أ. أحدهما: ان التوراة والإنجيل إذا كان فيهما صفات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما ينبئ عن صدق قوله وصحة نبوته فمن لم يصدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يصدق الكتاب الذي أنزل معه، لا يكون مصدقاً بما معه، لأن في تكذيبه، تكذيب ما معه من التوراة والإنجيل، فيجب عليه أن يصدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقر بما أنزل عليه، ليكون مصدقاً بما معه، ومعترفاً به.

ب. والثاني: أن يكون متوجهاً إلى اليهود الذين آمنوا بالتوراة دون الإنجيل والقرآن، فيكون الله أمرهم بالإقرار بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما أنزل من قبل يعني الإنجيل، وذلك لا يصح إلا بالإقرار بعيسى عليه السلام أيضاً وانه نبي من قبل الله.

4. ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخر﴾ معناه ان من كفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيجحد نبوته ويجحد ما أنزله الله عليه، فكأنه جحد جميع ذلك، لأنه لا يصح إيمان أحد من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به، والكفر بشيء منه كفر بجميعه فكذلك قال: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخر﴾ فعقب خطابه لأهل الكتاب وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم تهديداً لهم، وان كانوا مقرين بوحدانية الله تعالى والملائكة والكتب والرسل، واليوم الآخر سوى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به من القرآن فبين لهم ان من جحد محمداً بنبوته لا ينفعه الايمان بشيء سواه، ويكون وجوده وعدمه سواء.

5. ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ معناه فقد ذهب عن قصد السبيل وجاز عن محجة الطريق ألي المهالك ضلالا ذهاباً، وجوراً بعيداً.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/358.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نَزَّل وأنزل بمعنًى، غير أن في ﴿نَزَّلَ﴾ بيان أنه أنزله شيئًا بعد شيء فإن الخبر عن الأفعال الكثيرة المتكررة يأتي بلفظ التشديد في كلام العرب كقولك: كرمت زيدًا: إذا واصلت له الإكرام حالاً بعد حال، وأكرمت لا ينبئ عن ذلك، قال الشاعر:

çفَإِنْ نَغْلِبْ فَغَلَّابُونَ قِدْمًا...وَإِنْ نُغْلَبْ فَغَيْرُ مُغَلَّبِينَاé

أراد: وإن نُغْلَبْ فليس ذاك بعادة معروفة لنا.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وثعلبة بن قيس وأسيد بن كعب، وغيرهم، جاؤوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقالوا: نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وبعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: بل آمنوا بكل كتاب منزل وكل نبي مرسل)، فقالوا: لا نفعل، فنزلت الآية، فجاؤوا وقالوا: نؤمن بك وبكل كتاب منزل، وكل نبي مرسل، ولا نفرق بين أحد منهم كما فعلت اليهود والنصارى، عن أبي صالح عن ابن عباس.

ب. وقيل: نزلت في المنافقين، حكاه الزجاج.

3. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجوه:

أ. أحدها: لما بين الأحكام عقبه بالدعاء إليه، والإيمان بالأنبياء والكتب؛ لأنه من شرائع الإسلام.

ب. ثانيها: أنه يتصل بقوله: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ وذلك الإيمان على وجه المذكور.

ج. ثالثها: أنه عاد الكلام إلى ذكر المنافقين وقد تقدم ذكره.

4. اختلف في الخطاب في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾:

أ. قيل: خطاب للمؤمنين المخلصين، أي صدقوا الله ورسوله، عن الحسن وأبي العالية والأصم وأبي علي وأبي مسلم وجماعة ﴿آمَنُوا﴾ أي: دوموا على الإيمان في مستقبل عمركم.. وهو الصحيح؛ لأنه ظاهر الكلام.

ب. وقيل: إنه خطاب لليهود والنصارى، عن ابن عباس، تقديره: يا أيها الَّذِينَ آمنوا وصَدَّقّوا موسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمِنوا بمحمد وجميع الأنبياء والكتب، فذكر على هذا الوجه لوجهين:

أحدهما: أن الإيمان به يلزمهم كما لزمهم بمن قبله.

الثاني: للبشارة التي وجدوها في كتبهم، فلهذا قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾

ج. وقيل: إنه خطاب للمنافقين، عن الزجاج، تقديره: يا أيها الَّذِينَ صدقوا ظاهرًا وباطنًا آمِنوا: صَدِّقُوا بقلوبكم.

د. وقيل: إنه خطاب للذين قالوا: آمنوا به وجه النهار واكفروا آخره، وتقديره: يا أيها الَّذِينَ آمنوا صدقوا أول النهار وآخره أيضًا.

هـ. وقيل: خطاب للمشركين تقديره: يا أيها الَّذِينَ آمنوا باللات والعزى آمنوا بِاللهِ، لا باللات، وهذا لا يصح؛ لأنه لا يطلق يا أيها الَّذِينَ آمنوا على الكفار.

5. ﴿آمَنُوا بِاللهِ﴾ أي: بأنه الصانع القادر، العالم الحي، السميع البصير، القديم الباقي، الواحد العدل، ليس كمثله شيء حكيم في أفعاله، صادق في أقواله، لا يظلم ولا يجور ﴿وَرَسُولَهُ﴾ يعني آمنوا برسوله وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنه مبعوث إلى الكافة، شريعته ناسخة لجميع الملل، وهو خاتم الرسل، معصوم عن الخطأ والزلل ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ يعني آمنوا بالكتاب المنزل عليه، وهو القرآن، والإيمان به أن يؤمن بأنه كلامه تعالى، ووحيه، وتنزيله، أنزله حجة له وبيانا لشرائعه، وأنه السور والآيات، وهو الذي في أيدي أمته لا زيادة فيه ولا نقصان ولا تحريف ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ يعني التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب.

6. ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ﴾ ويَجحده، أو يشبهه أو يرد أمره ونهيه ﴿وَمَلَائِكَتَهُ﴾ فينزلهم منزلة لا تليق بهم، كقولهم: إنهم بنات الله، أو ينفونهم أو ينسبونهم إلى النقص، ﴿وَكُتُبِهِ﴾ فيجحدها ﴿وَرُسُلِهِ﴾ فينكرهم ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي: يوم القيامة، وإنما ذكر هذه الخصال وإن كان يكفر بكل واحد منها:

أ. تقبيحًا لحالهم، ولما هم عليه من أنواع الكفر والضلال.

ب. وقيل: كأنهم بكفرهم لمحمد كفروا بجميع ذلك لاستحقاقهم العذاب الأليم.

7. ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾:

أ. قيل ذهب عن طرائق الحق ذهابًا بعيدًا.

ب. وقيل: هلك هلاكًا بعيدا من النجاة.

8. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن الأنبياء والكتب كلها سواء في وجوب الإيمان وإن اختلفوا في وجوب التمسك بشريعة واحد دون آخر، كما يلزمنا الإيمان بالجميع وإن لم يلزمنا التمسك إلا بشريعة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. أن من كفر بواحد صار بمنزلة من كفر بالجميع، وإن اختلفا في قدر العذاب.

9. قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: (الكتاب الذي نُزِّلَ على رسوله والكتاب الذي أُنْزِل من قبل) مضمومين وكسر الزاي فيهما على ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون ﴿نَزَّلَ﴾ و﴿أَنْزَلَ﴾ بالفتح، على أنه تعالى أنزله، وكلهم قرؤوا ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ مضمومة النون غير عاصم ويعقوب فإنهما فتحا النون والزاي، وكلاهما حسن، غير أن الضم أفخم في الذكر.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/110.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. قيل: إن الله سبحانه لما بين الاسلام، عقبه بالدعاء إلى الايمان وشرائطه.

ب. وقيل: إنها تتصل بقوله: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ والقيام بالقسط: هو الايمان على الوجه المذكور.

2. في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: وهو الصحيح المعتمد عليه، إن معناه: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بالإقرار بالله ورسوله، آمنوا في الباطن، ليوافق باطنكم ظاهركم، ويكون الخطاب للمنافقين الذين كانوا يظهرون خلاف ما يبطنون، ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾، وهو القرآن ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ هو التوراة والإنجيل، عن الزجاج، وغيره.

ب. ثانيها: أن يكون الخطاب للمؤمنين على الحقيقة، ظاهرا وباطنا، فيكون معناه اثبتوا على هذا الايمان في المستقبل، وداوموا عليه، ولا تنتقلوا عنه، عن الحسن، واختاره الجبائي قال: (لان الايمان الذي هو التصديق لا يبقى، وإنما يستمر بأن يجدده الإنسان حالا بعد حال)

ج. ثالثها: إن الخطاب لأهل الكتاب، أمروا بأن يؤمنوا بالنبي والكتاب الذي أنزل عليه، كما آمنوا بما معهم من الكتب، ويكون قوله: ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ إشارة إلى ما معهم من التوراة والإنجيل، ويكون وجه أمرهم بالتصديق بهما، وإن كانوا مصدقين بهما أحد أمرين: إما أن يكون لأن التوراة والإنجيل فيهما صفات نبينا، وتصديقه، وتصحيح نبوته، فمن لم يصدقه ولم يصدق القرآن، لا يكون مصدقا بهما، لان في تكذيبه تكذيب التوراة والإنجيل، وإما أن يكون الله تعالى أمرهم بالإقرار بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبالقرآن، وبالكتاب الذي أنزل من قبله، وهو الإنجيل، وذلك لا يصح إلا بالإقرار بعيسى أيضا، وهو نبي مرسل، ويعضد هذا الوجه، ما روي عن عبد الله بن عباس أنه قال: (إن الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب، عبد الله بن سلام، وأسد، وأسيد، ابني كعب، وثعلبة بن قيس، وابن أخت عبد الله بن سلام، ويامين بن يامين، وهؤلاء من كبار أهل الكتاب، قالوا: نؤمن بك، وبكتابك، وبموسى، وبالتوراة، وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب، وبمن سواهم من الرسل، فقيل لهم: بل آمنوا بالله ورسوله الآية (فآمنوا كما أمرهم الله)

3. ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ﴾ أي: يجحده، أو يشبهه بخلقه، أو يرد أمره ونهيه ﴿وَمَلَائِكَتَهُ﴾ أي: ينفيهم، أو ينزلهم منزلة لا يليق بهم، كما قالوا إنهم بنات الله، ﴿وَكُتُبِهِ﴾ فيجحدها، ﴿وَرُسُلِهِ﴾ فينكرهم، ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي: يوم القيامة، ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ أي: ذهب عن الحق، وبعد قصد السبيل ذهابا بعيدا، وقال الحسن: (الضلال البعيد: هو ما لا ائتلاف له)، والمعنى: إن من كفر بمحمد، وجحد نبوته، فكأنه جحد جميع ذلك، لأنه لا يصح إيمان أحد من الخلق بشيء مما أمر الله به إلا بالإيمان به، وبما أنزل الله عليه، وفي هذا تهديد لأهل الكتاب، وإعلام لهم أن إقرارهم بالله، ووحدانيته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، لا ينفعهم مع جحدهم نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويكون وجوده وعدمه سواء.

4. قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو (أنزل) بالضم، وكسر الزاي، والباقون ﴿نَزَّلَ﴾ و﴿أَنْزَلَ﴾ بفتحهما.. من قرأ بالضم فحجته قوله سبحانه (ليبين للناس ما نزل إليهم ويعلمون أنه منزل من ربك بالحق)، ومن قرأ (نزل وأنزل) فحجته: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/190.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن عبد الله بن سلّام، وأسدا، وأسيدا ابني كعب، وثعلبة بن قيس، وسلّاما، وسلمة، ويامين، وهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: يا رسول الله نؤمن بك، وبكتابك، وبموسى، والتّوراة، وعزير، ونكفر بما سوى ذلك من الكتاب والرّسل، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

ب. الثاني: أنّ مؤمني أهل الكتاب كان بينهم وبين اليهود كلام لمّا أسلموا، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل‏.

2. في المشار إليهم بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ثلاثة أقوال‏:

أ. أحدها: أنهم المسلمون، قاله الحسن، فيكون المعنى: يا أيّها الذين آمنوا بمحمّد والقرآن اثبتوا على إيمانكم.

ب. الثاني: اليهود والنّصارى، قاله الضّحّاك، فيكون المعنى: يا أيّها الذين آمنوا بموسى، والتّوراة، وبعيسى، والإنجيل: آمنوا بمحمّد والقرآن.

ج. الثالث: المنافقون، قاله مجاهد، فيكون المعنى: يا أيّها الذين آمنوا في الظّاهر بألسنتهم، آمنوا بقلوبكم.

3. ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: (نزّل على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل) مضمومتين، وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائيّ: نزل على رسوله، والكتاب الذي أنزل مفتوحتين، والمراد بالكتاب: الذي نزل على رسوله القرآن، والكتاب الذي أنزل من قبل: كلّ كتاب أنزل قبل القرآن، فيكون (الكتاب) ها هنا اسم جنس.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/486.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان:

أ. الأول: أنها متصلة بقوله: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ وذلك لأن الإنسان لا يكون قائما بالقسط إلا إذا كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية،.

ب. ثانيهما: أنه تعالى لما بيّن الأحكام الكثيرة في هذه السورة ذكر عقيبها آية الأمر بالإيمان.

2. ظاهر قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ﴾ مشعر بأنه أمر بتحصيل الحاصل، ولا شك أنه محال، فلهذا السبب ذكر المفسرون فيه وجوها وهي منحصرة في قولين:

أ. الأول: أن المراد بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ المسلمون، ثم في تفسير الآية تفريعا على هذا القول وجوه:

الأول: أن المراد منه يا أيها الذين آمنوا آمنوا دوموا على الإيمان واثبتوا عليه، وحاصله يرجع إلى هذا المعنى: يا أيها الذين آمنوا في الماضي والحاضر آمنوا في المستقبل، ونظيره قوله: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله﴾ [محمد: 19] مع أنه كان عالما بذلك.

ثانيها: يا أيها الذين آمنوا على سبيل التقليد آمنوا على سبيل الاستدلال.

ثالثها: يا أيها الذين آمنوا بحسب الاستدلالات الجميلة آمنوا بحسب الدلائل التفصيلية.

رابعها: يا أيها الذين آمنوا بالدلائل التفصيلية بالله وملائكته وكتبه ورسله أمنوا بأن كنه عظمة الله لا تنتهي إليه عقولكم، وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات الرسل لا تنتهي إليها على سبيل التفصيل عقولنا.

خامسها: روي‏ أن جماعة من أحبار اليهود جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: بل آمنوا بالله وبرسله وبمحمد وبكتابه القرآن‏ وبكل كتاب كان قبله، فقالوا: لا نفعل، فنزلت هذه الآية فكلهم آمنوا.

ب. الثاني: أن المخاطبين بقوله: ﴿آمَنُوا﴾ ليس هم المسلمون، وفي تفسير الآية تفريعا على هذا القول وجوه:

الأول: أن الخطاب مع اليهود والنصارى، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن.

ثانيها: أن الخطاب مع المنافقين، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا باللسان آمنوا بالقلب، ويتأكد هذا بقوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة: 41]

ثالثها: أنه خطاب مع الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا وجه النهار آمنوا أيضا آخره.

رابعها: أنه خطاب للمشركين تقديره: يا أيها الذين آمنوا باللّات والعزى آمنوا بالله، وأكثر العلماء رجّحوا القول الأول لأن لفظ المؤمن لا يتناول عند الإطلاق إلا المسلمين.

3. قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ﴾ على ما لم يسم فاعله، والباقون (نزل وأنزل) بالفتح، فمن ضم فحجته قوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ وقال في آية أخرى‏ ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الأنعام: 114] ومن فتح فحجته قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾، وقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ وقال بعض العلماء: كلاهما حسن إلا أن الضم أفخم كما في قوله: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ﴾ [هود: 44]

4. أمر الله تعالى في هذه الآية بالإيمان بأربعة أشياء: أولها: بالله، وثانيها: برسوله، وثالثها: بالكتاب الذي نزل على رسوله، ورابعها: بالكتاب الذي أنزل من قبل، وذكر في الكفر أمورا خمسة: فأولها: الكفر بالله، وثانيها: الكفر بملائكته، وثالثها: الكفر بكتبه، ورابعها الكفر برسله، وخامسها الكفر باليوم الآخر.

5. سؤال وإشكال: لم قدم في مراتب الإيمان ذكر الرسول على ذكر الكتاب، وفي مراتب الكفر قلب القضية؟ والجواب: لأن في مرتبة النزول من معرفة الخالق إلى الخلق كان الكتاب مقدما على الرسول وفي مرتبة العروج من الخلق إلى الخالق يكون الرسول مقدما على الكتاب.

6. سؤال وإشكال: لم ذكر في مراتب الإيمان أمورا ثلاثة: الإيمان بالله وبالرسول وبالكتب، وذكر في مراتب الكفر أمورا خمسة: الكفر بالله وبالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر؟ والجواب: أن الإيمان بالله وبالرسل وبالكتب متى حصل فقد حصل الإيمان بالملائكة واليوم الآخر لا محالة، إذ ربما ادعى الإنسان أنه يؤمن بالله وبالرسل وبالكتب، ثم إنه ينكر الملائكة وينكر اليوم الآخر، ويزعم أنه يجعل الآيات الواردة في الملائكة وفي اليوم الآخر محمولة على التأويل، فلما كان هذا الاحتمال قائما لا جرم نص أن منكر الملائكة ومنكر القيامة كافر بالله.

7. سؤال وإشكال: كيف قيل لأهل الكتب‏ ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ مع أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة والإنجيل بل مؤمنين بهما؟ والجواب: من وجهين:

أ. الأول: أنهم كانوا مؤمنين بهما فقط وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب، فأمروا أن يؤمنوا بكل الكتب المنزلة.

ب. الثاني: أن إيمانهم ببعض الكتب دون البعض لا يصح لأن طريق الإيمان‏ وهو المعجزة، فإذا كانت المعجزة حاصلة في الكل كان ترك الإيمان بالبعض طعنا في المعجزة، وإذا حصل الطعن في المعجزة امتنع التصديق بشيء منها، وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ [النساء: 150، 151]

8. سؤال وإشكال: لم قال‏: ﴿نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ و﴿أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ﴾؟ والجواب: قال صاحب (الكشاف): لأن القرآن نزل مفرقا منجما في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله، وأقول: الكلام في هذا سبق في تفسير قوله تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ﴾ [آل عمران: 3، 4]

9. سؤال وإشكال: ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ لفظ مفرد، وأي الكتب هو المراد منه؟ والجواب: أنه اسم جنس فيصلح للعموم.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/243.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾ الآية، نزلت في جميع المؤمنين، والمعنى: يا أيها الذين صدقوا أقيموا على تصديقكم واثبتوا عليه، ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ أي القرآن، ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي كل كتاب أنزل على النبيين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ﴿نَزَّلَ﴾ و﴿أَنْزَلَ﴾ بالضم، الباقون ﴿نَزَّلَ﴾ و﴿أَنْزَلَ﴾ بالفتح، وقيل: نزلت فيمن آمن بمن تقدم محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأنبياء عليهم السلام، قيل: إنه خطاب للمنافقين، والمعنى على هذا يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله، وقيل: المراد المشركون، والمعنى يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى والطاغوت آمنوا بالله، أي صدقوا بالله وبكتبه.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/415.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ﴾ أي: اثبتوا على إيمانكم ودوموا عليه، والخطاب هنا للمؤمنين جميعا ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ هو القرآن، واللام للعهد ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ هو كل كتاب، واللام للجنس، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو وابن عامر: نزل وأنزل بالضم، وقرأ الباقون: بالفتح فيهما.

2. قيل: إن الآية نزلت في المنافقين، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا للّه، وقيل: نزلت في المشركين، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله، وهما ضعيفان.

3. ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي: بشيء من ذلك‏ ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾ عن القصد ﴿ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه، وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة، فناسبه ذكر الرسل جملة، وتقديم الملائكة على الرسل: لأنهم الوسائط بين الله وبين رسله.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/606.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ بألسنتهم فقط ﴿ءَامِنُواْ﴾ بقلوبكم، أو يا أيُّها الذين آمنوا بقلوبهم وألسنتهم دوموا على الإيمان، أو زيدوا منه، فإِنَّ الإيمان يزيد وينقص، أو يا أيُّها الذين آمنوا من اليهود والنصارى ببعض الكتبِ والأنبياءِ آمِنوا بالكلِّ، فإِنَّ اليهود آمنوا بالتوراة وموسى لا بالإنجيل وعيسى، والنصارى بالعكس، وقيل: يا أيُّها الذين آمنوا إجمالاً آمِنوا تفصيلاً، وقيل: يا أيُّها الذين آمنوا بالعزَّى واللات آمنوا بالله، وهو ضعيف، ﴿بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ أي: القرآن ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ﴾ على الرَّسول ﴿مِن قَبْلُ﴾ الكتب التي من الله كلِّها؛ فـ (ال) للاستغراق، وخصَّ القرآن لفضله على غيره، فإنَّه يُذكر الخاصُّ بعد العامِّ، والعامُّ بعد الخاصِّ لمزيَّة في الخاصِّ.

2. قال ابن سلَام وأصحابه كأسد وأسيد ابني كعب، وثعلبة بن قيس، وابن أخت عبد الله بن سلام، ويامين بن يامين: (نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سوى ذلك)، بمعنى أنَّهم لم يثبت عندهم أنَّ ما سوى ذلك من الله، فنزل ﴿يَآ أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ءَامِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ﴾

3. ﴿وَمَنْ يَّكْفُرْ﴾ من الأشقياء ﴿بِاللهِ وَمَلَآئِكَتِهِ﴾ والكفر بالملائكة كفر بغيرهم ﴿وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الَاخِرِ فَقَد ضَّلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا﴾ عن الحقِّ، لا يكاد يرجع إليه، أو من شأن الكفر ولو من غير الشقيِّ البعد عن الحقِّ، أو بعيد الوقوع، والواو بمعنى (أَوْ) لأنَّ الضلال البعيد يحصل ولو بواحد من ذلك فقط، أو (مَنْ) واقعةٌ على الأنواع كلِّها، كأنَّه قيل: (ومن يكفر بالله فقد ضلَّ..)، (ومن يكفر بملائكته فقد ضلَّ،،،) إلخ وهكذا؛ فالحاصل أنَّ كلَّ كافر من هؤلاء ضلَّ ضلالاً بعيدًا، أو المراد المجموع، فيحصل أنَّ الكفر ببعضٍ مَا من ذلك ضلالٌ بعيد، وقيل الإيمان بالكلِّ واجب، والكلُّ ينتفي بانتفاء البعض، وليس هذا من جعل الواو بمعنى أو.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/316.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾ أي: اثبتوا على إيمانكم‏ ﴿بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، يعني القرآن‏ ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ على‏ الرسل، بمعنى الكتب.

2. ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ أي: خرج عن الهدى وبعد عن القصد كل البعد، ما الكفر بالله فظاهر، وأما بالملائكة فلأنهم المقربون إليه، وأما بالكتب فلأنها الهادية إليه، وأما بالرسل فلأنهم الداعون إليه، وأما باليوم الآخر فلأن فيه نفع إقامته وضرر تركه، فإذا أنكر لزم إنكار النفع الحقيقيّ والضرر الحقيقيّ فهو الضلال البعيد، ثم الكفر بالملائكة كفر بمظاهر باطنة، وبالكتب كفر بمظاهر صفة كلامه، وبالرسل كفر بأتم مظاهره، وباليوم الآخر كفر بدوام ربوبيته وعدله، ثم الكفر بالملائكة يدعو إلى الإيمان بالشياطين، وبكتب الله إلى الإيمان بكتب الكفرة، وبالرسل إلى تقليد الآباء، وباليوم الآخر إلى الاجتراء على القبائح، وكل ذلك ضلال بعيد، أفاده المهايميّ.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/370.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جمهور المفسرين على أن الخطاب فيها للمؤمنين كافة أمرهم الله أن يجمعوا بين الإيمان به وبرسوله الأعظم خاتم النبيين والقرآن الذي نزله عليه وبين الإيمان بجنس الكتب التي نزلها على رسله من قبل بعثه خاتم النبيين بأن يعلموا أن الله قد بعث قبله رسلا، وأنزل عليهم كتبا، وأنه لم يترك عباده في الزمن الماضي سدى، محرومين من البينات والهدى، ولا يقتضي ذلك أن يعرفوا أعيان تلك الكتب ولا أن تكون موجودة، ولا أن يكون الموجود منها صحيحا غير محرف، وإذا كان المتبادر من الآية هو الأمر بالجمع بين الإيمان بالنبي الخاتم والكتاب الآخر، وبين ما قبله كما قلنا فلا حاجة في جعل ﴿آمَنُوا﴾ بمعنى أثبتوا وداوموا على الإيمان بذلك كما قالوا، فليس المقام مقام الأمر بالمواظبة والمداومة، سواء أصح ما ورد في سبب النزول أم لم يصح.

2. ولما أمر بالإيمان بكل ما ذكر توعد على الكفر بأي شيء منه فقال: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ فالإيمان بالله هو الركن الأول والإيمان بجنس الملائكة الذين يحملون الوحي إلى الرسل هو الركن الثاني، والإيمان بجنس الكتب التي نزل بها الملائكة على الرسل هو الركن الثالث، والإيمان بجنس الرسل الذين بلغتهم الملائكة تلك الكتب فبلغوها الناس هو الركن الرابع، والإيمان باليوم الآخر الذي يجزى فيه المكلفون على عملهم بتلك الكتب مع الإيمان بما ذكر كل بحسب كتابه إلا أن ينسخ بما بعده هو الركن الخامس، ومن فرق بين كتب الله ورسله فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى لا يعتد بإيمانه لأنه متبع للهوى فيه أو للتقليد الذي هو عين الجهل، وقد وصف الله خاتم رسله وأمته التي هي خير الأمم بقوله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285]

3. ولولا التقليد الذي هو جهل وعمى، أو التعصب واتباع الهوى، لما كان يعقل أن يفهم أحد معنى النبوة والرسالة ويؤمن بموسى أو عيسى عن علم وبصيرة بذلك ثم يكفر بمحمد صلى الله عليه وعليهما وسلم، فإن سر الرسالة هو الهداية ولم يكن موسى ولا عيسى أهدى من محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، فمن يكفر بالله أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله أو اليوم الآخر فقد ضل عن صراط الحق الصحيح الذي ينجي صاحبه في الآخرة من العذاب الأليم، ويمتعه بالنعيم المقيم، لأنه إذا كفر ببعض تلك الأركان بجحود أصله وإنكاره البتة كانت حياته في هذه الدنيا حيوانية محضة، لا يزكي نفسه ولا يعد روحه للحياة الباقية الأبدية، وإن كفر ببعض الكتب والرسل كان كفره بها دليلا على أنه لم يؤمن بشيء منها إيمانا صحيحا مبنيا على فهم معناها والبصيرة بحكمتها كما بينا ذلك آنفا، وكل ذلك من الضلال البعيد عن طريق الهداية ومحجة السلامة، وإنما بعده عنها جهل صاحبه لوجودها، ومن جهل وجود الشيء لا يطلبه بالبحث عن بيناته، وطلب أعلامه وآياته، وأما من ضل عن الشيء وهو يؤمن بوجوده، فإنه يبحث عنه ويستدل عليه حتى يصل إليه، فيكون ضلاله قريبا، ووصف الضلال بالبعيد من أبلغ الوصف وأعلاه، وقد وحد لفظ الكتاب في أول الآية ليناسب لفظ الرسول المفرد، وجمعه في آخرها ليناسب جمع الرسل.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/373.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا خطاب لمؤمنى اليهود؛ وقيل: إن الخطاب فيها للمؤمنين كافة، والمعنى ازدادوا في الإيمان طمأنينة ويقينا وآمنوا برسوله خاتم النبيين وبالقرآن الذي نزّله عليه وبالكتب التي نزّلها على رسله من قبله، فإنه لم يترك عباده في زمن ما محرومين من البينات والهدى.

2. وبعد أن أمر بالإيمان بما ذكر توعد من كفر بذلك فقال: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ أي ومن يكفر بالله أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله أو اليوم الآخر (وهي أسس الدين وأركانه) فقد ضل عن صراط الحق الذي ينجّى صاحبه في الآخرة من العذاب الأليم، ويمتعه بالنعيم المقيم.

3. ومن فرّق بين كتب الله ورسله فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى‏ فلا يعتدّ بإيمانه، لأنه إما يتبع الهوى، أو يقلد عن جهل وعمى، ذاك أن سر الرسالة هي الهداية ولم يكن بعض النبيين فيها بأكمل من بعض، فإذا كفر ببعض الكتب أو الرسل كان كفره بها دليلا على أنه لم يؤمن بشيء منها إيمانا صحيحا مبنيا على فهم حقيقتها والبصر بحكمتها، وكل ذلك من الضلال البعيد عن طرق الهداية.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/181.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يدعوهم الله تعالى دعوة ثانية إلى الإيمان بعناصر الإيمان الشامل، بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولكل عنصر من هذه العناصر قيمته في تكوين العقيدة الإيمانية؛ وقيمته في تكوين التصور الإسلامي، المتفوق على جميع التصورات الأخرى، التي عرفتها البشرية ـ قبل الإسلام وبعده ـ وهو ذاته التفوق الذي انبعث منه كل تفوق آخر أخلاقي أو اجتماعي أو تنظيمي، في حياة الجماعة المسلمة الأولى، والذي يحمل عنصر التفوق دائما لكل جماعة تؤمن به حقا وتعمل بمقتضياته كاملة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، حيث تحق كلمة الله ـ في هذا الدرس نفسه ـ ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)﴾

2. إنه النداء الثاني للذين آمنوا، بصفتهم هذه التي تفردهم من الجاهلية حولهم، وتحدد وظيفتهم وتكاليفهم، وتصلهم بالمصدر الذي يستمدون منه القوة والعون على هذه التكاليف! ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾.. فهو بيان لعناصر الإيمان التي يجب أن يؤمن بها الذين آمنوا، بيان للتصور الإسلامي الاعتقادي:

أ. فهو إيمان بالله ورسوله، يصل قلوب المؤمنين بربهم الذي خلقهم، وأرسل إليهم من يهديهم إليه، وهو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وإيمان برسالة الرسول وتصديقه في كل ما ينقله لهم عن ربهم الذي أرسله.

ب. وهو إيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله، يربطهم بالمنهج الذي اختاره الله لحياتهم وبينه لهم في هذا الكتاب؛ والأخذ بكل ما فيه، بما أن مصدره واحد، وطريقه واحد؛ وليس بعضه بأحق من بعضه بالتلقي والقبول والطاعة والتنفيذ.

ج. وهو إيمان بالكتاب الذي أنزل من قبل، بما أن مصدر الكتب كلها واحد هو الله؛ وأساسها كذلك واحد هو إسلام الوجه للّه؛ وإفراد الله سبحانه بالألوهية ـ بكل خصائصها ـ والإقرار بأن منهج الله وحده هو الذي تجب طاعته وتنفيذه في الحياة.. وهذه الوحدة هي المقتضى الطبيعي البديهي لكون هذه الكتب ـ قبل تحريفها ـ صادرة كلها عن الله، ومنهج الله واحد، وإرادته بالبشر واحدة، وسبيله واحد، تتفرق السبل من حولها وهي مستقيمة إليه واصلة.

3. والإيمان بالكتاب كله ـ بوصف أن الكتب كلها كتاب واحد في الحقيقة ـ هو السمة التي تنفرد بها هذه الأمة المسلمة، لأن تصورها لربها الواحد، ومنهجه الواحد، وطريقه الواحد، هو التصور الذي يستقيم مع حقيقة الألوهية، ويستقيم مع وحدة البشرية، ويستقيم مع وحدة الحق الذي لا يتعدد.. والذي ليس وراءه إلّا الضلال‏ ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾

4. وبعد الأمر بالإيمان، يجيء التهديد على الكفر بعناصر الإيمان مع التفصيل فيها في موضع البيان قبل العقاب: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾..

5. وقد ذكر في الأمر الأول الإيمان بالله وكتبه ورسله، ولم يذكر الملائكة، وكتب الله تتضمن ذكر الملائكة وذكر اليوم الآخر، ومن مقتضى الإيمان بهذه الكتب الإيمان بالملائكة وباليوم الآخر، ولكنه يبرزها هنا، لأنه موطن الوعيد والتهديد، الذي يبين فيه كل عنصر على التحديد.

6. والتعبير بالضلال البعيد غالبا يحمل معنى الإبعاد في الضلال، الذي لا يرجى معه هدى؛ ولا يرتقب بعده مآب! والذي يكفر بالله الذي تؤمن به الفطرة في أعماقها كحركة ذاتية منها واتجاه طبيعي فيها، ويكفر بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، استمدادا من كفره بالحقيقة الأولى.. الذي يكفر هذا الكفر تكون فطرته قد بلغت من الفساد والتعطل والخراب، الحد الذي لا يرجى معه هدى؛ ولا يرتقب بعده مآب!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/778.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الإيمان.. كلّ لا يتجزأ.. وحقيقة كبرى تندرج تحتها حقائق.. فمن آمن ببعض وكفر ببعض فليس مؤمنا، وإلا لو كان مؤمنا حقا بهذا الذي آمن به، لأسلمه إيمانه هذا، إلى الإيمان بما لم يؤمن به من جزئيات الحقيقة الكبرى.

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هو نداء لمن دخلوا في الإيمان وحسبوا في المؤمنين.. وإنه لكى يكونوا مؤمنين حقّا ينبغي أن يكون إيمانهم قائما على الحقائق الآتية:

أ. أولها: الإيمان بالله.. فهو ركيزة الإيمان ودعامته..

ب. ثانيها: الإيمان برسول الله، محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبالكتاب الذي بين يديه، وهو القرآن.

ج. ثالثها: الإيمان بالكتب السماوية المنزلة من قبل، وبرسل الله جميعا.

د. رابعها: الإيمان بالملائكة، وأنهم خلق من خلق الله، وجند من جنده.

هـ. خامسها: الإيمان باليوم الآخر.. أي بالبعث والجزاء والجنة والنار.. فمن آمن على هذا الإيمان فهو مؤمن حقّا، وعليه أن يعمل عمل المؤمنين، وله أن يجازى جزاء المحسنين.

3. ومن كفر ببعض تلك الحقائق وآمن ببعض، فهو ـ كما قلنا ـ ليس من الإيمان في شيء لأن ما يبنيه أولا يهدمه ثانيا.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)﴾ [النساء: 150 ـ 151]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/935.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ تذييل عقّب به أمر المؤمنين بأن يكونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه، فأمرهم الله عقب ذلك بما هو جامع لمعاني القيام بالقسط والشهادة للّه: بأن يؤمنوا بالله ورسله وكتبه، ويدوموا على إيمانهم، ويحذروا مسارب ما يخلّ بذلك.

2. وصف المخاطبين بأنّهم آمنوا، وإردافه بأمرهم بأن يؤمنوا بالله ورسله إلى آخره يرشد السامع إلى تأويل الكلام تأويلا يستقيم به الجمع بين كونهم آمنوا وكونهم مأمورين بإيمان، ويجوز في هذا التأويل خمسة مسالك:

أ. الأول: تأويل الإيمان في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بأنّه إيمان مختلّ منه بعض ما يحقّ الإيمان به، فيكون فيها خطاب لنفر من اليهود آمنوا، وهم عبد الله بن سلام، وأسد وأسيد ابنا كعب، وثعلبة بن قيس، وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام، وسلمة ابن أخيه، ويامين بن يامين، سألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يؤمنوا به وبكتابه، كما آمنوا بموسى وبالتوراة، وأن لا يؤمنوا بالإنجيل، كما جاء في رواية الواحدي عن الكلبي، ورواه غيره عن ابن عباس.

ب. الثاني: أن يكون التأويل في الإيمان المأمور به أنّه إيمان كامل لا تشوبه كراهية بعض كتب الله، تحذيرا من ذلك، فالخطاب للمسلمين لأنّ وصف الذين آمنوا صار كاللقب للمسلمين، ولا شكّ أنّ المؤمنين قد آمنوا بالله وما عطف على اسمه هنا، فالظاهر أنّ المقصود بأمرهم بذلك: إمّا زيادة تقرير ما يجب الإيمان به، وتكرير استحضارهم إيّاه حتّى لا يذهلوا عن شيء منه اهتماما بجميعه؛ وإمّا النهي عن إنكار الكتاب المنزّل على‏ موسى وإنكار نبوءته، لئلّا يدفعهم بغض اليهود وما بينهم وبينهم من الشنآن إلى مقابلتهم بمثل ما يصرّح به اليهود من تكذيب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنكار نزول القرآن؛ وإمّا أريد به التعريض بالذين يزعمون أنّهم يؤمنون بالله ورسله ثم ينكرون نبوءة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وينكرون القرآن، حسدا من عند أنفسهم، ويكرهون بعض الملائكة لذلك، وهم اليهود، والتنبيه على أنّ المسلمين أكمل الأمم إيمانا، وأولى الناس برسل الله وكتبه، فهم أحرياء بأن يسودوا غيرهم لسلامة إيمانهم من إنكار فضائل أهل الفضائل، ويدلّ لذلك قوله عقبه ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ﴾، ويزيد ذلك تأييدا أنّه قال والْيَوْمِ الْآخِرِ فعطفه على الأشياء التي من يكفر بها فقد ضلّ، مع أنّه لم يأمر المؤمنين بالإيمان باليوم الآخر فيما أمرهم به، لأنّ الإيمان به يشاركهم فيه اليهود فلم يذكره فيما يجب الإيمان به، وذكره بعد ذلك تعريضا بالمشركين.

ج. الثالث: أن يراد بالأمر بالإيمان الدوام عليه تثبيتا لهم على ذلك، وتحذيرا لهم من الارتداد، فيكون هذا الأمر تمهيدا وتوطئة لقوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ﴾، ولقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ [النساء: 137] الآية.

د. الرابع: أنّ الخطاب للمنافقين، يعني: يا أيّها الذين أظهروا الإيمان أخلصوا إيمانكم حقّا.

هـ. الخامس: روي عن الحسن تأويل الأمر في قوله: ﴿آمَنُوا بِاللَّهِ﴾ بأنّه طلب لثباتهم على الإيمان الذي هم عليه، واختاره الجبائي، وهو الجاري على ألسنة أهل العلم، وبناء عليه جعلوا الآية شاهدا لاستعمال صيغة الأمر في طلب الدوام، والمراد بالكتاب الذي أنزل من قبل الجنس، والتعريف للاستغراق يعني: والكتب التي أنزل الله من قبل القرآن، ويؤيّده قوله بعده ﴿وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾

3. جاء في صلة وصف الكتاب ﴿الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ بصيغة التفعيل، وفي صلة الكتاب ﴿الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ بصيغة الإفعال تفنّنا، أو لأنّ القرآن حينئذ بصدد النزول نجوما، والتوراة يومئذ قد انقضى نزولها، ومن قال لأنّ القرآن أنزل منجّما بخلاف غيره من الكتب فقد أخطأ إذ لا يعرف كتاب نزل دفعة واحدة.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/280.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة كان الأمر بالعدالة في خاصة الأسرة، وانتهى الكلام إلى الأمر العام بالعدالة مع العدو ومع الولي ومع الغنى ومع الفقير، ومع الأقربين من ذوى القرابة، ومع الغرباء، وبذلك أثبت الكتاب الكريم أن العدالة خاصة الإسلام، ولازمة من لوازمه، ولا تتحقق معانى الإسلام إلا مع العدالة، وإنها قرينة الإيمان لا تفترق عنه، ولا تنفصل، ولذلك قرن الأمر بالعدالة بالأمر بأركان الإيمان كلها، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ هذه الآية تدل على وحدة الرسالة النبوية إلى الخليقة، إذ إن لبها هو الإيمان بالله ورسله وملائكته والكتب التي أنزلت على رسله، وأن المتأخرين يجب عليهم أن يؤمنوا بما جاء به السابقون لهم؛ لأن الرسالة الإلهية سلسلة متصلة الحلقات، كل حلقة منها تالية لسابقتها، وكما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن‏ صرح النبوة واحد)، الرسالة المحمدية آخر جزء لذلك الصرح الشامخ، وبها تمامه وكماله.

2. معنى النص السامي: يا أيها الذين أذعنوا للحق وطلبوه، وصدقوا به اجعلوا إيمانكم مستقرا وثابتا بالله جل جلاله، وبرسوله الذى جاء بشيرا ونذيرا وبالكتاب الذى نزله منجما مقسطا، وهو القرآن، وبالكتاب الذى أنزل من قبل، والمراد جنس الكتب السابقة، لا واحد منها.

3. نرى أن النص الكريم فيه أجزاء الإيمان التي يلازم بعضها بعضا، ولا ينفصل واحد منها عن باقيها، فهي كل لا يقبل التجزئة، ولا يمكن أن يتحقق معناه إلا باتصاله بعضه ببعض:

أ. وأول عناصر الإيمان هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وذلك باعتقاد أنه واحد أحد فرد صمد، فوق كل شيء وليس فوقه شيء ليس كمثله شيء منفرد وحده بالألوهية، فهو الواحد في ذاته وصفاته، وهو الواحد في خلقه وتدبيره، فهو خالق كل شيء وهو القادر على كل شيء وهو القاهر فوق عباده، وهو الواحد في استحقاقه للعبادة، فلا يعبد بحق سواه، هذه إشارات إلى معنى الإيمان بالله الرحمن الرحيم ذي الجلال والإكرام.

ب. وإن الإيمان بالله تعالى على ذلك النحو يقتضى الإيمان بأن رحمته توجب ألا يترك الناس هملا يضلون، ولا يهتدون، ولا يقومون بحق الطاعة، بل لا بد من بشير ونذير، ومن يكون رحمة للعالمين، فلا بد من الرسل يرسلهم، وكان حقا على الذين يدركون رسولا أن يؤمنوا به، فكان حقا على الذين أدركوا محمدا أن‏ يؤمنوا به، ويكون المراد من رسوله هنا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك واضح من الإفراد ومن تكرار كلمة الرسول مقترنة بالكتاب الذى ينزل تنزيلا.

ج. والكتاب الذى نزل على رسوله هو القرآن الكريم، وقد ذكر التعبير عن نزوله بـ ﴿نَزَّلَ﴾ للإشارة إلى نزوله منجما، وأنه لم ينزل جملة واحدة، وأنه كان لا يزال ينزل وقت هذا الخطاب القدسي ومعنى الإيمان بالكتاب الإيمان بأنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه من عند الله العلى الحكيم، وأنه كلامه سبحانه وتعالى، وأن كل ما فيه من أخبار صادق، وما فيه من أحكام واجبة الطاعة، وأنه حجة الله الخالدة، وأنه حبل الله ـ تعالى ـ الممدود إلى يوم القيامة، وأنه محفوظ بحفظه، لا يعتريه تغيير ولا تبديل؛ لأن الله تعالى قد وعد بحفظه، وهو صادق، وأنه ما حاربه جبار إلا قصم الله تعالى ظهره.

د. والكتاب الذى أنزل من قبل هو كتب النبيين السابقين التي أنزلها الله ـ تعالى عليهم، ومعنى الإيمان بها التصديق برسالات الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى، وذكر فيها كتبهم، وذكر بجوارها أنها أنزلت، لأنها قد مضت وانقطع نزولها، وعبر عنها بالفرد دون الجمع، للإشارة إلى تصديق معناها الجامع لها، وهو أنها رسالات الله تعالى إلى أهل الأرض، وهو معنى لا يتغير، بل يشير إلى الوحدة.

4. سؤال وإشكال: قد يقول قائل ما معنى أمر أهل الإيمان بالإيمان؛ ألا يكون في هذا تحصيل حاصل، وأمر بما هو كائن؟ والجواب: لقد أجاب المفسرون عن ذلك بأن المراد بالأمر في قوله: ﴿آمَنُوا﴾ اثبتوا على إيمانكم واستمروا عليه، ولا تتحولوا عنه، فالأمر أمر بالثبات والدوام، ويصح أن نقول مع ما قاله المفسرون إن الحال التي عليها المؤمنون حال إذعان وتسليم وتصديق، والأمر بالإيمان مع هذه الحال التي هم عليها واستنارت قلوبهم بها بيان لأجزاء الإيمان وأركانه وأصوله ومعانيه المتلازمة، فلا يفرقون بين‏ أجزائه، ولا يفرقون بين أحد من رسله سبحانه، في هذا الأمر بيان اتصال المسلمين بالديانات السابقة، وبيان أن الإسلام لا يهدم الأديان قبله، ولكنه يتممها، وأنه الخطوة الأخيرة في الوحى الإلهي وأن من يكفر به وقد أدركه يكفر بغيره، وإن ادعى اعتناقه، ومن يصدقه من غير إيمان بالكتب السابقة لا يكون صادقا.

5. ننبه هنا إلى أمر لفظي قد أشرنا إليه، وهو أن الله تعالى عبر عن القرآن بقوله: (نزل) وعن غيره بـ (أنزل)، لأن القرآن قد نزل منجما، وكان لا يزال ينزل وغيره قد تم نزوله، في ذلك إشارة إلى طريقة نزول القرآن وأنه أمر أراده الله تعالى لمصلحة العباد، وتسهيل هدايتهم به، وتسهيل حفظ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه له، ولأنس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم باستمرار الوحى ينزل عليه.

6. وبعد أن بين سبحانه حقيقة الإيمان ذكر ما يؤدى إليه الكفر فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ أي من يجحد بالله، فلا يؤمن بوحدانيته ولا بقدرته المبدعة الخالقة ولا بحق الإذعان له، والعبودية له سبحانه وحده، ومن ينكر الملائكة، والكتب المنزلة، والرسل المرسلة واليوم الآخر، الذى ينتهى إليه أمر العباد، من يجحد ذلك الجحود، فقد حاد عن السبيل، وانحرف عن الجادة، وبعد في التيه بعدا كبيرا، لا يمكن معه أن يعود إلى الطريق المستقيم؛ لأنه أوغل في الشر إيغالا شديدا، وهنا نجد عناصر خمسة يجب الإيمان بها، وهي الإيمان بالله جل جلاله، والإيمان بالملائكة وهم عباده المطهرون الغائبون عنا حسنا، القريبون منا ومنهم من ينزل بوحى الله تعالى على رسله، ومن ينزل بالكتب؛ ولذلك قرن بالكفر بهم الفكر بالكتب التي ينزلها تعالى على خلقه مسجلة أحكامه وشرائعه وأوامره ونواهيه، واقترن الكفر بالرسل بالكفر بالكتب؛ لأن الرسل هم الذين يبلغونها، ويبينونها، ويدعون إليها، فالكتاب، ينطق بالحق ببيان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم إنه يتبع الكفر بكل ما سبق الكفر باليوم الآخر، والكفر باليوم الآخر هو طريق الضلال البعيد، الذى لا يستطيع التائه الضال إذا سار فيه أن يعود إلى الحق، إذ كلما أصر على الكفر باليوم الآخر ضل في فهم معنى الحياة، وبذلك ينزل إلى مرتبة الحيوان الذى لا يعرف أنه موجود لغاية، وأن له نهاية هي ابتداء لحياة أفضل وأبقى، ومن ظن ألا حياة إلا هذه الحياة الفانية، فهو يلهو ويلعب، ويعيث ويفسد، ولا ينتقل من ضلال إلا إلى ضلال، لا يهتدى بهدى، ولا يسترشد بإرشاد، وإن قوة الإيمان وعظمة الإذعان تكون في الإيمان بالغيب؛ لأن المؤمن يخرج من أسر الحس إلى انطلاق الروحانية، فيعلو فيها مدارج، ويسلك سبلا فجاجا.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1902.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾، قد يؤمن الإنسان بالخالق المكون، وينكر النبوة والكتب السماوية، وقد يعترف بنبوة بعض الأنبياء دون بعض، وببعض الكتب دون بعض، أو ينكر وجود الملائكة، أو اليوم الآخر، وقد بينت هذه الآية أركان الايمان التي يجب أن يعترف بها كل من ترك الشرك والإلحاد، ويؤمن بها ككل لا يتجزأ، وهي الايمان بالله وجميع رسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر.

2. وعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا هم الذين تركوا الشرك والإلحاد، وبآمنوا الثانية الايمان الحقيقي، لا الدوام والثبات على الايمان كما قال المفسرون، وبرسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبالكتاب الذي نزل على رسوله القرآن، وبالكتاب الذي أنزل من قبل كل كتاب سماوي نزل قبل بعثة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم.

3. ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، هذه الآية دليل واضح على أن الايمان بالغيب ركن من أركان الإسلام، وان من لا يؤمن به فليس بمسلم.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/461.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ أمر المؤمنين بالإيمان ثانيا بقرينة التفصيل في متعلق الإيمان الثاني أعني قوله: ﴿بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ﴾ وأيضا بقرينة الإيعاد والتهديد على ترك الإيمان بكل واحد من هذا التفاصيل إنما هو أمر ببسط المؤمنين إجمال إيمانهم على تفاصيل هذه الحقائق فإنها معارف‏ مرتبطة بعضها ببعض، مستلزمة بعضها ببعض، فالله سبحانه لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى والصفات العليا، وهي الموجبة لأن يخلق خلقا ويهديهم إلى ما يرشدهم ويسعدهم ثم يبعثهم ليوم الجزاء، ولا يتم ذلك إلا بإرسال رسل مبشرين ومنذرين، وإنزال كتب تحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وتبين لهم معارف المبدأ والمعاد، وأصول الشرائع والأحكام.

2. فالإيمان بواحد من حقائق هذه المعارف لا يتم إلا مع الإيمان بجميعها من غير استثناء، والرد لبعضها مع الأخذ ببعض آخر كفر لو أظهر، ونفاق لو كتم وأخفى، ومن النفاق أن يتخذ المؤمن مسيرا ينتهي به إلى رد بعض ذلك، كأن يفارق مجتمع المؤمنين ويتقرب إلى مجتمع الكفار ويواليهم، ويصدقهم في بعض ما يرمون به الإيمان وأهله، أو يعترضوا أو يستهزءون به الحق وخاصته، ولذلك عقب تعالى هذه الآية بالتعرض لحال المنافقين ووعيدهم بالعذاب الأليم.

3. وما ذكرناه من المعنى هو الذي يقضي به ظاهر الآية وهو أوجه مما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾ يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بالإقرار بالله ورسوله آمنوا في الباطن ليوافق ظاهركم باطنكم، وكذا ما ذكره بعضهم أن معنى‏ ﴿آمَنُوا﴾ اثبتوا على إيمانكم، وكذا ما ذكره آخرون أن الخطاب لمؤمني أهل الكتاب أي يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله وهو القرآن، وهذه المعاني وإن كانت في نفسها صحيحة لكن القرائن الكلامية ناهضة على خلافها، وأردأ الوجوه آخرها.

4. ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ لما كان الشطر الأول من الآية أعني قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ دعوة إلى الجمع بين جميع ما ذكر فيه بدعوى أن أجزاء هذا المجموع مرتبطة غير مفارق بعضها بعضا كان هذا التفصيل ثانيا في معنى الترديد والمعنى: ومن يكفر بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر أي من يكفر بشيء من أجزاء الإيمان فقد ضل ضلالا بعيدا.

5. وليس المراد بالعطف بالواو الجمع في الحكم ليتم الجميع موضوعا واحدا له حكم‏ واحد بمعنى أن الكفر بالمجموع من حيث إنه مجموع ضلال بعيد دون الكفر بالبعض دون البعض، على أن الآيات القرآنية ناطقة بكفر من كفر بكل واحد مما ذكر في الآية على وجه التفصيل.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/114.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ هذه الآية ابتداءٌ في كلام يدعو إلى الإيمان ويحذر من الكفر والنفاق، وهي تدل على وجوب الإيمان بالله ورسله وكتبه، والأمر لمن قد آمن ليؤمن في المستقبل، ويثبت على الإيمان ﴿بِالله وَرَسُولِهِ﴾ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى﴾ محمد وهو القرآن، ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ﴾ عام لكتب الله المنزلة على النبيئين الذين قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ أي من قبل تنزيل الكتاب على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

2. ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ ومن يجمع بين أنواع الكفر المذكورة ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ لأن كل نوع من الكفر ضلال، فإذا جمع الأنواع فقد صار بعيداً في ضلاله في متاهة واسعة فبينه وبين العودة إلى الطريق مسافات ومراحل، ولعل هذا فيمن يكفر بالبعث والجزاء استبعاداً للقدرة عليه ويكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبكون القرآن من الله ويكفر بالملائكة على معناهم الحقيقي، ويزعم أن إبراهيم كان مشركاً، ولا يؤمن بالرسل ولا بالكتب، وهم من أهل الجاهلية من العرب الذين ليس لهم كتاب وأشباههم من العجم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/188.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا نداء للمؤمنين الذين يدخلون الإيمان من خلال الأجواء العامة للدعوة بعيدا عن التفاصيل، أن عليهم أن يتعمقوا في معناه وفي جميع مجالاته، لأنه يمثل الخط الممتد في تاريخ الرسالات، كما يمثل الآفاق الرحبة الواسعة التي تلتقي بالله ورسوله وملائكته، وتحمل في روحيّتها مسئولية الدنيا والآخرة، في انسجام وترابط وامتداد.. فلكي يكون الإنسان مؤمنا كما يريده الله، فلا بد له من الإيمان بالله ورسوله والكتب السماوية التي أنزلها على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى سائر الأنبياء من قبله، ولا بد له من الإيمان بالحقائق التي تتضمنها هذه الكتب مما يدخل في عالم الغيب، من الإيمان بالملائكة واليوم الآخر، فذلك هو الهدى الذي لا ضلال معه، أما الذي يكفر بذلك كله أو ببعضه، فقد ضل ضلالا بعيدا، لأنه لا يرتكز في مسيرته على قاعدة يقف عليها.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/505.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نقل عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في شأن جمع من كبار شخصيات أهل الكتاب ـ مثل عبد الله بن سلام وأسد بن كعب وأخيه أسيد بن كعب ونفر آخر من هؤلاء ـ والسبب هو أنّهم قدموا منذ البداية على الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالوا له: إنّهم قد آمنوا به وبكتابه السماوي وبموسى والتوراة والعزيز، ولم يؤمنوا ببقية الأنبياء، فنزلت هذه الآية وأعلمتهم ضرورة الإيمان بجميع الأنبياء والكتب السماوية.

2. يتبيّن من سبب النّزول أنّ الكلام في الآية موجه إلى جمع من مؤمني أهل‏ الكتاب الذين قبلوا الإسلام، ولكنهم لعصبيات خاصّة أبوا أن يؤمنوا بما جاء قبل الإسلام من أنبياء وكتب سماوية غير الدين الذي كانوا عليه، فجاءت الآية توصيهم بضرورة الإيمان والإقرار والاعتراف بجميع الأنبياء والمرسلين والكتب السماوية، لأنّ هؤلاء جميعا يسيرون نحو هدف واحد، وهم مبعوثون من مبدأ واحد (علما بأن لكل واحد منهم مرتبة خاصّة به، فكل واحد منهم جاء ليكمل ما أتى به النّبي أو الرّسول الذي سبقه من شريعة ودين)

3. ولذلك فلا معنى لقبول البعض وإنكار البعض الآخر من هؤلاء الأنبياء والرسل، فالحقيقة الواحدة لا يمكن التفريق بين أجزائها، وأنّ العصبيات ليس بإمكانها الوقوف أمام الحقائق، لذلك تقول الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾

4. بغض النظر عن سبب النّزول المذكور، فإنّنا لدى تفسيرنا لهذه الآية نحتمل أن يكون الخطاب موجها فيها لعامّة المؤمنين، أولئك الذين اعتنقوا الإسلام إلّا أنّه لم يتغلغل بعد في أعماق قلوبهم، ولهذا السبب يطلب منهم أن يكونوا مؤمنين من أعماقهم، كما يوجد احتمال آخر، وهو أنّ الكلام في هذه الآية موجه لجميع المؤمنين الذين آمنوا بصورة إجمالية بالله والأنبياء، إلّا أنّهم ما زالوا لم يتعرفوا على جزئيات وتفاصيل العقائد الإسلامية.

5. ومن هذا المنطلق يبيّن القرآن أنّ المؤمنين الحقيقيين يجب أن يعتقدوا بجميع الأنبياء والكتب السماوية السابقة وملائكة الله، لأن عدم الإيمان بالمذكورين يعطي مفهوم إنكار حكمة الله، فهل يمكن أن يترك الله الحكيم الملل السابقة بدون قائد أو زعيم يرشدهم في حياتهم!؟ وهل أنّ الملائكة المعنيين بالآية هم ملائكة الوحي ـ فقط ـ الذين يعد الإيمان بهم جزءا لا يتجزأ من الإيمان الضروري بالأنبياء والكتب السماوية، أو أنّهم جميع الملائكة؟ فكما أن بعض الملائكة مكلّفون بأمر الوحي والتشريع، يلتزم جمع آخر منهم بتدبير وإرادة عالم الكون والخليقة؛ وإن الإيمان بهم في الحقيقة جزء من الإيمان بالله سبحانه وتعالى وقد بيّنت الآية ـ في آخرها ـ مصير الذين يجهلون هذه الحقائق، حيث قالت: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾

6. وفي هذه الآية اعتبر الإيمان واجبا وضروريا بخمسة مبادئ، فبالإضافة إلى ضرورة الإيمان بالمبدأ والمعاد، فإن الإيمان لازم وضروري بالنسبة إلى الكتب السماوية والأنبياء والملائكة.

7. إنّ عبارة (ضلال بعيد) عبارة دقيقة، وتعني أنّ الذين لا يؤمنون بالمبادئ الخمسة المارة الذكر، قد انجرفوا خارج الصراط أو الطريق المبدئي، وأن عودتهم إلى هذا الطريق لا تتحقق بسهولة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/489.

120. المترددون بين الإيمان والكفر

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈120⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ [النساء: 137]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال في المرتد: إن كنت لمستتيبه ثلاثا، ثم قرأ هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٩٩.

فضالة:

روي عن فضالة بن عبيد (ت 53 هـ) أنه أتي برجل من المسلمين قد فر إلى العدو، فأقاله(1)، الإسلام، فأسلم، ثم فر الثانية، فأتي به، فأقاله الإسلام، ثم فر الثالثة، فأتي به، فنزع بهذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ إلى قوله: ﴿سَبِيلًا﴾، ثم ضرب عنقه(2).

__________

(1) أقاله: علَّمه القول، ولقنه إياه، اللسان (قول).

(2) البيهقي في سُنَنِه ٨/٢٠٧.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: في قوله: ﴿ازْدَادُوا كُفْرًا﴾، تموا على كفرهم حتى ماتوا(1).

2. روي أنّه قال: يدخل في هذه الآية كل منافق كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩١.

(2) تفسير الثعلبي ٣/٤٠٢.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: يستتاب المرتد ثلاثا(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٠٠.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾، قال هم اليهود والنصارى، أذنبوا في شركهم، ثم تابوا، فلم تقبل توبتهم، ولو تابوا من الشرك لقبل منهم(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٩٨.

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: يستتاب المرتد كلما ارتد(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة ١٢/٢٧٢.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾، كنا نحسبهم المنافقين، ويدخل في ذلك من كان مثلهم(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٩٧.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾: يعني: من مات منهم على كفره(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين ١/٤١٤.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي بعثه عثمان إلى مصر ـ قال ـ وازدادوا كفرا حين لم يبق فيه من الإيمان شيء(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/280.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: هم اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت، وكفرهم به تركهم إياه، ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بالفرقان ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ هؤلاء اليهود، آمنوا بالتوراة ثم كفروا، ثم ذكر النصارى، فقال: ﴿ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾، يقول: آمنوا بالإنجيل ثم كفروا به، ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾، يقول: لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدى، وقد كفروا بكتاب الله وبرسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(3).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٩٦.

(2) عبد الرزاق ١/١٧٦.

(3) ابن جرير ٧/٥٩٧.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ثم ذكر أهل الكتاب، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالتوراة وبموسى، ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ من بعد موسى، ﴿ثُمَّ آمَنُوا﴾ بعيسى صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالإنجيل، ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ من بعده، ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالقرآن(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٤.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال في الآية: هؤلاء المنافقون، آمنوا مرتين، وكفروا مرتين، ثم ازدادوا كفرا(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٩٨.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ هؤلاء قوم ممن آمن مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم رجعوا إلى قريش، وارتدوا عن الإسلام، ثم رجعوا، ثم هفوا ثانية، فرجعوا إلى الكفر، فازدادوا فيه، ومضوا عليه؛ فأخبر الله سبحانه: أنهم حين ازدادوا كفرا، ثم مضوا على ذلك، أن الله لا يغفر لهم، ولا يهديهم سبيلا؛ بل تركهم من التوفيق والتسديد، والعون والتأييد، وحكم عليهم عند ذلك سبحانه بالهلكة والخذلان، بما استوجبوه من تركهم للحق والإيمان؛ فصاروا بذلك معذبين، ولديه سبحانه من الهالكين، في السلاسل والأغلال، مصيرون إلى شر حال.

2. فأخبر سبحانه: أنه لم ينفعهم ما كان من إيمانهم أولا، وما كانوا عليه في إسلامهم؛ لأن ما ختموا به أعمالهم من الردة والكفر موجب لهم النار، مصيرون به إلى شر دار، جهنم يصلونها؛ وبئس القرار، وقد قيل في ذلك: إنهم آمنوا بموسى، ثم كفروا به، وغيروا دينه، ثم آمنوا بمحمد، ثم كفروا به، ثم مضوا على كفرهم، والمعنى الأول أقرب إلى الحق، وهو الذي وضح من الخبر، والله ولي التوفيق والعون والتسديد.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/274.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ﴾:

أ. عن ابن عَبَّاسٍ قال نزلت الآية في الذين قال الله تعالى في سورة آل عمران: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾

ب. وقيل: إنها نزلت في الذين آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بعد موسى، ثم آمنوا بعُزَير، ثم كفروا بعده، ثم آمنوا بعيسى عليه السلام وبالإنجيل، ثم كفروا من بعده، ثم ازدادوا كفرًا بمُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالقرآن الكريم، وهو الأولى.

ج. وقيل غير هذا، لكن ليس بنا إلى أنها فيهم نزلت حاجة، ولكن فيه دليل أنها في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبدًا ولا يتوبون؛ لأنه قال: ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ أخبر أنه لا يغفر لهم، وهو كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾؛ لما علم الله أنهم لا يتوبون؛ وإلا لو آمنوا وتابوا قبلت توبتهم؛ فعلى ذلك الأول؛ لما علم الله أنهم لا يتوبون، ويموتون على ذلك ـ أخبر أنه لا يغفر لهم.

2. وفيه دليل أنه تقبل توبة المرتد إذا تاب، ليس ـ كما قال بعض الناس ـ أنه لا تقبل توبة المرتد؛ لأنه أثبت لهم الإيمان بعد الكفر والارتداد بقوله: ﴿آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا﴾ ثم كذا؛ فدل أنه إذا تاب يقبل منه، وقال أصحابنا: يستتاب المرتد ثلاثًا؛ فإن أسلم وإلا قتل، روي عن علي بن أبي طالب قال: يستتاب المرتد ثلاثًا، ثم تلا هذه الآية، وعن ابن عمر كذلك، وعن عمر أنه قدم عليه رجل من الجيش، فقال: هل حدث لكم حدث؟ فقال: إن رجلا من المسلمين ارتد ولحق بالمشركين فأخذناه، فقال: ما صنعتم به؟ قالوا: قتلناه، قال هلا أدخلتموه بيتًا، وأغلقتم عليه بابا، وأطعمتموه كل يوم رغيفًا، واستتبتموه ثلاثًا؛ فإن تاب وإلا قتلتموه، ثم قال: اللهُم إني لم أشهد، ولم آمر، ولم أرضَ حين بلغني، وقال أبو حنيفة: إذا ارتد ثلاثًا، ثم تاب في كل مرة ـ فإنه يحبس في الثالثة إذا تاب؛ حتى يظهر منه خشوع التوبة، وذلك أثر الثبات على توبته؛ فإن ظهر ذلك، فحينئذ يخلى سبيله؛ لما يحتمل أن تكون توبته فرارًا من القتل؛ فيحبس حتى تظهر حقيقة توبته؛ لأنه أظهر الفسق، والفاسق يحبس حتى يظهر خشوع التوبة.

3. ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ لا يحتمل أن يكون أراد بقوله: ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ ـ البيان؛ على ما قاله قوم؛ لأنه قد تولى لهم البيان، لكنهم تعاندوا ولم يهتدوا؛ فدل أن ثم معنى منه سوى البيان لم يعطهم؛ لما علم أنهم لا يهتدون أبدًا، وهو التوفيق، فهذا يرد على من لا يجعل الهدى إلا بيانًا؛ إذ قد بين لهم ذلك.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٨٨.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ أي آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادة العجل ﴿ثُمَّ آمَنُوا﴾ بموسى بعد عوده ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ بعيسى ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

2. وتحتمل الآية وجهاً آخر وهي أن تكون في المنافقين أنهم آمنوا بألسنتهم فكفروا بقلوبهم ثم ازدادوا كفراً بإقامتهم على الكفر والردة، وروينا عن أمير المؤمنين أن المرتد يستتاب ثلاث مرات فإن ارتد بعدها قتل ولم يستتب.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/198.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنهم آمنواْ بموسى ثم كفرواْ بعبادة العجل، ثم آمنوا بموسى بعد عوده ثم كفرواْ بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليهم وسلم، وهذا قول قتادة.

ب. الثاني: أنهم المنافقون آمنوا ثم ارتدواْ، ثم آمنوا ثم ارتدواْ، ثم ماتواْ على كفرهم، وهذا قول مجاهد.

ج. الثالث: أنهم قوم من أهل الكتاب قصدواْ تشكيك المؤمنين فكانواْ يظهرون الإيمان ثم الكفر ثم ازدادواْ كفراً بثبوتهم عليه، وهذا قول الحسن.

2. اختلف لمكان هذه الآية في استتابة المرتد على قولين:

أ. أحدهما: أن المرتد يستتاب ثلاث مرات بدلالة الآية، فإن ارتد بعد الثلاث قتل من غير استتابة، وهذا قول علي.

ب. الثاني: يستتاب كلما ارتد، وهو قول الشافعي والجمهور.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٣٧).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في المعنى بهذه الآية ثلاثة أقوال:

أ. الأول: قال قتادة عنى بذلك الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا بان عبدوا العجل، ثم آمنوا يعني النصارى بعيسى، ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفراً بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال الزجاج والفراء: آمنوا بموسى، وكفروا بعزير، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. والثاني: قال مجاهد وابن زيد يعني بذلك أهل النفاق أنهم آمنوا، ثم ارتدوا ثم آمنوا، ثم ارتدوا، ثم ازدادوا كفراً بموتهم على كفرهم.

ج. والثالث: قال أبو العالية: هم اليهود والنصاري أذنبوا ذنباً في شركهم، ثم تابوا فلم تقبل توبتهم، ولو تابوا من الشرك لقبل منهم.

2. أقوى الأقوال عندنا قول مجاهد، لأن المؤمن على الحقيقة عندنا (2) لا يجوز أن يكفر، لأن الايمان يستحق عليه الثواب الدائم والكفر يستحق عليه العقاب الدائم بلا خلاف فيهما والاحتباط عندنا باطل، فلو أجزنا الارتداد بعد الايمان الحقيقي لأدى إلى اجتماع استحقاق الثواب الدائم والعقاب الدائم والإجماع بخلافه واختار الطبري الوجه الاول وقال الجبائي والبلخي يجوز ان تكون الآية نزلت في قوم كانوا آمنوا ثم ارتدوا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفراً.

3. ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ﴾ معناه لم يكن الله ليغفر لهم بالإيمان الثاني الكفر المتقدم، لأنه لما ارتد فيما بعد، دلّ على أن ما تقدم، لم يكن ايماناً فلا يستحق به غفران عقاب الكفر المتقدم وهو الذي اختاره الزجاج وقال البلخي والزجاج: لم يكن الله ليغفر لهم إذا لم يتوبوا منه وهذا الذي ذكروه لا يصح، لأن الكفر على كل حال ولو مرة واحدة، لا يغفر الله إلا بالتوبة، فلا معنى لنفي الغفران عن كفر بعد إيمان تقدمه كفر تقدمه إيمان.

4. ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ معناه لا يهديهم سبيل الجنة والثواب فيها، لأنهم غير مستحقين له ويحتمل أن يكون المراد بذلك أنه لا يلطف لهم فيما بعد بل يخذلهم عقوبة لهم على كفرهم المتقدم، ولا يجوز ان يكون المراد به أنه لا ينصب لهم الدلالة، لأن نصب الأدلة قد تقدم في التكليف الأول، والمرتد عندنا على ضربين:

أ. أحدهما: لا يستتاب ويقتل على كل حال وهو من ولد على فطرة الإسلام بين مسلمين متى كفر فانه يقتل على كل حال، والآخر وهو من كان كافراً فاسلم، ثم ارتد فانه يستتاب ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل، ولا يستتاب اكثر من ذلك، وبه قال علي عليه السلام‏ وابن عمر.

ب. وقال قوم: يستتاب أبداً، ذهب إليه إبراهيم وغيره، واختاره الطبري، والمرأة تستتاب على كل حال فإن تابت، وإلا خلدت في السجن ولا تقتل بحال وفي ذلك خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/360.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقوا ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ جحدوا ﴿ثُمَّ آمَنُوا﴾ بعد ذلك أي: صدقوا.

2. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. الأول: هم أهل الكتاب آمن اليهود بالتوراة ثم كفروا بمخالفتها، وآمنوا بموسى ثم كفروا بمخالفته، وآمن النصارى بعيسى ثم كفروا بمخالفته، وآمنوا بالإنجيل ثم كفروا بمخالفته، ثم ازداد الجميع كفرًا بمخالفة محمد والقرآن، عن قتادة..

ب. الثاني: هم طائفة من أهل الكتاب قصدت تشكيك المسلمين، فكانوا يظهرون الإيمان به، ويُبْطِنُون الكفر على ما قالوا ﴿آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ ثم ازدادوا كفرا بموتهم على الكفر، عن الحسن.

ج. الثالث: هم المنافقون آمنوا ثم ارتدوا، ثم آمنوا ثم ارتدوا، ثم ماتوا على كفرهم بِاللهِ، عن مجاهد وابن زيد وابن عباس، دخل فيه كل منافق كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في البر والبحر.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾:

أ. قيل: لا يستر عليهم كفرهم بل يفضحهم، ويدخلهم النار، ولا يهديهم طريق الجنة.

ب. وقيل: لا يغفر لهم من حيث أن إيمانهم غير صحيح، وإنما يغفر للتائب.

4. ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ إلى النجاة من النار، ولا يجوز حمله على أنه لم يهدهم إلى الإيمان لأنه تعالى هدي الجميع، وبَيَّنَ السبيل، ولأنه أضاف الكفر إليهم، وإنما كرر ذكر الكفر وإن كان لا يغفر لمن كفر مرة تقبيحًا لأمرهم، وتعظيمًا لكفرهم.

5. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن المؤمن قد يكفر بعد الإيمان خلاف ما قاله بعض المتأخرين.

ب. تدل على القطع أن الكافر لا يغفر له ولا يهديه طريق النجاة.

ج. أن الإيمان والكفر من جهة العباد، لذلك أضافها إليهم، ولحق بهم المدح والذم خلاف قول الْمُجْبِرَةِ.

د. أن الثواب والعقاب جزاء على الأعمال.

هـ. عظيم أمر المرتد، ولذلك عظم أمره، والمرتد: من كفر بعد الإيمان بخصلة من خصال الكفر، فلا يقبل إلا الإسلام أو القتل، فأما المرتد فعندنا يحبس، ولا يقتل، وقال الشافعي: يقتل، فأما أمواله إذا قُتل أو مات أو لحق بدار الحرب، فجميعه فيء عند الشافعي، وجميعه ميراث عند أبي يوسف ومحمد، فأما أبو حنيفة: فما كان من كسبه قبل الردة فهو ميراث، وما اكتسبه في حال الردة فهو فيء، وأما تصرفاته فموقوفة عند أبي حنيفة، نافذة عند الباقين، والمرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإن كفر ثلاث مرات فروى الشعبي عن علي أنه لا يستتاب في الرابع، والذي عليه عامة الفقهاء أنه يستتاب، فإن تاب، قُبِل ذلك عنه، والمرتد إذا تاب هل يعود ثواب طاعاته أم لا؟ وإذا كفر بعده هل يعود عقاب معاصيه أم لا؟ اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: منهم من قال يعود في الوجهين، وهو قول بشر، وجعل فائدة الآية ذلك، ومنهم من قال لا يعود في الوجهين، وهو قول أبي علي وأبي هاشم، ومنهم من قال يعود الثواب، ولا يعود العقاب، وهو قول أبي القاسم، والفرق بينهما: هو أن بطلان الثواب عقوبة على الردة، وقد سقطت العقوبات، كذلك بطلان الثواب، وغفران الذنب تَفَضُّلٌ ورحمة، فلا يجوز أن يعود فيها.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/110.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ أقوال:

أ. أحدها: إنه عنى به الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا بعبادة العجل، وغير ذلك ﴿ثُمَّ آمَنُوا﴾ يعني النصارى بعيسى ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ به ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن قتادة.

ب. ثانيها: إنه عنى به الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا بعد موسى، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن الزجاج، والفراء.

ج. ثالثها: إنه عنى به طائفة من أهل الكتاب، أرادوا تشكيك نفر من أصحاب رسول الله، فكانوا يظهرون الايمان بحضرتهم، ثم يقولون: قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون، ثم ازدادوا كفرا بالثبات عليه إلى الموت، عن الحسن، وذلك معنى قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾

د. رابعها: إن المراد به المنافقون، آمنوا ثم ارتدوا، ثم آمنوا ثم ارتدوا، ثم ماتوا على كفرهم، عن مجاهد، وابن زيد، وقال ابن عباس: (دخل في هذه الآية كل منافق كان في عهد النبي، في البحر والبر)

2. ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ بإظهارهم الايمان، فلو كانت بواطنهم كظواهرهم في الايمان، لما كفروا فيما بعد ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ معناه: ولا يهديهم إلى سبيل الجنة، كما قال فيما بعد: ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم، ويجوز أن يكون المعنى أنه يخذلهم، ولا يلطف بهم، عقوبة لهم على كفرهم المتقدم.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/191.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلفوا فيمن نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ على ثلاثة أقوال‏:

أ. أحدها: أنها في اليهود آمنوا بموسى، ثم كفروا بعد موسى، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمّد عليه السلام، هذا قول ابن عباس، وروي عن قتادة قال آمنوا بموسى، ثم كفروا بعبادة العجل، ثم آمنوا به بعد عوده، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمّد.

ب. الثاني: أنها في اليهود والنّصارى، آمن اليهود بالتّوراة، وكفروا بالإنجيل، وآمن النّصارى بالإنجيل، ثم تركوه فكفروا به، ثم ازدادوا كفرا بالقرآن وبمحمّد، رواه شيبان عن قتادة، وروي عن الحسن قال هم قوم من أهل الكتاب، قصدوا تشكيك المؤمنين، فكانوا يظهرون الإيمان ثم الكفر، ثم ازدادوا كفرا بثبوتهم على دينهم، وقال مقاتل: آمنوا بالتّوراة وموسى، ثم كفروا من بعد موسى، ثم آمنوا بعيسى والإنجيل، ثم كفروا من بعده، ثم ازدادوا كفرا بمحمّد والقرآن.

ج. الثالث: أنها في المنافقين آمنوا، ثم ارتدّوا، ثم ماتوا على كفرهم، قاله مجاهد، وروى ابن جريج عن مجاهد ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ قال ثبتوا عليه حتى ماتوا.

2. قال ابن عباس: ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ ما أقاموا على ذلك‏ ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ أي: لا يجعلهم بكفرهم مهتدين، قال: وإنما علّق امتناع المغفرة بكفر بعد كفر، لأنّ المؤمن بعد الكفر يغفر له كفره، فإذا ارتدّ طولب بالكفر الأوّل‏.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/487.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما أمر الله تعالى بالإيمان ورغب فيه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان فذكر هذه الآية، وفيها أقوال كثيرة:

أ. الأول: أن المراد منه الذين يتكرر منهم الكفر بعد الإيمان مرات وكرات، فإن ذلك يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلوبهم، إذا لو كان للإيمان وقع ورتبة في قلوبهم لما تركوه بأدنى سبب، ومن لا يكون للإيمان في قبله وقع فالظاهر أنه لا يؤمن بالله إيمانا صحيحا معتبرا فهذا هو المراد بقوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ وليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبرا، بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب على الوجه الذي ذكرناه، وكذلك نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات، والغالب أنه يموت على الفسق، فكذا هاهنا.

ب. الثاني: قال بعضهم: اليهود آمنوا بالتوراة وبموسى، ثم كفروا بعزير، ثم آمنوا بداود، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا عند مقدم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ج. الثالث: قال آخرون: المراد المنافقون، فالإيمان الأول إظهارهم الإسلام، وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم، والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعا من المسلمين قالوا إنا مؤمنون والكفر الثاني هو أنهم إذا دخلوا على شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين، وإظهار الإيمان قد يسمى إيمانا قال تعالى:‏ ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: 221] قال القفال رحمة الله عليه: وليس المراد بيان هذا العدد، بل المراد ترددهم كما قال‏: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ [النساء: 143] قال والذي يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾

د. الرابع: قال قوم: المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون‏ الإيمان تارة، والكفر أخرى على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران: 72]

2. ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام.

3. دلّت الآية على أنه قد يحصل الكفر بعد الإيمان وهذا يبطل مذهب القائلين بالموافاة، وهي أن شرط صحة الإسلام أن يموت على الإسلام وهم يجيبون عن ذلك بأنا نحمل الإيمان على إظهار الإيمان.

4. دلت الآية الكريمة على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان، فوجب أن يكون الإيمان أيضا كذلك لأنهما ضدان متنافيان، فإذا قبل أحدهما التفاوت فكذلك الآخر، وذكروا في تفسير هذه الزيادة وجوها:

أ. الأول: أنهم ماتوا على كفرهم.

ب. الثاني: أنهم ازدادوا كفرا بسبب ذنوب أصابوها حال كفرهم، وعلى هذا التقدير لما كانت اصابة الذنوب وقت الكفر زيادة في الكفر فكذلك إصابة الطاعات وقت الإيمان يجب أن تكون زيادة في الإيمان.

ج. الثالث: أن الزيادة في الكفر إنما حصلت بقولهم‏ ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14] وذلك يدل على أن الاستهزاء بالدين أعظم درجات الكفر وأقوى مراتبه.

5. سؤال وإشكال: الحكم المذكور في قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ إما أن يكون مشروطا بما قبل التوبة أو بما بعدها، والأول باطل لأن الكفر قبل التوبة غير مذكور على الإطلاق، وحينئذ تضيع هذه الشرائط المذكورة في هذه الآية، والثاني: أيضا باطل لأن الكفر بعد التوبة مغفور، ولو كان ذلك بعد ألف مرة، فعلى كلا التقديرين فالسؤال لا زم، والجواب: من وجوه:

أ. الأول: أنا لا نحمل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾ على الاستغراق، بل نحمله على المعهود السابق، والمراد به أقوام معينون علم الله تعالى منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه قط فقوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ إخبار عن موتهم على الكفر، وعلى هذا التقدير زال السؤال.

ب. الثاني: أن الكلام خرج على الغالب المعتاد، وهو أن كل من كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإسلام في قلبه وقع ولا عظم، والظاهر من حال مثل هذا الإنسان أنه يموت على الكفر على ما قررناه.

ج. الثالث: أن الحكم المذكور في الآية مشروط بعدم التوبة عن الكفر، وقول السائل: إن على هذا التقدير تضيع الصفات المذكورة، قلنا: إن إفرادهم بالذكر يدل على أن كفرهم أفحش وخيانتهم أعظم وعقوبتهم في القيامة أقوى فجرى هذا مجرى قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾ [الأحزاب: 7] خصهما بالذكر لأجل التشريف، وكذلك قوله: ﴿وَمَلَائِكَتَهُ﴾.. ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98]

6. 7. سؤال وإشكال: ﴿لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ اللام للتأكيد فقوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ يفيد نفي التأكيد، وهذا غير لائق بهذا الموضع إنما اللائق به تأكيد النفي، فما الوجه فيه؟ والجواب: أن نفي التأكيد إذا ذكر على سبيل التهكم كان المراد منه المبالغة في تأكيد النفي.

8. ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ قال أصحابنا: هذا يدل على أنه سبحانه وتعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان خلافا للمعتزلة، وهم أجابوا عنه بأنه محمول على المنع من زيادة اللطف، أو على أنه تعالى لا يهديه في الآخرة إلى الجنة.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/245.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قيل: المعنى آمنوا بموسى وكفروا بعزير، ثم آمنوا بعزير ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقيل: إن الذين آمنوا بموسى ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعد عزير بالمسيح، وكفرت النصارى بما جاء به موسى وآمنوا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به من القرآن.

2. سؤال وإشكال: إن قيل: إن الله تعالى لا يغفر شيئا من الكفر فكيف قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ والجواب: أن الكافر إذا آمن غفر له كفره، فإذا رجع فكفر لم يغفر له الكفر الأول، وهذا كما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله قال قال أناس لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: (أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام، وفي رواية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر)، الإساءة هنا بمعنى الكفر، إذ لا يصح أن يراد بها هنا ارتكاب سيئة، فإنه يلزم عليه ألا يهدم الإسلام ما سبق قبله إلا لمن يعصم من جميع السيئات إلا حين موته، وذلك باطل بالإجماع.

3. معنى: ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ أصروا على الكفر، ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ﴾ يرشدهم، ﴿سَبِيلًا﴾ طريقا إلى الجنة، وقيل: لا يخصهم بالتوفيق كما يخص أولياءه، وفي هذه الآية رد على أهل القدر، فإن الله تعالى بين أنه لا يهدي الكافرين طريق خير ليعلم العبد أنه إنما ينال الهدى بالله تعالى، ويحرم الهدى بإرادة الله تعالى أيضا.

4. تضمنت الآية أيضا حكم المرتدين، وقد مضى القول فيهم في البقرة عند قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/415.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أخبر الله سبحانه عن هذه الطائفة التي آمنت ثم كفرت، ثم آمنت ثم كفرت، ثم ازدادت كفرا بعد ذلك كله: أنه لم يكن الله سبحانه ليغفر لهم ذنوبهم، ولا ليهديهم سبيلا يتوصلون به إلى الحق، ويسلكونه إلى الخير، لأنه يبعد منهم كل البعد أن يخلصوا للّه، ويؤمنوا إيمانا صحيحا، فإن هذا الاضطراب منهم ـ تارة يدّعون أنهم مؤمنون وتارة يمرقون من الإيمان ويرجعون إلى ما هو دأبهم وشأنهم من الكفر المستمرّ والجحود الدائم ـ يدلّ أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين، ليست لهم نية صحيحة، ولا قصد خالص.

2. قيل: المراد بهؤلاء: اليهود، فإنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعزير، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وقيل: آمنوا بموسى، ثم كفروا به بعبادتهم العجل، ثم آمنوا به عند عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

3. والمراد بالآية: أنهم ازدادوا كفرا، واستمروا على ذلك، كما هو الظاهر من حالهم، وإلا فالكافر إذا آمن وأخلص إيمانه وأقلع عن الكفر فقد هداه الله السبيل الموجب للمغفرة، والإسلام يجبّ ما قبله، ولكن لما كان هذا مستبعدا منهم جدا؛ كان غفران ذنوبهم وهدايتهم إلى سبيل الحق مستبعدا.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/607.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ إنَّ اليهود الذين آمنوا بموسى ﴿ثُمَّ كَفَرُواْ﴾ أشركوا بعبادة العجل ﴿ثُمَّ آمَنُواْ﴾ بعد رجوع موسى من الميقات ﴿ثُمَّ كَفَرُواْ﴾ أشركوا بإنكار نبوَّة عيسى والإنجيل ﴿ثُمَّ اَزْدَادُواْ كُفْرًا﴾ شركًا بإنكار نبوءة محمَّد ورسالته صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ شركَهم وذنوبَهم ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبيِلاً﴾ إلى الحقِّ، وقيل: آمنوا بموسى وكفروا بعده، وآمنوا بعزير وكفروا بعيسى ثمَّ بمحمَّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والمراد بالذَّات هؤلاء الآخِرون المنكرون لسيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، إذ كفروا ورضوا بكفر هؤلاء الكفرة، فكأنَّه فَعَلَ هؤلاء الآخِرون كُفْرَهم وكُفْرَ مَنْ قبلَهم.

2. أو المراد: من آمن ثمَّ ارتدَّ ثمَّ آمن ثمَّ ارتدَّ وأصرَّ وتمادى على الشرك، لا تقبل توبته ولو تاب، كما روى عليٌّ أنَّه يُقتل ولا تقبل توبته، وأنَّ الآية دلَّت أنَّه لا تتمحَّض توبته عن الشرك، فلا بدَّ أن يموت بعد هذا التلاعب بالدين، وفي قلبه شرك، والصحيح ـ وهو مذهب الجمهور ـ أنَّه تقبل توبته فلا يُقتل، وأنَّه يمكن أن تكون نصوحا، وأنَّ الآية استبعاد لأن تنصح توبتهم، وأنَّه لو نصحت لقُبلت، ويقال: إنَّ ذلك المرويَّ عن عليٍّ لا يصحُّ عنه، أو مؤوَّل، قلت: وجه تأويله أن يريد أنَّه لا يوفَّق للتوبة النصوح.

3. أو نزلت في قوم مخصوصين عَلِمَ الله أنَّهم لا يتوبون، وليس منهم أبو جهل وأبو لهب والوليد كما توهَّم بعض؛ لأنَّه لا نعلم أنَّ هؤلاء آمنوا ثمَّ كفروا ثمَّ آمنوا ثمَّ كفروا، أو معنى ازدياد الكفر الإصرار عليه إلى الموت، أو في المنافقين آمنوا بألسنتهم ثمَّ كفروا، نطقوا بالكفر الذي أضمروه سرًّا وظَهَرَ بعدُ، ثمَّ تداركوه بالإيمان من ألسنتهم سترًا على أنفسهم، ثمَّ نطقوا بالكفر الذي في قلوبهم، وليس المراد خصوص ما ذكر، بل مجرَّد التكرار حتَّى ختموا أمرهم بازدياد الكفر، وماتوا عليه، وقيل: المراد طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك الصحابة يظهرون الإيمان بحضرتهم ثمَّ يقولون: عرضت لنا شبهة فيكفرون، ثمَّ يُظهِرون الإيمان ثمَّ يقولون: عرضت لنا شبهة فيكفرون إلى الموت، ويناسب التفسيرَ بالمنافقين قولُه تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا اَلِيمًا﴾

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/317.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما أمر تعالى بالإيمان ورغب فيه، بيّن فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ في الآية وجوه:

أ. الأول: أن المراد الذين تكرر منهم الارتداد، وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه، يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف، من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله، لأن قول أولئك، الذين هذا ديدنهم، قلوب قد ضريت بالكفر ومرنت على الردّة، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة، ونصحت توبتهم، لم يقبل منهم ولم يغفر لهم، لأن ذلك مقبول، حيث هو بذل للطاقة واستفراغ الوسع، ولكنه استبعاد له واستغراب، وإنه أمر لا يكاد يكون، وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع، ثم يتوب ثم يرجع، فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات، والغالب أنه يموت على الفسق، فكذا هنا.

ب. الثاني: قال بعضهم: هم اليهود، آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا حين عبدوا العجل، ثم آمنوا بعد عوده إليهم ثم كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد أورد على هذا الوجه أن الذين ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ليسوا مؤمنين بموسى، ثم كافرين بالعجل، ثم مؤمنين بالعود، ثم كافرين بعيسى، بل هم إما مؤمنون بموسى وغيره، أو كفار لكفرهم بعيسى والإنجيل، والجواب: أن هذا إنما يرد لو أريد قوم بأعيانهم: الموجودين وقت البعثة، أما لو أريد جنس ونوع، باعتبار عدّ ما صدر من بعضهم كأنّه صدر من كلهم، فلا إيراد، والمقصود حينئذ استبعاد إيمانهم لما استقر منهم ومن أسلافهم.

ج. الثالث: قال آخرون: المراد المنافقون، فالإيمان الأول إظهارهم الإسلام، وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم، وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم، والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعا من المسلمين قالوا إنا مؤمنون، والكفر الثاني هو أنهم‏ ﴿إِذا خَلَوْا إِلى‏ شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مستهزئون﴾ [البقرة: 14]، وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين، وإظهار الإيمان قد يسمى إيمانا، قال تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: 221]: قال القفال رحمه الله: وليس المراد بيان هذا العدد، بل المراد ترددهم، كما قال: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾، قال والذي يدل عليه، قوله تعالى بعد هذه الآية: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾

د. الرابع: قال قوم: المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر أخرى، على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران: 72]، وقوله: ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام.

2. نقل هذه الوجوه الزمخشريّ والرازيّ وغيرهما، وكلها مما يشمله لفظ الآية.

3. قال في (الإكليل): استدلّ بها من قال تقبل توبة المرتد ثلاثا، ولا تقبل في الرابعة.

4. وقال بعض الزيدية (في تفسيره): دلت على أن توبة المرتد تقبل، لأنه تعالى أثبت إيمانا بعد كفر، تقدمه إيمان، وأقول: دلالتها على ذلك في صورة عدم تكرار الردة، وأما معه، فلا، كما لا يخفى، ثم قال وعن إسحاق: إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته، وهي رواية الشعبيّ عن عليّ عليه السلام.

5. ذهبت الحنابلة إلى أن من تكررت ردته لم تقبل توبته، كما أسلفنا ذلك في آل عمران في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْمًا﴾ [آل عمران: 86]، الآية، وقوله بعدها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ [آل عمران: 90]، وذكرنا، ثمة، أن هذه الآية كتلك الآية، وأن ظاهرهما يشهد لما ذهب إليه إسحاق وأحمد، وأما الوجوه المسوقة هنا فهي من تأويل أكثر العلماء القائلين بقبول توبة المرتد، وإن تكررت، وبعد، فالمقام دقيق.

6. دلت الآية الكريمة على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان، فوجب أن يكون الإيمان نصّا كذلك، لأنهما ضدان متنافيان، فإذا قبل أحدهما التفاوت، قبله الآخر.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/371.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله لنا في هذه الآيات حال أناس من أصحاب الضلال البعيد الذي ذكره في الآية التي قبلهن آمنوا في الظاهر نفاقا أو تقليدا وكان الكفر قد استحوذ على قلوبهم فلم يدع فيها استعدادا لفهم الإيمان فلذلك لم يعصمهم من الرجوع إلى الكفر مرة بعد أخرى، لأنهم لم يعرفوا حقيقته ولا ذاقوا حلاوته، ثم وعيد المنافقين كافة وبيان موالاتهم للكافرين وما بينهم من التناسب الذي يقتضي اشتراكهم في الوعيد وتحذير المؤمنين منهم فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾

2. ذلك بأنه قد تبين من ذبذبتهم بين الإيمان والكفر أنه قد طبع على قلوبهم حتى فقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان وحقيته ومزاياه، فهم بحسب سنة الله في خلقه لا يرجى لهم أن يهتدوا إلى سبيل من سبله، ولا أن يغفر لهم ما دنس أرواحهم من ذنوبه، وإنما قلنا إن الآية مبينة لسنة الله تعالى في أمثالهم لأن أرحم الراحمين واسع المغفرة لم يكن ليحرم أحدا من عباده المغفرة والهداية بمحض الخلق والمشيئة، وإنما مشيئته مقترنة بحكمته وقد قضت حكمته الأزلية بأن يكون كسب البشر لعلومهم وأعمالهم مؤثرا في نفوسهم، فمن طال عليه أمد التقليد، حجب عقله عن نور الدليل، حتى لا يجد إليه من سبيل، ومن طال عليه عهد الفسوق والعصيان، حجب عن أسباب الغفران، وهي التي بينها تعالى في قوله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82]، وقوله حكاية لدعاء الملائكة واستغفارهم للمؤمنين: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: 7] وغير ذلك من الآيات.

3. بينا مرارا أن المغفرة عبارة عن محو أثر الذنب من النفس بتأثير التوبة والعمل الصالح الذي يضاد أثره أثر ذلك الذنب وهو الذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114] والقرآن يفسر بعضه بعضا، ولا تدل الآية على أن هؤلاء إذا آمنوا إيمانا صحيحا لا يقبل منهم بل يقبل قطعا، وقد روي عن قتادة أن المراد بالآية أهل الكتاب آمن اليهود بالتوراة ثم كفروا وآمن النصارى بالإنجيل ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعن ابن زيد ومجاهد أنها نزلت في المنافقين، والأول لا يظهر إلا على قول بعضهم أن كفر اليهود والأول كان باتخاذهم العجل وعبادته والثاني كفرهم بالمسيح والثالث الذي ازدادوا به كفرا وهو كفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على أن كثيرا من اليهود قد آمنوا، وأما القول الثاني فهو يظهر فيمن جهروا بالكفر من المنافقين كما يظهر فيمن يدخلون في الإسلام تقليدا لبعض من يثقون بهم ثم يرجعون إلى الكفر لمثل ذلك لأنهم لم يفهموا حقيقة الإيمان والإسلام وهكذا فعلوا مرة بعد أخرى ثم رأوا أن الكفر ألصق بنفوسهم لطول أنسهم به وانهماكهم فيه.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/291.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر الله تعالى في هذه الآيات حال قوم من أهل الضلال البعيد ـ آمنوا في الظاهر نفاقا وكان الكفر قد استحوذ على قلوبهم ولم يجعل فيها مكانا للاستعداد للفهم، ومن ثم لم يمنعهم ذلك من الرجوع إلى الكفر مرة بعد أخرى، إذ هم لم يفقهوا حقيقة الإيمان ولا ذاقوا حلاوته، ولا أشربت قلوبهم حبه، ولا عرفوا فضائله ومناقبه، ثم أوعد بعدئذ المنافقين بالعذاب الأليم وذكر أنهم أنصار الكافرين على المؤمنين، فلا ينبغي للمؤمنين أن يتخذوا منهم أولياء، ولا أن يبتغوا عندهم جاها ولا منزلة.

2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ أي إن هؤلاء قد استبان من ذبذبتهم واضطراب أحوالهم من إيمان إلى كفر، ثم من كفر إلى إيمان وهكذا دواليك ـ أنهم قد فقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان وفقه مزاياه وفضائله؛ ومثلهم لا يرجى لهم ـ بحسب سنن الله في خليقته ـ أن يهتدوا إلى الخير ولا أن يسترشدوا إلى نافع ولا أن يسلكوا سبيل الله، فجدير بهم أن يمنع الله عنهم رحمته ورضوانه، ومغفرته وإحسانه، لأن أرواحهم قد دنّست، وقلوبهم قد عميت، فلم تكن محلا للمغفرة ولا للرجاء في ثواب.

3. والله أرحم الراحمين واسع المغفرة لم يكن ليحرم أحدا المغفرة والهداية بمحض الخلق والمشيئة، وإنما مشيئته مقترنة بحكمته، وقد جرت سنة الله وحكمته الأزلية بأن يكون كسب البشر لعلومهم وأعمالهم مؤثرا في نفوسهم، فمن طال عليه أمد التقليد حجب عن عقله نور الدليل، ومن طال عليه عهد الفسوق والعصيان حرم من أسباب الغفران التي ذكرها سبحانه في قوله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾

4. ولا شك أن المغفرة وهي محو أثر الذنب من النفس إنما تكون بتأثير التوبة والعمل الصالح الذي يزيل ما علق في النفس من تلك الآثام كما قال تعالى:‏ ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/182.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد هذين النداءين يأخذ السياق في حملة منوعة الأساليب على المنافقين ـ من بقي منهم على حالة النفاق، ومن أعلن كفره بعد إعلان إسلامه ـ حملة يصور فيها طبيعة المنافقين، ويرسم لهم فيها صورا زرية، من واقع ما يقومون به في الصف المسلم؛ ومن واقع مواقفهم المتلونة حسب الظروف، وهم يلقون المسلمين ـ إذا انتصروا ـ بالملق والنفاق، ويلقون الذين كفروا ـ إذا انتصروا كذلك ـ بدعواهم أنهم سبب انتصارهم! وهم يقومون للصلاة كسالى يراءون الناس، وهم مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

2. بعد هذين النداءين للذين آمنوا يأخذ السياق في الحملة على النفاق والمنافقين، ويبدأ بوصف حالة من حالاتهم الواقعة حينذاك، تمثل موقف بعضهم، وهو أقرب المواقف إلى الحديث عن الكفر والكفار: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾..

3. إن الكفر الذي يسبق الإيمان يغفره الإيمان ويمحوه، فالذي لم يشهد النور معذور إذا هو أدلج في الظلام.. فأما الكفر بعد الإيمان مرة ومرة.. فهو الكبيرة التي لا مغفرة لها ولا معذرة.. إن الكفر حجاب فمتى سقط فقد اتصلت الفطرة بالخالق، واتصل الشارد بالركب، واتصلت النبتة بالنبع، وذاتت الروح تلك الحلاوة التي لا تنسى.. حلاوة الإيمان.. فالذين يرتدون بعد الإيمان مرة ومرة، إنما يفترون على الفطرة، عن معرفة، ويلجون في الغواية عن عمد، ويذهبون مختارين إلى التيه الشارد والضلال البعيد.. فعدل ألا يغفر الله لهم؛ وعدل ألا يهديهم سبيلا؛ لأنهم هم الذين أضاعوا السبيل بعد ما عرفوه وسلكوه، وهم الذين اختاروا السيئة والعمى، بعد ما هدوا إلى المثابة والنور..

4. وإذا لم تتجرد النفس للّه، لم تتحرز أبدا من ضغط القيم والأوضاع، والضرورات والمصالح، والحرص والشح، ولم ترتفع أبدا على المصالح والمغانم، والمطامع والمطامح، ولم تستشعر أبدا تلك الطلاقة والكرامة والاستعلاء التي يحسها القلب المملوء بالله، أمام القيم والأوضاع، وأمام الأشخاص والأحداث، وأمام القوى الأرضية والسلطان وأصحاب السلطان.. ومن هنا تبذر بذرة النفاق.. وما النفاق في حقيقته إلا الضعف عن الإصرار على الحق في مواجهة الباطل، وهذا الضعف هو ثمرة الخوف والطمع، وتعليقهما بغير الله؛ وثمرة التقيد بملابسات الأرض ومواضعات الناس، في عزلة عن منهج الله للحياة.

5. فهناك مناسبة في السياق بين الحديث عن الإيمان بالله، والتجرد في القيام بالشهادة له، وبين الحديث عن النفاق ـ إلى جانب المناسبة العامة، التي يكونها موضوع السورة الأصيل، وهو تربية الجماعة المسلمة بمنهج الإسلام؛ ومعالجة الرواسب الباقية من الجاهلية؛ وتعبئة النفوس كذلك ضد الضعف البشري الفطري.. ثم خوض المعركة ـ بهذه الجماعة ـ مع المشركين من حواليها، ومع المنافقين فيها، والسياق متصل في هذا الهدف العام ـ من مبدأ السورة إلى منتهاها.

6. وهكذا يستغرق الحديث عن النفاق والمنافقين بقية هذا الدرس، وهو ختام هذا الجزء.. بعد تلك الصورة التي رسمتها الآية السابقة لطائفة من المنافقين آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفرا..

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/779.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. النفاق أقتل داء يصيب المجتمع الإنسانى.. فإذا تفشّى هذا الداء الخبيث في جماعة من الجماعات فسد وجودها، وضل سعيها، وغشيتها أمواج الفتن، واشتملت عليها عواصف العداوة والبغضاء! وماذا يرجى من جماعة تتعامل فيها بينها بالرياء والنفاق، فيضيع في محيطها المفهوم الحقيقي للّغة، وتصبح الكلمات لديها عملة زائفة، يتداولها الناس كما يتداولون الأشياء المسروقة؟ وكيف الحياة لمجتمع يعيش على الختل والخداع، ويغتذى من مادة الكذب والزور.. فلا يثق أحد في أحد، ولا يأمن أحدا أحدا، ولا يفرق أحد بين ما هو حق أو باطل.. إن حياة النفاق تقتل في الإنسان كل معانى الشرف والفضيلة، وتحلّه من كل ارتباط مع مبدأ أو خلق.. فهو أنانىّ، انتهازىّ.. يضحى بالناس جميعا في سبيل مصلحته وسلامته..

2. من أجل هذا، وكثير غيره مما ينضح به النفاق من شر وبلاء ـ حارب الإسلام النفاق والمنافقين، وعمل على تطهير المجتمع الإسلامي وحمايته من هذا الداء الخبيث، الذي هو شر ما يبتلى به إنسان أو مجتمع، وقد فضح القرآن الكريم المنافقين، الذين اندسوا في المجتمع الإسلامي فأغرى المسلمين بهم، ليخرجوهم من بينهم، وليتجنبوا الاتصال بهم، والتعامل معهم..

3. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ ما يكشف عن الأسلوب الذي يتّبعه المنافقون في الحياة، مع كل أمر، وفي كل موقف.. إنهم لا يستقيمون مع حال أبدا، وإنما حوّل قلب، حسب ما تمليه أهواؤهم، وتدعوهم إليه مصلحتهم.. فتراهم يأخذون بالأمر غدوة، ثم يرفضونه عشيّة، ثم يعودون فيأخذون به.. ثم يعرضون عنه.. وهكذا.. لأنهم لا يقيمون حكمهم على الأشياء لذاتها، وما تحمل في كيانها من خير أو شر، وإنما يحكمون عليها حسب ما تمليه أهواؤهم، وتقتضيه حاجاتهم العاجلة منها.. وفي العقيدة، التي من شأنها أن تقوم في كيان الإنسان مقاما راسخا، لا يتحول، ولا يهتزّ ـ تراهم يتعاملون بها وكأنها سلعة في أيديهم، لا معتقد في قلوبهم.. فيعرضونها للبيع، ويضعونها في يد من يدفع ثمنا أكثر..

4. وانظر ما كان منهم مع دعوة الإسلام.. كانوا كافرين، فرأوا الناس يردون شرعة الإيمان فآمنوا.. ثم رأوا سانحة تسنح لهم وراء حدود الإيمان فتسللوا من بين صفوف المؤمنين، وخلعوا رداء الإيمان.. فكفروا، ثم لاح لهم في مستقبل الإيمان مغنم يغنمونه.. فآمنوا، ثم لما أن حصلوا على ما أرادوا، ولمع لهم سراب وراء أفق الإيمان أقبلوا إليه، وخلّفوا الإيمان وراءهم.. فكفروا.. ثم ازدادوا كفرا.. إذ لم يبق هذا الجري اللّاهث في ترددهم بين الإيمان والكفر ـ لم يبق لهم بقيّة من جهد يعودون به إلى الإيمان مرة أخرى.. وبهذا ينتهى أمرهم في آخر المطاف بهم، إلى الارتماء في أحضان الكفر.. الذي‏ يموتون عليه.

5. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)﴾، فهذا تيئيس من مغفرة الله لهم، لأنهم لن يؤمنوا أبدا.. فهم بهذا واقعون تحت قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾!

6. ثم إنهم إذ لم ينالوا مغفرة الله، ولم يتعرضوا لها، متركون لشأنهم وما اختاروا، وقد اختاروا الضلال، واستحبّوا العمى، واتخذوا الشيطان وليّا من دون الله، ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)﴾ [النساء: 119].. فهم بهذا واقعون تحت قول الله تعالى: ﴿الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 257].. إنّهم أولياء الطاغوت.

7. هذا، وفي الآية الكريمة ما يكشف عن طبيعة الصراع بين الخير والشر، وأن داعى الشرّ في الإنسان أكثر إلحاحا من داعى الخير، إذ كان مع الشر قوى خفيّة في الإنسان تميل إليه، وتنتصر له، وهي أهواء النفس، ووساوس الشيطان.. فإذا لم ينتبه الإنسان إلى هذا الخطر الكامن في كيانه، وإذا لم يقم على أهوائه حارسا من عقله وإرادته، ووازعا من دينه وخلقه، تسلّط الشر عليه، واستبدّ به، وملك أمره..

8. ولو أن هؤلاء الذين آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا ـ لو أنهم وقفوا وقفة حازمة من أول الأمر في وجه تلك الأهواء المسلطة عليهم، لما جرفهم هذا التيار الذي ألقى بهم في غمرات الكفر والضلال، بحيث لا أمل لهم بعد هذا في نجاة أو خلاص!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/933.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ ولا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ استئناف عن قوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ﴾ [النساء: 136] الآية، لأنّه إذا كان الكفر كما علمت، فما ظنّك بكفر مضاعف يعاوده صاحبه بعد أن دخل في الإيمان وزالت عنه عوائق الاعتراف بالصدق، فكفره بئس الكفر.

2. وقد قيل: إنّ الآية أشارت إلى اليهود لأنّهم آمنوا بموسى ثم كفروا به إذ عبدوا العجل، ثم آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد، وعليه فالآية تكون من الذمّ المتوجّه إلى الأمّة باعتبار فعل سلفها، وهو بعيد، لأنّ الآية حكم لا ذمّ، لقوله ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ فإنّ الأولين من اليهود كفروا إذ عبدوا العجل، ولكنّهم تابوا فما استحقّوا عدم المغفرة وعدم الهداية، كيف وقد قيل لهم ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 54]، ولأنّ المتأخّرين منهم ما عبدوا العجل حتّى يعدّ عليهم الكفر الأول، على أنّ اليهود كفروا غير مرّة في تاريخهم فكفروا بعد موت سليمان وعبدوا الأوثان، وكفروا في زمن بختنصّر والظاهر على هذا التأويل أن لا يكون المراد بقوله: ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ أنّهم كفروا كفرة أخرى، بل المراد الإجمال، أي ثم كفروا بعد ذلك، كما يقول الواقف: وأولادهم وأولاد أولادهم وأولاد أولاد أولادهم لا يريد بذلك الوقوف عند الجيل الثالث، ويكون المراد من الآية أنّ الذين عرف من دأبهم الخفّة إلى تكذيب الرسل، وإلى خلع ربقة الديانة، هم قوم لا يغفر لهم صنعهم؛ إذ كان ذلك عن استخفاف بالله ورسله.

3. وقيل: نزلت في المنافقين إذ كانوا يؤمنون إذا لقوا المؤمنين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا، ولا قصد حينئذ إلى عدد الإيمانات والكفرات.

4. وعندي: أنّه يعني أقواما من العرب من أهل مكة كانوا يتّجرون إلى المدينة فيؤمنون، فإذا رجعوا إلى مكة كفروا وتكرّر منهم ذلك، وهم الذين ذكروا عند تفسير قوله: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ [النساء: 88]

5. وعلى الوجوه كلّها فاسم الموصول من قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مراد منه فريق معهود، فالآية وعيد لهم ونذارة بأنّ الله حرمهم الهدى فلم يكن ليغفر لهم، لأنّه حرمهم سبب المغفرة، ولذلك لم تكن الآية دالّة على أنّ من أحوال الكفر ما لا ينفع الإيمان بعده، فقد أجمع المسلمون على أنّ الإيمان يجبّ ما قبله، ولو كفر المرء مائة مرة، وأنّ التوبة من الذنوب كذلك، وقد تقدّم شبه هذه الآية في آل عمران [190] وهو قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾

6. سؤال وإشكال: إذا كان كذلك فهؤلاء القوم قد علم الله أنّهم لا يؤمنون وأخبر بنفي أن يهديهم وأن يغفر لهم، فإذن لا فائدة في الطلب منهم أن يؤمنوا بعد هذا الكلام، فهل هم مخصوصون من آيات عموم الدعوة؟ والجواب: الأشخاص الذين علم الله أنّهم لا يؤمنون، كأبي جهل، ولم يخبر نبيئه بأنّهم لا يؤمنون فهم مخاطبون بالإيمان مع عموم الأمّة، لأنّ علم الله تعالى بعدم إيمانهم لم ينصب عليه أمارة، كما علم من مسألة (التكليف بالمحال العارض) في أصول الفقه، وأمّا هؤلاء فلو كانوا معروفين بأعيانهم لكانت هذه الآية صارفة عن دعوتهم إلى الإيمان بعد، وإن لم يكونوا معروفين بأعيانهم فالقول فيهم كالقول فيمن علم الله عدم إيمانه ولم يخبر به، وليس ثمة ضابط يتحقّق به أنّهم دعوا بأعيانهم إلى الإيمان بعد هذه الآية ونحوها.

7. النفي في قوله: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ أبلغ من: لا يغفر الله لهم، لأنّ أصل وضع هذه الصيغة للدلالة على أنّ اسم كان لم يجعل ليصدر منه خبرها، ولا شكّ أنّ الشيء الذي لم يجعل لشيء يكون نابيا عنه، لأنّه ضدّ طبعه، ولقد أبدع النحاة في تسمية اللام التي بعد كان المنفية (لام الجحود)

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/282.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن قوة الإيمان يقين ثابت مستمر، فلا هداية لمن يكون مزعزع العقيدة، مضطرب النفس يعرض له عارض فيرى نور الإيمان ثم تعرض ظلمة فينطمس، ويستمر حائرا بائرا، ولذا قال سبحانه في أصحاب هذه الحال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري إن هذه الآية واردة في أهل الكتاب، فقال في ذلك: (عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم أقر من أقر منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذب به بخلافه إياه، ثم كذب بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره.. ومؤدى هذا الكلام أن هؤلاء هم أهل الكتاب الذين آمنوا بالتوراة، ثم عبدوا العجل وحرفوا التوراة، ثم آمنوا بالإنجيل ثم حرفوه وكفروا بعيسى وبالله، إذ جعلوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا)

2. نرى أن نص القرآن يفيد أن الذين يخبر عنهم ـ سبحانه طائفة واحدة آمنت ثم كفرت، ثم آمنت ثم كفرت، ثم ازدادت كفرا.. وما قاله ابن جرير يؤدى إلى أن يكون الكلام في طائفتين: إحداهما اليهود والأخرى النصارى، ولذلك نرى‏ ترجيح قول الذين قالوا إن هذا النص في مرضى القلوب والمنافقين الذين اضطربت عقائدهم، فهم يؤمنون أول النهار، ويكفرون آخره، فيعتريهم قبس الإيمان فيهتدون حينا فيؤمنون، ثم تعتريهم ظلمة نفوسهم فيكفرون، ثم لا يزالون يترددون حتى تنطفئ قبسات النور من قلوبهم، وبذلك يزدادون كفرا، وذلك وصف دقيق للمترددين الحائرين، يبتدئون بحيرة مضطربة بين النور والظلمة، ثم يوغلون في الظلام إيغالا.

3. وإن أولئك الذين يترددون ذلك التردد، ثم ينتهون إلى تلك النهاية الموغلة في الكفر لا تنالهم المغفرة، ولذا قال سبحانه: ﴿لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ هذا نفى مؤكد للغفران والهداية معا، فالله لا يغفر لهم، ولا يهديهم سبيلا مستقيما، بل هم في حيرة مستمرة.

4. اللام في قوله: ﴿لِيَغْفِرَ﴾، و﴿لِيَهْدِيَهُمْ﴾ هي اللام التي يسميها النحويون لام الجحود أي النفي المؤكد، وهي تكون بعد الفعل المشتق من الكون،، ككان ويكون، ولتقريب معناها نضرب مثلا من عبارات الناس، فيقول بعض الناس: لم أكن لأكرمك أي لم أوجد لأكرمك، أي ليس من شأني وحالى المستمرة استمرار وجودي أن أكرمك، ويكون معنى النص السامي على هذا ذكر ما يؤدى إليه الكفر.

5. بعد أن بين سبحانه حقيقة الإيمان لم يكن من حكمته وعلمه وكمال تدبيره أن يغفر لهؤلاء، ولا أن يهديهم السبيل، والسبب في ذلك أنه لا تتصور منهم التوبة والرجوع إلى الحق، والإنابة إلى الله، حتى تكون منهم التوبة النصوح التي تجب ما قبلها من الذنوب، إذ أن التوبة تكون لمن يقع في الذنب عن جهالة، ثم يتوب قبل أن يوغل في الشر ويفقد معه كل عناصر، وكذلك لا يهديهم سبيلا؛ لأن الهداية تكون لمن لم يظلم قلبه، ولمن أراد الهداية، وهؤلاء لا يريدونها، فنفى الغفران، ونفى الهداية، بسبب أنهم أركسوا في الشر، وأحاطت بهم خطيئاتهم، ولقد قال في ذلك الزمخشري: (والمعنى أن الذين‏ تكرر منهم الارتداد، وعهد منهم ازدياد الكفر، والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف، من إيمان صحيح ثابت، يرضاه الله؛ لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب ضربت بالكفر، ومرنت على الردة، حيث كان الإيمان أهون شيء عندهم، وأدونه حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى)، اللهم هبنا إيمانا ثابتا وقلوبا مخلصة نقية من أخلاط الريب، إنك سميع الدعاء.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1906.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ قد يؤمن الإنسان بدين من الأديان، أو بمبدإ من المبادئ، ويتعصب له، ويناضل من أجله أهل الأديان والمبادئ الأخرى، ثم يدرس ويبحث، فيتبين له مواقع الخطأ فيه، فينفصل عنه، وينضم إلى صفوف الصالحين الذين كانوا بالأمس من ألد أعدائه.. وعلى هؤلاء أن يقبلوه ويرحبوا به، وليس من حق أي إنسان أن يعيب وينكر عليه هذا العدول بعد أن سلك الطريق الصحيح الذي ظهر له، بل يجب أن يمدح ويكرم، لأن الرجوع عن الخطأ فضيلة، والإصرار عليه رذيلة.

2. هذا إذا ثبت ودام على إيمانه الجديد، أما إذا عدل، وأعاد سيرته الأولى، ثم عدل، وأعاد.. وهكذا يفعل مرات وكرات، أما هذا فيجب نبذه وطرده، بل يجب أن يعاقب بأقسى العقوبات وأشدها.. وهذا ما التزمت به أهل الأديان، وأرباب المذاهب السياسية قديما وحديثا، لأن تقلبه هذا ان دل على شيء فإنما يدل على انه ساخر ماكر، ومفتر كذاب، يلج في الفساد والغواية، ويزداد من الإثم والضلالة كلما دخل وخرج.

3. وهذا وأمثاله هم المعنيون بقوله تعالى: ﴿آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بهذا التقلب والتلاعب‏ ﴿لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ ما داموا متزلزلين يتقلبون بين الكفر والايمان‏ ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ لأنهم أضاعوا السبيل بسوء اختيارهم بعد أن عرفوه وسلكوه.

4. والخلاصة ان المؤمن هو الذي يثبت على إيمانه مهما تقلبت الظروف، واختلفت الأحوال، أما الذي يرتد مرة ومرة فهو أسوأ حالا ممن ثبت على الكفر والإلحاد.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/463.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ الآية لو أخذت وحدها منقطعة عما قبلها وما بعدها كانت دالة على ما يجازي به الله تعالى أهل الردة إذا تكررت منهم الردة بأن آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا فالله سبحانه يوعدهم ـ وحالهم هذا الحال ـ بأنه لا يغفر لهم، ولا يهديهم سبيلا، وليس من المرجو منه المتوقع من رحمته ذلك لعدم استقرارهم على إيمان، وجعلهم أمر الله ملعبة يلعبون بها، ومن كان هذا حاله لم يثبت بالطبع على إيمان جدي يقبل منه، وإن كانوا لو آمنوا إيمانا جديا شملتهم المغفرة والهداية فإن التوبة بالإيمان بالله حقيقة مما لا يرده الله في حال على ما وعد الله تعالى عباده، وقد تقدم الكلام فيه في قوله تعالى:‏ ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله﴾ الآية [النساء: 17]

2. فالآية تحكم بحرمانهم على ما يجري عليه الطبع والعادة، ولا تأبى الاستثناء لو اتفق إيمان واستقامة عليه من هذه الطائفة نادرا كما يستفاد من نظير الآية، قال تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَالله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ إلى أن قال‏ ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ [آل عمران: 90]، والآيات ـ كما ترى ـ تستثني ممن كفر بعد إيمانه، وقوبل بنفي المغفرة والهداية، وهي مع ذلك تنفي قبول توبة من ازداد كفرا بعد الإيمان صدر الآيات فيمن كفر بعد الإيمان والشهادة بحقية الرسول وظهور الآيات البينات، فهو ردة عنادا ولجاجا، والازدياد فيه لا يكون إلا مع استقرار العناد والعتو في قلوبهم، وتمكن الطغيان والاستكبار في نفوسهم، ولا يتحقق الرجوع والتوبة ممن هذا حاله عادة.

3. هذا ما يقتضيه سياق الآية لو أخذت وحدها كما تقدم، لكن الآيات جميعا لا تخلو عن ظهور ما أو دلالة على كونها ذات سياق واحد متصلا بعضها ببعض، وعلى هذا التقدير يكون قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ في مقام التعليلـ (لقوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله﴾ إلى قوله: ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ ويكون الآيتان ذواتي مصداق واحد أي إن من يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر هو الذي آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر ثم ازداد كفرا، ويكون أيضا هو من المنافقين الذين تعرض تعالى لهم في قوله بعد ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ إلى آخر الآيات.

وعلى هذا يختلف المعنى المراد بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ إلى آخر الآيات، بحسب ما فسر به قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ﴾ على ما تقدم من تفاسيره المختلفة:

أ. فإن فسر بأن آمنوا بالله ورسوله في الباطن كما آمنتم به في الظاهر كان معنى الإيمان ثم الكفر ثم الإيمان ثم الكفر ما يبتلى به المنافقون من اختلاف الحال دائما إذا لقوا المؤمنين وإذا لقوا الكفار.

ب. وإن فسر بأن اثبتوا على الإيمان الذي تلبستم به كان المراد من الإيمان ثم الكفر وهكذا هو الردة بعد الردة المعروفة.

ج. وإن فسر بأن المراد دعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بالله ورسوله كان المراد بالإيمان ثم الكفر وهكذا الإيمان بموسى ثم الكفر به بعبادة العجل ثم الإيمان بعزير أو بعيسى ثم الكفر به ثم الازدياد فيه بالكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به من عند ربه، كما قيل.

د. وإن فسر بأن ابسطوا إجمال إيمانكم على تفاصيل الحقائق كما استظهرناه كان قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ تعليلا منطبقا على حال المنافقين المذكورين فيما بعد، المفسرين بقوله: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإن من اتصل بالكفار منفصلا عن مجتمع المؤمنين لا يخلو عن الحضور في محاضرهم والاستيناس بهم، والشركة في محاوراتهم، والتصديق لبعض ما يتذاكرونه من الكلام الذي لا يرتضيه الله سبحانه، وينسبونه إلى الدين وأوليائه من المطاعن والمساوئ ويستهزئون ويسخرون به، فهو كلما لقي المؤمنين واشترك معهم في شيء من شعائر الدين آمن به، وكلما لقي‏ الكفار وأمضى بعض ما يتقولونه كفر، فلا يزال يؤمن زمانا ويكفر زمانا حتى إذا استحكم فيه هذه السجية كان ذلك منه ازديادا في الكفر والله أعلم.

4. وإذ كان مبتلى باختلاف الحال وعدم استقراره فلا توبة له لأنه غير ثابت على حال الندامة لو ندم على ما فعله، إلا أن يتوب ويستقر على توبته استقرارا لا يزلزله اختلاف الأحوال، ولا تحركه عواصف الأهواء، ولذا قيد الله سبحانه التوبة المقبولة من مثل هذا المنافق بقيود لا تبقي مجالا للتغير والتحول فقال في الاستثناء الآتي: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِالله وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله﴾

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/114.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ قال الشرفي في (المصابيح): (قال المرتضى عليه السلام: هؤلاء قوم ممن آمن مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رجعوا إلى قريش وارتدوا عن الإسلام، ثم رجعوا ثم آمنوا ثانية، فرجعوا إلى الكفر فازدادوا فيه ومضوا عليه. فأخبر الله أنهم حين ازدادوا كفراً ثم مضوا على ذلك، أن الله لا يغفر لهم ولا يهديهم سبيلاً، بل تركهم من التوفيق والتسديد والعون والتأييد، وحكم عليهم سبحانه عند ذلك بالهلكة والخذلان، بما استوجبوه من تركهم للحق والإيمان، فصاروا بذلك معذبين ولديه سبحانه من الهالكين، فأخبر سبحانه أن لم ينفعهم ما كان من إيمانهم أولاً وما كانوا عليه في إسلامهم؛ لأن ما ختموا به أعمالهم من الردة والكفر موجب لهم النار)

2. ﴿لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ فيه تأكيد بقوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ﴾ ودلالة على أنه لا يليق بعظمته وجلاله وعزته وحكمته أن يغفر لهم، ونظير هذا التعبير للتأكيد قوله: ﴿لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر:33]

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/188.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذا السياق من الحديث عن الكافرين، يحدثنا الله عن بعض النماذج التي تتلاعب بقضية الكفر والإيمان في حياتها من خلال مواقفها، لأنهم لم ينطلقوا من منطلق الجدّية في مسألة الالتزام بالعقيدة أو بالخط الذي تسير عليه، بل انطلقوا من اعتبارها حالة طارئة من الحالات التي يتلاعب بها الناس على أساس مصالحهم، وهؤلاء هم الذين يعلنون الإيمان ثم ينحرفون إلى خط الكفر ليقفوا فيه مع الكافرين؛ فإذا وجدوا الساحة غير ملائمة لهم؛ فيما يستهدفونه من مصالح وأطماع، عادوا إلى خط الإيمان وأظهروا الندم والتراجع، فإذا واجهتهم صعوبة الالتزام بالحق وناداهم رفاق الكفر أن يرجعوا إليهم، رجعوا إلى الكفر وأمعنوا فيه وازدادوا كفرا.. وهؤلاء لا يتعلّقون بأيّ سبب من أسباب المغفرة لامتدادهم بالكفر، ولا يهتدون سبيلا لأنهم ابتعدوا عن أجواء الهداية باختيارهم؛ فكيف يهديهم الله سواء السبيل؟

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/507.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تماشيا مع البحث الذي ورد في الآية السابقة والذي تناول وضع الكفار وضلالهم البعيد، تشير هذه الآيات الأخيرة إلى وضع مجموعة من الكفار الذين يتلوّنون في كل يوم تلون الحرباء، فهم في يوم إلى جانب المؤمنين، وفي يوم آخر إلى جانب الكفار، ثمّ إلى جانب المؤمنين، وفي النهاية إلى جانب الكفار المعاندين، حتى يموتوا على هذه الحالة! فالآية الأولى: من الآيات الثلاثة الأخيرة تتحدث عن مصير أفراد كهؤلاء، فتؤكد بأنّ الله لن يغفر لهم أبدا، ولن يرشدهم إلى طريق الصواب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾.

2. إنّ هذا السلوك الحربائي في التلون المتوالي، إمّا أن يكون نابعا من الجهل وعدم إدراك الأسس الإسلامية، وإمّا أن يكون خطّة نفّذها المنافقون والكفار المتطرفون من أهل الكتاب لزعزعة إيمان المسلمين الحقيقيين، وقد سبق شرح هذا الموضوع في الآية من سورة آل عمران.

3. ولا تدل الآية الكريمة على عدم قبول توبة أمثال هؤلاء، ولكنها تتناول أفرادا يموتون وهم في كفر شديد، فإنّ هؤلاء ـ نتيجة لأعمالهم ـ لا يستحقون العفو والهداية إلّا إذا غيروا اسلوبهم ذلك.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/492.

121. المنافقون والولاء والعزة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈121⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ [النساء: 138 ـ 139]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: يجتمع الناس في صعيد واحد، في أرض بيضاء، كأنها سبيكة فضية، ثم أول ما يقضى فيه من خصومات الناس الدماء، فيؤتى بالقاتل والمقتول، فيوقفان بين يدي الرحمن، فيقال له: لم قتلته؟ فإن قتله لله قال قتلته لتكون العزة لله، قال فيقال: فإنها لله، وإن كان قتله لخلق من خلق الله يقول: قتلته لتكون العزة لفلان، فيقال: فإنها ليست له، فيقتله يومئذ كل خلق لله قتلته ظالما، غير أنه يذاق الموت عدة الأيام التي أذاقها الآخر في الدنيا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٥.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، نهى الله تعالى المؤمنين أن يلاطفوا الكفار، فيتخذوهم وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين، فيظهرون اللطف لهم، ويخالفونهم في الدين(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٢.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، أما ﴿أَوْلِيَاءُ﴾ فنواليهم في دينهم، ونظهرهم على عورة المؤمنين(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٢.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما نزلت المغفرة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين في سورة الفتح؛ قال عبد الله بن أبي ونفر معه: فما لنا؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ يعني: عبد الله بن أبي، ومالك بن دخشم، وجد بن قيس، ﴿بِأَنَّ لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ يعني: وجيعا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ يقول: أيبتغي المنافقون عند اليهود المنعة، ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ يقول: جميع من يتعزز فإنما هو بإذن الله(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٥.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ بكذا، البشارة المطلقة المرسلة لا تكون إلا بالخير خاصة، وأما إذا كانت مقيدة مفسرة فإنها تجوز في الشر؛ كقوله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ﴾ كذا، وكذلك قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، وفي القرآن كثير، ما ذكرها في الشر إلا مفسرة مقيدة.

2. قوله عز وجل: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ يدل هذا على أن الآية الأولى: في أهل النفاق والمراءاة، علي ما ذكرنا من التأويل؛ لأنه لم يسبق فيما تقدم ذكر لهم سوى قوله تعالى: ﴿آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾، ويحتمل على الابتداء والانتناف على غير ذكر تقدم، وذلك جائز في القرآن كثير.

3. ثم فسر المنافقين فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ثم يحتمل قوله تعالى: ﴿يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قولا وفعلا:

أ. أما القول: كقولهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، وغيره من الآيات.

ب. وأما الفعل: فكانوا يمنعون المؤمنين أن يغزوهم؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾، وكقوله: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾، وكقوله تعالى: ﴿فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾، كانوا يمنعون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين عن أن يغزوهم ويقاتلوهم؛ فهم ـ وإن كانوا يرون من أنفسهم الموافقةَ للمؤمنين في الظاهر ـ فإنهم كانوا في الحقيقة ـ معهم؛ فهذا تأويل قوله: ﴿يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾

4. وقوله عز وجل: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾، قيل: قوله تعالى: ﴿أَيَبْتَغُونَ﴾ على طرح الألف وأنها زائدة، أي: يبتغون بذلك من عندهم العزة، ثم يحتمل قوله تعالى: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ وجهين:

أ. يحتمل: العزة: المنعة والنصرة، وكانوا يطلبون بذلك النصرة والقدرة عند الكافرين.

ب. ويحتمل: ليتعززوا بذلك.

5. والأصل: أن حرف الاستفهام كله من الله ـ له حق الإيجاب، على ما يقتضي جوابه من حقيقة الاستفهام؛ إذ الله عالم لا يخفى عليه شيء يستفهم، جل عن ذلك.

6. وقوله عز وجل: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ أي: والنصرة والقدرة، كله للهِ، من عنده يكون، وبه يتعزز في الدنيا والآخرة، ليس من عند أُولَئِكَ الذين يطلبون منهم.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٩١.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ جعل موضع بشارتهم لهم العذاب والعرب تقول: تحيتك الضرب وعقابك السيف، أي بدلا من ذلك، قال الشاعر:

çوخيل قد دلفت لها بخيل...تحية بينهم ضرب وجميع‏é

2. أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليما وهو المؤلم الموجع على نفاقهم، ثم وصف هؤلاء المنافقين فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ﴾ أهل الكفر بالله ونبيه أولياء يعني أنصارا وأحلافا من دون المؤمنين يعني من غيرهم.

3. ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ معناه يطلبون عندهم المنفعة والقوة باتخاذهم أولياء من دون أهل الايمان به تعالى، ثم أخبر ان العزة بأجمعها له تعالى وأن هؤلاء الذين يطلبون من جهنم العزة والمنعة، لا منعة عندهم، بل النصر والمنعة من عند الله الذي له العزة والمنعة الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء، وأصل العزة الشدة ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة: عزاز ويقال: استعز المريض إذا اشتد مرضه وتعزز اللحم: إذا اشتد ومنه قيل: عز عليّ ان يكون كذا، أي اشتد عليّ ومنه قولهم: (من عزّ بزّ) أي من غلب سلب، وقولهم: عزّ الشيء معناه صعب وجوده واشتد حصوله.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/361.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. البشارة: أصله الخبر السار الذي يظهر به السرور في بَشَرَةِ وجهه، ثم استعمل في الذي يغم أيضًا، وقيل: أصله الخبر الذي يظهر به الأثر في بشرة الوجه، إما السرور أو الغم، إلا أنه أكثر في الخبر السار، وورد ههنا على الأصل، والأول الوجه، وإنما وضع إخبارهم بالعذاب موضع البشارة لهم، قال الشاعر:

çوَخَيْلٍ قَدْ دَلفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ...تَحِيَّةُ بَينِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُé

ب. الأليم: المؤلم، إلا أن فيه مبالغة للعدول.

ج. أصل العزة: الشدة، ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة: عَزَازٌ، وعز الشيء إذا قل حتى لا يكاد يوجد لشدة طلبه، والعزيز: القوي الممتنع، خلاف الذليل، واعتز فلان بفلان: إذا اشتد ظهره به.

2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. قيل: لما تقدم ذكر المنافقين عقبه بالوعيد.

ب. وقيل: الَّذِينَ ترددوا في الكفر كالمنافقين في التحير في الدين الذي يؤدي إلى النار.

ج. وقيل: لو استمروا في الكفر لم يغن عنهم، وإن آمنوا، كما لا يغني عن المنافقين إذا استمروا على الكفر إظهار إيمانهم، ذكر الأوجه الثلاثة علي بن عيسى، وذكر أبو مسلم الوجه الأول.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾:

أ. قيل: أخبرهم.

ب. وقيل: اجعل موضع البشارة لهم إخبارهم بالعذاب عن الزجاج بِأَنَّ بَهُمْ على نفاقهم.

4. ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ يوم القيامة أليمًا أي مؤلمًا، وإنما جمع بين العذاب والأليم:

أ. قيل: العذاب استمرار الألم، والأليم من صفة المبالغة، فهو مع أنه مستمر شديد.

ب. وقيل: للمبالغة والتأكيد، كقوله: ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾

5. ثم وصف المنافقين، فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ﴾:

أ. قيل: اليهود.

ب. وقيل: مشركي العرب بمكة.

ج. وقيل: سائر الكفار.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْلِيَاءُ﴾:

أ. قيل: أنصارًا.

ب. وقيل: أَخِلَّاءَ وبطانة.

7. ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: اتخذوهم لمعونتهم دون المؤمنين ﴿أَيَبْتَغُونَ﴾ أيطلبون ﴿عِنْدَهُمُ﴾ أي: عند الكفار ﴿الْعِزَّةُ﴾ أي: القوة والنصرة على محمد والغلبة عليه ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ يعني غلطوا في ذلك؛ فإن العزة يعني القوة والقدرة لله جميعًا.

8. سؤال وإشكال: كيف نفى عنهم، ونحن قد نرى لهم منعة وعزا؟ والجواب:

أ. قيل: ألا يعتد بذلك مع عزته تعالى؛ لاحتقارها في جنب ذلك.

ب. وقيل: لأنه المقوي لغيره وهو القادر لنفسه.

ج. وقيل: لأنه تعالى حكم بكونهم أذلاء، وصفة ﴿عَزِيزٌ﴾ ترجع إلى كونه قادرًا.

9. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن إظهار الإيمان لا يغني مع إبطان الكفر، فيبطل قول من يقول: إن الإيمان هو الإقرار.

ب. وجوب موالاة المؤمنين والنهي عن موالاة الكافرين، والمنهي عنه موالاتهم في الدين فقط.

ج. أن العزة والنصرة تطلب من جهته تعالى؛ لأنه القادر عليه.

د. أن نفاقهم فِعْلُهُم؛ لذلك وبخهم عليه، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق..

10. مسائل لغوية ونحوية:

أ. اتخذ: أصله (اِئْتَخَذَ)؛ لأنه افتعل من الأخذ إلا أن الهمزة تنقلب ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، كما انقلبت الواو في افتعل) من الوزن، ثم تبدل الياء تاء ليكون عمل اللسان من وجه واحد، مع تقارب الحرفين، ثم يدغم.

ب. دخل الباء في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ﴾ للفرق بين المبَشَّر والمبّشَّرِ به كما دخل في أخبرهم بكذا، ولم يجب ذلك في أعطهم لظهور الفرق في الإعطاء، والأصل في هذه الأفعال التعدي إلى مفعولين.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/114.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. أصل البشارة: الخبر السار الذي يظهر به السرور في بشرة الوجه، ثم يستعمل في الخبر الذي يغم أيضا، وضع إخبارهم بالعذاب موضع البشارة لهم، والعرب تقول: تحيتك الضرب، وعتابك السيف: أي تضع الضرب موضع التحية، والسيف موضع العتاب، قال الشاعر:

çوخيل قد دلفت لهم بخيل...تحية بينهم ضرب وجيعé

ب. أصل العزة: الشدة، ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة عزاز، ومنه قيل: عز علي أن يكون كذا أي: شد علي وعز الشيء إذا صعب وجوده واشتد حصوله، واعتز فلان بفلان: إذا اشتد ظهره به، والعزيز: القوي المنيع، بخلاف الذليل.

2. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ أي: أخبرهم يا محمد ﴿بِأَنَّ لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أي: وجيعا إن ماتوا على كفرهم ونفاقهم.

3. في هذه الآية دلالة على أن الآية المتقدمة، نزلت في شأن المنافقين، وأنه الأصح من الأقوال المذكورة.

4. ثم وصف هؤلاء المنافقين، فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ﴾ أي: مشركي العرب، وقيل: اليهود ﴿أَوْلِيَاءُ﴾ أي: ناصرين، ومعينين، وأخلاء ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: من غيرهم، ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ أي: أيطلبون عندهم القوة والمنعة، باتخاذهم هؤلاء أولياء من دون الايمان بالله تعالى.

5. ثم أخبر سبحانه أن العزة والمنعة له، فقال: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ يريد سبحانه: إنهم لو آمنوا مخلصين له، وطلبوا الاعتزاز بالله تعالى، وبدينه، ورسوله، والمؤمنين، لكان أولى بهم من الاعتزاز بالمشركين، فإن العزة جميعا لله سبحانه، ومن عنده، يعز من يشاء، ويذل من يشاء.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/191.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ زعم مقاتل أنه لما نزلت المغفرة في سورة الفتح للنبيّ والمؤمنين قال عبد الله بن أبيّ ونفر معه: فما لنا؟ فنزلت هذه الآية، وقال غيره: كان المنافقون يتولّون اليهود، فألحقوا بهم في التّبشير بالعذاب.

2. قال الزجّاج: معنى الآية: اجعل موضع بشارتهم العذاب، والعرب تقول: تحيّتك الضّرب، أي: هذا بدل لك من التّحيّة، قال الشاعر:

çوخيل قد دلفت لها بخيل‏...تحيّة بينهم ضرب وجيع‏é

3. ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ قال ابن عباس: يتّخذون اليهود أولياء في العون والنّصرة، ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ أي: القوّة بالظّهور على محمّد وأصحابه، والمعنى: أيتّقون بهم؟ قال مقاتل: وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب على قتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال الزجّاج: أيبتغي المنافقون عند الكافرين العزّة، و(العزّة): المنعة، وشدّة الغلبة، وهو مأخوذ من قولهم: أرض عزاز، قال الأصمعيّ: العزاز: الأرض التي لا تنبت، فتأويل العزّة: الغلبة والشّدة التي لا يتعلّق بها إذلال، قالت الخنساء:

çكأن لم يكونوا حمى يتقى‏...إذ النّاس إذ ذاك من عزّ بزّاé

أي: من قوي وغلب سلب، ويقال: قد استعزّ على المريض، أي: اشتدّ وجعه، وكذلك قول الناس: يعزّ عليّ أن يفعل، أي: يشتدّ، وقولهم: قد عزّ الشيء إذا لم يوجد، معناه: صعب أن يوجد، والباب واحد.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/488.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، من حمل الآية المتقدمة على المنافقين قال: إنه تعالى بيّن أنه لا يغفر لهم كفرهم ولا يهديهم إلى الجنة، ثم قال وكما لا يوصلهم إلى دار الثواب فإنه مع ذلك يوصلهم إلى أعظم أنواع العقاب، وهو المراد من قوله: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، وقوله: ﴿بُشِّرَ﴾ تهكم بهم، والعرب تقول: تحيتك الضرب، وعتابك السيف.

2. ﴿الَّذِينَ﴾: نصب على الذم، بمعنى أريد الذين، أو رفع بمعنى هم الذين، واتفق المفسرون على أن المراد بالذين يتخذون: المنافقون، وبالكافرين اليهود، وكان المنافقون يوالونهم ويقول بعضهم لبعض: إن أمر محمد لا يتم، فيقول اليهود بأن العزة والمنعة لهم.

3. ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ قال الواحدي: أصل العزة في اللغة الشدة، ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة: عزاز، ويقال: قد استعز المرض على المريض إذا اشتد مرضه وكاد أن يهلك، وعز الهم اشتد، ومنه عز على أن يكون كذا بمعنى اشتد، وعز الشيء إذا قل حتى لا يكاد يوجد لأنه اشتد مطلبه، واعتز فلان بفلان إذا اشتد ظهره به، وشاة عزوز التي يشتد حلبها ويصعب والعزة القوة منقولة من الشدة لتقارب معنييهما، والعزيز القوي المنيع بخلاف الذليل.

4. إن المنافقين كانوا يطلبون العزة والقوة بسبب اتصالهم باليهود، ثم إنه تعالى أبطل عليهم هذا الرأي بقوله: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾

5. سؤال وإشكال: هذا كالمناقض لقوله: ﴿وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقين: 8]، والجواب: القدرة الكاملة لله، وكل من سواه فباقداره صار قادرا، وبإعزازه صار عزيزا، فالعزة الحاصلة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين لم تحصل إلا من الله تعالى، فكان الأمر عند التحقيق أن العزة جميعا لله.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/247.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ﴾ نعت للمنافقين، وفي هذا دليل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق، لأنه لا يتولى الكفار، وتضمنت المنع من موالاة الكافر، وأن يتخذوا أعوانا على الأعمال المتعلقة بالدين، وفي الصحيح عن عائشة أن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقاتل معه، فقال له: (ارجع فإنا لا نستعين بمشرك)

2. ﴿الْعِزَّةُ﴾ أي الغلبة، عزه يعزه عزا إذا غلبه، ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ أي الغلبة والقوة لله، قال ابن عباس: يبتغون عندهم) يريد عند بني قينقاع، فإن ابن أبي كان يواليهم. ‌

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/416.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ إطلاق البشارة على ما هو شرّ خالص لهم تهكم بهم، وقد مرّ تحقيقه، وقوله: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ وصف للمنافقين، أو منصوب على الذم، أي: يجعلون الكفار أولياء لهم، يوالونهم على كفرهم، ويمالئونهم على ضلالهم.

2. ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ في محل نصب على الحال، أي: يوالون الكافرين متجاوزين ولاية المؤمنين‏ ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والجملة معترضة.

3. ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ هذه الجملة تعليل لما تقدّم من توبيخهم بابتغاء العزّة عند الكافرين، وجميع أنواع العزّة وأفرادها مختص بالله سبحانه، وما كان منها مع غيره فهو من فيضه وتفضله كما في قوله: ﴿وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ والعزة: الغلبة، يقال: عزّة يعزّه عزّا: إذا غلبه‏.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/607.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا اَلِيمًا﴾ عذاب النَّار في الآخرة، وضع (بَشِّرْ) مكان (أنذر) تهكُّما بهم لعلاقة التضادِّ، أو الإطلاق والتقييد، فإِنَّ التبشير إخبار بقيد كونه سارًّا، ضدّ الإنذار، وذلك مجاز مرسل تهكُّميٌّ، أو استعارة تهكُّميَّة، لعلاقة الشبه، إذ كلٌّ منهما إخبارٌ بجزاء.

2. ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ﴾ اليهود أو مشركي العرب، أو الفريقين والنصارى، ويناسب الأوَّلَ قولُ بعض المنافقين: إنَّ أمر محمَّد لا يتمُّ فتولُّوا اليهودَ، ﴿أَوْلِيَآءَ﴾ لِمَا توهَّموا من قوَّتهم، ومن زوال عزَّة النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿مِن دُونِ الْمُومِنِينَ﴾ أنصارًا مغايرين للمؤمنين، جعلوا الكفَّار أولياء والمؤمنين أولياء، أو أضمروا عداوة المؤمنين، ولم يتَّخذوهم أولياء، أو اتِّخاذ الكافرين أولياء ناقض لاتِّخاذ المؤمنين أولياء ومبطل له، فهم غير متَّخذين المؤمنين أولياء ولو اتَّخذوهم.

3. ﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُم﴾ عند الكافرين ﴿الْعِزَّةَ﴾ أيطلبون أن تحصل لهم العِزَّة من الكفرة!؟ وهذا إنكار لأن يكون ذلك صوابًا، فإنَّهم أخطؤوا في طلب العِزَّة بِهِم ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ﴾ لأنَّ العِزَّة ﴿لِلهِ جَمِيعًا﴾ في الدُّنيا والآخرة، فهي لأوليائه ﴿وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُومِنِينَ﴾ [المنافقون: 8]، ولا يكترث بعزَّة غيرهم لأنَّها تزول، ولأنَّها تورث ذلًّا في الآخرة، وقيل: إن يبتغوا العِزَّة فليطلبوها من الله فإنَّ العِزَّة لله.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/319.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ من باب التهكم‏ ﴿بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ فإنهم آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن، ويدل على مقارنة إيمانهم للكفر ترجيحهم جانب الكفرة في المحبة إذ هم: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: يتخذونهم أنصارا مجاوزين موالاة المؤمنين‏.

2. ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ أي: أيطلبون بموالاتهم القوة والغلبة، وهذا إنكار لرأيهم وإبطال له، وبيان لخيبة رجائهم، ولذا علله بقوله: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ أي: له الغلبة والقوة، فلا نصرة لهم من الكفار، والنصرة والظفر كله من الله تعالى، وهذا كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8]

3. قال ابن كثير: والمقصود، من هذا، التهييج على طلب العزة من جناب الله، والإقبال على عبوديته، والانتظام في جملة عباده المؤمنين، الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ويناسب هنا أن نذكر الحديث الذي رواه أحمد عن أبي ريحانة، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزا وكرما، فهو عاشرهم في النار، تفرد به أحمد.

4. قال الحاكم: دلت الآية الكريمة على وجوب مولاة المؤمنين، والنهي عن موالاة الكفار، قال: والمنهيّ عن موالاتهم في الدين فقط، وقد ذكر المؤيد بالله معنى هذا، وهي: أن تحبه لما هي عليه، وهذا ظاهر، وهو يرجع إلى الرضا بالكفر، وما أحبه لأجله، فأما الخلطة فليست موالاة، وقد جوز العلماء نكاح الفاسقة، وكذلك الإحسان، فقد مدح الله من أطعم الأسارى، وجوّز كثير منهم الوصية لأهل الذمة، وكذلك الاغتمام بغمه في أمر، كاغتمام المسلمين لغلب فارس للروم، كذا في تفسير بعض الزيدية.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/373.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ الغالب في استعمال البشارة أن تكون في الأخبار لما يسر فهي إذا مأخوذة من انبساط بشرة الوجه كما السرور مأخوذ من انبساط أساريره، وعلى هذا يقولون إن استعمالها فيما يسوء كما هنا يكون من باب التهكم، وقيل إن البشارة تستعمل فيما يسر وفيما يسوء استعمالا حقيقيا لأن أصلها الإخبار بما يظهر أثره في بشرة الوجه في الانبساط والتمدد، أو الانقباض والتغضن، والأليم الشديد الألم.

2. ثم وصف هؤلاء المبشرين بقوله: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي الذين يتخذون الكافرين المعادين للمؤمنين أولياء وأنصارا متجاوزين ولاية المؤمنين وتاركيها إلى ولايتهم وممالأتهم عليهم لاعتقادهم أن الدولة ستكون لهم فيجعلون لهم يدا عندهم.

3. ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ استفهام تقريع وتوبيخ، إن كانوا يبتغون عندهم العزة وهي المنعة والغلبة ورفعة القدر ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ فهو يؤتيها من يشاء فكان عليهم أن يطلبوها منه بصدق الإيمان والسير على سنته تعالى واتباع هداية وحيه الذي يرشدهم إلى طرقها، ويبين أسبابها، وقد آتاها الله نبيه والمؤمنين باهتدائهم بكتابه، وسيرهم على سننه، ولما أعرض المسلمون عن هذه الهداية التي اعتز بها سلفهم ذلوا وساءت حالهم وصار فيهم منافقون يوالون الكفار دونهم يبتغون عندهم العزة والشرف وما هم لهما بمدركين، فعسى الله أن يرفق المسلمين إلى الرجوع إلى تلك الهداية فيعودوا إلى حظيرة ﴿وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8]

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/376.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ البشارة لا تستعمل غالبا إلا في سارّ الأخبار، إذ هي مأخوذة من انبساط بشرة الوجه، فاستعمالها في الأخبار السيئة يكون من باب‏ التهكم والتوبيخ، أي بشر المنافقين بالعذاب المؤلم الذي لا يقدر قدره، ولا يحيط بكنهه إلا علام الغيوب.

2. ثم بين بعض صفاتهم التي تستوجب الذم فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي هؤلاء المنافقون هم الذين يتخذون الكافرين المعادين للمؤمنين أولياء وأنصارا، ويتجاوزون ولاية المؤمنين ويتركونها، ويمالئون الكافرين عليهم، اعتقادا منهم أن الدّولة ستكون لهم، فيجعلون لهم يدا عندهم.

3. ثم وبخهم على ما فعلوا فقال: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ العزة: القوة والمنعة: أي إن كانوا هم بذلك يطلبون عندهم الغلبة والمنعة، فإن العزة لله يؤتيها من يشاء، فعليهم أن يطلبوها منه تعالى بصادق إيمانهم واتباعهم هدايته التي أرشد إليها أنبياءه، وبيّنوا لهم أسبابها، وقد آتاها المؤمنين حينما اهتدوا بكتابه، وساروا على سننه ونهجوا نهجه، فلما أعرضوا عن هذه الهداية التي اعتز بها أسلافهم ذلوا وخنعوا لعدوهم وصار منهم منافقون يوالون الكافرين يبتغون عندهم عزة وشرفا وما هم لها بمدركين.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/183.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من هنا تبدأ الحملة التي سبقت الإشارة إليها على النفاق والمنافقين بشتى أساليبها الجديرة بالدراسة والتأمل، لمعرفة طبيعة المنهج وهو يزاول العمل على الطبيعة؛ وفي واقع الحياة والقلوب! ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)﴾..

2. تبدأ الحملة بهذا التهكم الواضح في استعمال كلمة (بشر) مكان كلمة أنذر، وفي جعل العذاب الأليم الذي ينتظر المنافقين بشارة! ثم ببيان سبب هذا العذاب الأليم، وهو ولايتهم للكافرين دون المؤمنين؛ وسوء ظنهم بالله؛ وسوء تصورهم لمصدر العزة والقوة.

3. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾.. والكافرون المذكورون هنا هم ـ على الأرجح ـ اليهود؛ الذين كان المنافقون يأوون إليهم؛ ويتخنسون‏ عندهم، ويبيتون معهم للجماعة المسلمة شتى المكائد.

4. والله ـ جل جلاله ـ يسأل في استنكار: لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان لم يضعون أنفسهم هذا الموضع، ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين؟ لقد استأثر الله ـ عزّ وجل ـ بالعزة؛ فلا يجدها إلا من يتولاه؛ ويطلبها عنده؛ ويرتكن إلى حماه.

وهكذا تكشف اللمسة الأولى عن طبيعة المنافقين، وصفتهم الأولى، وهي ولاية الكافرين دون المؤمنين، كما تكشف عن سوء تصورهم لحقيقة القوى؛ وعن تجرد الكافرين من العزة والقوة التي يطلبها عندهم أولئك المنافقون، وتقرر أن العزة لله وحده؛ فهي تطلب عنده وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين! ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة، فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه، وألا إنها لعبودية واحدة ترفع النفس البشرية وتحررها.. العبودية للّه.. فإن لا تطمئن إليها النفس استعبدت لقيم شتى؛ وأشخاص شتى؛ واعتبارات شتى، ومخاوف شتى، ولم يعصمها شيء من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل اعتبار.. وإنه إما عبودية لله كلها استعلاء وعزة وانطلاق، وإما عبودية لعباد الله كلها استخذاء وذلة وأغلال.. ولمن شاء أن يختار..

5. وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن، وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو يؤمن بالله، وما أحوج ناسا ممن يدعون الإسلام؛ ويتسمون بأسماء المسلمين، وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض، أن يتدبروا هذا القرآن.. إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين.. وإلا فإن الله غني عن العالمين!

6. ومما يلحق بطلب العزة عند الكفار وولايتهم من دون المؤمنين: الاعتزاز بالآباء والأجداد الذين ماتوا على الكفر؛ واعتبار أن بينهم وبين الجيل المسلم نسبا وقرابة! كما يعتز ناس بالفراعنة والأشوريين والفينيقيين والبابليين وعرب الجاهلية اعتزازا جاهليا، وحمية جاهلية.. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزا وفخرا، فهو عاشرهم في النار).. ذلك أن آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة، وأن الأمة في الإسلام هي المؤمنون بالله منذ فجر التاريخ، في كل أرض، وفي كل جيل، وليست الأمة مجموعة الأجيال من القدم، ولا المتجمعين في حيز من الأرض في جيل من الأجيال.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/780.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ هو كشف صريح لوجه هؤلاء الذين تردّدوا بين الإيمان والكفر.. فهم منافقون، وليس للمنافقين إلا العذاب الأليم.. وفي سوق العذاب الأليم إلى المنافقين بين يدى من يبشرهم به، ما يشير إلى شناعة موقف هؤلاء المنافقين وشؤم مصيرهم، وأنه إذا كان لهم ما يبشرون به في الآخرة فهو هذا العذاب الأليم! فكيف ما يساءون به من ألوان المساءات، وهو شيء كثير شنيع،؟

2. ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هو صفة كاشفة لوجه من وجوه المنافقين، ذلك الوجه الذي يلقون به الكافرين في ولاء ومودة.. وهذا يعنى أنهم على عداوة للمؤمنين، إذ أقاموا مع عدوّهم حلفا عليهم، يتمثل في هذا اللقاء الودىّ بينهم وبين الكافرين.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: 22]

3. لكن هكذا المنافق، لا يمسكه مبدأ من خلق أو دين، وإنما تحركه أهواؤه، وتدفعه نزواته إلى الاتجاه الذي يتظنّى أن يجد فيه لقمة سائغة له!

4. في قوله تعالى: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ ما يكشف عن الغاية التي يتغيّونها من تعلقهم بحبال الكافرين، واستظلالهم بظلهم.. إنهم يريدون أن يستندوا إليهم، ويحتموا بجبهتهم، إذ خيّل إليهم أن جانب الكافرين هو القوىّ، بما فيهم من كثرة عدد، ومن سعة غنى، على حين كان المسلمون في قلة من الرجال والأموال، والاستفهام هنا إنكاري تهديدى، يكشف للمنافقين سوء تقديرهم، وخسارة صفقتهم التي عقدوها مع الكافرين..

5. ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾.. وإن أخسر الناس صفقة، من أراد العزة فاتخذ غير الله طريقا إليها، وغير المؤمنين أولياء له في طلبها.. إن العزة لله جميعا، وإن العزة لأولياء الله، ولمن والى أولياء الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/936.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)﴾ استئناف ابتدائي ناشئ عن وصف الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا، فإنّ أولئك كانوا مظهرين الكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان ثمّة طائفة تبطن الكفر وهم أهل النفاق، ولمّا كان التظاهر بالإيمان ثم تعقيبه بالكفر ضربا من التهكّم بالإسلام وأهله، جيء في جزاء عملهم بوعيد مناسب لتهكّمهم بالمسلمين، فجاء به على طريقة التهكّم إذ قال: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾، فإنّ البشارة هي الخبر بما يفرح المخبر به، وليس العذاب كذلك، وللعرب في التهكّم أساليب كقول شقيق ابن سليك الأسدي:

çأتاني من أبي أنس وعيد... فسلى لغيظة الضّحّاك جسمي‏é

وقول النابغة:

çفإنّك سوف تحلم أو تناهى... إذا ما شبت أو شاب الغراب‏é

وقول ابن زيّابة:

çنبّئت عمرا غارزا رأسه... في سنة يوعد أخواله‏

وتلك منه غير مأمونة... أن يفعل الشيء إذا قاله‏é

ومجيء صفتهم بطريقة الموصول لإفادة تعليل استحقاقهم العذاب الأليم، أي لأنّهم اتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أي اتّخذوهم أولياء لأجل مضادّة المؤمنين.

2. المراد بالكافرين مشركو مكة، أو أحبار اليهود، لأنّه لم يبق بالمدينة مشركون صرحاء في وقت نزول هذه السورة، فليس إلّا منافقون ويهود.

3. جملة ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ﴾ استئناف بياني باعتبار المعطوف وهو ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ﴾ وقوله: ﴿أَيَبْتَغُونَ﴾ هو منشأ الاستئناف، وفي ذلك إيماء إلى أن المنافقين لم تكن موالاتهم للمشركين لأجل المماثلة في الدين والعقيدة، لأنّ معظم المنافقين من اليهود، بل اتّخذوهم ليعتزّوا بهم على المؤمنين، وإيماء إلى أنّ المنافقين شعروا بالضعف فطلبوا الاعتزاز، وفي ذلك نهاية التجهيل والذمّ، والاستفهام إنكار وتوبيخ، ولذلك صحّ التفريع عنه بقوله: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)﴾ أي لا عزّة إلّا به، لأنّ الاعتزاز بغيره باطل، كما قيل: من اعتزّ بغير الله هان، وإن كان المراد بالكافرين اليهود فالاستفهام تهكّم بالفريقين كقول المثل: كالمستغيث من الرمضاء بالنار، وهذا الكلام يفيد التحذير من مخالطتهم بطريق الكناية.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/283.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت الآيات السابقة، في بيان الإيمان الحق الصادق، وأنه يشمل الإيمان بالرسل وكتبهم، والإيمان برسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وكتبه، وكل ذلك في ظل الإيمان بالله تعالى باعث الرسل ومنزل الكتب من عنده، وخالق كل شيء ومبدع الكون، ثم كانت الآية التي وليت ذلك في ذكر حال هؤلاء المترددين الحائرين الذين لا يستقرون على حال، وهم قسمان: قسم ضعيف الإيمان مضطرب الاعتقاد، وهؤلاء قد يؤمنون ثم يرتدون لغير غاية، والقسم الثاني يعلن الإيمان ويبطن الكفر، ويتردد مظهره بين الإيمان والكفر؛ إذ إنه مهما يطو اعتقاده في نفسه لا بد أن يظهر على لسانه، كما قال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد]، وهذه الآيات في شأن المنافقين:

2. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، المنافقون هم الذين خلصوا للنفاق، وأصبح الإيمان لا موضع له في قلوبهم، وهم المنافقون في الاعتقاد بالرسالة المحمدية؛ وذلك لأن النفاق قسمان:

أ. نفاق خالص، وهؤلاء كفار في ذات الرسالة المحمدية، وهؤلاء كفار كما قال تعالى في الآيات اللاحقة.

ب. والقسم الثاني نفاق ليس خالصا، وهو لا يتصل بالعقيدة، بل يتصل بالأخلاق، وهو الذى جاء ذكره في الحديث (آية المنافق أربع: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر)، وبعض الروايات ليس فيها الخصلة الرابعة، وهذا النوع هو الكثير الشائع في عصرنا.

3. والتعبير بقوله: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ فيه نوع مجاز؛ لأن البشارة لا تكون غالبا إلا في الخبر السار، ويقول في ذلك الأصفهاني في مفرداته: (وبشرته أخبرته بسار بسط بشرة وجهه، وذلك أن النفس إذا سرت انتشر الدم فيها انتشار الماء في الشجر.. ويقال للخبر السار البشارة والبشرى، قال تعالى: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [يونس‏])، وقالوا إن التعبير بالبشرى في هذا المقام، وهو إنذار المنافقين بالعذاب الأليم فيه نوع تهكم بهم؛ لأن المنافق فيه طمع وهو يريد النفع الدنيوي أو المادي فيقال لهم ما تنتظرونه من أمر مبشركم ويرضى مطامعكم هو عذاب شديد، مؤلم أشد الإيلام، فهو ثمرة نفاقكم، فما غرستم من غرس هو شر محض، فلا ينتج إلا شرا.

4. ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هذه بعض أحوال المنافقين، وموقع‏ ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ﴾ إما أنها بدل أو عطف بيان من المنافقين المذكورين في الأولى، وإما أنها في موضع النصب على الاختصاص، ويكون المعنى على هذا: أخص الذين يتخذون.. وعندى أن البدل أولى؛ لأن تلك الأحوال تعمهم، ولا تخص فريقا منهم دون فريق.

5. سؤال وإشكال: ما معنى اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين؟ والجواب: إن الذى يقرب معنى الآية الكريمة أن نقول إنهم يلتمسون النصرة والعزة والكرامة من الكافرين، ويجعلون انتماءهم إليهم لا إلى الدولة الإسلامية، ويتخذون هذا الولاء ضد المؤمنين، أي أنهم يجعلون الولاء في الأمر الذى يكون فيه خلاف بينهم وبين المؤمنين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، أي مخالفين ومعاندين ومباعدين ولاء المسلمين، ومتجهين إلى ولاء الكافرين، ومؤدى هذا أنهم يتركون ولاء المؤمنين، للوصف اللازم لهم وهو الإيمان ويتخذون ولاء الكافرين للوصف المميز لهم وهو الكفر، وهم بهذا يحاربون الله ورسوله، والله تعالى يقول: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة]، وإن الذين تكون أوصافهم هكذا هم كافرون.

6. الولاء قسمان: ولاء نصرة وانتماء، وهذا منهى عنه من المؤمنين إلا بالضرورة، وولاء مودة ومحبة، وهذا غير منهى عنه بالنسبة لغير المسلمين إلا إذا كانوا قد حاربوا الله ورسوله وخرجوا محاربين له منابذين.

7. وقد استنكر سبحانه وتعالى أن يكون لهؤلاء المنافقين ما يبرر هذا الولاء، ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ إن هؤلاء المنافقين تضل أفهامهم، ويطمس على مداركهم، ويفسد تفكيرهم؛ لأنهم مردوا على الابتعاد عن الحقائق والحكم على الزمان بحالهم الوقتية، ولا تنفذ عقولهم إلى ما وراء ظاهر الأمور، فهم يطلبون العزة من غيره، والاستفهام هنا لإنكار الواقع، أي للتوبيخ على أمر وقع منهم، وهو أنهم يطلبون العزة ويريدونها إرادة شديدة راغبين فيها من الكافرين الذين لا يملكون أن يعزوا غيرهم لأنهم يعاندون الله تعالى، ولا عزة لمن يجحد ويعاند الله العزيز الحكيم.

8. وقد أكد الله تعالى ذلك المعنى بقوله تعالت كلماته: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ أي أنه لا عزة إلا ما يكون من عند الله تعالى، ولمن يطيع أوامره، وينتهى عن نواهيه، وقد أكد الله تعالى أن العزة له وحده بعدة مؤكدات منها التوكيد بـ (إن)، ومنها ذكر لفظ الجلالة، ومنها ذكر عمومها بكلمة ﴿جَمِيعًا﴾

9. إن العزة لله وحده، فليس بعزيز من يعانده؛ إذ ليست العزة غطرسة وكبرياء، ولكنها معنى نفسى يسكن في القلب فيحس باستعلاء على مظاهر الحياة، واستجابة لمعانيها وأولئك الذين يريدون العزة من غيرهم يبنونها على أوهام، وعلى مطامع مادية، وليست هذه العزة، إن كل استعلاء يبنى على أمر مادى، أو جاه خارجي أو مطمع دنيوي إنما هو وهم سرعان ما يزول، وتذل النفوس التي لا تتمسك بالحق، فالحق فيه العزة، وهو الذى يكون من عند الله، فلا عزة إلا من الله، والذل حيث لا يريد وجه الله.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1908.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، قال الرازي: استعمل سبحانه البشارة بالعذاب للتهكم، تماما كما تقول العرب: تحيتك الضرب، وعتابك السيف، ويلاحظ بأن أسلوب القرآن أبعد ما يكون عن التهكم.. والأقرب ان المراد بالبشارة مجرد الاخبار، وجاز استعمالها في المكروه لوجود القرينة.

2. أصل البشارة الخبر السار الذي يظهر به السرور في بشرة الوجه، فإذا قال شخص لآخر: بشارة، أو أبشرك دون أن يذكر شيئا فهم منه على سبيل الإجمال ان هناك شيئا محبوبا، ولا يستعمل في المكروه إلا مع القرينة، ومنه قوله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)﴾

3. ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾، كل منا يريد أن يكون شيئا مذكورا في هذه الحياة، وقد يحرص بعض الناس أن يشتهر بالطيبة والصلاح، أو بالفهم والعلم، ولكن البعض يريد العزة والشهرة بأي شيء كان، ويبيع دينه من أجلها للشيطان، ويتخذه وليا يسمع له ويطيع.

4. سؤال وإشكال: هنا يأتي السؤال في توبيخ واستنكار من رب العزة، لا من سواه: أيطلب هؤلاء العزة من الشيطان وأوليائه الأدنياء الأذلاء؟ وهل العزة الا بالإيمان والتقوى؟. لقد أذل الإسلام بعزته جميع الأديان، فكيف تطلب العزة ممن كفر به؟ والجواب: المؤمنون الذين عناهم بقوله: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هم الذين يعتز بهم الإسلام، لأنهم أعزوه وأعلوا كلمته بجهادهم وتضحياتهم.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/463.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ﴾ تهديد للمنافقين، وقد وصفهم بموالاة الكافرين دون المؤمنين، وهذا وصف أعم مصداقا من المنافقين الذين لم يؤمن قلوبهم، وإنما يتظاهرون بالإيمان فإن طائفة من المؤمنين لا يزالون مبتلين بموالاة الكفار، والانقطاع عن جماعة المؤمنين، والاتصال بهم باطنا واتخاذ الوليجة منهم حتى في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

2. وهذا يؤيد بعض التأييد أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين طائفة من المؤمنين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ويؤيده ظاهر قوله في الآية اللاحقة: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ فإن ذلك تقرير لتهديد المنافقين، والخطاب فيه للمؤمنين، ويؤيده أيضا ما سيصف تعالى حالهم في نفاقهم بقوله: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ فأثبت لهم شيئا من ذكر الله تعالى، وهو بعيد الانطباق على المنافقين الذين لم يؤمنوا بقلوبهم قط.

3. ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ استفهام إنكاري ثم جواب بما يقرر الإنكار فإن العزة من فروع الملك، والملك لله وحده، قال تعالى:‏ ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: 26]

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/116.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ ﴿بُشِّرَ﴾ تهكم بهم لأن البشرى الحقيقية ما كان إعلاماً بالخير، والمنافقين: قيل هم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام، والراجح: ما قاله الناصر عليه السلام واحتج له في (البساط): أنهم الذين يتولون الكفار سراً ويظهرون الإسلام، سواء أضمروا الكفر أم كانوا مقرين في أنفسهم غير مؤمنين ولا جاحدين؛ لأن مفهوم النفاق اتخاذ الوجهين لإرضاء الفريقين، ولكن بعض المنافقين كفروا ولكن ذلك خارج عن مفهوم النفاق، ويظهر أن الله تعالى قد فسره عقيب هذا الوعيد بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ كما أفاده قوله تعالى في آخر الآيات الآتية في زجر المنافقين: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ...﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾، وقوله تعالى في (سورة الحشر): ﴿أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾ الآية [آية:11] ففسر نفاقهم بهذا القول، ويدل على أن بعض المنافقين لم يكونوا كافرين وإن كانوا في حكمهم بسبب النفاق، يدل على ذلك قوله تعالى في بعض المنافقين: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ [آل عمران:167] انظر (البساط) للإمام الناصر الحسن بن علي الأطروش عليه السلام وقد طبع والحمد لله.

2. ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ ﴿أَيَبْتَغُونَ﴾ سؤال تبكيت للمنافقين، وبيان لغلطهم؛ لأن الباعث لبعضهم أو كلهم هو الخوف من غلبة الكفار للمؤمنين، والمنافقون لجهلهم وعدم الإيمان في قلوبهم ينظرون إلى كثرة الكفار وقوتهم من الناحية المادية، فهم أكثر سلاحاً وآلة حرب وأكثر أموالاً، فلاعتقادهم الراجح أن الغلبة ستكون للكفار سارعوا إلى اتخاذهم أولياء خشية أن تصيبهم دائرة، ولكنهم مع ذلك يرون قوة المؤمنين بإيمانهم فلا يجزمون أنهم سيغلبون؛ لأنهم قد انتصروا في بدر مع قلتهم وقلة خيلهم ومالهم.

3. فلذلك اختار أعداء الله الذين في قلوبهم مرض اختاروا لأنفسهم إظهار الإسلام للمسلمين واتخاذ الكفار ﴿أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لأنهم كما قال الله تعالى: ﴿قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ [التوبة:56] وأدَّاهم الْفَرَق مع عدم الإيمان إلى اختيار النفاق، فرد الله عليهم بأن الغلبة ستكون للمؤمنين؛ لأن ﴿الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ وهذا واضح لا ينفيه المنافقون، فكيف لا يرجحون أن النصر يكون لأولياء الله الدعاة إلى عبادته وحده، ولعل ذلك لأنهم لا يوقنون بأنهم أولياء الله الدعاة إلى دينه لعدم الإيمان في قلوبهم، فنظروا إلى ظاهر الحال فاستحقوا التوبيخ لجهلهم بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/189.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه جولة قرآنية حول المنافقين، تحاصرهم بالتهديد بالمصير الأسود الذي ينتظرهم عند الله وتبيّن ملامحهم الحقيقية في مواقفهم الذاتية في أنفسهم وفي الآخرين، ليكتشفهم الناس على حقيقتهم؛ فلا يخفى عليهم شيء من أمرهم، من خلال ما يتظاهرون به من خير وصلاح وإيمان.. وهذا ما بدأته الآية الأولى: بالبشارة بالعذاب الأليم.

2. ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وربما كان استخدام هذه الكلمة (البشارة) للإمعان بالسخرية بهم، فيما كانوا يأملونه من نتائج ظواهر أعمالهم، وما يواجههم من مصير يخالف ذلك كله، أما ملامحهم، فقد يكون في مقدمتها موالاتهم وموادتهم القلبية والعملية للكافرين، وابتعادهم عن المؤمنين، في المشاعر والأفكار والمواقف، فهم يألفون الكافرين ويرتاحون إليهم ويتعاونون معهم، انطلاقا من وحدة الموقف.

3. ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بينما لا يتحركون في مثل هذه الأجواء مع المؤمنين، وهذه صفة أساسية في الحد الفاصل بين شخصية المؤمن وبين شخصية المنافق، لأن قضية الإيمان ليست مجرد فكرة تطوف في الخيال، كما تطوف كثير من الأفكار التجريدية التي لا تمس الحياة الشخصية للإنسان في قليل أو كثير، بل هي فكرة للفكر وللشعور وللموقف، حيث تحدد له علاقاته بالناس وبالأشياء وبالحياة، من خلال الخط الذي ترسمه، والجو الذي تخلقه، والأهداف التي تحددها.. فإذا كنت مؤمنا، فإن معنى ذلك، هو أن تحول الإيمان إلى حركة للحياة في نفسك وفيمن حولك وما حولك، فتخضع كل خطواتك وأعمالك وعلاقاتك لما يتصل به من قريب أو من بعيد، فتوالي من يوالي الله، وتعادي من يعادي الله، لأن ذلك هو السبيل الوحيد للحركة إلى الأمام، بينما يمثل العكس خطّا تراجيعا إلى الوراء؛ فإذا واليت أعداء الله‏ وعاديت أولياء الله، كنت سائرا في النهج الذي يضعف من موقف الإيمان لأن مثل هذه العلاقة الشعورية والعملية تحقق للكفر قوة من خلال قوتك وتفقد الإيمان بعض قوته؛ وذلك أمر لا يلتقي بالإخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين، الذي يفرض عليك أن تتحرك من خلال مزاج الإيمان من خلال ما يفرضه من أجواء ومشاعر ومواقف، ولا تتحرك من خلال مزاجك الخاص الذي يخضع للنوازع الشخصية البعيدة عن حركة الرسالة في النفس.

4. ثم تطرح الآية سؤالا في معرض الإنكار: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ لماذا يفعل هؤلاء ذلك؟ وما هو الهدف من ورائه؟ لأن موقف الموالاة لإنسان ما لا بد أن يخضع لرغبة أو رهبة أو تصور معين.. فما هو هذا الهدف؟ هل يبتغون العزة عندهم، لأنهم يجدون لديهم بعض مظاهر القوة، بما يملكونه من مال أو سلاح أو عدد؟ ولكن هذا يدلّ على جهل بحقيقة الإيمان وما يوحيه من الشعور بعظمة الله المطلقة التي لا حدود لها إزاء ضعف الإنسان المطلق في جميع أموره وقضاياه، وما قيمة هذه المظاهر المحدودة للقوة؟ وما أهمية هذه العزة المستندة إلى هذه الأمور؟ لو فكر هؤلاء فيها، لرأوا أنها لا تمثل إلا حالة محدودة طارئة لا تلبث أن تذهب وتتحول إلى هباء لدى أقل عاصفة تمرّ في حياتهم؛ فكيف يستسلّم هؤلاء الناس لمثل ذلك؟ وكيف يبنون عزتهم وقوتهم على هذا الأساس المنهار؟

5. ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾، فهو القوي الذي لا حد لقوّته، وهو الغني عن كل شيء الذي يفتقر إليه كل شيء وجوده وفي استمراره، وكل شيء خاضع له، وكل شيء محتاج إليه، فمن أراد العزة فعليه أن يرتبط به ويرجع إليه، ولا يتنازل عن أيّ موقف من مواقفه لمصلحة أيّ عبد من عباده، إنها الحقيقة الواضحة الممتدة التي تلتقي بالآفاق الواسعة للشخصية الإيمانية، في عملية تحديد للخطوط البارزة للفكر وللعاطفة وللحياة.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/507.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تؤكّد الآية نوع العذاب الذي يستحقه هؤلاء فتقول: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، واستخدام عبارة (بشر) في الآية إنّما جاء من باب التهكم والاستهزاء بالأفكار الخاوية الواهية التي يحملها هؤلاء المنافقون، أو أنّ العبارة مشتقة من المصدر (بشر) بمعنى الوجه، وفي هذه الحالة تحتمل معاني واسعة فتشمل كل خبر يؤثر في سحنة الإنسان، سواء كان الخبر مفرحا أو محزنا.

2. وقد أشارت الآية الأخيرة إلى المنافقين بأنّهم يتخذون الكفار أصدقاء وأحباء لهم بدلا من المؤمنين، بقولها: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾

3. ثمّ يأتي التساؤل في الآية عن هدف هؤلاء المنافقين من صحبة الكافرين، وهل أنّهم يريدون حقّا أن يكتسبوا الشرف والفخر عبر هذه الصحبة؟ تقول الآية: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ بينما العزة والشرف كلها للّه‏ ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ لأنّها تنبع من العلم والقدرة، وأن الكفار لا يمتلكون من القوّة والعلم شيئا، ولذلك فإنّ علمهم لا شيء أيضا، ولا يستطيعون إنجاز شيء لكي يصبحوا مصدرا للعزّة والشرف.

4. إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تحذير للمسلمين بأن لا يلتمسوا الفخر والعزّة في شؤونهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية عن طريق إنشاء علاقات الود والصداقة مع أعداء الإسلام، بل إنّ عليهم أن يعتمدوا في ذلك على الذات الإلهية الطاهرة التي هي مصدر للعزة والشرف كله، وأعداء الإسلام لا عزّة لديهم لكي يهبوها لأحد، وحتى لو امتلكوها لما أمكن الركون إليهم والاعتماد عليهم، لأنّهم متى ما اقتضت مصالحهم الشخصية تخلوا عن أقرب حلفائهم وركضوا وراء مصالحهم، وكأنّهم لم يكونوا ليعرفوا هؤلاء الحلفاء مسبقا، والتاريخ المعاصر خير دليل على هذا السلوك النفعي الانتهازي.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/493.

122. الإعراض عن المستهزئين

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈122⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء: 140]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾، وقوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣]، وقوله: ﴿أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣]، ونحو هذا من القرآن؛ أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم: إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله(1).

2. روي أنّه قال: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٠٤.

(2) تفسير الثعلبي ٣/٤٠٣.

أبو وائل:

روي عن أبي وائل شقيق بن سلمة (ت 82 هـ) أنّه قال: إن الرجل ليتكلم في المجلس بالكلمة الكذب يضحك بها جلساءه فيسخط الله عليهم جميعا، فذكر ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: صدق أبو وائل، أوليس ذلك في كتاب الله: ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٠٣.

ابن عبد العزيز:

روي عن هشام بن عروة: أن عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ) أخذ قوما يشربون، فضربهم، وفيهم رجل صالح، فقيل: إنه صائم، فتلا: ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة ٧/٤٦٩.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: أنزل في سورة الأنعام: ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: ٦٨]، ثم نزل التشديد في سورة النساء: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾(1).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا﴾ إلى آخر الآية، فقال: (إنما عنى بهذا إذا سمعت الرجل الذي يجحد الحق ويكذب به ويقع في الأئمة، فقم من عنده ولا تقاعده كائنا من كان(1).

2. روي أنّه قال: فرض على السمع أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله، وأن يعرض عما لا يحل له مما نهى الله عز وجل عنه، والإصغاء إلى ما أسخط الله عز وجل، فقال في ذلك: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ ثم استثنى الله عز وجل موضع النسيان، فقال: ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(2).

3. روي أنّه قال: إن الله (تبارك وتعالى) فرض الإيمان على جوارح بني آدم وقسمه عليها، فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت أختها، فمنها: أذناه اللتان يسمع بهما، ففرض على السمع أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله، وأن يعرض عما لا يحل له فيما نهى الله عنه، والإصغاء إلى ما أسخط الله تعالى، فقال في ذلك: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ إلى قوله: ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ ثم استثنى موضع النسيان، فقال: ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ وقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ إلى قوله: ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ وقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ وقال: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ وقال: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ فهذا مافرض الله على السمع من الإيمان، ولا يصغي إلى ما لا يحل، وهو عمله، وهو من الإيمان(3).

__________

(1) تفسير القمّي 1/156.

(2) الكافي 2/280.

(3) تفسير العيّاشي 1/282.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾، نسخت هذه الآية التي في الأنعام، فكان هذا الذي أنزل بالمدينة، وخوفهم، فقال: إن قعدتم، ورضيتم بخوضهم واستهزائهم بالقرآن؛ فإنكم إذا مثلهم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٣.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ثم خوفهم: إن جالستموهم، ورضيتم باستهزائهم؛ ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ في الكفر(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٥.

ابن عياض:

روي عن الفضيل بن عياض (ت 187 هـ) أنّه قال: ليس لأحد أن يفعل مع من شاء؛ لأن الله عز وجل يقول: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: ٦٨]، ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٠]، وليس له أن ينظر إلى من يشاء؛ لأن الله عز وجل يقول: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور: ٣٠]، وليس له أن يقول ما لا يعلم، أو يسمع إلى ما شاء، أو يهوى ما شاء؛ لأن الله عز وجل يقول: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: ٣٦]، ولا تفعل، يقول: ولا تقل(1).

__________

(1) البيهقي في الزهد الكبير ص ٣٤١.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. عن محمد بن عاصم، قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: يا محمد بن عاصم، بلغني أنك تجالس الواقفة؟ قلت: نعم، جعلت فداك، أجالسهم وأنا مخالف لهم، قال: لا تجالسهم، فإن الله عز وجل يقول: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ يعني بالآيات الأوصياء، والذين كفروا بها يعني الواقفة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ إذا سمعت الرجل يجحد الحق ويكذب به ويقع في أهله فقم من عنده ولا تقاعده(2).

__________

(1) الكافي 2/29، ورجال الكشي: 457/864.

(2) تفسير العيّاشي 1/281.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ ـ هو ما ذكر في سورة الأنعام، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾، ثم قال: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾؛ لأنه نهاهم عز وجل عن القعود معهم إذا خاضوا في طعن القرآن وآيات الله؛ فأخبر أن ليس لهم من حسابهم من شيء إذا قعدوا، ثم قال في هذه الآية: ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾: نهاهم عز وجل عن القعود معهم، وأخبر أنهم إذا فعلوا ذلك يكونوا مثلهم؛ فهو على النسخ: نسخ هذا الأول.

2. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ في المشركين، لم يلحقهم من العقوبة والمآثم؛ لأنهم لا يقدرون على منع المشركين عن الاستهزاء بآيات الله والطعن فيها، ويقدرون على منع المنافقين عن ذلك؛ فشاركوهم في العقوبة فيما يقدرون على منعهم فلم يمنعوا، ورفع عنهم ذلك فيما لا يقدرون على دفعه.

3. وفيه دلالة أن من بلي بمنكر له قدرة التغيير على أهله، فلم يغير ـ أن يشاركهم في ذلك، أو إذا لم يكن له قدرة التغيير عليهم فلم يفارقهم، لكن أقام معهم ـ شاركهم أيضا في العقوبة؛ الواجب على كل من بُلي بذلك، وله قدرة التغيير عليهم ـ فعل، أي: أنكر عليهم وغيَّره، وإلا فارقهم؛ وإلا يُخاف أن يشاركهم في العقوبة.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٩٢.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أعلم الله تعالى في هذه الآية المؤمنين أن المنافقين يهزؤون بكتاب الله الذي هو القرآن، وأمرهم ان لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا، يعني يأخذوا في حديث غير القرآن، ثم قال إنكم ان جالستموهم على الخوض في كتاب الله والهزء به، فأنتم مثلهم.

2. إنما حكم بأنهم مثلهم متى رضوا بما هم فيه، ولم ينكروا عليهم مع القدرة على الإنكار، ولم يظهروا كراهية، فإنهم متى كانوا راضين بالكفر، كانوا كفاراً، لأن الرضاء بالكفر كفر.

3. في الآية دلالة على وجوب انكار المنكر مع القدرة على ذلك، وزوال العذر عنه، وإن من ترك ذلك مع القدرة عليه كان مخطئاً آثماً، وكذلك فيها دلالة على انه لا يجوز مجالسة الفساق، والمبتدعين من أي نوع كان، وبه قال جماعة من المفسرين، ذهب إليه أبو وائل، وإبراهيم وعبد الله، وقال إبراهيم: من ذلك إذا تكلم الرجل في مجلس بكذب، يضحك منه جلساؤه، فسخط الله عليهم، وبه قال عمر بن عبد العزيز وقيل: إنه ضرب صائماً كان قاعداً مع قوم يشربون الخمر، وقال ابن عباس: امر الله بذلك الإنفاق، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، والمراء والخصومة، وبه قال الطبري والجبائي والبلخي وجماعة من المفسرين، قال أبو علي الجبائي: أما الكون بالقرب منهم بحيث يسمع صوتهم ولا يقدر على إنكاره، فليس بمحظور، وإنما المحظور مجالستهم من غير اظهار كراهية ما سمعه أو يراه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/362.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الهزؤ: السخرية، يقال: هزأ به واستهزأه.

ب. الخوض: الدخول في الشيء خاض الماء وغيره خوضًا، وخضت أنا وأخضت فيه دابتي، وتخاوضوا الحديث، مثل تفاوضوا.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن، ويحرفونه عن مواضعه، فنزلت الآية نهيًا عن مجالستهم ومخالطتهم.

ب. قال ابن عباس: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع.

ج. عن عمر بن عبد العزيز أن قومًا أخذوا على شراب فضربوا الحد وفيهم صائم، قيل: إن هذا صائم، فتلا قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾

3. لما تقدم ذكر المنافقين وموالاتهم للكفار، عقبه بالنهي عن مخالطتهم، فقال تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾:

أ. قيل: الخطاب لأهل الكتاب تذكيرًا لهم بما أنزل عليهم في كتبهم من مجانبة المستهزئين بكتب الله، وتحذيرًا عن ذلك.

ب. وقيل: الخطاب للمنافقين نهيًا لهم عن مجالسة أهل الكفر والنفاق.

ج. وقيل: الخطاب للمؤمنين فبين الله أن مستمع الباطل كقائله إذا لم ينكر، ورضي به ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ قيل: في التوراة والإنجيل.

د. وقيل: في القرآن، اختلفوا فيه على حسب اختلافهم في المخاطب بالآية.

4. سؤال وإشكال: أين المُنَزَّل في القرآن؟ والجواب: قوله تعالى في الأنعام ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ الآية.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ﴾:

أ. قيل: من الكفار ومشركي العرب.

ب. وقيل: من المنافقين.

6. ﴿آيَاتِ اللهِ﴾ حججه وهو القرآن ﴿يَكْفُرْ بِهَا﴾ يجحد بأنه منزل وحق ﴿وَيُسْتَهْزَأُ بِهَ﴾ يسخر منها ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ﴾ مع هَؤُلَاءِ المستهزئين ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾:

أ. قيل: حتى يأخذوا في حديث غير الكفر والاستهزاء بالدين.

ب. وقيل: حتى يرجعوا إلى الإيمان ويتركوا الكفر والاستهزاء.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾:

أ. قيل: في العصيان.

ب. وقيل: في الرضا بحالهم في ظاهر الأمر؛ لأن كليهما كفر: الاستهزاء بالدين والرضا بالاستهزاء.

8. تدل الآية الكريمة على:

أ. أنه يجب مفارقة موضع المنكر، ويحتمل أن يكون خاصًّا في المستهزئ لعظم حاله، ويحتمل أن يكون عامًّا في كل منكر، وقد اختلفوا، فمنهم من قال يجب التباعد، وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية، ومنهم من قال إذا أنكره بقلبه ولم يوجد منه ما يوجب الرضا لم يجب أكثر من ذلك، وهو قول أبي علي وأبي هاشم.

ب. تحريم المداخلة والمقاربة، كما حرم القعود؛ لأِن الكل سواء، وقيل: إن النهي عن القعود معهم إذا أمكنه النكير فلا ينكر، وقد ذكر عن الحسن أنه رخص في القعود إذا خاضوا في حديث غيره، ثم نسخ بقوله: ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ وعن ابن عباس أن عند نزول الآية كان لا يحل للمسلمين أن يقاعدوهم إذا استهزؤوا، فنسخ بقوله: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الآية، قال قاضي القضاة: ومن قال إنه منسوخ ذهب إلى أن آخر الآية يدل عليه، وليس كذلك؛ لأن قوله: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ يدل على أنه ليس المراد أن يتمكنوا من النكير ولا يمكنهم إظهار الكراهة، وإنما يكون مثلهم من يرضى بطريقتهم أو يظهر ما يدل على الرضا، فلا وجه لذكر النسخ، والمحرم من القعود ألا يمكنه إظهار النكير، أو يؤثر نكيره، فله مندوحة عن القعود، أو شاهده من يَعُدُّهُ منهم ولا يعرف حاله فيتهمه، فعند ذلك يجب مفارقة المجلس، وإن كان له في ذلك منفعة حق فله ألا يفارق، كمن يحضر الجنائز فيحضر النوح أو يحضر الولائم، فيسمع المنكر فيسعه أن يقعد، والإنكار على قدر الإمكان يجب عليه، وذكر الحسن إن كنا نترك حقّا لباطل لشرع ذلك في ديننا، فأما أبو علي ففصل بين المجلس والقرب، وقال: يحرم القعود في المجلس لما فيه متي الإيهام، فأما إذا أظهر التباين وإن قرب فلا يحرم، ولا خلاف أنه إذا أنكر لا يحرم عليه القعود معهم؛ ولذلك تقعد العلماء مع أهل الضلالة يناظرونهم، ويجب لهم بذلك الثواب العظيم.

ج. جواز القعود مع أهل المنكر إذا فارقوا المنكر، وهذا أيضًا يجب أن ينظر فيه، فإن كان فيه تهمة وجب المفارقة، وإن خاف الفتنة وجب المفارقة، فأما إذا عدم جميع الوجوه جاز.

د. أن الراضي بالاستهزاء بالرسول والدين كافر؛ لذلك قال: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾

هـ. أن الرضا بالكفر كُفْرٌ.

و. أن أفعال القلوب يؤاخذ بها.

ز. أن الرضا بفعل المنافق كفر، وليس بنفاق؛ لذلك قال: ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ﴾

ح. قال شيخنا أبو علي: وتدل على إثبات الأعراض، وبطلان قول الأصم؛ لأنه جعل بعضه غير بعض، فدل أنه غير الجوهر، وأنها أعراض متغايرة.

9. قرأ عاصم ويعقوب ﴿نَزَّلَ﴾ بالفتح والتشديد، يعني الله نزل، والباقون بالضم على ما لم يسم فاعله، وكلاهما حسن، والضم أوجه؛ لما في الفتح من التضمين، مع استئناف الآية.

10. ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ﴾ ﴿أَنْ﴾ في موضع نصب ورفع؛ وذلك أنك إذا قرأت ﴿نَزَّلَ﴾ بالنصب نصبته، لأنك سميت الفاعل، وتقديره: الله نزل أن، ومن قرأ ﴿نَزَّلَ﴾ بالرفع ف﴿أَنْ﴾ في موضع رفع.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/117.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، عن ابن عباس.

2. لما تقدم ذكر المنافقين وموالاتهم الكفار، عقب ذلك بالنهي عن مجالستهم ومخالطتهم، فقال: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ أي: في القرآن ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ أي: يكفر بها المشركون، والمنافقون، ويستهزئون بها ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ﴾ أي: مع هؤلاء المستهزئين الكافرين ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾:

أ. أي: حتى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بالدين.

ب. وقيل: حتى يرجعوا إلى الايمان، ويتركوا الكفر والاستهزاء.

3. المنزل في الكتاب هو قوله سبحانه في سورة الأنعام: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾، وفي هذا دلالة على تحريم مجالسة الكفار عند كفرهم بآيات الله، واستهزائهم بها، وعلى إباحة مجالستهم عند خوضهم في حديث غيره.

4. روي عن الحسن أن إباحة القعود مع الكفار، عند خوضهم في حديث آخر غير كفرهم، واستهزائهم بالقرآن، منسوخ بقوله تعالى: ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾

5. ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ يعني إنكم إذا جالستموهم على الخوض في كتاب الله، والهزء به، فأنتم مثلهم، وإنما حكم بأنهم مثلهم، لأنهم لم ينكروا عليهم مع قدرتهم على الانكار، ولم يظهروا الكراهة لذلك، ومتى كانوا راضين بالكفر، كانوا كفارا لان الرضا بالكفر كفر.

6. في الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر مع القدرة، وزوال العذر، وأن من ترك ذلك مع القدرة عليه، فهو مخطئ آثم.

7. وفيها أيضا دلالة على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين، من أي جنس كانوا، وبه قال جماعة من أهل التفسير، وذهب إليه عبد الله بن مسعود، وإبراهيم، وأبو وآيل، قال إبراهيم: (ومن ذلك إذا تكلم الرجل في مجلس يكذب، فيضحك منه جلساؤه، فيسخط الله عليهم) وبه قال عمر بن عبد العزيز، وروي أنه ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر، وروى العياشي بإسناده، عن علي بن موسى الرضا عليهما السلام في تفسير هذه الآية، قال: (إذا سمعت الرجل يجحد الحق، ويكذب به، ويقع في أهله، فقم من عنده، ولا تقاعده) وروي عن ابن عباس أنه قال: (أمر الله تعالى في هذه الآية بالاتفاق، ونهى عن الاختلاف والفرقة، والمراء والخصومة) وبه قال الطبري، والبلخي، والجبائي، وجماعة من المفسرين، وقال الجبائي: (وأما الكون بالقرب منهم بحيث يسمع صوتهم، ولا يقدر على إنكارهم، فليس بمحظور، وإنما المحظور مجالستهم من غير إظهار كراهية، لما يسمعه، أو يراه)

8. قال الجبائي: في الآية دلالة على بطلان قول نفاة الاعراض، وقولهم ليس ها هنا شيء غير الأجسام، لأنه قال: ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ فأثبت غيرا لما كانوا فيه، وذلك هو العرض.

9. قرأ عاصم ويعقوب (نزل) بالفتح، والباقون ﴿نَزَّلَ﴾ بضم النون وكسر الزاي، والوجه في القراءتين ما ذكرناه قبل، إذا قرأت ﴿نَزَّلَ﴾ بالفتح فأن في موضع نصب، لان تقديره نزل الله ذلك، وإذا قرأت ﴿نَزَّلَ﴾ فأن في موضع الرفع، وأن هذه هي المخففة من الثقيلة.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/193.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ وقرأ عاصم، ويعقوب: (نزل) بفتح النون والزّاي، قال المفسّرون: الذي نزّل عليهم في النّهي عن مجالستهم، قوله في الأنعام‏ ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن ويكذّبون به، فنهى الله المسلمين عن مجالستهم، وآيات الله: هي القرآن، والمعنى: إذا سمعتم الكفر بآيات الله، والاستهزاء بها، فلا تقعدوا معهم حتى يأخذوا في حديث غير الكفر، والاستهزاء.

2. ﴿إِنَّكُمْ﴾ إن جالستموهم على ما هم عليه من ذلك، فأنتم‏ ﴿مَثَلُهُمْ﴾، وفي ماذا تقع المماثلة فيه، قولان:

أ. أحدهما: في العصيان.

ب. الثاني: في الرّضى بحالهم، لأنّ مجالس الكافر غير كافر.

3. نبّهت الآية على التّحذير من مجالسة العصاة، قال إبراهيم النّخعيّ: إنّ الرجل ليجلس فيتكلّم بالكلمة، فيرضي الله بها، فتصيبه الرّحمة فتعمّ من حوله، وإنّ الرجل ليجلس في المجلس، فيتكلّم بالكلمة، فيسخط الله بها، فيصيبه السّخط، فيعمّ من حوله.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/488.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال المفسرون: إن المشركين كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزؤن به، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: 68]

2. هذه الآية نزلت بمكة، ثم إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين، والقاعدون معهم والموافقون لهم على ذلك الكلام هم المنافقون، فقال تعالى مخاطبا للمنافقين إنه‏ ﴿قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ الله يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها﴾ والمعنى إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها، ولكن أوقع فعل السماع على الآيات والمراد به سماع الاستهزاء، قال الكسائي: وهو كما يقال: سمعت عبد الله يلام، وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى: إذا سمعتم آيات الله حال ما يكفر بها ويستهزأ بها، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى ما قال الكسائي، فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غير الكفر والاستهزاء.

3. ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾، والمعنى: أيها المنافقون أنتم مثل أولئك الأحبار في الكفر، قال أهل العلم: هذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر، ومن رضي بمنكر يراه وخالط أهله وإن لم يباشر كان في الإثم بمنزلة المباشر بدليل أنه تعالى ذكر لفظ المثل هاهنا، هذا إذا كان الجالس راضيا بذلك الجلوس، فأما إذا كان ساخطا لقولهم وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر ليس كذلك، ولهذه الدقيقة قلنا بأن المنافقين الذين كانوا يجالسون اليهود، وكانوا يطعنون في القرآن والرسول كانوا كافرين مثل أولئك اليهود، والمسلمون الذين كانوا بالمدينة كانوا بمكة يجالسون الكفار الذين كانوا يطعنون في القرآن فإنهم كانوا باقين على الإيمان والفرق أن المنافقين كانوا يجالسون اليهود مع الاختيار، والمسلمين كانوا يجالسون الكفار عند الضرورة.

4. ثم إنه تعالى حقق كون المنافقين مثل الكافرين في الكفر فقال: ﴿إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾، يريد كما أنهم اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة، وأراد جامع بالتنوين لأنه بعد ما جمعهم ولكن حذف التنوين استخفافا من اللفظ وهو مراد في الحقيقة.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/247.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من محق ومنافق، لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله، فالمنزل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾، وكان المنافقين يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن، وقرأ عاصم ويعقوبـ ﴿وَقَدْ نَزَّلَ﴾ بفتح النون والزاي وشدها، لتقدم اسم الله تعالى في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾، وقرأ حميد كذلك، إلا أنه خفف الزاي، الباقون ﴿نَزَّلَ﴾ غير مسمى الفاعل، ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ﴾ موضع ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ﴾ على قراءة عاصم ويعقوب نصب بوقوع الفعل عليه، وفي قراءة الباقين رفع، لكونه اسم ما لم يسم فاعله.

2. ﴿يَكْفُرْ بِهَا﴾ أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله، فأوقع السماع على الآيات، والمراد سماع الكفر والاستهزاء، كما تقول: سمعت عبد الله يلام، أي سمعت اللوم في عبد الله.

3. ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ أي غير الكفر، ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾، فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم، فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ أي إن الرضا بالمعصية معصية، ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم، وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة، كما قال فكل قرين بالمقارن يقتدي وقد تقدم، وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى.

4. قال الكلبي: قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ نسخ بقوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾، وقال عامة المفسرين: هي محكمة، وروى جويبر عن الضحاك قال دخل في هذه الآية كل محدث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/417.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق، لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزله الله؛ وقيل: إنه خطاب للمنافقين فقط، كما يفيده التشديد والتوبيخ، وقرأ عاصم ويعقوب: ﴿نَزَّلَ﴾ بفتح النون والزاي وتشديدها، وفاعله ضمير راجع إلى اسم الله تعالى في قوله: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾، وقرأ حميد: بتخفيف الزاي مفتوحة مع فتح النون، وقرأ الباقون: بضم النون مع كسر الزاي مشدّدة على البناء للمجهول.

2. ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله﴾ في محل نصب على القراءة الأولى: على أنه مفعول نزل، وفي محل رفع على القراءة الثانية: على أنه فاعل، وفي محل رفع على أنه مفعول ما لم يسمّ فاعله على القراءة الثالثة، وأن هي المخففة من الثقيلة، والتقدير أنه إذا سمعتم آيات الله.

3. ﴿فِي الْكِتَابِ﴾: هو القرآن، ﴿يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ حالان، أي: إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله، فأوقع السماع على الآيات، والمراد: سماع الكفر والاستهزاء.

4. ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ أي: أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع والاستهزاء بآيات الله لا تعقدوا معهم ما داموا كذلك، حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها، والذي أنزله الله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن واستهزائهم به، فنهوا عن ذلك.

5. في هذه الآية ـ باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب ـ دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية، كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى: قال إمام مذهبنا كذا، وقال فلان من أتباعه: بكذا، وإذا سمعوا من يستدلّ على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا، ولا بالوا به بالة، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع، وخطب شنيع، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل‏(2)، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل، مقدّما على الله وعلى كتابه وعلى رسوله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها، والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم، فإنهم قد صرّحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة ب [القول المفيد في حكم التقليد] وفي مؤلفنا المسمى ب [أدب الطلب ومنتهى الأرب‏] اللهم انفعنا بما علمتنا، واجعلنا من المقتدين بالكتاب والسنة، وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار، يا مجيب السائلين!

6. ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ تعليل للنهي، أي: إنكم إن فعلتم ذلك ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر، قيل: وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل: وكلّ قرين بالمقارن يقتدي‏.

7. هذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم، إلا ما يروى عن الكلبي، فإنه قال هي منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ وهو مردود، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/608.

(2) الفائل: رجل فائل الرأي؛ أي: ضعيفه

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان مشركو مكَّة يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به في مجالسهم، فأنزل الله في مكَّة سورة الأنعام وفيها: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ [الآية: 68]، ثمَّ إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون ما فعله المشركون بمكَّة، وكان المنافقون يقعدون معهم ويوافقونهم على ذلك، فنزل قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ﴾ أيُّها المؤمنون ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ القرآن في سورة الأنعام ﴿أَن﴾ أنَّه، أي: الشأن ﴿إِذَا سَمِعْتُمُ آيَاتِ اللهِ﴾ القرآن ﴿يُكْفَرُ بِهَا﴾ نطقًا ﴿وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ يكفر بها المشركون ويستهزئون بها، أو يستهزئ بها المنافقون، حذف الفاعل وناب عنه المجرور، وقد ذكر ضمير الفاعل وهو هاء (مَعَهُمْ) في قوله: ﴿فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ﴾ أي: مع الكافرين بها والمستهزئين بها حال الكفر بها، والاستهزاء المدلول عليهم بقوله: ﴿يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾، ﴿حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ أي: غير حديث الكفر والاستهزاء، وقيل: غير الكفر والاستهزاء، وأفرد الضمير لأنَّهما بمعنًى، ﴿إِنَّكُمُ إِذًا﴾ إذ قعدتم، أو إذا قعدتم معهم حال الكفر والاستهزاء ﴿مِّثْلُهُم﴾ في الإثم، لأنَّكم قادرون على الإعراض والإنكار عليهم، أو مثلهم في الكفر إن رضيتم.

2. حُبُّك أن يموت الكافر على كفره بغضًا لله وانتقامًا لله تعالى حقٌّ، كقوله: ﴿رَبـَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ [يونس: 88]، وقال مشايخ بخارى وسمرقند ونحوهما مِمَّا وراء النهر: (الرضا بالكفر من الغير مع استقباحه لا يكون كفرًا)، والصحيح أنَّه كفر، وهو مذهبنا، وروي الوجهان عن أبي حنيفة، وإن استحسنه فكفر إجماعًا.

3. وأفردَ (مِثْلُ) لإرادة الجنس للإضافة للجمع، فكأنَّه جمعٌ كما جُمِعَ في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ [القتال: 38]، ﴿وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾ [الواقعة: 22 ـ 23]، أو لأنَّه في الأصل مصدر يصلح للواحد وغيره، أو لأنَّ المراد أنَّ عصيانكم إذًا مثلُ عصيانهم، وهذا الوجه الأخير لا يصحُّ في ﴿لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ [المؤمنون: 47]، وقيل: القاعدون مع الخائضين في القرآن من الأحبار كانوا منافقين، وقيل: ضمير (إِنَّكُم) للمنافقين، وضمير (مِثْلُهُم) لأحبار اليهود، والمماثلة في الكفر، ويدلُّ لهذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ﴾

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/319.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ قال المفسرون: إن المشركين بمكة كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به، فنهى الله تعالى المسلمين عن القعود معهم بقوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: 68]، وهذه الآية من سورة الأنعام، وهي مكية، فامتنع المسلمون عن القعود معهم، ولما قدموا المدينة كانوا يجلسون مع اليهود والمنافقين، وكان اليهود يستهزئون بالقرآن، فنزلت هذه الآية ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾، يعني في سورة الأنعام‏ ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا﴾ يعني يجحد بها ﴿وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ وفيها دلالة على أن المنزل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن خوطب به خاصة، منزل على الأمة وأن مدار الإعراض عنهم، هو العلم بخوضهم في الآيات، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالسهم، لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط.

2. ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ أي: إذا قعدتم معهم دل على رضاكم‏ بالكفر بالآيات والاستهزاء بها، فتكونون مثلهم في الكفر واستتباع العذاب، فاجتماعكم بهم هاهنا سبب اجتماعكم في جهنم، كما قال‏ ﴿إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ لأنهم لما شاركوهم في الكفر، واجتمعوا على الاستهزاء بالآيات في الدنيا، جمعهم الله في عذاب جهنم يوم القيامة.

3. قال بعض مفسري الزيدية: اعلم أنه لا خلاف في تحريم القعود والمخالطة، إذا كان ذلك يوهم بأن القاعد راض، ولا خلاف أنه يحرم إذا خشي الافتتان، ولا خلاف أنه يجوز القعود للتنكير عليهم والدفع لهم.

4. قال الحاكم: ولذلك يحضر العلماء مع أهل الضلالة يناظرونهم، ولهم بذلك الثواب العظيم، وأما إذا خلا عما ذكرنا، وكان لا يوهم بالرضا ولا يفتتن ولا ينكر عليهم، فاختلف العلماء في ذلك، فمنهم من أوجب المثل، لظاهر الآية.

5. قال الحاكم: روي‏ أن قوما أخذوا على شراب في عهد عمر بن عبد العزيز، فأمر بضربهم الحدّ، فقيل: فيهم صائم، فتلا قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾، وهذا أيضا ظاهر حديث: لا يحل لعين ترى الله يعصى، فتطرف حتى تغير وتنتقل، وقال أبو عليّ وأبو هاشم: إن أنكر بقلبه لم يجب عليه أكثر من ذلك، وجاز له القعود، يعني مع عجزه عن الإنكار باليد أو باللسان، وعدم تأثير ذلك، أقول: ما قالاه مخالف لظاهر الآية، فلا عبرة به، وقال القاضي والحاكم: أما لو كان له حق في تلك البقعة، فله أن لا يفارق، كمن يحضر الجنائز مع النوح، أو الولائم، فيسمع المنكر فيسعه أن يقعد، والنكير على قدر الإمكان واجب عليه، وعن الحسن: لو تركنا الحق للباطل لبطل الشرع، وقد كان خرج إلى جنازة، خرجت النساء فيها فلم يرجع، ورجع ابن سيرين.

6. من له حق في البقعة، فعليه أن يفارق كغيره، إذ ليس في مفارقته ضياع حقه، وعموم الآية يشمله، ولا تخصيص إلا بمخصص، والمسألة المقيس عليها غير ما نحن فيه، على ما فيها من الخلاف، كما حكى، ولا قياس مع النص، وقد حكى‏ الحاكم أقوالا كلها ترجع إلى تخصيص الآية، ولا مستند فيها إلا الرأي، والاحتمال، فلذا أعرضنا عنها.

7. قال أبو عليّ: تحريم القعود في المجلس لما فيه من الإبهام، فإذا أظهر الكراهة جاز القعود في مكان آخر، وإن قرب، وأما إذا خاضوا في حديث غيره، جاز القعود، بمفهوم الآية، ثم إن الآية محكمة عند الجمهور، وروي عن الكلبيّ، أنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 69]، وهو مردود، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها.

8. قال الحاكم: دلت الآية الكريمة على أن الراضي بالاستهزاء بالرسول والدين، كافر، لأنه تعالى قال:‏ ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ ودلت على أن الرضا بالكفر كفر.

9. وقال السمرقنديّ: في هذه الآية دليل على أن من جلس في مجلس معصية، ولم ينكر عليهم، فيكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم، إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها، فإن لم يقدر أن ينكر عليهم ينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.

10. قال في (فتح البيان): وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب، دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقيص والاستهزاء، للدلالة الشرعية، كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى (قال إمام مذهبنا: كذا) و(قال فلان من أتباعه بكذا) أو إذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبويّ، سخروا منه، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا، ولا بالوا به بالة، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع، مع أن الأئمة، الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم، برآء من فعلهم، فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم.

11. وفي (الإكليل): قال ابن الفرس، واستدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب اجتناب أهل المعاصي والأهواء، وفي هذه الآية أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر، والتنبيه عليه.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/374.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ قالوا: الخطاب عام لجميع من كان يظهر الإيمان من صادق ومنافق، والذي نزله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى في سورة الأنعام التي نزلت قبل هذه السورة لأنها مكية وهذه السورة مدنية ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: 68] نزلت هذه في مشركي مكة إذ كانوا يخوضون في الكفر وذم الإسلام والاستهزاء بالقرآن، وكان بعض المسلمين يجلسون معهم في هذه الحال ولا يستطيعون الإنكار عليهم لضعفهم وقوة المشركين، فأمروا بالإعراض عنهم، وعدم الجلوس إليهم في هذه الحال، ثم إن يهود المدينة كانوا يفعلون فعل مشركي مكة وكان المنافقون يجلسون معهم ويستمعون لهم فنهى الله المؤمنين على الإطلاق عن ذلك، ومجموع الآيتين يدل على أن بعض ما كان يخاطب به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يراد به أمته.

2. معنى: ﴿سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ سمعتم الكلام الذي موضوعه جعل الآيات في موضع السخرية والاستهزاء الذي يراد به التحقير والتنفير، بمجرد السفه وقول الزور.

3. ويدخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع كما روي عن ابن عباس، قال في (فتح البيان في مقاصد القرآن): وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى: قال إمام مذهبنا كذا وقال فلان من أتباعه بكذا، وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا، ولا يألوا به بالة، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع، وخطب شنيع، وخالف مذهب إمامه الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل، مقدما على الله وعلى كتابه وعلى رسوله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم، فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم، كما أوضح الشوكاني ذلك في (القول المفيد) و(أدب الطلب)، ويا ليت هؤلاء الذين جعلوا كلام شيوخهم أصلا للدين والكتاب والسنة فرعين أو مهملين يتبعون الأئمة الذين يدعون الانتساب إليهم وهم لا يعرفون هديهم ولا يتبعونهم، وإنما يتبع كل أهل عصر شيوخهم على جهلهم.

4. ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ هذا تعليل للنهي أي إنكم إن قعدتم معهم تكونون مثلهم وشركاء لهم في كفرهم، لأنكم أقررتموهم عليه ورضيتموه لهم، ولا يجتمع الإيمان بالشيء وإقرار الكفر والاستهزاء به، ويؤخذ من الآية: أن إقرار الكفر بالاختيار كفر، ويؤخذ منه: أن إقرار المنكر والسكوت عليه منكر، وهذا منصوص عليه أيضا، وأن إنكار الشيء يمنع فشوه بين من ينكرونه حتما، فليعتبر بهذا أهل هذا الزمان، ويتأملوا كيف يمكن الجمع بين الكفر والإيمان، أو بين الطاعة والعصيان، فإن كثيرا من الملحدين في البلاد المتفرنجة يخوضون في آيات الله ويستهزئون بالدين، ويقرهم على ذلك ويسكت لهم من لم يصل إلى درجة كفرهم، لضعف الإيمان والعياذ بالله تعالى.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/377.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعدئذ نهى الله تعالى المؤمنين أن يجلسوا مع من يتنقص الدين ويزدرى بأحكامه فقال: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ الخطاب موجه إلى كل من يظهر الإيمان سواء أكان مؤمنا حقا أم منافقا، وما نزله في الكتاب هو قوله في سورة الأنعام المكية: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ وقد كان بعض المسلمين يجلسون مع المشركين وهم يخوضون في الكفر وذم الإسلام والاستهزاء بالقرآن ولا يستطيعون الإنكار عليهم لضعفهم وقوة المشركين، فأمروا بالإعراض عنهم وعدم الجلوس معهم في هذه الحال، ثم إن يهود المدينة كانوا يفعلون فعل مشركي مكة، وكان المنافقون يجلسون معهم ويستمعون إليهم فنهى الله المؤمنين عن ذلك.

2. والخلاصة ـ إنكم إذا سمعتم الكلام الذي يتضمن جعل الآيات في موضع السخرية والاحتقار فابتعدوا عنهم، ولا ترجعوا إليهم حتى يعودوا إلى حديث آخر.

3. وفى الآية دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يدل على التنقص والاستهزاء بالأدلة الشرعية والأحكام الدينية كما يقع من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء العلماء بالكتاب والسنة ولم يبق في أيديهم إلا قال إمام مذهبنا كذا وقال فلان من أتباعه كذا، وإذا استدلّ أحد بآية قرآنية أو بحديث نبوى سخروا منه وظنوا أنه قد جاء بخطب شنيع، وجعلوا رأى إمامهم مقدما على ما نطق به الكتاب، وأرشدت إليه السنة.

4. ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ أي إنكم إن قعدتم معهم تكونوا شركاء لهم في الكفر، لأنكم رضيتم به ووافقتموهم عليه، وفى الآية إيماء إلى أن من يقر المنكر ويسكت عليه يقع في الإثم، وإلى أن إنكار الشيء يمنع من انتشاره بين الناس.

5. وقد وقع في هذا المنكر كثير من المسلمين، فإنهم يرون الملحدين في البلاد يخوضون في آيات الله ويستهزئون بالدين وهم يسكتون عن ذلك ولا يبدون إنكارا، ولا اشمئزازا ولا صدا ولا إعراضا.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/184.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلسا يسمع فيه آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، فيسكت ويتغاضى.. يسمي ذلك تسامحا، أو يسميه دهاء، أو يسميه سعة صدر وأفق وإيمانا بحرية الرأي! وهي هي الهزيمة الداخلية تدب في أوصاله؛ وهو يموه على نفسه في أول الطريق، حياء منه أن تأخذه نفسه متلبسا بالضعف والهوان!

إن الحمية للّه، ولدين الله، ولآيات الله، هي آية الإيمان وما تفتر هذه الحمية إلا وينهار بعدها كل سد؛ وينزاح بعدها كل حاجز، وينجرف الحطام الواهي عند دفعة التيار، وإن الحمية لتكبت في أول الأمر عمدا، ثم تهمد، ثم تخمد، ثم تموت!

2. فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس، فإما أن يدفع، وإما أن يقاطع المجلس وأهله، فأما التغاضي والسكوت فهو أول مراحل الهزيمة، وهو المعبر بين الإيمان والكفر على قنطرة النفاق!

3. وقد كان بعض المسلمين في المدينة يجلسون في مجالس كبار المنافقين ـ ذوي النفوذ ـ وكان ما يزال لهم ذلك النفوذ، وجاء المنهج القرآني ينبه في النفوس تلك الحقيقة.. حقيقة أن غشيان هذه المجالس والسكوت على ما يجري فيها، هو أولى مراحل الهزيمة، وأراد أن يجنبهم إياها.. ولكن الملابسات في ذلك الحين لم تكن تسمح بأن يأمرهم أمرا بمقاطعة مجالس القوم إطلاقا، فبدأ يأمرهم بمقاطعتها حين يسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها.. وإلا فهو النفاق.. وهو المصير المفزع، مصير المنافقين والكافرين: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾..

4. والذي تحيل إليه الآية هنا مما سبق تنزيله في الكتاب، هو قوله تعالى في سورة الأنعام ـ وهي مكية ـ ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾.. والتهديد الذي يرتجف له كيان المؤمن: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾

5. الوعيد الذي لا تبقى بعده بقية من تردد: ﴿إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾.. ولكن قصر النهي على المجالس التي يكفر فيها بآيات الله ويستهزأ بها، وعدم شموله لكل علاقات المسلمين بهؤلاء المنافقين، يشي ـ كما أسلفنا ـ بطبيعة الفترة التي كانت تجتازها الجماعة المسلمة ـ إذ ذاك ـ والتي يمكن أن تتكرر في أجيال أخرى وبيئات أخرى ـ كما تشي بطبيعة المنهج في أخذ الأمر رويدا رويدا؛ ومراعاة الرواسب والمشاعر والملابسات والوقائع.. في عالم الواقع.. مع الخطو المطرد الثابت نحو تبديل هذا الواقع!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/781.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. للنفاق مداخل كثيرة إلى القلوب، فهو يتدسّس إلى الإنسان في خفاء، ويتحسس مواطن الضعف منه فينفذ إليها، حتى يتمكن منها، وإذا المرء وقد عشش فيه النفاق، ثم باض وأفرخ، وإذا هو في المنافقين، لا يملك دفع هذا الداء الذي جثم على صدره، لهذا كان الإسلام حريصا على أن ينبّه المسلمين إلى هذا الخطر، ويحذّرهم من أن يلمّوا به، أو يحوموا حوله، حتى لا تصيبهم عدواه، فيتعذر شفاؤهم منه.. وفي طبّ الأجسام، أنّ الوقاية خير من العلاج، وهي في طبّ الأرواح أوجب وألزم.

2. ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ هو تنبيه للمسلمين من داء النفاق أن ينفذ إليهم إذا هم جلسوا مجلسا مع أعداء الله من المنافقين الكافرين، ثم ذكرت في هذا المجلس آيات الله على لسان هؤلاء المنافقين الكافرين، في معرض الاستهزاء والسخرية، ثم لم يكن من المسلمين إنكار لهذا المنكر ودفع له باليد أو اللسان ـ وذلك بأن يكونوا في حال ضعف لا يقدرون معه على مواجهة هؤلاء المجتمعين على المنكر،! والموقف الذي يجب أن يتخذه المؤمن في تلك الحال هو أن يخلص بنفسه من هذا المجلس الآثم، وألّا يستمع لهذا المنكر الذي يدور فيه.. فإنه إن لم يفعل، وسكت على ما يسمع ـ وهو مغلوب على أمره ـ كان صمته هذا ـ ولو في ظاهره ـ دليلا على رضاه، ومظاهرة لأهل المنكر على منكرهم، وليس ـ والحال كذلك ـ من شفيع يشفع له بأنه ليس من أهل هذا المجلس، يقتسم معهم الإثم الذي يدور بينهم، ويحمل نصيبه منه..

3. في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ إشارة إلى ما نزل قبل هذا من قرآن في مثل هذا الموقف، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: 68]، فهذه الآية هي توكيد لهذا التنبيه الذي سبق نزول القرآن به من قبل، وتحذير جديد لأولئك الذين لم ينتهوا عمّا نهوا عنه، والخطاب في الآية موجّه إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، هو أمر ملزم لأتباع النبيّ إذ كان النبيّ إمامهم وقدوتهم.

4. ﴿يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ هو حال كاشفة للصفة التي تدور بها آيات الله على ألسنة الكافرين والمنافقين.. وهي أنها تدور للسخرية والعبث.

5. ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ هو نهى للمسلمين عن الجلوس في هذا المجلس القائم على تلك الصفة، وليس نهيا عاما مطلقا على تجنب الجلوس مع المنافقين والكافرين، ففي ذلك إعنات للمؤمنين، فقد تستدعى أحوالهم أن يكونوا بحيث لا منصرف لهم عن الحياة مع هذه الجماعة، وتبادل المنافع معها! على أن من السلامة لدين المؤمن أن يتجنب مجالس هؤلاء القوم ما استطاع، فإذا مسّت هذه المجالس دينه بما يسوء، كان أمرا لازما عليه أن يتحول عن هذه المجالس في الحال، ولا يخلط نفسه بها، وإلّا حمل وزره من الإثم الذي يتعاطاه فيها أهل النفاق والكفر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ أي لا فرق بينكم أيها المؤمنون وبين هؤلاء الأثمة، الذين يهزؤون بآيات الله ويسخرون منها، إذا أنتم استمتعتم إلى هذا المنكر ولم تنكروه.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/937.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جملة ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ يجوز أن تكون معطوفة على جملة ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ تذكيرا للمسلمين بما كانوا أعلموا به ممّا يؤكّد التحذير من مخالطتهم، فضمير الخطاب موجّه إلى المؤمنين، وضمائر الغيبة إلى المنافقين، ويجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير (يتّخذون)، فيكون ضمير الخطاب في قوله: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ خطابا لأصحاب الصلة من قوله: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ [النساء: 139] على طريقة الالتفات، كأنّهم بعد أن أجريت عليهم الصلة صاروا معيّنين معروفين، فالتفت إليهم بالخطاب، لأنّهم يعرفون أنّهم أصحاب تلك الصلة، فلعلّهم أن يقلعوا عن موالاة الكافرين، وعليه فضمير الخطاب للمنافقين، وضمائر الغيبة للكافرين.

2. الذي نزّل في الكتاب هو آيات نزلت قبل نزول هذه السورة في القرآن: في شأن كفر الكافرين والمنافقين‏ واستهزائهم، قال المفسّرون: إنّ الذي أحيل عليه هنا هو قوله تعالى في سورة [68] الأنعام: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ لأنّ شأن الكافرين يسري إلى الذين يتخذونهم أولياء، والظاهر أنّ الذي أحال الله عليه هو ما تكرّر في القرآن من قبل نزول هذه السورة نحو قوله في البقرة: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ ممّا حصل من مجموعه تقرر هذا المعنى.

3. (أن) في قوله: ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ﴾ تفسيرية، لأنّ (نزّل) تضمّن معنى الكلام دون حروف القول، إذ لم يقصد حكاية لفظ (ما نزّل) بل حاصل معناه، وجعلها بعضهم مخفّفة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوفا، وهو بعيد.

4. إسناد الفعلين: ﴿يُكَفِّرَ﴾ و﴿يُسْتَهْزَأُ﴾ إلى المجهول لتتأتّى، بحذف الفاعل، صلاحية إسناد الفعلين إلى الكافرين والمنافقين، وفيه إيماء إلى أنّ المنافقين يركنون إلى المشركين واليهود لأنّهم يكفرون بالآيات ويستهزئون فتنثلج لذلك نفوس المنافقين، لأنّ المنافقين لا يستطيعون أن يتظاهروا بذلك للمسلمين فيشفي غليلهم أن يسمع المسلمون ذلك من الكفّار.

5. جعل زمان كفرهم واستهزائهم هو زمن سماع المؤمنين آيات الله، والمقصود أنّه زمن نزول آيات الله أو قراءة آيات الله، فعدل عن ذلك إلى سماع المؤمنين، ليشير إلى عجيب تضادّ الحالين، ففي حالة اتّصاف المنافقين بالكفر بالله والهزل بآياته يتّصف المؤمنون بتلقّي آياته والإصغاء إليها وقصد الوعي لها والعمل بها.

6. أعقب ذلك بتفريع النهي عن مجالستهم في تلك الحالة حتّى ينتقلوا إلى غيرها، لئلّا يتوسّل الشيطان بذلك إلى استضعاف حرص المؤمنين على سماع القرآن، لأنّ للأخلاق عدوى، وفي المثل (تعدي الصّحاح مبارك الجرب)

7. هذا النهي يقتضي الأمر بمغادرة مجالسهم إذا خاضوا في الكفر بالآيات والاستهزاء بها، وفي النهي عن القعود إليهم حكمة أخرى: وهي وجوب إظهار الغضب لله من ذلك كقوله: ﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الممتحنة: 1]

8. (حتّى) حرف يعطف غاية الشيء عليه، فالنهي عن القعود معهم غايته أم يكفّوا عن الخوض في الكفر بالآيات والاستهزاء بها.

9. هذا الحكم تدريج في تحريم موالاة المسلمين للكافرين، جعل مبدأ ذلك أن لا يحضروا مجالس كفرهم ليظهر التمايز بين المسلمين الخلّص وبين المنافقين، ورخّص لهم القعود معهم إذ خاضوا في حديث غير حديث الكفر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾ [التوبة: 23، 24]

10. جعل جواب القعود معهم المنهي عنه أنّهم إذا لم ينتهوا عن القعود معهم يكونون مثلهم في الاستخفاف بآيات الله إذ قال: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ فإنّ (إذن) حرف جواب وجزاء لكلام ملفوظ به أو مقدّر، والمجازاة هنا لكلام مقدّر دلّ عليه النهي عن القعود معهم؛ فإنّ التقدير: إن قعدتم معهم إذن إنّكم مثلهم، ووقوع إذن جزاء لكلام مقدّر شائع في كلام العرب كقول العنبري:

çلو كنت من مازن لم تستبح إبلي‏...بنو اللقيطة من ذهل شيبانا

إذن لقام بنصري معشر خشن‏...عند الحفيظة إن ذو لوثة لاناé

قال المرزوقي في (شرح الحماسة): (وفائدة (إذن) هو أنّه أخرج البيت الثاني مخرج جواب قائل له: ولو استباحوا ماذا كان يفعل بنو مازن؟ فقال: إذن لقام بنصري معشر خشن)، قلت: ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: 48]، التقدير: فلو كنت تتلو وتخطّ إذن لارتاب المبطلون، والثاني مخرج جواب قائل له: ولو استباحوا ماذا كان يفعل بنو مازن؟ فقال: (إذن لقام بنصري معشر خشن)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: 48]، التقدير: فلو كنت تتلو وتخطّ إذن لارتاب المبطلون، فقد علم أنّ الجزاء في قوله: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ عن المنهي عنه لا عن النهي، كقول الراجز، وهو من شواهد اللغة والنحو.

11. فقد علم أنّ الجزاء في قوله: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ عن المنهي عنه لا عن النهي، كقول الراجز، وهو من شواهد اللغة والنحو:

çلا تتركنّي فيهم شطيرا...أنّي إذن أهلك أو أطيراé

12. الظاهر أنّ فريقا من المؤمنين كانوا يجلسون هذه المجالس فلا يقدمون على تغيير هذا ولا يقومون عنهم تقية لهم فنهوا عن ذلك، وهذه المماثلة لهم خارجة مخرج التغليظ والتهديد والتخويف، ولا يصير المؤمن منافقا بجلوسه إلى المنافقين، وأريد المماثلة في المعصية لا في مقدارها، أي أنّكم تصيرون مثلهم في التلبّس بالمعاصي.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/285.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن أولئك المنافقين لفرط كفرهم وإيغالهم في البعد عن الله يشاركون الذين يثيرون السخرية عند تلاوة القرآن، ولذا قال سبحانه: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا﴾ إن المنافقين يوالون الكفار ويجعلون الولاية لهم، ويجلسون معهم مستهزئين ساخرين معاندين الله تعالى مع أنه سبحانه وتعالى نزل في كتابه المحكم أنكم إذا سمعتم أيها المخاطبون بالحقائق الإسلامية الذين يتحدثون ساخرين بالقرآن، فلا تقعدوا بل اتركوا مجلسهم وأعرضوا عنهم حتى يخوضوا أي يتكلموا في حديث غيره، والذى نزل في القرآن ونهى عن الجلوس مع الذين يستهزءون بما جاء به هو في سورة الأنعام المكية التي نزلت قبل سورة النساء المدنية، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام‏]

2. الخطاب في قوله تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ لعامة الذين يتلون القرآن الكريم من مؤمنين صادقين، ومنافقين، ومؤدى الكلام أنه من المنهى عنه أن يجلس المسلم مع مثير السخرية على آي القرآن، والمشركون يفعلون ذلك، ومع ذلك لا يكتفى المنافقون بهذا، بل إنهم يولونهم أمورهم، ويجعلون عزتهم منهم، ويكون ضمير الغيبة عائدا على الكافرين، وبعض العلماء قال إن الخطاب للمنافقين وهو لا يخرج عن المعنى السابق، وأرى أن الخطاب كله للمؤمنين، وفيه تحذير للمؤمنين من أن يجالسوا المنافقين إذا استهزءوا بآيات الله تعالى، وسخروا من الأحكام الإسلامية؛ لأن سماع الشر شر؛ ولأن سماع الاستهانة بالقرآن قد تؤدى إلى الاستهانة من السامع، فأول الشر سماع الشر، وإن أولئك المنافقين يبدو في مجالسهم كلمات الكفر وكلمات الاستهزاء، وعلى ذلك يكون ضمير الخطاب للمؤمنين وضمير الغيبة للمنافقين والكافرين.

3. وقد بين سبحانه أن القعود مع الأشرار، وسماع كلمات الكفر والاستهزاء، يجعل المؤمن كالكافر والمنافق، ولذا قال سبحانه: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ أي إنكم أيها المؤمنون إن استمعتم إلى الكفار والمنافقين وهم يعلنون الكفر بآيات الله تعالى وجحودها تكونون مثلهم في الاستهانة بكتاب الله تعالى ورسالة الرسول الأمين، والاستهانة بالأحكام الإسلامية، وقد رأينا ذلك عيانا، فإن أولئك الذين يجالسون الفرنجة ويقرءون ما يكتبون عن الإسلام، ويثيرون السخرية على أحكامه تسرى إليهم العدوى، ولقد سمعنا بعض هؤلاء ممن يتسمى باسم إسلامي وهو من أسرة إسلامية، يتهكم على قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء] فلعنه الله تعالى، ولعنة الله على كل من لا يؤمن بسلامة هذه القضية، ولعنة الله على كل من ينكر ميراث القرآن أو يهون من شأنه.

4. إن الآية يستفاد منها فوائد:

أ. أولها: أن الاستهزاء بالحقائق القرآنية لا يقدم عليه مؤمن.

ب. ثانيها: أن الاستماع إلى الكفر بها والاستهزاء يجعل السامع كالمتكلم؛ لأن السكوت لا يخلو من رضا ولو كان جزئيا.

ج. ثالثها: أن الشر يسرى من القائل إلى السامع كما يسرى السم في الجسد، وكما يجرى الشيطان في النفس.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1912.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ﴾ ـ أي من قبل ـ ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾، هذه الآية المدنية تذّكر المسلمين بآية نزلت في مكة قبل الهجرة إلى المدينة، وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الانعام: 68]، أما سبب هذا التذكير فهو ان بعض المسلمين ـ كما جاء في التفاسير ـ كانوا يجلسون في مجالس المشركين بمكة، وهم يخوضون في ذم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويستهزئون بالقرآن، والمسلمون ضعاف، لا يستطيعون الإنكار عليهم.. فنزلت آية الانعام تحذر المسلمين من المشركين، وتأمرهم أن يعرضوا عنهم وعن مجالسهم حين يسمعون الكفر والاستهزاء بآيات الله، وتمضي الأيام، ويهاجر المسلمون إلى المدينة، وفيها يهود ومنافقون أظهروا الإسلام، وأضمروا الكفر، وأعاد بعض المسلمين السيرة الأولى، وجالسوا اليهود والمنافقين بالمدينة، وهم يخوضون في ذم الإسلام ونبيه، فنزلت هذه الآية المدنية التي نفسرها، لتذكر المسلمين بآية الانعام السابقة، وتأمرهم بمقاطعة الكافرين والمنافقين المستهزئين بآيات الله.

2. وأيا كان سبب نزول الآية، أو المخاطب بها فإنها عامة الدلالة على وجوب الاعراض عن كل من يخوض بالباطل، ولا يختص هذا الوجوب بمن كان يجالس الكافرين في مكة، والمنافقين في المدينة، ولا بمن خوطب بهذه الآية بناء على انها موجهة لخاص، لا لعام، وفي الحديث: الوحدة خير من قرين السوء، وفي ثان: إياكم ومجالسة الموتى، فقيل: ومن هم الموتى يا رسول الله؟، قال كل ضال عن الايمان، جائر في الأحكام، وفي نهج البلاغة: (مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان ومحضرة للشيطان)

3. ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾، الراضي بالكفر كافر، وبالإثم آثم، مهما كان نوعه باتفاق الفقهاء والعلماء، وقد تواتر الحديث: (العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به شركاء).. وبالأولى من رضي بالكفر، وفي نهج البلاغة: (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه، وعلى كل داخل إثمان، إثم العمل به، وإثم الرضا به)

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/464.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ﴾ إلى قوله: ﴿مَثَلُهُمْ﴾ يريد ما نزله في سورة الأنعام: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ فإن سورة الأنعام مكية، وسورة النساء مدنية، ويستفاد من إشارة الآية إلى آية الأنعام أن بعض الخطابات القرآنية وجه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، والمراد بها ما يعم الأمة.

2. ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ تعليل للنهي أي بما نهيناكم لأنكم إذا قعدتم معهم ـ والحال هذه ـ تكونون مثلهم.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/117.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ هذا خطاب للمؤمنين أو لهم ولكل من قد أسلم ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا﴾ أي إذا سمعتم ذكرها والكفر بها والاستهزاء بها وأصل الكلام: آياتُ الله يُكْفَر بها ويُستهزَأبها مبتدأ وخبر، فنسخه ﴿سَمِعْتُمْ﴾ مفعولين بهما لـ (سمعتم) على طريقة (ظن وأخواتها) في نسخ المبتدأ والخبر، وقد عد صاحب الأجرومية (سمعت) من أخوات (ظننت) وهو واضح هنا.

2. والمنزل قوله تعالى في (سورة الأنعام): ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ الآية [آية:68] وفي مجموع الآيتين دلالة على: أن خطاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في مثل هذا يكون حكمه عاماً له ولأمته إلا ما خصه دليل ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ إذاً إذا قعدتم معهم وأنتم تسمعونهم يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها مثلهم في الإثم، وهذا يكفي في الزجر عن ذلك.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/191.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية تذكير بالآية الثامنة والستين من سورة الأنعام التي سبقت هذه الآية في النزول، لأنها نزلت في مكة ـ قبل الهجرة ـ وهي قوله‏ تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 68]، فقد نزلت هذه الآية لتحدّد للمسلمين المجالس التي لا يجوز لهم الجلوس فيها، وهي المجالس التي يدور الخوض فيها بطريقة سلبية في ذم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والتشكيك بالقرآن أو الإنكار والاستهزاء، في الوقت الذي لا يملك فيه المسلمون قوّة تتيح لهم الردّ الحاسم على المشركين الذين يثيرون هذا النوع من الحديث ويخوضون فيه، فلا بد لهم من الانسحاب منها إذا بدأ الحديث بهذه الطريقة، للتعبير عن الرفض لذلك والاحتجاج عليه، لأن ذلك هو السبيل الوحيد في إظهار التصميم على الصمود في خط الإيمان وقد واجه المسلمون هذا النوع من المجالس في المدينة، وذلك في مجتمع اليهود والمنافقين، الذين كانوا يحاولون الخوض في آيات الله بالطريقة نفسها، وجاءت هذه الآية لتذكر المؤمنين بأن الموقف الآن في المدينة هو الموقف السابق في مكة، وفي كل موقف مماثل في كل زمان ومكان، فلا بد للمسلم أن يعبّر عن رفضه لهذه الأحاديث المضادة للحق وأهله، إمّا بالردّ الحاسم إذا كان يملك القوّة على الرد، أو الانسحاب من المجلس إلى أن ينتهي هذا الحديث وينتقل الجالسون إلى غيره.

2. أمّا إذا لم يفعلوا ذلك، واستمروا في الجلوس في المجلس من دون خوف ولا ضرورة، فإن الموقف يتحوّل إلى موقف نفاق متمثل في سلوك صاحبه الذي يحاول أن يظهر مع الكافرين بمظهر الراضي بكلامهم المنسجم مع أحاديثهم طلبا لمرضاتهم أو طمعا في أموالهم، وعليه أن ينتظر في نهاية المطاف في الآخرة عذاب جهنم الذي أعده الله للمنافقين والكافرين، لأن القضية تتصل بالواقع على مستوى النتائج المتحركة في موقف الكفر في ساحة القوة لا على مستوى الكلمات التي لا تتحول إلى موقف، فإن الله‏ يرفض الكفر ويرفض تشجيع الكافرين على الامتداد في كفرهم ومجاملتهم في التعبير عن أحقادهم ضد الإسلام، لأن الذين يجاملونهم ويداهنونهم يعبرون عن تجاوبهم وانسجامهم مع المضمون الكافر الساخر بالإسلام وأهله؛ الأمر الذي يحمل دلالة كبيرة على أن روحية هذا الإنسان الذي يتمظهر بمظهر الإسلام، تتفق مع روحية الكفر والكافرين، فإن المسلم الحق لا يمكن أن يتقبل الإساءة إلى دينه وإلى مقدساته من دون أن يعبّر عن رفضه بكل الوسائل الإيجابية والسلبية الموجودة عنده.

3. وفي ضوء ذلك، نفهم أن الإسلام لا يريد أن يفرض على المسلمين العزلة عن مجتمعات الكفر، لا سيّما إذا كانت لديهم مصالح ثقافية واقتصادية وأمنية تتصل بهم، ولكنه يريد لهم أن لا يواجهوا التحديات الكافرة بموقف ضعف واستسلام واستخذاء، بل يريد لهم أن يعبّروا عن رفضهم لذلك بالطريقة المذكورة، وهي الخروج من المجلس باعتبار أنه أضعف الإيمان.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/509.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نقل عن ابن عباس أنّ نفرا من المنافقين كانوا يحضرون اجتماعات لعلماء اليهود، حيث كانوا يستهزئون بآيات القرآن في تلك الاجتماعات، فنزلت هذه الآية وأوضحت النهاية المشؤومة لهذه اللقاءات.

2. لقد ورد في الآية من سورة الانعام أمر صريح إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أن يعرض عن أناس يستهزئون بآيات القرآن ويتكلمون بما لا يليق، وطبيعي أنّ هذا الحكم لا ينحصر بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحده بل يعتبر حكما وأمرا عاما يجب على جميع المسلمين اتّباعه، وقد جاء هذا الحكم على شكل خطاب موجه إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفلسفته جلية واضحة، لأنّه يكون بمثابة كفاح سلبي ضد مثل تلك الأعمال.

3. والآية هذه تكرر الحكم المذكور مرّة أخرى، وتحذر المسلمين مذكرة إياهم بحكم سابق في القرآن نهى فيه المسلمون عن المشاركة في مجالس يستهزأ فيها ويكفر بالقرآن الكريم، حتى يكفّ أهل هذه المجالس عن الاستهزاء ويدخلوا في حديث آخر، تقول الآية: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾

4. بعد ذلك تبيّن الآية لنا نتيجة هذا العمل، وتؤكد أن من يشارك في مجالس الاستهزاء بالقرآن فهو مثل بقية المشاركين وسيكون مصيره نفس مصير أولئك المستهزئين، تقول الآية: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾

5. إنّ الآية تخبرنا عن عدة أمور:

أ. إنّ المشاركة في مجالس المعصية تكون بمثابة المشاركة في ارتكاب المعصية، حتى لو بقي المشارك ساكتا أو ساكنا ولم يشارك في الاستهزاء بنفسه، لأنّ السكوت في مثل هذه الأحوال دليلا على رضا صاحبه بالذنب المرتكب.

ب. لو تعذر النهي عن المنكر بالشكل الإيجابي له، فلا بدّ أن يتحقق النهي ولو بالصورة السلبية، مثل أن يبتعد الإنسان عن مجالس المعصية ويتجنب الحضور فيها.

ج. إنّ الذين يشجعون أهل المعاصي بسكوتهم وحضورهم في مجالس المعصية، إنّما يجازون ويعاقبون بمثل عقاب العاصين أنفسهم.

د. لا ضير من مجالسة الكفار إن لم يدخلوا في حديث فيه استهزاء وكفر بالآيات الإلهية ولم تكن هذه المجالسة تحمل خطرا آخر، ويدل على إباحة المشاركة في مجالس الكفار التي لا يعصون فيها الله قوله تعالى في الآية: ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾

هـ. إنّ المجاملة والمداهنة مع العاصين المذنبين، إنّما تدل على وجود روح النفاق لدى الشخص المجامل، وذلك لأن المسلم الحقيقي الواقعي لا يمكنه أن يشارك في مجلس يعصى فيه الله ويستهزأ بآياته الكريمة وأحكامه السامية، دون أن يبدي اعتراضا على هذه المعاصي، أو ـ على الأقل ـ أن عدم رضاه عليها بترك هذا المجلس.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/495.

123. المنافقون وصفاتهم وجزاؤهم

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈123⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 140 ـ 141]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنه قيل له: أرأيت هذه الآية: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾، وهم يقاتلونا؛ فيظهرون، ويقتلون؟ فقال: ادنه، ادنه، ثم قال: ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾، في الآخرة(2).

3. روي أنه قيل له: أرأيت قول الله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾، الكافر يقتل المؤمن، والمؤمن يقتل الكافر؟ قال علي: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ﴾ يوم القيامة ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾(3).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٧٥.

(2) ابن جرير ٧/٦١٠.

(3) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٥.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾، ذاك يوم القيامة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني: أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿سَبِيلًا﴾ يعني: ظهورا عليهم(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦١٠.

(2) تفسير الثعلبي ٣/٤٠٤.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ﴾ من أهل المدينة، والمشركين من أهل مكة، الذين خاضوا واستهزؤوا بالقرآن ﴿فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾(1).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ هم المنافقون، يتربصون بالمؤمنين، ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ﴾ إن أصاب المسلمون من عدوهم غنيمة قال المنافقون: ألم نكن قد كنا معكم؟ فأعطونا من الغنيمة مثل ما تأخذون(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ يصيبونه من المسلمين(1).

3. روي أنّه قال: قال المنافقون للكفار: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ ألم نبين لكم أنا على ما أنتم عليه!؟(1).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى ابن جرير، وابن المنذر.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾، هم المنافقون(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٤.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ معناه نغلب عليكم(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 123.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾، نغلب عليكم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿سَبِيلًا﴾، حجة(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٠٧.

(2) ابن جرير ٧/٦١١.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾، إن الله جامع المنافقين من أهل المدينة، والمشركين من أهل مكة، الذين خاضوا واستهزءوا بالقرآن ﴿فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٤.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ﴾ المنافقون يتربصون بالمسلمين، ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ﴾ إن أصاب المسلمون من عدوهم غنيمة قال المنافقون: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ قد كنا معكم؛ فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون، ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ يصيبونه من المسلمين، قال المنافقون للكافرين: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قد كنا نثبطهم عنكم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ يصيبونه من المسلمين(1).

3. روي أنّه قال: قال المنافقون للكافرين: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾: ألم نبين لكم أنا معكم على ما أنتم عليه!؟(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، قد كنا نثبطهم عنكم(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٠٧.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم أخبر سبحانه عن المنافقين، فقال عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ الدوائر، ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ﴾ معشر المؤمنين ﴿فَتْحٌ مِنَ اللهِ﴾ يعني: النصر على العدو يوم بدر؛ ﴿قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ على عدوكم؛ فأعطونا من الغنيمة، فلستم أحق بها، فذلك قوله سبحانه في العنكبوت: ﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ على عدوكم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾، يعني: دولة على المؤمنين يوم أحد(1).

3. روي أنّه قال: ﴿قَالُوا﴾ أي: المنافقون للكفار: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ يعني: ألم نحط بكم من ورائكم(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: ونجادل المؤمنين عنكم، فنحبسهم عنكم، ونخبرهم أنا معكم، قالوا ذلك جبنا وفرقا منهم، قال الله تعالى: ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾(1).

5. روي أنّه قال: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾، يعني: حجة أبدا(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٦.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ الآية، لأنهم كانوا معهم في السر والحقيقة، وإن كانوا يظهرون للمؤمنين الموافقة باللسان؛ فهذا يدل على أن الحقائق في العواقب هو ما يسر المرء ويضمر، ليس ما يظهر؛ لأن المنافقين كانوا مع المؤمنين في الظاهر في جميع الأحكام: في الأنكحة، والعقود كلها، وإظهار الإيمان لهم باللسان، لكنهم إذا أضمروا خلاف ما أظهروا ـ لم ينفعهم ذلك؛ دل أن الحقائق في العواقب ما يسر ويضمر.

2. قوله عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: يتربصون الغنيمة والنصر، فإن كان الفتح للمؤمنين قالوا: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ في الإيمان والأحكام كلها؛ يطلبون الغنيمة والاشتراك فيها؛ كقوله تعالى: ﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾ الآية، وإذا كانت الدبرة والبوار على المؤمنين للكافرين يقولون: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بقولهم: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾، وكقوله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ الآية: كانوا بين المسلمين كعيون لهم؛ يخبرونهم عن عوراتهم، ويطلعونهم على مقصود المؤمنين؛ فذلك مَنْعُهم من المؤمنين واستحواذهم عليهم.

ب. ويحتمل: ﴿يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾، يعني: أمر مُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه عندهم بألا يدوم ذلك، بل ينقطع عن قريب.

3. يحتمل: ﴿يَتَرَبَّصُونَ﴾ ما ذكر من قوله تعالى: ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ﴾، ثم خرج تأويله في قوله: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾، ثم خص ذلك بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ﴾ الآية؛ فبين أنهم يتربصون بهم انقلاب الأمر ورجوعه إلى أعداء الله؛ فمتى ظهرت لهم العواقب ـ أظهروا الذي له كان دينهم في الحقيقة ـ أنه كان لسعة الدنيا ونعيمها؛ كقوله عز وجل: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ الآية.

4. قوله عز وجل: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ الآية، يحتمل هذا ـ أيضًا ـ وجهين:

أ. يحتمل: لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا في الحجج في الدنيا، أي: ليس للكافرين الحجة على المؤمنين في الدنيا من شيء إلا أن يموه عليه، ويفتعل به ويعجز المؤمن في إقامة الحجة عليه، ودفع تمويهاته؛ وإلا ليس للكافر حجة يقيمها على المؤمن في الدنيا.

ب. ويحتمل: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ في الآخرة، على دفع شهادتهم التي شهدوا عليهم؛ لأن أمة مُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم يشهدون عليهم؛ كقوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾، ثم لا سبيل لهم على دفع شهادتهم التي شهدوا عليهم، وردها.

ج. وأيضًا: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾: في الحجة، أو في الشهادة، أو عند الله في الخصومة، وإنما دعوا إلى كتبهم إذا أجابوا الله فيما دعاهم إلى الإيمان بالكتب والرسل عليهم السلام أو في النصر؛ فيرجع أمره إلى العواقب.

5. ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ الاستحواذ: الغلبة، وقيل: الاستيلاء، وقَالَ بَعْضُهُمْ: ألم نخبركم بعورة مُحَمَّد وأصحابه ونطلعكم على سرهم، ونكتب به إليكم!؟ وعن ابن عَبَّاسٍ: ألم نحط من وراءكم!؟ وفي حرف ابن مسعود: (ألم نستحوذ عليكم ومنعناكم من المؤمنين!؟)، قال الكسائي: هذا في كلام العرب كثير ظاهر، ومعنى ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ﴾ ـ إنا استحوذنا ومنعناكم، وهو ظريف، وأصل الاستحواذ الغلبة والقهر، وهو ما ذكرنا أنهم يُجبنونَ أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقولون: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾

6. ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وحكم الله بينهم هو أن يُنزل المؤمنين الجنة، والمنافقين النار، ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ في الحجة؛ على ما ذكرنا، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ: قال حجة، وقيل: ظهورًا عليهم، لكن الأول أشبه، ويحتمل ما ذكرنا من الشهادة ـ أنه جعل يوم القيامة للمؤمنين الشهادة عليهم، ولم يجعل لهم إلى دفعها وردها على أنفسهم سبيلا.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٩٣.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ يعني المنافقين ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ أي فأعطونا من الغنيمة.

2. ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ أي لم نستول عليكم بالمعونة والنصرة ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالتخذيل عنكم.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/198.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ يعني المنافقين، ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ أي فأعطونا من الغنيمة، ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ فيه ثلاث تأويلات:

أ. أحدها: معناه ألم نستول عليكم بالمعونة والنصرة ونمنعكم من المؤمنين بالتخذيل عنكم.

ب. الثاني: معناه ألم نبين لكم أننا على دينكم، وهذا قول ابن جريج.

ج. الثالث: معناه ألم نغلب عليكم، وهو قول السدي، وأصل الاستحواذ الغلبة، ومنه قوله تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾ يعني غلب عليهم.

2. في قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: يعني حُجّة، وهذا قول السدي.

ب. الثاني: سبيلاً في الآخرة، وهذا قول عليّ، وابن عباس.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٣٨).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ معناه ان الله يجمع الفريقين من أهل الكفر، والنفاق في القيامة في النار، والعقوبة فيها كما اتفقوا في الدنيا على عداوة المؤمنين، والمؤازرة عليهم، قال الجبائي: في الآية دلالة على بطلان قول الأصم، ونفاة الأعراض وقولهم: انه ليس ها هنا غير الأجسام، لأنه‏ قال: ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ فاثبت غيراً لما كانوا فيه، وذلك هو العرض.

2. ﴿الَّذِينَ﴾ في موضع خفض صفة للمنافقين والكافرين في قوله: ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ﴾، أخبر الله تعالى عن هؤلاء المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين إلى ينتظرون بهم فإن فتح الله على المؤمنين فتحاً من عدوهم، فأفاء عليهم فيئاً من الغنائم، قالوا لهم: ألم نكن معكم نجاهد عدوكم ونغزوهم معكم، فاعطونا نصيبنا من الغنيمة، فإنا شهدنا القتال وان كان للكافرين نصيب أي حظ باصابتهم من المؤمنين، وليس المراد بذلك ان لهم نصيباً من الله، لأنه تعالى لم يجعل لهم غلبة المسلمين، ولا أباح لهم شيئاً من أموالهم، بل حظر ذلك عليهم.

3. ﴿قَالُوا﴾ يعني قال المنافقون للكافرين:

أ. ألم نستحوذ عليكم بمعنى ألم نغلب عليكم؟ في قول السدي.

ب. وقال ابن جريج: معناه ألم نبين لكم أنا على ما أنتم عليه والاستحواذ الغلبة ومنه قوله: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ﴾ ومعناه غلب عليهم، يقال منه: حاذ عليه يحوذ، واستحاذ يستحيذ، وحاذ يحيذ، قال العجاج يصف ثوراً وكلاماً: (يحوذهن وله حوذي‏) وأنشده أبو عبيدة والاصمعي بالزاي يحوزهنّ وله حوزي والمعنيان‏

çخوف الخلاط فهو اجنبي...كما يحوذ الفئة الكميé

متقاربان، وقال لبيد في صفة عير وأتن على احاذ:

çإذا اجتمعت واحوذ جانبيها...وأوردها على عوج طوال‏é

العوج الطوال القوائم، وقيل: هي النخيل الطوال، فمعنى احوذ جانبيها لم يشذ منها شيء والاحوذ: الجاد المنكمش الخفيف في أموره كلها، وكان القياس يقتضي أن يقول: استحاذ، لأن الواو إذا كانت عين الفعل وكانت محركة بالفتح، وما قبلها ساكن تقلب حركتها إلى فاء الفعل وقلبوها الفاً اتباعا لحركة ما قبلها، كقولهم: استحاذ واستبان واستنار واستعاذ بالله وها هنا تركت على الأصل وهي لغة القرآن.

4. ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني يقول المنافقون الكافرون منعنا المؤمنين منكم بتخذيلنا إياهم، واطلاعنا إياكم على اخبارهم، وكوننا عيونا لكم حتى انصرفوا عنكم وغلبتموهم.

5. ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ إخبار منه تعالى انه الذي يحكم بين الخلائق يوم القيامة ويفصل بينهم بالحق، وينصر المؤمنين‏.

6. ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ أي بالغلبة والقهر، وان حملناه على دار الدنيا يمكن حمله على انه لا يجعل لهم عليهم سبيلا بالحجة، وان جاز ان يغلبوهم بالقوة، لكن المؤمنين منصورون بالحجة والدالة، وبالتأويل الاول قال علي عليه السلام: والسدي وأبو مالك وابن عباس، قال السدى: السبيل ـ ها هنا ـ الحجة، وبالثاني قال الزجاج والجبائي والبلخي، وقال الجبائي: ولو حملنا ذلك على الغلبة، كان أيضاً صحيحاً، لأن غلبة الكفار للمؤمنين ليس مما فعله الله، لأن ذلك قبيح، والله لا يفعل القبيح، وليس كذلك غلبة المؤمنين للكفار، لأنه حسن وطاعة، فكان ذلك منسوباً إلى الله تعالى.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/363.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. التربص: الانتظار، يقال: لي في هذا رُبْصَةٌ، أي: انتظار.

ب. الاستحواذ قيل: أصله الحوط، يقال: حاده يحوده حودًا، بمعنى حاطه يحوطه حوطًا، وقيل: أصله الاستيلاء، عن الزجاج، وهما متقاربان؛ لأن المستولي على الشيء بمنزلة المحيط به، قال العجاج: (يَحُوذُهُنَّ وله حُوذِيُّ)، ويقال: أحوذ الرجل ثوبه إذا استولى عليه في ضمه إليه، ويقال: حاذها إذا ساقها بعنف، والإحواذ: السير السريع، والأحوذي: الخفيف.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾:

أ. قيل: كانوا قد اجتمعوا على الاستهزاء بالآيات، فجمعهم الله تعالى في العذاب.

ب. وقيل: كانوا قد انقطعوا إليهم التماسًا للعزة بيد أن جميعهم يصيرون إلى العذاب المهين الأليم، عن أبي مسلم.

3. ثم أخبر الله تعالى عن سوء أفعال المنافقين عطفا على ما تقدم من ذلك، فقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ﴾ يعني المنافقين ﴿يَتَرَبَّصُونَ﴾ أي: ينتظرون ﴿بِكُمُ﴾ أيها المؤمنون يعني بأمركم ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ﴾ غنيمة وظفر على الأعداء ﴿قَالُوا﴾ يعني المنافقين يقولون للكافرين.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾:

أ. قيل: ألم نستول عليكم، بالنصر والمعونة لكن من جهة مراسلتنا إياكم بأخبار عدوكم وتخذيلنا عنكم.

ب. وقيل: ألم نطلعكم على إسرار محمد وأصحابه حتى غلبتم عليهم، وخذلناهم، فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم، عن الحسن وابن جريج.

5. ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: ندفع صولة المؤمنين بألا ننصرهم ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يعني بين المؤمنين والمنافقين، فيدخل المؤمنين الجنة، ويخلد المنافقين في النار.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾:

أ. قيل: حجة عن السدي وجماعة، ثم اختلفوا على أقوال قيل: في الآخرة، عن علي وابن عباس.

ب. وقيل: في الدنيا وقتالهم، وأخذ أموالهم وإخراجهم عن أوطانهم، وسبيهم، عن أبي علي.

ج. وقيل: في الآخرة يرفع المشاركة في النعم بخلاف الدنيا، عن الحسن.

د. وقيل: لن يجعل الله للكافرين ظهورًا على أصحاب محمد، عن ابن عباس.

هـ. وقيل: حجة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

و. وقيل: نصرًا عليهم؛ لأنهم وإن غُلبوا فالعاقبة لهم.

7. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن عذاب الكافر والمنافق مقطوع به.

ب. أنه تعالى يحكم بين عباده يوم القيامة، وحكمه أن المؤمن في الجنة والكافر في النار.

ج. أنه لم يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين، وقد علمنا أنه تعالى جعل لهم على المؤمنين في أشياء طرقًا كالمهر والنفقة، وقبض الدين والشفعة وغيرها، ولا بد من حمله على أحد وجهين: إما على الأحكام للآخرة أو الحجة والنصرة على ما بَيّنا.

د. استدل جماعة من الفقهاء بالآية في مسائل نشير إلى بعضها:

منها: إذا اشترى الكافر عبدًا مسلمًا جاز البيع، ويجبر على بيعه عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: لا يجبر على البيع، واستدل بالآية، ونحن نقول: لا سبيل للكافر عليه؛ لأنه يحال بينهما، أو تلزمه نفقته، ولا يمكن من استخدامه، وبجبر على بيعه، وإنما له ملك الرقبة، وذلك في الإرث جائز بالاتفاق.

ومنها: إذا ارتد أحد الزوجين بانت في الحال، واستدل بالآية، قال الشافعي: إن كانت غير مدخول بها بانت في الحال، وإن كانت مدخولاً بها لا تبين حتى تحيض ثلاث حيض.

ومنها: إذا هاجرت مسلمة إلى دار الإسلام فلا عدة عليها عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: عليها العدة، واستدل أبو حنيفة بالآية.

ومنها: إذا تزوج كافر مسلمة أجمعوا أنه لا يجوز، واستدلوا بالآية أيضًا.

ومنها: لا يجوز أن يكون شاهدًا على المؤمن ولا قاضيًا ولا وليًا، ولا شيئًا مما فيه ولاية للآية.

8. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ﴾ جر على الإضافة، فإن نونت ﴿جَامِعٍ﴾ صار ﴿الْكَافِرُونَ﴾ في موضع نصب، كقولك: جامع الناس.

ب. قال النحويون ﴿اسْتَحْوَذَ﴾ خرج على الأصل من غير إعلال، كما أعل استعاذ واستطاع) وما أشبه ذلك، وقيل: (استحاذ يستحيذ) على قياس الباب، والأول أحسن؛ لأنه الإعلال وبقي هذا على الأصل إشعارًا به، وهو (حاذ يحوذ)

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/120.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. التربص: الانتظار.

ب. الاستحواذ: الغلبة والاستيلاء، يقال حاذ الحمار أتنه: إذا استولى عليها وجمعها، وكذلك حازها، قال العجاج يصف ثورا وكلابا (يحوذهن وله حوذي) وروي (يحوزهن وله حوزي)، واستحوذ مما خرج عن أصله، فمن قال أحاذ يحيذ، لم يقل إلا استحاذ يستحيذ، ومن قال أحوذ كما قيل أحوذت وأطيبت بمعنى أحذت وأطبت، فأخرجه على الأصل، قال استحوذ، والأحوذي الحاذ: المنكمش الخفيف في أموره.

2. ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ أي: إن الله يجمع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة، في النار، والعقوبة فيها، كما اتفقوا في الدنيا على عداوة المؤمنين، والمظاهرة عليهم.

3. وصف الله سبحانه المنافقين والكافرين فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ أي: ينتظرون لكم أيها المؤمنون، لأنهم كانوا يقولون سيهلك محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، فنستريح منهم، ويظهر قومنا وديننا ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ﴾ أي: فإن اتفق لكم فتح وظفر على الأعداء ﴿قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ نجاهد عدوكم ونغزوهم معكم، فاعطونا نصيبنا من الغنيمة، فقد شهدنا القتال ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ أي: حظ بإصابتهم من المؤمنين ﴿قَالُوا﴾ يعني المنافقين أي: قال المنافقون للكافرين.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾:

أ. قيل: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ أي: ألم نغلب عليكم، عن السدي، ومعناه: ألم نغلبكم على رأيكم بالموالاة لكم ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ﴾ الدخول في جملة ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾

ب. وقيل معناه: ألم نبين لكم أنا على ما أنتم عليه أي: ألم نضمكم إلى أنفسنا، ونطلعكم على أسرار محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، ونكتب إليكم بأخبارهم حتى غلبتم عليهم، فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم، عن الحسن، وابن جريج.

5. ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: ندفع عنكم صولة المؤمنين بتحديثنا إياهم عنكم، وكوننا عيونا لكم، حتى انصرفوا عنكم، وغلبتموهم ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: هذا إخبار منه سبحانه عن نفسه، بأنه الذي يحكم بين الخلائق يوم القيامة، ويفصل بينهم بالحق.

6. في قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ أقوال:

أ. أحدها: إن المراد: لن يجعل الله لليهود على المؤمنين نصرا، ولا ظهورا، عن ابن عباس، وقيل: لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا بالحجة، وإن جاز أن يغلبوهم بالقوة، لكن المؤمنين منصورون بالدلالة والحجة، عن السدي، والزجاج، والبلخي قال الجبائي: (ولو حملناه على الغلبة لكان ذلك صحيحا، لأن غلبة الكفار للمؤمنين ليس مما فعله الله، فإنه لا يفعل القبيح، وليس كذلك غلبة المؤمنين للكفار، فإنه يجوز أن ينسب إليه سبحانه)

ب. وقيل: لن يجعل لهم في الآخرة عليهم سبيلا، لأنه مذكور عقيب قوله: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بين الله سبحانه أنه إن يثبت لهم سبيل على المؤمنين في الدنيا بالقتل، والقهر، والنهب، والأسر، وغير ذلك من وجوه الغلبة، فلن يجعل لهم، يوم القيامة، عليهم سبيلا بحال.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/194.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ قال أبو سليمان: هذه الآية نزلت في المنافقين خاصّة، قال مقاتل: كان المنافقون يتربّصون بالمؤمنين الدّوائر، فإن كان الفتح، ﴿قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾؟ فأعطونا من الغنيمة، ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾، أي دولة على المؤمنين، قالوا للكفّار: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾؟

2. قال المبرّد: ومعنى: ألم نستحوذ عليكم: ألم نغلبكم على رأيكم، وقال الزجّاج: ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم، و(نستحوذ) في اللغة، بمعنى: نستولي، يقال: حذت الإبل، وحزتها: إذا استوليت عليها وجمعتها، وقال غيره: ألم نستول عليكم بالمعونة والنّصرة؟ وقال ابن جريج: ألم نبيّن لكم أنّا على دينكم؟

3. في قوله تعالى: ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: نمنعكم منهم بتخذيلهم عنكم.

ب. الثاني: بما نعلمكم من أخبارهم.

ج. الثالث: بصرفنا إيّاكم عن الدخول عن الإيمان ومراد الكلام: إظهار المنّة من المنافقين على الكفّار، أي: فاعرفوا لنا هذا الحقّ عليكم.

4. ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يعني المؤمنين والمنافقين، قال ابن عباس: يريد أنه أخّر عقاب المنافقين.

5. في قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه لا سبيل لهم عليهم يوم القيامة، روى يسيع الحضرميّ عن عليّ بن أبي طالب أن رجلا جاءه، فقال: أرأيت قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون، فقال: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ﴾ يوم القيامة ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾، هذا مرويّ عن ابن عباس، وقتادة.

ب. الثاني: أن المراد بالسبيل: الظّهور عليهم، يعني: أن المؤمنين هم الظّاهرون، والعاقبة لهم، وهذا المعنى في رواية عكرمة، عن ابن عباس.

ج. الثالث: أن السّبيل: الحجّة، قال السّدّيّ: لم يجعل الله عليهم حجّة، يعني فيما فعلوا بهم من القتل والإخراج من الدّيار، قال ابن جرير: لمّا وعد الله المؤمنين أنه لا يدخل المنافقين مدخلهم من الجنّة، ولا المؤمنين مدخل المنافقين، لم يكن للكافرين على المؤمنين حجّة بأن يقولوا لهم: أنتم كنتم أعداءنا، وكان المنافقون أولياءنا، وقد اجتمعتم في النار.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/489.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ إما بدل من الذين يتخذون، وإما صفة للمنافقين، وإما نصب على الذم، وقوله: ﴿يَتَرَبَّصُونَ﴾ أي ينتظرون ما يحدث من خير أو شر، فإن كان لكم فتح أي ظهور على اليهود قالوا للمؤمنين ألم نكن معكم، أي فأعطونا قسما من الغنيمة، وإن كان للكافرين يعني اليهود نصيب، أي ظفر على المسلمين قالوا ألم نستحوذ عليكم، يقال: استحوذ على فلان، أي غلب عليه وفي تفسير هذه الآية وجهان:

أ. الأول: أن يكون بمعنى ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئا من ذلك ونمنعكم من المسلمين بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم وتوانينا في مظاهرتهم عليكم فهاتوا لنا نصيبا مما أصبتم.

ب. الثاني: أن يكون المعنى أن أولئك الكفار واليهود كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام، ثم إن المنافقين حذروهم عن ذلك وبالغوا في تنفيرهم عنه وأطمعوهم أنه سيضعف أمر محمد وسيقوى أمركم، فإذا اتفقت لهم صولة على‏ المسلمين قال المنافقون: ألسنا غلبناكم على رأيكم في الدخول في الإسلام ومنعناكم منه وقلنا لكم بأنه سيضعف أمره ويقوى أمركم، فلما شاهدتم صدق قولنا فادفعوا إلينا نصيبا مما وجدتم، والحاصل أن المنافقين يمنون على الكافرين بأنا نحن الذين أرشدناكم إلى هذه المصالح، فادفعوا إلينا نصيبا مما وجدتم.

2. سؤال وإشكال: لم سمي ظفر المسلمين فتحا وظفر الكفار نصيبا؟ والجواب: تعظيما لشأن المؤمنين واحتقارا لحظ الكافرين، لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء حتى تنزل الملائكة بالفتح على أولياء الله، وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظ دني‏ء ينقضي ولا يبقى منه إلا الذم في الدنيا والعقوبة في العاقبة.

3. ﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي بين المؤمنين والمنافقين: والمعنى أنه تعالى ما وضع السيف في الدنيا عن المنافقين، بل آخر عقابهم إلى يوم القيامة.

4. في قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ قولان:

أ. الأول: وهو قول علي عليه السلام وابن عباس: أن المراد به في القيامة بدليل أنه عطف على قوله: ﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

ب. الثاني: أن المراد به في الدنيا ولكنه مخصوص بالحجة، والمعنى أن حجة المسلمين غالبة على حجة الكل، وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة والدليل.

ج. الثالث: هو أنه عام في الكل إلا ما خصه الدليل، وللشافعي مسائل:

أ. منها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه بدار الحرب لم يملكه بدلالة هذه الآية.

ب. ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبدا مسلما بدلالة هذه الآية.

ج. ومنها أن المسلم لا يقتل بالذمي بدلالة هذه الآية.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/248.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ﴾ الأصل ﴿جَامِعٍ﴾ بالتنوين فحذف استخفافا، فإنه بمعنى يجمع، ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ يعني المنافقين، أي ينتظرون بكم الدوائر، ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ﴾ أي غلبة على اليهود وغنيمة، ﴿قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ أي أعطونا من الغنيمة، ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ أي ظفر، ﴿قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ أي ألم نغلب عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم، يقال: استحوذ على كذا أي غلب عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾، وقيل: أصل الاستحواذ الحوط، حاذه يحوذه حوذا إذا حاطه، وهذا الفعل جاء على الأصل، ولو أعل لكان ألم نستحذ، والفعل على الإعلال استحاذ يستحيذ، وعلى غير الإعلال استحوذ يستحوذ.

2. ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي بتخذيلنا إياهم عنكم، وتفريقنا إياهم مما يريدونه منكم، والآية تدل على أن المنافقين كانوا يخرجون في الغزوات مع المسلمين ولهذا قالوا: ألم نكن معكم؟ وتدل على أنهم كانوا لا يعطونهم الغنيمة ولهذا طلبوها وقالوا: ألم نكن معكم! ويحتمل أن يريدوا بقولهم ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ الامتنان على المسلمين، أي كنا نعلمكم بأخبارهم وكنا أنصارا لكم.

3. ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ للعلماء فيه تأويلات خمس:

أ. أحدها: ما روي عن يسيع الحضرمي قال كنت عند علي بن أبي طالب فقال له رجل يا أمير المؤمنين، أرأيت قول الله: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ كيف ذلك، وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا! فقال علي: معنى ذلك يوم القيامة يوم الحكم، وكذا قال ابن عباس: ذاك يوم القيامة، قال ابن عطية: وبهذا قال جميع أهل التأويل، قال ابن العربي: وهذا ضعيف: لعدم فائدة الخبر فيه، وإن أو هم صدر الكلام معناه، لقوله تعالى: فالله يحكم بينكم يوم القيامة فأخر الحكم إلى يوم القيامة، وجعل الأمر في الدنيا دولا تغلب الكفار تارة وتغلب أخرى، بما رأى من الحكمة وسبق من الكلمة، ثم قال: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ فتوهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله، وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكرارا.

ب. الثاني: إن الله لا يجعل لهم سبيلا يمحو به دولة المؤمنين، ويذهب آثارهم ويستبيح بيضتهم، كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا.

ج. الثالث: إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو من قبلهم، كما قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)، قال ابن العربي: وهذا نفيس جدا، قلت: ويدل عليه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث ثوبان حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا) وذلك أن ﴿حَتَّى﴾ غاية، فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض، وسبي بعضهم لبعض، وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين، فغلظت شوكة الكافرين واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله، فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه ونصره ولطفه.

د. الرابع: إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا، فإن وجد فبخلاف الشرع.

هـ. الخامس ـ ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ أي حجة عقلية ولا شرعية يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت.

4. قال ابن العربي: ونزع علماؤنا بهذه الآية في الاحتجاج على أن الكافر لا يملك العبد المسلم، وبه قال أشهب والشافعي: لأن الله سبحانه نفى السبيل للكافر عليه، والملك بالشراء سبيل، فلا يشرع له ولا ينعقد العقد بذلك، وقال ابن القاسم عن مالك، وهو قول أبي حنيفة: إن معنى ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ في دوام الملك، لأنا نجد الابتداء يكون له عليه وذلك بالإرث، وصورته أن يسلم عبد كافر في يد كافر فيلزم القضاء عليه ببيعه، فقبل الحكم عليه ببيعه مات فيرث العبد المسلم وارث الكافر، فهده سبيل قد ثبت قهرا لا قصد فيه، وإن ملك الشراء ثبت بقصد النية، فقد أراد الكافر تملكه باختياره، فإن حكم بعقد بيعه وثبوت ملكه فقد حقق فيه قصده، وجعل له سبيل عليه.

5. قال أبو عمر: وقد أجمع المسلمون على أن عتق النصراني أو اليهودي لعبده المسلم صحيح نافذ عليه، وأجمعوا أنه إذا أسلم عبد الكافر فبيع عليه أن ثمنه يدفع إليه، فدل على أنه على ملكه بيع وعلى ملكه ثبت العتق له، إلا أنه ملك غير مستقر لوجوب بيعه عليه، وذلك والله أعلم لقول الله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ يريد الاسترقاق والملك والعبودية ملكا مستقرا دائما.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/418.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ هذا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر، قيل: وهم القاعدون والمقعود إليهم عند من جعل الخطاب موجها إلى المنافقين.

2. ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ أي: ينتظرون بكم ما يتجدد ويحدث لكم من خير أو شرّ، والموصول: في محل نصب على أنه صفة للمنافقين، أو بدل منهم فقط دون الكافرين لأن التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم.

3. ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ هذه الجملة والجملة التي بعدها حكاية لتربصهم، أي: إن حصل لكم فتح من الله بالنصر على من يخالفكم من الكفار ﴿قَالُوا﴾ لكم: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ في الاتصاف بظاهر الإسلام، والتزام أحكامه، والمظاهرة والتسويد وتكثير العدد؟

4. ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ من الغلب لكم والظفر بكم‏ ﴿قَالُوا﴾ للكافرين: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ أي: ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم ولكن أبقينا عليكم؟ وقيل المعنى: إنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين: ألم نستحوذ عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم؟ والأوّل أولى، فإن معنى الاستحواذ: الغلب، يقال: استحوذ على كذا، أي: غلب عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾ ولا يصح أن يقال: ألم نغلبكم حتى هابكم المسلمون؟ ولكن المعنى: ألم نغلبكم يا معشر الكافرين، ونتمكن منكم، فتركناكم وأبقينا عليكم حتى حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين؟

5. ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم، حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم، وعجزوا عن الانتصاف منكم؛ والمراد: أنهم يميلون مع من له الغلب والظفر من الطائفتين، ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة، وهذا شأن المنافقين أبعدهم الله، وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى، والميل إلى من معه الحظ في الدنيا في مال أو جاه، فيلقاه بالتملق والتودد والخضوع والذلة، ويلقى من لا حظ له من الدنيا بالشدّة والغلظة وسوء الخلق، ويزدري به ويكافحه بكل مكروه، فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها.

6. ﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله، ففي هذا اليوم تنكشف الحقائق، وتظهر الضمائر، وإن حقنوا في الدنيا دماءهم، وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقا ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾، هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل النصر والغلب، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة، قال ابن عطية: قال جميع أهل التأويل: إن المراد بذلك: يوم القيامة، قال ابن العربي: وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوّله، يعني قوله: ﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكرارا، هذا معنى كلامه، وقيل: المعنى: إن الله لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين يمحو به دولتهم، ويذهب آثارهم، ويستبيح ببضتهم، كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح: (وأن لا أسلّط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتّى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي‏ بعضهم بعضا) وقيل: إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ قال ابن العربي: وهذا نفيس جدا؛ وقيل: إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا، فإن وجد فبخلاف الشرع، هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية، وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/609.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ﴾ المعهودين، أُعِيدَ ذكرهم ليصرِّح بموجب عقابهم وهو النفاق، وقيل: المراد العموم، فيدخلون بالأولى، وقَدَّم المنافقين لتشديد الوعيد على المخاطَبين، ﴿وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ الخائضين والقاعدين معهم، جمعهم في مطلق النَّار، كما اجتمعوا في الدُّنيا على مضرَّة الإسلام والمسلمين، جزاء وفاقًا، ولو تفاوتت دركاتهم، فإنَّ دركة من نافق بإضمار الشرك أسفل من دركة من صرَّح بالشرك، وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن، فنهى الله تعالى المؤمنين عن مجالسة المنافقين واليهود، وضرب عمر بن عبد العزيز رجلاً صائمًا قعد مع قوم يشربون الخمر فسئل فقرأ الآية.

2. ﴿الَّذِينَ﴾ بدل من (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ)، أو نعت للمنافقين، أو يقدَّر: (هم الذين)، ﴿يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ أمرًا مِنْ ظَفَرِكُم بأعدائكم أيُّها المسلمون وعدم ظَفَرِكُم، كما فصَّله بقوله: ﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ﴾ أيُّها المؤمنون ﴿فَتْحٌ مِّنَ اللهِ﴾؛ فذلك تنفير للمؤمنين عن مصاحبتهم، والمراد بالفتح: الظفر والغنيمة، كأنَّه قيل: فإن غلبتم المشركين وغنمتم منهم سمِّي فتحًا، وما للكافرين نصيبًا تعظيمًا للمؤمنين، وقيل: لأنَّه من مداخل فتح دار الإسلام، ﴿قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾ في الدِّين والجهاد؟ فأعطُونا من الغنيمة؛ وذلك لأنَّهم يحضرون الجهاد، وإن لم يحضروا قالوا: ألم نكن معكم في الدِّين؟ فأعطُونا للدين، والمتحقِّق المبالَغ فيهم تربُّص الدوائر بكم، كما نصَّ عليه في الآية الأخرى.

3. ﴿وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ غلبةٌ قليلة، وهذا تحقير لغلبة الكفَّار لقلَّتها، وزوالها سريعًا، والحرب سجال، ولأنَّهم مغلوبون بالحجَّة على كلِّ حال، ولأنَّها وبال عليهم في الآخرة، بخلاف غلبة المسلمين بهم فعظيمة كثيرة تستمرُّ آخرًا، وإعلاء لدين الله، وعاقبتها محمودة دنيًا وأخرى؛ ولذلك عبَّر عنها بالفتح، ﴿قَالُواْ﴾ للكافرين ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ نتغلَّب عليكم؟ ونقدر على أن نُعِين المؤمنين، ونقتلكم معهم ونأسركم فلم نُعِنهُم، ألم نغلبكم بالتفضُّل بإطلاعنا لكم على سرِّ محمَّد؟ ﴿وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُومِنِينَ﴾ مِن حَيِّز الاستفهام المذكور التقريريِّ أو الإنكاريِّ للنَّفي بَعدَهُ، وكأنَّه قيل: (أولم نمنعكم من المؤمنين أن يقتلوكم، فأبقينا عليكم بترك إعانتهم، وبإرسالنا إليكم بأخبارهم وأسرارهم، فأعطونا مِمَّا غنمتم)، ومرادهم طلب المال والتحبُّب خوفًا لفريق الإسلام وفريق الكفر، والقياس: استحاذ، بنقل فتح الواو وقلبها ألفًا، فصيحٌ استعمالاً شاذٌّ قياسًا.

4. ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ أيُّها المؤمنون والكافرون، والخطاب تغليب للمؤمنين إذ خوطبوا؛ فلا داعي إلى أن يقدَّر: بينكم وبينهم، ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بإدخال المؤمنين الجنَّة والكافرين النَّار، وأمَّا تأخير عقاب المنافقين إلى الموت وما بعده ووضع السيف عنهم في الدُّنيا فليس حكمًا يوم القيامة، فلا تفسَّر به الآية، إِلَّا أن يقال: المراد: يتمُّ الحكم بينهم يوم القيامة بإدخالهم النَّار بعد الحكم في الدُّنيا بوضع السيف.

5. ﴿وَلَنْ يَّجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ﴾ المشركين والمنافقين ﴿عَلَى الْمُومِنِينَ سَبِيلاً﴾ يوم القيامة، وأمَّا الدُّنيا فسِجَالٌ، وقيل: لا في الآخرة ولا في الدُّنيا، والسبيل: الحجَّة، كما روي أنَّ عليًّا سئل عن الآية مع أنَّ الكافرين يظهرون على المؤمنين في بعض الأحيان؟ فأجاب بأنَّ معنى الآية ظهور المؤمنين يوم القيامة بثمرة الإيمان وهو الجنَّة، وخزي الكافرين بالنار، وعِلْمهم فيه أنَّ الحقَّ مع المؤمنين.

6. مذهب الجمهور من أصحابنا وغيرهم أنَّ الكافر إذا استولى على مال المؤمن لم يملكه، فإذا قُدِرَ عليه فهو للمؤمن، وقال الربيع بن حبيب وبعض العلماء: (تجوز معاملة المشرك فيه وهِبَتُهُ وتملُّكه منه بالغنم، فيكون فيئًا للمسلمين)، واستدلَّ الشافعيُّ بالآية على أنَّه لا يملكه ولا يعامل فيه، وملكه باق لصاحبه المؤمن، وعلى أنَّه لا يملك عبدًا مسلمًا، قلت: ولا أمَة، ولا يرث مسلمًا أو مسلمة، ولا يتزوَّج مسلمة ولو أمَة، ولا يتسرَّى مسلمة، وإن اشترى عبدا مسلما أو أمَة بطل شراؤه عندنا وعند الشافعيَّة لهذه الآية ونحوها، وحديث: (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)، وقال الحنفيَّة: يصحُّ الشراء ويمنع من استخدامه ومن التصرُّف فيه، إِلَّا البيع للمسلم أو الإعتاق، فذلك عندهم انتفاء السبيل.

7. وإن ارتدَّ مسلم حرمت زوجه، وإن تاب قبل العدَّة فهي له، وكذا إن أسلمت زوج الكافر، وذلك لئلَّا يكون لمن كفر سبيل على من آمن، فالارتداد كالفُرقة بنحو الطلاق، والإسلام كالرجعة، وأجمعوا أنَّ المؤمن لا يُقتل بالكافر ولا يرثه الكافر، واستدلَّ الحنفيَّة بها على أنَّه إن ارتدَّ مسلم بانت منه زوجه ولو تاب في العدَّة، إذ لو لم تَبِنْ لكانت في عصمته حين الردَّة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/321.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ إما بدل من‏ ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ﴾ وإما صفة للمنافقين: أي: ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو هزيمة ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله﴾ أي: نصر وتأييد وظفر وغنيمة ﴿قَالُوا﴾ لكم‏ ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ أي: مظاهرين لكم، فلنا دخل في فتحكم، فليكن لنا شركة في غنيمتكم‏ ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ أي: إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان، كما وقع يوم أحد، فإن الرسل تبتلي ثم تكون لها العاقبة ﴿قَالُوا﴾ أي: الكفرة توددا إليهم، ومصانعة لهم، ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم لضعف إيمانهم‏ ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ أي: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم‏ ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بأن ثبطناهم عنكم، وتوانينا في مظاهرتهم حتى انتصرتم عليهم، وإلا لكنتم نهبة للنوائب، وتسمية (ظفر المسلمين) فتحا، و(ما للكافرين) نصيبا؛ لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين.

2. قال في (الانتصاف): وهذا من محاسن نكت القرآن، فإن الذي كان يتفق للمسلمين فيه، استئصال لشأفة الكفار واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطؤها، وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحا، فالتفريق بينهما أيضا مطابق للواقع.

3. قال بعض الزيدية: في الآية دلالة على وجوب محبة نصرة المؤمنين وكراهة أن تكون اليد عليهم، وتحريم خذلانهم، وإن المنافق لا سهم له، لأن في الآية إشارة إلى أنهم طلبوا لما منعوا، فقالوا: ألم نكن معكم؟ ثم قال يجوز التأليف من الغنيمة للمنافقين، كما فعل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم حنين، حتى أعطى الواحد منهم مائة ناقة، والواحد من المسلمين الشاة أو البعير.

4. ﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي حكما يليق بشأن كل منكم من الثواب والعقاب، أي: فلا يغترّ المنافقون بحقن دمائهم في الدنيا لتلفظهم بالشهادة، لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فيوم القيامة لا ينفعهم ظواهرهم.

5. ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ ردّ على المنافقين فيما أمّلوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من‏ مصانعتهم الكافرين خوفا على أنفسهم منهم، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كما قال تعالى: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿نَادِمِينَ﴾ [المائدة: 52]، أي: لن يسلط الله الكافرين على المؤمنين فيستأصلوهم بالكلية، وإن حصل لهم ظفر حينا مّا، أفاده ابن كثير وهذا التأويل روعي فيه سابق الآية ولا حقها، وأن السياق في (المنافقين) وهو جيد، ويقرب منه ما في تفسير ابن عباس من حمل (الكافرين) على يهود المدينة، ومن وقف مع عمومها، قال المراد بالسبيل الحجة، وتسميتها (سبيلا) لكونها موصلا للغلبة، أو المراد: ما دام المؤمنون عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30]، قال فلا يراد أنه قد يدال للكافرين.

6. قد يستدل بهذه الآية على أن الكافر لا ينكح مؤمنة، وأنه لا يلي على مؤمنة في نكاح ولا سفر، وأن الكافر لا يشفع المؤمن، وهذا قول الهادي في (الأحكام) والنفس الزكية والراضي بالله، وروي مثله عن الحسن الشعبيّ وأحمد، وقال في (المنتخب) والمؤيد بالله والحنفية والشافعية: له الشفعة، لعموم أدلة الشفعة، وبالقياس على رد المعيب فيما شرى من مسلم، ويستدل بأن المرتد تبين منه امرأته المسلمة، والخلاف: هل بنفس الردة كما يقول الحنفية، أو بانقضاء العدة كما يقول المؤيد بالله والشافعية؟ وكذلك بيع العبد المسلم من الذميّ، أجازه الحنفية ومنعه المؤيد والشافعية، لكن على الأول، يجبر على بيعه، فلا يستخدمه، قيل: والأمة مجمع على تحريم بيعها من الكافر إذا كانت مسلمة، ولا خلاف أن الآية مخصوصة بأمور، منها: الدّين يثبت للكافر على المؤمن، ومنها: أنه ينفق المؤمن على أبويه الكافرين ونحو ذلك، وإذا خص العموم فقد اختلف الأصوليون: هل تبقى دلالته على الباقي حقيقة أم مجازا؟ وزاد بعض المفسرين: إن الكافر لا يرث المسلم، وإن المسلم لا يقتل بالذميّ.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/377.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ هذا وعيد للفريقين المستهزئين من الكفار ولمقربيهم من المنافقين بأنهم سيجتمعون في العقاب كما اجتمعوا على الإثم وكذا غيرهم من الفريقين.

2. ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ أي الذين ينتظرون بكم أيها المؤمنون ما يحدث من كسر أو نصر، أو خير أو شر، وهذا وصف للمنافقين كقوله في الآية السابقة: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ هذا تفصيل للتربص أي فإن نصركم الله أو فتح عليكم ادعوا أنهم كانوا معكم وأنهم منكم، يستحقون مشاركتكم في نعمتكم: ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي وإن كان للكافرين نصيب من الظفر لأن الحرب سجال متّوا إليهم ومنوا عليهم، بأنهم كانوا عونا لهم على المؤمنين بتخذيلهم، والتواني في الحرب معهم والاستحواذ يفسرونه بالاستيلاء وهو في الأصل من الحوذ وهو السوق سمي حوذا لأن الحوذي (السائق) يضرب حاذيي البعير أو غيره من الدواب، والحاذيان هما جانبا الفخذين من الوراء، والحاذ الظهر ويطلق على جانبيه حاذيين، وهذا الضرب من السوق يستولي به الحوذي على ما يسوقه فصاروا يطلقون الاستحواذ على الاستيلاء على الشيء والتمكن من تسخيره أو التصرف فيه فهم يقولون للكفار إننا قد استولينا عليكم، وتمكنا من الإيقاع بكم، ولم نفعل بل منعناكم أي جمعناكم وحفظناكم من المؤمنين.

3. والنكتة في التعبير عن ظفر المؤمنين بالفتح وأنه من الله، وعن ظفر الكافرين بالنصيب هي إفادة أن العاقبة في القتال للمؤمنين، فهم الذين يكون لهم الفتح والاستيلاء على الأمم الكافرة ولكن الحرب سجال قد يقع في أثنائها نصيب من الظفر للكافرين لا ينتهي إلى أن يكون فتحا يستولون به على المؤمنين، وذلك أن الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر في مثل قوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47] المقيد بقوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 8] وإنما نصر الله أن يقصد بالحرب حماية الحق وتأييده وإعلاء كلمته ابتغاء مرضاة الله ومثوبته، وآيته مراعاة سنن الله في أخذ أهبته، وإعداد عدته، التي أرشد إليها كتابه العزيز في مثل قوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: 60]، وقوله: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا الله كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45] وقد بينا غيره مرة كون الإيمان نفسه من أسباب النصر، وأنه يقتضي الاستعداد وأخذ الحذر، وإنما غلب المسلمون في هذه القرون الأخيرة وفتح الكفار بلادهم التي فتحوها هم من قبل بقوة الإيمان وما يقتضيه من الأعمال، لأنهم ما عادوا يقاتلون لإعلاء كلمة الله وتأييد الحق ونشر الإسلام، ولا عادوا يعدون ما استطاعوا من قوة كما أمرهم القرآن، فهم يستطيعون أن ينشئوا البوارج المدرعة، والمدافع المدمرة، ويتعلموا ما يلزم لها وللحرب من العلوم الرياضية والطبيعية والميكانيكية، وهي فرض عليهم، بمقتضى قواعد دينهم، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد تركوا كل ذلك بل صار أدعياء العلم فيهم، يحرمون ذلك عليهم.

4. ﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي يحكم بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر فهنالك لا تروج دعواهم التي يدعونها عن النصر والفتح إنهم منكم: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ أي أن الكافرين لا يكون لهم من حيث هم كافرون سبيلا ما على المؤمنين من حيث هم مؤمنون يقومون بحقوق الإيمان ويتبعون هديه، وكلمة (سبيل) هنا نكرة في سياق النفي تفيد العموم وقد أخطأ من خصها بالحجة، وسبب هذا التخصيص عدم فهم ما قررناه آنفا من كون النصر مضمونا بوعد الله وسنته للمؤمنين بشرطه الذي أشرنا إليه، وقال بعضهم إن هذا خاص بالآخرة، والصواب أنه عام فلا سبيل للكافرين على المؤمنين مطلقا وما غلب الكافرين المسلمين في الحروب والسياسة وأسبابها العلمية والعملية من حيث هم كافرون، بل من حيث إنهم صاروا أعلم بسنن الله في خلقه وأحكم عملا بها والمسلمون تركوا ذلك كما علمت، فليعتبر بذلك المعتبرون!

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/378.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ أي إنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا سيجتمعون في العقاب يوم القيامة، ولا يخفى ما في هذا من الوعيد للكفار والمنافقين.

2. ثم بين بعض أحوال المنافقين فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ يتربصون ينتظرون ما يحدث من خير أو شر: أي إن هؤلاء المنافقين ينتظرون ما يحدث لكم من كسر أو نصر، وشر أو خير.

3. ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ أي فإن نصركم الله وفتح عليكم ادّعوا أنهم كانوا معكم فيستحقون مشاركتكم في النعمة وإعطاءهم من الغنيمة.

4. ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الاستحواذ: الاستيلاء على الشيء والتمكن من تسخيره أو التصرف فيه: أي وإن كان‏ للكافرين نصيب من الظفر منّوا عليهم بأنهم كانوا عونا لهم على المؤمنين، بتخذيلهم والتواني في الحرب معهم وإلقاء الكلام الذي تخور به عزائمهم عن قتالكم، فاعرفوا لنا هذا الفضل وهاتوا نصيبنا مما أصبتم.

5. والسر في التعبير عن ظفر المؤمنين بالفتح وأنه من الله، وعن ظفر الكافرين بالنصيب ـ الإيماء إلى أن العاقبة للحق دائما، وأن الباطل ينهزم أمامه مهما كان له أول أمره من صولة ودولة، وقد يقع أثناء ذلك نصيب من الظفر للباطل ولكن تنتهى بغلبة الحق عليه كما قال:‏ ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ما دام أهله متبعين لسنة الله بأخذ الأهبة وإعداد العدّة كما أمر بذلك الكتاب العزيز بقوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾

6. وإنما غلب المسلمون في هذه العصور على أمرهم وفتح الكافرون بلادهم التي فتحوها من قبل بقوة إيمانهم، لأنهم تركوا أخذ الأهبة وإعداد العدة، وقام أعداؤهم بكل ما تستدعيه الحروب الحاضرة فأنشئوا البوارج والمدافع والدبابات المدرعة، والغواصات المهلكة، والطائرات المنقضّة، إلى نحو ذلك من آلات التدمير والهلاك في البر والبحر والجور ووسائل ذلك من علوم طبيعية أو آلية (ميكانيكية) أو رياضية.

7. ﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي فالله يحكم بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر حكما يليق بشأن كل من الثواب والعقاب، فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه، أما في الدنيا فأنتم وهم سواء في عصمة الأنفس والأموال كما جاء في الحديث‏ (فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم)

8. ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ أي إن المؤمنين ما داموا مستمسكين بدينهم متبعين لأمره ونهيه قائمين بعمل ما يستدعيه الدفاع عن بيضة الدين من أخذ الأهبة وإعداد العدّة لن يغلبهم الكافرون، ولن يكون لهم عليهم سلطان، وما غلب المسلمون على أمرهم إلا بتركهم هدى كتابهم وتركهم أوامر دينهم وراءهم‏ ظهريّا، فذلوا بعد عزة، وأجلب الكفار عليهم بخيلهم ورجلهم ودخلوا عليهم في عقر دارهم، وامتلكوا بلادهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/185.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يأخذ القرآن الكريم في بيان سمات المنافقين، فيرسم لهم صورة زرية منفرة؛ وهم يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكفار بوجه؛ ويمسكون العصا من وسطها، ويتلوون كالديدان والثعابين: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾.. وهي صورة منفرة، تبدأ بتقرير ما يكنه المنافقون للجماعة المسلمة من الشر، وما يتربصون بها من الدوائر، وهم ـ مع ذلك ـ يتظاهرون بالمودة للمسلمين حين يكون لهم فتح من الله ونعمة فيقولون: حينئذ: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾.. ويعنون أنهم كانوا معهم في الموقعة ـ فقد كانوا يخرجون أحيانا يخذلون ويخلخلون الصفوف: ـ أو يعنون أنهم كانوا معهم بقلوبهم! وأنهم ناصروهم وحموا ظهورهم!

2. ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.. يعنون أنهم آزروهم وناصروهم وحموا ظهورهم؛ وخذّلوا عنهم وخلخلوا الصفوف!

3. وهكذا يتلوون كالديدان والثعابين، في قلوبهم السم، وعلى ألسنتهم الدهان! ولكنهم بعد ضعاف؛ صورتهم زرية شائهة تعافها نفوس المؤمنين.. وهذه إحدى لمسات المنهج لنفوس المؤمنين.

4. ولما كانت الخطة التي اتبعها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بتوجيه ربه في مسألة المنافقين، هي الإغضاء والإعراض، وتحذير المؤمنين وتبصيرهم بأمرهم؛ في الطريق إلى تصفية هذا المعسكر اللعين! فإنه يكلهم هنا إلى حكم الله في الآخرة؛ حيث يكشف الستار عنهم، وينالهم جزاء ما يكيدون للمسلمين: ﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.. حيث لا مجال للكيد والتآمر والتبييت؛ ولا مجال لإخفاء مكنونات الصدور.

5. ويطمئن الذين آمنوا بوعد من الله قاطع؛ أن هذا الكيد الخفي الماكر، وهذا التآمر مع الكافرين، لن يغير ميزان الأمور؛ ولن يجعل الغلبة والقهر للكافرين على المؤمنين: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾.. وفي تفسير هذه الآية وردت رواية أن المقصود بهذا النص يوم القيامة، حيث يحكم الله بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل، كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط الله الكافرين على المسلمين تسليط استئصال، وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحايين، وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب، لأنه ليس فيه تحديد.

6. والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد.. أما بالنسبة للدنيا، فإن الظواهر أحيانا قد توحي بغير هذا، ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق: إنه وعد من الله قاطع، وحكم من الله جامع: أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين؛ وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة، ونظاما للحكم، وتجردا لله في كل خاطرة وحركة، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة.. فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا.. وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها! وأنا أقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان إما في الشعور وإما في العمل ـ ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة ـ وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية؛ ثم يعود النصر للمؤمنين ـ حين يوجدون! ففي (أحد) مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي الطمع في الغنيمة، وفي (حنين) كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا.. نعرفه أو لا نعرفه.. أما وعد الله فهو حق في كل حين.

7. نعم، إن المحنة قد تكون للابتلاء.. ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة، هي استكمال حقيقة الإيمان ومقتضياته من الأعمال ـ كما وقع في أحد وقصه الله على المسلمين‏ ـ فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه، جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين.

8. على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك.. إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح، وكلال العزيمة، فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس همودا وكلالا وقنوطا، فأما إذا بعثت الهمة، وأذكت الشعلة، وبصرت بالمزالق، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق.. فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد، ولو طال الطريق!

9. كذلك حين يقرر النص القرآني: أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا.. فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر؛ والفكرة المؤمنة هي التي تسود، وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورا وشعورا؛ وفي حياتها واقعا وعملا، وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها، فالنصر ليس للعنوانات، إنما هو للحقيقة التي وراءها..

10. وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك.. ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة، ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء؛ وألا نطلب العزة إلا من الله.

11. ووعد الله هذا الأكيد، يتفق تماما مع حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون.. إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى، التي لا تضعف ولا تفنى.. وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها.. ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية، أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا.

12. غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان.. إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية، ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل، وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها.. ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن (حقيقة) الكفر تغلبه، إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها.. لأن حقيقة أي شيء أقوى من (مظهر) أي شيء ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق، وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل، مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون.. ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَزاهِقٌ﴾.. ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/782.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ تهديد ووعيد بهذا المصير المشئوم الذي ينتظر الكافرين والمنافقين، ومن يلوذ بالكافرين والمنافقين، ويركن إليهم، ويستمع للزور الذي يدور بينهم.

2. ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وجه آخر من وجوه النفاق.. وما أكثرها.. فإنه حين يكون بين المؤمنين والكافرين قتال، يأخذ المنافقون موقفا بين هؤلاء وهؤلاء.. ولو استطاع الواحد منهم أن يقسم نفسه شطرين لفعل، فكان شطرا مع المؤمنين، وشطرا مع الكافرين.. فإذا انتصر المؤمنون عدّ نفسه فيهم، وأخذ نصيبه من الغنائم معهم.. وإذا كانت الدولة للكافرين حسب نفسه منهم، وجنى من ثمرة النصر ما يجنون! ولكن ثوب النفاق يفضح أهله، حيث يخيّل للابسه أنه مستور، ولكنه في أعين الناس متجرد عار، مكشوف السوأة.

3. ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ إشارة كاشفة لموقف المنافقين، وهو موقف التربص والانتظار لما ينجلي عنه الموقف فيما يدور بين المؤمنين والكافرين من صراع.

4. ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ هو فضح لهذا الوجه الوقاح الذي يستقبل به المنافقون المؤمنين بعد النصر والغلب.. فلقد كانوا في المؤمنين بأجسادهم، يمشون بها في تثاقل وانحراف، والحرب دائرة، والقتال مستعر، وها هم أولاء يضيفون أنفسهم إليهم، وفي إضافة الفتح إلى الله، تذكير للمؤمنين بأن ما كان لهم من نصر فهو من عند الله، بتأييده للمؤمنين، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، وفي تسمية انتصار المؤمنين فتحا إشارة إلى أن هذا النصر هو فتح لمغالق الخير، وطرق الهدى.

5. ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ كشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين حين يلقون به الكافرين، وقد كانت لهم جولة على المسلمين.. يقولون لهم: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ أي ألم نستول عليكم في المعركة ونملك أمركم؟ ولكنا تخاذلنا، وأرخينا أيدينا عنكم، فتخاذل المسلمون وانهزموا؟ ولولا أننا لم نفعل ذلك لدارت الدائرة عليكم.. فنحن شركاؤكم في هذا النصر الذي كان لكم، بل الذي نحن صانعوه لكم! والاستحواذ على الشيء وعلى الأمر: التمكن منه، والتسلط عليه..

6. ﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.. الضمير في بينكم يعود إلى المؤمنين، المخاطبين بهذه الآية، وقد يكون مرادا به المؤمنون والكافرون والمنافقون، والتقدير: فالله يحكم بينكم جميعا.. أو يكون مقصورا على المؤمنين وحدهم، والتقدير: فالله يحكم بينكم وبينهم، ولم يذكر المنافقون والكافرون هنا في هذا المقام إشعارا بأنهم ليسوا أهلا لأن يكون لهم وزن في هذا الشأن، الذي هو شأن المؤمنين وحدهم، وقضيتهم التي يراد لهم الفصل فيها، لأنهم هم أصحاب هذا اليوم ـ يوم الفصل ـ حيث يجنون أطيب ما فيه من ثمرات!

7. ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ هو وعد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين ـ إذا صدق إيمانهم ـ ألا تكون للكافرين يد عليهم، بل إن يد المؤمنين هي العليا دائما، ويد الكافرين السفلى أبدا.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/939.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ تحذير من أن يكونوا مثلهم، وإعلام بأنّ الفريقين سواء في عداوة المؤمنين، ووعيد للمنافقين بعدم جدوى‏ إظهارهم الإسلام لهم.

2. جملة ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ صفة للمنافقين وحدهم بدليل قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾، والتربّص حقيقة في المكث بالمكان، وقد مرّ قوله: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ في سورة البقرة [228]، وهو مجاز في الانتظار وترقّب الحوادث، وتفصيله قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله﴾ الآيات، وجعل ما يحصل للمسلمين فتحا لأنّه انتصار دائم، ونسب إلى الله لأنّه مقدّره ومريده بأسباب خفيّة ومعجزات بيّنة، والمراد بالكافرين هم المشركون من أهل مكة وغيرهم لا محالة، إذ لا حظّ لليهود في الحرب، وجعل ما يحصل لهم من النصر نصيبا تحقيرا له، والمراد نصيب من الفوز في القتال.

3. الاستحواذ: الغلبة والإحاطة، أبقوا الواو على أصلها ولم يقلبوها ألفا بعد الفتحة على خلاف القياس، وهذا أحد الأفعال التي صحّحت على خلاف القياس مثل: استجوب، وقد يقولون: استحاذ على القياس كما يقولون: استجاب واستصاب.

4. الاستفهام تقريري، ومعنى‏ ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ ألم نتولّ شئونكم ونحيط بكم إحاطة العناية والنصرة ونمنعكم من المؤمنين، أي من أن ينالكم بأسهم، فالمنع هنا إمّا منع مكذوب يخيّلونه الكفار واقعا وهو الظاهر، وإمّا منع تقديري وهو كفّ النصرة عن المؤمنين، والتجسّس عليهم بإبلاغ أخبارهم للكافرين، وإلقاء الأراجيف والفتن بين جيوش المؤمنين، وكلّ ذلك ممّ يضعف بأس المؤمنين إن وقع، وهذا القول كان يقوله من يندسّ من المنافقين في جيش المسلمين في الغزوات، وخاصّة إذا كانت جيوش المشركين قرب المدينة مثل غزوة الأحزاب.

5. ﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ الفاء للفصيحة، والكلام إنذار للمنافقين وكفاية لمهمّ المؤمنين، بأن فوّض أمر جزاء المنافقين على مكائدهم وخزعبلاتهم إليه تعالى.

6. ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ تثبيت للمؤمنين، لأنّ مثيل هذه الأخبار عن دخائل الأعداء وتألبهم: من عدوّ مجاهر بكفره، وعدو مصانع مظهر للأخوّة، وبيان هذه الأفعال الشيطانية البالغة أقصى المكر والحيلة، يثير مخاوف في نفوس المسلمين وقد يخيّل لهم مهاوي الخيبة في مستقبلهم، فكان من شأن التلطّف بهم أن يعقّب‏ ذلك التحذير بالشدّ على العضد، والوعد بحسن العاقبة، فوعدهم الله بأن لا يجعل للكافرين، وإن تألّبت عصاباتهم، واختلفت مناحي كفرهم، سبيلا على المؤمنين.

7. المراد بالسبيل طريق الوصول إلى المؤمنين بالهزيمة والغلبة، بقرينة تعديته بعلى، ولأنّ سبيل العدوّ إلى عدوّه هو السعي إلى مضرّته، ولو قال لك الحبيب: لا سبيل إليك، لتحسّرت؛ ولو قال لك العدوّ: لا سبيل إليك لتهلّلت بشرا، فإذا عدّي بعلى صار نصا في سبيل الشرّ والأذى، فالآية وعد محض دنيوي، وليست من التشريع في شيء ولا من أمور الآخرة في شيء لنبوّ المقام عن هذين.

8. سؤال وإشكال: إذا كان وعدا لم يجز تخلّفه، ونحن نرى الكافرين ينتصرون على المؤمنين انتصرا بيّنا، وربما تملّكوا بلادهم وطال ذلك، فكيف تأويل هذا الوعد؟ والجواب: إن أريد بالكافرين والمؤمنين الطائفتان المعهودتان بقرينة القصّة فالإشكال زائل، لأنّ الله جعل عاقبة النصر أيّامئذ للمؤمنين وقطع دابر القوم الذين ظلموا فلم يلبثوا أن ثقفوا وأخذوا وقتّلوا تقتيلا ودخلت بقيتهم في الإسلام فأصبحوا أنصارا للدين؛ وإن أريد العموم فالمقصود من المؤمنين المؤمنون الخلّص الذين تلبّسوا بالإيمان بسائر أحواله وأصوله وفروعه، ولو استقام المؤمنون على ذلك لما نال الكافرون منهم منالا، ولدفعوا عن أنفسهم خيبة وخبالا.

9. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ استئناف ابتدائي، فيه زيادة بيان لمساويهم، والمناسبة ظاهرة، وتأكيد الجملة بحرف (إنّ) لتحقيق حالتهم العجيبة وتحقيق ما عقبها من قوله: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾، وتقدّم الكلام على معنى مخادعة المنافقين الله تعالى في سورة البقرة [9] عند قوله: ﴿يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾

10. زادت هذه الآية بقوله: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ أي فقابلهم بمثل صنيعهم، فكما كان فعلهم مع المؤمنين المتبعين أمر الله ورسوله خداعا لله تعالى، كان إمهال الله لهم في الدنيا حتى اطمأنّوا وحسبوا أن حيلتهم وكيدهم راجا على المسلمين وأنّ الله ليس ناصرهم، وإنذاره المؤمنين بكيدهم حتّى لا تنطلي عليهم حيلهم، وتقدير أخذه إيّاهم بأخرة، شبيها بفعل المخادع جزءا وفاقا، فإطلاق الخداع على استدراج الله إيّاهم استعارة تمثيلية، وحسنتها المشاكلة؛ لأنّ المشاكلة لا تعدو أن تكون استعارة لفظ لغير معناه مع مزيد مناسبة مع لفظ آخر مثل اللفظ المستعار، فالمشاكلة ترجع إلى التلميح، أي إذا لم تكن لإطلاق اللفظ على المعنى المراد علاقة بين معنى اللفظ والمعنى المراد إلّا محاكاة اللفظ، سميّت مشاكلة كقول أبي الرقعمق.

çقالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه‏...قلت: أطبخوا لي جبّة وقميصاé

11. ﴿كُسَالَى﴾ جمع كسلان على وزن فعالى، والكسلان المتّصف بالكسل، وهو الفتور في الأفعال لسآمة أو كراهية، والكسل في الصلاة مؤذن بقلّة اكتراث المصلّي بها وزهده في فعلها، فلذلك كان من شيم المنافقين، ومن أجل ذلك حذّرت الشريعة من تجاوز حدّ النشاط في العبادة خشية السآمة، ففي الحديث (عليكم من الأعمال بما تطيقون فإنّ الله لا يملّ حتّى تملّوا)، ونهى على الصلاة والإنسان يريد حاجته، وعن الصلاة عند حضور الطعام، كلّ ذلك ليكون إقبال المؤمن على الصلاة بشره وعزم، لأنّ النفس إذا تطرّقتها السآمة من الشيء دبّت إليها كراهيته دبيبا حتّى تتمكّن منها الكراهية، ولا خطر على النفس مثل أن تكره الخير.

12. ﴿كُسَالَى﴾ حال لازمة من ضمير ﴿قَامُوا﴾، لأنّ قاموا لا يصلح أن يقع وحده جوابا لـ (إذا) التي شرطها (قاموا)، لأنّه لو وقع مجرّدا لكان الجواب عين الشرط، فلزم ذكر الحال، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72] وقول الأحوص الأنصاري:

çفإذا تزول تزول عن متخمّط...تخشى بوادره على الأقران‏é

13. جملة ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ حال ثانية، أو صفة لـ ﴿كُسَالَى﴾، أو جملة مستأنفة لبيان جواب من يسأل: ماذا قصدهم بهذا القيام للصلاة وهلّا تركوا هذا القيام من أصله، فوقع البيان بأنّهم يراءون بصلاتهم الناس، و﴿يُرَاءُونَ﴾ فعل يقتضي أنّهم يرون الناس صلاتهم ويريهم الناس، وليس الأمر كذلك، فالمفاعلة هنا لمجرد المبالغة في الإراءة، وهذا كثير في باب المفاعلة.

14. ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ معطوف على‏ ﴿يُرَاءُونَ﴾ إن كان‏ ﴿يُرَاءُونَ﴾ حالا أو صفة، وإن كان‏ ﴿يُرَاءُونَ﴾ استئناف فجملة ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ﴾ حال، والواو واو الحال، أي: ولا يذكرون الله بالصلاة ألّا قليلا، فالاستثناء إمّا من أزمنة الذكر، أي إلّا وقتا قليلا، وهو وقت حضورهم مع المسلمين إذ يقومون إلى الصلاة معهم حينئذ فيذكرون الله بالتكبير وغيره، وإمّا من مصدر ﴿يَذْكُرُونَ﴾، أي إلّا ذكرا قليلا في تلك الصلاة التي يراءون بها، وهو الذكر الذي لا مندوحة عن تركه مثل: التأمين، وقول ربنا لك الحمد، والتكبير، وما عدا ذلك لا يقولونه من تسبيح الركوع، وقراءة ركعات السرّ، ولك أن تجعل جملة ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ﴾ معطوفة على جملة ﴿وَإِذَا قَامُوا﴾، فهي خبر عن خصالهم، أي هم لا يذكرون الله في سائر أحوالهم إلّا حالا قليلا أو زمنا قليلا وهو الذكر الذي لا يخلو عنه عبد يحتاج لربّه في المنشط والمكره، أي أنّهم ليسوا مثل المسلمين الذين يذكرون الله على كلّ حال، ويكثرون من ذكره، وعلى كلّ تقدير فالآية أفادت عبوديتهم وكفرهم بنعمة ربّهم زيادة على كفرهم برسوله وقرآنه.

15. ثم جاء بحال تعبر عن جامع نفاقهم وهي قوله: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ وهو حال من ضمير ﴿يُرَاءُونَ﴾، والمذبذب أسن مفعول من الذّبذبة، يقال: ذبذبه فتذبذب، والذبذبة: شدّة الاضطراب من خوف أو خجل، قيل: إن الذبذبة مشتقّة من تكرير ذبّ إذا طرد، لأنّ المطرود يعجّل ويضطرب، فهو من الأفعال التي أفادت كثرة المصدر بالتكرير، مثل زلزل ولملم بالمكان وصلصل وكبكب، وفيه لغة بدالين مهملتين، وهي التي تجري في عاميتنا اليوم، يقولون: رجل مدبدب، أي يفعل الأشياء على غير صواب ولا توفيق، فقيل: إنّها مشتقّة من الدبّة ـ بضمّ الدال وتشديد الباء الموحدة ـ أي الطريقة بمعنى أنّه يسلك مرّة هذا الطريق ومرّة هذا الطريق.

16. الإشارة بقوله: ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ إلى ما استفيد من قوله: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ لأنّ الذي يقصد من فعله إرضاء الناس لا يلبث أن يصير مذبذبا، إذ يجد في الناس أصنافا متباينة المقاصد والشهوات، ويجوز جعل الإشارة راجعة إلى شيء غير مذكور، ولكن إلى ما من شأنه أن يشار إليه، أي مذبذبين بين طرفين كالإيمان والكفر.

17. جملة ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ صفة لـ ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ لقصد الكشف عن معناه لما فيه من خفاء الاستعارة، أو هي بيان لقوله: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾، و﴿هَؤُلَاءِ﴾ أحدهما إشارة إلى المؤمنين، والآخر إشارة إلى الكافرين من غير تعيين، إذ ليس في المقام إلّا فريقان فأيّها جعلته مشارا إليه بأحد اسمي الإشارة صحّ ذلك، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾، والتقدير لا هم إلى المسلمين ولا هم إلى الكافرين.

18. (إلى) متعلّقة بمحذوف دلّ عليه معنى الانتهاء، أي لا ذاهبين إلى هذا الفريق ولا إلى الفريق الآخر، والذهاب الذي دلّت عليه (إلى) ذهاب مجازي وهو الانتماء والانتساب، أي هم أضاعوا النسبتين فلا هم مسلمون ولا هم كافرون ثابتون، والعرب تأتي بمثل هذا التركيب المشتمل على (لا) النافية مكرّرة في غرضين: تارة يقصدون به إضاعة الأمرين، كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع (لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل)، وقوله تعالى: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى﴾ [القيامة: 31]، ﴿لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ [البقرة: 71]، وتارة يقصدون به إثبات حالة وسط بين حالين، كقوله تعالى: ﴿لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: 35] ـ ﴿لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ﴾ [المائدة: 68]، وقول زهير: (فلا هو أخفاها) ولم يتقدّم وعلى الاستعمالين.

19. فمعنى الآية خفي، إذ ليس المراد إثبات حالة وسط للمنافقين بين الإيمان والكفر، لأنّه لا طائل تحت معناه، فتعيّن أنّه من الاستعمال الأول، أي ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين، وهم في التحقيق،، إلى الكافرين، كما دلّ عليه آيات كثيرة، كقوله: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 139]، وقوله: ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 141]، فتعيّن أنّ المعنى أنهم أضاعوا الإيمان والانتماء إلى المسلمين، وأضاعوا الكفر بمفارقة نصرة أهله، أي كانوا بحالة اضطراب وهو معنى التذبذب، والمقصود من هذا تحقيرهم وتنفير الفريقين من صحبتهم لينبذهم الفريقان.

20. ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ طاب لغير معيّن، والمعنى: لم تجد له سبيلا إلى الهدى بقرينة مقابلته بقوله: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ الله﴾

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/286.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أكد سبحانه النهى عن مجالسة المنافقين بقوله تعالت كلماته: ﴿إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ أي أنه إذا كان المنافقون يطلبون العزة من الكافرين، ويطلبون الولاء والنصرة منهم ويحاولون بذلك أن يجتمعوا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن الله سبحانه وتعالى جامعهم في الذل والهوان، لا في العز والاستمكان، إنه جامعهم في جهنم جميعا بلا استثناء قط؛ لأنهم تحدوا الله ورسوله، ولأنهم جحدوا بآيات الله تعالى وسخروا منها، ولأن كلمة الكفر تجمعهم وتفرقهم في النوع لا في الأصل، فإن الكفار قسمان: قسم أعلن الكفر والمناوأة وأولئك أقوياء الكفار، وقسم كفر وغش وخدع، فادعى الإسلام، وكلاهما في جهنم وان كان المنافق في الدرك الأسفل منها.

2. ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ التربص الانتظار، فيقال تربص بمعنى انتظر، ويقال تربص به إذا انتظره مراقبا له، ففي قوله: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة] يراد التربص مع مراقبة النفس، وملاحظة حال الحيض وغيرها.

3. وهؤلاء المنافقون عند اشتداد الشديدة، وقيام الحرب ينتظرون مراقبين المؤمنين وغيرهم، فإن كان النصر الفاتح الفاصل بين قوة الشرك وقوة أهل الإيمان بنصر الله تعالى وتأييده قالوا: نحن معكم لنا حظ في الغنيمة ولا بد أن يسهم لنا سهم فيها، وإن كان للكافرين نصيب من النصر قالوا: ألم نحطكم بحمايتنا ورعايتنا ونمنع المؤمنين من أن ينتصروا عليكم، أي أن انتصاركم كان بفضل حياطتنا ورعايتنا، فهم لطمعهم مترددون بين الفريقين كالشاة العاثرة بين غنمين، يذهبون إلى حيث المطمع العاجل، إذا احتدم القتال بين الفريقين، أما إذا كان السلم فقلوبهم وولاؤهم للكافرين دائما لأنهم منهم.

4. في النص القرآني بعض بحوث لفظية تقرب معنى النص الكريم:

أ. أولها: أنه سبحانه وتعالى عبر عن النصر في جانب المؤمنين بأنه فتح؛ لأن الفتح فصل بين الحق والباطل، ولأنه من وراء نصر المؤمنين فتح الطريق لكى يدرك الناس الإسلام، ويدخل فيه من أراد، ولأن النصر للمؤمنين دائم، وقد عبر سبحانه عن الفتح أنه يجيء من الله في ذلك معنى الدوام؛ لأن الذى يجيء به هو الله القائم على كل شيء فهو باق ما بقيت الأسباب التي تتخذ للنصر.

ب. ثانيها: أن الاستفهام في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ معناه أننا كنا معكم مؤكدين ذلك بالاستفهام، وهو الذى يسمى الاستفهام التقريري وهو في أصله للنفي وهو داخل على النفي وهو: لم نكن معكم، فهو نفى لهذه القضية، ونفى النفي إثبات، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾

ج. ثالثها: أنه عبر عن انتصار الكافرين في الموقعة بقوله: ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ فلم يقل أن انتصارهم فتح، ولكنه قدر من النصر قل أو كثر، ولا يمكن أن يكون فتحا؛ لأنه لا ينصر الباطل نصرا دائما، ولا يكون للكافرين نصيب من النصر إلا في غفلة من المسلمين كما في أحد، ويدوم بمقدار الغفلة، فإن كانت اليقظة كان فتح الله للمؤمنين.

د. رابعها: أن كلمة استحوذ معناها أحطنا بحاذيكم أي جانبيكم وهذا كناية عن الإحاطة بهم للحماية والمنع.

5. ﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ وإذا كانت تلك حال المنافقين، في الدنيا وحال الكافرين فيها، فإن مآلهم إلى الله تعالى يوم القيامة، وهو الذى سيحكم بالحق وحده، ولا يستوى الذين يؤمنون والذين يكفرون، ومهما يكن من استنصار المنافقين بالكافرين، وتمالؤ الفريقين على المؤمنين، فالله سبحانه ولى المؤمنين سيقطع ما بين الفريقين، وسيكون المؤمنون في النعيم، وأولياء الشيطان في الجحيم.

6. وإنه في الدنيا والآخرة لن يجعل الله تعالى للكافرين بوصف أنهم كافرون سبيلا أي سبيل للسيطرة على المؤمنين بوصف أنهم مؤمنون، وإذا كنا نرى غلبة من أهل الكفر على الذين يتسمون باسم الإسلام الآن؛ فلأنهم تخلوا عن أوامر الله تعالى للمؤمنين، وخذلوا الحق، فما كانت الغلبة من كافر على مؤمن بل كانت من كافر على مسلم تخلى عن واجب الإيمان اللهم ارفع كلمة الحق والإيمان، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، إنك سميع الدعاء.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1913.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾، ولنا ان نؤلف من قوله هذا، وقوله: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ ان نؤلف قياسا منطقيا، يتألف من مقدمتين ينتجان قضية حتمية بديهية، ونقول هكذا: كل من رضي بالكفر فهو كافر، لقوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾، وكل كافر فهو في جهنم، لقوله: ﴿إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ﴾ اذن، كل من رضي بالكفر فهو كافر.

2. ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ترسم هذه الآية صورة لحال المنافقين إذا وقعت الحرب بين المسلمين والمشركين، وتتلخص هذه الصورة بأن المنافقين كانوا يخرجون مع المسلمين في حروبهم للدس والتثبيط وتفتيت الصفوف، وفي الوقت نفسه يتظاهرون بأنهم خرجوا لنصرة المسلمين، وينتظرون: فان كان الظفر للمسلمين قالوا لهم: كنا معكم، فنحن وأنتم شركاء في الغنيمة، وان كان للمشركين قالوا لهم: نحن الطابور الخامس، فأين الأجر؟ وهكذا يمسكون العصا من وسطها.

3. أبلغ ما قرأت في وصف المنافقين ما قاله علي أمير المؤمنين عليه السلام: (قد أعدوا لكل حق باطلا، ولكل قائم مائلا، ولكل باب مفتاحا، ولكل ليل مصباحا)، وهؤلاء موجودون في كل عصر، وتضاعف عددهم في البلاد العربية يوما بعد يوم منذ ان ظهر فيها الذهب الأسود، واتخذوا الوطنية شعارا لهم، تماما كما تظاهر المنافقون بالإسلام في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.. فان تغلب الأحرار المناضلون على المحتكرين والمستغلين قال لهم منافقو العصر: ألم نكن معكم؟ وان نجا المستغلون بفريستهم قالوا لهم: ألم نمنع عنكم الأحرار؟

4. سؤال وإشكال: لماذا عبّر سبحانه عن ظفر المسلمين بالفتح من الله، حيث قال ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله﴾ وعبر عن ظفر الكافرين بالنصيب حيث قال ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾؟ والجواب: ان ظفر المسلمين هو ظفر للحق الذي يدوم ويبقى ما دام أهله متبعين لسنة الله وأمره من أعداد العدة، فناسب التعبير عنه بفتح من الله، أما ظفر الباطل فانه مؤقت لا يلبث حتى يزول أمام أهل الحق إذا اجتمعت كلمتهم على جهاده ونضاله.. وقديما قيل: دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.

5. ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾، استدلّ الفقهاء بهذه الآية على أن الله سبحانه لم يشرع حكما يستدعي أية سلطة، وولاية لغير المسلم على‏ المسلم، وفرعوا على ذلك كثيرا من الأحكام، منها إذا كان أبو الطفل مسلما، وامه غير مسلمة فلا حق لها في حضانة الطفل، لأن الولد يتبع أشرف الأبوين دينا، ويكون حكمه حكم المسلم، ومنها ان المسلم لا يجوز له أن يوصي بأولاده الصغار إلى غير المسلم، وان فعل بطلت الوصية، ومنها ان الأب انما تكون له الولاية على أولاده إذا اتحد معهم في الدين، أما إذا كانوا مسلمين، والأب غير مسلم فلا ولاية له عليهم، ومنها ان حكم الحاكم غير المسلم لا ينفذ بحق المسلم، وان كان حقا.. إلى غير ذلك من الأحكام.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/466.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله﴾ التربص: الانتظار، والاستحواذ: الغلبة والتسلط، وهذا وصف آخر لهؤلاء المنافقين فإنهم إنما حفظوا رابطة الاتصال بالفريقين جميعا: المؤمنين والكافرين، يستدرون الطائفتين ويستفيدون ممن حسن حاله منهما، فإن كان للمؤمنين فتح قالوا: إنا كنا معكم فليكن لنا سهم مما أوتيتموه من غنيمة ونحوها، وإن كان للكافرين نصيب قالوا: ألم نغلبكم ونمنعكم من المؤمنين؟ أي من الإيمان بما آمنوا به والاتصال بهم فلنا سهم مما أوتيتموه من النصيب أو منة عليكم حيث جررنا إليكم النصيب.

2. قيل: عبر عما للمؤمنين بالفتح لأنه هو الموعود لهم، وللكافرين بالنصيب تحقيرا له فإنه لا يعبأ به بعد ما وعد الله المؤمنين أن لهم الفتح وأن الله وليهم، ولعله لذلك نسب الفتح إلى الله دون النصيب.

3.﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ الخطاب للمؤمنين وإن كان ساريا إلى المنافقين والكافرين جميعا، وأما قوله: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله﴾ فمعناه أن الحكم يومئذ للمؤمنين على الكافرين، ولن ينعكس الأمر أبدا، وفيه إياس للمنافقين، أي لييئس هؤلاء المنافقون فالغلبة للمؤمنين على الكافرين بالآخرة، ويمكن أن يكون نفي السبيل أعم من النشأتين: الدنيا والآخرة، فإن المؤمنين غالبون بإذن الله دائما ما داموا ملتزمين بلوازم إيمانهم، قال تعالى:‏ ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/117.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ لأن المنافقين يسمعون الكفار يكفرون بآيات الله فاجتمعوا في الدنيا على الإثم وفي الآخرة في العقاب، وهذا يؤكد أن معنى ﴿مَثَلُهُمْ﴾ هو مثلهم في العقاب.

2. ﴿يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ ينتظرون بكم الدوائر؛ لأنهم يتوقعون أن يغلبكم الكفار، وقوله تعالى: ﴿بِكُمُ﴾ يُفهَمُ منه أنهم خائفون منكم أو كارهون لكم ويصبرون على ذلك لتوقعهم ذهابكم، وهم المنافقون يجاملون المسلمين ويبقون معهم تربصاً بهم الدوائر ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله﴾ لم يرجعوا عن نفاقهم بل يستمرون فيه؛ فلذلك ﴿قَالُوا﴾ لكم: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ أي أنا معكم، ما زلنا على دينكم فقد عرفتم ذلك منا من قبل اليوم وهذا لخوفهم من المؤمنين؛ لأنهم لم يتبعوا سبيل المؤمنين ويكونوا مثلهم في المحافظة على الجماعة والامتثال لأوامر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

3. ومع ذلك قد نافقوا فهم يخافون أن يعتبرهم المؤمنون كافرين غير مقبول منهم دعوى الإسلام، وهذا حين رأوا قوّة المسلمين ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿نَصِيبٍ﴾ بأن حصلت لهم فيكم وقعة مؤلمة لكم؛ لأن الحرب سجال تتقلب فيه الحال لتقلب أحوال المسلمين كما كان (يوم أحد) وفي أولـ (وقعة حنين) ﴿قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿قَالُوا﴾ للكافرين تقرباً إليهم وتحبباً لديهم لزيادة أملهم في أن الغلبة والقوة لهم: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ نسيطر عليكم في الرأي ونغلبكم في التدبير ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ من أن تكونوا معهم، فاحتجوا بأمرين على صدقهم في أنهم مع الكفار:

أ. الأول: الاستحواذ عليهم وغلبتهم في الرأي حتى حصلوا على النصيب بسبب رأي المنافقين وتدبيرهم، ويظهر: أن المنافقين كانوا زينوا للكفار حرب المسلمين ومنّوهم أنهم يغلبون المسلمين، وغلبوهم بهذا الرأي حتى قاتلوا المسلمين، فادعى المنافقون أن هذا بسبب رأيهم لهم في القتال.

ب. الثاني: منعهم لهم أن يكونوا مع المؤمنين أي تحذيرهم من الإسلام، فهو دليل ثان على صدق المنافقين في أنهم مع الكفار، وأنهم غير جادِّين في إظهار الإسلام، وهذا حين رأوا قوة الكفار وتقوى أملهم في أن العاقبة للكفار، هذا على فرض أن المنافقين حرضوا الكفار على حرب المسلمين، فإن لم يكونوا فعلوا فالمعنى نسيطر عليكم في المنع من الإسلام، فهي في المعنى قضية واحدة أرادوا سيطرنا عليكم بالرأي والتدبير لكثرة تحذيركم من الإسلام حتى منعناكم فالمنع نتيجة التحذير.

4. والحاصل: أنهم أرادوا التقرب إلى الكفار كما صنعوا مع المسلمين حين كانت القوة لهم؛ لأنهم قوم يَفْرَقون ويخشون أن تصيبهم دائرة بأن يقتلهم الكفار إذا حاربوا المسلمين وغلبوهم في ظنهم وتوقعهم.

5. ﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ ﴿فَالله يَحْكُمُ﴾ بين الفئات الثلاث: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ يغلبونهم بها ويقهرونهم ويضيع الإسلام، بل قد أراد إظهاره على الدين كله. فهذا رد على تربص المنافقين بالمؤمنين دائرة السوء، وبيان: أنهم يتوقعون ما لن يكون، ويحتمل: أن المراد في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا لا يزال النصر لأوليائه الناصرين له، وفي الآخرة لا يكون لهم عند المحاكمة حجة على المؤمنين؛ لأن المؤمنين قاتلوهم بأمر الله وأذنه، والكفار قاتلوا المؤمنين ظلماً وعدواناً، فالحجة للمؤمنين، ولن يُجعل للكفار سبيل يجادلون بها وتكون لهم بها الحجة على المؤمنين، وهذا هو الراجح حملها على المعنيين.

6. سؤال وإشكال: قد يشكل على المعنى الأول غلبة الكفار للمسلمين في هذا العصر!؟ والجواب: أنهم لن يغلبوا المسلمين غلبة عامة للمسلمين وإن غلبوهم في قُطْر فذلك لا يضيع به الإسلام، مع أن ذلك يكون السبب فيه من المسلمين، كما قال تعالى: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران:165] فحزب الله هم الغالبون فما دام المؤمنون الصادقون في الإيمان حزباً وجنداً كما كانوا في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فلن يغلبوا، أما إذا اختلفوا وتنازعوا وعصوا فاستحقوا الخذلان، فقد أنذرهم ذلك قولُه تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال:46]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران:165]

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/192.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه صفة أخرى من صفات النفاق، وهي صفة الانتهازيّ الذي يلعب على نتائج المواقف ويتخذ لنفسه الموقع الذي يلتمس الربح على مستوى الدنيا من غير اعتبار للآخرة؛ فهم يظلون في حالة انتظار وتربّص بالمؤمنين، فلا يحددون موقفهم بشكل حاسم، بل ينتظرون البوادر التي تحدد النتائج، فإن كان هناك فتح للمؤمنين، جاؤوا إليهم ليقولوا لهم في عملية تأكيد للموقف الذي يستحق الحصول على بعض غنائم النصر: ألم نكن معكم؟ ويقيمون كل الدلائل على ذلك، أما إذا كان للكافرين نصيب من الانتصار في المعركة، جاؤوا إليهم ليؤكدوا لهم أنهم هم الذين ساعدوا على الوصول إلى هذه النتائج ونصروهم على المؤمنين، بعد أن ملكوا أمر السلطة عليهم، فلم يمكنوا المؤمنين من الوصول إليهم والتغلب عليهم، وقد أراد الله أن يوحي لهؤلاء بالشعور بهول الموقف الذي ينتظرهم، فإذا كانوا قد استطاعوا اللعب على الألفاظ والمواقف في الحياة الدنيا، فكيف يكون موقفهم يوم القيامة، عندما يقفون غدا مع المؤمنين، ليكون الله هو الحاكم الذي يحكم بينهم؛ فأيّ جواب، وأيّ دفاع فيما لا جواب له ولا دفاع عنه!؟

2. ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ وحجة، لأنهم لا يملكون الحجة على مواقفهم المنحرفة التي يواجهون بها خط الإيمان وتلك هي قضية المواقف المرتكزة على قناعات ثابتة أصيلة، والمواقف المبنية على الهوى والشبهة من دون أساس، من حيث النتائج الأخروية في موقف الحكم أمام الله، أو من حيث النتائج الدنيويّة في حركة الواقع في حياة الناس، وقد جاء في كتابـ (عيون أخبار الرضا) للصدوق، بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عليه السّلام‏، في قول الله جل جلاله: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ قال: فإنه يقول: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين حجة، ولقد أخبر تعالى عن كفار قتلوا نبيهم بغير الحق، ومع قتلهم إياهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلا، وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن علي عليه السّلام‏، ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾، قال: في الآخرة، وهذا هو ما يقتضيه سياق الآية عن حكم الله بينهم وبين المؤمنين في‏ يوم القيامة.

3. وقد حاول الفقهاء أن يتجاوزوا هذا الجو الذي يوحيه سياق الآية إلى أبعد من ذلك، فاعتبروا الآية دليلا على إلغاء كل الالتزامات المفروضة على المسلّم للكافر، أو الأوضاع القانونية التي تمثل لونا من ألوان السلطة للكافر على المسلم.. وتعدّى البعض ذلك إلى عدم جواز بيع المصحف للكافر، لأن منع سلطة الإنسان الكافر على المسلّم يقتضي منع سلطته على القرآن بطريق أولى، وربما ناقش بعض الفقهاء في بعض ذلك، ولا سيما بما يتعلق بالقرآن الذي أراد الله للناس من الكفار والمؤمنين أن يقرءوه أو يسمعوه لأنه النور الذي يضيء عقولهم بالحق، فلا بد من العمل على تسهيل وصوله إليهم بأية وسيلة ليطلعوا عليه حتى مع وجود بعض السلبيات الناشئة من ذلك بما يتصل بطريقة احترامه، فهو كتاب للهداية لا للتجميد في نطاق معين من شكليات الاحترام مما نترك تفصيله لأبحاث الفقه.

4. وقد نستوحي من ذلك، الموقف السياسي والاجتماعي والاجتماعي والاقتصادي الذي ينبغي أن يتخذه المسلمون من سلطة الكافرين التي تحاول أن تحتويهم وتسيطر عليهم وتمنعهم من الوصول إلى أهدافهم الكبيرة في إقامة سلطة حكم الله على الأرض، وتعمل على إذلالهم وتدمير روحهم المعنوية، وتمزيق وحدتهم، وإهدار ثروتهم، ونهب مواردهم، وتعطيل دورهم الفاعل في قيادة الحياة، وخنق حريتهم ومنعها من الامتداد في خط الدعوة إلى الله والعمل في سبيله؛ فإذا كان الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، فإن المقتضى العملي لهذه الآية هو أن يعمل المسلمون على عدم إعطاء الكفرة السبيل عليهم وعلى أرضهم وأموالهم، ومن هنا كان من الضروري لهم أن يقفوا في مواقع المواجهة الحادة ضد كل هذه الأعمال، من أجل أن يعطّلوا الخطّة ويمنعوا عملية الاحتواء والإذلال.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/512.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تكرر الآية التأكيد على أنّ المشاركة في المجالس المذكورة تدل على الروحية النفاقية التي يحملها المشاركون، وإن الله يجمع المنافقين والكافرين في جهنم حيث العذاب الأليم، تقول الآية: ﴿إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾

2. ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ تبيّن هذه الآية ـ وآيات أخرى تالية ـ قسما آخر من صفات المنافقين وأفكارهم المضطربة، فتؤكد أنّ المنافقين يسعون دائما لاستغلال أي حدث لصالحهم، فلو انتصر المسلمون حاول المنافقون أن يحشروا أنفسهم بين صفوف المؤمنين، زاعمين بأنّهم شاركوا المؤمنين في تحقيق النصر وأدعوا بأنّهم قدموا دعما مؤثرا للمؤمنين في هذا المجال، مطالبين بعد ذلك بمشاركة المؤمنين في الثمار المعنوية والمادية للنصر حيث تقول الآية في حقهم: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾

3. وهؤلاء المنافقون ينقلبون على أعقابهم حين يكون النصر الظاهري من نصيب أعداء الإسلام فيتقربون إلى هؤلاء الأعداء، ويعلنون لهم الرضى والموافقة بقولهم أنّهم هم الذين شجعوهم على قتال المسلمين وعدم الاستسلام لهم، ويدعون بأنّهم شركاء في النصر الذي حققه أعداء الإسلام تقول الآية: ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وعبارة (استحوذ) مشتقة من (حوذ) وهي تعني هنا دفع أو ساق إلى القيام بأمر معين، وعلى هذا المنوال تحاول هذه الفئة المنافقة أن تستغل الفرصة لدى انتصار المسلمين ليكون لهم نصيب من هذا النصر وسهم من الغنائم، ولإظهار المنّة على المسلمين، وفي حالة انكسار المسلمين تظهر هذه الفئة الرضى والفرح لدى الكفار، وتدفعهم إلى الإصرار على كفرهم وتتجسس لصالحهم، وتهيئ لهم أسباب الفوز المادي، فهم تارة رفاق الطريق مع الكفار، وتارة شركاؤهم في الجريمة، وهكذا يمضون حياتهم بالتلون والنفاق واللعب على الحبال المختلفة.

4. ولكن القرآن الكريم يوضح بعبارة واحدة مصير هؤلاء ونهايتهم السوداء، ويبيّن أنّهم ـ لا محالة ـ سيلاقون ذلك اليوم الذي تكشف فيه الحجب عن جرائمهم ويرفع النقاب عن وجوههم الكريهة، وعند ذلك ـ أي في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة ـ سيحكم الله بينهم وهو أحكم الحاكمين، فتقول الآية في هذا المجال: ﴿فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

5. ولكي يطمئن القرآن المؤمنين الحقيقيين من خطر هؤلاء، تؤكد هذه الآية ـ في آخرها ـ بأنّ الله لن يجعل للكافرين مجالا للانتصار أو التسلط على المسلمين، وذلك حيث تقول الآية: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾

6. سؤال وإشكال: هل أنّ العبارة الأخيرة تفيد عدم انتصار الكفار على المؤمنين من حيث المنطق، أو أنّها تشمل عدم انتصار الكفار من الناحية العسكرية أيضا؟ والجواب: لما كانت كلمة (سبيل) نكرة جاءت في سياق النفي وتؤدي معنى عاما، لذلك يفهم من الآية أن الكافرين بالإضافة إلى عدم انتصارهم من حيث المنطق على المؤمنين، فهم لن ينتصروا ولن يتسلطوا على المؤمنين في أي من النواحي العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية، بل ولا في أي مجال آخر، وما نشاهده من انتصار للكافرين على المسلمين في الميادين المختلفة، إنّما هو بسبب أنّ المسلمين المغلوبين لم يكونوا ليمثلوا ـ في الحقيقة ـ المسلمين، المؤمنين الحقيقيين، بل هم مسلمون نسوا آدابهم وتقاليدهم الإيمانية، وتخلوا عن مسئولياتهم وتكاليفهم وواجباتهم الدينية بصورة تامّة، فلا كلام عن الاتحاد والتضامن والأخوة الإسلامية بينهم، ولا هم يقومون بواجب الجهاد بمعناه الحقيقي، كما لم يبادروا إلى اكتساب العلم الذي أوجبه الإسلام وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة ودعا إلى تحصيله وطلبه من يوم الولادة حتى ساعة الوفاة، حيث‏ قال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أطلب العلم من المهد إلى اللّحد)، ولما أصبحوا هكذا فقد استحقوا أن يكونوا مغلوبين للكفار.

7. استدلّ جمع من الفقهاء بهذه الآية على أنّ الكفار لا يمكن أن يتسلطوا على المسلمين المؤمنين من الناحية الحقوقية والحكمية، ونظرا للعمومية الملحوظة في الآية، لا يستبعد أن تشمل الآية هذا الأمر أيضا.

8. ممّا يلفت النظر في هذه الآية هو التعبير عن انتصار المؤمنين بكلمة (الفتح) بينما عبّرت الآية عن انتصار الكفار بكلمة (النصيب) وهو إشارة إلى أن انتصار الكفار إنّما هو نصيب محدود وزائل، وأنّ الفتح والنصر النهائي هو للمؤمنين.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/498.

124. المنافقون والخداع والكسل والتذبذب

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈124⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النساء: 142 ـ 143]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: مثل المؤمن والمنافق والكافر مثل ثلاثة نفر انتهوا إلى واد، فوقع أحدهم فعبر، ثم وقع أحدهم حتى أتى على نصف الوادي ناداه الذي على شفير الوادي: ويلك، أين تذهب؟ إلى الهلكة!؟ ارجع، عودك على بدئك، وناداه الذي عبر: هلم النجاة، فجعل ينظر إلى هذا مرة، وإلى هذا مرة، قال فجاءه سيل فأغرقه، فالذي عبر المؤمن، والذي غرق المنافق، مذبذب بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، والذي مكث الكافر(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٦.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل!؟(1).

2. روي أنّه قال: من ذكر الله عز وجل في السر فقد ذكر الله كثيرا، إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السر، فقال الله عز وجل: ﴿يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾(2).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.

(2) الكافي 2/364.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾: إنما قال ذلك لأنهم يفعلونها رياء وسمعة، ولو أرادوا بذلك القليل وجه الله تعالى لكان كثيرا(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٤٠٥.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ قال هم المنافقون، ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ يقول: لا إلى أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ اليهود(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦١٦.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: في ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾‌‌، يلقى على كل مؤمن ومنافق نور يمشون به يوم القيامة، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين، ومضى المؤمنون بنورهم، فينادونهم: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [الحديد: ١٣ ـ ١٤]، قال الحسن: فتلك خديعة الله إياهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، إنما قل لأنه كان لغير الله(2).

3. روي أنّه قال: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، فوالله، لو كان ذلك القليل منهم لله لقبله، ولكن كان ذلك القليل منهم رياء(3).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦١٢.

(2) ابن أبي شيبة في مصنفه ١٩/٣٩٨.

(3) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٦.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا، فإنهما من خلال النفاق، فإن الله سبحانه نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى، يعني سكر النوم، وقال للمنافقين: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل: فيما النجاة غدا؟ فقال: إنما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم، فإنه من يخادع الله يخدعه ويخلع، منه الإيمان، ونفسه يخدع لو يشعر، فقيل له: وكيف يخادع الله؟ قال يعمل بما أمره الله عز وجل ثم يريد به غيره، فاتقوا الله في الرياء فإنه شرك بالله عز وجل، إن المرائي يوم القيامة ينادى بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له(2).

__________

(1) الكافي 3/299.

(2) ثواب الأعمال: 255.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾، والله، لولا الناس ما صلى المنافق، ولا يصلي إلا رياء وسمعة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، إنما قل ذكر المنافق لأن الله لم يقبله، وكل ما رد الله قليل، وكل ما قبل الله كثير(2).

3. روي أنّه قال: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾، يقول: ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرحين بالشرك، قال وذكر لنا: أن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يضرب مثلا للمؤمن والمنافق والكافر، كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر، فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر: أن هلم إلي؛ فإني أخشى عليك، وناداه المؤمن: أن هلم إلي؛ فإن عندي وعندي، يحصي له ما عنده، فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه الماء فغرقه، وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك(3).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦١٣.

(2) ابن جرير ٧/٦١٤.

(3) ابن جرير ٧/٦١٦.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾، يعطيهم يوم القيامة نورا يمشون فيه مع المسلمين، كما كانوا معهم في الدنيا، ثم يسلبهم ذلك النور، فيطفئه، فيقومون في ظلمتهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾، يقول: ليسوا بمشركين فيظهروا الشرك، وليسوا بمؤمنين(2).

3. روي أنّه قال: ﴿سَبِيلًا﴾، يقول: حجة(3).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦١١.

(2) ابن جرير ٧/٦١٥.

(3) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٧.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: في المنافقين: ﴿يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾، قال مثل قوله في البقرة: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلآ أنفسهم)، وأما قوله: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ فيقول: في النور الذي يعطى المنافقون مع المؤمنين، فيعطون النور، فإذا بلغوا السور، وما ذكر الله من قوله: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ [الحديد: ١٣] قال قوله: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾، لم يخلصوا الإيمان فيكونوا مع المؤمنين، وليسوا مع أهل الشرك(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦١٠.

(2) ابن جرير ٧/٦١٧.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم أخبر عن المنافقين، فقال سبحانه: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾، يعني: المنافقين متثاقلين، لا يروا أنها حق عليهم، نظيرها في براءة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ﴾ يعني: في الصلاة ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ يعني بالقليل: الرياء، ولا يصلون في السر(1).

3. روي أنّه قال: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ يقول: إن المنافقين ليسوا مع اليهود فيظهرون ولايتهم، ولا مع المؤمنين في الولاية، ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾(2).

4. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ﴾ عن الهدى ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ إليه(2).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٦.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٧.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾، هم المنافقون، لولا الرياء ما صلوا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾، بين الإسلام والكفر(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦١٣.

(2) ابن جرير ٧/٦١٧.

الكاظم:

روي عن محمد بن الفضيل، قال كتبت إلى الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أسأله عن مسألة فكتب عليه السلام إلي: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ ليسوا من الكافرين، وليسوا من المؤمنين، وليسوا من المسلمين، يظهرون الإيمان ويصيرون إلى الكفر والتكذيب، لعنهم الله(1).

__________

(1) الكافي 2/290.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ إنه يقول: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين حجة، ولقد أخبر الله تعالى عن كفار قتلوا النبيين بغير الحق، ومع قتلهم إياهم لن يجعل الله لهم على أنبيائه (عليهم السلام) سبيلا(1).

2. روي أنّه سئل عن قوله: ﴿يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ فقال: إن الله تبارك وتعالى لا يخادع، ولكنه يجازيهم جزاء الخديعة(2).

3. عن محمد بن الفضيل قال: كتبت إليه أسأله عن مسألة فكتب إلي: إن الله يقول: ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْإلى﴾ قوله: ﴿سَبِيلًا﴾ ليسوا من عترة، وليسوا من المؤمنين، وليسوا من المسلمين، يظهرون الإيمان ويسرون الكفر والتكذيب، لعنهم الله(3).

__________

(1) تفسير القمّي 1/156.

(2) عيون أخبار الرّضا 1/126.

(3) تفسير العيّاشي 1/282.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يحتمل قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللهَ﴾ أي: يخادعون أولياء الله أو دينه، فأضيف إليه؛ فهو جائز، وفي القرآن كثير؛ كقوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾، أي: إن تنصروا دين الله أو أوليائه ينصركم، وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب.

2. وقوله عز وجل: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾، أي: يجزيهم جزاء خداعهم المؤمنين؛ فسمي: خداعًا ـ وإن لم يكن في الحقيقة خداعًا؛ لأنه جزاء الخداع، وهو كما سمى جزاء السيئة: سيئة، وإن لم تكن الثانية: في الحقيقة ـ سيئة، وكذلك سمى جزاء الاعتداء: اعتداء، وإن لم يكن الثاني اعتداء؛ فعلى ذلك سمى هذا: خداعًا؛ لأنه جزاء الخداع، واللغة غير ممتنعة عن تسمية الشيء باسم سببه؛ على ما ذكرنا، ثم اختلف في جهة الخداع:

أ. عن ابن عَبَّاسٍ قال: يعطى المنافقين على الصراط نورًا كما يعطى المؤمنين؛ فإذا مضوا به على الصراط طفِئ نورهم، ويبقى نور المؤمنين يمضون بنورهم؛ فينادون المؤمنين: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾، فنجوز به؛ فتناديهم الملائكة: ﴿ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾، وقد علموا أنهم لا يستطيعون الرجوع؛ فذلك قوله: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ وكذلك قال الحسن، ثم قال فتلك خديعة الله إياهم.

ب. وقال آخرون: يفتح لهم باب من أبواب الجنة؛ فإذا رأوا ذلك قصدوا ذلك الباب، فلما دنوا منه أغلق دونهم، فذلك الخداع.

ج. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أنهم شاركوا المؤمنين في هذه الدنيا ومنافعها، والتمتع والتقلب فيها؛ فظنوا أنهم يشاركونهم في منافع الآخرة والتمتع بها؛ فيحرمون ذلك، فذلك الخديعة.

3. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ الآية، جعل الله تعالى للمنافق أعلاما في قوله وفعله يعلم بها المنافق:

أ. أما في القول: ما قالوا: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾، وقوله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ الآية.

ب. وأما في الفعل فهو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، وقوله: ﴿وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، أي القتال، وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ الآية، ومثله كثير في القرآن، مما جعل ذلك علامة لهم، وهو كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ الآية، وكقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ الآية، يراءون في جميع أفعالهم ـ الناس، وفي حرف حفصة ا: (يراءون الناس والله يعلم ما في قلوبهم ولا يذكرون الله إلا قليلا)

4. عن الحسن في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ـ فقال: أما والله لو كان ذلك القليل منهم للهِ لقبله، ولكن ذلك القليل رياء، وقيل: لو كان ذلك القليل لله يريدون به وجهه، فقبله ـ لكان كثيرًا، ولكن لا يقبله؛ فهو لا شيء وقد يتكلم بالقليل واليسير على إرادة النفي من الأصل، وروي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (مَنْ أحْسَنَ الصلَاةَ حَيثُ يَرَاهُ النَّاسُ، وَأَسَاءَهَا حَيثُ يَخْلُو ـ فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ يَسْتَهِينُ بِهَا رَبَّهُ)، وروي في علامة المنافق أخبار:

أ. روى أبو هريرة قال قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إِن للمُنَافِقِ عَلَامَاتٍ، يُعرَفُونَ بِهَا: تَحِيتُهُم لَعْنَة، وَطَعَامُهُم نُهْبة، وَغَنيمَتُهُم غُلُوا، لَا يَقْرَبُونَ المَسَاجِدَ إِلا هَجْرًا، وَلَا يَأتُونَ الصلَاةَ إِلأ دُبُرًا)

ب. وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (أَرْبعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وِإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)، وروي: ثلاث.

ج. ورُوي عن عبد الله قال اعتبروا المنافق بثلاث: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وِإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذا عاهد غدر، ثم قرأ الآيات: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ﴾ الآية.

د. وعن وهب قال من خصال المنافق: أن يحب الحمد، ويكره الذم.

5. قوله عز وجل: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾:

أ. قال أكثر أهل التأويل: ليسوا بمسلمين مخلصين ولا مشركين مصرحين، وهو ـ أيضًا ـ قول قتادة.

ب. وقال مقاتل: ليسوا مع اليهود فيظهرون ولايتهم لهم، وليسوا مع المؤمنين في التصديق مع الولاية.

ج. ويحتمل غير هذا: وهو أنه لم يظهر لكل واحد من الفريقين منهم الموافقة لهم والكون معهم؛ بل ظهر منهم الخلاف عند كل فريق؛ لأنهم كانوا أصحاب طمع، عُبَّادَ أنفسهم، يكونون حيث رأوا السعة معهم؛ فلا إلى هَؤُلَاءِ في حقيقة الدِّين عند أنفسهم، ولا إلى هَؤُلَاءِ، فذلك تأويله.

6. وقوله عز وجل: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾:

أ. قيل: حجة؛ على ما قيل في الأول.

ب. وقيل: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾، يعني: هدى وطريقًا مستقيمًا.

ج. وعن الحسن: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾؛ ما دام كافرًا؛ فإذا تاب ورجع عن ذلك فله السبيل.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٩٥.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ أي لن يجعل عز وجل لأعدائه سبيلاً إلى الاحتجاج عليهم ولا يقدر أعداء الله على الظهور عليهم، لأن الحق مؤيد قوي، والباطل ضعيف مخذول غوي.

2. معنى قوله في المنافقين: ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾، أي متحيرين مضطربين، غير مستقرين ولا ثابتين ولا مقيمين في فن واحد ولا تائبين.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/253.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ يعني حجة.

2. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ يخادعون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بما يظهرونه من الإسلام ويبطنونه من الكفر فصار خداعهم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خداعاً له.

3. ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ أي يعاقبهم على خداعهم فسمى الجزاء عن الفعل باسمه ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ أي متثاقلين مقصرين ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ يفعلون ما يفعلون أي رياء الناس دون طاعة الله ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي لا يعبدونه.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/198.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ معنى ﴿يُخَادِعُونَ اللهَ﴾ أي يخادعون نبي الله بما يظهرونه من الإيمان ويبطنونه من الكفر، فصار خداعهم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خداعاً لله عز وجل.

﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ يعني الله تعالى، وفيه ثلاثة أوجه:

أ. أحدها: يعني يعاقبهم على خداعهم، فسمى الجزاء على الفعل باسمه.

ب. الثاني: أنه أمر فيهم بأمر المُخْتَدِع لهم بما أمر به من قبول إيمانهم وإن علم ما يبطنون من كفرهم.

ج. الثالث: ما يعطيهم في الآخرة من النور الذي يمشون به مع المؤمنين، فإذا جاؤواْ إلى الصراط طفئ نورهم، فتلك خديعة الله إياهم.

2. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ يحتمل قولين:

أ. أحدهما: متثاقلين.

ب. الثاني: مقصَّرين.

3. ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ يعني أنهم يقصدون بما يفعلونه من البر رياء الناس دون طاعة الله تعالى، ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ فيه قولان:

أ. أحدهما: الرياء، لأنه لا يكون إلا ذِكراً حقيراً، وهو قول قتادة.

ب. الثاني: يسيراً لاقتصاره على ما يظهر من التكبير دون ما يخفي من القراءة والتسبيح، وإنما قّلَّ من أجل اعتقادهم لا من قلة ذكرهم، قال الحسن: لأنه كان لغير الله تعالى.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٣٩).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ بينا في أوّل البقرة معنى الخداع من المنافقين، ومن الله تعالى وجملته ان الخداع من المنافقين إظهارهم الايمان الذي حقنوا به دماءهم وأموالهم، كما حقن المؤمنون على الحقيقة، وقال: الحسن والزجاج والازهري ان معناه يخادعون نبي الله فسماه خداعا لله للاختصاص، كما قال إن الذين يبايعونك انما يبايعون الله فسمى مبايعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مبايعة لله، للاختصاص، لأنه بأمره، ومعنى الخداع من الله يحتمل أمرين:

أ. أحدهما: ان يجازيهم على خداعهم فسمى الجزاء باسم الشيء للازدواج، كما قال: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ والجزاء ليس بسيئة، وقال: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾ والله لا يمكر، غير انه يجازي عليه.

ب. والثاني: ما حكم الله فيهم من منع دمائهم بما اظهروه من الإيمان بلسانهم منع علمه بباطنهم، واعتقادهم الكفر استدراجاً منه لهم في الدنيا حتى يلقوه يوم القيامة، فيوردهم بما أبطنوهم نار جهنم، وقال السدي: يعطيهم الله نوراً يوم القيامة يمشون به مع المسلمين، كما كانوا في الدنيا، ثم يسلبهم ذلك النور، ويضرب بينهم بسور، فذلك هو الخداع منه تعالى، وبه قال ابن جريج، والحسن وغيرهم من المفسرين على ما بيناه فيما مضى.

2. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ يعني ان المنافقين لا يعملون شيئاً من أعمال العبادات التي أوجبها على المؤمنين على وجه القربة إلى الله، لأنهم غير موقنين بها، ولا ان لهم عليها ثواباً أو عقابا وإنما يفعلون ذلك إبقاءً على أنفسهم، وحذراً من المؤمنين أن يقتلوهم، ويسلبوا أموالهم، فهم إذا قاموا إلى الصلاة، قاموا كسالى إليها رياءً للمؤمنين ليحسبوهم المؤمنون منهم، وليسوا منهم، لأنهم لا يعتقدون فرضها، وبه قال قتادة وابن زيد.

3. ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إلا قَلِيلًا﴾ إنما وصف ما استثناه من ذكرهم لله بالقلة من حيث انهم لا يقصدون به وجه الله، ولا التقرب إليه، لا ان شيئاً من ذكر الله يوصف بانه قليل، بل يوصف جميعه بانه كثير، قال الحسن: وصفه بالقلة، لأنه كان لغير الله، وقال قتادة: لأنه لم يقبله الله وكلما رده الله، فهو قليل، وما قبله فهو كثير، وقال الجبائي: لأنهم، إذا قاموا إلى الصلاة، لم يذكروا غير تكبيرة الإحرام.

4. ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ في موضع نصب على الحال، ومعناه انهم يقومون إلى الصلاة يعني المنافقين مترددين، لا إلى هؤلاء يعني المؤمنين فيفعلونه، فيستحقون به الثواب ولا إلى هؤلاء يعني الكفار فيجاهرون بالكفر، بل بين ذلك يظهرون الايمان، فيجري عليهم حكم أهله، ويبطنون الكفر فيستحقون به عقاب أهله، واصل التذبذب التحرك والاضطراب، قال النابغة:

çا لم تر ان الله أعطاك سورة...يرى كل ملك دونها يتذبذب‏é

وقال الحسن بن علي المغربي: مذبذبين مطرودين من هؤلاء، ومن هؤلاء، من الذب الذي هو الطرد، وصف الله تعالى هؤلاء المنافقين بالحيرة في دينهم، وانهم لا يرجعون إلى صحة فيه، لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع الكفار على جهالة، وقال ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ان مثلهم مثل الشاة العائرة بين الغنمين تتحير، فتنظر إلى هذه والى هذه، لا تدري أيهما تتبع، وبهذه الجملة قال السدي وقتادة ومجاهد وابن جريج وابن زيد وغيرهم من المفسرين.

5. قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ يحتمل أمرين:

أ. أحدهما: من يضله الله عن طريق الجنة، فلن تجد له سبيلا إلى طريق الجنة.

ب. والثاني: من يجد له عقوبة على معاصيه عن طريق الرشاد والإسلام، ولم‏ يوفقه، لحرمانه نفسه التوفيق بسوء اختياره، فلن تجد له سبيلا يعني طريقاً إلى الحق يفضيه إليه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/365.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الخداع: خلاف إظهار الإنذار للاغترار، فهذا أصله، وذلك لا يجوز عليه تعالى؛ لأنه لا يخادع ولا يخادَع، فالمخادعة من جهته إما أن تحمل على الجزاء والتشبيه في أنه يوهم أنه نجاة، فيكون في الباطن هلاكًا، يقال: خدعت الرجل ختلته، ومنه: الحرب خُدْعَة، وكان الكسائي يقول: خَدْعَة على وزن (فعَلة)، بفتح العين.

ب. الكسل: التثاقل عن الشيء لمشقة فيه، وهو خلاف النشاط، ويُقال: امرأة مِكْسَال: لا تكاد تبرح مجلسها، والإكسال: أن يخالط الرجل أهله فلا ينزل، كأنه تثاقل عن الإنزال.

ج. الرياء: إظهار الجميل ليراه الناس.

د. النفاق: إظهار الإيمان وإبطان الكفر، والرياء عيب، والنفاق كفر.

هـ. التذبذب: الاضطراب والارتياع، قال النابغة:

çأَلمْ تَرَ أَنَّ الله أَعْطَاكَ سُورَةً...تَرَى كُلَّ مَلكٍ دُونها يَتَذَبْذَبُé

يقال: ذبذبه ذبذبة، وتذبذب تذبذبًا: جعله مضطربًا، ومنه: الذبذب دوابة لاضطرابها، والمذبذب والمذبب بمعنى، وهو المطرود، والذب: الطرد، ومثله في إظهار التضعيف كب وكبكب قال الله تعالى: ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ وقال: ﴿فَكُبْكِبُوا﴾ وقال الشاعر:

çخَيَالٌ لِأمِّ الَّسلْسَبِيلِ وَدُونَها...مسافة شَهْرٍ للبريدِ المُذَبْذَبِé

كأنه يريد المعجل

2. بَيَّنَ تعالى من خبث أفعالهم، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ﴾:

أ. قيل: يخادعون نبي الله بما يظهرون من الإيمان لحقن دمائهم، ومشاركة المسلمين في الأحكام، عن الأصم.

ب. وقيل: يخادعون أولياء الله من المؤمنين بما أظهروا لهم حتى يعدوهم من جملتهم، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ﴾، يعني أولياءه، فأضافه إلى نفسه تعظيمًا لهم، عن أبي علي.

ج. وقيل: يعاملونه عمل المخادع بما يظهرون خلاف ما يبطنون، فيحقن به دمهم، عن أبي مسلم.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾:

أ. قيل: يجازيهم على ذلك الخداع، فسمى الجزاء على الشيء باسم الشيء كقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ وقيل يعمل معهم عمل المخادع بما أمر من قبول إيمانهم وإجراء أحكام المؤمنين عليهم، مع ما علمه من ضمائرهم في الكفر، ثم يعاقبهم بالعقاب الدائم.

ب. وقيل: يعطيهم في الآخرة نورًا يمشون به مع المؤمنين، فإذا وردوا الصراط طفئ نورهم، فقالوا للمؤمنين: ألم نكن معكم!؟ قالوا: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا، قال الحسن: فتلك خديعة الله إياهم.

ج. وقيل: يفتح لهم باب الجنة فيظنون أنهم يخرجون من النار ويدخلون الجنة، فإذا راموا الخروج طردتهم الخزنة بالمقامع، فذاك خداعهم.

4. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ أي: متثاقلين؛ لأنهم يفعلونه رياء لا لله تعالى: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ أي: يصلون للرياء فإذا رآهم الناس يصلون يوهمون أنهم يدينون بدينهم، وإن لم يرهم أحد لم يصلوا وانصرفوا ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ﴾ أي في صلاتهم ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾:

أ. قيل: ذكرًا قليلاً رياء، عن قتادة.

ب. وقيل: قليلاً لأنه لغير الله، عن ابن عباس.

ج. وقيل: قليلاً يسيرًا، نحو التكبير وما يظهر دون القراءة والتسبيح؛ لأنهم يعملونه رياء، عن أبي علي.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾:

أ. قيل: مترددين بين الكفر والإيمان لا إلى المؤمنين بإخلاص الإيمان ولا إلى الكافرين باتفاق الظاهر والباطن في الكفر.

ب. وقيل: متحيرين في دينهم، مضطربين في اعتقادهم، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحة.

6. سؤال وإشكال: لِمَ ذمهم على ترك الكفر؟ والجواب:

أ. لأنهم تركوه إلى كفر أقبح ودين أخبث.

ب. ويحتمل أنه ذمهم على التحير.

7. ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ أي: بين الكفر والإيمان إذا سمعوا حجج المؤمنين شكوا في الكفر، وإذا سمعوا من الكافر شكوا في الإيمان ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ أي: ليس مع المؤمنين ولا مع الكافرين.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾:

أ. قيل: يهلكه بالعقاب ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ﴾ طريقًا إلى النجاة.

ب. وقيل: من حكم الله بضلالهم وسماه ضالاً ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ إلى الحكم بهدايته.

ج. وقيل: من يضله عن ثوابه فلا سبيل له إليه.

د. وقيل: من وجده ضالاً لا يصلح بلطفه، فلا سبيل إلى هدايته حتى يصلح.

9. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن من علامة المنافق الكسل في الصلاة؛ لأنه يفعلها تكلفًا لا ديانة، ورياء لا إخلاصًا، سؤال وإشكال: أليس قد تثقل على المؤمن أيضًا؟ والجواب: يشق عليه فعله، ولكن إذا علم عاقبته قام إليه بنشاط ولا يتكاسل.

ب. أن المنافق لا يرجع إلى دين يوثق به، ويركن إليه.

ج. أن الشك في الدين كفر.

د. أن مَنْ استحق العقاب فلا أحد ينجي عنه.

10. ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ نصب قيل: صفة للمنافقين، وقيل تقديره: لا يذكرون الله إلا قليلاً مذبذبين بين ذلك؛ أي: يذكرون الله في هذه الحالة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/123.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ يقال ذبذبته فتذبذب: أي حركته فتحرك، فهو كتحريك شيء معلق قال النابغة:

çألم تر أن الله أعطاك سورة...ترى كل ملك دونها يتذبذبé

2. بين سبحانه أفعالهم القبيحة فقال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ قد ذكرنا معناه في أول البقرة، وعلى الجملة:

أ. خداع المنافقين لله إظهارهم الايمان الذي حقنوا به دماءهم وأموالهم.

ب. وقيل معناه: يخادعون النبي كما قال: ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾ فسمى مبايعة النبي مبايعة الله للاختصاص، ولان ذلك بأمره، عن الحسن، والزجاج.

3. اختلف في معنى خداع الله إياهم:

أ. قيل: أن يجازيهم على خداعهم، كما قلناه في قوله: ﴿اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾

ب. وقيل: هو حكمه بحقن دمائهم مع علمه بباطنهم.

ج. وقيل: هو أن يعطيهم الله نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين ثم يسلبهم ذلك النور، ويضرب بينهم بسور، عن الحسن، والسدي، وجماعة من المفسرين.

4. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ أي: متثاقلين ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ يعني أنهم لا يعملون شيئا من أعمال العبادات على وجه القربة إلى الله، وإنما يفعلون ذلك إبقاء على أنفسهم، وحذرا من القتل، وسلب الأموال، وإذا رآهم المسلمون صلوا ليروهم أنهم يدينون بدينهم، وإن لم يرهم أحد، لم يصلوا، وبه قال قتادة، وابن زيد، وروى العياشي بإسناده، عن مسعدة بن زياد، عن أبي عبد الله، عن آبائه أن رسول الله سئل: فيم النجاة غدا؟ قال النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم، فإنه من يخادع الله يخدعه، ونفسه يخدع لو شعر، فقيل له: فكيف يخادع الله؟قال: يعمل بما أمره الله، ثم يريد به غيره، فاتقوا الرياء، فإنه شرك بالله، إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾:

أ. قيل: أي: ذكرا قليلا، ومعناه: لا يذكرون الله عن نية خالصة، ولو ذكروه مخلصين لكان كثيرا، وإنما وصف بالقلة، لأنه لغير الله، عن الحسن، وابن عباس.

ب. وقيل: لا يذكرون إلا ذكرا يسيرا، نحو التكبير والأذكار التي يجهر بها، ويتركون التسبيح وما يخافت به من القراءة وغيرها، عن أبي علي الجبائي.

ج. وقيل: إنما وصف الذكر بالقلة لأنه سبحانه لم يقبله، وكل ما رده الله فهو قليل.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾:

أ. قيل: أي: مرددين بين الكفر والايمان، يريد كأنه فعل بهم ذلك، وإن كان الفعل لهم على الحقيقة.

ب. وقيل: معنى مذبذبين مطرودين من هؤلاء ومن هؤلاء، من الذب: الذي هو الطرد، وصفهم سبحانه بالحيرة في دينهم، وأنهم لا يرجعون إلى صحة نية، لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع الكافرين على جهالة، وقال رسول الله: إن مثلهم مثل الشاة العايرة بين الغنمين، تتحير فتنظر إلى هذه وهذه، لا تدري أيهما تتبع.

7. ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ أي: لا مع هؤلاء في الحقيقة، ولا مع هؤلاء، يظهرون الايمان كما يظهره المؤمنون، ويضمرون الكفر كما يضمره المشركون، فلم يكونوا مع أحد الفريقين في الحقيقة، فإن المؤمنين يضمرون الايمان كما يظهرونه، والمشركون يظهرون الكفر كما يضمرونه.

8. ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ أي: طريقا ومذهبا، وقد مضى ذكر معنى الاضلال مشروحا في سورة البقرة عند قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ فلا معنى لإعادته.

9. قراءات ووجوه:

أ. في الشواذ قراءة عبد الله بن أبي إسحاق (يرأون) مثل (يرعون) والقراءة المشهورة (يراؤون) مثل يراعون، قال ابن جني (يرأون): يفعلون: من رأيت، ومعناه يبصرون الناس ويحملونهم على أن يروهم يفعلون ما يتعاطون، وهو أقوى من ﴿يُرَاءُونَ﴾ بالمد على يفاعلون، لان معناه يتعرضون لان يروهم، و(يراؤون) معناه: يحملونهم على أن يروهم قال الشاعر: ترى وترائي عند معقد غرزها... تهاويل من أجلا دهر مأوم

ب. قراءة ابن عباس ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ بكسر الذال الثانية.. مثل قول الشاعر (مسيرة شهر للبريد المذبذب): أي المهتز القلق الذي لا يثبت في مكان، فكذلك هؤلاء.

10. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿كُسَالَى﴾: منصوب على الحال من الواو في ﴿قَامُوا﴾

ب. ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ نصب على الحال من المنافقين.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/196.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ﴾ أي: يعملون عمل المخادع، وقيل: يخادعون نبيّه، وهو خادعهم، أي: مجازيهم على خداعهم، وقال الزجّاج: لمّا أمر بقبول ما أظهروا، كان خادعا لهم بذلك، وقيل: خداعه إياهم يكون في القيامة بإطفاء نورهم، وقد شرحنا طرفا من هذا في (البقرة)

2. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ أي: متثاقلين، و﴿كُسَالَى﴾: جمع كسلان، و(الكسل): التّثاقل عن الأمر، وقرأ أبو عمران الجونيّ: (كسالى) بفتح الكاف، وقرأ ابن السّميقع: (كسلى)، بفتح الكاف من غير ألف، وإنما كانوا هكذا، لأنهم يصلون حذرا على دمائهم، لا يرجون بفعلها ثوابا، ولا يخافون بتركها عقابا.

3. ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ أي: يصلّون ليراهم النّاس، قال قتادة: والله لولا الناس ما صلّى المنافق، وفي تسمية ذكرهم بالقليل ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه سمّي قليلا، لأنه غير مقبول، قاله عليّ، وقتادة.

ب. الثاني: لأنه رياء، ولو كان لله لكان كثيرا، قاله ابن عباس، والحسن.

ج. الثالث: أنه قليل في نفسه، لأنهم يقتصرون على ما يظهر، دون ما يخفى من القراءة والتّسبيح، ذكره الماورديّ.

4. ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ المذبذب: المتردّد بين أمرين، وأصل التّذبذب: التّحرّك، والاضطراب، وهذه صفة المنافق، لأنه محيّر في دينه لا يرجع إلى اعتقاد صحيح، قال قتادة: ليسوا بالمشركين المصرّحين بالشّرك، ولا بالمؤمنين المخلصين، قال ابن زيد: ومعنى‏ ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾: بين الإسلام والكفر، لم يظهروا الكفر فيكونوا إلى الكفّار، ولم يصدقوا الإيمان فيكونوا إلى المؤمنين.

5. قال ابن عباس: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ إلى الهدى.

6. وقد روى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (مثل المنافق: مثل الشّاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، ولا تدري أيّها تتبّع)

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/489.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ قد مرّ تفسير الخداع في سورة البقرة في قوله: ﴿يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 9] قال الزجاج في تفسير هذه الآية ﴿يُخَادِعُونَ الله﴾ أي يخادعون رسول الله، أي يظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر كما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: 10]

2. ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ أي مجازيهم بالعقاب على خداعهم، قال ابن عباس: إنه تعالى خادعهم في الآخرة، وذلك أنه تعالى يعطيهم نورا كما يعطي المؤمنين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم وبقوا في الظلمة، ودليله قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: 17]

3. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ يعني وإذا قاموا إلى الصلاة مع المسلمين قاموا كسالى، أي متثاقلين متباطئين وهو معنى الكسل في اللغة، وسبب ذلك الكسل أنهم يستثقلونها في الحال ولا يرجون بها ثوابا ولا من تركها عقابا، فكان الداعي للترك قويا من هذه الوجوه، والداعي إلى الفعل ليس إلا خوف الناس، والداعي إلى الفعل متى كان كذلك وقع الفعل على وجه الكسل والفتور، قال صاحب (الكشاف): قرئ‏ ﴿كُسَالَى﴾ بضم الكاف وفتحها جمع كسلان كسكارى في سكران.

4. ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ والمعنى أنهم لا يقومون إلى الصلاة إلا لأجل الرياء والسمعة، لا لأجل الدين.

5. سؤال وإشكال: ما معنى المراءاة وهي مفاعلة من الرؤية؟ والجواب: إن المرائي يريهم عمله وهم يرونه استحسان ذلك العمل.

6. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ وجوه:

أ. الأول: أن المراد بذكر الله الصلاة، والمعنى أنهم لا يصلون إلا قليلا، لأنه متى لم يكن معهم أحد من الأجانب لم يصلوا، وإذا كانوا مع الناس فعند دخول وقت الصلاة يتكلفون حتى يصيروا غائبين عن أعين الناس.

ب. الثاني: أن المراد بذكر الله أنهم كانوا في صلاتهم لا يذكرون الله إلا قليلا، وهو الذي يظهر مثل التكبيرات، فأما الذي يخفى مثل القراءة والتسبيحات فهم لا يذكرونها.

ج. الثالث: المراد أنهم لا يذكرون الله في جميع الأوقات سواء كان ذلك الوقت وقت الصلاة أو لم يكن وقت الصلاة إلا قليلا نادرا، قال صاحب (الكشاف): وهكذا نرى كثيرا من المتظاهرين بالإسلام، ولو صحبته الأيام والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أيامه وأوقاته لا يفتر عنه.

د. الرابع: قال قتادة إنما قيل: إلا قليلا، لأن الله تعالى لم يقبله، وما رده الله تعالى فكثيره قليل، وما قبله الله فقليله كثير.

7. ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ مذبذبين، إما حال من قوله: ﴿يُرَاءُونَ﴾ أو من قوله‏ ﴿لا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142] ويحتمل أن يكون منصوبا على الذم، ومذبذبين: أي متحيرين، وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين، أي يرد ويدفع فلا يقر في جانب واحد، إلا أن الذبذبة فيها تكرير وليس في الذب، فكان المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه، والسبب في ذلك أن الفعل يتوقف على الداعي، فإذا كان الداعي إلى الفعل هو الأغراض المتعلقة بأحوال هذا العالم كثر التذبذب والاضطراب، لأن منافع هذا العالم وأسبابه متغيرة سريعة التبدل، وإذا كان الفعل تبعا للداعي، والداعي تبعا للمقصود ثم إن المقصود سريع التبدل والتغير لزم وقوع التغير في الميل والرغبة، وربما تعارضت الدواعي والصوارف فيبقى الإنسان في الحيرة والتردد، أما من كان مطلوبه في فعله إنشاء الخيرات الباقية، واكتساب السعادات الروحانية، وعلم أن تلك المطالب أمور باقية بريئة عن التغير والتبدل لا جرم كان هذا الإنسان ثابتا راسخا فلهذا المعنى وصف الله تعالى أهل الإيمان بالثبات فقال‏: ﴿يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [إبراهيم: 27]، وقال‏: ﴿أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، وقال: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر: 26]

8. قرأ ابن عباس‏ ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ بكسر الذال الثانية، والمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم، بمعنى يتذبذبون كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: متذبذبين، وعن أبي جعفر: مدبدبين بالدال المهملة، وكأن المعنى أنهم تارة يكونون في دبة وتارة في أخرى، فلا يبقون على دبة واحدة، والدبة الطريقة وهي التي تدب فيها الدواب.

9. ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ أي بين الكفر والإيمان، أو بين الكافرين والمؤمنين، وكلمة ﴿ذَلِكَ﴾ يشار به إلى الجماعة، وقد تقدم تقريره في تفسير قوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 68] وذكر الكافرين والمؤمنين قد جرى في هذه القصة عند قوله: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 139] وإذا جرى ذكر الفريقين فقد جرى ذكر الكفر والإيمان قال قتادة: معنى الآية ليسوا مؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك.

10. احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أن الحيرة في الدين إنما تحصل بإيجاد الله تعالى وقالوا: إن قوله: ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ يقتضي فاعلا قد ذبذبهم وصيرهم متحيرين مترددين، وذلك ليس باختيار العبد، فإن الإنسان إذا وقع في قلبه الدواعي المتعارضة الموجبة للتردد والحيرة، فلو أراد أن يدفع ذلك التردد عن نفسه لم يقدر عليه أصلا، ومن رجع إلى نفسه وتأمل في أحواله علم أن الأمر كما ذكرنا، وإذا كانت تلك الذبذبة لا بدّ لها من فاعل، وثبت أن فاعلها ليس هو العبد ثبت أن فاعلها هو الله تعالى، فثبت أن الكل من الله تعالى.

11. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ يقتضي ذمهم على ترك طريقة المؤمنين وطريقة الكافرين، وذلك يقتضي أنه تعالى ما ذمهم على طريقة الكفار وإنه غير جائز، والجواب: إن طريقة الكفار وإن كانت خبيثة إلا أن طريقة النفاق أخبث منها، ولذلك فإنه تعالى ذم الكفار في أول سورة البقرة في آيتين، وذم المنافقين في بضع عشرة آية، وما ذاك إلا أن طريقة النفاق أخبث من طريقة الكفار، فهو تعالى إنما ذمهم لا لأنهم تركوا الكفر، بل لأنهم عدلوا عنه إلى ما هو أخبث منه.

12. احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ على قولهم من وجهين:

أ. الأول: أن ذكر هذا الكلام عقيب قوله: ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ يدل على أن تلك الذبذبة من الله تعالى، وإلا لم يتصل هذا الكلام بما قبله.

ب. الثاني: أنه تصريح بأن الله تعالى أضله عن الدين، قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ معنى هذا الإضلال سلب الألطاف، أو هو عبارة عن حكم الله عليه بالضلال، أو هو عبارة عن أن الله تعالى يضله يوم القيامة عن طريق الجنة، وهذه الوجوه قد تكلمنا عليها مرارا.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/249.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ قد مضى في البقرة معنى الخدع، والخداع من الله مجازاتهم على خداعهم أولياءه ورسله، قال الحسن: يعطى كل إنسان من مؤمن ومنافق نور يوم القيامة فيفرج المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا، فإذا جاءوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق، فذلك قولهم: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾

1. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ أي يصلون مراءاة وهم متكاسلون متثاقلون، لا يرجون ثوابا ولا يعتقدون على تركها عقابا، وفي صحيح الحديث: إن أثقل صلاة على المنافقين العتمة والصبح)، فإن العتمة تأتي وقد أتعبهم عمل النهار فيثقل عليهم القيام إليها، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به، ولولا السيف ما قاموا، والرياء: إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله، وقد تقدم بيانه، ثم وصفهم بقلة الذكر عند المراءاة وعند الخوف، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم ذاما لمن أخر الصلاة: تلك صلاة المنافقين ـ ثلاثا ـ يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان ـ أو على قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا) رواه مالك وغيره، فقيل: وصفهم بقلة الذكر لأنهم كانوا لا يذكرون الله بقراءة ولا تسبيح، وإنما كانوا يذكرونه بالتكبير، وقيل: وصفه بالقلة لأن الله تعالى لا يقبله، وقيل: لعدم الإخلاص فيه.

2. بين الله تعالى في هذه الآية صلاة المنافقين، وبينها رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمن صلى كصلاتهم وذكر كذكرهم لحق بهم في عدم القبول، وخرج من مقتضى قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، وسيأتي، اللهم إلا أن يكون له عذر فيقتصر على الفرض حسب ما علمه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للأعرابي حين رآه أخل بالصلاة فقال له: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها، رواه الأئمة، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن)، وقال: (لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه، الركوع والسجود)، أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن بعدهم، يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود، قال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة، لحديث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود)، قال ابن العربي: وذهب ابن القاسم وأبو حنيفة إلى أن الطمأنينة ليست بفرض، وهي رواية عراقية لا ينبغي لأحد من المالكيين أن يشتغل بها، وقد مضى في البقرة) هذا المعنى.

3. قال ابن العربي: (إن من صلى صلاة ليراها الناس ويرونه فيها فيشهدون له بالإيمان، أو أراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة وجواز الإمامة فليس ذلك بالرياء المنهي عنه، ولم يكن عليه حرج، وإنما الرياء المعصية أن يظهرها صيدا للناس وطريقا إلى الأكل، فهذه نية لا تجزئ وعليه الإعادة)، قوله (وأراد طلب المنزلة والظهور لقبول، الشهادة) فيه نظر، وقد تقدم بيانه في النساء فتأمله هناك، ودلت هذه الآية على أن الرياء يدخل الفرض والنفل، لقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا﴾ فعم، وقال قوم: إنما يدخل النفل خاصة، لأن الفرض واجب على جميع الناس والنفل عرضة لذلك، وقيل بالعكس، لأنه لو لم يأت بالنوافل لم يؤاخذ بها. ‌

4. ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ المذبذب: المتردد بين أمرين، والذبذبة الاضطراب، يقال: ذبذبته فتذبذب، ومنه قول النابغة:

çألم تر أن الله أعطاك سورة...ترى كل ملك دونها يتذبذبé

وقال آخر:

çخيال لأم السلسبيل ودونها...مسيرة شهر للبريد المذبذبé

كذا روي بكسر الذال الثانية، قال ابن جني: أي المهتز القلق الذي لا يثبت ولا يتمهل، فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين، لا مخلصين الإيمان ولا مصرحين بالكفر، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى) وفي رواية (تكر) بدل (تعير)

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/422.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله﴾ هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم، وقد تقدّم معنى الخدع في البقرة، ومخادعتهم لله هي: أنهم يفعلون فعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطال الكفر، ومعنى كون الله خادعهم: أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإسلام في الدنيا، فعصم به أموالهم ودماءهم، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة، فجازاهم على خداعهم بالدرك الأسفل من النار، قال في الكشاف: والخادع اسم فاعل من: خادعته فخدعته، إذا غلبته وكنت أخدع منه، والكسالى بضم الكاف: جمع كسلان، وقرئ بفتحها، والمراد: أنهم يصلون وهم متكاسلون متثاقلون، لا يرجون ثوابا، ولا يخافون عقابا، والرياء: إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله، وقد تقدّم بيانه، والمراءاة المفاعلة.

2. ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ معطوف على يراءون، أي: لا يذكرونه سبحانه إلا ذكرا قليلا، أو لا يصلون إلا صلاة قليلة، ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص، أو لكونه غير مقبول، أو لكونه قليلا في نفسه، لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء، إنما يفعلها في المجامع ولا يفعلها خاليا كالمخلص.

3. ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ المذبذب: المتردد بين أمرين، والذبذبة الاضطراب، يقال: ذبذبه فتذبذب، ومنه قول النابغة:

çألم تر أنّ الله أعطاك سورة...ترى كلّ ملك دونها يتذبذب‏é

قال ابن جني: المذبذب القلق الذي لا يثبت على حال، فهؤلاء المنافقون متردّدون بين المؤمنين والمشركين، لا مخلصين الإيمان ولا مصرّحين بالكفر، قال في الكشاف: وحقيقة المذبذب: الذي يذبّ عن كلا الجانبين، أي: يذاد ويدفع فلا يقرّ في جانب واحد، كما يقال: فلان يرمي به الرحوان، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذبّ؛ كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذبّ عنه، وقرأ الجمهور: بضم الميم وفتح الذالين، وقرأ ابن عباس: بكسر الذال الثانية، وفي حرف أبي: (متذبذبين)، وقرأ الحسن: بفتح الميم والذالين، وانتصاب مذبذبين: إما على الحال، أو على الذمّ، والإشارة بقوله: بين ذلك: إلى الإيمان والكفر.

4. ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ أي: لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، ومحل الجملة: النصب على الحال، أو على البدل من مذبذبين، أو على التفسير له‏ ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ الله﴾ أي: يخذله، ويسلبه التوفيق‏ ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ أي: طريقا يوصله إلى الحق.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/609.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ﴾ يخادعون أولياء الله بإضمار الشرك وإظهار الإسلام، فحذف المضاف تشريفًا لهم، بجعل معاملتهم معاملةَ الله، المفاعلة بمعنى الفعل هنا، أو شبَّه صنيعهم مع المؤمنين بصنيع الخادع إذ أظهروا ما يوهم إسلام قلوبهم، والمفاعلة مبالغة لا حقيقة؛ لأنَّ المؤمنين لم يخدعوهم، كما دلَّ له قوله: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ إذ لم يقل: مخادعهم، والمعنى: مجازيهم على خدعهم، فسمَّى الجزاء الذي هو لازم خدعهم ومسبَّبه باسم الخدع، أو مجاز لعلاقة الجوار، أو مجاز مركَّب استعاريٌّ، بأن شبه إضمار الشرك وإظهار التوحيد لينجو من القتل والسبْيِ والغَنْمِ بإظهار الشيء الحسن وإضمار السوء، ليتوصَّل إلى ما يريده من عدوِّه، وكذا شبَّه الله 2  قبول إسلامهم في الدُّنيا وإجراء أحكام الإسلام عليهم به، مع عقابهم في الآخرة بإظهار الحسن وإضمار السوء للتوصُّل إلى ما يراد، ومن معنى ذلك ما روي عن ابن عبَّاس: (إنَّ هذا الخداع أنَّهم يُعطَوْنَ نورًا يوم القيامة كالمؤمنين، ويمضي المؤمنون بنورهم وينطفئ نور المنافقين)

2. ﴿وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ مع المسلمين ﴿قَامُواْ كُسَالَىٰ﴾ متثاقلين لكراهة قلوبهم لها، والواحد: كسلان، ﴿يُرَآءُونَ النَّاسَ﴾ مفاعلة بمعنى إفعال أو تفعيل، أو يُظهرون الإيمانَ وأعمالَهُ للمؤمنين، ويُظهر المؤمنون لهم القَبول؛ فالمفاعلة في الرؤية متَّحدة، والاختلاف في متعلَّق الإراءة، وهذا مجاز؛ لأنَّ حقيقة المفاعلة اتِّحاد الفعل ومتعلَّقة، وهنا متعلَّق رؤية الناس ليس أنَّهم يطلبون من المنافقين أن يراهم المنافقون عابدين لله تعالى.

3. ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ﴾ مطلق الذكر الشامل للصلاة، أو يصلُّون، ﴿إِلَّا قَلِيلاً﴾ زمانًا قليلاً، أو ذكرًا قليلاً، ويقال: إنَّهم يقتصرون على تكبير الإحرام والتسليم، أو مع القرآن والذكر، ويقال: ذكرهم باللسان قليل بالنسبة إلى الذكر بالقلب، وقيل: وُصف بالقلَّة لأنَّه لم يُقبل، وفيهما ضُعْفٌ؛ لأنَّ ما لم ينعقد أو ما لم يتقبَّل يوصف بالبطلان لا بالقلَّة، والصحيح ما ذكرت، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم في صلاة المنافق: (يَجْلِسُ أحدُهم [يتحدَّث] حتَّى إذا كانت الشمس بين قرني الشيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إِلَّا قليلاً)

4. ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ مُرَدَّدِين، رَدَّهم الشيطان، من الذَّبِّ بمعنى الدفع عن الجانبين مرَّة بعد أخرى، وجَعْل الشيء مضطربًا، فهم مضطربون بين الإيمان والكفر، كما قال: ﴿بَيْنَ ذَالِكَ﴾ ما ذُكر من الإيمان والكفر المعلومين مِمَّا تقدَّم، ومن قوله: ﴿لَآ إِلَىٰ هَؤُلَآءِ﴾ المؤمنين لا منتهين أو لا منسوبين إلى هؤلاء، ﴿وَلَآ إِلَىٰ هَؤُلَآءِ﴾ الكافرين، أو بالعكس، أو لا صائرين إلى أحد الفريقين بالكُلِّيَّة، و(لَا) الأولى: عاطفة على محذوف، أي: غير منتسبين إلى فريق ﴿لَآ إِلَى﴾، و(مُذَبْذَبِينَ) حال من واو (يُرَاءُونَ)، أو من واو (قَامُوا) أو الإشارة إلى المؤمنين والكافرين، والذال الثانية: زائدة بدل من الباء، خلافًا للبصريِّين.

5. ﴿وَمَنْ يُّضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ إلى الهدى، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/324.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ أي: يفعلون ما يفعل المخادع من‏ إظهار الإيمان وإبطان الكفر، والله يفعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث تركهم معصومي الدماء والأموال في الدنيا، وأعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة.

2. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ﴾ أي: أتوها ﴿قَامُوا كُسَالَى﴾ أي: متثاقلين كالمكر على الفعل، قال ابن كثير: هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة، إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها، لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمان لهم بها، ولا خشية، ولا يعقلون معناها، كما روى ابن مردويه عن عطاء عن ابن عباس قال: يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طلق الوجه عظيم الرغبة شديد الفرح، فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه، يغفر له ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو هذه الآية: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾، قال الحاكم: وفي الآية دلالة على أن من علامات المنافق الكسل في الصلاة، والكسل: التثاقل عن الشيء لمشقته.

3. فهذه الآية في صفة ظواهرهم كما قال:‏ ﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى﴾ [التوبة: 54]، ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة فقال‏ ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ أي: يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ليحسبوهم مؤمنين، لا لإخلاص ومطاوعة أمر الله، ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا، كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس، كما ثبت في الصحيحين‏ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار، وفي رواية: والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم، روى الحافظ وأبو يعلى عن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة، استهان بها ربّه عز وجل‏.

4. ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ فيه وجوه:

أ. الأول: معناه ولا يصلون إلا قليلا لأنهم إنما يصلون رياء ما دام من يرقبهم، فإذا خلوا بأنفسهم لم يصلوا، وتأويل (الذكر) بالصلاة، روي في غير ما آية عن السلف.

ب. الثاني: ولا يذكرون الله في‏ صلاتهم إلا قليلا، لأنهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لا هون، وقد روى مالك‏ عن العلاء بن عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا، وكذا رواه مسلم والترمذيّ والنسائي‏

ج. الثالث: معناه: ولا يذكرون الله بالتهليل والتسبيح إلا ذكرا قليلا في الندرة، على أن الذكر بمعناه المتبادر منه، وعليه، فمن علامات النفاق استغراق الأوقات بحديث الدنيا، وقلة ذكره تعالى بتحميد أو تهليل أو تسبيح، كما أن من صفات المؤمنين ذكر الله تعالى كثيرا.

5. ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ حال من فاعل (يراؤن) أو منصوب على الذم و(ذلك) إشارة إلى الإيمان والكفر، المدلول عليهما بمعونة المقام، أو إلى (المؤمنين والكافرين)، فيكون ما بعده تفسيرا له، أي: مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان والهوى، وحقيقة المذبذب الذي يذبّ عن كلا الجانبين، أي: يذاد ويدفع، فلا يقرّ في جانب واحد، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب، كأنّ المعنى كلما مال إلى جانب ذبّ عنه‏.

6. ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ أي: لا منضمين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين، وقال مجاهد: ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾، يعني أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾، يعني اليهود، ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ الله﴾ عن دينه وحجته‏ ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ أي: طريقا إلى الصواب والهدى، روى الشيخان عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال‏: مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين: تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة: (العائرة المتحيرة المترددة لا تدري لأي الغنمين تتبع)

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/378.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اتصال هذه الآيات بما قبلها ظاهر فإنها تتمة الكلام في المنافقين الذين كثر في هذه السورة بيان أحوالهم هم وأهل الكتاب وباقيها في بيان أحوال أهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا ومحاجتهم إلا الآية الأخيرة.

2. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ تقدم الكلام في مخادعة المنافقين أول سورة البقرة.. كانت العرب تسند الخداع إلى الضب كما اشتقت كلمة النفاق من جحره الذي سمي النافقاء، وهو إنما يخدع طالبه بجحره، قيل لأنه يجعل له بابين إذا فوجئ من أحدهما هرب من الآخر، وقيل إنه يعد عقربا فيجعلها في بابه لتلدغ من يدخل يده فيه، ولذلك قيل: العقرب بواب الضب وحاجبه، ومن أمثالهم: (أخدع من ضب) ويقولون: طريق خادع وخيدع، أي مضل كأنه يخدع سالكه فيحسبه موصلا إلى غايته أو قريبا وهو ليس كذلك، والخداع صيغة مشاركة، ومعناه الذي يؤخذ مما ذكرنا من استعمالهم هو إيهامك أن الشيء أو الشخص على ما تحب أو تريد وهو على غير ما تحب وما تريد، كما يوهم جحر الضب من يريد صيده أنه قريب المنال ليس دونه مانع فإذا مد يده إليه لدغته العقرب، فإن لم يكن هنالك عقرب خرج الضب من الباب الآخر ورجع الصائد بخفي حنين، وكما يوهم الطريق الخيدع سالكه فيضل دون الغاية التي يطلبها، قال الراغب: (الخداع إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه قال تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ الله﴾ أي يخادعون رسوله وأولياءه ونسب ذلك إلى الله تعالى من حيث أن معاملة الرسول كمعاملته ولذلك قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: 10] وجعل ذلك خداعا له تفظيعا لفعلهم وتنبيها على عظم الرسول وعظم أوليائه، وقول أهل اللغة: إن هذا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فيجب أن يعلم أن المقصود بمثله في الحذف لا يحصل لو أوتي بالمضاف المحذوف لما ذكرنا من التنبيه على أمرين:

أ. أحدهما: فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة وإنهم بمخادعتهم إياه يخادعون الله،

ب. الثاني: التنبيه على عظم المقصود بالخداع وأن معاملته كمعاملة الله وأعاد هنا الاستشهاد بآية المبايعة.

3. فسر مخادعة الله عز وجل بمخادعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأوليائه وهم الصحابة لأن المعاملة كانت بين المنافقين وبينهم، ولأن المؤمنين بالله لا يقصدون مخادعته، والمعطلين لا يؤمنون بوجوده والمعدوم لا تتوجه النفس إلى معاملته.

4. إن هؤلاء هم الذين قال الله فيهم أول سورة البقرة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8] وقد عزا إليهم المخادعة هنالك في الآية التي بعد هذه الآية، وذكرت في تفسيرها عن محمد عبده أنهم صنف ثالث غير المؤمنين والكافرين الذين ذكروا ثمة في آيات أخرى وأن المراد بهم أن إيمانهم بالله على غير الوجه الصحيح فلا يعتد به ومن كان هذا شأنه لا يبعد أن تصدر عنه مخادعة الله تعالى كما يفعل الذين يحتالون على منع الزكاة وأكل الربا بتطبيق حيلهم على أقوال لفقهائهم وهم يعلمون أن هذا مخالف لمراد الله تعالى من إيجاب الزكاة ومنع الربا وهو الرحمة بالفقراء والمساكين ومواساتهم وإعانة سائر أصناف المستحقين للزكاة على الإيمان والبر والخير، وعدم أكل أموال الناس بالباطل.

5. إن مثل هذا قد يقع من أهل الإيمان التقليدي غير المطابق للحق ولكنهم لا يقصدون به مخادعة الله تعالى قصدا وإنما هو جهل وضلال في معنى المخادعة.

6. والوجه المعقول للتعبير عن مخادعة الرسول والمؤمنين بمخادعة الله عز وجل هو أنهم يخادعونهم فيما يقيمون به دين الله ويعملون بما أنزل إليهم منه لا في المعاملات الشخصية الدنيوية كالبيع والشراء والمعاشرة فإن المخادعة في مثل هذا قد تكون مباحة أو مكروهة إذا لم يكن فيها غش ولا ضرر والمحرم منها لضرره لا يصل إلى درجة المخادعة في شؤون الإيمان وتبليغ دين الله وإقامة كتابه فيكون من قبيل المخادعة له، وهذا الوجه يتضمن أيضا تعظيم شأن الرسول والمؤمنين في التعبير عن مخادعتهم بمخادعة الله تبارك وتعالى.

7. وأما قوله تعالى: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ فقد قيل إن معناه يجازيهم على خداعهم وإنه عبر عن ذلك بالمخادعة للمشاكلة كما قال في آية أخرى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله﴾ [آل عمران: 54] وإنما جعلوه من المشاكلة لأن هذا اللفظ كلفظ المكر قد استعمل في التعبير عن المعاني المذمومة التي تتضمن الكذب غالبا أو تدل على ضعف صاحبها وعجزه وغلب ذلك فيه، وإلا فإن الخداع قد يكون في الخير، ولأجل حماية الحقيقة وإقامة الحق، وقد أباح الشرع الخداع في الحرب لأن الحرب في الإسلام لا تكون إلا للدفاع عن الملة والأمة، ولحماية الدعوة، وفي الحديث (الحرب خدعة) فيجوز أن يعبر عن سنة الله تعالى في عاقبة أمرهم عاجلها وآجلها من حيث إنها تكون على خلاف ما يحبون وما يريدون بلفظ مشتق من الخديعة كأنهم بخداعهم للرسول والمؤمنين يسيرون في طريق خادع يضلون فيه مطلبهم وينتهون إلى الخزي والنكال، من حيث يطلبون السلامة والفلاح، وهذا يلاقي قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ فخداعهم لأنفسهم بسوء اختيارهم لها هو عين خديعة الله تعالى لهم إذ كانت سنته فيمن يعمل عملهم ما أشرنا إليه آنفا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ولفظ) خادعهم) اسم فاعل من الثلاثي والذي يسبق إلى ذهني أنه يدل على الغلبة (وهو ما تضم عين فعله المضارع) أي وهو تعالى يغلبهم في الخديعة بجعل خداعهم عليهم لا لهم.

8. هذا شأن المنافقين في كل ملة وأمة، يخادعون ويكذبون، ويكيدون ويغشون، ويتولون أعداء أمتهم، ويتخذون لهم يدا عندهم، يمتون بها إليهم إذا دالت الدولة لهم، وسيأتي في الآية التي بعد هذه بيان ذبذبتهم، ولكن لا يخفى على كل من الأمتين حالهم.

çومهما تكن عند امرئ من خليقة...وإن خالها تخفى على الناس تعلمé

فهم يهدمون بناء الثقة بهم بأيديهم، وكأين من منافق كانت خيانته لأمته ومساعدة أعدائها عليها سببا لهلاكه بأيدي أولئك الأعداء أنفسهم، وقولهم: لو كان في هذا خير لكان قومه أولى بخيره منا ونحن أعداؤه وأعداؤهم، فإن كان قد خانهم فستكون خيانته لنا أشد، والناس يقرءون أخبار هؤلاء الأشرار في كتب التاريخ ولا يعتبرون، ويكثر هؤلاء المنافقون في طور ضعف الأمة وقوة أعدائها لأنهم طلاب المنافع ولو فيما يضر أمتهم والناس أجمعين، وإنما تلتمس المنافع من الأقوياء وإن اقترن التماسها بالعار، والذل والصغار.

9. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ أي متثاقلين لا رغبة تبعثهم ولا نشاط لأنهم لعدم إيمانهم لا يرجون فيها ثوابا في الآخرة، ولا يبتغون بها تربية ملكة مراقبة الله تعالى وحبه والأنس بذكره ومناجاته لتنتهي نفوسهم بذلك عن الفحشاء والمنكر، وتكون أهلا لرضوان الله الأكبر، كما هو شأن المؤمنين الصادقين، وإنما هي عندهم كلفة مستثقلة فإذا كانوا بمعزل عن المؤمنين تركوها، وإذا كانوا معهم سايروهم بالقيام إليها: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ بها، أي يبتغون بذلك أن يراهم الناس المؤمنون فيعدوهم منهم، فالكسل التثاقل عما ينبغي النشاط فيه، والمراءاة أن يكون المرء الذي يرائيك بحيث تراه كما يراك فهو فعل مشاركة من الرؤية.

10. ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ قيل معناه أنهم لا ينطقون إلا بالأذكار الجهرية التي يسمعها الناس كالتكبيرات، وقول: (سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد) عند القيام من الركوع، والسلام وقيل إن المراد بالذكر هنا ذكر النفس، وإنما يقع هذا من المرتابين، دون الجاحدين، وقيل إن المراد به الصلاة أي لا يصلون إلا قليلا وذلك إذا أدركتهم الصلاة وهم مع المؤمنين، وكل هذه الأقوال قريبة، ويجوز أن تراد كلها من اللفظ عند بعض العلماء، ولعل القول الثاني أقواها، هذه حال منافقي الصدر الأول ومنافقوا هذا العجز الأخير شر منهم، لا يقومون إلى الصلاة البتة، ولا يرون للمؤمنين قيمة في دنياهم فيراءوهم فيها، وإنما يقع الرياء بالصلاة من بعضهم إذا صاروا وزراء وحضروا مع السلاطين والأمراء بعض المواسم الدينية الرسمية، وقلما يحضرون معهم غير المواسم المبتدعة كليلة المعراج وليلة النصف من شعبان وليلة المولد النبوي.

11. ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ قال الراغب: (الذبذبة حكاية صوت الحركة للشيء المعلق ثم استعير لكل اضطراب وحركة، قال تعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ أي مضطربين مائلين تارة إلى المؤمنين وتارة إلى الكافرين) وقيل بين الكفر والإيمان، ويقوي الأول قوله: ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ أي لا يخلصون في الانتساب إلى واحد من الفريقين لأنهم يطلبون المنفعة، ولا يدرون لمن تكون العاقبة، فهم يميلون إلى اليمين تارة وإلى الشمال أخرى، فمتى ظهرت الغلبة التامة لأحد الفريقين ادعوا أنهم منه، كما بينه تعالى في الآية التي قبل هاتين الآيتين: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ أي ومن قضت سنة الله في أخلاق البشر وأعمالهم أن يكون ضالا عن الحق موغلا في الباطل، فلن تجد له أيها الرسول أو أيها السامع سبيلا للهداية برأيك واجتهادك، فإن سنن الله تعالى لا تتبدل ولا تتحول هذا هو معنى إضلال الله تعالى الذي يتفق به نصوص كتابه بعضها مع بعض وتظهر به حكمته في التكليف والجزاء، وليس معناه أنه ينشئ فطرة بعض الناس على الكفر والضلال فيكون مجبورا على ذلك لا عمل له ولا اختيار فيه كعمل المعدة في الهضم، والقلب في دورة الدم، كما توهم من لا عقل له ولا علم.

12. من مباحث اللفظ في الآيتين قولهم إن جملة ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله﴾ حال من فاعل) يراءون)، وكذا) مذبذبين)، وقيل: إن هذا منصوب على الذم.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/380.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لا يزال الحديث في المنافقين وبيان أحوالهم بعد أن ذكر طرفا منها قبل ذلك.

2. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله﴾ أي يخادعون رسول الله فيظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر، ونسب ذلك إلى الله من جهة أن معاملة الرسول بذلك كمعاملة الله به كما قال تعالى:‏ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾، وفى جعل ذلك خداعا لله تنبيه إلى شيئين، فظاعة فعلهم فيما تحرّوه من الخديعة، إذ هم بمخادعتهم للرسول إنما يخادعون الله، وعظم شأن المقصود بالخداع، وهو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن معاملته بذلك كمعاملة الله به.

3. ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ أي مجازيهم على خداعهم، وسمى ذلك مخادعة مشاكلة للفظ الأول، ونظيره‏ ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله﴾ وإنما جعل كذلك لأنه قد استعمل في المعاني المذمومة التي تتضمن الكذب أو تدل على ضعف صاحبها وعجزه غالبا.

4. وخلاصة المعنى ـ إنه عبر عن سنة الله في عاقبة أمرهم في العاجل والآجل من حيث إنها جاءت على غير ما يحبون بلفظ مأخوذ من المخادعة، إذ أنهم بمخادعتهم للرسول والمؤمنين يسيرون في طريق يضلّون فيه وينتهون إلى الخزي والوبال من حيث هم يطلبون السلامة والنجاة، فمخادعتهم لأنفسهم بسوء اختيارهم لها هو مخادعة الله لهم، إذ جرت سنته تعالى فيمن يعمل مثل عملهم أن يلاقى الخزي في الدنيا والنكال في الآخرة، وهكذا حال المنافقين في كل أمة وملة يخادعون ويكذبون، ويكيدون ويغشّون، ويتولون أعداء أمتهم يبتغون بذلك يدا عندهم يمتون بها إليهم إذا دالت دولتهم، وكتب التاريخ ملأى بأخبار هؤلاء الأشرار، ويكثر عددهم في الأمم في أطوار الضعف وقوة الأعداء، إذ هم طلاب منافع يلتمسونها من كل فج، ويسلكون لها كل طريق، ولو فيما يضر أمتهم والناس أجمعين، وقد روى عن ابن عباس أنه قال خداعه تعالى لهم أن يعطيهم نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم وبقوا في ظلمة، ودليله قوله تعالى:‏ ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾

5. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ أي متباطئين متثاقلين ليست لديهم رغبة تبعثهم على عمل، ولا نشاط يدفعهم على فعل، لأنهم لا يرجون ثوابا في الآخرة، ولا يخشون عقابا إذ لا إيمان لهم، وإنما يخشون الناس، فإذا كانوا بمعزل عن المؤمنين‏ تركوها، وإذا كانوا معهم سايروهم بالقيام بها، ومن كانت هذه حاله وقع عمله على وجه الكسل والفتور.

6. ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ بها، أي يبتغون بذلك أن يراهم المؤمنون فيعدوهم منهم، ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي لا يصلّون إلا قليلا، فإذا لم يرهم أحد لم يصلوا وإذا كانوا مع الناس راءوهم وصلّوا معهم.

7. ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ أي مضطربين مائلين تارة إلى المؤمنين، وتارة إلى الكافرين، لا يخلصون إلى أحد الفريقين، لأنهم طلاب منافع، ولا يدرون لمن تكون العاقبة، فمتى ظهرت الغلبة لأحدهما ادعوا أنهم منه كما بين الله ذلك فيما سلف.

8. ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ أي ومن قضت سنته أن يكون ضالا عن الحق موغلا في الباطل، بما قدم من عمل، وتخلق به من خلق، فلن تجد له سبيلا للهداية باجتهادك والمبالغة في إقناعه بالحجة والدليل، فإن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/187.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يمضي السياق بعد هذا الوعد القاطع المطمئن للمؤمنين، المخذّل للمنافقين الذين يتولون الكافرين يبتغون عندهم العزة.. يمضي فيرسم صورة زرية أخرى للمنافقين، مصحوبة بالتهوين من شأنهم، وبوعيد الله لهم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)﴾.. وهذه لمسة أخرى من لمسات المنهج للقلوب المؤمنة، فإن هذه القلوب لا بد أن تشمئز من قوم يخادعون الله.

2. فإن هذه القلوب تعرف أن الله سبحانه ـ لا يخدع ـ وهو يعلم السر وأخفى وهي تدرك أن الذي يحاول أن يخدع الله لا بد أن تكون نفسه محتوية على قدر من السوء ومن الجهل ومن الغفلة كبير، ومن ثم تشمئز وتحتقر وتستصغر كذلك هؤلاء المخادعين! ويقرر عقب هذه اللمسة أنهم يخادعون الله (وهو خادعهم).. أي مستدرجهم وتاركهم في غيهم؛ لا يقرعهم بمصيبة تنبههم؛ ولا يوقظهم بقارعة تفتح عيونهم.. تاركهم يمضون في طريق الهاوية حتى يسقطوا..

3. وذلك هو خداع الله سبحانه لهم.. فالقوارع والمحن كثيرا ما تكون رحمة من الله، حين تصيب العباد، فتردهم سريعا عن الخطأ؛ أو تعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.. وكثيرا ما تكون العافية والنعمة استدراجا من الله للمذنبين الغاوين؛ لأنهم بلغوا من الإثم والغواية ما يستحقون معه أن يتركوا بلا قارعة ولا نذير؛ حتى ينتهوا إلى شر مصير.

4. ثم يستمر السياق يرسم لهم صورا زرية شائنة؛ لا تثير في قلوب المؤمنين إلا الاشمئزاز والاحتقار: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ فهم لا يقومون إلى الصلاة بحرارة الشوق إلى لقاء الله، والوقوف بين يديه، والاتصال به، والاستمداد منه.. إنما هم يقومون يراءون الناس، ومن ثم يقومون كسالى، كالذي يؤدي عملا ثقيلا؛ أو يسخر سخرة شاقة! وكذلك هم لا يذكرون الله إلا قليلا، فهم لا يتذكرون الله إنما يتذكرون الناس! وهم لا يتوجهون إلى الله إنما هم يراءون الناس.

5. وهي صورة كريهة ـ ولا شك ـ في حس المؤمنين، تثير في نفوسهم الاحتقار والاشمئزاز، ومن شأن هذا الشعور أن يباعد بينهم وبين المنافقين؛ وأن يوهن العلائق الشخصية والمصلحية.. وهي مراحل في المنهج التربوي الحكيم؛ للبت بين المؤمنين والمنافقين! ويستمر السياق في رسم الصور الزرية المنفرة: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾..

6. وموقف الذبذبة، والأرجحة، والاهتزاز، وعدم الاستقرار والثبات في أحد الصفين: الصف المؤمن أو الصف الكافر.. موقف لا يثير إلا الاحتقار والاشمئزاز كذلك في نفوس المؤمنين، كما أنه يوحي بضعف المنافقين الذاتي، هذا الضعف الذي يجعلهم غير قادرين على اتخاذ موقف حاسم هنا أو هناك.. ولا على المصارحة برأي وعقيدة وموقف.. مع هؤلاء أو هؤلاء..

7. ويعقب على هذه الصور الزرية، وهذه المواقف المهزوزة، بأنهم قد حقت عليهم كلمة الله؛ واستحقوا ألا يعينهم في الهداية؛ ومن ثم فلن يستطيع أحد أن يهديهم سبيلا، ولا أن يجد لهم طريقا مستقيما: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/784.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جناية المنافقين على أنفسهم جناية فادحة.. إذ يعيشون بهذا الداء، ولا يجدون له في أنفسهم ألما، ولا يحسون له في ضمائرهم وخزا، ومن ثمّ كان داؤهم هذا داء عصىّ الدواء، إذ كيف يطلب الدواء من لا يعرف الداء ولا يجد له ألما؟ ذلك أخبث داء وأقتل علّة.. حيث يأخذ هذا الداء من كيان صاحبه كل يوم بضعة، وتغتال هذه العلة من وجوده جانبا، دون أن يحسّ أو يشعر حتى إذا جاء يوم استفاق فيه من سكرته، وجد الداء مستوليا عليه، ولا مكان للإنسان فيه!.

2. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ إذ هم يحسبون أنهم بهذه الأثواب التنكرية التي يلبسونها في أحوالهم المختلفة ـ قد خدعوا الله وخدعوا الناس.. وفي الحقيقة أنهم قد خدعوا أنفسهم، وأضلّوها عن سواء السبيل، وركبوا بها هذا المركب الذي يقذف بهم في قرار الجحيم..

3. وفي المنافقين يقول الله سبحانه: ﴿يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 9] وخداع الله سبحانه للمنافقين هو أن يفسد عليهم تدبيرهم، وأن يردّ كيدهم إليهم، وأن يخلّيهم لأنفسهم، ويأخذهم بجريرتهم.. ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: 43]

4. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ هو مثل لمخادعتهم للّه.. يقومون إلى الصلاة في تكرّه وتخاذل، لأنهم لا يريدون الصلاة للصلاة، ولا يؤدونها أداء لحق الله، وشكرا لنعمائه، وإنما هم يؤدونها حتى يدفعوا بهذا الأداء الآلىّ تهمة الكفر، وحتى تكون أشبه بذرّ الرماد في العيون، وهذا ما بيّنه قوله تعالى: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ أي لا يذكرون الله إلا حيث يرون الناس ويراهم الناس.. فالمراءات، رؤبة متبادلة بين طرفين، كل منهما يرى الآخر.. وهذا يعنى أن المنافقين لا يصلّون إلّا حين يرون الناس، وإلا حين يراهم الناس وهم في الصلاة، فإن كان في الناس غفلة عنهم، لفتوهم إليهم بحركة أو إشارة، أو رفع صوت، أو نحو هذا.

5. ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ إشارة إلى خلوّ أنفسهم من مشاعر الإيمان بالله واستحضار عظمته وجلاله..! والذكر القليل الذين يذكرون الله به، هو ما يكون منهم حين تلمّ بهم الأحداث، أو تكربهم الكروب، فإذا انجلى عنهم هذا الذي نزل بهم، عادوا إلى ما كانوا فيه من غفلة عن الله، وذهول عن ذكره، بما هم فيه من شغل بأنفسهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لله أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ [الزمر: 8]

6. ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ هو بيان كاشف للحياة التي يحياها المنافقون، وأنها حياة قلقة مضطربة، لا تقوم على مبدأ، ولا تستقيم على طريق.. والذبذبة الاضطراب، والتردد، بين موقفين أو أكثر.. وكأنها مشتقة من الذّبّ، وهو الدفع والطرد، ومنه سمّى الذباب، لأنه يطرد، ثم يعود، ثم يطرد، ثم يعود، وهكذا..

7. ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ هو تيئيس لهؤلاء المنافقين، الذين تقلّبوا في وجوه النفاق، ففسد وجودهم كلّه، ولم يعودوا صالحين للعودة إلى الطبيعة البشرية السليمة.. فلا سبيل لهم ـ والأمر كذلك ـ إلى الخلاص من هذا الداء الذي تمكن منهم! ثم إن هذا الحكم هو تنبيه إلى هؤلاء الذين هم على شاطئ النفاق، وفي أول الطريق إليه.. وأنهم إذا لم يلتفتوا إلى أنفسهم، ويحذروا الخطر الذي هم بين يديه، اشتمل عليهم واحتوى وجودهم، ولحقوا بمن سبقهم من المنافقين! وإضلال الله للمنافقين، إنما كانت نسبته إلى الله، لأنه أشبه بتصديق على حكم أصدروه هم على أنفسهم، وصنعوا بأيديهم حيثياته وأدلّته.. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ الله وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل: 33]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/942.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الكلام في المنافقين، وقد ذكر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة علاقتهم بالمؤمنين، فذكر أنهم يتربصون بهم الدوائر، ويريدون أن ينالوا من الغنائم من غير أن يعملوا، وقلوبهم مع الكافرين، وقد ذكر سبحانه وتعالى وصفا لأهل النفاق، وهو أنهم يظنون أن أعمالهم مستورة، وأن الناس عنهم غافلون بل إنه ليصل بهم فرط غرورهم إلى أن يظنوا أن الله تعالى لا يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويعاملوا الناس على أساس هذه الخديعة، ولذا قال سبحانه فيهم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ الخدع أو الخداع أن يحاول المخادع حمل الغير على تغيير اعتقاده فيه، بحيث يعتقد فيه الخير، وليس أهلا لهذا الاعتقاد، فيوهمه أن أمره على ما يحب، وهو على ما يكره، أو أن يظهر من الأفعال ما يخفى أمره، ويستر حقيقته، بغية تضليل من يعامله.

2. ﴿يُخَادِعُونَ الله﴾ صيغة تدل على مفاعلة من الجانبين، والخداع دائما في ذاته مفاعلة من الجانبين: خادع ومخدوع، فهو معاملة آثمة إذا لم يكن فيه خير، وخداع أهل الخير شر دائما، وهنا نجد النص فيه عمل أهل النفاق، وهو أنهم يخادعون الله، وعمل الله تعالت قدرته عليهم، وهو أنه خادعهم، وقد تكلم العلماء في معنى مخادعتهم لله تعالى، وكلامهم ينتهى إلى تخريجين:

أ. أحدهما: أن معنى مخادعتهم لله تعالى أنهم يعاملون الله تعالى كأنهم يخادعونه؛ إذ يظنون أنه يخفى عليه أمرهم فيعلنون غير ما يبطنون، ويظنون أن الله تعالى لا يعلم ما في قلوبهم، وخفايا نفوسهم؛ وذلك لأن المخادع يتوهم أن من يخادعه لا يعلم أمره، فهؤلاء لفرط جحودهم، وكفرهم بالله وجهلهم لذاته وصفاته يتوهمون أن أمورهم خافية عليه، وأنهم معه كأمرهم مع الناس، إذ يخفون ما لا يبدون.

ب. الثاني: أن معنى مخادعتهم لله أنهم يخادعون النبي والمؤمنين؛ إذ هم أولياء الله تعالى، ومن يخادعهم كأنما يخادع الله سبحانه وتعالى، وقد وضح هذا التخريج الراغب الأصفهاني فقال: (الخداع إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه، قال تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ الله﴾ أي يخادعون رسوله وأولياءه، ونسب ذلك إلى الله تعالى من حيث إن معاملة الرسول كمعاملته، ولذلك قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح‏])، وجعل ذلك خداعا له تفظيعا لفعلهم وتنبيها على عظم الرسول وعظم أوليائه، وقول أهل اللغة إن هذا على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، فيجب أن يعلم أن المقصود بمثله في الحذف لا يحصل لو أتى بالمضاف المحذوف لما ذكرنا من التنبيه على أمرين:

أحدهما: فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة، وأنهم بمخادعتهم إياه يخادعون الله.

الثاني التنبيه على عظم المقصود بالخداع، وأن معاملته كمعاملة الله تعالى، ومرمى هذا الكلام هو بيان منزلة الرسول وأولياء الله، وأن خداعهم خداع لله وهو أمر فظيع، وأن الأصل هو أن الكلام على حذف مضاف وهو الرسول والمؤمنون، وكأن نسق الكلام: يخادعون رسول الله، فحذفت كلمة الرسول، وأقيم المضاف إليه وهو الله تعالى مقام المضاف تفظيعا لعملهم، وإعلاء لقدر الرسول والمؤمنين.

3. في الحق إن التخريجين يمكن الجمع بينهما، فهم يعاملون الله تعالى معاملة من يظنون أنهم يخادعون لعدم إيمانهم بالله، وهم يخادعون أولياءه ومن هذا الطريق أيضا يخادعون الله تعالى، ومعنى خدع الله تعالى لهم أنهم مقابل ذلك الخداع الذى يصنعونه يجزون بجزائه، وهو ثمرة له، فمعنى خدع الله تعالى مجازاتهم على نفاقهم، ومحاولتهم خداع الرسول ومن معه.

4. ويصح أن يقال إن معنى خدع الله تعالى أن يرد عليهم كيدهم في الدنيا، فيأتيهم سوء العاقبة في الدنيا من حيث كانوا يظنون أنهم واصلون إلى مقاصدهم؛ إذ يحسبون بنفاقهم أنهم واصلون إلى غاياتهم، فيأتيهم الله تعالى من حيث لم يحتسبوا، ويظنون أنهم مجهولون، والله تعالى كاشفهم.

5. وهنا إشارة بيانية دقيقة، وهي أنه سبحانه وتعالى عبر عن خداعهم بصيغة تدل على المشاركة والمغالبة، وأنهم قد ينجحون وربما لا ينجحون، أما خداع الله تعالى لهم، فلم يعبر عنه بصيغة المشاركة بل عبر سبحانه بقوله: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ للدلالة على الغلب، وأن الله تعالى لا محالة كاشف أمرهم ومزيل مغبة خداعهم، ومحاسبهم لا محالة على ما يرتكبون.

6. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ هذه حال من أحوال المنافقين تدل على مقدار نفاقهم وتظهره، وهي أيضا من قبيل الخداع لله ولرسوله، وللمؤمنين وذلك في الصلاة، ففي المظهر الحسى لها يقومون كسالى متثاقلين، لا نشاط يحركهم ولا إيمان يبعثهم، وهذا مظهر يريدون به إظهار الإيمان وهو يكشف عن خبيئة أنفسهم، ولذلك جعل النبي هذا النوع من الصلاة شيمة النفاق، فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم ذاما الذى صلى على هذا النحو: (تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرنى شيطان، قام (فنقر أربعا) لا يذكر الله فيها إلا قليلا)

7. والحقيقة النفسية في هذه الصلاة أنهم يتوهمون بها أنهم يخدعون غيرهم، إذ إنهم يصلون هذه الصلاة ليراءوا بها، والرياء أن يقوم الشخص بالعمل الجميل في مظهره لا لاتباع أمر الله والقيام بحق الغير عليه ونفع الناس به، بل ليخدع به الناس ويظهر بالخير ابتغاء رضاء الناس، والرياء نوع من الشرك، فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من صلى يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك)

8. وإن هذا النوع من الخداع مكشوف كما رأيت، فهم لا يقصدون وجه الله بصلاتهم، ولكن يقصدون ستر نفاقهم وتغطية أمرهم، ولذلك قال الله تعالى فيهم: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي أنهم لا يجرى ذكر الله تعالى في قلوبهم إلا ذكرا قليلا، أو إلا وقتا قليلا لا يلبث أن يطفئه النفاق وإذا قامت في قلوبهم شعلة من الإيمان بالله لا تلبث أن تخبو لغلبة أهوائهم؛ وذلك لأن هؤلاء المنافقين يعرفون الله تعالى، ويدركون معانى الإيمان ولكن غلبت عليهم شقوتهم، فكفروا به إذ عرفوه، ومن كانت هذه حاله يعتريه أحيانا تذكر لله تعالى وعظمته، ولكنه تذكر لا يكون معه إيمان مثمر، ولا تصديق مذعن، فلا خير فيه، ولا ثواب عليه، ولا يمدحون بذلك القدر من الذكر، الذى لا يجدى.

9. ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ هو حال لهم ذكرها يفيد أنهم قد طمس على قلوبهم حتى إذا جاءهم بريق من النور أطفئوه، ولا يبقونه، وهؤلاء المنافقون أمرهم عجب هم أحيانا يدعون أنهم من دولة أهل الإيمان في ولايتهم إن وجدوا للمؤمنين غلبا، وينتمون إلى دولة الكفر إن كان للكفر نصيب من نصر أو غلب أهل الحقد على أهل الإيمان.

10. ولذا قال سبحانه: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ الذبذبة الاضطراب، ومن ذلك قول النابغة في مدح النعمان:

çألم تر أن الله أعطاك سورة...ترى كل ملك دونها يتذبذب‏é

أي يضطرب ولا يصل إليها، كذلك هؤلاء المنافقون في اضطراب دائم مستمر، ويترددون: أيخرجون من الكفر إلى الإيمان أم يبقون على ما هم عليه من كفران، ثم أهم يجعلون أنفسهم مع محمد وأوليائه، أم مع الذين يحاربونه من أعدائه، وقد أشرنا من قبل إلى ما رواه مسلم من قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه أخرى)

11. وهنا أمر لفظي وهو قوله تعالى: ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ الإشارة في الظاهر إلى المذكور آنفا، في طى الكلام، وهو الكفر والإيمان، أو الاستنصار بأهل الإيمان والاستنصار بأعدائهم، فهم مترددون بين هذين الأمرين وهما المذكوران في مضمون الكلام، فالإشارة إلى المذكور، وهو يتضمن أمرين متعارضين هما الالتجاء لأهل الإيمان أو البقاء مع أهل الشيطان، والتعبير بكلمة (بين) الدال على المكان الذى يكون بين أمرين مؤداه أنهم يكونون في مكان متوسط بين الأمرين، وهذا التوسط معنوي من حيث إنهم يدركون الحق ويعرفونه، ولكن لا يدخلون في وسط أهله، ولا يعرفون الله تعالى حق معرفته.

12. ويصح أن تكون الإشارة إلى الولاء، فهم مترددون فيه، فإما أن يستنصروا بالمؤمنين ويوالوهم، وإما أن يستنصروا بالمشركين، فهم في هذا الاستنصار مترددون حائرون، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وإنه لا سبيل إلى هداية هؤلاء الحائرين.

13. ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ لقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يتمنى الهداية لكل الذين يدعوهم، حتى الذين ينافقون منهم، فبين الله تعالى أن ذلك غير ممكن إلا أن يريد الله، لقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يستغفر للمنافقين، فبين الله تعالى أن الله لا يغفر لهم، فقال تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ [التوبة] وبهذا الحكم الثابت لن تكون لهم هداية لم يردها الله تعالى.

14. ومعنى النص: ومن يكتب الله تعالى عليه الضلال في سجله المحفوظ يتردى في مهاوى الرذيلة، حتى يركس فيها، ويتكاثف الشر في قلبه، ويزيد بالخطايا فلن ينفتح باب الهداية له، ولن يشرق عليه نور الإيمان وبذلك لن تجد سبيلا لهدايته، وإن ما يكتبه الله تعالى إنما هو علمه المكنون الذى لا يتخلف أبدا، وهو لا يمنع إرادة الشر من مرتكبه، وإرادة الخير من فاعله، ونسبة الإضلال إلى الله تعالى هي من قبيل المجاز من حيث إنه تركه في غيه ولم يسد عليه طريق الشر؛ لأنه استمرأ الرذيلة، وسار في طريق الضلال إلى النهاية، فكان ضلاله بعيدا، والله تعالى يهدى من أراد لنفسه الخير، وسلك سبيل الرشاد، فإن الله تعالى يوصله إلى طريق النجاة.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1915.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾، المراد بخداعهم لله اظهارهم الايمان للرسول مع إضمارهم الكفر، لأن من خان الرسول فقد خان الله، قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: 10]، والمراد بخداع الله لهم انه تعالى يعاقبهم على خداعهم ونفاقهم، من باب اطلاق السبب وارادة المسبب، وقد وصف الله تعالى نفسه في كتابه العزيز بالتواب والشاكر، لأنه يقبل من التائب توبته، ويثيب الشاكر على شكره.

2. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾، وكيف ينشطون لها، وهم بها كافرون؟، لا يرجون ثوابا على فعلها، ولا عقابا على تركها، وإنما أتوا بها صيدا للدنيا، وطريقا إلى الكسب، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة،: 45]

3. سؤال وإشكال: إذا صلى بدافع التقرب إلى الله، ومع ذلك أحب أن يراه الناس ليحسبوه من الصالحين، أو ليدفع عنه تهمة التهاون بالدين، فهل يكون هذا رياء؟ والجواب: كلا، ما دام الباعث الأول هو أمر الله ومرضاته، وما عداه تبع له.. فقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل: يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان، فيسره ذلك؟، قال: لا بأس، ما من أحد إلا وهو يحب أن يظهر له في الناس الخير إذا لم يكن ذلك لذلك، أي إذا لم يكن الفعل لمجرد الاظهار فقط.

4. ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾، لأنهم لا يصلون للّه، بل للصيد والربح، ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾، أي الا حين يراهم الناس، أما إذا انفردوا فلا يذكرونه‏ إطلاقا، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده: وينشط إذا كان الناس عنده، ويحب ان يحمد بما لم يفعل)

5. سؤال وإشكال: ما من أحد يظهر أمام الناس على حقيقته، ويقول لهم كل ما يعتقد، ومن الذي يقول لكل واحد ما يعرفه منه؟ ولو قال لعدّ من المجانين، بل من الذي لا يفعل ويتصرف ـ أحيانا ـ على غير ما يحب ويريد؟، ثم إلى أين المفر من عادات المجتمع وقيمه؟ وهل باستطاعتك إذا التقيت بمن تكره، وابتدأك بقوله: أنا مشتاق إلى رؤيتك، هل باستطاعتك أن تجيبه بأني أكره أن أراك؟ وإذا أجبته بهذا المكروه فهل أنت مصيب في نظر الناس، بل وفي نظرك أيضا؟، وأخيرا، هل كل الناس مراؤن منحرفون لأنهم لا يعتقدون بكل ما يقولون، ولا يؤمنون بكل ما يفعلون؟ الجواب: فرق بين الرياء والمداراة، فالرياء ان تظهر الصلاح نفاقا وافتراء، لتقف مع الصالحين، ولست منهم، والمداراة ان تكون لطيفا في معاملة الناس، دون أن تهدف إلى شيء الا ان تعيش معهم في وئام ووفاق.. صحيح انك تتصرف ـ أحيانا ـ تبعا لتقاليد المجتمع، فتهني أو تعزي، أو تبتسم وتحترم إنسانا مجاملا، لا مؤمنا، ولكن هذا تصرف سليم لا غبار عليه، ولا تعد معه مرائيا ما دمت في فعلك وتصرفك متفقا مع المجتمع.. وأيضا لا يجب عليك إذا صدرت منك خطيئة ـ وأينا المعصوم ـ ان تذيعها وتعلنها على الناس، والجواب: أجل، يجب ان لا تبدو لهم قديسا لا خطيئة له، وصحيح أيضا انك كاذب في قولك لمن تكره: أنا أشوق، ولكنه كذب في المصلحة وحسن الخلق، قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]، وقال: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ [ابراهيم: 24]، وقال: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ [طه: 44]، وفي الحديث: (الكلمة الطيبة صدقة يثاب بها قائلها بما يثاب به أولو الفضل والإحسان)، وفيه‏ أيضا: (أمرني ربي بالمداراة، كما أمرني بالفرائض)، وأجمع الفقهاء على أن الكذب واجب إذا توقف عليه حفظ النفس البريئة، وخلاصها من الهلاك، وان الصدق حرام في النميمة والغيبة، فالنمام صادق، والمغتاب صادق، ولكنهما مذمومان عند الله والناس‏.

6. الرياء المحرم هو ان يتظاهر المرء أمام الناس بما ليس فيه، فيريهم الخير والصلاح من نفسه، ليحظى عندهم بمكان الصالحين الخيرين، وهو من الأشرار المفسدين.

7. ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾، يتظاهرون تارة مع المسلمين، وتارة مع الكافرين، وهم في الواقع‏ ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾، بل إلى منافعهم ومطامعهم.. يقبلون كل يد تقبض على منفعتهم، أو على شيء منها، قذرة كانت اليد، أو طاهرة.

8. ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾، أي ان الله سبحانه قد تخلى عنهم، وأوكلهم إلى أنفسهم لعنادهم وتمردهم على الحق، ومن كان هذا شأنه فلن يؤوب إلى رشد، ولا بد من التنبيه إلى أن حكمة الله تعالى تستدعي ان لا يتخلى عن عبده، تماما كما لا تتخلى الوالدة عن وليدها، الا إذا كان العبد هو السبب الموجب لتخلي الله عنه لولوجه في العصيان والتمرد، كما تتخلى الأم عن ابنها لغلوه في العقوق.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/469.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ المخادعة هي الإكثار أو التشديد في الخدعة بناء على أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.

2. ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ في موضع الحال أي يخادعون الله في حال هو يخدعهم ويئول المعنى إلى أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الصادرة عن النفاق من إظهار الإيمان والاقتراب من المؤمنين، والحضور في محاضرهم ومشاهدهم أن يخادعوا الله أي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين فيستدروا منهم بظاهر إيمانهم وأعمالهم من غير حقيقة، ولا يدرون أن هذا الذي خلى بينهم وبين هذه الأعمال ولم يمنعهم منها هو الله سبحانه، وهو خدعة منه لهم ومجازاة لهم بسوء نياتهم وخباثة أعمالهم فخدعتهم له بعينها خدعته لهم.

3. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ هذا وصف آخر من أوصافهم وهو القيام إلى الصلاة ـ إذا قاموا إليها ـ كسالى يراءون الناس، والصلاة أفضل عبادة يذكر فيها الله، ولو كانت قلوبهم متعلقه بربهم مؤمنة به لم يأخذهم الكسل والتواني في التوجه إليه وذكره، ولم يعملوا عملهم لمراءاة الناس، ولذكروا الله تعالى كثيرا على ما هو شأن تعلق القلب واشتغال البال.

4. ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ قال في المجمع: يقال‏: (ذبذبته فذبذب‏ أي حركته فتحرك فهو كتحريك شيء معلق)، فكون الشيء مذبذبا أن يتردد بين جانبين من غير تعلق بشيء منهما، وهذا نعت المنافقين، يتذبذبون بين ذلك ـ أي الذي ذكر من الإيمان والكفر ـ لا إلى هؤلاء أي لا إلى المؤمنين فقط كالمؤمنين بالحقيقة، ولا إلى الكفار فقط كالكافرين محضا.

5. ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ في مقام التعليل لما سبقه من حديث الذبذبة، فسبب ترددهم بين الجانبين من غير تعلق بأحدهما أن الله أضلهم عن السبيل فلا سبيل لهم يردونه، ولهذه العلة بعينها قيل: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ ولم يقل: متذبذبين أي القهر الإلهي هو الذي يجر لهم هذا النوع من التحريك الذي لا ينتهي إلى غاية ثابتة مطمئنة.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/117.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يُخَادِعُونَ الله﴾ يخادعون رسوله والمؤمنين ويحلفون على الكذب ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله﴾ [المنافقون:1] ولما كانوا مخادعين لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي بلغ دين الله ودعا إلى الله كان خداعهم له مكراً بدين الله فاعتبر خداعاً لله. ويحتمل: أنهم استعملوا هذا الخداع وظنوا أنه ينفعهم في الدنيا وأن الله يتركهم لا يكشف أمرهم فاعتبروا مخادعين لله بهذا المعنى ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ وهو غالبهم في الخداع؛ لأنه ينعم عليهم بالأموال الأولاد، كأنه لا يعاقبهم على نفاقهم ومع ذلك يمهلهم ويملي لهم، وهم لا محالة صائرون إلى الدرك الأسفل من النار فأشبه هذا فعل المخادع الغالب، فقال تعالى: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ أو هو على طريقة المشاكلة، والمعنى وهو غالبهم بأمره في الدنيا والآخرة.

2. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ ﴿قَامُوا كُسَالَى﴾ لأنه لا دافع لهم إليها إلا الخوف من الناس؛ لأنهم لا يخافون العقاب من الله، ولا يرجون الثواب، ولا يحبون عبادة الله وذكره، ولا يرغبون في التقرب إليه ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ يريدون أن يراهم الناس عند قيامهم إلى الصلاة ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله﴾ في الصلاة إلا قليلاً، أو ولا يذكرون الله لا في الصلاة ولا في غيرها، وقوله تعالى: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي ﴿إِلَّا﴾ ذكراً ﴿قَلِيلًا﴾ فهم يذكرونه قليلاً؛ لأنهم مقرون بالله، فاجتمعت صفات المنافقين:

أ. الأولى: ﴿يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾

ب. الثانية: يتربصون بالمؤمنين الدوائر.

ج. الثالثة: ﴿يُخَادِعُونَ الله﴾

د. الرابعة: ﴿إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾

3. فأما قوله تعالى: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ الله﴾ فيحتمل: أنها في الصلاة، فتكون صفات لصلاتهم: كسالى، يراءون، ولا يذكرون الله في الصلاة ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ فيكون مجموع الثلاث هذه صفة واحدة، ويحتمل أن قوله: ﴿يُرَاءُونَ﴾ غير خاص بالصلاة فهو صفة للمنافقين مستقلة، وقوله: ولا يذكر الله كذلك، والمعنى متقارب؛ لأن المرائي بصلاته يرائي بغيرها، ومن لا يذكر الله في الصلاة إلا قليلاً، فغيرها بالأولى: أن لا يذكر الله فيه.

4. ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ قال في (الكشاف): (وحقيقة المذبذب: الذي يُذَبُّ عن كِلا الجانبين، أي يذاد ويدفع، فلا يقرّ في جانب واحد، كما قيل: فلان يرمي به الرحوان، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذبّ، كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه) فالمنافق على هذا مدفوع ليس له قبول عند المؤمنين ولا عند الكافرين؛ لأنه ذليل خائف لا يعتز به الكفار فيرغبوا فيه؛ لأنهم لا يصدقونه في دعواه أنه معهم، والمؤمنون يعرفونه بعلاماته، فليس له قبول باسم مؤمن.

5. ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ لا إلى المؤمنين ينضمُّون ويرجعون، ولا إلى الكفار؛ لأنهم غير مؤمنين بقلوبهم ولا كفار ينطقون بالكفر صراحة وهذا في أول أمرهم، وقد صرح بعضهم بالكفر عند تطوره في الباطل، قال تعالى فيهم: ﴿يَحْلِفُونَ بِالله مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾ [التوبة:74]

6. ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ ومن يخذله ويسلبه التوفيق لكثرة معاصيه واستمراره على الإصرار أو لعناده بعدما تبين له الحق، والإضلال في اللغة: التسبيب للضلال ولو بالحق، كما قال تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة:26]، وقال تعالى في (سورة المدثر): ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [آية:31] فالفاسق يضل بالحق لأنه يجعله سبباً لضلاله، كقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة:125]، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5]

7. ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ تشبيه له بمن هو تائه في قفر بعيد من الطريق وليس حوله طريق يهتدي بها، وذلك لأن المنافق قد كره الحق وتزين له النفاق فلا تؤثر فيه موعظة مع قسوة قلبه وعدم الإيمان في قلبه ولا ينفع استدلال ولا احتجاج؛ لأن ذلك من كتاب الله أو كلام رسول الله عن الله وهو غير مؤمن بذلك فانسدت الطريق إلى هدايته؛ لأنه لا يفكر ولا يستعمل عقله بل لا يزال معرضاً إتباعاً لهواه في النفاق فهو بسبب إعراضه وانصرافه عن قبول الحق والإيمان به، كما قال الله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة:18]

8. فالإضلال هنا: التسبيب للضلال بالسبب الحق الذي ليس سبباً يؤدي إلى الضلال لا محالة وإنما هو سبب في حق الفاسق لأنه يجعله سبباً للضلال باختياره فخذل وولاه الله ما تولى عقوبة له، وقد حقق هذا أحمد بن سليمان في (حقائق المعرفة) وبيَّن: أن الإضلال يكون عقوبة، فأما الإضلال بمعنى خلق الضلال فليس معروفاً في لغة العرب؛ لأن المعروف الإضلال عن الطريق ولا يكون في العادة إلا بالتسبيب ولا يفهمون الإضلال بمعنى خلق الضلال، وكذلك الإضلال بالتسبيب لغير ذنب يستحق به وبسبب يؤدي إلى الضلال، حتى ولو وقع لمؤمن فهذا لا تجوز نسبته إلى الله تعالى؛ لأنه حكيم غني كريم رءوف رحيم لا يظلم العباد، ولا يحب الفساد، وليس في القرآن ذكر لهذا التسبيب إنما فيه إثبات العقوبة وهي لا تكون إلا بالحق كبسط النعمة، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5]، وقال تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة:26]، وقال تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام:110] وهذه من المتشابه، إلا أنها قد أفادت المقصود هنا، وقال تعالى: ﴿وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ﴾ [إبراهيم:27] وغير ذلك كثير.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/194.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه صفة ثالثة تحدد بعض ملامح المنافقين، فهم يحاولون في مظهرهم الإيماني وأسلوبهم في الاندماج بمجتمع المؤمنين، أن يحصلوا على الثقة بصدق إيمانهم من قبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين معهم، ظنا منهم بأن حيلتهم تنجح وتنطلي على المجتمع الإيماني، كمن يقوم بعملية الخداع في سبيل الوصول إلى هدفه؛ ولكنهم لم يلتفتوا إلى أنهم لا يخادعون المؤمنين، بل حاولوا خداع الله؛ لأن المؤمنين لا يمثلون أنفسهم، بما يثيرونه من قضايا، أو يقفونه من مواقف، أو يواجهونه من مؤامرات وتحديات، أو يقيمونه من علاقات؛ بل يمثلون خط الله، وهو خادعهم، عندما يتركهم لأوهامهم في نجاح الخطة، وامتداد الخدعة.. ثم يملي لهم في الحياة وما تحفل به من النعم والملذات، حتى يظنوا أن الله قد رضي عنهم؛ ولكن الله يواجههم بالموقف الذي يكشف به كل خفاياهم الشريرة، بعد أن يستسلموا للشعور بالأمن والطمأنينة.

2. جاء في (العيون) بإسناده عن الحسن بن فضال قال سألت علي بن موسى الرضا عليه السّلام‏ عن قوله: ﴿يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ فقال: الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يخادع، ولكنه يجازيهم جزاء الخديعة، وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل فيم النجاة غدا؟ فقال: النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم، فإنه من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الإيمان ونفسه يخدع لو يشعر، فقيل: فكيف يخادع الله؟ قال يعمل بما أمر الله ثم يريد به غيره، فاتقوا الرئاء، فإنه شرك بالله، إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له‏.

3. ثم تكشف الآية بعض الألوان القلقة في أعمالهم؛ فهم قد يصلّون، ولكنهم لا يملكون روحية الصلاة التي تبعث في أجسادهم النشاط والحيوية والانقطاع إلى الله، بحيث تتحول في وقفتهم هذه أمام الله إلى حركة روحية مليئة بالقوة والثبات والامتداد، بل يعيشون بدلا من ذلك الكسل الذي يبعث في أجسادهم الخدر، وفي عيونهم الشعور بالضياع، وفي حركاتهم الشلل أو ما يشبه ذلك.

4. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ من غير وعي ولا قوة ولا إيمان، لأنهم لا يريدون من الصلاة إلا الرياء، ليراهم الناس على حالة الصلاة، ليأخذوا بعضا من الثقة بذلك، ولا يذكرون الله الذي يذكره المؤمنون بشكل دائم مستمر في وعي كبير لعظمته وامتداده، لأنهم لا يحيون في أعماقهم روح الإيمان به، إلا بما يشبه الشبح؛ ولذلك فإنهم لا يذكرونه إلا قليلا من موقع انتهاز الفرصة لا من موقع الإيمان وقد جاء في الكافي بإسناده عن أبي المغرا الخصاف رفعه قال قال أمير المؤمنين عليه السلام: من ذكر الله ـ عز وجل ـ في السرّ، فقد ذكر الله كثيرا، إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية وال يذكرونه في السرّ فقال الله عز وجل: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾. وأخرج مسلم وأبو داوود والبيهقي عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان‏(2)، قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا، وجاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان الناس عنده، ويتعرّض في كل أمر للمحمدة.

5. وفي ضوء ذلك، نفهم أن الرياء يتمثل في العمل للناس من أجل أن يحصل على المكانة عندهم والحظوة لديهم والثقة به في الموقع المميز فيهم؛ من دون أن يكون العنوان الذي يظهر به ممثّلا لحقيقته، فيريد أن يعتقد الناس فيه الإيمان والصلاح والتقوى والإخلاص من خلال مظهره الكاذب الذي يقدمه إليهم من دون أن يتصف بهذه الصفات في الواقع.

6. وليس من الرياء مداراة الناس في تعامله معهم ومجاملته لهم انطلاقا من حسن الأخلاق وكرم السجايا، انسجاما مع العلاقات الإنسانية العامة التي تفرض على الإنسان في الدائرة الاجتماعية أن يبتسم لإنسان ليس بينه وبينه مودة، أو يحترم من لا يملك موقع الاحترام، انطلاقا من الأوضاع الاجتماعية العامة، وقد ورد في الحديث المأثور: (أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض)

7. وهكذا نرى أن المرائين هم الذين يتظاهرون أمام الناس بما ليس فيهم لينالوا المكانة المميزة لديهم من دون أن يكون لهم‏ واقع يتناسب مع هذا الظاهر، ليس لهم موقف ثابت ينطلقون منه أو يرتكزون عليه، فهم مذبذبون مترددون بين جانبين من غير ارتباط بأحدهما؛ وذلك هو الضياع الذي لا يجد معه الإنسان طريقا واضحا يسير عليه ويهتدي به للوصول إلى غايته، لأنهم ابتعدوا عن طريق الله فتركهم الله لضلالهم، وأضلّهم من خلال اختيارهم السيئ؛ ومن يضلل الله، يغلق قلبه عن النور وفكره عن الهدى، ويتركه للتيه والظلام، فلا يمنحه رحمته بسبب تمرّده ونفاقه، ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ إذ لا سبيل في الحياة غير السبيل الذي يفتحه الله للإنسان برحمته لعباده الصالحين.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/515.

(2) المراد بكون الشمس بين قرني الشيطان، دنوّها من أفق الغروب، كأنه يجعل النهار والليل قرنين للشيطان، ينطح بهما ابن آدم أو يظهر لابن آدم

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وردت في هذه الآية خمس صفات للمنافقين، في عبارة قصيرة، وهي:

أ. إنّ هؤلاء ـ لأجل تحقيق أهدافهم الدنيئة ـ يتوسلون بالخدعة والحيلة، حتى أنّهم يريدون على حسب ظنهم أن يخدعوا الله تعالى أيضا، ولكنهم يقعون في نفس الوقت ومن حيث لا يشعرون في حبال خدعتهم ومكرهم، إذ هم ـ لأجل اكتساب ثروات مادية تافهة ـ يخسرون الثروات الكبيرة الكامنة في وجودهم، تقول الآية في هذا المجال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾، ويستفاد التّفسير المذكور أعلاه بالواو الحالية الواردة مع عبارة: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾، هناك قصّة مشهورة مفادها أن أحد الأكابر كان ينصح أهل الحرف من‏ مواطنيه، بأن ينتبهوا لكي لا يخدعهم المسافرون الغرباء، فقال أحدهم: كيف يمكن للغرباء البسطاء الذين لا يعرفون شيئا عن وضع المدينة وأهلها، أن يخدعوا أهل الحرف فيها نحن بمقدورنا خداع أولئك الغرباء، فأجابهم بأن قصده من الانخداع بالغرباء هو هذا المعنى، أي أن تنالوا من هؤلاء ثروة تافهة بالخداع، وتفقدوا بذلك ثروة الإيمان العظيمة!

ب. إنّ المنافقين بعيدون عن رحمة الله، ولذلك فهم لا يتلذذون بعبادة الله والتقرب إليه، ويدل على ذلك أنّهم حين يريدون أداء الصّلاة يقومون إليها وهم كسالى خائر والقوى، تقول الآية في هذا الأمر: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾

ج. ولما كان المنافقون لا يؤمنون بالله وبوعوده، فهم حين يقومون بأداء عبادة معينة، إنّما يفعلون ذلك رياء ونفاقا وليس من أجل مرضاة الله، تقول الآية: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾

د. ولو نطقت ألسن هؤلاء المنافقين بشيء من ذكر الله، فإنّ هذا الذكر لا يتجاوز حدود الألسن، لأنّه ليس من قلوبهم، ولا هو نابع من وعيهم ويقظتهم، وحتى لو حصل هذا الأمر فهو نادر وقليل، تقول الآية: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾

هـ. إنّ المنافقين يعيشون في حيرة دائمة ودون أي هدف أو خطّة لطريقة الحياة معينة، ولهذا فهم يعيشون حالة من التردد والتذبذب، فلا هم مع المؤمنين حقّا ولا هم يقفون إلى جانب الكفار ظاهرا، وفي هذا تقول الآية الكريمة: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾، ويحسن هنا الالتفات إلى أنّ كلمة (مذبذب) اسم مفعول من الأصل (ذبذب) وهي تعني في الأصل صوتا خاصا يسمع لدى تحريك شيء معلق إثر تصادمه بأمواج الهواء، وقد أطلقت كلمة (مذبذب) على الإنسان الحائر الذي يفتقر إلى‏ الهدف أو إلى أي خطّة وطريقة للحياة، وهذا واحد من أدق التعابير التي أطلقها القرآن الكريم على المنافقين، كما هي إشارة إلى إمكانية معرفة المنافقين عن طريق هذا التذبذب الظاهر في حركتهم ونطقهم، كما يمكن أن يفهم من هذا التعبير أن المنافقين هم كشي‏ء معلق يتحرك بدون أي هدف وليس لحركته أي اتجاه معين، بل يحركه الهواء من أي صوب كان اتجاهه ويأخذه معه إلى الجهة التي يتحرك فيها.

2. تبين الآية في الختام مصير هؤلاء المنافقين، وتوضح أنّهم أناس قد سلب الله عنهم حمايته نتيجة لأعمالهم وتركهم يتيهون في الطريق المنحرف الذي سلكوه بأنفسهم، فهم لن يهتدوا أبدا إلى طريق النجاة، لأنّ الله كتب عليهم التيه والضلالة عقابا لهم على أعمالهم، تقول الآية الكريمة في ذلك: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾، وقد شرحنا معنى الإضلال، وبيّنا كيف أنّه لا يتنافى مع حرية الإرادة والانتخاب، وذلك في الجزء الأوّل من هذا التّفسير في هامش الآية من سورة البقرة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/501.

125. النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈125⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ [النساء: 144]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة(1).

__________

(1) عبد الرزاق ١/٣٩٩.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، حجة(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦١٩.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦١٩.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، إن لله السلطان على خلقه، ولكنه يقول: عذرا مبينا(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦١٨.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ نزلت في المنافقين، منهم: عبدالله بن أبي، ومالك بن دخشم، وذلك أن مواليهما من اليهود أصبغ ورافع عيروهما بالإسلام، وزينوا لهما ترك دينهما وتوليهما اليهود، فصانعا اليهود(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، يعني: حجة بينة يحتج بها عليكم حين توليتم اليهود ونصحتموهم(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٧.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى:

أ. عن ابن عَبَّاسٍ قال: نزلت في المنافقين الذين اتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين؛ سماهم الله تعالى مؤمنين بإقرارهم بالإيمان علانية، وتوليهم الكافرين سرا، أو أن يقال: سموا مؤمنين؛ لما كانوا ينتسبون إلى المؤمنين؛ فسموا بذلك.

ب. وقيل: نزلت في المؤمنين، نهاهم أن يتخذوا المنافقين أولياء بإظهارهم الإيمان علانية، وأمرهم أن يتخذوا المؤمنين أولياء.

2. ثم وجه النهي في الولاية واتخاذهم أولياء يكون من وجوه:

أ. يحتمل: النهي عن ولايتهم ولاية الدِّين، أي: لا تثقوا بهم، ولا تصدقوهم، ولا تأمنوهم في الدِّين؛ فإنهم يريدون أن يصرفوكم عن دينكم؛ كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ الآية.

ب. ويحتمل: النهي عن اتخاذهم أولياء في أمر الدنيا؛ كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ الآية، نهي عز وجل المؤمنين أن يجعلوا المنافقين موضع سرهم في أمر من أمور الحرب وغيره.

ج. الثالث: في كل أمر، أي: لا تصادقوهم، ولا تجالسوهم، ولا تأمنوهم.

3. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي: تجعلون للهِ عليكم سلطانًا مبينًا:

أ. قيل: عذرًا مبينًا.

ب. وقيل: حجة بينة يحتج بها عليكم.

4. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ فهو الإرادة، وهي صفة كل فاعل في الحقيقة، وحرف الاستفهام من الله إيجاب؛ فكأنه قال قد جعلتم لله في تعذيبكم حجة بينة يعقلها الكل؛ إذ ذلك يكون ـ وهو اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين ـ حجة ظاهرة في لزوم المقت، وجائز أن تكون الإضافة إلى الله ترجع إلى أولياء الله؛ نحو الأمر بنصر الله، والقول بمخادعة الله، وكان ذلك منهم حجة بينة عليهم لأولياء الله: أنهم لا يتخذون الشيطان وليا، وأولياء: عبادة غير الله اتخذوه، ولا قوة إلا بالله.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٩٨.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا خطاب للمؤمنين نهاهم الله ان يتخذوا الكافرين أولياء وانصاراً من دون المؤمنين، فيكونون مثلهم في ركوب ما نهاهم الله عنه من موالاة أعدائه‏.

2. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ يعني حجة ظاهرة، قال عكرمة: كل ما في القرآن من ذكر سلطان، فمعناه حجة، وبه قال مجاهد والزجاج، وهو يذكر ويؤنث وقيل للأمير سلطان، لأن معناه ذو الحجة ومعنى الآية النهي عن اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين، فمن فعل ذلك، فقد جعل الله على نفسه الحجة، وتعرض لغضبه وعقابه وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز أن يبتدئ الله الخلق بالعذاب، ولا يعاقب الأطفال بذنوب الآباء، لأنه لو كان ذلك شائعاً، لما قال للمؤمنين: ﴿تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ يعني باتخاذكم الكفار أولياء من دون المؤمنين، لأن ذلك دلالة على انه لم يكن له ذلك، وانه لا كان له حجة على الخلق لولا معاصيهم ومخالفتهم له تعالى.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/368.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. السلطان: القوة، والسلطان: الحجة وأصله التسليط، وهو التقوىة مع التحريض، سلّطته على كذا فتسلّط عليه، ومنه السلاطة: سوء اللسان، ويقال: سَلُطَ الرجل سَلاطَةً، ومنه السلطان؛ لأنه مسلط على تقويم الناس.

2. نهى الله تعالى عن موالاة المنافقين، وألحق الوعيد بهم وبين طريق نجاتهم، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ يعني لا تتخذوهم أنصارًا، ولا تؤازروهم على أهل ملتكم.

3. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ هذا استفهام، والمراد به التقرير أي:

أ. تجعلون لله عليكم حجة تستوجبون منه العذاب، كما استوجبه أهل النفاق.

ب. وقيل: لا تجعلوا حجة في عقوبتكم بارتكاب ما نهاكم عنه.

ج. وقيل: لا تسلطوا على أنفسكم عقابه بفعل ما نهاكم عنه، عن أبي مسلم. (2).

4. سؤال وإشكال: لم ذكر ذلك وسلطان الله عليه ثابت قبلُ وبعدُ؟ والجواب: أن معناه سلطان في عقابكم على ما بينا.

5. ﴿مُبِينًا﴾ بينًا ظاهرًا.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. المنع من موالاة الكفار، وهي الموالاة في الدين والنصرة فيه.

ب. بطلان الجبر؛ لأنه تعالى بَيَّنَ أنهم متى عصوا كان لله حجة في عقابهم، وعندهم لو عاقبه ابتداء جاز، وكان له حجة أن الملك ملكه.

7. السلطان يذكر ويؤنث إلا أن القرآن جاء بالتذكير، وحذفت الياء من ﴿يُؤْتِ اللهُ﴾ في اللفظ كما حذف في الخط لالتقاء الساكنين.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/126.

(2) التهذيب في التفسير: 3/127.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. السلطان: الحجة، قال الزجاج: وهو يذكر ويؤنث، قالوا: قضت عليك السلطان، وأمرك به السلطان، ولم يأت في القرآن إلا مذكرا، وقيل للأمير: سلطان، ومعناه ذو الحجة.

2. نهى سبحانه عن موالاة المنافقين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ أي: أنصار ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فتكونوا مثلهم.

3. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي: حجة ظاهرة؟ وهو استفهام يراد به التقرير، وفيه دلالة على أن الله لا يعاقب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، والاستحقاق، وأنه لا يعاقب الأطفال بذنوب الآباء، وأنه كان لا حجة له على الخلق لولا معاصيهم، قال الحسن: معناه أتريدون أن تجعلوا لله سبيلا إلى عذابكم، بكفركم، وتكذيبكم؟

4. قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر: (الدرك) بسكون الراء، والباقون بفتحها، هما لغتان كالنهر والنهر، والشمع والشمع، والقص والقصص.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/198.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ في المراد بالكافرين قولان:

أ. أحدهما: اليهود، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: المنافقون.

2. قال الزجّاج: معنى الآية: لا تجعلوهم بطانتكم وخاصّتكم.

3. والسّلطان: الحجّة الظّاهرة، وإنما قيل للأمير: سلطان، لأنه حجّة الله في أرضه، واشتقاق السّلطان: من السّليط، والسّليط: ما يستضاء به، ومن هذا قيل للزّيت: السّليط، والعرب تؤنّث السّلطان وتذكّره، تقول: قضت عليك السّلطان، وأمرتك السّلطان، والتّذكير أكثر، وبه جاء القرآن، فمن أنّث، ذهب إلى معنى الحجّة، ومن ذكّر، أراد صاحب السّلطان.

4. قال ابن الأنباريّ: تقدير الآية: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم بموالاة الكافرين حجّة بيّنة تلزمكم عذابه، وتكسبكم غضبه؟

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/490.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. قيل: لما ذم الله تعالى المنافقين بأنهم مرة إلى الكفرة ومرة إلى المسلمين من غير أن يستقروا مع أحد الفريقين نهى المسلمين في هذه الآية أن يفعلوا مثل فعلهم فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والسبب فيه‏ أن الأنصار بالمدينة كان لهم في بني قريظة رضاع وحلف ومودة، فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من نتولى؟ فقال: المهاجرين؟ فنزلت هذه الآية.

ب. الثاني: ما قاله القفال: وهو أن هذا نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين يقول: قد بينت لكم أخلاق المنافقين ومذاهبهم فلا تتخذوا منهم أولياء.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾:

أ. إن حملنا الآية الأولى: على أنه تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار كان معنى الآية أتريدون أن تجعلوا لله سلطانا مبينا على كونكم منافقين، والمراد أتريدون أن تجعلوا لأهل دين الله وهم الرسول وأمته.

ب. وإن حملنا الآية الأولى: على المنافقين كان المعنى: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم في عقابكم حجة بسبب موالاتكم للمنافقين.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/251.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ مفعولان، أي لا تجعلوا خاصتكم وبطانتكم منهم، وقد تقدم هذا المعنى.

2. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي في تعذيبه إياكم بإقامته حجته عليكم إذ قد نهاكم، ‌

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/425.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: لا تجعلوهم خاصة لكم، وبطانة توالونهم من دون إخوانكم من المؤمنين، كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين‏.

2. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ الاستفهام للتقريع والتوبيخ: أي: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة الكافرين؟

__________

(1) فتح القدير: ‏1/611.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ بالقلب واللسان ﴿لَا تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ﴾ اليهود والمشركين، وقيل: اليهود ﴿أَوْلِيآءَ مِن دُونِ الْمُومِنِينَ﴾ كما اتَّخذهم المنافقون، وقد قال الله تعالى عنهم: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُومِنِينَ﴾ [النساء: 139]، لا تتشبهوا بهم ظاهرًا ولا باطنًا، وقيل: (الَّذِينَ آمَنُوا): المنافقون، والمؤمنون هم المخلصون، وقيل: (الَّذِينَ آمَنُوا): المخلصون والكافرون المنافقون.

2. ولا يتبادر القولان، ولا أن يعتني بالمنافقين فينادوا بالإيمان والتحذير من المشركين، ولا أن يخاطَبوا بقوله: ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا﴾ أي: حجَّة بيِّنة في العذاب، أو تسلُّطًا، فإنَّهم إذا اتَّخذوهم أولياء قامت الحجَّة على العذاب، وتسلَّط عليهم العذاب، ومن لم يتَّخذهم لم تقم عليهم حجَّة العذاب ولم يظلمهم الله به، أو تجعلوا حجَّة على أنَّكم موافقون للحقِّ مع أنَّكم مبطلون، وعن ابن عبَّاس: كلُّ سلطان في القرآن بمعنَى حجَّة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/326.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا نهي عن موالاة الكفرة، يعني مصاحبتهم، ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: 28]، أي: يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه، ولهذا قال هاهنا: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي: حجة عليكم في عقابكم بموالاتكم إياهم.

2. وقد دلت الآية الكريمة على تحريم موالاة المؤمنين للكافرين، قال الحاكم: وهي الموالاة في الدين والنصرة فيه، لا المخالقة والإحسان، قال الزمخشريّ: وعن صعصعة بن صوحان أنه قال لابن أخ له: خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وأنه يحق عليك أن تخالص المؤمن، قال أبو السعود: وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال: أتجعلون.. إلخ، للمبالغة في إنكار ذلك، وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر على العاقل إرادته، فضلا عن صدور نفسه، كما في قوله عز وجل: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ﴾ [البقرة: 108]

3. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال كل سلطان في القرآن حجة، وكذا قال غيره من أئمة التابعين، قال محمد بن يزيد: هو من (السليط)، وهو دهن الزيت لإضاءته، أي: فإن الحجة من شأنها أن تكون نيّرة، وفي (البصائر) إنما سمى الحجة سلطانا لما يلحق من الهجوم على القلوب، لكن أكثر تسلطه على أهل العلم والحكمة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/381.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإن هذا من فعل المنافقين، يوالونهم وينصرونهم من دون المؤمنين لأنهم لا يكرهون أن يكون لهم النصر والسلطان، وأن يلحقوا بهم، ويعدوا أنفسهم منهم، ولا يكون هذا من مؤمن.

2. حذر الله تعالى المؤمنين أن يحذو بعض ضعفائهم حذو المنافقين في ولاية الكافرين من دون المؤمنين أي من غير المؤمنين وفي خلاف مصلحتهم، يبتغون عندهم العزة، ويرجون منهم المنفعة، فإنه ربما يخطر في بال صاحب الحاجة منهم أن ذلك لا يضر كما فعل حاطب بن بلتعة إذ كتب إلى كفار قريش يخبرهم بما عزم عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في شأنهم لأن له عندهم أهلا ومالا، فالأولياء جمع ولي من الولاية بكسر الواو وهي النصرة.

3. وأما الولاية بفتح الواو فهي تولي الأمر، وقيل يطلق اللفظان على كلا المعنيين والمراد هنا النصرة بالقول أو الفعل فيما ينافي مصلحة المسلمين، ومثله قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: 51] وإن عم بعض المفسرين في هذه، والله تعالى يقول بعدها: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة: 52] وهؤلاء هم المنافقون، فالخوف من إصابة الدائرة، وذكر الفتح وندمهم إذا جعله الله للمؤمنين، مما يدل على أن الولاية هنا ولاية النصرة لليهود والنصارى الذين كانوا حربا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين، فهو لا يشمل من ليسوا كذلك كالذميين إذا استخدمتهم الدولة في أعمالها الحربية أو الإدارية بل لهؤلاء حكم آخر.

4. لما كنت في الآستانة سنة 1328 أحببت أن أعرف حال التعليم الديني في دار الفنون التي هي المدرسة الجامعة في عاصمة الدولة فلما دخلت الحجرة التي يقرأ فيها التفسير ألفيت المدرس يفسر آية المائدة هذه وعمدته تفسير البيضاوي (وهو الذي يقرأه أكثر المسلمين في مدارسهم الدينية) وهو يفسر الآية بعدم الاعتماد على اليهود والنصارى وعدم معاشرتهم معاشرة الأحباب (وهذا من أغرب أغلاطه) فلما قرر ذلك المفسر بالتركية قام أحد الطلبة وقال له: إذا كيف جعلتهم دولتنا في مجلسي المبعوثين والأعيان وفي هيئة الوكلاء؟ (أي وزراء الدولة) ففاجأ المدرس الحصر وخرج العرق من جبينه، فإنه إذا قال: إن عمل الدولة هذا مخالف لنص القرآن، خاف على نفسه من ديوان الحرب العرفي أن يحكم عليه بالإعدام، ولم يظهر له في الآية غير ما قاله البيضاوي، وهل للمقلد إلا نقل ما يراه في الكتاب؟ فقلت له: أتأذن لي أن أجيب هذا الطالب؟ قال: نعم، فقمت واقفا وبينت معنى الولاية وكيف كان حال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين مع أهل الكتاب وغيرهم في صدر الإسلام وتحقيق كون الولاية المنهي عنها في الآية هي ولاية النصرة والمعونة لهم وكانوا محاربين، وكون استخدام الذميين منهم في الحكومة الإسلامية لا يدخل في مفهومها بل له أحكام أخرى، والصحابة قد استخدموهم في الدواوين الأميرية والعباسيون جعلوا إسحاق الصابي وزيرا.. فاقتنع السائل، وأفرخ روع المدرس، ولما علم بذلك مدير قسم الإلهيات والأدبيات في دار الفنون اتخذه وسيلة لإصدار أمر من ناظر المعارف بقراءة درس التفسير وكذا درس الحديث بالعربية في بعض السنين، وأراد أن يجعل ذلك وسيلة لجعلي مدرسا للتفسير إن أقمت في الآستانة.

5. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي أتريدون أن تجعلوا لله عليكم يوم القيامة حجة بينة على استحقاقكم لعذابه إذا اتخذتموهم أولياء من دون المؤمنين، لأن هذا من عمل المنافقين، فالسلطان بمعنى الحجة والبرهان، وقيل إنه بمعنى السلطة ومعناه أن يسلطهم عليكم بذنوبكم، ولكن وصف السلطان بالمبين أظهر في المعنى الأول، ويستعمل المبين بمعنى البين في نفسه ومعنى المبين لغيره.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/383.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذم سبحانه المنافقين بأنهم مذبذبون لا يستقر لهم قرار، فهم تارة مع المؤمنين، وأخرى مع الكافرين، حذر المؤمنين أن يفعلوا فعلهم وأن يوالى بعض ضعفائهم الكافرين دون المؤمنين، يبتغون عندهم العزة ويرجون منهم المنفعة كما فعل حاطب بن أبى بلتعة، إذ كتب إلى كفار قريش يخبرهم بما عزم عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في شأنهم؛ لأنه كان له عندهم أهل ومال.

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المراد بالولاية هنا النصرة بالقول أو بالفعل بما يكون فيه ضرر للمسلمين، وهذا كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، أما استخدام الذميين منهم في الحكومة الإسلامية فليس بمحظور، والصحابة استخدموهم في الدواوين الأميرية، وأبو إسحاق الصابي جعل وزيرا في الدولة العباسية.

3. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ السلطان: الحجة والبرهان، والمبين هنا بمعنى البين في نفسه، والمعنى ـ أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة في استحقاقكم للعقاب إذا اتخذتموهم أولياء من دون المؤمنين؟ فإن عملا كهذا لا يصدر إلا من منافق.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/189.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إلى هنا يكون السياق قد بلغ من إثارة الاشمئزاز والاحتقار والاستضعاف للمنافقين في نفوس المؤمنين مبلغا عظيما.. فيلتفت بالخطاب للمؤمنين محذرا إياهم أن يسلكوا طريق هؤلاء المنافقين.. وطريق المنافقين ـ كما سبق ـ هو اتخاذهم الكفار أولياء من دون المؤمنين، ويحذرهم بطش الله ونقمته، كما يصور لهم مصير المنافقين في الآخرة، وهو مصير مفزع رعيب، مهين كذلك ذليل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾

2. إنها العودة إلى نداء الذين آمنوا، بالصفة التي تفرقهم وتميزهم ممن حولهم، والتي بها يتميز منهجهم وسلوكهم وواقعهم، والتي بها يستجيبون للنداء كذلك ويطيعون التوجيهات، نداء لهم بهذه الصفة أن يحذروا سلوك طريق المنافقين، ويحذروا أن يتولوا الكفار من دون المؤمنين.. وهو نداء لا بد كانت هناك حاجة إليه في المجتمع المسلم يومذاك، حيث كانت الصلات ما تزال قائمة في المجتمع بين بعض المسلمين واليهود في المدينة؛ وبين بعض المسلمين وقرابتهم في قريش ـ ولو من الناحية النفسية ـ ونقول (بعض المسلمين) لأن هناك البعض الآخر؛ الذي فصم كل علاقاته بالمجتمع الجاهلي ـ حتى مع الآباء والأنباء ـ وجعل العقيدة وحدها هي آصرة التجمع ووشيجة الرحم؛ كما علمهم الله، وذلك البعض هو الذي كانت الحاجة قائمة لتنبيهه إلى أن هذا هو طريق النفاق والمنافقين ـ بعد تصوير النفاق والمنافقين تلك الصور الزرية المنفرة البغيضة ـ وتحذيره من التعرض لغضب الله وبطشه ونقمته.

3. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ ولا يفرق قلب المؤمن ويرتجف أكثر من فرقه وارتجافه من التعرض لبطش الله ونقمته.. ومن ثم جاء التعبير في صورة الاستفهام.. ومجرد التلويح بالاستفهام يكفي في خطاب قلوب المؤمنين!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/785.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن كشف الله سبحانه وتعالى للمؤمنين هذه الوجوه المنكرة للمنافقين وأطلعهم على هذا المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه.. فقد جاء سبحانه وتعالى إلى المؤمنين يحذّرهم هؤلاء المنافقين، حتى لا يصيبهم ما أصابهم وسيصيبهم من ذلة وهوان في الدنيا، وعذاب ونكال في الآخرة، وموالاة المنافقين، والميل إليهم، هو في الواقع معاداة للمؤمنين ومجافاة لهم.. وهذا من شأنه أن يخلط المؤمنين الذين يوالون المنافقين بأهل النفاق، ويضيفهم إليهم، وهذا من شأنه أيضا أن يعرّضهم لما تعرض له المنافقون من سخط الله ونقمته، دون أن تكون لهم عند الله حجة، أو يقوم لهم بين يدى عذابه ونقمته عذر يعتذرون به.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/945.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أقبل على المؤمنين بالتحذير من موالاة الكافرين بعد أن شرح دخائلهم واستصناعهم للمنافقين لقصد أذى المسلمين، فعلم السامع أنّه لولا عداوة الكافرين لهذا الدين لما كان النفاق، وما كانت تصاريف المنافقين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فهي استئناف ابتدائي، لأنّها توجيه خطاب بعد الانتهاء من الإخبار عن المنافقين بطريق الغيبة.

2. وهذه آية جامعة للتحذير من موالاة الكافرين، فالتحذير من موالاة الكافرين والمنافقين، ومن الوقوع في النفاق، لإن المنافقين تظاهروا بالإيمان ووالوا الكافرين تحذير من الاستشعار بشعار النفاق، وتحذير من موالاة المنافقين الذين هم أولياء الكافرين، وتشهير بنفاق المنافقين، وتسجيل عليهم أن لا يقولوا: كنّا نجهل أنّ الله لا يحبّ موالاة الكافرين، والظاهر أنّ المراد بالكافرين هنا مشركو مكة وأهل الكتاب من أهل المدينة، لأنّ المنافقين كانوا في الأكثر موالين لأهل الكتاب.

3. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ استئناف بياني، لأنّ النهي عن اتّخاذ الكافرين أولياء ممّا يبعث الناس على معرفة جزاء هذا الفعل مع ما ذكرناه من قصد التشهير بالمنافقين والتسجيل عليهم، أي أنّكم إن استمررتم على موالاة الكافرين جعلتم لله عليكم سلطانا مبيّنا، أي حجّة واضحة على فساد إيمانكم، فهذا تعريض بالمنافقين، فالاستفهام مستعمل في معنى التحذير والإنذار مجازا مرسلا.

4. وهذا السلطان هو حجّة الرسول عليهم بأنّهم غير مؤمنين فتجري عليهم أحكام الكفر، لأنّ الله عالم بما في نفوسهم لا يحتاج إلى حجّة عليهم، أو أريد حجّة افتضاحهم يوم الحساب بموالاة الكافرين، كقوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]، ومن هنا يجوز أيضا أن يكون المراد من الحجّة قطع حجّة من يرتكب هذه الموالاة والإعذار إليه.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/291.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، النداء للمؤمنين بالبعيد ليكون التنبيه قويا، ونادى بالموصول للإشارة إلى أن الإيمان يقتضى ألا يكون ولاء المؤمن لغير المؤمنين، ومعنى النص: يا أيها الذين آمنوا وحسن إيمانهم بالله، لا تتخذوا الكافرين بالله الذين لم يخلصوا له نصراء لكم تدخلون في ولايتهم وتكونون تابعين لهم وتتركون المؤمنين، فإن ذلك لا يتفق مع الايمان.

2. فالمراد بالولاية هنا النصرة والانتماء إلى جماعة الكافرين، وإن الولاء يطلق بمعنى المحبة، وبهذا المعنى جاء النهى عنه، وهو التبعية والنصرة، وإن هذا الأخير منهى عنه بالاتفاق، ولا يجوز من المؤمن إلا اتقاء الأذى إن تيقن الإيذاء، أما المحبة فغير منهى عنها إلا أن يكون الكافر قد انتقل إلى المحادة والعداوة، ولا يقتصر على مجرد الكفر، ولذلك قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة]

3. قوله تعالى: ﴿دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يشير إلى أنهم يتركون المؤمنين لينضموا إلى ولاية الكافرين، وذلك لا يسوغ من مسلم، ولذلك قال تعالى: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾

4. الاستفهام للإنكار والتوبيخ إن وقع هذا منهم، وهو يتضمن التهديد لهم بتسليط مقت الله عليهم إن فعلوا فهو استفهام يتضمن إنكارا للوقوع، أي لا يقع منهم، ولا يصح أن يقع، ويتضمن التحذير والإنذار، والمعنى: إنكم إن فعلتم ذلك فقد جعلتم لله حجة في عقابكم، وتسليط ذنوبكم عليكم وتخليه عن نصركم فإن نصر الله لا يكون إلا لمن يطلب النصرة من الله وحده، ولن ينصر الله من يستنصر بغير الله كما قال تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد].

5. وإذا كان الاستنصار بغير المؤمنين يترتب عليه هذا فهل تريدون أيها المؤمنون أن تجعلوا لله تعالى سبيلا بينا واضحا يخذلكم بسببه بعد النصرة، ويعاقبكم عليه بعد الإيمان ويذهب شوكتكم؟ لا يسوغ ذلك منكم، فاحذروه، اللهم اجعل ولاءنا لك، ولا تجعل نصرتنا من غيرك.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1922.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، تقدمت هذه الآية مع تفسيرها في سورة آل عمران الآية 30، فقرة أقسام الأولياء وموالاة المؤمن للكافر.

2. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، السلطان الحجة، وكل من‏ لم يكن على بينة من دينه، أو زاغ عن طريق الهداية بعد أن استبان له فقد جعل لله الحجة البالغة من نفسه على نفسه.. اللهم انّا نعترف بأنك لا تعاقب إلا بعد قيام الحجة، وأيضا نقر ونعترف بقيام الحجة علينا، بل نهتز ونرتجف خوفا من بطشك، ونعوذ منه بعفوك وكرمك.. اذن لا داعي لأن توقفنا بين يديك للمحاكمة والحساب، والتحقيق والتدقيق.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/472.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ السلطان‏ هو الحجة، والآية ـ كما ترى ـ تنهى المؤمنين عن الاتصال بولاية الكفار وترك ولاية المؤمنين، ثم الآية الثانية: تعلل ذلك بالوعيد الشديد المتوجه إلى المنافقين، وليس إلا أن الله سبحانه يعد هذا الصنيع نفاقا يحذر المؤمنين من الوقوع فيه.

2. السياق يدل على أن قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا﴾ كالنتيجة المستنتجة مما تقدم أو الفرع المتفرع عليه، وهذا كالصريح في أن الآيات السابقة إنما تتعرض لحال مرضى القلوب وضعفاء الإيمان من المؤمنين ويسميهم المنافقين، ولا أقل من شمولها لهم ثم يعظ المؤمنين أن لا يقربوا هذا الحمى ولا يتعرضوا لسخط الله، ولا يجعلوا الله تعالى على أنفسهم حجة واضحة فيضلهم ويخدعهم ويذبذبهم في الحياة الدنيا، ثم يجمع بينهم وبين الكافرين في جهنم جميعا، ثم يسكنهم في أسفل درك من النار، ويقطع بينهم وبين كل نصير ينصرهم، وشفيع يشفع لهم.

3. ويظهر من الآيتين:

أ. أولا: أن الإضلال والخدعة وكل سخط إلهي من هذا القبيل إنما عن حجة واضحة تعطيها أعمال العباد، فهي إخزاء على طريق المقابلة والمجازاة، وحاشا الجناب الإلهي أن يبدأهم بالشر والشقوة من غير تقدم ما يوجب ذلك من قبلهم، فقوله: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ يجري مجرى قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: 26]

ب. وثانيا: أن في النار لأهلها مراتب تختلف في السفالة، ولا محالة يشتد بحسبها عذابهم يسميها الله تعالى بالدركات.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/118.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما تم بيان صفات المنافقين المبشَّرِين بالنار حذَّر من قد آمن كلهم من طريقة المنافقين، وبيَّن لهم عظم جريمتهم وشناعتهم ببيان ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ وكفى بذلك تحذيراً من النفاق، وفي هذا دلالة واضحة أن حقيقة النفاق اتخاذ من قد آمن الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ولكن من كان كذلك فإنه يفعل ما حكى الله عنهم من صفاتهم المذكورة فيما مر.

2. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي تجعلوا له حقاً في تعذيبكم، أو تجعلوا له عليكم سبباً في تعذيبكم، فالمراد سلطان الحكمة، فأما سلطان القدرة فهو حاصل، ﴿مُبِينًا﴾ أي بيِّناً واضحا.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/198.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان الحديث في الآيات السابقة عن المنافقين كنموذج منحرف عن الخط الصحيح في الواقع الإسلامي، وفي هذه الآيات لفتات ودعوة إلى المؤمنين بالابتعاد عن أساليبهم وأعمالهم، وذلك بأن يشعروا بأن أولياءهم هم المؤمنون، أما الكافرون، فهم أعداء العقيدة والحياة، فلا يتخذوا منهم أولياء بعيدا عن المؤمنين، لأن ذلك هو النفاق بعينه، والالتزام بالعقيدة يفرض الالتزام بنتائجها التي تقف في مقدمتها الموالاة لأولياء الله والمعاداة لأعداء الله، فيما يختزنه الإنسان من مشاعر ومواقف.

2. ويتصاعد الأسلوب القرآني في الآية، ليضع المؤمنين في أجواء التهديد بأن هذا الاتجاه في السلوك يجعل لله عليهم الحجة التي يعاقبهم على أساسها؛ وذلك بطريقة إثارة السؤال أمامهم في إيحاء تهديدي: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾؟ وكأنه يقول: وهل يستطيع الإنسان الضعيف أن يتماسك أمام هذا الموقف الصعب بين يدي الله، ليفكر المؤمنون بخطواتهم قبل أن يبدءوا طريق الانحراف.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/521.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد أشارت الآيات السابقة إلى قسم من صفات المنافقين، والآيات التالية ـ هذه ـ تحذر المؤمنين وتأمرهم أن لا يعتمدوا على المنافقين والكفار بدل الاعتماد على المؤمنين، وأن لا يطلبوا النصرة منهم‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وتبيّن أنّ الاعتماد على الكفار يعتبر جريمة وخرقا صارخا للقانون الإلهي وشركا بالله، ونظرا لقانون العدل الإلهي فإن هذه الجريمة تستحق عقابا شديدا، حيث تؤكد الآية: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾

2. إنّ كلمة(سلطان) مشتقة من مادة أو مصدر(سلاطة) على وزن(مقالة) وهي تعني القوة والقدرة على التغلب على الآخرين، وفي كلمة(سلطان) معنى لاسم المصدر حيث تطلق على كل أنواع التسلط، ولهذا السبب تطلق كلمة(سلطان) أيضا على(السبب) الذي يسلط الإنسان على الآخرين من أمثاله، كما تطلق على أصحاب القدرة والنفوذ، ولكنها في الآية المذكورة أعلاه إنما تعني الحجة والدليل.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/504.

126. المنافقون والدرك الأسفل من النار

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈126⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ [النساء: 145]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ﴾، في توابيت من حديد، مقفلة عليهم ـ وفي لفظ: مبهمة عليهم، أي: مقفلة ـ لا يهتدون لمكان فتحها(1).

2. روي أنّه قال: أي أهل النار أشد عذابا؟ قال رجل: المنافقون، قال: صدقت، فهل تدري كيف يعذبون؟ قال: لا، قال يجعلون في توابيت من حديد تصمد عليهم، ثم يجعلون في الدرك الأسفل في تنانير أضيق من زج، يقال له: جب الحزن، يطبق على أقوام بأعمالهم آخر الأبد(2).

__________

(1) ابن أبي شيبة ١٣/١٥٣.

(2) ابن أبي الدنيا في صفة النار.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: إن أسفل أهل النار المنافقون، الذين هم في الدرك الأسفل من النار، فيمكثون فيها ما شاء الله أن يمكثوا، ثم يقال لأهل النار: ليلعن كل قوم آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، فيلعن أهل النار ما كانوا يعبدون من دون الله، إلا المنافقين يقولون: لا نستطيع أن نلعن؛ إنه لم يكن لنا إله إلا الله على ما كان فينا، قال فما تكون غيرها حتى تزفر بهم جهنم زفرة، فترمي بهم في ساحلها، فيدخلون الجنة، قال عبد الله بن يزيد المقرئ: إنما نافقوا بأعمالهم، ولم ينافقوا بالإخلاص(1).

1. ابن كثير:

روي عن عبد الله بن كثير (ت 120 هـ) أنّه قال: سمعت أن جهنم أدراك، منازل بعضها فوق بعض(2).

__________

(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ١٢٦.

(2) ابن جرير ٧/٦٢١.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ فجهنم أدراك معناه منازل، وأطباق.. ويقال: إنّها توابيت من حديد مبهمة: معناه مقفلة عليهم(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 124.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ يعني: الهاوية، ﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ يعني: مانعا من العذاب(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٧.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾، قد سئل عن هذه المسألة جدي القاسم صلوات الله عليه، قال المنافقون في دين الله وإجلاله: من كان مخالفا لقوله فيه بفعاله، يقر بما لا يعمل، ويقول ما لا يفعل؛ وفي أولئك ومن كان كذلك: ما يقول الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2 ـ 3] [الصف: 2، 3]، وفي أولئك ما يقول سبحانه: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [التوبة: 75، 76]

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/275.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ الدرك: بالجزم والفتح ـ لغتان، وهما واحد؛ يقال: للجنة درجات وغرفات، وللنار دركات بعضها أسفل من بعض، وقيل: كلما كان أسفل ـ كان العذاب فيها أشد؛ ألا ترى أنه أخبر عنهم بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ﴾، فلو لم يكن من أسفل منهم في الدركات أشد عذابًا ـ لم يكن لقولهم: ﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ﴾، معنى؛ فدل أن كل ما كان أسفل من الدركات ـ كان في العذاب أشد، وعن ابن مسعود: قال الأدراك: توابيت من حديد تصمت عليهم في أسفل النار.

2. وقيل: إن العذاب في النار واحد في الظاهر، وهو مختلف في الحقيقة؛ وأيد ذلك قوله عز وجل: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾، لكن بعضهم لا يشعر بعذاب غيرهم؛ كقوله: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ﴾، سألوا ربهم أن يجعل لهم ضعفًا من العذاب؛ جزاء ما أضلوا، فأخبر أن لكل ضعفًا من الأئمة.

3. ثم لتخصيص المنافقين في الدرك الأسفل من النار دون سائر الكفرة وجوه ثلاثة:

أ. أحدها: أنهم كانوا يسعون في إفساد ضعفة المسلمين، ويشككونهم في دينهم، ويتكلفون في إخراجهم من الإيمان وكان ذلك دأبهم وعادتهم؛ فاستوجبوا بذلك ذلك العذاب؛ جزاء لإفسادهم.

ب. ويحتمل أن يكون ذلك لهم؛ لأنهم كانوا عيونًا للكفرة، وطلائع لهم، يخبرون بذلك عن أخبارهم وسرائرهم، ويطلعون على عوراتهم، فذلك سعى في أمر دينهم ودنياهم بالفساد؛ كقوله: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ الآية.

ج. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أنهم لم يكونوا في الأحوال كلها أهل دين يقيمون عليه في حال الرخاء والضيق؛ ولكن كانوا مع السعة والرخاء حيث كان، ولا كذلك سائر الكفرة، بل كانوا في حال الرخاء والشدة على دين واحد: يعبدون الأصنام، وأُولَئِكَ مع المؤمنين في حال إذا كانت السعة معهم، ومع الكافرين في حال إذا كانت السعة معهم، لا يقرون على شيء واحد، مترددون بين ذلك؛ كما قال الله عز وجل: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾: الآية، والكفرة عبدوا من عبدوا؛ على رجاء التقريب إلى الله، وأمر الله تعالى لهم بذلك؛ ليكونوا لهم شفعاء عند الله، وأهل النفاق لم يكونوا يعبدون غير بطونهم ومن معه شهواتهم؛ فلذلك ازداد عذابهم على عذاب غيرهم، ولما جَمَعُوا إلى الكفر بالله ـ المخادعة والتغرير وإغراء الأعداء واستعلاءهم، ولما قد أشركوا الفرق كلهم في اللذات وفي طلب الشهوات؛ فعاد إليهم ما استحق كل منهم من العقوبة، وبما بذلك شاركوا في كل المعاصي، أو سبيلها إعطاء الأنفس الشهوات مع ما فيهم تغرير ضعفة المؤمنين، والتلبيس عليهم، ولا قوة إلا بالله.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٩٩.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾: أي في العذاب المدرك لهم من أسفل النار، وهو أشد ما جعل الله لأعدائه الفجار، الخونة المنافقين من الأشرار.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/253.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر، إلا العلمي (الدرك) بسكون الراء الباقون بفتحها وهما لغتان مثل نهر ونهر وشمع فمن فتح الراء قال في الجمع: إدراك في القلة والكثرة ومن سكنها قال إدراك وفي الكثير الدرك والتسكين لغة وليس يسكن من المفتوح، لأن مثل ذلك لا يجوز تسكينه، فلا يسكن جمل وجبل وإنما هما لغتان مثل شمع وشمع ونهر ونهر، قالوا بفتح الراء افصح، سمع من العرب من يقول: أعطني دركاً أصل به حبلي، يعني ما يصل به حبله الذي عجز عن بلوغ الركية.

2. معنى الآية الاخبار من الله إن المنافقين في الطبق الأسفل من النار، قال عبد الله: المنافقون في توابيت من حديد مغلقة عليهم في النار وبه قال أبو هريرة، وابن عباس، قال ابن جريج: قال عبد الله بن كثير وأبو عبيدة، سمعنا ان جهنم أدراك منازل.

3. ليس يمنع ان يجعل الله قوماً من الكفار في الدرك الأسفل، كفرعون وهامان وأبي جهل، فإن هؤلاء أعظم كفراً من المنافقين وليس في إخبار الله ان المنافقين هناك ما يمنع أن يكون غيرهم فيه أيضاً، وان تفاضلوا في العقاب.

4. قال ابن جريج: هذه الآيات نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه، قال البلخي يجوز أن يكون الأدراك منازل بعضها أسفل من بعض بالمسافة، ويجوز أن يكون ذلك اخباراً عن بلوغ الغاية في العقاب والاهانة، كما يقال بلغ فلاناً السلطان الحضيض، وبلغ فلاناً العرش، ويريدون بذلك علو المنزلة وانحطاطها لا المسافة.

5. ﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ معناه لا تجد يا محمد، لهؤلاء المنافقين إذا جعلهم الله في أسفل طبقة من النار ناصراً ينصرهم، فينقذهم من عذابه، ويدفع عنهم أليم عقابه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/368.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الدرك: أصله اللحوق، يقال: أدرك قتادة الحسن، ومنه ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ وأدرك الغلام، وأدرك الطعام، وتدارك الأمر: تلاحق، والدرك: ما يلحق من التَّبِعَة.

2. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ﴾:

أ. قيل: النار دركات، والمنافق في الدرك الأسفل، عن عبد الله بن كثير وأبي عبيدة وجماعة.

ب. وقيل: في أسفل النار، عن ابن عباس.

3. ﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ يعني ناصرًا ينجيهم من العذاب بالقوة أو بالشفاعة، ثم بين طريق نجاتهم.

سؤال وإشكال: عقوبة أهل النفاق لم كانت أعظم؟ والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون في الكفار من يساويهم في العقاب، وإن كان فيهم من يزيد عقاب المنافق على عقابه.

4. سؤال وإشكال: أليس استويا في الكفر فضم الإيمان إليه كيف يزيده عقوبة؟ والجواب: لأنه اجتمع فيه سوى الكفر خصال استحق بها العقوبة؛ لخداع المؤمنين وإفشاء أخبارهم وطلب المكيدة لهم، وشدة ضروهم على المسلمين، واستهزائهم بالدين، وإدخالهم الشبه على الضعفة، وأكلهم أموال المسلمين، وغير ذلك من الخصال المذمومة.

5. تدل الآية الكريمة على:

أ. عظم حال المنافقين في العقوبة.

ب. أنه لا يعاقب أحدًا إلا بعد أن يكون له عليه حجة بعصيانه إياه، خلاف ما يقوله أهل الجبر، عن أبي علي.

6. قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿فِي الدَّرْكِ﴾ بسكون الراء، وقرأ الباقون بفتح الراء، وهما لغتان، غير أن الفتح أكثر في الاستعمال، وجمعه الأدراك والدروك، وأما الساكن فجمعه الأدْرُك.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/126.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أصل الدرك: الحبل الذي يوصل به الرشا، ويعلق به الدلو، ثم لما كان في النار سفال من جهة الصورة والمعنى، قيل له درك ودرك، وجمع الدرك: أدراك ودروك وجمع الدرك: أدرك.

2. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾:

أ. أي: في الطبق الأسفل من النار، فإن للنار طبقات ودركات، كما أن للجنة درجات، فيكون المنافق على أسفل طبقة منها، لقبح عمله، عن ابن كثير، وأبي عبيدة، وجماعة.

ب. وقيل: إن المنافقين في توابيت من حديد، مغلقة عليهم في النار، عن عبد الله بن مسعود، وابن عباس.

ج. وقيل: إن الإدراك يجوز أن تكون منازل بعضها أسفل من بعض، بالمسافة، ويجوز أن يكون ذلك إخبارا عن بلوغ الغاية في العقاب، كما يقال إن السلطان بلغ فلانا الحضيض، وبلغ فلانا العرش: يريدون بذلك انحطاط المنزلة، وعلوها، لا المسافة، عن أبي القاسم البلخي.

3. ﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ ولا تجد يا محمد لهؤلاء المنافقين ناصرا ينصرهم، فينقذهم من عذاب الله، إذ جعلهم في أسفل طبقة من النار.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/198.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: بفتح الراء، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ، وخلف: بتسكين الراء، قال الفرّاء: وهي لغتان.

2. ﴿الدَّرْكِ﴾:

أ. قال أبو عبيدة: جهنّم أدراك، أي: منازل، وأطباق، فكلّ منزل منها: درك.

ب. وحكى ابن الأنباريّ عن بعض العلماء أنه قال الدّركات: مراق، بعضها تحت بعض.

ج. وقال الضّحّاك: الدّرج: إذا كان بعضها فوق بعضها، والدّرك: إذا كان بعضها أسفل من بعض.

د. وقال ابن فارس: الجنة درجات، والنار دركات.

هـ. وقال ابن مسعود في هذه الآية: هم في توابيت من حديد مبهمة عليهم، قال ابن الأنباريّ: المبهمة:

التي لا أقفال عليها، يقال: أمر مبهم: إذا كان ملتبسا ولا يعرف معناه، ولا بابه.

3. ﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ قال ابن عباس: مانعا من عذاب الله.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/491.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ قال الليث: الدرك أقصى قعر الشيء كالبحر ونحوه، فعلى هذا المراد بالدرك الأسفل أقصى قعر جهنم، وأصل هذا من الإدراك بمعنى اللحوق، ومنه إدراك الطعام وإدراك الغلام، فالدرك ما يلحق به من الطبقة، وظاهره أن جهنم طبقات، والظاهر أن أشدها أسفلها، قال الضحاك: الدرج إذا كان بعضها فوق بعض، والدرك إذا كان بعضها أسفل من بعض.

2. قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم‏ ﴿فِي الدَّرْكِ﴾ بسكون الراء، والباقون بفتحها، قال الزجاج: هما لغتان مثل الشمع والشمع، إلا أن الاختيار فتح الراء لأنه أكثر استعمالا قال أبو حاتم: جمع الدرك أدراك كقولهم: جمل وأجمل، وفرس وأفرس، وجمع الدرك أدرك مثل فلس وأفلس وكلب وأكلب.

3. سؤال وإشكال: إنه تعالى قال في صفة المنافقين إنهم في الدرك الأسفل، وقال في آل فرعون‏ ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46] فأيهما أشد عذابا، المنافقون أم آل فرعون؟ والجواب:

أ. قال ابن الأنباري: يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل، وقد اجتمع فيه الفريقان.

ب. لما كان المنافق أشد عذابا من الكافر لأنه مثله في الكفر، وضم إليه نوع آخر من الكفر، وهو الاستهزاء بالإسلام وبأهله، وبسبب أنهم لما كانوا يظهرون الإسلام يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين ثم يخبرون الكفار بذلك فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين، فلهذه الأسباب جعل الله عذابهم أزيد من عذاب الكفار.

4. ﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ وهذا تهديد لهم، واحتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بهذا على إثبات الشفاعة في حق الفساق من أهل الصلاة، قالوا: إنه تعالى خصّ المنافقين بهذا التهديد، ولو كان ذلك حاصلا في حق غير المنافقين لم يكن ذلك زجرا عن النفاق من حيث إنه نفاق، وليس هذا استدلالا بدليل الخطاب، بل وجه الاستدلال فيه أنه تعالى ذكره في معرض الزجر عن النفاق، فلو حصل ذلك مع عدمه لم يبق زجرا عنه من حيث إنه نفاق.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/252.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فِي الدَّرْكِ﴾ قرأ الكوفيون ﴿الدَّرْكِ﴾ بإسكان الراء الأولى: أفصح، لأنه يقال في الجمع: أدراك مثل جمل وأجمال، قاله النحاس، وقال أبو علي: هما لغتان كالشمع والشمع ونحوه، والجمع أدراك، وقيل: جمع الدرك أدرك، كفلس وأفلس، والنار دركات سبعة، أي طبقات ومنازل، إلا أن استعمال العرب لكل ما تسافل أدراك، يقال: للبئر أدراك، ولما تعالى درج، فللجنة درج، وللنار أدراك، وقد تقدم هذا.

2. المنافق في الدرك الأسفل وهي الهاوية، لغلظ كفره وكثرة غوائله وتمكنه من أذى المؤمنين، وأعلى الدركات جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية، وقد يسمى جميعها باسم الطبقة الأولى، أعاذنا الله من عذابها بمنه وكرمه.

3. وعن ابن مسعود في تأويل قوله تعالى: ﴿فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ قال: توابيت من حديد مقفلة في النار تقفل عليهم، وقال ابن عمر: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون تصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾، وقال تعالى أصحاب المائدة: ﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾، وقال في آل فرعون: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/425.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الدَّرْكِ﴾: قرأ الكوفيون: الدرك بسكون الراء، وقرأ غيرهم: بتحريكها، قال أبو علي: هما لغتان، والجمع: أدراك؛ وقيل: جمع المحرك: أدراك، مثل: جمل وأجمال، وجمع الساكن: أدرك، مثل: فلس وأفلس، قال النحاس: والتحريك أفصح، والدرك: الطبقة، والنار دركات سبع، فالمنافق في الدرك الأسفل منها، وهي الهاوية، لغلظ كفره وكثرة غوائله، وأعلى الدركات: جهنم، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، وقد تسمى جميعها باسم الطبقة العليا، أعاذنا الله من عذابها.

2. ﴿ولَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾ يخلصهم من ذلك الدرك، والخطاب لكل من يصلح له، أو للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/612.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ المضمِرِين الشركَ ﴿فِي الدَّرَكِ الَاسْفَلِ﴾ الهاوية، محلِّ آل فرعون، قال الله تعالى: ﴿أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46]، ويليها الجحيم لأهل الشرك، فَسَقرُ للمجوس، فالسعيرُ للصابئين، فالحطمة لليهود، فلظى للنصارى، فجهنَّم لفسَّاق الموحِّدين.

2. وسمِّيت دركات لأنَّ بعضهنَّ مُدَارِكٌ لبعض، أو متابع، والدرجات والدركات بمعنى واحد، إِلَّا أنَّ الدرك باعتبار الهبوط، والدرج باعتبار الصعود، وقد تُسمَّى السبْعُ كلُّها بجهنَّم، وبعض ببعض.

3. ﴿مِنَ النَّارِ﴾ لأنَّهم ضمُّوا إلى الكفر اسْتِهْزَاءً بالإسلام، وخداعًا للمسلمين، وأمَّا المنافق بعمل الكبائر الذي لم يضمر الشرك فلا يكون في الدرك الأسفل من النَّار عندي، بل في الأعلى، كيف يكون تحت المشركين أو معهم وهو موحِّد؟ فإنَّا نرى أهل الكتاب فوق سائر أهل الشرك، لتعاطيهم متابعة الأنبياء والكتب.

4. لنا في تسمية الفاسق غيرِ المشرك منافقًا، وأنَّه لا يسمَّى مسلمًا حقيقةً قولُهُ صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ثلاثٌ من كُنَّ فيه فهو مُنَافق وإن صام وصلَّى، وزعم أنَّه مسلم، من إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان) ونحوه، وأَما دعوى أنَّ تسميته منافقًا مبالغةٌ أو تشبيهٌ بالمنافق الحقيق ـ وهو مضمر الشرك ـ فلا دليل عليها، ولنا في قوله: (وزعم أنَّه مسلم) أنَّ حقيقة المسلم من يوفِّي، وأن من لم يوفِّ بالدِّين لا يسمَّى مسلما إلَّا مجازًا.

5. ﴿وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ يخرجهم من ذلك الدرك الأسفل إلى طبقة فوقها، أو من النَّار كلِّها.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/326.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ﴾ قرئ بسكون الراء وفتحها ﴿الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ أي الطبق الذي في قعر جهنم، والدرك كالدرج، إلا أنه يقال باعتبار الهبوط، والدرج‏ باعتبار الصعود، وإنما عوقبوا بذلك لأنهم أخبث الكفرة، إذ ضموا إلى الكفر استهزاء بالإسلام وخداعا للمسلمين، قال الرازيّ: وبسبب أنهم لمّا كانوا يظهرون الإسلام، يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين ثم يخبرون الكفار بذلك، فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين، فلهذه الأسباب عوقبوا بذلك، ونقل عن ابن الأنباريّ أنه قال إنه تعالى أخبر عن آل فرعون بقوله: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46]، وعن المنافقين بما في هذه الآية، فأيهما أشد عذابا؟ فأجاب: بأنه يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل، وقد اجتمع فيه الفريقان.

2. روى الترمذيّ‏ عن الحسن قال قال عتبة بن غزوان على منبر البصرة، إن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاما، وما تفضي إلى قرارها، وكان عمر يقول: أكثروا ذكر النار، فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد وإن مقامعها حديد، وروى الترمذيّ‏ عن أبي سعيد الخدريّ قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره‏.

3. ﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ أي: ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/381.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين تعالى جزاء المنافقين بعد بيان أحوالهم التي استحقوا بها هذا الجزاء فقال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ الدرك (بسكون الراء وبه قرأ الكوفيون وبفتحها وبه قرأ الباقون) عبارة عن الطبقة والدرجة من الجانب الأسفل، لأن هذه الطبقات متداركة متتابعة، ودل هذا على أن دار العذاب في الآخرة ذات دركات بعضها أسفل من بعض كما أن دار النعيم درجات بعضها أعلى من بعض، نسأل الله أن يجعلنا مع المقربين من أهلها ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ [طه: 75 ـ 76]

2. إنما كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار لأنهم شر أهلها بما جمعوا بين الكفر والنفاق ومخادعة الله والمؤمنين وغشهم، فأرواحهم أسفل الأرواح، وأنفسهم أخس الأنفس، وأكثر الكفار قد أفسد فطرتهم التقليد، وغلب عليهم الجهل بحقيقة التوحيد، فهم مع إيمانهم بالله يشركون به غيره، باتخاذهم شفعاء عنده، ووسطاء بينهم وبينه، قياسا على معاملة ملوكهم المستبدين، وأمرائهم الظالمين، وهم لا يرضون لأنفسهم النفاق في الدين، ومخادعة الله والمؤمنين، والإصرار على الكذب والغش، ومقابلة هذا بوجه وذاك بوجه، فلما كان المنافقون أسفل الناس أرواحا وعقلا كانوا أجدر الناس بالدرك الأسفل من النار: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ ينقذهم من عذابها، أو يرفعهم من الطبقة السفلى إلى ما فوقها.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/384.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ الدرك والدرك بالسكون والتحريك: الطبقة أسفل من الأخرى، فإذا كانت أعلى منها كانت درجة، والنار سبع دركات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة، وفى الآية إشارة إلى أن دار العذاب في الآخرة ذات دركات بعضها أسفل من بعض، كما أن دار النعيم درجات بعضها أعلى من بعض.

2. إنما كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار، لأنهم شر أهلها، إذ هم جمعوا بين الكفر والنفاق ومخادعة الرسول والمؤمنين وغشهم، فأرواحهم أسفل الأرواح، ونفوسهم أحط النفوس، ومن ثم كانوا أجدر الناس بالدرك الأسفل منها، أما أكثر الكفار فقد غلب عليهم الجهل بحقيقة التوحيد، فهم مع إيمانهم بالله يشركون به غيره، من صنم أو وثن يتخذونه شفيعا عنده ووسيطا بينه وبينه، وقد قاسوا ذلك على معاملة الملوك المستبدين، والأمراء الظالمين.

3. ﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ ينقذهم من ذلك العذاب أو يخففه عنهم فيرفعهم من الطبقة السفلى إلى ما فوقها.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/190.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ)في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. طرقة أخرى عالية على هذه القلوب، غير موجهة إليها مباشرة، ولكن عن طريق التلويح.. طرقة تقرر المصير الرعيب المفزع المهين للمنافقين: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾، في الدرك الأسفل.

2. إنه مصير يتفق مع ثقلة الأرض التي تلصقهم بالتراب، فلا ينطلقون ولا يرتفعون، ثقلة المطامع والرغائب، والحرص والحذر، والضعف والخور! الثقلة التي تهبط بهم إلى موالاة الكافرين ومداراة المؤمنين، والوقوف في الحياة ذلك الموقف المهين: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾.. فهم كانوا في الحياة الدنيا يزاولون تهيئة أنفسهم وإعدادها لذلك المصير المهين‏ ﴿فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾.. بلا أعوان هنالك ولا أنصار.. وهم كانوا يوالون الكفار في الدنيا، فأنى ينصرهم الكفار؟

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/786.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ هو كشف للمؤمنين عن هول هذا العذاب الذي يلاقيه المنافقون، وأنهم في الدرك لأسفل من النار، ينزلون منها للنزل الدّون، الذي بعده منزلة، الأئمة والكافرين!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/945.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عقّب التعريض بالمنافقين من قوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ كما تقدّم بالتصريح بأنّ المنافقين أشدّ أهل النار عذابا، فإنّ الانتقال من النهي عن اتّخاذ الكافرين أولياء إلى ذكر حال المنافقين يؤذن بأنّ الذين اتّخذوا الكافرين أولياء معدودون من المنافقين، فإنّ لانتقالات جمل الكلام معاني لا يفيدها الكلام لما تدلّ عليه من ترتيب الخواطر في الفكر.

2. جملة ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ مستأنفة استئنافا بيانيا، ثانيا إذ هي عود إلى أحوال المنافقين، وتأكيد الخبر بـ (إنّ) لإفادة أنّه لا محيص لهم عنه.

3. والدّرك: اسم جمع دركة، ضدّ الدّرج اسم جمع درجة، والدركة المنزلة في الهبوط، فالشي‏ء الذي يقصد أسفله تكون منازل التدليّ إليه دركات، والشي‏ء الذي يقصد أعلاه تكون منازل الرقيّ إليه درجات، وقد يطلق الاسمان على المنزلة الواحدة باختلاف الاعتبار وإنّما كان المنافقون في الدرك الأسفل، أي في أذلّ منازل العذاب، لأنّ كفرهم أسوأ الكفر لما حفّ به من الرذائل.

4. الخطاب في‏ ﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ لكلّ من يصحّ منه سماع الخطاب، وهو تأكيد للوعيد، وقطع لرجائهم، لأنّ العرب ألفوا الشفاعات والنجدات في المضائق، فلذلك كثر في القرآن تذييل الوعيد بقطع الطمع في النصير والفداء ونحوهما.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/292.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الحديث في أقوال المنافقين، وشئونهم وعاقبة أمرهم لا يزال مستمرا، وهذا النص القرآني يبين مآل المنافقين يوم القيامة، فهم في خزى دائم في الدنيا، وعذاب شديد مقيم في الآخرة، وجزاؤهم هو أشد جزاء؛ لأن كفرهم أشد كفر، لأنه كفر بالله، وكذب على رسول الله، وافتراء على المؤمنين، واستغلال لإخلاص المخلصين، ومن المشركين من يصدق في القول كما رأينا من أبى سفيان عندما سأله هرقل عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأحواله، وليس من المنافقين من يصدق في قول، أو يخلص في عمل أيا كان، ولذا قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾

2. جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه: الدرك كالدرج، لكن الدرج يقال اعتبارا للصعود والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل درجات الجنة، ودركات النار، ولتصور الحدور في النار سميت هاوية وقال‏ تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ والدرك أقصى بر البحر، وسميت مراتب النزول دركات لأنها متداركة متتابعة.، وإن جهنم طبقات بعضها أسفل من بعض، وإن أسفلها أقساها عذابا؛ لأنها تتكاثف عليها ما فوقها من طبقات؛ ولأن أعمق النيران أشدها توهجا، وأكثرها لهيبا.

3. والمعنى: إن المنافقين الذين مردوا على النفاق واستمرءوه، صار وصفا لهم يمالئون الكافرين، ويخذلون المؤمنين، ينالهم عذاب يوم القيامة على أشده، وأشده هو أعماق جهنم، وهي الهاوية التي تهوى بهم أعمالهم فيها، وإن هذا النص الكريم يفيد أن جهنم طبقات ومنازل، وأن العقاب فيها مرتب على طبقاتهم، وهي كلها عذاب أليم، وقد وصفها القرآن الكريم بأوصاف كلها تنبئ عن الشدة في العذاب، فذكرت باسم (جهنم)، وهو ينبئ عن التردي في النار، ووصفت بأنها (لظى)، وبأنها (الحطمة)، ثم (السعير)، ثم (سقر)، ثم (الجحيم)، ثم (الهاوية)، وقال بعض العلماء إنها مرتبة في مقدار شدتها بهذا الترتيب، والله أعلم بما يكون يوم القيامة.

4. سؤال وإشكال: لماذا كان المنافقون في الدرك الأسفل في الهاوية من العذاب؟ والجواب: قد أجاب عن ذلك العلماء بأن المنافق أوغل في فساد النفس من أي مشرك كافر، وقد جعل الله تعالى لآل فرعون الذين مالئوه وعاونوه في طغيانه أشد العذاب، فقال سبحانه: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر]، وأولئك في كفرهم ونفاقهم أكثر إيذاء من أي كافر سواهم، ذلك أنهم جمعوا بين الكفر، والفسق والتضليل والتغرير والكذب، وتعرف أسرار المؤمنين وكشفها، وإظهار عورات المسلمين في الحروب، وإفساد لجماعة المؤمنين بإشاعة قول السوء بين المؤمنين، واستغلال ضعف الضعفاء منهم، وتوهين أمر المؤمنين بسبب ذلك الاستقلال، كل هذه جرائم متتابعة تدل على أن نفوسهم قد فسدت، وقلوبهم قد شغرت‏ من كل خير، والكافر الجاحد أقرب إلى الهداية من هؤلاء، فكان عقابهم أشد؛ لأن جرائمهم أشد.

5. سؤال وإشكال: لكن من هو المنافق الذى يستحق أشد العقاب، ويكون في أعمق النيران يوم القيامة؟ والجواب: إنه المنافق الخالص الذى لم يكن فيه خصلة أو أكثر من خصلة فقط، ولكن هو الذى كفر بالله وبالرسالة المحمدية، وأغلق باب الإيمان في قلبه، ولم يكتف بذلك بل أظهر الإسلام ليفسد بين المسلمين ويتعرف أسرارهم، ذلك أن النفاق درجات هذا أعلاها، وهو أشد الكفر، ودونه بعد ذلك مراتب تكون بين المسلمين، ولا تخرج المسلم عن إسلامه، وإن كانت تجعل إيمانه ضعيفا، ومن ذلك ممالأة الحكام، والسكوت عن كلمة الحق مع النطق بالباطل ملقا، وخداعا، وقيل لابن عمر: (ندخل على السلطان، ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه، فقال: (كنا نعده من النفاق)، ولقد جاء في الحديث النبوي الشريف ما يفيد أن المنافقين فريقان، فريق خلص للنفاق، وهذا منكوس القلب والنفس والفكر؛ وقسم فيه خصلة من النفاق، وهذا يتنازعه الخير والشر، ولنضي‏ء القرطاس بنور الرسالة، فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه أحمد: (القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد، فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص، عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه)

6. إننا لهذا نقول إن النفاق في داخل الإسلام مراتب، وأعلاها أولئك الذين يتملقون الحكام، وينحدرون إلى درجة وضعهم في مقام النبيين ومنهم من يذهب به فرط نفاقه، فيفضل بعض عملهم على عمل النبيين، وهؤلاء نتردد في الحكم بأنهم‏ مسلمون، وقريب منهم الذين يتأولون النصوص من غير حجة في التأويل ويعبثون بظواهرها القاطعة لهوى الحكام.

7. هذا عقاب المنافقين في إيمانهم في الآخرة، ولهم عقاب في الدنيا والآخرة، ذكره سبحانه بقوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ نفى الله تعالى عنهم نفيا مؤكدا، أن يكون لهم نصراء، وجعل الخطاب موجها للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو الذى ذاق آثار نفاقهم، وذاق المؤمنون معه مرارة ذلك النفاق؛ لأن في ذلك تثبيتا للمؤمنين، حتى لا يتزلزل أحد منهم بعمل المنافقين الذى مردوا عليه، ولم يتراجعوا عنه، ولأنهم أرادوا بالنفاق الاستنصار بغير دولة الحق، لتفوز دولة الباطل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكر الله تعالى لنبيه أنه لن يجدهم منصورين عليه أبدا لأنهم لا ناصر لهم.

8. وإن هؤلاء لن يكون لهم نصير يوم القيامة؛ لأنه لله وحده، ولن يجدوا نصيرا يخلص في النصرة لهم في الدنيا؛ لأن النفاق يسلب الثقة عنهم، فلا ينصرهم أحد ممن يستنصرون بهم، بل إنهم يستخدمون شرهم، ولا يعطونهم خيرا، وما وجدنا منافقا في الماضي أو الحاضر يخون قومه، وينال نصرة صحيحة ممن ينافق لأجلهم، فتلك سنة الله تعالى في المنافقين: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1923.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾، لأن العقوبة على قدر الجريمة، ولا جريمة أعظم من النفاق الذي جمع بين الكفر والكذب، وكلاهما من أمهات الرذائل.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/473.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سبق ذكر تفسيرها مرتبطا بتفسير المقطع السابق.

2. ويظهر من الآية أن في النار لأهلها مراتب تختلف في السفالة، ولا محالة يشتد بحسبها عذابهم يسميها الله تعالى بالدركات.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/118.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فِي الدَّرْكِ﴾ في تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام: (فجهنم أدراك: معناه: منازل وأطباق)، وفي (الصحاح): (ودركات النار: منازل أهلها، والنار دركات، والجنة درجات والقعر الآخر درْك ودرَك)

2. وهذا لا يدل على أن كفار الجحود ليسوا في الدرك الأسفل، وقد قال تعالى: ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات:55] والسياق في كافر النعم، ويمكن أن الدرك الأسفل وادٍ في سواء الجحيم فيكون أَسفل مِن سَوائها.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/199.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يضع القرآن المسألة في نصابها الصحيح حول مصير المنافقين، فهم في الدرجة السفلى من النار، مما يوحي بأن الكافرين قد يمتازون عنهم في ذلك، عندما لا يكونون في أعماق النار، حيث الحقارة والمهانة والعذاب‏ الشديد والمصير المهلك الذي لا يجد معه نصيرا.. ومن يخذل الله فهل له من نصير؟

2. ولعلّ في هذا التأكيد على موقع المنافقين في الدرك الأسفل من النار، إيحاء بأن واقع النفاق الذي يمثل الكفر في الباطن والإيمان في الظاهر، أكثر خطورة من الكفر الظاهر، لأن هذا النوع من الاستخفاء بالإيمان الظاهري يمكّن هؤلاء من الدخول إلى قلب المجتمع المسلم للاطلاع على الثغرات الكامنة فيه، مما يفسح لهم المجال للكيد والدسّ والتخريب بأساليبهم الملتوية التي قد يغفل عنها المسلمون، لأنهم يتحركون بينهم كجزء من مجتمعهم بحيث لا يشعر المسلمون بالحاجة إلى الحذر منهم، فيهيّئ لهم ذلك الفرصة الذهبية لإرباك المجتمع الإسلامي في العمق بالفتنة والانحراف والإفساد باسم الإصلاح، ولذلك كانت خطورتهم تتحرك في خطين، بينما تتحرك خطورة الكافرين المعلنين للكفر في خط واحد، هذا بالإضافة إلى ما يدل عليه النفاق من انحطاط الشخصية، وسقوط الأخلاق، والنفسية المعقّدة.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/521.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآية الثانية من الآيات الأخيرة بيان لأحوال المنافقين، الذين اتخذهم بعض الغافلين من المؤمنين أصدقاء لأنفسهم، حيث توضح الآية أنّ المنافقين يستقرون في القيامة في أحط وأسفل دركة من دركات جهنم، ولن يستطيع أحد أن ينصرهم أو ينقذهم من هذا المصير أبدا، تقول الآية: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾

2. إنّ كلمة(درك) تعني أحط نقطة في أعماق البحر، ويسمى آخر حبل متصل بالحبال التي توصل الإنسان إلى قعر البحر، بـ (الدرك) أيضا، ويظهر أن هذه المعاني مأخوذة من معنى(درك الشيء أي الوصول إليهـ كما تسمّى السلالم التي توصل الإنسان إلى موضع سفلى كالسرداب والبئر بـ (الدرك) وهذه العبارة تقابل السلالم التي يتسلق بها الإنسان إلى أعلى حيث تسمّى بالدرجات.

3. يتبيّن من هذه الآية أن النفاق في نظر الإسلام أشد أنواع الكفر، وإن المنافقين أبعد الخلق من الله، ولهذا السبب فإن مستقرهم ومكانهم النهائي في أحط نقطة من نقاط جهنم، وهم يستحقون هذا العقاب، لأنّ ما يلحق البشرية من ويلات من جانب هؤلاء هو أشد خطرا من كل الأخطار، فإنّ هؤلاء بسبب احتمائهم بظاهر الإيمان يحملون بصورة غادرة وبمطلق الحرية على المؤمنين العزل ويطعنونهم من الخلف بخناجرهم المسمومة، وبديهي أن يكون حال اعداء ـ كهؤلاء ـ يظهرون بلباس الأصدقاء، أشدّ خطرا من الأعداء المعروفين الذين يعلنون عداوتهم صراحة، وفي الواقع فإنّ النّفاق هو أسلوب وسلوك كل فرد ابتر ومنحط ومشبوه وجبان وملوث بكل الخبائث ومن لا شخصية له.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/505.

127. توبة المنافقين وشروطها

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈127⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 146]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

حذيفة:

روي عن حذيفة بن اليمان (ت 36 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين، فقال عبد الله: وما علمك بذلك؟ فغضب حذيفة، ثم قام فتنحى، فلما تفرقوا مر به علقمة، فدعاه، فقال: أما إن صاحبك يعلم الذي قلت، ثم قرأ: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(1).

2. عن الأسود، قال: جاءنا حذيفة بن اليمان، فقام على رؤوسنا، فقال: لقد نزل النفاق على من هو خير منكم، قلت له: أنى يكون هذا، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾!؟ قال فلما تفرقوا قال لم يبق غيري، رماني بحصاة فأتيته، فقال: إنهم لما تابوا كانوا خيرا منكم(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٢٣.

(2) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٨.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: في سورة النساء: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾، ثم استثنى، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٨.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَأَصْلَحُوا﴾، يعني: وأصلح العمل(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَأُولَئِكَ﴾ يعني: الذين فعلوا ما ذكر الله في هذه الآية هم الذين صدقوا، قوله: ﴿مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني: المصدقين(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٩.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَصْلَحُوا﴾، قال أصلحوا ما بينهم وبين الله ورسوله(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٩.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ﴾، الاعتصام هو الثقة بالله(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٩٩.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ولما أخبر بمستقر المنافقين قال ناس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: فقد كان فلان وفلان منافقين، فتابوا منه، فكيف يفعل الله بهم؟ فأنزل الله جل ذكره: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا﴾ يعني: احترزوا ﴿بِاللهِ﴾(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ﴾ الإسلام ﴿لِلَّهِ﴾ عز وجل، ولم يخلطوا بشرك(1).

4. روي أنّه قال: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ في الولاية، ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ يعني: جزاء وافرا(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٧.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا﴾:

أ. عن ابن عَبَّاسٍ قال: ﴿تَابُوا﴾ من النفاق، و﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أعمالهم، و﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ﴾، ويقول: وثقوا بالله.

ب. وقيل: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يقول: من المؤمنين، أي: صاروا كسائر المؤمنين.

ج. وفي حرف ابن مسعود وأُبَي: (إلا الذين تابوا، ثم آمنوا بالله والرسول والكتاب الذي أنزل إليه من ربه وما أنزل إلى النبيين من قبل، ثم أخلصوا دينهم لله واعتصموا به، أُولَئِكَ مع المؤمنين، وسوف يؤتى الله المؤمنين أجرًا عظيمًا)

د. وعن ابن عَبَّاسٍ: ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ قال: لم يراءوا، وكانت سريرتهم كعلانيتهم أو أفضل.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٠١.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. استثنى الله تعالى فقال: ﴿إلا الَّذِينَ تَابُوا﴾ فاستثنى منهم التائبين من نفاقهم إذا أصلحوا نباتهم، وأخلصوا الدين لله، وتبرؤا من الآلهة والأنداد، واعتصموا يعني تمسكوا بكتاب الله وصدقوا رسله، فإنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم‏ يكونون مع المؤمنين في الجنة، ومحل الكرامة، ويسكنهم مساكنهم وما وعدهم من الجزاء على توبتهم، وسوف يؤتي الله المؤمنين اجراً عظيما، فكان تقدير الآية إن الذين راجعوا الحق، وأقروا بوحدانية الله، وتصديق رسوله، وما جاء به من عند الله، وأصلحوا أعمالهم فعملوا بما أمرهم الله به وأدوا فرضه وانتهوا عما نهاهم، وانزجروا عن معاصيه، وتمسكوا بعهد الله وميثاقه، فقطع حينئذ انه تعالى يؤتي المؤمنين، أي يعطيهم أجراً، يعني ثوابا عظيما، ودرجات في الجنة كما اعطى من مات على النفاق منازل في النار في أسفل طبقة منها، وهذه الجملة معنى قول حذيفة بن اليمان، وجميع المفسرين.

2. ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ﴾ كتبت في المصحف بلا ياء تخفيفاً ومثله‏ ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ﴾، وقوله: ﴿مَا كُنَّا نَبْغِ﴾ وغير ذلك، وكان الكسائي يثبت الياء في الوصل دون الوقف، ثم رجع عنه، وأبو عمرو يثبتها في الوصل واهل المدينة يثبتونها في الحالين.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/369.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الاعتصام: الامتناع بالشيء مما كان معه ضرر وفساد، والاعتصام بِاللهِ: الامتناع بطاعته من كل ما كان فيه إثم، وأصله المنع من قولك: عصمه، أي: منعه، والعصمة: اللطف الذي يمنع لمكانه من المعصية.

2. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ يعني تابوا من النفاق بالندم عليه ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ يعني أصلح قوله وفعله، وإنما شرط مع التوبة الإصلاح:

أ. لئلا يتكل الإنسان على التوبة بمجردها.

ب. وقيل: لتقع توبته على هذه الصفات.

ج. وقيل: أصلحوا بفعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه.

د. وقيل: أصلح نفاقه بالتوبة.

3. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ﴾ أي: بطاعته من كل ما يخاف عاجلاً وآجلاً، ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾:

أ. قيل: عبدوا الله وحده دون من سواه، عن أبي علي.

ب. وقيل: وحدوه وتركوا كل كفر، عن الأصم وأبي مسلم.

4. ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾:

أ. قيل: معهم في الجنة.

ب. وقيل: معهم في الولاية والكرامة في الدنيا والآخرة.

ج. وقيل: معهم على دينهم.

5. ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ﴾ يعطي الله ﴿الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي ثوابًا عظيمًا دائمًا.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن التوبة من النفاق مقبولة.

ب. أن النجاة تحصل له بمجموع الخصال المذكورة في الآية.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/126.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. استثنى الله تعالى فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ من نفاقهم ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ نياتهم، وقيل: ثبتوا على التوبة في المستقبل ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ﴾:

أ. أي: تمسكوا بكتاب الله، وصدقوا رسله.

ب. وقيل: وثقوا بالله.

2. ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾:

أ. أي تبرأوا من الآلهة والأنداد.

ب. وقيل: طلبوا بإيمانهم رحمة الله ورضاه، مخلصين، عن الحسن.

3. ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: فإنهم إذا فعلوا ذلك يكونون في الجنة مع المؤمنين، ومحل الكرامة.

4. ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ سوف: كلمة ترجئة، وعدة، وإطماع، وهي من الله إيجاب، لأنه أكرم الأكرمين، ووعد الكريم إنجاز، ولم يشرط على غير المنافقين في التوبة من الاصلاح والاعتصام، ما شرطه عليهم، ثم شرط عليهم بعد ذلك الإخلاص، لان النفاق: ذنب القلب، والإخلاص: توبة القلب.

5. ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولم يقل فأولئك المؤمنون، أو من المؤمنين، غيظا عليهم، ثم أتى بلفظ ﴿سَوْفَ﴾ في أجر المؤمنين، لانضمام المنافقين إليهم، هذا إذا عنى به جميع المؤمنين من تقدم منه الكفر، ومن لم يتقدم، ويحتمل أن يكون المراد به زيادة الثواب، لمن لم يسبق منه كفر، ولا نفاق.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/199.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ قال مقاتل: سبب نزولها: أنّ قوما قالوا عند ذكر مستقر المنافقين: فقد كان فلان وفلان منافقين، فتابوا، فكيف يفعل بهم؟ فنزلت هذه الآية.

2. معنى الآية: إلّا الذين تابوا من النّفاق‏ ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أعمالهم بعد التّوبة ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ﴾ أي: استمسكوا بدينه، ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ﴾ فيه قولان:

أ. أحدهما: أنه الإسلام، وإخلاصه: رفع الشّرك عنه، قاله مقاتل.

ب. الثاني: أنه العمل، وإخلاصه: رفع شوائب النّفاق والرّياء منه، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

3. ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ في (مع) قولان:

أ. أحدهما: أنها على أصلها، وهو الاقتران، وفي ماذا اقترنوا بالمؤمنين؟ فيه قولان:

أحدهما: في الولاية، قاله مقاتل.

الثاني: في الدّين والثّواب، قاله أبو سليمان.

ب. الثاني: أنها بمعنى (من) فتقديره: فأولئك من المؤمنين، قاله الفرّاء.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/491.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية فيها تغليظات عظيمة على المنافقين، وذلك لأنه تعالى شرط في إزالة العقاب عنهم أمورا أربعة:

أ. أولها: التوبة.

ب. ثانيها: إصلاح العمل، فالتوبة عن القبيح، وإصلاح العمل عبارة عن الإقدام على الحسن.

ج. ثالثها: الاعتصام بالله، وهو أن يكون غرضه من التوبة وإصلاح العمل طلب مرضاة الله تعالى لا طلب مصلحة الوقت، لأنه لو كان مطلوبه جلب المنافع ودفع المضار لتغير عن التوبة وإصلاح العمل سريعا، أما إذا كان مطلوبه مرضاة الله تعالى وسعادة الآخرة والاعتصام بدين الله بقي على هذه الطريقة ولم يتغير عنها.

د. رابعها: الإخلاص.

2. السبب فيه أنه تعالى أمرهم في الأول: بترك القبيح، وثانيا: بفعل الحسن، وثالثا: أن يكون غرضهم في ذلك الترك والفعل طلب مرضاة الله تعالى، ورابعا: أن يكون ذلك الغرض وهو طلب مرضاة الله تعالى خالصا وأن لا يمتزج به غرض آخر، فإذا حصلت هذه الشرائط الأربعة فعند ذلك قال: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولم يقل فأولئك مؤمنون.

3. ثم أوقع أجر المؤمنين في التشريف لانضمام المنافقين إليهم، فقال: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وهذه القرائن دالة على أن حال المنافق شديد عند الله تعالى.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11، ص: 217.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ استثناء ممن نافق، ومن شرط التائب من النفاق أن يصلح في قوله وفعله، ويعتصم بالله أي يجعله ملجأ ومعاذا، ويخلص دينه لله، كما نصت عليه هذه الآية، وإلا فليس بتائب، ولهذا أوقع أجر المؤمنين في التسويف لانضمام المنافقين إليهم.

2. روى البخاري عن الأسود قال: كنا في حلقة عبد الله فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم ثم قال: لقد نزل النفاق على قوم خير منكم، قال الأسود: سبحان الله! إن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾، فتبسم عبد الله وجلس حذيفة في ناحية المسجد، فقام عبد الله فتفرق أصحابه فرماني بالحصى فأتيته، فقال حذيفة: عجبت من ضحكه وقد عرف ما قلت: لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيرا منكم ثم تابوا فتاب الله عليهم.

3. قال الفراء: معنى ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي من المؤمنين، وقال القتبي: حاد عن كلامهم غضبا عليهم فقال: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولم يقل: هم المؤمنون.

4. حذفت الياء من ﴿يُؤْتِ﴾ في الخط كما حذفت في اللفظ، لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله ﴿يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ و﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ و﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ حذفت الواوات لالتقاء الساكنين.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/426.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ استثناء من المنافقين، أي: إلا الذين تابوا عن النفاق ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ ما أفسدوا من أحوالهم ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ أي: جعلوه خالصا له غير مشوب بطاعة غيره، والاعتصام بالله: التمسك به والوثوق بوعده.

2. الإشارة بقوله: ﴿فَأُولَئِكَ﴾ إلى الذين تابوا واتصفوا بالصفات السابقة، ﴿مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قال الفراء: أي من المؤمنين يعني الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا، قال القتبي: (حاد عن كلامهم غضبا عليهم فقال: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولم يقل: هم المؤمنون)، والظاهر أن معنى: مع، معتبر هنا، أي: فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة.

3. ثم بين ما أعدّ الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم فقال: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)﴾ وحذفت الياء من يؤت في الخط كما حذفت في اللفظ: لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ ﴿وسَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ﴾ ﴿ويَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ﴾ ونحوها، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/612.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ﴾ من النفاق، استثناء من المنافقين، أو من هاء (لَهُمْ)، ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم ﴿وَاعْتَصَمُواْ بِاللهِ﴾ تمسَّكوا بدينه طلبًا لمرضاة الله ﴿وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلهِ﴾ لا لرياء ولا سمعة ولا غرض من أغراض الدنيا، قال الحواريُّون لعيسى: (يا روح الله، من المخلص؟) قال: (الذي يعمل لله تعالى، ولا يحِبُّ أن يحمده الناس على عمله)، ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُومِنِينَ﴾ الذين لم يصدر منهم نفاق، في الدرجات العلا والخيرات، وهم منهم أيضًا، عدادا في الدارين ينالهم ما ينال المؤمنين من الخير في الآخرة، ويؤتيهم ما يؤتي المؤمنين، ويجوز على الاستثناء المنقطع أن يكون (الَّذِينَ) مبتدأ وخبره (أُوْلَئِكَ مَعَ الْمُومِنِينَ)، والصحيح ما مَرَّ، والاستثناء مُتَّصِل.

2. ﴿وَسَوْفَ يُوتِ اللهُ الْمُومِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ في الآخرة وهو الجنَّة والخلود، وقيل: الأجر العظيم: ما يزاد لمن لم ينافق البتَّة، وقيل: المراد بالمؤمنين من لم ينافق ومن نافق وتاب.

3. وقياس الخطِّ إثبات الياء في (يُوتِ)؛ لأنَّه غير مجزوم، إِلَّا أنَّه حذفت للساكن، وتبعها الحذف في الخطِّ العثماني، ووجهه التلويح إلى أصل مغمور، وهو أن لا يكتب ما لا يُقرأ، ولكن الأصل الأصيل أن يكتب للدلالة، ويوقف عليه بإسكان التاء على الصحيح؛ لأنَّ القاعدة الوقف على المرسوم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/328.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ أي: عن النفاق‏ ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أي: أعمالهم‏ ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ﴾ أي: وثقوا به بترك موالاة الكفار ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ فلم يبق لهم فيه تردد، ولم يريدوا بطاعتهم إلا وجهه سبحانه، لا رياء الناس كما كانوا قبل.

2. ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيّز الصلة، وما فيه من معنى البعد، للإيذان ببعد المنزلة وعلو الطبقة، أي: لعلو رتبتهم بهذه الأمور لا يكونون في درك من النار فضلا عن الأسفل، بل مع المؤمنين المستمرين على الإيمان بلا نفاق، أي: معهم في درجات الجنان.

3. وقد بيّن ذلك بقوله سبحانه‏ ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ ثوابا وافرا في الجنة، فيشاركونهم فيه ويساهمونهم، وحذفت‏ (الياء) في الخط هنا اتباعا للفظ، لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ [القمر: 6]، و: ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [العلق: 18]، و: ﴿يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ [ق: 41] ونحوها، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين، فجاء الرسم تابعا للّفظ، والقراء يقفون عليه دون ياء، اتباعا للخط الكريم، إلا يعقوب والكسائيّ وحمزة، فإنهم يقفون بالياء، نظرا إلى الأصل، كذا في (الفتح)

4. قال الزمخشريّ: (فإن قلت: من المنافق؟ قلت: هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، وأما تسمية من ارتكب ما يفسق به بـ (المنافق) فللتغليظ، كقوله‏: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏: ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان‏، وقيل لحذيفة: من المنافق؟ فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به، وقيل لابن عمر: ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه، فقال: كنا نعده من النفاق) قول الزمخشريّ (فللتغليظ) يوجد مثله لثّلة من شراح الحديث وغيرهم، وقد بحث فيه بعض محققي مشايخنا بقوله: (هذا الجواب لا يرتضيه من عرف قدر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكأنهم غفلوا عما يستلزمه هذا الجواب مما لا يرتضيه أدنى عالم أن ينسب إليه، وهو الإخبار بخلاف الواقع لأجل الزجر)، وقال بعض المحققين: (عليك أن تقر الأحاديث كما وردت، لتنجو من معرة الخطر)

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/382.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ استثنى الله تعالى من ذلك الجزاء الشديد الذي أعده للمنافقين من تابوا من النفاق والكفر بالندم على ما كان منهم مع تركه والعزم على عدم مفارقته وعززوا هذه التوبة بثلاثة أمور:

أ. أحدها: الإصلاح وهو إنما يكون بالاجتهاد في أعمال الإيمان التي تغسل ما تلوثت به النفس من أعمال النفاق كالتزام الصدق والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والأمانة التامة، والوفاء، وإقامة الصلاة بالخشوع والحضور، ومراقبة الله تعالى وما أشبه ذلك.

ب. ثانيها: الاعتصام بالله، وهو إنما يكون بالتمسك بكتابه، تخلقا بأخلاقه وتأدبا بآدابه، واعتبارا بمواعظه، ورجاء في وعده، وخوفا من وعيده، وانتهاء عن منهياته، وائتمارا بأوامره، بحسب الاستطاعة، قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ﴾ [آل عمران: 103]، وقال في سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: 175] أي اعتصموا بهذا النور الذي أنزل إليهم وهو القرآن المجيد، وهو حبل الله في الآية الأخرى.

ج. ثالثها: إخلاص الدين لله عز وجل بأن يتوجه إليه وحده فلا يدعى من دونه أحد، ولا يدعى معه أحد، لا لكشف ضر ولا لجلب نفع، ولا يتخذ من دونه أولياء يجعلون وسطاء عنده، بل يكون كل ما يتعلق بالدين والعبادة وأعظمها وأهم أركانها الدعاء خالصا له وحده، لا تتوجه فيه النفس إلى غيره ولا يسأل اللسان سواه، ولا يستعان فيما وراء الأسباب العامة بين البشر بمن عداه ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، هذا هو أهم ما يقال في إخلاص الدين لله، قال تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ [الزمر: 2 ـ 3]، فالمنافقون في الدرك الأسفل من الهاوية إلا من استثني.

2. ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي فأولئك التائبون، الذين هم لتلك الأعمال عاملون، يكونون مع المؤمنين لأنهم منهم، يؤمنون إيمانهم ويعملون عملهم، ثم يجزون جزاءهم، وهو ما عظم الله تعالى شأنه بقوله: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي سوف يعطيهم في الآخرة أجرا لا يعرف أحد كنهه، ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17]

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/385.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِالله وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ أي هذا الجزاء الشديد الذي أعده الله للمنافقين لا يكون للذين تابوا من النفاق والكفر وندموا على ما فرط منهم وأتبعوا ذلك بأمور ثلاثة:

أ. اجتهادهم في صالح الأعمال التي تغسل أدران النفاق، بأن يلتزموا الصدق في القول والعمل مع الأمانة والوفاء بالوعد، ويخلصوا النصح لله ورسوله، ويقيموا الصلاة مع الخشوع والخضوع ومراقبة الله في السر والعلن.

ب. اعتصامهم بالله بأن يكون غرضهم من التوبة وصلاح العمل مرضاة الله، مع التمسك بكتابه، والتخلق بآدابه، والاعتبار بمواعظه، والرجاء في وعده، والخوف من وعيده، والائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾

ج. إخلاصهم لله بأن يدعوه وحده ولا يدعو من دونه أحدا لكشف ضر ولا لجلب نفع، بل يكون كل ما يتعلق بالدين والعبادة خالصا له وحده كما قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وكما جاء في قوله: ﴿فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ﴾

2. ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي فأولئك التائبون يكونون مع المؤمنين، لأنهم يؤمنون كإيمانهم ويعملون كعملهم فيجزون جزاءهم.

3. ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ الله الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي وسوف يعطيهم الله الأجر العظيم الذي لا يقدر قدره، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/191.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ)في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يفتح الله تعالى لهم ـ بعد هذا المشهد المفزع ـ باب النجاة.. باب التوبة لمن أراد النجاة: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.. وفي مواضع أخرى كان يكتفي بأن يقول: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا﴾.. فالتوبة والإصلاح يتضمنان الاعتصام بالله، وإخلاص الدين للّه، ولكنه هنا ينص على الاعتصام بالله، وإخلاص الدين للّه، لأنه يواجه نفوسا تذبذبت، ونافقت، وتولت غير الله، فناسب أن ينص عند ذكر التوبة والإصلاح، على التجرد للّه، والاعتصام به وحده؛ وخلاص هذه النفوس من تلك المشاعر المذبذبة، وتلك الأخلاق المخلخلة.. ليكون في الاعتصام بالله وحده قوة وتماسك، وفي الإخلاص لله وحده خلوص وتجرد..

2. بذلك تخف تلك الثقلة التي تهبط بالمنافقين في الحياة الدنيا إلى اللصوق بالأرض، وتهبط بهم في الحياة الآخرة إلى الدرك الأسفل من النار، وبذلك يرتفع التائبون منهم إلى مصاف المؤمنين؛ المعتزين بعزة الله وحده، المستعلين بالإيمان، المنطلقين من ثقلة الأرض بقوة الإيمان.. وجزاء المؤمنين ـ ومن معهم ـ معروف: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾

3. وبهذه اللمسات المنوعة، يكشف حقيقة المنافقين في المجتمع المسلم، ويقلل من شأنهم؛ وينبه المؤمنين إلى مزالق النفاق، ويحذرهم مصيره، ويفتح باب التوبة للمنافقين؛ ليحاول من فيه منهم خير، أن يخلص نفسه، وينضم إلى الصف المسلم في صدق وفي حرارة وفي إخلاص.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/786.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هو استثناء يفتح به باب الأمل والرجاء في النجاة من هذا المصير، لمن بقيت منه في كيان المنافقين بقية من خير، يستطيع‏ بها أن يفتح له طاقة من نور يهتدى بها إلى طريق الله، فيرجع إليه، ويؤمن به، ويخلص دينه له، فلا يرجع إلى ما كان فيه مرة أخرى.. فإنه إن فعل؛ كان في المؤمنين، وكان له ما للمؤمنين من الأجر العظيم الذي وعدهم الله به: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/945.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. استثنى من هذا الوعيد من آمن من المنافقين، وأصلح حاله، واعتصم بالله دون الاعتزاز بالكافرين، وأخلص دينه للّه، فلم يشبه بتردّد ولا تربّص بانتظار من ينتصر من الفريقين: المؤمنين والكافرين، فأخبر أنّ من صارت حاله إلى هذا الخير فهو مع المؤمنين، وفي لفظ (مع) إيماء إلى فضيلة من آمن من أوّل الأمر ولم يصم نفسه بالنفاق لأنّ (مع) تدخل على المتبوع وهو الأفضل.

2. جيء باسم الإشارة في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لزيادة تمييز هؤلاء الذين تابوا، وللتنبيه على أنّهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة.

3. وقد علم الناس ما أعدّ الله للمؤمنين بما تكرّر في القرآن، ولكن زاده هنا تأكيدا بقوله: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، وحرف التنفيس هنا دلّ على أنّ المراد من الأجر أجر الدنيا وهو النصر وحسن العاقبة وأجر الآخرة، إذ الكلّ مستقبل، وأن ليس المراد منه الثواب لأنّه حصل من قبل.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/293.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن الله سبحانه وتعالى ذكر المنافقين بما يدل على أنهم أركسوا في الشر، وطغى على قلوبهم، وأغلق باب الهداية عليهم، حتى أن رجوع المشرك عن شركه أقرب من رجوع المنافق عن نفاقه، فغلاف القلوب قد ينكشف ولكنه سبحانه مقلب القلوب، فقد تكون من المنافق توبة، ولذلك فتح الله سبحانه وتعالى بابها بقوله سبحانه في هذا الاستثناء: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ الاستثناء هنا منقطع؛ لأن الذى يتوب التوبة النصوح لا يمكن أن يعد في صفوف المنافقين الذين يستحقون الدرك الأسفل من النار؛ ولذا نقول إن المعنى هو: لكن الذين تابوا من النفاق وخرجوا من صفوفه يكونون مع المؤمنين، وإن أولئك الذين يخرجون من أوكار النفاق، قد ذكر الله تعالى لهم أوصافا أربعة هي التي تخرجهم من زمرة المنافقين إلى جماعة المؤمنين:

أ. أول هذه الأوصاف: التوبة، وهي التوبة النصوح، وأركانها ثلاثة: أولها: إدراك لقبح العمل ثم الندم على ما كان منه ثم الإقلاع وأن يعزم على ألا يعود إليه من بعد أبدا، فإذا تحققت هذه الأركان فإن الله يفتح قلب العبد لنور الهدى، ويأخذ بيده إلى سلوك طريق الحق المستقيم.

ب. الثاني: أن يكون التطهير القلبي له مظهر عملي ليقوى، وذلك بالإصلاح، بأن يتجهوا في ذات أنفسهم إلى الأعمال الصالحة التي هي مظهر الإذعان والتوبة، فكل ما يكون في النفس من درن النفاق يطهرها منها بالاستمرار على العمل الصالح ويدوم عليه، فليست التوبة، كلاما باللسان، ولكنها طهارة للوجدان، ومع إصلاح النفس وتقوية عزيمتها يتجه إلى الإصلاح في الأرض وعدم الإفساد فيها، فلا يفسد بين الناس، ولا يغرى بالعداوة بينهم، ولا يخذل أهل الحق، وينصر أهل الباطل، فالإصلاح المطلوب يتضمن عناصر ثلاثة، تطهير النفس من أدناس النفاق كلها، فيخرجها منها كما يخرج الذهب الخالص مما اختلط به، والعنصر الثاني العمل الصالح يقوم به لذات نفسه وللناس، والثالث أن يكون بين الناس عنصر إصلاح وتوفيق، لا عنصر إغراء وتوهين للجماعة.

ج. الثالث: الذى يلتحق به بأهل الإيمان الاعتصام بالله، والاعتصام به سبحانه هو التمسك بأوامره ونواهيه والالتجاء إلى كتابه وسنة رسوله، وهذا هو المذكور في قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران‏] والاعتصام بالله يقتضى ألا يجد المؤمن ملجأ إلا في جماعة المؤمنين، فلا يستنصر بغيرهم، ولا يجعل ولاءه لمن دونهم، فذلك شر بلايا النفاق.

د. الرابع: الإخلاص في دين الله، بأن يجعل كل قلبه لله تعالى، ولا يجعل في قلبه مكانا لغير الله تعالى، وأن يجعلوا طلبهم الدين لأجل الله تعالى لا لدنيا يصيبونها، ولا لهدف غير الإيمان يستهدفونه، فيطلبون الحق لوجهه، وينفذون كل‏ أوامر الدين لله، ويتحقق قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله)

2. إذا تحققت هذه الأحوال دخلوا في الجماعة المؤمنة، ولذا قال سبحانه: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي فأولئك الذين اتصفوا بهذه الأوصاف بسببها يخرجون من صفوف المنافقين إلى صفوف المؤمنين، فالإشارة في قوله تعالى:‏ ﴿فَأُولَئِكَ﴾ للسابقين، وهم قد عرفوا بأوصافهم، فكانت الإشارة إليهم موصوفين بها، وكانت هذه الأوصاف هي السبب في ارتفاعهم من دركة النفاق السفلى إلى درجة أهل الإيمان العليا.

3. ذكر الله سبحانه وتعالى هذه المعية للمؤمنين لشرف الصحبة مع الأخيار الأبرار، بعد طلبهم النصرة من الأشرار الكفار، فهذا دليل على الرفعة في الصحبة بعد الانخفاض فيها، كما ارتفعوا عند الله، والإشارة بالبعيد للدلالة على رفعة منزلتهم بالتوبة، وفى كل ذلك تحريض عليها وترغيب فيها فإن الله تعالى يحب توبة عبده، وهو الغفور الرحيم، العزيز الكريم.

4. وإنهم إذا كانوا مع المؤمنين، فإن لهم جزاءهم وقد وعد الله المؤمنين جزاء عظيما، ولذا قال سبحانه:

﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ والأجر هو الجزاء، وهنا إشارتان بيانيتان:

أ. إحداهما ـ أن التعبير بـ (سوف) لم يكن استعماله في القرآن، وهو أحكم الكلام للدلالة على مجرد التسويف الزماني بل هي لتأكيد الوقوع في الأمر المستقبل، وكأن المعنى أنه من المؤكد أنه سينزل المؤمنون بمقام الرضا والجنات في قابل أمرهم كما ظفروا بالرضا والنصر، والتأييد في عاجلهم.

ب. ثانيهما ـ تنكير الأجر إذ قال‏: ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾، فنكر الأجر ووصفه بالعظم، والتنكير هنا للتعظيم، فكأنه قد أكد عظم هذا الأجر مرتين مرة بما تضمنه معنى التنكير، ومرة أخرى بالتصريح بوصف العظم، وإن جزاء الله لعظيم أي عظم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1926.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، بعد أن هدد وتوعد سبحانه المنافقين بأشد العقوبات أرشدهم إلى التوبة، طريق الخلاص والنجاة، فهي وحدها النصير والشفيع اليه تعالى.. وهي في يدهم وطوع ارادتهم، فمن قصر وتوانى فلومه على نفسه.. وهذه حجة أخرى على كل مذنب يضيفها جل وعز إلى حججه البالغة التي لا يبلغها عد ولا حصر..

2. عقدنا فصلا خاصا للتوبة والتائبين بعنوان التوبة والفطرة عند تفسير الآية 18 من هذه السورة، وقد أطال المفسرون الكلام في بيان الفرق بين معطوفات هذه الآية، وهي أصلحوا واعتصموا وأخلصوا.. والذي نراه ان لفظ التوبة يتضمن هذه الأوصاف بكاملها، ولا نجد فرقا جوهريا بينها، وانما نص عليها واكدها للإشارة إلى ما كان عليه المنافقون من التردد والتمرد، وان الله سبحانه لا يقبل توبتهم، ولا يجعلهم في عداد المؤمنين إلا إذا ثبتوا واستمروا على التوبة، وانهم إذا ارتدوا بعد التوبة، وفعلوا كما يفعلون فإنهم يضيفون الارتداد إلى كفرهم وافترائهم وذبذبتهم، ولا جزاء للارتداد الا القتل في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/473.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ استثناء من الوعيد الذي ذكر في المنافقين بقوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ ولازم ذلك خروجهم من جماعة المنافقين، ولحوقهم بصف المؤمنين، ولذلك ذيل الاستثناء بذكر كونهم مع المؤمنين، وذكر ثواب المؤمنين جميعا فقال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾

2. وقد وصف الله هؤلاء الذين استثناهم من المنافقين بأوصاف عديدة ثقيلة، وليست تنبت أصول النفاق وأعراقه إلا بها، فذكر التوبة وهي الرجوع إلى الله تعالى، ولا ينفع الرجوع والتوب وحده حتى يصلحوا كل ما فسد منهم من نفس وعمل، ولا ينفع الإصلاح‏ إلا أن يعتصموا بالله أي يتبعوا كتابه وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ لا سبيل إلى الله إلا ما عينه وما سوى ذلك فهو سبيل الشيطان، ولا ينفع الاعتصام المذكور إلا إذا أخلصوا دينهم ـ وهو الذي فيه الاعتصام ـ لله، فإن الشرك ظلم لا يعفى عنه ولا يغفر، فإذا تابوا إلى الله وأصلحوا كل فاسد منهم واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله كانوا عند ذلك مؤمنين لا يشوب إيمانهم شرك، فآمنوا النفاق واهتدوا قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]

3. يظهر من سياق الآية أن المراد بالمؤمنين هم المؤمنون محضا المخلصون للإيمان، وقد عرفهم الله تعالى بأنهم الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله، وهذه الصفات تتضمن تفاصيل جميع ما عده الله تعالى في كتابه من صفاتهم ونعوتهم كقوله تعالى:‏ ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ (إلى آخر الآيات) [المؤمنون: 3]، وقوله:‏ ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ الآيات [الفرقان: 64]، وقوله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، فهذا هو مراد القرآن بالمؤمنين إذا أطلق اللفظ إطلاقا من غير قرينة تدل على خلافه.

4. وقد قال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولم يقل: فأولئك من المؤمنين لأنهم بتحقق هذه الأوصاف فيهم أول تحققها يلحقون بهم، ولن يكونوا منهم حتى تستمر فيهم الأوصاف على استقرارها، فافهم ذلك.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/119.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ لما توعد الله المنافقين بالعذاب الأليم وبالدرك الأسفل من النار، بيَّن لهم أن باب التوبة في هذه الحياة وفي مدة الاختيار مفتوح لمن تاب وأصلح ما قد أفسد في نفاقه، واعتصم بالله فرفض ولاية الكفار، واستغنى بحفظ الله لأوليائه ونصره لهم وهو الاعتصام به.

2. ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ فرفضوا الرياء ﴿فَأُولَئِكَ﴾ التائبون أهل الصفات الثلاث ﴿مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ في الآخرة كما هم معهم في الدنيا ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ يوم القيامة وقد بينه في غيره هذه الآية.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/199.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لكن الله يفتح للمنحرفين المنافقين باب التوبة والرجوع إليه والتخلص من المصير المحتوم؛ فإذا ﴿تَابُوا وَأَصْلَحُوا﴾، فغيروا حياتهم على النهج الذي يحبه الله ويرضاه، ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ﴾، ولم يلجأوا إلى ركن غيره، واعتبروا الارتباط بالله القاعدة التي تحدد لهم علاقاتهم وسلوكهم ومواقعهم في الحياة، ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾، فلم يحوّلوا الدين إلى سلعة في المزاد.

2. فإن الله سيحشرهم مع المؤمنين الذين يتحركون في طريق الإيمان من موقع الإصلاح في العمل، والاعتصام بالله في جميع الأمور، وإخلاص الدين له في كل المواقف والتطلعات، وسيجدون هناك مع المؤمنين الأجر العظيم الذي يؤتيهم الله إياه برحمته ورضاه.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/522.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أوضحت الآية الثّالثة من الآيات الأخيرة، أنّ المجال مفتوح حتى لأكثر الناس تلوثا للتوبة من أعمالهم وإصلاح شأنهم، والسعي للتعويض بالخير عن ماضيهم المشين، والعودة إلى رحمة الله والتمسك بحبله والإخلاص لله بالإيمان به تقول الآية: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾

2. فالتائبون هؤلاء سيكونون أهلا للنجاة في النهاية ويستحقون صحبة المؤمنين، تقول الآية: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وإنّ الله سيهب ثوابا وأجرا عظيما لكل المؤمنين‏ ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾

3. ممّا يلفت النظر أنّ الآية تبيّن أن هؤلاء التائبين مع المؤمنين، وذلك للتدليل على أن منزلة المؤمنين الثابتين أكبر وأعظم من منزلة هؤلاء، فالمؤمنون الراسخون في إيمانهم هم الأصل، وهؤلاء هم الفروع، وما يظهر عليهم من نور وصفاء إنّما هو بسبب وجودهم في ظل المؤمنين الراسخين.

4. وهناك أمر ثان يجب الانتباه إليه في هذه الآية، وهو أنّها بيّنت مسير المنافقين بصورة واضحة وصريحة، إذ عينت لهم أحط نقطة من الجحيم مكانا ومستقرا، بينما شخصت للمؤمنين الأجر والثواب العظيم الذي لا حدّ له ولا حصر، بل هو منوط بعظمة الله ولطفه جلت عظمته.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/505.

128. الشكر والإيمان والعذاب

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈128⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 147]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

مكحول:

روي عن مكحول الشامي (ت 116 هـ) قال أربع من كن فيه كن له: الشكر، والإيمان، والدعاء، والاستغفار؛ قال الله تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ [النساء: ١٤٧]، وقال: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٣]، وقال: ﴿مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ [الفرقان: ٧٧](1).

__________

(1) أبو نعيم في حلية الأولياء ٥/١٨١.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ﴾ الآية، إن الله لا يعذب شاكرا، ولا مؤمنا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٠.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ﴾ نعمته، ﴿وَآمَنْتُمْ﴾ يعني: صدقتم، فإنه لا يعذب شاكرا ولا مؤمنا، ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ بهم(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٧.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾:

أ. تأويله أن ليس لله عز وجل حاجة في تعذيبه إياكم إن صدقتم وآمنتم، ولكن الحكمة توجب تعذيب من كفر به؛ وإلا ليس له حاجة في تعذيبكم.

ب. ويحتمل أن يكون هذا في قوم أفرطوا في التكذيب ومعاندة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فظنوا أنهم إن آمنوا به وصدقوه ـ لم يغفر لهم ما كان منهم من الإفراط في التكذيب، والتمرد وفي المعاندة؛ فأخبر عز وجل أنه لا يعذبهم إن آمنوا به ـ بما كان منهم من الكذب والعناد؛ كقوله تعالى: ﴿إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾

2. ثم الشكر فيما بين الخلق ـ يكون على الجزاء والمكافأة؛ كقوله: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله)، وأما فيما بينهم بين ربهم: فهو على غير الجزاء والمكافأة؛ إذ ليس في وسعهم القيام بأداء شكر أصغر نعمة أنعمها عليهم عُمْرَهم؛ فدل أنه ليس يخرج الأمر على ما به أمر المكافأة؛ ولكنه يخرج على وجوه:

أ. الأول: على معرفة النعم أنها منه.

ب. الثاني: على معرفة التقصير والاعتراف بالعجز ـ عن أداء شكرها.

ج. الثالث: ألا يستعملها إلا في طاعة ربه.

3. ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾:

أ. يقبل الإيمان بعد الجحود والتكذيب؛ إذا تاب.

ب. وقيل: ﴿شَاكِرًا﴾ أي: يقبل القليل من العمل إذا كان خالصًا، ليس كملوك الأرض لا يقبلون اليسير من الأشياء.

ج. وقيل: ﴿شَاكِرًا﴾: يقبل اليسير من العمل، ويعطي الجزيل من الثواب، وذلك هو الوصف في الغاية من الكرم.

د. وفي حرف ابن مسعود: (ما يعبأ الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا لأعمالكم الحسنة عليمًا بها) وهو ما ذكرنا.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٠٢.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم قال عز وجل منبهاً لعباده على أنه لا يحتاج إلى عذابهم، ولا يريد سبحانه شيئاً من عقابهم: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ أي ليس له حاجة إلى عذابكم، لأنه خلقكم لينفعكم، ولم يرد بذلك عذابكم، إلا من أراد مقاطعته منكم فهو صادق فيما به وعدكم وأوعدكم.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/253.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. خاطب الله تعالى بهذه الآية المنافقين الذين تابوا وآمنوا، وأصلحوا أعمالهم، فقال: إن أنتم تبتم إلى الله وراجعتم الحق الواجب لله عليكم، وشكرتموه على نعمه واخلصتم عبادته، واعتصمتم به وتركتم رياء الناس، وآمنتم برسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصدقتم به، وأقررتم بما جاء به من عند الله ما يصنع بعذابكم، أي لا حاجة بالله إلى عذابكم، وجعلكم في الدرك الأسفل من جهنم، لأنه لا يجتلب بعذابكم نفعاً، ولا يدفع عن نفسه ضرراً، لأنهما مستحيلان عليه.

2. ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا﴾ يعني لم يزل الله مجازيا للشاكر على شكره في جميع‏ عباده عليما بما يستحقونه على طاعاته من الثواب، ولا يضيع عنده شيء منه، ولا يفوته شيء من معاصي من عصاه، فيجازي بذلك من يشاء منهم على سوء أفعالهم جزاءً بما كسبوه، وبه قال قتادة وغيره من المفسرين، والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من تعظيم المنعم، وذلك لا يجوز الشكر منه بمعنى الجزاء عليه كما قال: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ والجزاء ليست سيئة ولكن اطلق ذلك لازدواج الكلام.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/370.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الشكر: الاعتراف بالنعمة من المنعم عليه، وضده الكفر، وهو جحد النعمة، والشكر في صفات الله تعالى مجاز وتوسع أنه يجازيهم على الطاعة بالمثوبة، وقال بعضهم: أصل الشكر مأخوذ من قولهم: ناقة شكور: إذا كثر سمنها بقليل من العلف، والله تعالى يرضى عن عباده مع كثرة نعمه، فقليل من العبادة مع التوحيد، ويصح أن يقال: يحمد نفسه لأنه نقيض الذم، ولا يصح أن يقال: يشكر نفسه؛ لأنه لا يصح الاعتراف بالنعمة من نفسه.

2. لما تقدم الوعيد والغفران بَيَّنَ أنه تعالى لا حاجة له في شيء من ذلك، وإنما يفعله لمصلحة العباد، فقال سبحانه ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ﴾:

أ. قيل: الخطاب للمنافقين، كأنه قيل: لا حاجة له في جعلهم في الدرك الأسفل إذا تبتم وشكرتم؛ لأن الحاجة لا تجوز عليه، لكن حق القول منه بأن يثيب من أطاع، ويعاقب من عصى.

ب. وقيل: خطاب لجميع المكلفين وبيان أنه لا حاجة به، وأنه يعاقب لا لحاجة، لكن بالحكمة، فإن آمنتم لا يعاقبكم.

3. ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا﴾ يشكر عباده على طاعاتهم بأن يثيبهم عليها ﴿عَلِيمًا﴾ بأعمالهم يجازيهم بحسنها.

4. تدل الآية الكريمة على:

أ. أنه لا يعاقب لأمر يخصه وإنما يعاقب للاستحقاق، وبالإيمان يزول الاستحقاق فيزول العقاب إلى المغفرة.

ب. أنه تعالى لا يضيع شيئًا من أعمال عباده؛ لأن قوله: ﴿شَاكِرًا﴾ يريد أنه يجازيه على ذلك.

ج. أنه يصل إلى النجاة بالإيمان والشكر، فيبطل قول المرجئة.

5. ما: استفهام والمراد التقرير، يعني لا يكون العذاب للشاكر المؤمن.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/129.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. خاطب سبحانه بهذه الآية المنافقين الذين تابوا، وآمنوا، وأصلحوا أعمالهم، فقال: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ﴾ أي: ما يصنع الله بعذابكم، والمعنى لا حاجة لله إلى عذابكم، وجعلكم في الدرك الأسفل من جهنم، لأنه لا يجتلب بعذابكم نفعا، ولا يدفع به عن نفسه ضررا، إذ هما يستحيلان عليه.

2. ﴿إِنْ شَكَرْتُمْ﴾ أي: أديتم الحق الواجب لله عليكم، وشكرتموه على نعمه ﴿وَآمَنْتُمْ﴾ به وبرسوله، وأقررتم بما جاء به من عنده.

3. ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾:

أ. يعني: لم يزل سبحانه مجازيا لكم على الشكر، فسمى الجزاء باسم المجزي عليه ﴿عَلِيمًا﴾ بما يستحقونه من الثواب على الطاعات، فلا يضيع عنده شيء منها، عن قتادة، وغيره.

ب. وقيل: معناه إنه يشكر القليل من أعمالكم، ويعلم ما ظهر وما بطن من أفعالكم، وأقوالكم، ويجازيكم عليها.

ج. وقال الحسن: معناه أنه يشكر خلقه على طاعتهم، مع غناه عنهم، فيعلم بأعمالهم.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/199.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ﴾ (ما) حرف استفهام، ومعناه: التّقرير، أي: إنّ الله لا يعذّب الشاكر المؤمن، ومعنى الآية: ما يصنع الله بعذابكم إن شكرتم نعمه، وآمنتم به وبرسوله.

2. والإيمان مقدّم في المعنى وإن أخّر في اللفظ، وروي عن ابن عباس أنّ المراد بالشّكر: التّوحيد.

3. ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾:

أ. أي: للقليل من أعمالكم، عليما بنيّاتكم،

ب. وقيل: شاكرا، أي: قابلا.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/491.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ أيعذبكم لأجل التشفي، أم لطلب النفع، أم لدفع الضرر، كل ذلك محال في حقه لأنه تعالى غني لذاته عن الحاجات، منزّه عن جلب المنافع ودفع المضار، وإنما المقصود منه حمل المكلفين على فعل الحسن والاحتراز عن القبيح، فإذا أتيتم بالحسن وتركتم القبيح فكيف يليق بكرمه أن يعذبكم.

2. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ دلت هذه الآية على قولنا:

أ. وذلك لأنها دالة على أنه سبحانه ما خلق خلقا لأجل التعذيب والعقاب، فإن قوله: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ صريح في أنه لم يخلق أحدا لغرض التعذيب.

ب. وأيضا الآية تدل على أن فاعل الشكر والإيمان هو العبد وليس ذلك فعلا لله تعالى، وإلا لصار التقدير: ما يفعل الله بعذابكم إذا خلق الشكر والإيمان فيكم ومعلوم أن هذا غير منتظم، وقد سبق الجواب عن هذه الكلمات.

قال أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ دلت هذه الآية على أن الله تعالى لا يعذب صاحب الكبيرة لأنا نفرض الكلام فيمن شكر وآمن ثم أقدم على الشرب أو الزنا، فهذا وجب أن لا يعاقب بدليل قوله تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ سؤال وإشكال: لا نسلم أن صاحب الكبيرة مؤمن، والجواب: ذكرنا الوجوه الكثيرة في هذا الكتاب على أنه مؤمن.

3. في تقدم الشكر على الإيمان وجوه:

أ. الأول: أنه على التقديم والتأخير، أي إن آمنتم وشكرتم، لأن الإيمان مقدم على سائر الطاعات.

ب. الثاني: إذا قلنا: الواو لا توجب الترتيب فالسؤال زائل.

ج. الثالث: أن الإنسان إذا نظر في نفسه رأى النعمة العظيمة حاصلة في تخليقها وترتيبها فيشكر شكرا مجملا، ثم‏ إذا تمم النظر في معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكرا مفصلا، فكان ذلك الشكر المجمل مقدما على الإيمان فلهذا قدمه عليه في الذكر.

4. ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ لأنه تعالى لما أمرهم بالشكر سمى جزاء الشكر شكرا على سبيل الاستعارة، فالمراد من الشاكر في حقه تعالى كونه مثيبا على الشكر، والمراد من كونه عليما أنه عالم بجميع الجزئيات، فلا يقع الغلط له ألبتة، فلا جرم يوصل الثواب إلى الشاكر والعقاب إلى المعرض.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11، ص: 217.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ استفهام بمعنى التقرير للمنافقين، التقدير: أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم، فنبه تعالى أنه لا يعذب الشاكر المؤمن، وأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه.

2. قال مكحول: أربع من كن فيه كن له، وثلاث من كن فيه كن عليه، فالأربع اللاتي له: فالشكر والإيمان والدعاء والاستغفار، قال الله تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ وقال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ وقال تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾، وأما الثلاث اللاتي عليه: فالمكر والبغي والنكث، قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾

3. ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ أي يشكر عباده على طاعته، ومعنى (يشكرهم) يثيبهم، فيتقبل العمل القليل ويعطي عليه الثواب الجزيل، وذلك شكر منه على عبادته، والشكر في اللغة الظهور، يقال: دابة شكور إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى، والعرب تقول في المثل: أشكر من بروقة) لأنها يقال: تخضر وتنضر بظل السحاب دون مطر.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/426.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ هذه الجملة متضمنة لبيان: أنه لا غرض له سبحانه في التعذيب إلا مجرّد المجازاة للعصاة، والمعنى: أيّ منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم؟ فإن ذلك لا يزيد في ملكه، كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه.

2. ﴿وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾ أي: يشكر عباده على طاعته، فيثيبهم عليها، ويتقبلها منهم، والشكر في اللغة: الظهور، يقال دابة شكور: إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطى من العلف.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/612.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُم﴾ في الدُّنيا والآخرة، أو في الآخرة ﴿إِن شَكَرْتُمْ﴾ نعمه بأداء الفرائض واجتناب المحرَّمات ﴿وَآمَنتُمْ﴾ به، أيتشفَّى من الغيظ والغيظ لا يلحقه؟ أو يدفع به ضرًّا وهو لا يلحقه، وهو القادر على الإطلاق؟ أو يجلب به نفعا، وهو الغنيُّ على الإطلاق!؟، والخطاب للمنافقين، وقيل: للمؤمنين، وهو ضعيف، والاستفهام بمعنى النفي، و(مَا) مفعول لـ (يَفْعَلُ)، وأجيز أن تكون حرف نفي، والباء زائدة في المفعول، أي: ما يفعلُ الله عذابَكم، والظاهر الأوَّل.

2. والحاصل أنَّ الله لا يستكمل، لكمال ذاته سبحانه عن صفات الخلق، وقدَّم الشكر على الإيمان مع أنَّه لا عبرة بشيء مع عدم الإيمان، لأنَّ الناظر يدرك النِّعمة فيعتقد شكرها، أو يشكر منعمها إجمالا، ثمَّ يمعن النظر في الدلائل فيعرف المنعِم فيؤمن به؛ ولأنَّ الواو لا تُرتِّب، أو هي للحال فتكون قيدًا، أي: صدر منكم الشكر في حال الاتِّصاف بالإيمان أو بعده.

3. ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا﴾ مثيبا بالكثير الدائم على القليل الفاني، شبَّه الإثابة بصرف العبد أعماله لله فسمَّاها باسمه، وهو الشكر، أو ذلك تسمية باسم السبب والملزوم، فـ (شَاكِرًا) بمعنى: مثيبًا على الشكر، أو يجزي بقليل الطاعات كثير الدرجات، أو المثني على المطيع، ﴿عَلِيمًا﴾ بحقِّ شكركم وإيمانكم، كما أنَّه عالم بكم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/328.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ قال أبو السعود: هو استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم، وجودا وعدما، إنما هو كفرهم، لا شيء آخر، فيكون مقررا لما قبله من إثابتهم عند توبتهم.

2. (ما) استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده، أي: أيّ شيء يفعل الله سبحانه بتعذيبكم؟ أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثار؟ أم يستجلب به نفعا؟ أم يستدفع به ضررا؟ كما هو شأن الملوك، وهو الغنيّ المتعالي عن أمثال ذلك، وإنما هو أمر يقتضيه كفركم، فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر، انتفى التعذيب لا محالة.

3. تقديم (الشكر) على (الإيمان) لما أنه طريق موصل إليه، فإن الناظر يدرك أوّلا ما عليه من النعم الأنفسية والآفاقية فيشكر شكرا مبهما، ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه‏.

4. ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ الشكر منه تعالى المجازاة والثناء الجميل، كما في (القاموس)، يقول ابن القيم في (الكافية الشافية):

çوهو الشكور فلن يضيّع سعيهم‏...لكن يضاعفه بلا حسبان‏

ما للعباد عليه حق واجب‏...هو أوجب الأجر العظيم الشان‏

كلا ولا عمل لديه ضائع‏...إن كان بالإخلاص والإحسان‏

إن عذّبوا فبعدله، أو نعّموا...فبفضله، والحمد للرحمن‏é

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/383.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ استفهام إنكاري بين الله لنا به أنه سبحانه لا يعذب أحدا من عباده تشفيا منه ولا انتقاما بالمعنى الذي يفهمه الناس من الانتقام بحسب استعمالهم إياه فيما بينهم، وإنما ذلك جزاء كفرهم بنعم الله عليهم بالحواس والعقل والوجدان والجوارح باستعمالها في غير ما خلقت لأجله من الاهتداء بها إلى تكميل نفوسهم بالعلوم والفضائل والأعمال النافعة وكفرهم بالله تعالى باتخاذ شركاء له: وإن سماهم بعضهم وسطاء وشفعاء، فبكفرهم بالله تعالى وبنعمه عليهم في الآفاق وفي أنفسهم تفسد فطرتهم، وتتدنس أرواحهم، فتهبط بهم في دركات الهاوية ويكونون هم الجانين على أنفسهم، ولو شكروا وآمنوا فطهرت أرواحهم من دنس الشرك والوثنية، وظهرت آثار عقولهم وسائر قواهم بالأعمال الصالحة المصلحة لمعاشهم ومعادهم، لعرجت بهم تلك الأرواح القدسية إلى المقام الكريم، والرضوان الكبير في دار النعيم، وقدم الشكر هنا على الإيمان لأن معرفة النعم والشكر عليها طريق إلى معرفة المنعم والإيمان به.

2. ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ يثيب الشاكرين الصالحين المصلحين على حسب علمه بحالهم، لا أنه يعذبهم، بل يعطيهم أكثر مما يستحقون على شكرهم وإيمانهم، قال عز وجل: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7] سمى ثباتهم على الشكر شكرا، وهم إنما يحسنون بشكره إلى أنفسهم، وهو غني عنهم وعن شكرهم وإيمانهم، ولكن قضت حكمته، ومضت سنته، بأن يكون للإيمان الصحيح والأعمال الصالحة أثر صالح في النفس، يترتب عليه الجزاء الحسن والعكس بالعكس، فنسأله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين الشاكرين، وأن يشكر لنا ذلك في الدارين، والحمد لله رب العالمين.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/386.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله تعالى أن تعذيبهم إنما كان لكفرهم بأنعم الله عليهم فقال: ﴿مَا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ الاستفهام للإنكار، أي إنه تعالى لا يعذب أحدا من خلقه انتقاما منه، ولا طلبا لنفع ولا دفعا لضر، لأنه تعالى غنى عن كل أحد، منزه عن جلب منفعة له، وعن دفع مضرة عنه، بل ذلك جزاء كفرهم بأنعم الله عليهم، فهو قد أنعم عليهم بالعقل والحواس والجوارح والوجدان، لكنهم استعملوها في غير ما خلقت لأجله من الاهتداء بها لتكميل نفوسهم بالفضائل والعلوم والمعارف، كما كفروا بخالق هذه القوى فاتخذوا له شركاء، ولا ينفعهم تسميتهم شفعاء أو وسطاء، حتى فسدت فطرتهم، ودنست أرواحهم، ولو آمنوا وشكروا لطهرت أرواحهم، وظهرت آثار ذلك في عقولهم وسائر أعمالهم التي تصلحهم في معاشهم ومعادهم، واستحقوا بذلك رضوان الله‏ ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ﴾

2. ﴿وَكَانَ الله شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ أي يجعل ثواب المؤمنين الشاكرين بحسب علمه بأحوالهم، ونيلهم من الدرجات أكثر مما يستحقون، جزاء على شكرهم وإيمانهم كما قال: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ فهو يجزى بيسير الطاعات، رفيع الدرجات، ويعطى بالعمل في أيام معدودة، نعما في الآخرة غير محدودة، وفقنا الله لصالح العمل، وجعلنا من المؤمنين الشاكرين.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/192.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ)في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أخيرا تجيء تلك اللمسة العجيبة، الموحية المؤثرة العميقة.. أخيرا بعد ذكر العقاب المفزع، والأجر العظيم.. لتشعر قلوب البشر أن الله في غنى عن عذاب العباد، فما به سبحانه من نقمة ذاتية عليهم يصب عليهم من أجلها العذاب، وما به سبحانه من حاجة لإظهار سلطانه وقوته عن هذا الطريق، وما به سبحانه من رغبة ذاتية في عذاب الناس، كما تحفل أساطير الوثنية كلها بمثل هذه التصورات.. وإنما هو صلاح العباد بالإيمان والشكر للّه.. مع تحبيبهم في الإيمان والشكر للّه، وهو الذي يشكر صالح العمل ويعلم خبايا النفوس: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾..

2. نعم! ما يفعل الله بعذابكم ـ إن شكرتم وآمنتم؟ إن عذابه لجزاء على الجحود والكفران؛ وتهديد لعله يقود إلى الشكر والإيمان.. إنها ليست شهوة التعذيب، ولا رغبة التنكيل؛ ولا التذاذ الآلام، ولا إظهار البطش والسلطان.. تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا.. فمتى اتقيتم بالشكر والإيمان؛ فهنالك الغفران والرضوان، وهناك شكر الله سبحانه لعبده، وعلمه سبحانه بعبده..

3. وشكر الله سبحانه للعبد، يلمس القلب لمسة رفيقة عميقة.. إنه معلوم أن الشكر من الله سبحانه معناه الرضى، ومعناه ما يلازم الرضى من الثواب.. ولكن التعبير بأن الله سبحانه شاكر.. تعبير عميق الإيحاء! وإذا كان الخالق المنشئ، المنعم المتفضل، الغني عن العالمين.. يشكر لعباده صلاحهم وإيمانهم وشكرهم وامتنانهم.. وهو غني عنهم وعن إيمانهم وعن شكرهم وامتنانهم.. إذا كان الخالق المنشئ، المنعم المتفضل، الغني عن العالمين يشكر.. فماذا ينبغي للعباد المخلوقين المحدثين؛ المغمورين بنعمة الله.. تجاه الخالق الرازق المنعم المتفضل الكريم!؟ ألا إنها اللمسة الرفيقة العميقة التي ينتفض لها القلب ويخجل ويستجيب، ألا إنها الإشارة المنيرة إلى معالم الطريق.. الطريق إلى الله الواهب المنعم، الشاكر العليم..

4. وبعد.. فهذا جزء واحد، من ثلاثين جزءا، من هذا القرآن.. يضم جناحيه على مثل هذا الحشد العجيب من عمليات البناء والترميم؛ والتنظيف والتقوىم، وينشئ في عالم النفس، وفي واقع المجتمع، وفي نظام الحياة، ذلك البناء الضخم المنسق العريض، ويعلن مولد الإنسان الجديد؛ الذي لا تعرف له البشرية من قبل ولا من بعد مثيلا ولا شبيها، في مثاليته وواقعيته، وفي نظافته وتطهره، مع مزاولة نشاطه الإنساني في شتى الميادين.. هذا الإنسان الذي التقطه المنهج الرباني من سفح الجاهلية، ودرج به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة، في يسر، وفي رفق وفي لين.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/787.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ إشارة إلى ما للناس عند الله من واسع الرحمة وعظيم المغفرة، وأنه سبحانه وتعالى ليس إلها متسلطا جبارا يتشفى بعذاب عباده.. وكيف هذا وهم صنعة يده، وزرع مشيئته، وغذى فضله وإحسانه؟ إنه سبحانه يدعو عباده إليه، وييسر لهم سبل الاتصال به، والقرب منه، ولكن من غلبت عليه شقوته منهم ـ يأبى إلا أن يشرد عن الله، ثم يتمادى في هذا الشرود، فيحارب الله، ويحارب أولياءه، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل! فإذا أخذ هؤلاء الشاردون عن الله، المحاربون له، بذنوبهم، وسيقوا إلى عذاب جهنم ـ فهل ذلك إلا لأنهم أساءوا فوقعوا تحت حكم المسيئين؟. ولو أنهم أحسنوا لكان لهم جزاء المحسنين.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: 31]

2. في تقديم الشكر على الإيمان هنا.. ﴿إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ إشعار بأن الإيمان لا يقوم إلا على مشاعر الولاء للّه، ذلك الولاء الذي يتخلّق من النظر في ملكوت السموات والأرض، ومن التدبر في آيات الله المبثوثة في كل ذرة من ذرات الوجود.. وهنا يجد العبد نفسه وقد صار لسانا شاكرا لله مسبحا بحمده، فالشكر هو المدخل الذي يجد فيه الإنسان طريقه إلى الله، والتعرف إليه.. ومن هنا كانت دعوة الإسلام إلى الله قائمة أولا على النظر إلى هذا الوجود، وإلى ما فيه من موجودات، ينتظمها نظام، وتمسك بها قدرة، ويدبرها علم.. ثم نسبة هذا الوجود وما اشتمل عليه، إلى الصانع الذي صنعه، فأبدع صنعته، وأحكم وجوده.. وبهذا تتفتح الطرق إلى الله، حيث يسلكها الإنسان، متجها إلى الله في خشوع وولاء، وفي لهج بالحمد والثناء.. ومن هنا قام الشكر مقام الإيمان واعتبر في ذاته إيمانا كاملا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: 7] أي وإن تؤمنوا يرضه ـ أي يرضى الإيمان ـ لكم، ويتقبله منكم.

3. ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾، وشكر الله، هو رضاه عن الأعمال الصالحة التي يقدمها عباده له، فيقبلها منهم، ويحسن لهم المثوبة، ويضاعف لهم الجزاء عليها.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/946.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ تذييل لكلتا الجملتين: جملة ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ مع الجملة المتضمنة لاستثناء من يتوب منهم ويؤمن، وما تضمّنته من التنويه بشأن المؤمنين من قوله: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 146]

2. والخطاب يجوز أن يراد به جميع الأمّة، ويجوز أن يوجّه إلى المنافقين على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ارتفاقا بهم.

3. والاستفهام في قوله: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ﴾ أريد به الجواب بالنفي فهو إنكاري، أي لا يفعل بعذابكم شيئا.

4. ومعنى‏ ﴿يفْعَل﴾ يصنع وينتفع، بدليل تعديته بالباء، والمعنى أنّ الوعيد الذي توعّد به المنافقون إنّما هو على الكفر والنفاق، فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله غفر لهم العذاب، فلا يحسبوا أنّ الله يعذّبهم لكراهة في ذاتهم أو تشفّ منهم، ولكنّه جزاء السوء، لأنّ الحكيم يضع الأشياء مواضعها، فيجازي على الإحسان بالإحسان، وعلى الإساءة بالإساءة، فإذا أقلع المسيء عن الإساءة أبطل الله جزاءه بالسوء، إذ لا ينتفع بعذاب ولا بثواب، ولكنّها المسبّبات تجري على الأسباب، وإذا كان المؤمنون قد ثبتوا على إيمانهم وشكرهم،، وتجنّبوا موالاة المنافقين والكافرين، فالله لا يعذّبهم، إذ لا موجب لعذابهم.

5. جملة ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ اعتراض في آخر الكلام، وهو إعلام بأنّ الله لا يعطّل الجزاء الحسن عن الذين يؤمنون به ويشكرون نعمه الجمّة، والإيمان بالله وصفاته أوّل درجات شكر العبد ربّه.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/294.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر الله تعالى، أنه سبحانه يحب توبة عبده وجزاءه، ولا يرضى لعباده الكفر وعقابه، ولذا قال سبحانه: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ الاستفهام هنا للنفي والمعنى ما الذى يفعله الله تعالى راضيا به محبا له بعذابكم وآلامكم إن شكرتم نعمته، وأديتم حقها حق الأداء فآمنتم به، ومن الإيمان به تصديق رسله وإجابتهم وإطاعتهم!؟ أي أنه سبحانه لا يفعل بكم شيئا من العذاب ولا الإيلام في الآخرة إن كان منكم الشكر والإيمان، بل إنه سبحانه وتعالى مجازيكم شاكرا لكم توبتكم بعد الكفر، وطاعتكم بعد العصيان.

2. ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ أي أنه من صفات الله تعالى، وشأنه الدائم أنه مثيب الطائع، عليم بموضع طاعته، وما تخفى الصدور، فالآية ذيلت بما يدل على الثواب والنعيم لأهل الإيمان ومن ينضم إليهم من التائبين.

3. فى الآية الكريمة ثلاث إشارات بيانية:

أ. الأولى: التعبير بالاستفهام للإشارة إلى أن الله تعالى رتب الجزاء على العمل، وأنه يجب على عباده أن يعرفوا ذلك ويدركوه، وأنه ليس من المعقول مع حكمته تعالى، وكريم وعده ألا يعطى عاملا عملا طيبا جزاء عمله.

ب. الثانية: تقديم الشكر على الإيمان في قوله تعالى: ﴿إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾، ذلك أن الرجل الذى يتجه إلى الخير تكون نفسه مدركة للنعم التي أنعم الله بها على عباده، شاكرا لأنعمه، قادرا لها حق قدرها، فيكون ذلك سبيلا لطلب الحقيقة فيكون الإيمان فالشكر يؤدى إلى الإيمان والإيمان يؤدى إلى أعظم الشكر.

ج. الثالثة: أن الله تعالت عظمته سمى ثواب الطائعين شكرا منه، وذلك إجلال للطاعة، وتشريف للمطيع، ومنة وفضل منه سبحانه فوق منته وفضله، وأن هذا تعليم لنا لنشكر للمحسن فضل الله، اللهم اهدنا إلى أن نشكر لك في ضرائنا وسرائنا، إنك نعم المولى ونعم النصير.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1929.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ﴾، أبدا.. انه غني عن كل شيء في ذاته وصفاته، وإلا لم يكن خالقا، وانما يحاسب ويعاقب جزاء وفاقا.. ولا غنى لمخلوق عنه في وجوده وبقائه، وجميع حركاته وسكناته، وإلا لم يكن مخلوقا.

2. والآن تعال معي ـ أيها القارئ ـ لنستمع بخشوع وإجلال إلى هذه النفحات من الإمام زين العابدين: (اللهم اني امرؤ حقير، وخطري يسير، وليس عذابي مما يزيد في ملكك مثقال ذرة، ولو ان عذابي مما يزيد في ملكك لسألتك الصبر عليه، وأحببت أن يكون ذلك لك، ولكن سلطانك أعظم، وملكك أدوم من أن تزيده طاعة المطيعين، أو تنقصه معصية المذنبين)، ليست هذه المناجاة رموزا تومئ إلى الوجد والشوق لجمال القدس وجلاله، كما يفعل الصوفية، ولا مجرد صلاة وخوف من عذاب الله، وان دل عليه ظاهر الكلام، وانما هي توجيه لكل قوي يريد البطش بالضعفاء الذين لا حول لهم معه ولا طول.. وان الأولى والأليق بقدرته مع ضعفهم هو العفو والصفح، وليس التعذيب والتنكيل.. ان القوة لا تكون فضيلة وكمالا الا مع الإعطاء والتفضل، ان الحاجة أو الشراسة هي الدافع والباعث على التنكيل بمن لا يجد مهربا من القوي الا اليه.. والقوي الكامل غني عن المستضعفين، منزه عما يشين، وبعد، فان العفو خير، ونحن بحاجة اليه، والله قادر عليه، ولا أحد أولى به منه، فعفوه ـ اذن ـ كائن لا محالة.. نقول هذا، ونحن من أخشى عباد الله للّه.

3. ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾، يعلم من أطاع وشكر، ويوفيه أجور المطيعين الشاكرين.. آمنا بالله وحده، مبتهلين اليه سبحانه ان يوفقنا لشكره وطاعته.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/473.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي (1):

1. ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ ظاهره أنه خطاب للمؤمنين، لأن الكلام جار على خطابهم وإنما يخاطبون بهذا الخطاب مع الغض عن إيمانهم وفرضهم كالعاري عنه على ما هو شأن مثل هذا الخطاب، وهو كناية عن عدم حاجته تعالى إلى عذابهم، وأنهم لو لم يستوجبوا العذاب بتركهم الشكر والإيمان لم يكن من قبله تعالى ما يوجب عذابهم، لأنه لا ينتفع بعذابهم حتى يؤثره، ولا يستضر بوجودهم حتى يدفعه عن نفسه بعذابهم، فالمعنى: لا موجب لعذابكم إن شكرتم‏ نعمة الله بأداء واجب حقه وآمنتم به وكان الله شاكرا لمن شكره وآمن به، عليما لا يجهل مورده.

2. وفي الآية دلالة على أن العذاب الشامل لأهله إنما هو من قبلهم لا من قبله، وكذا كل ما يستوجب العذاب من ضلال أو شرك أو معصية، ولو كان شيء من ذلك من قبله تعالى لكان العذاب الذي يستتبعه أيضا من قبله لأن المسبب يستند إلى من استند إليه السبب.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/120.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ وهذا تأكيد للوعد بقبول التوبة، وبيان أن التوبة لا تتم بدون الإيمان والشكر، وتنبيه على كرم الله وسعة رحمته حيث يشكر عبده الشاكر لنعمته، ودلالة على علمه بتوبة من تاب وإيمان من آمن وشكر من شكر وبكل شيء.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/199.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم يطرح أمامهم الحقيقة التي توحي بأن قضية عذاب الله للمنافقين ليست حاجة منه تعالى إلى ذلك، فإنه ليس بحاجة إلى شيء من موقع غناه المطلق عن كل خلقه؛ ولكنها الحكمة التي تنظّم للخلق أمور معاشهم ومعادهم للحفاظ على توازنهم وتوازن الحياة من خلالهم؛ فإذا آمنوا بالله من أعماقهم، وشكروه بمشاعرهم وأعمالهم، وانسجموا مع إرادته في ذلك كله، فليس هو بمعذبهم، إذ لا موجب لذلك.

2. ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا﴾ لمن يشكره ويؤمن به، ﴿عَلِيمًا﴾ بما يصلح الخلق وما يفسدهم في جميع مراحل حياتهم من الناحية الفكرية والعملية.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/523.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد أظهرت وبيّنت الآيات السابقة صورا من عقاب الكافرين والمنافقين، والآية الأخيرة تشير إلى حقيقة ثابتة وهي أنّ العقاب الإلهي الموجه للبشر العاصين ليس بدافع الانتقام ولا هو بدافع التظاهر بالقوّة، كما أنّه ليس تعويضا عن الخسائر الناجمة عن تلك المعاصي، فهذه الأمور إنّما تحصل ممن في طبيعته النقص والحاجة، والله سبحانه وتعالى منزّه من كل نقص ولا يحتاج أبدا إلى شيء إذن فالعقاب الذي يلحق الإنسان لما يرتكبه من معاص، إنما هو انعكاس للنتائج السيئة التي ترتبت على تلك المعاصي ـ سواء كانت فعلية أو فكرية ـ ولذلك يقول الله تعالى عزّ من قائل في هذه الآية: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾

2. وبالنظر إلى أنّ حقيقة الشكر هي أن يستغل الإنسان النعم التي وهبها الله له‏ في الجهات المخصصة لها في الطبيعة والخلق، يتّضح لنا أنّ القصد من الآية إنّما هو: إنّ من يؤمن ويعمل الخير ويستغل الهبات الإلهية في المجالات التي خصصت لها من حيث الخلق ـ دون إساءة هذا الاستغلال ـ فلا شك أنّ هذا الإنسان المؤمن لا يصيبه أي عقاب من الله، ولتأكيد هذا الأمر تضيف الآية مبيّنة أنّ الله عالم بأعمال ونوايا عباده، وهو يشكر ويثيب كل من يفعل الخير من العباد لوجه الله، فتقول الآية: ﴿وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾

3. وقد قدمت هذه الآية مسألة الشكر على الإيمان لأجل بيان هذه الحقيقة، وهي أنّ الإنسان ما لم يدرك نعم الله وهباته العظيمة ويشكره على هذه النعم فلن يستطيع التوصل إلى معرفة الله والايمان به، لأن أنعمه سبحانه وتعالى إنّما هي وسائل لمعرفته.

4. وقد ورد في كتب العقيدة الإسلامية في بحث (وجوب معرفة الله) عن جمع من الباحثين أنّهم استدلوا على معرفة الله بوجوب شكر النعم وجعلوا من الوجوب الفطري لشكر المنعم دليلا على لزوم معرفته.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/507.

129. الجهر بالسوء والمظلوم

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈129⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 148]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما؛ فإنه رخص له أن يدعو على من ظلمه، وأن يصبر فهو خير له(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٢٥.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه، مثل قوله: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ﴾ [الشورى: ٤١](1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠١.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: في الآية، قال نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاة من الأرض، فلم يضفه؛ فنزلت: ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، ذكر أنه لم يضفه، لا يزيد على ذلك(1).

2. روي أنّه قال: هو الرجل ينزل بالرجل، فلا يحسن ضيافته، فيخرج من عنده، فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن(2).

3. روي أنّه قال: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، قال هو الرجل المحول رحله، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول(3).

4. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، قال إلا من ظلم فانتصر، يجهر بالسوء(4).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٧٦.

(2) ابن جرير ٧/٦٢٧.

(3) ابن جرير ٧/٦٢٦.

(4) ابن جرير ٧/٦٢٨.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: هو الرجل يظلم الرجل، فلا يدع عليه، ولكن ليقل: اللهم، أعني عليه، اللهم، استخرج لي حقي، حل بينه وبين ما يريد، ونحو هذا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، قال فقد رخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٢٦.

(2) ابن أبي حاتم ٤/١١٠١.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: قال عذر الله المظلوم ـ كما تسمعون ـ أن يدعو(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٢٦.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال في الآية: يقول: إن الله لا يحب الجهر بالسوء من القول من أحد من الخلق، ولكن يقول: من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم فليس عليه جناح(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٣٠.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ من أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهو ممن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه(1).

2. روي أنّه قال: الجهر بالسوء من القول أن يذكر الرجل بما فيه(2).

3. روي أنّه قال: الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فلا جناح عليه أن يذكر سوء ما فعله(3).

__________

(1) تفسير القمّي 1/157.

(2) تفسير العيّاشي 1/283.

(3) مجمع البيان 3/202.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: نزلت في أبي بكر، شتمه رجل والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جالس، فسكت عنه مرارا، ثم رد عليه أبو بكر، فقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عند ذلك، فقال أبو بكر: يا رسول الله، شتمني وأنا ساكت فلم تقل له شيئا، حتى إذا رددت عليه قمت! قال: إن ملكا كان يجيب عنك، فلما أن رددت عليه ذهب الملك، وجاء الشيطان، فلم أكن لأجلس عند مجيء الشيطان(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ لأحد من الناس، ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ يعني: اعتدي عليه، فينتصر من القول مثل ما ظلم، ولا حرج عليه أن ينتصر بمثل مقالته، ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا﴾ بجهر السوء، ﴿عَلِيمًا﴾ به(2).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٨.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٧.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في قوله: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، فقرأ: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ حتى بلغ: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، ثم قال ـ بعد ما قال هم في الدرك الأسفل من النار ـ: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾، ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ قال: لا يحب الله أن يقول لهذا: ألست نافقت؟ ألست المنافق الذي ظلمت وفعلت وفعلت؟ من بعد ما تاب، ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ إلا من أقام على النفاق.. وقال: وكان أبي يقول ذلك له، ويقرؤها: ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾(1).

2. روي أنّه قال: من أقام على ذلك النفاق فيجهر له بالسوء حتى ينزع، قال وهذه مثل: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ﴾ أن تسميه بالفسق ﴿بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ بعد إذ كان مؤمنا، ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ﴾ من ذلك العمل الذي قيل له ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: ١١]، قال هو أشر ممن قال ذلك له(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٣١.

(2) ابن جرير ٧/٦٣٠.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: قد سألني رجل عن قول الله سبحانه: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، فقال: هل يجوز لمن ظلم أن يجهر بالسوء، وأن يفعله؛ فقد فسر المفسرون: أن ذلك جائز؟ والجواب: كان جوابي له: أنه ليس الأمر في الآية، ولا التفسير لها إلى حيث ذهبت، ولا إلى ما ذهب إليه المفسر لها على ما شرحت؛ بل ذلك منه خطأ، وعند الله سبحانه غير صواب، وإنما معنى: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ هو: أن الله سبحانه لا يجب الجهر بالسوء من القول، ولا يجيزه لفاعله؛ بل يعاقبه عليه، ويأخذه فيه، إلا من ظلم.. ومعنى ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ هو: مثل ما كان من مردة قريش وفعلهم بأصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، حين كانوا يعذبونهم ويضربونهم ويأمرونهم بشتم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما فعل بعمار وصاحبه، حين أخذا وأمرا بشتم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والبراءة منه ومن دينه؛ ففعل عمار، وكره الآخر، فخلوا عمارا، وقتلوا صاحبه، فكان هذا جهرا بالسوء من القول، ثم عذر الله فاعله، فقال: ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ بالتعدي عليه بالضرب والهوان، والعرض على القتل؛ فقد أطلق له عند ذلك أن يتكلم بلسانه، ما ليس في قلبه ولا اعتقاده؛ وفيهما يقول الله سبحانه: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: 106]؛ فأخبر الله عز وجل أنه من كفر به معتقدا لذلك، فعليه غضب من الله، ومن تكلم بظاهر من الأمر؛ خوفا على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، غير كافر بالرحمن، فهو غير مشرك ولا عاص؛ فكانت هذه الآية مبينة لما في ضمير عمار، من الشح على الإيمان، والصدق في المقال؛ فلم يجز الله عز وجل لأحد أن يتكلم بقبيح، إلا أن يظلم فيتكلم بلسانه ما يدفع عن نفسه، مما ليس من اعتقاده، ولا من مذهبه.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/275.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عز وجل: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، اختلف في تأويله وتلاوته:

أ. قَالَ بَعْضُهُمْ: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ﴾ من الدعاء إلا من ظلم؛ فإنه لا بأس أن يدعو إذا كان مظلومًا.

ب. وقال آخرون: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ﴾ هو الشتم؛ أخبر أنه لا يحب ذلك لأحد من الناس، ثم استثنى ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ واعْتُدِيَ عليه؛ فإن رد عليه مثل ذلك، فلا حرج عليه، وكذلك قال ابن عَبَّاسٍ قال: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ أن يشتم الرجل المسلم في وجهه، إلا أن يشتمه فيرد كما قال وذلك قول الله عز وجل: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾، وإن يعفو فهو أفضل.

2. قرأ بعضهم: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ)﴾ بالنصب، فهو يحتمل: إلا من ظلم؛ فإن له الجهر بالسوء من القول، وإن لم يكن له ذلك؛ وهو كقوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾؛ فإنهم ـ وإن لم يكن لهم حجة عليكم ـ فإنهم يحتجون عليكم؛ فعلى ذلك الظالم، وإن لم يكن له الجهر بالسوء من القول فإنه يفعل ذلك، ومن قرأ: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾: بالرفع ـ فتأويله ما ذكرنا: أنه لا يبيح لأحد الجهر بالسوء من القول إلا المظلوم؛ فإنه يباح له أن يدعو على ظالمه، وينتصر منه، الثاني: ما قيل: من سبَّ آخر، فإنه لايباح له ولا يؤذن أن يرد عليه مثله وينتصر منه.

3. وقيل: نزلت الآية في أبي بكر شتمه رجل بمكة، فسكت عنه ما شاء الله، ثم انتصر؛ فقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتركه، وعن الحسن قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا؛ فَهُوَ عَلى البَادِئ حَتَّى يَعْتديَ المَظْلومُ)، وقال: (ألا لا تَسْتَبُّوا، فَإِنْ كُنْتُم فَاعِلينَ لَا مَحَالَةَ، فَعَلِمَ الرَّجُلُ مِنْ صَاحِبِهِ ـ فَلْيَقُلْ: إِنَكَ لَجَبَّارْ، وَإِنَكَ لَبَخِيلٌ)

4. أصل هذا الاستثناء أن الأول ـ وإن لم يكن من نوع ما استثنى ـ فهو جزاؤه، وجزاء الشيء يسمى باسمه؛ كما سمى الله عز وجل جزاء السيئة: سيئة؛ بقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، وسمي جزاء الاعتداء: اعتداء، وإن لم يكن الثاني اعتداء ولا سيئة؛ فعلى ذلك استثنى ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾، وإن لم يكن من نوعه؛ لأنه جزاء الظلم والاعتداء.

5. وقيل: إن الآية نزلت في الضيف ينزل بالرجل فلا يضيفه، ولا يحسن إليه؛ فجعل له أن يأخذه بلسانه، وإلى هذا يذهب أكثر المتأولين، لكنه بعيد.

6. في قوله: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ دليل على أنه ليس في إباحة الشيء في حال ـ يوجب حظره في حال أخرى؛ لأنه نهي عن الجهر بالسوء من القول، ثم لم يدل ذلك على أنه لا ينهى عن ذلك في غير حال الجهر.

7. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾، بجهر السوء، ﴿عَلِيمَا به.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٠٣.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ أي إلا لمن يكون مظلوماً فيدعو على من ظلمه ويحتمل أن يكون إلا من ظلم فانتصر من ظالمه.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/198.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ أربعة تأويلات:

أ. أحدها: يعني إلا أن يكون مظلوماً فيدعو على من ظلمه، وهذا قول ابن عباس.

ب. الثاني: إلا أن يكون مظلوماً فيجهر بظلم من ظلمه، وهذا قول مجاهد.

ج. الثالث: إلا من ظلم فانتصر من ظالمه، وهذا قول الحسن، والسدي.

د. الرابع: إلا أن يكون ضيفاً، فينزل على رجل فلا يحسن ضيافته، فلا بأس أن يجهر بذمه، وهذه رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٤٠.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الفراء ضم الظاء في قوله: (إلا من ظلم) وكسر اللام، وقرأ زيد بن أسلم والضحاك بن مزاحم (ظلم) بفتح الظاء واللام، فمن ضمن الظاء، اختلفوا في تأويله فقال قوم: معنى ذلك لا يحب الله ان يجهر أحد بالدعاء على أحد، وهو الجهر بالسوء إلا من ظلم فيدعو على ظالمه، لا يكره ذلك، وذلك انه رخص له فيه، ذهب إليه ابن عباس وقتادة والحسن.

2. (من) على قول ابن عباس في موضع رفع، لأنه وجهه إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء، واستثنى المظلوم منه وقال الزجاج: وجه الرفع أن يكون بدلا من أحد وتقديره لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا من ظلم وقال الفراء تقديره لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا المظلوم، فلا حرج عليه في الجهر اما بان يدعو عليه، أو بان يخبر بما فعله به، ويذمه عليه، وبه قال الجبائي قال ولا يجوز لمن ليس بمظلوم أن يذكر احداً بسوء لأن الله تعالى أمره بالستر عليه والكتمان، وإنما يجب عليه أن ينكر عليه فيما بينه وبينه على وجه لا يفضحه، وإنما جاز ذلك للمظلوم، لأنه خصم يجوز له ان يدعي على خصمه ما ظلمه فيه، فإن أقام بذلك بينة استوفى له حقه، وإلا أبطل دعواه، وقال بعض النحويين: هذا خطأ في العربية، لأن من لا يجوز أن يكون رفعاً بالجحد لأنها في صلة، أن، ولم ينله الجحد، فلا يجوز العطف عليه، لا يجوز أن يقول: لا يعجبني أن يقوم إلا زيد، ويحتمل أن يكون (من) نصباً في تأويل ابن عباس.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾:

أ. قيل: يكون كلاماً، ثم قال: (إلا من ظلم فلا حرج عليه) فيكون (من) استثناء من الفعل، وان لم يكن قبل الاستثناء شيء ظاهر يستثنى منه، كما قال: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾، وكقولهم: إني لأكره الخصومة والمراء، اللهم إلا رجلا يريد الله بذلك، ولم يذكر فيه شيء من الأشياء ذكره الفراء،

ب. وقال آخرون: معناه لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم فيخبر بما ينل منه، ذهب إليه مجاهد قال مجاهد: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن إليه فقد رخص له أن يقول ذلك فيه وروي عن أبي عبد الله انه قال هو الضيف ينزل بالرجل، فلا يحسن ضيافته‏، جاز أن يقول ذلك فيه.

ج. وقال آخرون: إلا من ظلم فانتصر من ظلمه، فإن ذلك قد أذن له فيه، ذهب إليه السدي‏ وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام و(من) على هذا يكون في موضع نصب على انقطاعه من الاول، ومن شان العرب ان تنصب ما بعد إلا في الاستثناء المنقطع، فالمعنى على هذا القول سوى قول ابن عباس: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، لكن من ظلم فلا حرج عليه ان يخبر بما ينل منه، ينتصر ممن ظلمه.

د. ومن فتح الظاء قال تأويله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، إلا من ظلم، فلا بأس أن يجهر له بالسوء من القول، ذهب إليه ابن زيد قال يجهر له بالسوء حتى يفزع، (ومن) على هذا القول في موضع نصب والمعنى لا يحب الله الجهر أن يجهر أحد لاحد من المنافقين بالسوء من القول إلا من ظلم منهم فأقام على نفاقه، فانه لا بأس بالجهر بالسوء من القول.

هـ. 4. قال الزجاج: وفيه وجه آخر لم يذكره النحويون وهو أن يكون إلا من ظلم، لكن الظالم اجهروا له بالسوء من القول، وهو استثناء ليس من الاول، وهذا الذي ذكره هو قول ابن زيد بعينه.

و. وقال الفراء: موضع (من) نصب في القراءتين معاً، ويجوز الرفع على تقدير لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا المظلوم.

ز. وقال البلخي: كان الضحاك يقول: فيه تقديم وتأخير والتقدير ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وأمنتم إلا من ظلم بفتح الظاء ثم قال لا يحب الله الجهر بالسوء من القوم على كل حال، قال البلخي: ويجوز أن يكون (إلا) بمعنى الواو، كأنه قال لا يحب الله الجهر بالسوء، ولا من ظلم، فانه لا يحب الجهر بالسوء منه.

ح. وقال قطرب: يجوز أن يكون المراد به المكره في قوله: ﴿إلا مَنْ ظَلَمَ﴾ لأنه إذا اكره على الجهر بالسوء من القول، فلا شيء عليه، والقراءة المعروفة أولى بالصواب، لأن هذه شاذة.

5. والتأويل فيه لا يحب الله ان يجهر أحد لاحد بالسوء من القول إلا من ظلم، فلا حرج عليه أن يخبر بما اسي‏ء إليه، وتكون (من) في موضع نصب لانقطاعها عما قبلها، فانه لا اسماء قبله يستثنى منها، وهو مثل قوله: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾، وقوله: ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ يعني سميعاً لما يجهرون من سوء القول لمن يجهرون له، وغير ذلك من كلامكم وأصواتكم عليما بما تخفون من سوء قولكم وكلامكم لمن يخفون له به فلا يجهرون يحصي ذلك كله عليكم فيجازي على ذلك كل المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/371.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الجهر: ضد الإخفاء، وجهر القول: رفع الصوت به.

ب. السوء: ما يسوؤك، وسمي القبيح سوءًا؛ لأنه يسيء فاعله أو غيره، والسيئة ضد الحسنة، والأسوأ: القبيح، وقوله: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ﴾ ما يسوؤكم عواقبه، وقوله: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ يعني الخيانة التي تسوؤه، ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا﴾ أي: هلكة؛ لأنه يسوؤه، وقوله: ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى﴾ أي: بَرَصٍ لأنه يسوؤه.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت الآية في الضيف إذا أسيء ضيافته، فله أن يشكو مضيفه، عن مجاهد، وزعم أن ضيفًا نزل بقوم فأساؤوا قراه، فاشتكاهم، فنزلت الآية.

ب. وقيل: نزلت في الدعاء على الغير، فليس لأحد أن يدعو على غيره إلا المظلوم، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرًا)

ج. وقيل: نزلت في أبي بكر، فإن رجلاً شتمه فسكت هو مرارًا، ثم رد عليه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال أبو بكر: شتمني وأنت جالس فلما رددت عليه قمت؟ قال: (إن ملكًا كان يجيب عنك، فلما رددت ذهب الملك، وجاء الشيطان، فلم أجلس عند مجيء الشيطان)، فنزلت الآية.

د. وقيل: نزلت في وصف الرجل بما فيه أنه لا يجوز الكشف إلا للمظلوم، ويدعو على من ظلمه، فيقول: شتمني وسرق مني، عن أبي علي.

3. في اتصال الآية بما قبلها وجوه:

أ. أولها: لما سبق ذكر أهل النفاق، وهو الإظهار خلاف الإبطان بين أنه ليس كل ما يقع في النفس يجوز إظهاره؛ لأنه ربما يقع ظنًّا، وقد يقع مثله في مستور عند النَّاس، فأما إذا تحقق جاز إظهاره، عن علي بن عيسى.

ب. الثاني: أنه تقدم في السورة ذكر النساء واليتامى وما فرض في بابهم، وأخبار الجهاد والمجاهدين فالأولى: أن يُرَدَّ قوله: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ إلى أمر النساء واليتامى متى خافت من زوجها نشوزًا، أو خافت اليتيمة عضل الولي أو خان في مالهم، أو منعوا من دفع ذلك إليهم، وما يجري هذا المجرى ممن ظلم أن يظهر أمره ويشكو من ظلمه، عن أبي مسلم.

ج. الثالث: لما تقدم ذكر المنافقين وما حكى من أقوالهم وأفعالهم بين ما يجوز أن يظهر من حال الإنسان والكشف عنه، وما لا يجوز، فمما يجوز: أن يُظْلَمَ فَيُظْهِرَ على وجه المخاصمة، ومما لا يجوز فيمن ظاهره الستر لا يجوز الكشف عن حاله، في معنى قول أبي علي.

4. في قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ أقوال:

أ. أولها: أن يدعو على من ظلمه، عن ابن عباس وقتادة، يعني يكره رفع الصوت بما يسوء غيره إلا المظلوم يدعو على من ظلمه.

ب. ثانيها: ألا يخبر بظلم ظالمه، عن مجاهد.

ج. ثالثها: قال أبو علي: المراد لا يحب فيمن ظاهره الستر أن يكشف عن حاله، وإن كان صِدْقًا لدخوله في الغيبة والقذف، لكن من ظُلِمَ عليه إظهاره بأن يدعي أنه سرق، وهو معنى قول الأصم.

د. رابعها: ألا ينتصر من ظالمه، عن الحسن والسدي.

5. على هذه الوجوه الاستثناء حقيقة، وقيل: الكلام تم عند قوله: ﴿مَا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ﴾

6. أما قراءة من قرأ ﴿ظَلَمَ﴾ بالفتح:

أ. كأنه قيل: لكن من ظلم بالجهر له بالسوء من القول جاز.

ب. وقيل: المراد به المشرك يستحق الشتم والجهر بالسوء.

ج. وقيل: المراد أن يستضيف ويمنع حقه، عن مجاهد، وليس بالوجه؛ لأنه ليس بواجب، فلا يذم على تركه.

د. وقيل: هم النساء والصبيان إذا منعوا حقوقهم، عن أبي مسلم.

7. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا﴾ لما يجهر به من القول ﴿عَلِيمًا﴾ بصدق الصادق وكذب الكاذب، يجازي كُلاً بعمله.

8. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن الظالم إذا هتك ستره يجوز إظهار ما فيه، وقد وردت السنة بذلك فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قولوا في الفاسق ما فيه يعرفه الناس) وقال: (لا غيبة لفاسق)، وإنما هو فيمن هتك ستره دون المستور أمره.

ب. أن كشف سر غيره لا يجوز، وذلك تأديب منه تعالى، وأمر بالأخذ بأشرف الأخلاق.

ج. أنه لا يريد القبيح؛ لأن المحبة إذا علقت بالفعل نفيًا أو إثباتًا فالمراد به الإرادة، فلوا أراد القبيح لما نفى حُبَّه.

9. قراءة العامة ﴿ظَلَمَ﴾، بضم الظاء وكسر اللام، على ما لم يسم فاعله، وعن بعضهم ﴿ظَلَمَ﴾ بفتح الظاء واللام على فعل ماض، فالأول على تقدير: مَنْ لحقه الظلم أبيح له جهر القول، وعلى الثاني من ظَلَمَ فاجهروا له السوء من القول.

10. موضع ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ من الإعراب يحتمل وجهين:

أ. الرفع: على أن يعمل فيه المصدر بتقدير: لا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، ذكره الزجاج.

ب. والنصب: على الاستثناء المنقطع، فلا يكون انتصاف من ظلم سوءًا؛ لأنه بمعنى: لكن من ظلم فله أن ينتصف.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/130.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ قيل في معناه أقوال:

أ. أحدها: لا يحب الله الشتم في الانتصار ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين، عن الحسن، والسدي، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، ونظيره: ﴿وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾، قال الحسن: ولا يجوز للرجل إذا قيل له: يا زاني! أن يقابل له بمثل ذلك من أنواع الشتم.

ب. ثانيها: إن معناه لا يحب الله الجهر بالدعاء على أحد إلا أن يظلم إنسان فيدعو على من ظلمه، فلا يكره ذلك، عن ابن عباس، وقريب منه قول قتادة، ويكره رفع الصوت بما يسوء الغير إلا المظلوم يدعو على من ظلمه.

ج. ثالثها: إن المراد لا يحب أن يذم أحدا أحد، أو يشكوه، أو يذكره بالسوء، إلا أن يظلم، فيجوز له أن يشكو من ظلمه، ويظهر أمره، ويذكره بسوء ما قد صنعه، ليحذره الناس، عن مجاهد، وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه الضيف ينزل بالرجل، فلا يحسن ضيافته، فلا جناح عليه في أن يذكره بسوء ما فعله.

2. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا﴾ لما يجهر به من سوء القول ﴿عَلِيمًا﴾ بصدق الصادق، وكذب الكاذب، فيجازي كلا بعمله.

3. في هذه الآية دلالة على أن الرجل إذا هتك ستره، وأظهر فسقه، جاز إظهار ما فيه، وقد جاء في الحديث: (قولوا في الفاسق ما فيه، يعرفه الناس، ولا غيبة لفاسق)

4. وفيها ترغيب في مكارم الأخلاق، ونهي عن كشف عيوب الخلق، وإخبار بتنزيه ذاته تعالى، عن إرادة القبائح، فإن المحبة إذا تعلقت بالفعل، فمعناها الإرادة.

5. القراءة على ضم الظاء من (ظلم)، وروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والضحاك، وعطاء بن السائب، وغيرهم: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ بفتح الظاء واللام.. قال ابن جني: ظلم وظلم جميعا على الاستثناء المنقطع: أي لكن من ظلم فإن الله لا يخفى عليه أمره، ودل عليه قوله: ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ وموضع ﴿مِنَ﴾ نصب في الوجهين جميعا، قال الزجاج: فيكون المعنى: لكن المظلوم يجهر بظلامته تشكيا، ولكن الظالم يجهر بذلك ظلما، قال: ويجوز أن يكون موضع ﴿مِنَ﴾ رفعا على معنى: لا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، فيكون ﴿مِنَ﴾ بدلا من معنى أحد، والمعنى: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلا المظلوم، قال وفيها وجه آخر لا أعلم أحدا من النحويين ذكره، وهو أن يكون على معنى: لكن الظالم أجهروا له بالسوء من القول.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/200.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ في سبب نزولها قولان:

أ. أحدهما: أنّ ضيفا تضيّف قوما فأساؤوا قراه فاشتكاهم، فنزلت هذه الآية رخصة في أن يشكوا، قاله مجاهد.

ب. الثاني: أنّ رجلا نال من أبي بكر والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حاضر، فسكت عنه أبو بكر مرارا، ثم ردّ عليه، فقام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال أبو بكر: يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئا، حتى إذا رددت عليه قمت!؟ فقال: (إنّ ملكا كان يجيب عنك، فلمّا رددت عليه، ذهب الملك، وجاء الشّيطان) فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل.

2. اختلف القرّاء في قراءة ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ فقرأ الجمهور بضم الظاء، وكسر اللام، وقرأ عبد الله بن عمرو، والحسن، وابن المسيّب، وأبو رجاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضّحّاك، وزيد بن أسلم، بفتحهما، فعلى قراءة الجمهور، في معنى الكلام ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: إلا أن يدعو المظلوم على من ظلمه، فإنّ الله قد أرخص له، قاله ابن عبّاس.

ب. الثاني: إلا أن ينتصر المظلوم من ظالمه، قاله الحسن، والسّدّي.

ج. الثالث: إلا أن يخبر المظلوم بظلم من ظلمه، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وروى ابن جريج عنه قال: إلا أن يجهر الضّيف بذمّ من لم يضيّفه.

3. فأمّا قراءة من فتح الظاء، فقال ثعلب: هي مردودة على قوله تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ﴾ إلّا من ظلم، وذكر الزجّاج فيها قولين:

أ. أحدهما: أنّ المعنى: إلّا أن الظّالم يجهر بالسّوء ظلما.

ب. الثاني: إلّا أن تجهروا بالسّوء للظّالم، فعلى هذا تكون (إلّا) في هذا المكان استثناء منقطعا، ومعناها: لكن المظلوم يجوز له أن يجهر لظالمه بالسوء، ولكنّ الظّالم قد يجهر بالسوء، واجهروا له بالسوء، وقال ابن زيد: إلّا من ظلم، أي: أقام على النّفاق، فيجهر له بالسوء حتى ينزع.

4. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾:

أ. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا﴾ أي: لما تجهرون به من سوء القول‏ ﴿عَلِيمًا﴾ بما تخفون.

ب. وقيل: سميعا لقول المظلوم، عليما بما في قلبه، فليتّق الله، ولا يقل الّا الحقّ، وقال الحسن: من ظلم، فقد رخّص له أن يدعو على ظالمه من غير أن يعتدي، مثل أن يقول: اللهمّ أعنّي عليه، اللهمّ استخرج لي حقّي، اللهمّ حل بينه وبين ما يريد.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/492.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في كيفية النظم وجهان:

أ. الأول: أنه تعالى لما هتك ستر المنافقين وفضحهم وكان هتك الستر غير لائق بالرحيم الكريم ذكر تعالى ما يجري مجرى العذر في ذلك فقال: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ يعني أنه تعالى لا يحب إظهار الفضائح والقبائح إلا في حق من عظم ضرره وكثر مكره وكيده، فعند ذلك يجوز إظهار فضائحه، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اذكروا الفاسق بما فيه كي تحذره الناس) وهؤلاء المنافقون قد كان كثر مكرهم وكيدهم وظلمهم في حق المسلمين وعظم ضررهم، فلهذا المعنى ذكر الله فضائحهم وكشف أسرارهم.

ب. الثاني: أنه تعالى ذكر في هذه الآية المتقدمة أن هؤلاء المنافقين إذا تابوا وأخلصوا صاروا من المؤمنين، فيحتمل أنه كان يتوب بعضهم ويخلص في توبته ثم لا يسلم بعد ذلك من التعيير والذم من بعض المسلمين بسبب ما صدر عنه في الماضي من النفاق، فبين تعالى في هذه الآية أنه تعالى لا يحب هذه الطريقة، ولا يرضى بالجهر بالسوء من القول إلا من ظلم نفسه وأقام على نفاقه فإنه لا يكره ذلك.

2. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ دلت الآية الكريمة على أنه تعالى لا يريد من عباده فعل القبائح ولا يخلقها، وذلك لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادته، فلما قال: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ علمنا أنه لا يريد ذلك، وأيضا لو كان خالقا لأفعال العباد لكان مريدا لها، ولو كان مريدا لها لكان قد أحب إيجاد الجهر بالسوء من القول، وإنه خلاف الآية، وجواب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ: المحبة عندنا عبارة عن إعطاء الثواب على الفعل، وعلى هذا الوجه يصح أن يقال: إنه تعالى أراده ولكنه ما أحبه.

3. قال أهل العلم: إنه تعالى لا يحب الجهر بالسوء من القول، ولا غير الجهر أيضا، ولكنه تعالى إنما ذكر هذا الوصف لأن كيفيته الواقعة أوجبت ذلك كقوله: ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ [النساء: 94] والتبين واجب في الظعن والإقامة، فكذا هاهنا.

4. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ قولان، وذلك لأنه إما أن يكون استثناء منقطعا، أو متصلا:

أ. الأول: أنه استثناء متصل، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان:

الأول: قال أبو عبيدة هذا من باب حذف المضاف على تقدير: إلا جهر من ظلم، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

الثاني: قال الزجاج: المصدر هاهنا أقيم مقام الفاعل، والتقدير: لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم.

ب. الثاني: أن هذا الاستثناء منقطع، والمعنى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته.

5. المظلوم ماذا يفعل؟ فيه وجوه:

أ. الأول: قال قتادة وابن عباس: لا يحب الله رفع الصوت بما يسوء غيره إلا المظلوم فإن له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه.

ب. الثاني: قال مجاهد: إلا أن يخبر بظلم ظالمه له.

ج. الثالث: لا يجوز إظهار الأحوال المستورة المكتومة، لأن ذلك يصير سببا لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الإنسان في الريبة، لكن من ظلم فيجوز إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب، وهذا قول الأصم.

د. الرابع: قال الحسن: إلا أن ينتصر من ظالمه.

6. قيل‏ نزلت الآية في أبي بكر، فإن رجلا شتمه فسكت مرارا، ثم رد عليه فقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال أبو بكر: شتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه قمت، قال إن ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت عليه ذهب ذلك الملك وجاء الشيطان، فلم أجلس عند مجيء الشيطان، فنزلت هذه الآية.

7. قرأ جماعة من الكبار: الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ بفتح الظاء، وفيه وجهان:

أ. الأول: أن قوله: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ كلام تام، وقوله: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ كلام منقطع عما قبله، والتقدير: لكن من ظلم فدعوه وخلوه، وقال الفرّاء والزجاج: يعني لكن من ظلم نفسه فإنه يجهر بالسوء من القول ظلما واعتداء.

ب. الثاني: أن يكون الاستثناء متصلا والتقدير ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ فإنه يجوز الجهر بالسوء من القول معه.

8. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ وهو تحذير من التعدي في الجهر المأذون فيه، يعني فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف مستورا بسوء فإنه يصير عاصيا لله بذلك، وهو تعالى سميع لما يقوله عليم بما يضمره.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/254.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ وتم الكلام، ثم قال جل وعز ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ استثناء ليس من الأول في موضع نصب، أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان، ويجوز أن يكون في موضع رفع ويكون التقدير: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا من ظلم.

2. قراءة الجمهور ﴿ظُلِمَ﴾ بضم الظاء وكسر اللام، ويجوز إسكانها، ومن قرأ ﴿ظُلِمَ﴾ بفتح الظاء وفتح اللام وهو زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق وغيرهما على ما يأتي، فلا يجوز له أن يسكن اللام لخفة الفتحة، وعلى القراءة الأولى: قالت طائفة: المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلا من ظلم فلا يكره له الجهر به، ثم اختلفوا في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك:

أ. فقال الحسن: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه، ولكن ليقل: اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي، فهذا دعاء في المدافعة وهي أقل منازل السوء.

ب. وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو خير له، فهذا إطلاق في نوع الدعاء على الظالم.

ج. وقال أيضا هو والسدي: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ويجهر له بالسوء من القول.

د. وقال ابن المستنير: ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ معناه، إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفر أو نحوه فذلك مباح، والآية على هذا في الإكراه.

هـ. وكذا قال قطرب: ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ يريد المكره، لأنه مظلوم فذلك موضوع عنه وإن كفر، قال ويجوز أن يكون المعنى ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ على البدل، كأنه قال لا يحب الله إلا من ظلم، أي لا يحب الله الظالم، فكأنه يقول: يحب من ظلم أي يأجر من ظلم، والتقدير على هذا القول: لا يحب الله ذا الجهر بالسوء إلا من ظلم، على البدل.

و. وقال مجاهد: نزلت في الضيافة فرخص له أن يقول فيه، قال ابن جريج عن مجاهد: نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاة من الأرض فلم يضيفه فنزلت ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ ورواه ابن أبي نجيح أيضا عن مجاهد، قال نزلت هذه الآية ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ في الرجل يمر بالرجل فلا يضيفه فرخص له أن يقول فيه: إنه لم يحسن ضيافته، وقد استدلّ من أوجب الضيافة بهذه الآية، قالوا: لأن الظلم ممنوع منه فدل على وجوبها، وهو قول الليث بن سعد، والجمهور على أنها من مكارم الأخلاق.

3. الذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه ـ ولكن مع اقتصاد ـ إن كان مؤمنا كما قال الحسن، فأما أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا، وقد تقدم في البقرة، وإن كان كافرا فأرسل لسانك وادع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء، كما فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث قال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وقال: (اللهم عليك بفلان وفلان) سماهم، وإن كان مجاهرا بالظلم دعي عليه جهرا، ولم يكن له عرض محترم ولا بدن محترم ولا مال محترم، وقد روى أبو داوود عن عائشة قال: سرق لها شي فجعلت تدعو عليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تسبخي عنه) أي لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه، وروي أيضا عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته)، قال ابن المبارك: يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له، وفي صحيح مسلم (مطل الغني ظلم)، فالموسر المتمكن إذا طولب بالأداء ومطل ظلم، وذلك يبيح من عرضه أن يقال فيه: فلان يمطل الناس ويحبس حقوقهم ويبيح للإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك، حكي معناه عن سفيان، وهو معنى قول ابن المبارك.

4. ليس من هذا الباب ما وقع في صحيح مسلم من قول العباس في علي بحضرة عمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف: (يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن)، الحديث، ولم يرد عليه واحد منهم، لأنها كانت حكومة، كل واحد منهما يعتقدها لنفسه، حتى أنفذ فيها عليهم عمر الواجب، قاله ابن العربي، وقال علماؤنا: هذا إنما يكون فيما إذا استوت المنازل أو تقاربت، وأما إذا تفاوتت، فلا تمكن الغوغاء من أن تستطيل على الفضلاء، وإنما تطلب حقها بمجرد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب، وهذا صحيح وعليه تدل الآثار، ووجه آخر ـ وهو أن هذا القول أخرجه من العباس الغضب وصولة سلطة العمومة! فإن العم صنو الأب، ولا شك أن الأب إذا أطلق هذه الألفاظ على ولده إنما يحمل ذلك منه على أنه قصد الإغلاظ والردع مبالغة في تأديبه، لا أنه موصوف بتلك الأمور، ثم انضاف إلى هذا أنهم في محاجة ولاية دينية، فكان العباس يعتقد أن مخالفته فيها لا تجوز، وأن مخالفته فيها تؤدي إلى أن يتصف المخالف بتلك الأمور، فأطلقها ببوادر الغضب على هذه الأوجه، ولما علم الحاضرون ذلك لم ينكروا عليه، أشار إلى هذا المازري والقاضي عياض وغيرهما.

5. من قرأ ﴿ظُلِمَ﴾ بالفتح في الظاء واللام ـ وهي قراءة زيد بن أسلم، وكان من العلماء بالقرآن بالمدينة بعد محمد بن كعب القرظي، وقراءة ابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب ـ فالمعنى: إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول، في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له والرد عليه، المعنى لا يحب الله أن يقال لمن تاب من النفاق: ألست نافقت؟ إلا من ظلم، أي أقام على النفاق، ودل على هذا قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾، قال ابن زيد: وذلك أنه سبحانه لما أخبر عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار كان ذلك جهرا بسوء من القول، ثم قال لهم بعد ذلك: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ﴾ على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان، ثم قال للمؤمنين: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ في إقامته على النفاق، فإنه يقال له: ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل من النار؟ ونحو هذا من القول.

6. وقال قوم: (معنى الكلام: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، ثم استثنى استثناء منقطعا، أي لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك)، وهذا شأن كثير من الظلمة ودأبهم، فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم وينالون من عرض مظلومهم ما حرم عليهم.

7. وقال أبو إسحاق الزجاج: (يجوز أن يكون المعنى ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ فقال سوءا، فإنه ينبغي أن تأخذوا على يديه، ويكون الاستثناء ليس من الأول)، ويدل على هذا أحاديث منها قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خذوا على أيدي سفهائكم)، وقوله: انصر أخاك ظالما أو مظلوما) قالوا: هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال تكفه عن الظلم)

8. وقال الفراء: ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ يعني ولا من ظلم.

9. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ تحذير للظالم حتى لا يظلم، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحد في الانتصار.

__________

(1) تفسير القرطبي: 6/1.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نفي الحبّ كناية عن البغض، وقراءة الجمهور: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ على البناء للمجهول، وقرأ زيد بن أسلم، وابن أبي إسحاق، والضحاك، وابن عباس، وابن جبير، وعطاء بن السائب: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ على البناء للمعلوم، وهو على القراءة الأولى: استثناء متصل، بتقدير مضاف محذوف، أي: إلا جهر من ظلم؛ وقيل: إنه على القراءة الأولى: أيضا منقطع، أي: لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان.

2. اختلف أهل العلم: في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم، فقيل: هو أن يدعو على من ظلمه؛ وقيل: لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول: فلان ظلمني، أو هو ظالم، أو نحو ذلك؛ وقيل: معناه: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه، فهو مباح له، والآية على هذا في الإكراه، وكذا قال قطرب، قال: ويجوز أن يكون على البدل، كأنه قال لا يحبّ الله إلا من ظلم: أي لا يحبّ الظالم بل يحبّ المظلوم، والظاهر من الآية: أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ: (ليّ الواجد ظلم يحلّ عرضه وعقوبته)

3. أما على القراءة الثانية: فالاستثناء منقطع، أي: إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله، والتوبيخ له.

4. وقال قوم: معنى الكلام: لا يحبّ الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك، وهذا شأن كثير من الظلمة، فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه وينالون من عرضه.

5. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم فقال سوءا، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه، ويكون استثناء ليس من الأوّل.

6. ﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)﴾ هذا تحذير للظالم بأن الله يسمع ما يصدر منه ويعلم به.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/613.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُحِبُّ﴾ لا يرضى ﴿اللهُ الْجَهْرَ﴾ من أحدٍ ﴿بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ معاقبة للآخر ﴿إِلَّا مَن ظُلِمَ﴾ استثناء من (أحد) المقدَّر، كذا يقال، الأولى: أنَّه من (الْجَهْر) على حذف مضاف، أي: إِلَّا جَهْرَ مَن ظُلِم، أو لا يحِبُّ الله صاحب الجهر بالسوء من القول إِلَّا من ظلم، أو منقطع، أي: لكن من ظلم له الجهر به.

2. والمراد بالجهر هنا إسماع الأذن؛ لأنَّك إذا سمتعك أذنك سمعك الملك ومن معك من الجنِّ، وهذا كما قال أبو هريرة: (إنَّ الجهر في الصلاة إسماع الأذن)، وقد يقال: الجهر هنا إسماع غيرك، وعلى كلِّ حال المراد ما شمل خفض الصوت، وقيل: المراد رفع الصوت، ولكن خفضه لا يحبُّه الله أيضًا إلَّا أنَّه دون الجهر في الذنب، وذلك دعاء على الظالم وتظلُّم منه، ويخبر بذلك بأن يقول: هو فاسق بأخذ مالي، أو بِضُرِّي أو نحو ذلك مِمَّا فعله به، خَلَّصَ الله حقِّي منه، أو اللهمَّ جازه، وإن قال له: يا زاني، فلا يقل له: يا زاني، وأجازه الحسن، وهو سهو، وإن قال له: يا مشرك فقيل: لا يقله له، ومن قال: الحاكم على المؤمن بالشرك مشرك أجاز له الردَّ به، وإن قال له الزاني عنده: يا زاني قال له إن شاء: يا زاني، إن كان لا يسمع أحد، أو يسمع مَن علم بزناه.

3. ولا يدعُو عليه بما هو أكثر من حقِّه، أو بما يتعدى إلى ولده مثلاً، ولا بسوء الخاتمة أو الفتنة في الدِّين، فبعض منعه مطلقًا، وبعض أجازه إن كان ظالمًا متمردًا، وأجازه أصحابنا (2) مطلقًا في صاحب الكبيرة لله لا انتقامًا.

4. وكذلك الإسرار بالسوء من القول لا يحبُّه الله إِلَّا مَن ظُلم، إِلَّا أنَّه خصَّ الجهر لأنَّه أفحش؛ ولأنَّه سبب النزول، وهو أنَّ رجلاً أضاف قومًا فلم يحسنوا ضيافته، ولَمَّا خرج تكلم فيهم جهرًا، فنهاه الله وأمثاله؛ لأنَّهم لم يظلموه، وروي أنَّها نزلت في أبي بكر إذ شتمه رجل مرارًا والنبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حاضر، وسكت أبو بكر، ثمَّ ردَّ عليه فقام النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال أبو بكر: (يا رسول الله، شتمني ولم تقل شيئًا، حتَّى إذا رددتُ عليه قمتَ)، قال: (إنَّ ملَكًا كان يجيب عنك، فلمَّا رددت عليه ذهب الملك وجاء الشيطان، فقمتُ)، فأساغ الله تعالى لأبي بكر جهرَهُ بالسوء لشاتمه ذلك لأنَّه مظلوم.

5. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا﴾ بقول الظالم والمظلوم وغيرهما ﴿عَلِيمًا﴾ بما يفعل كلُّ فاعل، ﴿اِن تُبْدُواْ خَيْرًا﴾ طاعة لله أو إحسانًا إلى الخلق من فعل أو قول كائنًا ما كان، وقيل: قولاً حسنًا شكرًا لمن قاله فيكم، أو مالاً، وإبداؤه إظهاره بالتصدُّق به.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/329.

(2) يقصد الإباضية

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ أي: لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالقبيح من القول‏ ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ إلا جهر المظلوم بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء، فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه، حتى إنه يجيب دعاءه، ومعلوم أن أنواع الظلم كثيرة، فما نقل عن السلف هنا من ذكر نوع منه، فليس المراد حصر معنى الآية فيه، بل القصد تنبيه المستمع على النوع:

أ. فمن ذلك ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏ في الآية، يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ وإن صبر فهو خير له.

ب. ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق وابن إسحاق وهنّاد بن السريّ عن مجاهد قال هي في رجل أضاف رجلا فأساء قراه، فتحول عنه، فجعل يثني عليه بما أولاه، فرخص له أن يثني عليه بما أولاه، وفي رواية عنه: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن، وفي‏ رواية: هو الضيف المحول رحله، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول.

ج. قال ابن كثير: وقد روى الجماعة (سوى النسائيّ والترمذيّ) عن عقبة بن عامر قال قلنا: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا، فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم‏.

د. وروى أحمد عن المقدام أبي كريمة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال أيما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقا على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله.

هـ. روى هو وأبو داود عنه أيضا، سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا عليه، فإن شاء اقتضاه وإن شاء تركه‏.

و. ومن هذا القبيل‏ الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة؛ أن رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إن لي جارا يؤذيني، فقال له: أخرج متاعك فضعه على الطريق، فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكل من مرّ به قال ما لك؟ قال جاري يؤذيني، فيقول: اللهم! العنه، اللهم! أخزه، قال فقال الرجل: ارجع إلى منزلك، والله! لا أوذيك أبدا، ورواه أبو داود في كتاب الأدب.

ز. وقال عبد الكريم بن مالك الجزريّ، في هذه الآية، هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه، لقوله تعالى:‏ ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: 41]

ح. وقال قطرب: (معنى الآية: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول، من كفر أو نحوه، فهو مباح له، واسأل المرتضى عنها فقال: لا يحب الله ذلك ولا يجيزه لفاعله، إلا من ظلم، وذلك مثل ما كان من مردة قريش وفعلهم بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، من العقاب والضرب، ليشتموا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويتبرءوا منه، ففعل ذلك عمار، فخلّوه وصلبوا صاحبه، فأطلق لمن فعل به هكذا أن يتكلم بما ليس في قلبه، وفي عمار وصاحبه نزل قول الله في سورة النحل: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: 106]، فكانت هذه الآية مبينة لما في قلب عمار من شحنه بالإيمان)

2. كل هذا مما تشمله الآية بعمومها، وما نقله السمرقنديّ وغيره عن الفراء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ أن‏ ﴿إِلَّا﴾ بمعنى (لا) يعني: ولا من ظلم ـ فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه: فإن الآية صريحة في أنه يجوز للمظلوم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده‏ الحديث الذي رواه أحمد وأبو داوود والنسائيّ وابن ماجة والحاكم، عن الشريد بن سويد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال‏: ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته، وأما من لم يظلم فجهره بالسوء داخل في الغيبة المحظورة.

3. قال بعض مفسري الزيدية: (أفادت الآية جواز الجهر بالدعاء على الظالم والجهر بمساويه، ودلت على أن من جهر بكلمة الكفر مكرها، لم يكفر، لأنه مظلوم، وإذا ثبت بطلان حكم لفظ (الكفر) مع الظلم، فكذا يلزم في سائر الأحكام من البيع والعتاق والطلاق والإقرار، ثم قال والمحبة هاهنا بمعنى الإباحة، لا أن ذلك يريده الله تعالى)، هذه نزغة اعتزالية، ثم قال: (وتسميته سوءا، لكونه يسوء المقول فيه، وإلا فليس بقبيح في هذه الحال)، ثم قال: (وقول من قال: (إلا) هنا بمعنى (الواو) أي: ومن ظلم، مثل:

çوكل أخ مفارقه أخوه‏...لعمر أبيك إلا الفرقدان‏é

فخلاف الظاهر)

4. وقد نقل في معنى هذه الآية حكم ونوادر بديعة، قال الشعبيّ: يعجبني الرجل إذا سيم هونا، دعته الأنفة إلى المكافأة، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فبلغ كلامه الحجاج فقال: لله دره! أي رجل بين جنبيه! وتمثل:

çولا خير في عرض امرئ لا يصونه‏...ولا خير في حلم امرئ ذل جانبه‏é

وقال أعرابيّ لابن عباس: أتخاف عليّ جناحا إن ظلمني رجل‏ فظلمته؟ فقال له: العفو أقرب للتقوى، فقال: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾، وقال المتنبي:

çمن الحلم أن تستعمل الجهل دونه‏...إذا اتّسعت في الحلم طرق المظالم‏é

5. الاستثناء في قوله تعالى:‏ ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ إما متصل أو منقطع، فعلى الأول فيه وجهان:

أ. الأول: قول أبي عبيدة: هذا من باب حذف المضاف، أي: إلا جهر من ظلم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

ب. الثاني: قول الزجاج: المصدر هاهنا بمعنى الفاعل، أي: لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم، وعلى أنه منقطع، فالمعنى لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته.

6. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ فيه وعد للمظلوم بأنه تعالى يسمع شكواه ودعاءه ويعلم ظلم ظالمه، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ [إبراهيم: 42]، ووعيد له أيضا بأن يتعدّى في الجهر المأذون فيه، بل ليقل الحق ولا يقذف بريئا بسوء فإنه يصير عاصيا لله بذلك.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/384.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بينا في تفسير الآيات من أواخر الجزء الماضي موقع هذه الآيات إلى آخر السورة مما قبلها بالإجمال، ولهاتين الآيتين مناسبة مع ما قبلهما وما بعدمها وإن كانتا كالغريبتين في السياق الشارح لأحوال المنافقين والكافرين ومحاجة أهل الكتاب منهم، فإن الله تعالى بين فيه كثيرا من عيوبهم ومفاسدهم، لإقامة الحجة عليهم، وتحذير المؤمنين من مثل أعمالهم وأخلاقهم، فإن الله تعالى يكره لهم ذلك كما قال: ﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 16]

2. بين الله تعالى في أثناء ذلك حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه لئلا يستدل المؤمنون بذكر عيوب المنافقين والكافرين في القرآن على استحباب الجهر بالسوء من القول أو مشروعيته إذا كان حقا على الإطلاق فيفشو ذلك فيهم، وفيه من الضرر ما ترى بيانه فيما يلي.

3. ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ ينسب الحب والبغض أو الكره إلى الله تعالى بالمعنى الذي يليق به ويلزم الحب الرضا والإثابة وضده ضدهما، والجهر يقابل السر والإخفاء والكتمان، والسوء من القول ما يسوء من يقال فيه، كذكر عيوبه ومساويه، والله تعالى لا يحب من عباده أن يجهروا فيما بينهم بذكر العيوب والسيئات لأن في هذا الجهر مفسدتين كبيرتين:

أ. إحداهما: أنه مجلبة للعداوة والبغضاء بين من يجهرون بالسوء ومن ينسب إليهم هذا السوء، وقد تفضي العداوة إلى هضم الحقوق وسفك الدماء.

ب. الثانية: أن الجهر بالسوء بذكره على مسامع الناس يؤثر في نفوس السامعين تأثيرا ضارا، فإن الناس يقتدي بعضهم ببعض فمن سمع إنسانا يذكر آخر بالسوء لكرهه إياه أو استيائه منه يقلده في ذلك القول إذا كان لم يسبق له مثله، ويزداد ضراوة فيه إذا كان قد سبق وقوعه منه، أو يقلد فاعل السوء في عمله، خصوصا إذا كان السامع من الأحداث الذين يغلب عليهم التقليد أو من طبقة دون طبقته في الهيئة الاجتماعية، لأن عامة الناس يقلدون خواصهم، فإذا ظهرت المنكرات في الخواص لا تلبث أن تفشو في العوام، ومن تميل نفسه إلى منكر أو فاحشة يتجرأ على ارتكابه إذا علم أن له سلفاه وقدوة فيه، وربما لا يتجرأ عليه إذا لم يعلم بذلك، بل يؤثر سماع القول السوء في نفوس خواص الكهول الأخيار، وليس تأثيره مقصورا على العوام والصغار، فسماع السوء كعمل السوء، ذاك يؤثر في نفس السامع، وهذا يؤثر في نفس الناظر، وأقل تأثيره أنه يضعف في النفس استبشاعه واستغرابه ولاسيما إذا تكرر سماع خبره أو النظر إليه.

4. إننا نرى علماء التربية يجعلون جميع كتب التعليم غفلا من قول السوء والكلم الخبيث ومن الرفث وأسماء أعضاء التناسل حتى أنهم لا يذكرونها في معاجم اللغة التي يراجع فيها طلاب العلوم والفنون حرصا على أنفسهم أن تعلق بها كلمة خبيثة من كلم السوء تقودها إلى عمل السوء، ورب كلمة خبيثة تفتح لمن تعلق بنفسه بابا من الفساد، لا ينجو من شره أبد الآباد، وفي الحديث (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار) رواه الترمذي بهذا اللفظ وروي في الصحيحين وغيرهما أيضا.

5. يجهل كثير من الناس، مبلغ تأثير الكلام في قلوب الناس، فلا ينزهون ألسنتهم عن السوء من القول ولا أسماعهم عن الإصغاء إيه، وما يعقل كنه ذلك إلا العالمون الراسخون، وإن لمحمد عبده كلمة شعرية في المبالغة في تمثيله للفهم وتقريبه إلى الذهن يعدها البديعي من الإغراق الذي تقتضيه البلاغة في هذا المقام وهي: (إنني إذا ألقيت كلمة في مكان خالي من الناس في حندس الليل فإنها تبقى معلقة في الهواء حتى تصادف نفسا مستعدة فتؤثر فيها) ـ أو ما هذا معناه ـ وقد اتفق لأهل بيت من فضلاء الأمريكانيين أن اهتدوا إلى الإسلام في مصر وصاروا يترددون على محمد عبده لأخذ أحكام الدين وحكمه عنه، وإنه ليحدثهم يوما وإذا بلسانه وقد فلتت منه كلمة (اليأس) وكان في أهل ذلك البيت فتاة ذكية الفوائد فقالت للأستاذ: كيف ينطق مثلك في علمه وحكمته بهذه الكلمة وهي من الكلمات ذات المدلولات الضارة؟ فأعجب الأستاذ بذكائها وفهمها، ووافقها على قولها، وأظن أنه اعتذر عن ذلك بأن أمثال هذه الكلمة مما لا يمكن اجتنابه عند بيان بعض الحقائق بين العلماء الذين كملت تربيتهم، وإنما يتحرى اجتناب ذكرها بقدر الإمكان في خطاب النشء في المدارس والبيوت، وتكلم في تأثير الكلام في كل سامع وذكر كلمته التي نقلنا أنفا، فقالت الفتاة: أتأذن لي أن أفسر هذه الجملة الجليلة؟ قال: نعم، قالت: إن العلم بالشيء يكون في نفس الإنسان إجماليا فإذا: تكلم به ولو في المكان الخلو (أو كتبه) ينتقل من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل والبيان، ويلزم من ذلك إعادة ذكره على مسامع الناس فيؤثر فيهم على حسب استعدادهم، فقال محمد عبده: أحسنت.

6. لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ولا الإسرار كما يعلم من نهيه تعالى عن النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وأمره بالتناجي بالبر والتقوى فقط، وإنما خص الجهر هنا بالذكر لمناسبة بيان مفاسد الكفار والمنافقين في هذا السياق كما علمت، والجهر بالسوء أشد ضررا من الإسرار به لأن ضرره وفساده يفشو في جمهور الناس حتى لا يكاد يسلم منه أحد، وقد قلت يوما للعالم اللغوي الراوية الشهير الشيخ محمد محمود بن التلاميذ الشنقيطي: إنني أنكرت نفسي في مصر فإن كثرة رؤيتي للمنكرات فيها ككشف العورات في الحمامات، وشرب الخمر على أفاريز الطرقات، وكثرة سماعي لقول السوء خفف استشباع ذلك في نفسي وضعف كره أصحابه والنفور منهم فإنني كنت في بلدي (القلمون المجاورة لطرابلس الشام) إذا سمعت بأن رجلا ارتكب فاحشة لا أستطيع النظر إليه ولا الحديث معه، فقال الشيخ: وأنا أيضا أنكرت نفسي مثلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، سؤال وإشكال: فإن قيل ولماذا اخترت ترك وطنك الذي لا ترى ولا تسمع فيه من المنكر وقول السوء ما ترى وتسمع في مصر التي آثرتها عليه؟ والجواب: أنني لم أكن أستطيع وأنا في وطني الأول أن أقول الحق ولا أن أكتبه ولا أن أخدم الملة والأمة بما خدمتها به في مصر، وأنا أعتقد أن هذه الخدمة فرض علي، وقد آذتني الحكومة الحميدية عليه في أهلي ومالي وأنا بعيد عن سلطتها، ولو قدرت علي لما اكتفت بمنعي من هذه الخدمة بل لنكلت بي تنكيلا.

7. لا يحب الله الجهر بالسوء من القول: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ أي لكن من ظلمه ظالم فجهر بالشكوى من ظلمه شارحا ظلامته للحكام أو غير الحاكم ممن ترجى نجدته ومساعدته على إزالة الظلم فلا حرج عليه في هذا الجهر ولا يكون خارجا عما يحبه الله تعالى، لأن الله تعالى لا يحب لعباده أن يسكتوا على الظلم ويخضعوا للضيم بل يحب لهم أن يكونوا أعزاء أباة، فإذا تعارضت مفسدة الجهر بالشكوى من الظلم وهو من قول السوء ومفسدة السكوت على الظلم وهو مدعاة فشوه والاستمرار عليه المؤدي إلى هلاك الأمم وخراب العمران كان أخف الضررين مقاومة الظلم بالجهر بالشكوى منه وبكل الوسائل الممكنة.

8. ذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا جهر من وقع عليه الظلم للدفاع عن نفسه، وقال بعضهم: إن الجهر بمعنى المجاهر (من استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل) أي لا يحب الله المجاهرين بالسوء إلا المظلومين منهم إذا هبوا لمقاومة الظلم، ولو بالقول وحده إذا تعذر الفعل.

9. علم مما قلناه آنفا أن إباحة الجهر بالسوء للمظلوم أو مشروعيته له هو من باب الضرورات لأنه ارتكاب أخف الضررين، والضرورات تقدر بقدرها ـ كما قال أهل الأصول ـ فلا يجوز للمظلوم أن يتبع هواه في الاسترسال والتمادي في الجهر بالسوء بما لا دخل له في منع الظلم والتفصي منه وأطر الظالم على الحق والأخذ على يده أو ينتهي عن الظلم، وارجو أن لا يؤاخذه الله بما يحرك به الألم لسانه من غير روية وإن لم يكن شرحا لظلامته، ووسيلة للانتصاف من ظالمه، وفي الحديث المرفوع (إن لصاحب الحق مقالا) رواه أحمد وغير.

10. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ أي كان السمع والعلم ولا يزالان من صفاته الثابتة فلا يفوته تعالى قول من أقوال من يجهر بالسوء، ولا يعزب عن علمه السبب الباعث له عليه، لأنه لا يخفى عليه شيء ن أقوال العباد ولا من أفعالهم ولا نياتهم فيهما، فمن كان معذورا في الجهر بالسوء الذي لا يحبه الله تعالى لعباده لضرره ومفسدته فيهم بسبب الظلم فإنه تعالى لا يؤاخده ولا يعاقبه على جهره وربما أثابه على ما يقصد من رفع الضيم عن نفسه، وإرجاع الظالم إلى رشده، وإراحة الناس من شره، لأنه إذا لم يؤاخذ على ظلمه إياه يزداد ضراوة فيه وإصرارا عليه، إلا أن يكون من كرام الناس واتقيائهم الذين لا يقع الظلم منهم إلا هفوات.

__________

(1) تفسير المنار: ‏6/3.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن بين سبحانه كثيرا من عيوب المنافقين ومفاسدهم لإقامة الحجة عليهم، وحذّر المؤمنين من مثل أعمالهم وأخلاقهم كما قال: ﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾، بين هنا حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه، حتى لا يستدل المؤمنون بذكر عيوب المنافقين والكافرين في القرآن على استحباب الجهر بالسوء من القول أو مشروعيته إذا كان حقا على الإطلاق فيفشو ذلك، وفى هذا من الضرر ما سنذكره.

2. ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ حب الله لشى‏ء هو الرضا به والإثابة عليه، والجهر يقابل السر والإخفاء، والسوء من القول ما يسوء من يقال فيه كذكر عيوبه، ومساويه التي تؤذى كرامته، والمعنى ـ أنه تعالى لا يحب من عباده أن يجهروا فيما بينهم بذكر العيوب والسيئات لما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي أهمها:

أ. إنه مجلبة للعداوة والبغضاء بين من يجهر بالسوء ومن ينسب إليه هذا السوء، وقد يصل الأمر إلى هضم الحقوق وسفك الدماء.

ب. إنه يؤثر في نفوس السامعين تأثيرا ضارا بهم، فقد جرت العادة بأن الناس يقتدى بعضهم ببعض، فمن رأى إنسانا يسبّ آخر لضغائن بينه وبينه، أو لكراهته إياه قلده في ذلك، ولا سيما إذا كان من الأحداث الذين يغلب عليهم التقليد أو من طبقة دون طبقته، إذ عامة الناس يقلدون خواصهم، فإذا ظهرت المنكرات في الخاصة لا تلبث أن تصل إلى العامة وتفشو بينهم، ومن تميل نفسه إلى منكر أو فاحشة يجترئ على ارتكابهما إذا علم أن له سلفا وقدوة فيهما، فسماع السوء كعمل السوء فذاك يؤثر في نفس السامع وهذا يؤثر في نفس الرائي والناظر، وأقل هذه الأضرار أنه يضعف في النفس استقباحه واستبشاعه خصوصا إذا تكرر السماع أو النظر، وكثير من الناس يجهل مبلغ تأثير الكلام في القلوب، فلا ينزهون ألسنتهم عن السوء من القول ولا أسماعهم عن الإصغاء إليه.

3. الخلاصة ـ إن الله لا يحب الجهر بالسوء من القول ولا الإسرار به، إذ هو قد نهى عن النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، لكنه خص الجهر هنا بالذكر لمناسبة بيان مفاسد الكفار والمنافقين في هذا السياق، والجهر بالسوء أشد ضرارا من الإسرار به، لأن ضرره وفساده يفشو في جمهرة الناس ويعم سائر الطبقات.

4. ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ أي لكن من ظلمه ظالم فجهر بالشكوى من ظلمه شارحا ظلامته لحاكم أو غيره ممن ترجى نجدته ومساعدته على إزالة هذا الظلم فلا حرج عليه في ذلك، فإن الله لا يحب لعباده أن يسكتوا على الظلم، ولا أن يخضعوا للضيم، بل يحب لهم العزة والإباء، فها هنا تعارضت مفسدتان: مفسدة الجهر بالشكوى من الظلم بقول السوء، ومفسدة السكوت على الظلم وهو مدعاة فشوّه والتمادي فيه، وذاك مما يؤدى إلى هلاك الأمم وخراب العمران، وكانت ثانيتهما أخف الضررين فأجيزت للضرورة التي تقدّر بقدرها وإذا فلا يجوز للمظلوم أن يتمادى في الجهر بالسوء بما لا دخل له في دفع الظلم وفي الحديث‏ (إن لصاحب الحق مقالا) رواه أحمد.

5. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ فلا يفوته قول من أقوال من يجهر بالسوء ولا يعزب عن علمه البواعث التي أدت إليه، إذ لا يخفى عليه شيء من أقوال العباد ولا من أفعالهم ونياتهم فيها، فمن جهر بالسوء الذي لا يحبه الله لعباده لضرره ومفسدته لظلم وقع عليه فالله لا يؤاخذه، بل ربما أثابه على ذلك لإراحة الناس من شر فاعله، فإن الظالم إن لم يؤاخذ على ظلمه يزدد فيه ضراوة وإصرارا.

__________

(1) تفسير المراغي ‏6/4.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ)في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد كان هذا القرآن ينشئ أمة جديدة، ينشئها من المجموعات المسلمة التي التقطها الإسلام من سفوح الجاهلية التي كانت تهيم فيها؛ ليأخذ بيدها في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة؛ وليسلمها ـ بعد أن تكمل نشأتها ـ قيادة البشرية؛ ويحدد لها دورها الضخم في هذه القيادة.. ومن بين عوامل البناء تطهير ضمائر هذه الجماعة؛ وتطهير جو المجتمع الذي تعيش فيه؛ ورفع المستوي الخلقي والنفسي الذي تستوي عليه.

2. وحينما بلغت تلك الجماعة هذا المستوي؛ تفوقت في أخلاقها الفردية والاجتماعية؛ بقدر تفوقها في تصورها الاعتقادي؛ على سائر أهل الأرض.. وعندئذ صنع الله بها في الأرض ما قدر أن يصنعه؛ وأقامها حارسة لدينه ومنهجه؛ وقائدة للبشرية الضالة إلى النور والهدى؛ وأمينة على قيادة البشرية وإرشادها..

3. وحينما تفوقت في هذه الخصائص تفوقت على كل أهل الأرض؛ فكانت قيادتها للبشرية أمرا طبيعيا وفطريا؛ وقائما على أسسه الصحيحة.. ومن هذا الوضع الممتاز تفوقت كذلك في العلم والحضارة والاقتصاد والسياسة.. وكان هذا التفوق الأخير ثمرة للتفوق الأول في المستوي الاعتقادي والاخلاقي، وهذه هي سنة الله في الأفراد والجماعات.

4. وطرف من هذا التطهير للنفس والمجتمع يتمثل في هاتين الآيتين: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾

5. إن المجتمع شديد الحساسية، وفي حاجة إلى آداب اجتماعية تتفق مع هذه الحساسية، ورب كلمة عابرة لا يحسب قائلها حسابا لما وراءها؛ ورب شائعة عابرة لم يرد قائلها بها إلا فردا من الناس.. ولكن هذه وتلك تترك في نفسية المجتمع وفي أخلاقه وفي تقاليده وفي جوه آثارا مدمرة؛ وتتجاوز الفرد المقصود إلى الجماعة الكبيرة.

6. والجهر بالسوء من القول ـ في أية صورة من صوره ـ سهل على اللسان ما لم يكن هناك تحرج في الضمير وتقوى للّه، وشيوع هذا السوء كثيرا ما يترك آثارا عميقة في ضمير المجتمع.. كثيرا ما يدمر الثقة المتبادلة في هذا المجتمع فيخيل إلى الناس أن الشر قد صار غالبا، وكثيرا ما يزين لمن في نفوسهم استعداد كامن للسوء، ولكنهم يتحرجون منه، أن يفعلوه لأن السوء قد أصبح ديدن المجتمع الشائع فيه، فلا تحرج إذن ولا تقية، وهم ليسوا بأول من يفعل! وكثيرا ما يذهب ببشاعة السوء بطول الألفة، فالإنسان يستقبح السوء أول مرة بشدة؛ حتى إذا تكرر وقوعه أو تكرر ذكره، خفت حدة استقباحه والاشمئزاز منه؛ وسهل على النفوس أن تسمع ـ بل أن ترى ـ ولا تثور للتغيير على المنكر.

7. ذلك كله فوق ما يقع من الظلم على من يتهمون بالسوء ويشاع عنهم ـ وقد يكونون منه أبرياء ـ ولكن قالة السوء حين تنتشر؛ وحين يصبح الجهر بها هينا مألوفا، فإن البريء قد يتقول عليه مع المسيء ويختلط البر بالفاجر بلا تحرج من فرية أو اتهام؛ ويسقط الحياء النفسي والاجتماعي الذي يمنع الألسنة من النطق بالقبيح؛ والذي يعصم الكثيرين من الإقدام على السوء.

8. إن الجهر بالسوء يبدأ في أول الأمر اتهامات فردية ـ سبّا وقذفا ـ وينتهي انحلالا اجتماعيا؛ وفوضى أخلاقية؛ تضل فيها تقديرات الناس بعضهم لبعض أفرادا وجماعات؛ وتنعدم فيها الثقة بين بعض الناس وبعض؛ وقد شاعت الاتهامات؛ ولاكتها الألسنة بلا تحرج.

9. لذلك كله كره الله للجماعة المسلمة أن تشيع فيها قالة السوء، وأن يقتصر حق الجهر بها على من وقع عليه ظلم؛ يدفعه بكلمة السوء يصف بها الظالم؛ في حدود ما وقع عليه منه من الظلم! ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾..

10. ففي هذه الحالة يكون الوصف بالسوء ـ ويشمل ما تعبر عنه المصطلحات القانونية بالسب والقذف ـ انتصارا من ظلم، ودفعا لعدوان، وردا لسوء بذاته قد وقع بالفعل على إنسان بذاته؛ وتشهيرا بالظلم والظالم في المجتمع؛ لينتصف المجتمع للمظلوم؛ وليضرب على يد الظالم؛ وليخشى الظالم عاقبة فعله، فيتردد في تكراره.. والجهر بالسوء عندئذ يكون محدد المصدر ـ من الشخص الذي وقع عليه الظلم ـ محدد السبب ـ فهو الظلم المعين الذي يصفه المظلوم ـ موجها إلى شخص بذاته هو الذي وقع منه الظلم.. عندئذ يكون الخير الذي يتحقق بهذا الجهر مبررا له؛ ويكون تحقيق العدل والنصفة هو الهدف لا مطلق التشهير..

11. إن الإسلام يحمي سمعة الناس ـ ما لم يظلموا ـ فإذا ظلموا لم يستحقوا هذه الحماية؛ وأذن للمظلوم أن يجهر بكلمة السوء في ظالمه؛ وكان هذا هو الاستثناء الوحيد من كف الألسنة عن كلمة السوء.

12. وهكذا يوفق الإسلام بين حرصه على العدل الذي لا يطيق معه الظلم، وحرصه على الأخلاق الذي لا يطيق معه خدشا للحياء النفسي والاجتماعي..

13. ويعقب السياق القرآني على ذلك البيان هذا التعقيب الموحي: (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً).. ليربط الأمر في النهاية بالله، بعد ما ربطه في البداية بحب الله وكرهه: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ﴾ وليشعر القلب البشري أن مرد تقدير النية والباعث، وتقدير القول والاتهام، للّه، السميع لما يقال، العليم بما وراءه مما تنطوي عليه الصدور.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/796.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ليس داء أقتل للمجتمعات، ولا وباء أفسد لكيانها، وأفعل في تقويض بنيانها ـ من الفاحشة، تنجم فيها، ثم تتردد أصداؤها في آفاقها، وتنطلق أشباحها بين ربوعها، دون أن تجد في الناس من يتصدّى لها، ويقف في وجهها، ويدمدم على تلك الينابيع العفنة التي تتدفق منها.. فكلمة السوء تنطلق من فم سفيه، ثم تجد المرعى الخطيب في آذان تستقبلها وقلوب تتفتّح لها، وأفواه ترددها ـ هذه الكلمة هي لعنة تلبس كل من أخذها، وتعامل بها.. وفعلة السوء.. هي كلمة السوء مجسّدة.. يلقاها الناس بعيونهم، على حين يلقون الكلمة بآذانهم..

2. والناس هم الذين يفسحون لكلمات السوء، وفعلات السوء مكانا بينهم، فتتوالد فيهم وتتكاثر، وتصبح بعض وجودهم، وقد تستولى يوما على وجودهم كله.. ذلك حين يستقبلونها، ولا ينكرون ولا يضربون على أيدى المتعاملين بها.

3. والناس ـ كذلك ـ هم الذين يئدون كلمات السوء في مهدها، ويخنقونها قبل أن تتنفس أنفاس الحياة في أجوائهم.. إذا هم أنكروها، وأنكروا أصحابها فيهم، وأخذوهم بالأدب الذي يردعهم ويردّهم عما هم فيه من ضلال!

4. وفي أثر القدوة الحسنة، والقدوة السيئة، في بناء المجتمع، أو هدمه، يذيع النبيّ الكريم هذا الهدى الرباني، ليكون دستورا يعيش فيه الناس، وميزانا يضبطون عليه مناهجهم في القول والعمل.. يقول الرسول الكريم: (من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).. وصدق رسول الله، الذي حلّاه ربه بهذا الوصف الكريم: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [النجم: 2 ـ 3]

5. فكم كلمة سوء، يرمى بها ـ عن قصد أو غفلة ـ فإذا هي شرر متطاير، بين يدى ريح عاصفة، يعلق بأذيال حصيد هشيم، ثم لا تلبث حتى تصير لهيبا يلتهم كل شيء ويأتي على كل شيء أتريد شاهدا لهذا؟ إليك إذن هذه الكلمة: (لا حكم إلا للّه)، إنها من الكلمات القليلة التي دارت في الحياة دورة كانت أشبه بإعصار مجنون، لفّ الناس تحت جناحه، ثم ألقى بهم من حالق، فإذا هم في وجه فتنة عمياء، أهلكت الحرث والنسل.. وليس في الكلمة علوّ في البلاغة، ولا بدع في الصياغة، ولا طرافة في الأداء، بل هي في تركيبها أقرب إلى المألوف الدارج من الكلام، منها إلى الطريف النادر! ثم إنها من جهة أخرى ـ ليست من الكلمات التي تخدش الحياء، أو تمسّ الدين.. بل هي ـ في ظاهرها ـ كلمة حق، يمكن أن تكون على لسان العابدين المسبّحين! ومع هذا، فإن تلك الكلمة كانت أشأم كلمة ولدت في الإسلام، وجرت على ألسنة المسلمين،! والتاريخ المعروف لميلاد تلك الكلمة، هو السنة السابعة والثلاثون من الهجرة، حين تمّ التصالح بين علىّ ومعاوية على التحكيم، بعد أن ذهبت الحرب بينهما في صفّين بألوف الأرواح من المسلمين.. وقد تكون هذه الكلمة جرت على ألسنة كثيرة قبل هذا التاريخ، ولكنها لم تكن تعيش طويلا، أو تتحرك في مجال أكثر من دائرة الشخص الذي نطق بها.

6. أما ظهورها في هذه المرة، وفي هذا الوقت الذي سمعت فيه، فقد كان ـ كما قلنا ـ ظهورا مدويّا، ملأ الأسماع، وهزّ المشاعر، وأثار البلبلة والاضطراب.. ثم الحرب والقتال! والسرّ في هذا، هو أنها جاءت في وقتها، وظهرت في الحال الداعية إليها، فوقعت من كثير من النفوس موقع الغريق يتعلق بأي شيء يقع ليده، ولو كان مخلب أسد، أو ناب ثعبان! هكذا الكلمات والعبارات، تكبر قيمتها ويعظم خطرها، حين تكون الحاجة إليها داعية، والنفوس لها طالبة، دون نظر أو اعتبار لها في ذاتها، وفي حلاوة جرسها، وبراعة تركيبها، وغزارة معانيها.. إن لقمة، خشنة، جافة، تجى‏ء على جوع، هي أشهى وأغلى من، مائدة جمعت ليّن الطعام وطيّبه، تجى‏ء على شبع وامتلاء! وقد جاءت هذه الكلمة (لا حكم إلا للّه) إلى نفوس حائرة، فكانت دليلها، وقلوب مضطربة، فكانت أمنها وسكنها.

7. كان هناك مئات وألوف من أصحاب (علىّ) كرم الله وجهه، حاربوا معه ابتغاء مرضاة الله، وهيئوا أنفسهم للاستشهاد في سبيل الله، ولردّ الفئة الباغية إلى طريق الحق الذي شردت عنه، ثم ها هم أولاء يرون دعوة إلى وقف القتال، وإلى الاحتكام إلى كتاب الله! ففيم كان القتال إذن؟ وما ثمن هذه الأرواح التي ذهبت؟ وتلك الدماء الغزيرة التي أريقت؟ كان كثير من أصحاب علىّ في حيرة من أمرهم في هذا الموقف، لا يدرون كيف يجدون الجواب على تلك الأسئلة المحيّرة التي تدور في صدورهم.. وقد خطبهم الإمام على وأرضى الكثير منهم بمنطقه وبلاغته، ولكن كثيرا منهم كان داء الحيرة عندهم أكبر من أن تذهب به بلاغة، الإمام ومنطقه! ولهذا، فإنه ما إن هتف الهاتف بهذه الكلمة العابرة الطائرة: (لا حكم إلا للّه)، حتى لقفتها الآذان، وتنادت بها الألسنة، وإذا هي راية يجتمع عليها جيش كان قد سقطت رايته، ووقع الاضطراب في صفوفه! لقد كانت هذه الكلمة هي (المبدأ) الذي اجتمع عليه الخوارج، وهي الراية التي قاتلوا تحتها، وهي السّمة التي كانت حجازا بينهم وبين الجماعة الإسلامية..

8. وأحسب أنه لولا هذه الكلمة ما استمسك أمر الخوارج، ولا انتظم شملهم، ولا اجتمعت أشتاتهم المتفرقة.. بل لظلّوا هكذا أفرادا، كلّ فرد منهم يحمل همّه في نفسه، ويعالج حيرته بالأسلوب الذي يتهيأ له.. ولكن هذه الكلمة كانت أشبه بشعلة من نار ارتفعت في الصحراء، في ليلة حالكة السواد، فاجتمع عليها كل ضال، وجاء إليها كل تائه..

9. إن الكلمة ليست مجرد صوت ينطلق من فم، ثم يذوب صداه في أمواج الأثير..! بل إن الكلمة رسول مبين إلى الناس، يهتف بهم إلى العمل، ويدعوهم إلى الوجه الذي يريدهم عليه.. وما رسالات السماء، وما دعوات الرسل.. إلا كلمات.. تحمل الخير والهدى، فتثمر ما شاء الله أن تثمر من خير وهدى.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 24 ـ 27]

10. سؤال وإشكال: ما دلالة نفى حبّ الله سبحانه وتعالى للشى‏ء؟ أهو كراهة هذا الشيء أم تحريمه؟ ظاهر نفى الحب ـ بمفهوم المخالفة ـ هو الكره، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يكره الجهر بالسوء من القول وكره الشيء أقل درجة من تحريمه.. فقد يكره الإنسان الأمر، ثم يريد نفسه عليه، فتقبله وهي غير مقبلة عليه، وليس كذلك إذا كان شعوره نحو هذا الشيء هو شعور تحريم.. إنه لا يقبل عليه إلا مكرها أو مضطرا! والسوء من القول، قد يبلغ مبلغ الفاحشة، والله سبحانه وتعالى قد حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.. إذ يقول سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأعراف: 23] فكيف يجيء النهى عن الجهر بالسوء من القول في صورة الكره له، ووضعه موضع الشيء غير المحبوب؟ والمتوقع أن يجيء النهي عنه، في صورة جازمة قاطعة.. فكيف هذا؟ وما تأويله؟ والجواب:

أ. هو أن نفى حب الله عن الشيء يكفى في تجريم هذا الشيء وتحريمه.. وقد حرّم الله سبحانه وتعالى المنكرات، بأن سلبها حبه لها، ورضاه عنها.. فقال سبحانه وتعالى في تحريم الفساد ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: 58] وقال: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [الروم: 45] وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 40].. فهذه المنكرات، من الفساد، والخيانة، والكفر، والظلم، هي مما لا يحبها الله، ولا يحبّ مرتكبها، فسلب حبّ الله سبحانه للشى‏ء، ورضاه عنه، يضعه موضع المنكر، المعزول عن ألطاف الله، وعن مواقع رضوانه.. وهذا يكفى في تجنب هذا الشيء ومحاذرة التلبّس به، واعتباره من المنكر المحرّم.

ب. ومن جهة أخرى، فإن القول نعمة من النعم الكبرى، التي فضل الله بها على الإنسان، فهو أشبه بالهواء والماء، لا يستغنى عنه فرد أو جماعة، في حال أبدا.. ومن شأن هذه النعمة العامة الشاملة أن تكون مطلقة، مباحة، إطلاق الهواء والماء وإباحتهما.. فلو أنه أقيم على هذه النعمة قيود محكمة، وحواجز مصمتة، لكان في ذلك ما يذهب بكثير من خير هذه النعمة، ويكدّر مواردها الصافية أو يعطلها.. لهذا، كان من حكمة الحكيم العليم، أن يقيم على تلك النعمة العظمى ـ نعمة الكلام ـ إشارة تنبيه، تحذّر الناس وهم يستقون من موارد القول ويتنفسون في أجوائه، أن يأخذوا حاجتهم، وأن يمسكوا عما لا حاجة لهم به، ولا خير لهم فيه، وإلا كان الخطر، والضرر.. فما أكثر الذين يموتون بالماء، غصصا أو غرقا.. وما أكثر الذين يموتون بالهواء صعقا أو خنقا..

11. سؤال وإشكال: لم كان الكره واقعا على الجهر بالسوء؟. فهل السرّ بالسوء مباح؟ وهل له حساب غير حساب الجهر..؟ والجواب: أن الجهر بالسوء من القول هو الذي له كيان ظاهر، يؤثّر في الناس، ويتأثر به الناس.. ومن هنا كان خطره، وكان الحظر المتسلّط عليه وحده دون السرّ به.. فالسرّ بالسوء من القول ـ وإن كان شيئا كريها قبيحا ـ إلا أنه عورة مستورة، يمسكها الإنسان، على خوف أو استحياء.. وهذا من شأنه أن يعزل شرّ هذا الشرّ عن الناس.. ثم إنه من جهة أخرى لا يقوم في كيان الإنسان إلا مقاما قلقا مضطربا، وفي هذا ما يؤذن بانصراف الإنسان عنه، والتخلّص منه.. وليس كذلك شأن السوء حين يفلت من كيان الإنسان، فيطلقه صريحا عريانا بين الناس.. حيث لا سبيل إلى إمساكه ودفع خطره بعد هذا.. لهذا كان‏ ﴿الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ هو الداء الذي يخشى خطره، ومن ثمّ كان التنبيه إليه، والتحذير منه.

12. سؤال وإشكال: لم كان التحذير موجها إلى خطر السوء.. ﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾ دون (السوء من الفعل)؟ وهل المعالنة بالأفعال السيئة، والجهر بالفواحش أقل خطرا من المعالنة بكلمة السوء والجهر بها؟ والجواب: أن السوء من القول أكثر دورانا على الألسنة، وأخف مئونة على الحياء، وأقل حرجا على الخلق والدين.. هكذا.. يبدو الأمر الواقع.. فالإنسان الذي لا يتحرج من كلمة السوء يقولها، ولا يستحى من كلمة الفحش ينطق بها ـ هذا الإنسان ما أكثر ما يغلبه حياؤه، وتمنعه مروءته أو دينه من يحوّل كلمة السوء إلى فعل، ويجسد كلمة الفحش إلى عمل.. ثم يجاهر بهذا الفعل، ويعالن بهذا السوء، ومن هنا كان الحظر الذي فرضه الإسلام على الجهر بكلمة السوء هو حجر ضمنى على فعلة السوء، وسدّ للذرائع إليها..!

13. ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ هو رفع لهذا الحظر المضروب على الجهر بالسوء.. فالمظلوم مقهور مغلوب على أمره، بهذا السلطان المتسلط عليه من ظالمه.. وقد أذن الله للمظلوم أن ينتصف من ظالمه بما يقدر عليه، في حدود العدل والإحسان.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: 41].. فإذا رأى المظلوم أن التشنيع على الظالم، وكشف مساوئه للناس؛ مما يعينه عليه، ويأخذ له بحقه منه ـ فذلك له، ولا حرج عليه فيه، وقد أذن الله للمسلمين بالقتال ليدفعوا الظلم الذي كان يساق إليهم، إذ يقول سبحانه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ وقد روى أن رجلا أنى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: إن لي جارا يؤذينى، فقال له: (أخرج متاعك فضعه على الطريق)! فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكلّ من مرّ به قال مالك؟ قال جارى يؤذينى.. فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه، فقال الرجل ـ أي الجار ـ: ارجع إلى منزلك، والله لا أوذيك أبدا.

14. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ هو دعوة للمظلوم إلى التخفف من الجهر بالسوء من القول، وإلى القصد فيه، والوقوف به عند أضيق الحدود من الجهر.. فالله سبحانه وتعالى: ﴿سَمِيعٌ﴾ أي قد سمع شكاة المظلوم، وسينتصر له.. فلا حاجة إلى هذا الصراخ بهذا القول السيّئ، لأنه ـ على أي حال ـ موسوم بسمة السوء، ومن الخير تجنّبه، أو القصد فيه، إن لم يكن من المستطاع تجنبه.. وهو سبحانه وتعالى: ﴿بَصِيرٌ﴾ لا تخفى عليه خافية.. مما صرح به الإنسان أو أمسكه في ضميره، عالم بما فعله من سوء فرآه الناس، أو غاب عنهم.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/948.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. موقع هذه الآية عقب الآي التي قبلها أنّ الله لما شوّه حال المنافقين وشهّر بفضائحهم تشهيرا طويلا، كان الكلام السابق بحيث يثير في نفوس السامعين نفورا من النفاق وأحواله، وبغضا للملموزين به، وخاصّة بعد أن وصفهم باتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وأنّهم يستهزءون بالقرآن، ونهى المسلمين عن القعود معهم، فحذّر الله‏ المسلمين من أن يغيظهم ذلك على من يتوسّمون فيه النفاق، فيجاهروهم بقول السوء، ورخّص لمن ظلم من المسلمين أن يجهر لظالمه بالسوء، لأنّ ذلك دفاع عن نفسه.

2. روى البخاري: أنّ رجالا اجتمعوا في بيت عتبان بن مالك لطعام صنعه لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال قائل: أين مالك بن الدّخشم، فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله، فقال رسول الله: (لا تقل ذلك ألا تراه قد قال لا إله إلّا الله، يريد بذلك وجه الله، فقال: فإنّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين)، الحديث، فظنّ هذا القائل بمالك أنّه منافق، لملازمته للمنافقين، فوصفه بأنّه منافق لا يحبّ الله ورسوله، فلعلّ هذه الآية نزلت للصدّ عن المجازفة بظنّ النفاق بمن ليس منافقا، وأيضا لمّا كان من أخصّ أوصاف المنافقين إظهار خلاف ما يبطنون فقد ذكرت نجواهم وذكر رياؤهم في هذه السورة وذكرت أشياء كثيرة من إظهارهم خلاف ما يبطنون في سورة البقرة كان ذلك يثير في النفوس خشية أن يكون إظهار خلاف ما في الباطن نفاقا فأراد الله تبين الفارق بين الحالين.

3. جملة ﴿لَا يُحِبُّ﴾ مفصولة لأنّها استئناف ابتدائي لهذا الغرض الذي بينّاه: الجهر بالسوء من القول، وقد علم المسلمون أنّ المحبّة والكراهية تستحيل حقيقتهما على الله تعالى، لأنّهما انفعالان للنفس نحو استحسان الحسن، واستنكار القبيح، فالمراد لازمهما المناسب للإلهية، وهما الرضا والغضب.

4. صيغة ﴿لَا يُحِبُّ﴾، بحسب قواعد الأصول، صيغة نفي الإذن، والأصل فيه التحريم، وهذا المراد هنا؛ لأنّ‏ ﴿لَا يُحِبُّ﴾ يفيد معنى يكره، وهو يرجع إلى معنى النهي، وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا ـ إلى قوله ـ ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)، فهذه أمور ثلاثة أكثر أحوالها محرّم أو مكروه.

5. المراد بالجهر ما يبلغ إلى أسماع الناس إذ ليس السرّ بالقول في نفس الناطق ممّا ينشأ عنه ضرّ، وتقييده بالقول لأنّه أضعف أنواع الأذى فيعلم أنّ السوء من الفعل أشدّ تحريما.

6. استثنى‏ ﴿مَنْ ظَلَمَ﴾ فرخّص له الجهر بالسوء من القول، والمستثنى منه هو فاعل المصدر المقدّر الواقع في سياق النفي، المفيد للعموم، إذ التقدير: لا يحبّ الله جهر أحد بالسوء، أو يكون المستثنى مضافا محذوفا، أي: إلّا جهر من ظلم، والمقصود ظاهر، وقد قضي في الكلام حقّ الإيجاز.

7. رخّص الله للمظلوم الجهر بالقول السيّئ ليشفي غضبه، حتّى لا يثوب إلى السيف أو إلى البطش باليد، ففي هذا الإذن توسعة على من لا يمسك نفسه عند لحاق الظلم به، والمقصود من هذا هو الاحتراس في حكم‏ ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾

8. دلّت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حدّ التظلّم فيما بينه وبين ظالمه، أو شكاية ظلمه: أن يقول له: ظلمتني، أو أنت ظالم؛ وأن يقول للناس: إنّه ظالم، ومن ذلك الدعاء على الظالم جهرا لأنّ الدعاء عليه إعلان بظلمه وإحالته على عدل الله تعالى، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن، وذلك مخصوص بما لا يؤدّي إلى القذف، فإنّ دلائل النهي عن القذف وصيانة النفس من أن تتعرّض لحدّ القذف أو تعزيز الغيبة، قائمة في الشريعة، فهذا الاستثناء مفيد إباحة الجهر بالسوء من القول من جانب المظلوم في جانب ظالمه؛ ومنه ما في الحديث‏ (مطل الغنيّ ظلم) أي فللممطول أن يقول: فلان مماطل وظالم، وفي الحديث‏ (ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته)

9. جملة ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ عطف على‏ ﴿لَا يُحِبُّ﴾، والمقصود أنّه عليم بالأقوال الصادرة كلّها، عليم بالمقاصد والأمور كلّها، فذكر (عليما) بعد (سميعا) لقصد التعميم في العلم، تحذيرا من أن يظنّوا أنّ الله غير عالم ببعض ما يصدر منهم.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/294.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة كشف الله سبحانه وتعالى عن أوصاف المنافقين، وبين ظواهر أحوالهم، ومجموع أمورهم، وما يرتكبون من سيئات واضحة معلمة، وما يخفون في صدورهم من أحقاد مكنونة، وبين مآل أمرهم إن استمروا في غيهم يعمهون، وبين سبحانه وتعالى أن باب التوبة مفتوح، وأن الله تعالى لا يغلق باب الرحمة بالتوبة على أحد من عباده، ولو كانوا منافقين، فإن الله تعالى يحب التوابين، والتوبة عنده سبحانه تجب ما قبلها من سيئات مهما تكن، وفى هذا النص الكريم بين أن الجهر بالسوء من القول لا يكون إلا في أحوال تقتضى ذلك، وقد وجد مقتضاه في أهل النفاق، فليحترز المؤمن من الاسترسال في الجهر بالسوء إلا عند أشد الحاجة إليه.

2. ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ السوء هو ما يسوء الناس من أقوال وأفعال، سواء كانت الإساءة عامة أو خاصة، وسواء أكانت الإساءة إلى الإنسان أم إلى الفضيلة، فكل ما يمس المجتمع، ويترتب عليه شر وأذى، فهو من السوء.

3. والمحبة شأن من شئون الله تعالى، لا تتشابه مع محبتنا، ولا مع ما يجرى بيننا من حب وبغض؛ لأن ذات الله تعالى منفردة بصفاته، لا تشابه ذات المخلوقين في شيء ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى‏]، والمحبة أكثر من الرضا، والرضا أكثر من الإرادة، فهذه كلها صفات للذات العلية مرتبة في القوة:

أ. فالإرادة تتعلق بالخلق والتكوين، فما أراده الله تعالى يقع، وما لا يريده لا يمكن أن يقع، فلا يمكن أن يقع من أفعال الإنسان ما لا يريده رب العالمين، ولا يمكن أن يفعل الإنسان شيئا لا يريده العليم الخبير الذى لا تخفى عليه الأنفس، وما تكن الصدور.

ب. أما الرضا فمعناه بالنسبة للذات العلية أن يكون العمل أو القول محل قبوله سبحانه وتعالى والمجازاة عليه، ولذلك يتصور أن يفعل العباد ما يغضبون الله به سبحانه وتعالى، وقد جاء في القرآن الكريم عبارات سامية صريحة بأن الله تعالى يغضب على عباده لأفعال فعلوها، وأن الله تعالى لا يرضى عن بعض أفعال عباده، فلا يرضى من عباده الكفر، والرضا لا يكون إلا لأعمال المتقين وهو أعلى أنواع الثواب الذى يثيب الله تعالى به عباده، ولذلك قال سبحانه بعد ذكر نعيم الجنة: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة]

ج. والمحبة مرتبة فوق الرضا، أو هي أبلغ الرضا، وقد وعد الله تعالى أهل الإيمان الحق الصادق بأنهم ينالون محبته، وهي أقصى درجات الرضا.

4. ومع أن المحبة من الناحية الإيجابية أقصى درجات الرضا، هي من الناحية السلبية، تكون في مرتبة الغضب، فمعنى‏ ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، أن الله تعالى يبغض الجهر بالكلام الذى هو سوء في ذاته، ويسى‏ء الناس، ويؤذى الفضيلة، فإن ذلك إعلان سيئ الأعمال، وقبيح الأقوال، والجهر معناه النطق به في إعلان لا خفاء فيه؛ ونشر هذا الكلام بين الناس، وإذاعته بين ربوعهم.

5. والمعنى الإجمالي للنص السامي أن الله تعالى يبغض الجهر بالأمر السيئ أو الأفعال السيئة، وكل إعلان للمنافق والفاجر من الجهر بالأمر المسيء هو من قبيل الجهر بالسوء من القول، فـ (من) هنا بيانية وهي بيان لنوع السوء بأنه من القول، وذلك يشمل كل إعلان للأعمال القبيحة، والترامى بها، فيشمل القذف والسباب وإعلان المعاصي والجرائم، وتفصيل القول فيها من غير حاجة إلى بيانها، ولا إقامة حق في إعلانها، فإن ذلك كله من سوء القول وفاحشه.

6. وإن الإسلام في سبيل تكوين رأى عام مهذب نهى عن إعلان الآثام والمفاسد الشخصية، ولقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أيها الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات، فاستتر فهو في ستر الله، ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد)، ويقول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن من أبعد الناس عن الله منازل يوم القيامة المجاهرين، قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال ذلك الذى يعمل عملا بالليل قد ستره الله عليه، فيصبح يقول: فعلت كذا وكذا يكشف ستر الله)، وإن الجهر بالسوء يسهله، فتزداد الجرائم ويسهل ارتكابها لمن هو على استعداد لها، وكثيرا ما نرى الشبان يرتكبون جريمة معينة قد أخذوها من قصة أذيعت، أو نشرت، أو تردد ذكرها، فإن ذكر الشر يستهوى الشباب، خصوص إذا قدم في عرض منسق يحبب الاستماع إليه، فإنه يسرى في النفوس سريان الطعام المسموم في الأجسام.

7. وفوق ذلك فإن كثرة ذكر السوء والفجور يزيل استنكاره في النفس، ويذهب بروعة الحق، وإن ذكر السوء لأهل السوء يثير عدوانهم ويجعلهم يتبجحون في ارتكابه، ويباعد بينهم وبين الاستجابة لداعى الهدى، ذلك أن الناس إذا استتروا في شرهم، وظنوا أن الناس لا يعلمونه كان كتمانه مسهلا لقتله في نفوسهم، فإن أعلن وفقدوا حياءهم استمرءوا الشر وأعلنوه، وكل إعلان منهم تغليق لباب الهداية في قلوبهم.

8. بيد أن الشر أحيانا يجب إعلانه لدفعه، إذا كان ثمة فريسة لهذا الشر، وتعد بالظلم، فإنه يجب دفعه، ولذلك ذكر سبحانه بعد أن قرر القاعدة العامة، وهي أنه لا يحب الجهر بالسوء استثناء حال الظلم فقال: ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ الاستثناء هنا عند بعض العلماء استثناء منقطع، فـ (إلا) هنا معناها لكن، والمعنى: لكن من ظلم له أن يجهر بالسوء لدفع‏ ظلمه، وحدود الجهر هو مقدار دفع الظلم، فإن أمكن دفعه بغير الجهر لا يجهر، وإن لم يمكن دفعه إلا بالجهر ـ جهر حتى يصل إلى حقه.

9. وقال بعض العلماء إن الاستثناء متصل، وتأويل الكلام أن الله تعالى لا يحب الجهر بالسوء إلا جهر من ظلم فإنه ليس بخارج عن محبة الله تعالى لأن دفع الظلم واجب ولازم، ولقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن بقلوب بعضكم بعضا، ثم تدعون فلا يستجاب لكم)، فدفع الظلم واجب، وإذا كان الجهر سبيله فهو واجب؛ لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب.

10. سؤال وإشكال: لكن ما مدى الاستثناء الذى يسوغ الله سبحانه وتعالى به للمظلوم أن يجهر بالسوء، وأن يعلنه؟ والجواب: نقول بالإجمال إن مداه هو منع الظالم من الاستمرار في ظلمه وحمله على الانتهاء عن غيه، وإن ذلك يشمل الأحوال الآتية:

أ. الأولى: أن يجهر الخصم بما ارتكب خصمه من مآثم في حقه أمام القاضي فإن الجهر في هذه الحال لا يبغضه الله تعالى؛ لأنه إقامة حق، ودفع باطل، ولقد قال تعالى: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى‏]، ولقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لى الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته) والمراد أن يغلظ له في القول، ولا يقول القاضي قولا لينا إذا ثبت مطله في أداء الدين)

ب. الثانية: إذا كان الحاكم ظالما، فإنه يجب توجيه اللوم الشديد إليه بالنقد من غير إسفاف، ولكن لا يقول الناقد إلا حقا، ويستر نقده، حتى يرعوى هذا من غيه وذلك إذا لم تجد فيه الموعظة الحسنة، فإن كانت مجدية لا يصح الاتجاه إلى الجهر بمظالمه، ولقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفضل المجاهدين رجل قال كلمة حق أمام سلطان جائر فقتله)، وإن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإن نقد الفساد هو من قبيل الإنكار بالقول، وهو المرتبة الثانية: من الإنكار، فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)

ج. الثالثة: الدعوة على الظالم، فإن هذه الدعوة يصح أن تكون جهرا، ومن ذلك دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على العرب الذين ناوءوه، فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم في دعائه: (اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف)، وخص صلّى الله عليه وآله وسلّم أسماء بالدعاء عليهم، وقد أثر عن السلف الصالح الدعاء على من ظلمهم، وكان يوصى الحسن البصرى المظلوم بأن يقول في ظالمه: (اللهم أعنى عليه، اللهم استخرج حقى منه، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمى)

د. الرابعة: أن يذكر المظلوم الظالم الذى ظلمه بالسوء في مجالسه من غير كذب ولا بهتان، وقد روى عن بعض السلف أنهم ترخصوا في ذلك، وأجازوا لمن شتم أن يرد الشتم بمثله، ولكن إن افترى عليه لا يفترى لأن الكذب حرام لا يسوغه شيء فلا تجوز المعاملة بالمثل فيه، وقد روى عن ابن عباس أنه قال لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه، ويجهر له بالسوء من القول، ولقد روى أن على بن أبى طالب قال: (ادفعوا الحجر من حيث جاء، فإنه لا يدفع الشر إلا شر مثله).

11. هذه أحوال تسوغ النطق بالسوء دفع لظلم أهل السوء، وكذلك الجدل في الحق، لا مانع من ذكر ما انغمس فيه أهل الباطل ولا يعد هذا جهرا بالسوء، بل هو كشف للسوء، وإن الأحوال التي يكون فيها دفع الظلم لا تعد على التحقيق جهرا بالسوء لمجرد الجهر، بل هي كشف للظالم، وإنهاء للظلم، ولذلك رجح بعض العلماء أن يكون الاستثناء منقطع.

12. ومهما يكن من أمر الجهر بالسوء، فإن الله تعالى عليم بالبواعث، سميع لما يجهر به الجاهر، وما يحدث به نفسه، ولذلك ذيل سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته: ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ أي أنه تعالى متصف بوصف السمع الكامل، والعلم المحيط الشامل، فهو سميع لما يجهر به الإنسان، وما تحدثه به نفسه، وما هو مطوي من خلجات وجدانه، وعليم بالبواعث التي تبعثه على المنطق، ومجازيه بقوله وعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو عليم بكل أعمال الجوارح، وما يرتكبه العباد من خير وشر علما محيطا يليق بذاته العلية.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1930.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بالسوء متعلق بالجهر ومن القول متعلق بمحذوف حال من السوء، ومن ظلم استثناء منقطع، على معنى ولكن من ظلمه ظالم فله أن يجهر بالشكوى من ظلمه، ويجوز أن يكون استثناء متصلا على تقدير حذف مضاف، أي الا جهر من ظلم، وهو الأرجح.

2. قال تعالى في تحريم الغيبة: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات: 12]، ومما قاله في تحريم الظلم: ﴿أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [الاعراف: 44]، وقال في الآية التي نفسرها: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، وإذا عطفنا هذه على آية الغيبة يكون المعنى لا يذكر بعضكم بعضا بالعيوب والسيئات إلا من كان مظلوما فله أن يعلن ظلامته، ويجهر بسيئات من ظلمه.

3. ومعنى الظلم معروف، اما الغيبة المحرمة فقد حددها الفقهاء بأن تذكر غيرك بما يكره في حال غيابه عنك، كهتك عرضه والتفكه به واضحاك الناس منه، سواء أكان ذلك بما هو فيه، أم كان كذبا وافتراء.. واستثنوا من تحريم الغيبة الظالم لغيره، والظالم لنفسه بتجاهره بالفسق وعدم مبالاته بما يقول، ويقال له، وفي مكاسب الشيخ الأنصاري ان موارد الاستثناء لا تنحصر في عدد، لأن الغيبة انما تحرم إذا لم يكن في التشهير مصلحة أقوى وإلا وجب الإعلان والتشهير تغليبا لأقوى المصلحتين، (كما هي الحال في كل معصية من حقوق الله وحقوق الإنسان، وقد نبه على ذلك أكثر من واحد)

4. وعلى هذا تجوز شرعا الاضرابات والمظاهرات ضد حكام الجور، بل قد تجب إذا انحصر الطريق في رفع الظلم بها، على شريطة ان لا تؤدي إلى الشغب والإضرار بالغير، لأن الله سبحانه لا يطاع من حيث يعصى، فالإسلام يرعى للإنسان قداسته وكرامته، حتى يعتدي على كرامة غيره، وعندها ترتفع عنه وعن كرامته الصيانة والحصانة، ويحل هتكه واذلاله.

5. وتجدر الاشارة إلى أن الظلم لا يختص بحكام الجور وأعوانهم، فأي إنسان اعتدى على غيره بفعل أو قول، أو منعه حقه، أو مطله به فهو ظالم، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ليّ الواجد ظلم، وفي حديث آخر: الواجد يحل عرضه، والواجد هو الذي لا يفي بالدين مع قدرته على الوفاء.. وروى أهل البيت عن جدهم صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من عامل الناس، فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم ـ فهو ممن كملت مروءته، ووجبت اخوته، وحرمت غيبته)، حتى الكاذب والمخلف بوعده لا حرمة له.. وهكذا يحفظ الإسلام حقوق الفرد ما دام قائما بحقوق الإنسانية التي تتمثل فيه وفي غيره، ومتى هانت عليه كان أهلا للاحتقار والهوان.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/477.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ قال الراغب في مادة (جهر): (يقال لظهور الشيء بإفراط لحاسة البصر أو حاسة السمع، أما البصر فنحو رأيته جهارا، قال الله تعالى: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ إلى أن قال ـ وأما السمع فمنه قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾ والسوء من القول كل كلام يسوء من قيل فيه كالدعاء عليه، وشتمه بما فيه من المساوئ والعيوب وبما ليس فيه، فكل ذلك لا يحب الله الجهر به وإظهاره، ومن المعلوم أنه تعالى منزه من الحب والبغض على حد ما يوجد فينا معشر الإنسان وما يجانسنا من الحيوان، إلا أنه لما كان الأمر والنهي عندنا بحسب الطبع صادرين عن حب وبغض كني بهما عن الإرادة والكراهة وعن الأمر والنهي)

2. فقوله: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ كناية عن الكراهة التشريعية أعم من التحريم والإعانة، وقوله: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ استثناء منقطع أي لكن من ظلم لا بأس بأن يجهر بالسوء من القول فيمن ظلمه من حيث ظلم، وهذه هي القرينة على أنه إنما يجوز له الجهر بالسوء من القول يبين فيه ما ظلمه، ويظهر مساوئه التي فيه مما ظلمه به، وأما التعدي إلى غيره مما ليس فيه، أو ما لا يرتبط بظلمه فلا دليل على جواز الجهر به من الآية.

3. والمفسرون وإن اختلفوا في تفسير السوء من القول فمن قائل إنه الدعاء عليه، ومن قائل إنه ذكر ظلمه وما تعدى به عليه وغير ذلك إلا أن الجميع مشمول لإطلاق الآية فلا موجب لتخصيص الكلام ببعضها.

4. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ في مقام التأكيد للنهي المستفاد من قوله: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ﴾ أي لا ينبغي الجهر بالسوء من القول من غير المظلوم فإن الله سميع يسمع القول عليم يعلم به.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/124.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الْجَهْرَ﴾ رفع الصوت بالكلام، والسوء من القول: يعم كلمة الكفر ونحوها مما يقوله المكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ويعم الشكوى من الظالم، ويعم السوء من القول كلام الكفر وغيره من الباطل، والغيبة، والنميمة، والتقرير على الباطل بقول القائل أصاب أو أحسن أو نحو ذلك.

2. وكان ﴿سَمِيعًا﴾ للقول كله وما هو مستثنى وما ليس بمستثنى ﴿عَلِيمًا﴾ بالعذر وبعدم العذر أي أنه لا عذر، و﴿سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ لكل قول وبكل شيء.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/200.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ قال مجاهد: إن ضيفا تضيّف قوما فأساءوا قراه فاشتكاهم، فنزلت هذه الآية رخصة في أن يشكوا، وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام‏، في التأكيد على هذه الفكرة في النموذج المذكور للمظلوم، أنه قال أنه قال إنّ (من أضاف قوما فأساء ضيافتهم، فهو ممن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه)

2. ليس للإنسان الحرية في أن يتكلم بما يحلو له من الكلمات التي تتعلق بأفعال الناس، مما يوحي بالذم والانتقاص والسوء، لأن ذلك يجعل الحياة الاجتماعية والفردية خاضعة للانفعالات السلبية الذاتية التي يحس بها الإنسان تجاه الآخرين، فيسي‏ء إليهم ويحطّم كرامتهم من دون معنى؛ فيفقدون ـ على أساس ذلك ـ الشعور بالثقة والاطمئنان في مثل هذا المجتمع الذي يسمح فيه للأفراد أن يتكلموا بالسوء بما شاءوا عمن شاءوا ولمن شاؤوا.. ولذلك فقد اعتبر الإسلام ذلك منطقة محرمة على الإنسان، لا يجوز له أن يأخذ حريته فيها، وفي هذا الجو، كانت الغيبة التي هي (ذكرك أخاك بما يكره في ظهر الغيب) من الكبائر التي توعد الله عليها بإدخال صاحبها النار، لعلاقتها بالحقوق الإنسانية الإيمانية التي تفرض عليك احترام أخيك في أسراره التي تطّلع عليها صدفة، فلا تذكرها للآخرين، وهذا ما أرادت الآية أن تؤكد عليه، لتربطه بالعلاقة الوثيقة بالله التي تدعو الإنسان المؤمن إلى أن يحبّ ما يحبه الله ويكره ما يكرهه، لأن الإخلاص له يعني ذلك فيما يتصل بالأفكار والمشاعر والمواقف؛ وذلك فحوى قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾، وهو الإعلان به وإظهاره بأية وسيلة من الوسائل.

3. وقد اختلف المفسرون في تفسير السوء من القول على أقوال: (أحدها): لا يحب الله الشتم في الانتصار. (ثانيها): لا يحب الله الجهر بالدعاء على أحد. (ثالثها): إن المراد لا يحب أن يذمّ أحد أحدا أو يشكوه أو يذكره بالسوء.. والظاهر أن الآية شاملة للجميع لصدق الجهر بالسوء على كل هذه الموارد.

4. ولما كان لكل قاعدة استثناء، جاءت الآية لترخص للمؤمنين المظلومين الذين يعانون من قهر الظّلمة واستبدادهم، فيما يتعلق بأنفسهم‏ وأموالهم وأعراضهم، فأباحت لهم أن يتحدثوا عن ظلامتهم وإن كان ذلك لونا من ألوان الجهر بالسوء، لأن النهي كان لمصلحة الإنسان، حتى في احترام أسراره السيّئة، فإذا كان الإخفاء ضد مصلحته، فإن الرخصة تكون منسجمة مع خط الإسلام في التشريع، وهذا ما نواجهه في موقف المظلوم من الظالم؛ فمن حقّه أن يتنفّس ويعبّر عن مشكلته، بالشكوى الذاتية التي ترفع عن صدره ثقل الأزمة، أو بالشكوى لمن يستطيع أن يحل له مشكلته وينصفه من ظالمة، لأن ذلك هو السبيل لمحاربة الظلم والظالمين، فقد يرتدعون عن ذلك إذا علموا أن الناس سوف يتحدثون عنهم بطريقة قاسية، مما يسبب لهم المقت والعداوة والإذلال.

5. وقد جاءت السنة الشريفة لتؤكد على ذلك ولتضيف إليه موارد كثيرة، مما يجوز فيه للمؤمن أن يذكر المؤمن الآخر بالسوء من خلال بعض المصالح العامة التي تمسّ الفرد والمجتمع، في المستوى الكبير في الأهمية التي تتصاغر عندها المفسدة الناشئة من ذكر الإنسان بسوء، فإن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، وبذلك تختلف في حال التزاحم بينها، تبعا لاختلاف درجة الأهمية في المصالح والمفاسد.

6. ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾، يسمع كل أقوالنا ويعلم كل دوافعها من خير أو شرّ.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/524.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تبيّن الآية الكريمة أنّ الله لا يحبّ التجاهر بالكلام البذيء ولا يرضى بما يصدر من كلام عن عيوب الناس وفضائح أعمالهم.

﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾، إن عدم الرضى من نشر فضائح أعمال الناس، نابع من حقيقة أنّ الله هو ستار العيوب، فلا يجب أن يقوم عباده بكشف سيئات الآخرين من أمثالهم أو الإساءة إلى سمعتهم، وممّا لا يخفى على أحد هو أنّ لكل إنسان نقاط ضعف خفية، ولو انكشفت هذه العيوب لساد المجتمع جو من سوء الظن بين أفراده، فيصعب عندئذ قيام التعاون بين هؤلاء الأفراد، لذلك منع الإسلام وحرّم التحدث عن نقائص أو فضائح أعمال الآخرين دون وجود هدف سليم، لتبقى الأواصر الاجتماعية قوية مستحكمة، ورعاية للجوانب الإنسانية الأخرى في هذا المجال.

2. كلمة (سوء) تشمل كل أنواع القبح والفضيحة، والمقصود من عبارة (الجهر.. من القول) هو كل حالة من الكشف والفضح اللفظي، سواء كان بصورة شكوى، أو على شكل حكاية أو لعن أو ذم أو غيبة.

3. استدلّ بهذه الآية ـ أيضا على تحريم الغيبة، إلّا أن مفهومها لا ينحصر بهذه الصفة الأخيرة، بل يشمل كل أنواع الكلام البذيء والمذموم.

4. إلّا أنّ الآية الكريمة لم تحرم القول بالسوء تحريما مطلقا، فقد استثنت حالة يمكن فيها أن يصار إلى الكشف والفضح، وهذه الحالة هي إذا وقع الإنسان مظلوما حين قالت الآية: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ وبهذا الدليل يستطيع المظلوم ـ في مقام الدفاع عن نفسه ـ أن يكشف فضائح الظالم، سواء عن طريق الشكوى أو فضح مساوئ الظالم أو توجيه النقد له، أو استغابته، ولا يسكت على الظلم حتى استعادة حقوقه من الظالم.

5. وحقيقة هذا الاستثناء هي أنّ الله أراد به أن يسلب من الظالمين فرصة إساءة استغلال حكم المنع والتحريم، ولكي لا يكون هذا الحكم سببا في سكوت المظلوم عن المطالبة بحقه من الظالم.

6. واضح من الآية بأنّ عملية الكشف والفضح يجب أن تنحصر في إطار بيان مساوئ الظالم لدى الدفاع عن المظلومين أو لدى دفاع المظلوم عن نفسه.

7. ولكي تسد الآية الطريق على كل انتهازي كاذب يريد إساءة استغلال هذا الحكم بدعوى وقوع الظلم عليه أكّدت على أنّ الله يراقب أعمال البشر ويعلم ويسمع بكل ما يصدر عنهم من أفعال حيث تقول الآية: ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/509.

130. إبداء الخير وإخفاؤه والعفو

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈130⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: 149]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: أخبر الله عباده بحلمه، وعفوه، وكرمه، وسعة رحمته، ومغفرته، فمن أذنب ذنبا صغيرا أو كبيرا ثم استغفر الله يجد الله غفورا رحيما، ولو كانت ذنوبه أعظم من السماوات والأرض والجبال(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠١.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾، من اليقين، والشك(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠١.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾، أي: عن ظلم(1).

__________

(1) عزاه الحافظ في الفتح ٥/١٠٠ إلى ابن جرير.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ثم أخبر أن العفو والتجاوز خير عند الله من الانتصار، فقال سبحانه: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا﴾ يعني: تعلنوه، ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ يعني: تسروه، ﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ فعل بك ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ يقول: فإن الله أقدر على عفو ذنوبك منك على العفو عن صاحبك(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٨.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ يحتمل أن العفو والتجاوز خير عند الله من الانتصار؛ فيحتمل هذا وجهين:

أ. يحتمل: أن يكون على الترغيب: رغبهم عز وجل بالعفو عن السوء والمظلمة، فكما أنه يعفو عن خلقه، ويتجاوز عنهم مع قدرته على الانتقام ـ فاعفوا أنتم عن ظالمكم أيضًا، وإن أنتم قدرتم على الانتصار والانتقام منهم، فيكون لكم بذلك عند الله الثواب.

ب. ويحتمل: أن يأمرهم بالعفو عن مظالمهم؛ ليعفو عز وجل عن مظالمهم التي فيما بينهم وبين ربهم؛ وعلى ذلك يخرج قوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ فإن الله عز وجل أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو صاحبكم المسيء إليكم.

ج. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الله أجدر وأحرى أن يعفو عنك إذا عفوت عن أخيك في الدنيا، وهو على ذلك أقدر.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٠٥.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾ يعني خيراً بدلاً من السوء أو تخفوا السوء أن لا تبدوا خيراً عفواً عن السوء كان أولى وإن كان غير العفو مباحاً.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/199.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال الله تعالى بعد أن أباح بالسوء من القول لمن كان مظلوماً: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ يعني خيراً بدلاً من السوء، أو تخفوا السوء، وإن لم تبدوا خيراً اعفوا عن السوء، كان أولى وأزكى، وإن كان غير العفو مباحاً.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٤٠.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا خطاب لجميع المكلفين، يقول الله لهم: ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾ بمعنى أن تظهروا (خيراً) أي حسناً جميلا من القول لمن أحسن إليكم شكراً على إنعامه عليكم، أو تخفوه أي تتركوا إظهاره، فلا تبعدوه، ﴿أو تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ معناه أو تصفحوا عمن أساء إليكم عن إساءته، فلا تجهروا له بالسوء من القول الذي أذنت لكن أن تظهروه، وتجهروا به‏.

2. ﴿فإن اللهَ كَانَ عَفُوًّا﴾ يعني لم يزل كان صفوحا عن خلقه يصفح لهم عن معاصيه (قديراً) يعني قادراً على الانتقام منهم، وإنما أراد بذلك انه مع صفحه قادراً على الانتقام، ليكون أعظم للمدح ليحث بذلك الخلق على العفو عمن أساء اليهم، إذا قدروا على انتقام منهم، والمكافات لهم، ولا يجهروا له بالسوء من القول مع القدرة عليه، ويتأدبوا في ذلك بأدب الله تعالى، وروى عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ان الله عفو يحب العفو)

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/373.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عَفُوٌّ: فعول من العفو، وهو اسم لمن يدوم منه الفعل، كقولهم: رجل أكول وقتول.

2. قيل: نزل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾ في اليهود آمنوا بموسى وعزير، وكفروا بعيسى ومحمد، وفي النصارى آمنوا بعيسى، وكفروا بمحمد.

3. لما تقدم ذكر النفاق عقبه بأنه يعلم الجهر وما يخفى، وقرن إليه ذكر أحوال اليهود والمؤمنين، فقال تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾:

أ. ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾ تظهروا ﴿خَيْرًا﴾ طاعة ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ فلا تظهروها..

ب. قيل: إبداؤها فعلها وإخفاؤها العزم عليها واعتقادها.

ج. وقيل: الخير المال، يعني إن تظهروا صدقة أو تخفوها.

4. ﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ أي: تصفحوا عمن أساء إليكم مع القدرة على الانتقام ولا تجاوزونه ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ قادرًا على فعل ذلك عنكم، ويغفر سيئاتكم.

5. تدل الآية الكريمة على أن الخصال المذكورة في الآيات من القُرَب، لذلك رغب فيها ومدح عليها.

6. ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾ كسر ﴿إنْ﴾ في الجواب بالفاء؛ لأنه موضع استئناف من قِبَلِ أن الفاء دخلت في الجواب وصلة إلى استئناف الجملة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/134.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. خاطب سبحانه جميع المكلفين فقال: ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾ أي تظهروا ﴿خَيْرًا﴾ أي: حسنا جميلا من القول، لمن أحسن إليكم، شكرا على إنعامه عليكم.

2. ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾:

أ. أي: تتركوا إظهاره.

ب. وقيل: معناه إن تفعلوا خيرا، أو تعزموا عليه.

ج. وقيل: يريد بالخير المال، أي: تظهروا صدقة، أو تخفوها.

3. ﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ معناه: أو تصفحوا عمن أساء إليكم، مع القدرة على الانتقام منه، فلا تجهروا له بالسوء من القول الذي أذنت لكم في أن تجهروا به.

4. ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا﴾ أي: صفوحا عن خلقه، يصفح لهم عن معاصيهم ﴿قَدِيرًا﴾ أي: قادرا على الانتقام منهم.

5. وهذا حث منه سبحانه لخلقه على العفو عن المسئ، مع القدرة على الانتقام والمكافأة، فإنه تعالى مع كمال قدرته، يعفو عنهم ذنوبا أكثر من ذنب من يسئ إليهم.

6. وقد تضمنت الآية التي قبلها إباحة الانتصاف من الظالم، بشرط أن يقف فيه على حد الظلم، وموجب الشرع.

7. الوجه في اتصال هذه الآية بما قبلها: إنه لما سبق ذكر أهل النفاق، وهو الإظهار خلاف الإبطان، بين سبحانه أنه ليس كلما يقع في النفس، يجوز إظهاره، فإنه ربما يكون ظنا، فإذا تحقق ذلك جاز إظهاره عن علي بن عيسى.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/201.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا﴾:

أ. قال ابن عباس: يريد من أعمال البرّ كالصّيام والصّدقة.

ب. وقال بعضهم: إن تبدوا خيرا بدلا من السوء.

2. أكثرهم على أن (الهاء) في‏ ﴿تُخْفُوهُ﴾ تعود إلى الخير، وقال بعضهم: تعود إلى السوء.

3. ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا﴾ قال أبو سليمان: أي: لم يزل ذا عفو مع قدرته، فاعفوا أنتم مع القدرة.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/493.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معاقد الخيرات على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق، وخلق مع الخلق، والذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين إيصال نفع إليهم ودفع ضرر عنهم:

أ. فقوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾ إشارة إلى إيصال النفع إليهم.

ب. وقوله: ﴿أَوْ تَعْفُوا﴾ إشارة إلى دفع الضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر.

2. في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ وجوه:

أ. الأول: أنه تعالى يعفو عن الجانبين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى وهو قول الحسن.

ب. الثاني: إن الله كان عفوا لمن عفا، قديرا على إيصال الثواب إليه.

ج. الثالث: قال الكلبي: إن الله تعالى أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/255.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أتبع هذا بقوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ فندب إلى العفو ورغب فيه، والعفو من صفة الله تعالى مع القدرة على الانتقام.

2. تقدم في آل عمران فضل العافين عن الناس، ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها، وقيل: إن عفوت فإن الله يعفو عنك، روى ابن المبارك قال حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جئت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودي ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا، يصدق هذا الحديث قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ [الشورى] ‌‌

__________

(1) تفسير القرطبي: 6/4.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء ندب إلى ما هو الأولى والأفضل فقال: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ تصابون به ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا﴾ عن عباده ﴿قَدِيرًا﴾ على الانتقام منهم بما كسبت أيديهم، فاقتدوا به سبحانه، فإنه يعفو مع القدرة.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/613.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قابل قوله: ﴿سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ بهذا وبقوله: ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ عن الناس، أو تعزموا عليه، وكلٌّ من الإبداء والإخفاء تمهيدٌ لقوله: ﴿أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ﴾ صادر إليكم من غيركم، المقصود بالذَّات ذكر العفو لمناسبته لقوله: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ﴾ والجواب محذوف، تقديره: يجازكم، أو يثبكم على ذلك، أو فذلكم أولى لكم.

2. ﴿فَإِنَّ﴾ لأنَّ ﴿اللهَ كَانَ عَفُوًّا﴾ كثير العفو وعظيمه عن العصاة إذا تابوا، وهو صفة مبالغة كصبور وغضوب، ﴿قَدِيرًا﴾ عظيم القدرة على الانتقام والثواب، وقيل: عفوٌّ عمَّن عفا، قدير على إيصال الخير إليه.

3. الآية حثٌّ على العفو في القدرة بعد إباحة الانتقام، وتعليم لنا أن نقتدي به إذ عفا مع أنَّه قادر، كقوله تعالى: ﴿فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَـتْلِ﴾ [الإسراء: 33]، وقوله تعالى: ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: 126]، والمراد بإبداء الخير غير العفو عن السوء، أو أراد ما يعمُّه؛ فذكره تخصيص بعد تعميم لمزيَّته وفضله.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/331.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم حث سبحانه على العفو بعد ما جوّز الجهر بالسوء وجعله محبوبا، حثّا على الأحب إليه والأفضل عنده، وإلا دخل في الكرم والتخشع والعبودية، فقال سبحانه: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا﴾ أي: طاعة وبرّا ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ أي: تعملوه سرّا ﴿أَوْ تَعْفُوا﴾ أي: تتجاوزوا ﴿عَنْ سُوءٍ﴾ أي: ظلم‏ ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ أي: يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله بالعفو مع القدرة.

2. فثمرة هذه الآية الحث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء، وإن كان على وجه الانتصار، حملا على مكارم الأخلاق، وإنما كان المقصود العفو لأن ما قبلها في ذكر السوء والجهر به، فمقتضى السياق: لا يحب الله الجهر بالسوء إلا من ظلم، فإن عفا المظلوم عنه، ولم يدع على ظالمه ويتظلم منه، فإن الله عفوّ قدير، وإنما ذكر قبله إبداء الخير وإخفاءه توطئة للعفو عن السوء، لأنه يعلم من مدح حالي الخير: السر والعلانية، أن السوء ليس كذلك جهرا وإخفاء، فينبغي العفو عنه وتركه.

3. إنما عطف‏ (العفو) بـ (أو) مع دخوله في الخير بقسميه، للاعتداد به، والتنبيه على منزلته، وكونه من الخير بمكان مرتفع، وليس المراد أنه حينئذ هو المقصود وأنه من قبيل: ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: 98]، لأن مثله يعطف بالواو لا بـ (أو) ولذا حمل الخير على الطاعة والبر مما هو عبادة وقربة فعلية، لتغاير العفو، فالمراد بالتوطئة ذكر ما هو مناسب وقدم عليه، كذا في (العناية)

4. قال ابن كثير: ورد في الأثر: أن حملة العرش يسبحون الله، فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك، ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك، وفي الحديث الصحيح‏: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا يعفو إلا عزّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.

5. وقال الرازيّ: اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق وخلق مع الخلق والذي يتعلق مع الخلق محصور في قسمين: إيصال نفع إليهم، ودفع ضرر عنهم، فقوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾ إشارة إلى إيصال النفع إليهم، وقوله: ﴿أَوْ تَعْفُوا﴾ إشارة إلى دفع الضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/387.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ لما بين تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول بغير عذر الظلم، بين تعالى حكم إبداء الخير وإخفائه سواء كان قولا أو عملا وحكم العفو عن السوء وعدم مؤاخذة فاعله به، وهو أن فاعلي الخيرات جهرا أو سرا والعافين عن الناس الذين يسيئون إليهم يجزيهم سبحانه وتعالى من جنس عملهم، فيعفو عن سيئاته ويجزل مثوبتهم، وكان شأنه العفو وهو القدير الذي لا يعجزه الثواب الكثير على العمل القليل، وإذا عفا فإنما يعفو عن قدرة كاملة على العقاب.

2. فصيغة المبالغة من القدرة وهي كلمة ﴿قَدِيرًا﴾ هي التي تدل على إجزال المثوبة وعلى الترغيب في العفو مع القدرة على المؤاخذة، وإلا كان وضعها في هذا الموضع غير متفق مع بلاغة القرآن، وإذا قال ملك أو أمير لبعض عبيده أو رجال دولته: إن تعمل كذا من الأعمال المرضية فإن عندي مالا كثيرا، أو بيدي أعلى الأوسمة والرتب، فإن أحدا لا يفهم من هذا القول أنه يريد أن يجزيه على ذلك بدريهمات يرضخ بها له، أو رتبة واطئة يوجهها إليه، أو وسام من الدرجة الدنيا يحليه به، بل يفهم من يعرف اللغة أن هذا الجزاء يكون عظيما، وإنما ذهبنا إلى أن كلمة ﴿قَدِيرًا﴾ قد أفادت بوضعها هنا الدلالة على عظم الجزاء على العمل الذي رغبت فيه الآية، وعلى استحباب العفو مع القدرة، ولم نقصرها على الأمر الثاني وحده كما فعل بعضهم لأن الأصل في الوعد بالجزاء أن يكون في كل آية أو سياق على جميع ما ذكر فيها من الأعمال وفي هذه الآية ذكر إبداء الخير وإخفائه والعفو عن المسيء فلا يصح أن يكون الوعد خاصا بالأخير منها.

3. الأصل في الشر أن لا يفعل قولا كان أم عملا إلا لضرورة كالجهر بالسوء ممن ظلم للاستعانة على إزالة الظلم، والأصل في الخير أن يفعل قولا كان أم عملا، وأما المفاضلة بين إبداء الخير وإخفائه فهي تختلف باختلاف العاملين والباعث على العمل وأثر الإبداء والإخفاء له، فمن كان كامل الإيمان عالي الأخلاق لا يخاف على نفسه الرياء لا فرق عنده بين إبداء الخير وإخفائه من جهة نفسه فهو يرجح أحد الأمرين على الآخر بنية صالحة، أو منفعة بينة، ومن ليس كذلك ينبغي أن يرجح الإخفاء حتى لا يكون له هوى فيه، ومن بواعث الإبداء قصد القدوة، ومن بواعث الإخفاء قصد الستر وحفظ كرامة من يوجه إليه الخير كالصدقة على الفقراء المتعففين.

__________

(1) تفسير المنار: ‏6/6.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ أي إن فاعلى الخير سرا وجهرا والعافين عمن يسى‏ء إليهم يجزيهم ربهم من جنس ما عملوا، فيعفو عن سيئاتهم ويجزل مثوبتهم، والله من شأنه العفو وهو القدير الذي لا يعجزه الثواب الكثير على العمل القليل.

__________

(1) تفسير المراغي ‏6/6.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ)في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لا يقف السياق القرآني عند الحد السلبي في النهي عن الجهر بالسوء؛ إنما يوجه إلى الخير الإيجابي عامة؛ ويوجه إلى العفو عن السوء؛ ويلوح بصفة الله سبحانه في العفو وهو قادر على الأخذ، ليتخلق المؤمنون‏ بأخلاق الله سبحانه فيما يملكون وما يستطيعون: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)﴾..

2. وهكذا يرتفع المنهج التربوي بالنفس المؤمنة والجماعة المسلمة درجة أخرى.. في أول درجة يحدثهم عن كراهة الله سبحانه للجهر بالسوء، ويرخص لمن وقع عليه الظلم أن ينتصف أو يطلب النصف، بالجهر بالسوء فيمن ظلمه، ومما وقع عليه من الظلم.. وفي الدرجة الثانية: يرتفع بهم جميعا إلى فعل الخير؛ ويرتفع بالنفس التي ظلمت ـ وهي تملك أن تنتصف من الظلم بالجهر ـ أن تعفو وتصفح ـ عن مقدرة فلا عفو بغير مقدرة ـ فترتفع على الرغبة في الانتصاف إلى الرغبة في السماحة؛ وهي أرفع وأصفى..

3. عندئذ يشيع الخير في المجتمع المسلم إذا أبدوه، ويؤدي دوره في تربية النفوس وتزكيتها إذا أخفوه ـ فالخير طيب في السر طيب في العلن ـ وعندئذ يشيع العفو بين الناس، فلا يكون للجهر بالسوء مجال، على أن يكون عفو القادر الذي يصدر عن سماحة النفس لا عن مذلة العجز؛ وعلى أن يكون تخلقا بأخلاق الله، الذي يقدر ويعفو: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2، ص: 797.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ ـ تفرقة بين الخير والشر ـ وأن الخير هو الخير، على أي وجه جاء عليه.. سرّا أو جهرا، أبداه فاعله أو أخفاه.. ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 271]

1. في عطف قوله تعالى: ﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ على ما قبله، من فعل الخير ـ إشارة إلى أن العفو عن سيئات المسيئين هو من باب الخير، يجزى الله عليه كما يجزى على الإحسان.

2. ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ هو دعوة إلى التسامح والعفو عمن أساء واعتدى.. فذلك هو الذي يخمد نار الفتن، ويقتلع جذور العداوة والشحناء بين الناس.. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [البقرة: 237] ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشورى: 43] فالله سبحانه وتعالى مع قدرته على أخذ المسيئين بإساءاتهم.. يعفو، ويحلم، ويغفر..

3. هذا وليس تسلط العفو والمغفرة في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ على العفو عن السوء في قوله سبحانه: ﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ ـ ليس في هذا ما يحجز فعل الخير في قوله سبحانه: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾ ـ عن نصيبه من عائد عفو الله وقدرته.. فإن عفوه سبحانه يعود إلى أهل الخير فيجاوز عن سيئاتهم، ويغفر لهم من ذنوبهم، جزاء ما فعلوا من خير في سر أو جهر.. وقدرة الله لا يعجزها شيء فهو سبحانه قادر على أن يبدل سيئات المسيئين حسنات، إذا هم أحسنوا، وكانوا مؤمنين.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/956.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن نهى الله تعالى ورخّص، ندب المرخّص لهم إلى العفو وقول الخير، فقال: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾، فإبداء الخير إظهاره.

2. عطف عليه‏ ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ لزيادة الترغيب أن لا يظنّوا أنّ الثواب على إبداء الخير خاصّة، كقوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 271]، والعفو عن السوء بالصفح وترك المجازاة، فهو أمر عدميّ.

3. جملة ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ دليل جواب الشرط، وهو علّة له، وتقدير الجواب: يعف عنكم عند القدرة عليكم، كما أنّكم فعلتم الخير جهرا وخفية وعفوتم عند المقدرة على الأخذ بحقّكم، لأنّ المأذون فيه شرعا يعتبر مقدورا للمأذون، فجواب الشرط وعد بالمغفرة لهم في بعض ما يقترفونه جزاء عن فعل الخير وعن العفو عمّن اقترف ذنبا؛ فذكر ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾ تكملة لما اقتضاه قوله: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ استكمالا لموجبات العفو عن السيّئات، كما أفصح عنه‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وأتبع السيّئة الحسنة تمحها)

4. هذا ما أراه في معنى الجواب، وقال المفسّرون: جملة الجزاء تحريض على العفو ببيان أنّ فيه تخلّفا بالكمال، لأنّ صفات الله غاية الكمالات، والتقدير: إن تبدو خيرا إلخ تكونوا متخلّقين بصفات الله، فإنّ الله كان عفوّا قديرا، وهذا التقدير لا يناسب إلّا قوله: ﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ ولا يناسب قوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾ إلّا إذا خصّص ذلك بإبداء الخير لمن ظلمهم، وإخفائه عمّن ظلمهم، وفي الحديث‏ (أن تعفو عمّن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك)

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/296.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكر سبحانه وتعالى ما لا يحبه من الجهر بالسوء وأشار إلى الترخيص بالنطق به لدفع الظلم أو للقضاء على منكر من الأفعال أو زور من الأقوال، بين سبحانه وتعالى ما يحبه من الخير الإيجابي والخير السلبى ويكون بالعفو.

2. فمعنى قوله تعالى:‏ ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا﴾ أن الله سبحانه وتعالى يحب الخير في كل صوره، والخير هو عمل البر، والنفع الإنساني العام، فإن عملتموه فإنكم تعملون ما يحبه الله، فإن تبدوه وتظهروه وتعلنوه، أو تخفوه وتكتموه، فهو مقبول مجزى عليه في كلتا حاليه، فإن أظهرتموه للدعوة إليه، فإلى الخير تدعون، وأن أخفيتموه اتقاء لله ومنع للرياء، سترا على ما تعطون فنعما تفعلون.

3. هذا فعل الخير الإيجابي وفعل الخير السلبى هو العفو عن الإساءة، والصفح الجميل عن الناس، فإن ذلك مما يحبه تعالى، ولقد روى أحمد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (ما نقص مال من صدقة، وما زاد عبد بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه‏ الله) وقال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف‏]

4. ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ موقعها من المعنى أنها تعليل لكلام مطوي تدل عليه إذ المؤدى: وما تفعلوا من خير وتبدوه أو تخفوه أو تعفوا عمن يسى‏ء إليكم، فإنكم تقربون إلى الله تعالى، ويحبكم الله لأنه سبحانه عفو دائما وقدير على أخذ المسيء بإساءته، فتخلقوا بصفات الله تعالى، وله سبحانه المثل الأعلى.

5. سؤال وإشكال: الآية الكريمة تفيد أن إبداء الخير محبوب، فهل يدخل في هذا الرياء؟ والجواب: إن الفعل النافع إذا قصد به الرياء لا يكون خيرا، بل يكون شركا، فلا يدخل تحت عنوان إبداء الخير؛ لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك) فهذا فعل خارج عن نطاق الخير، فلا يلتفت إليه، إذ لا يدخل في عمومه.

6. العفو عن الأمر السيئ إنما يكون في حال ما إذا كانت الإساءة تمس شخص من يعفو، وهو بهذا بذل حقا خالصا له؛ أما إذا كان الأمر السيئ يتعلق بنظام في الإسلام، فلا يصح أن يترك، بل لا بد أن يقاوم، ولا يقال لتاركه إنه عفا، بل يقال عنه إنه قصر وترك الواجب.

7. الإسلام دعا إلى الصفح الجميل، فقال الله لنبيه: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر] وهو الصفح من غير من، ولله تعالى ولرسوله المن والفضل.

8. الآية جمعت مكارم الأخلاق، وقد قال في معناها فخر الدين الرازي (اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق، وخلق مع الخلق، والذى يتعلق بالخلق محصور في قسمين: إيصال نفع إليهم، ودفع ضرر عنهم، فقوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾ إشارة إلى إيصال النفع إليهم، وقوله تعالى: ﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ إشارة إلى دفع الضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير، وأعمال البر).. اللهم اهدنا لنفع الناس، وجنبنا ضرهم، واعف عنا فيما كان منا، واغفر لنا وارحمنا إنك غفور رحيم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1935.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾، هذا ترغيب في الخير سرا وعلانية، ﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾، أجل، يحسن العفو عن المسيء ولكن حين يكون العفو عنه خيرا له، ولا ضرر فيه على المجتمع، أما إذا كان وسيلة إلى تشجيع المسيء على الاساءة والى انتشار الفساد فإن العقاب هو المتعين، والا اختل النظام، وساد الأشرار، واستحالت الحياة، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وقال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/486.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ الآية لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنها تشمل إظهار الخير من القول شكرا لنعمة أنعمها منعم على الإنسان، وتشمل العفو عن السوء والظلم فلا يجهر على الظالم بالسوء من القول:

أ. فإبداء الخير إظهاره سواء كان فعلا كإظهار الإنفاق على مستحقه وكذا كل معروف لما فيه من إعلاء كلمة الدين وتشويق الناس إلى المعروف، أو كان قولا كإظهار الشكر على المنعم وذكره بجميل القول لما فيه من حسن التقدير وتشويق أهل النعمة.

ب. وإخفاء الخير منصرفه إخفاء فعل المعروف ليكون أبعد من الرئاء وأقرب إلى الخلوص كما قال: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [البقرة: 271]

ج. والعفو عن السوء هو الستر عليه قولا بأن لا يذكر ظالمة بظلمه، ولا يذهب بماء وجهه عند الناس، ولا يجهر عليه بالسوء من القول، وفعلا بأن لا يواجهه بما يقابل ما أساء به، ولا ينتقم عنه فيما يجوز له ذلك كما قال تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ﴾ [البقرة: 194]

2. ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ سبب أقيم مقام المسبب والتقدير: إن تعفوا عن سوء فقد اتصفتم بصفة من صفات الله الكمالية ـ وهو العفو على قدرة ـ فإن الله ذو عفو على قدرته، فالجزاء جزاء بالنسبة إلى بعض الشروط، وأما إبداء الخير وإخفاؤه أي إيتاؤه على أي حال فهو أيضا من صفاته تعالى بما أنه الله تعالى، ويمكن أن يلوح إليه الكلام.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/125.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ هذا في إظهار الخير ضد الجهر بالسوء وفي إخفاء الخير، وهو يفيد الترخيص في ذلك حيث لا يعلم سبب إثم، وترغيب في العفو بالدلالة على أنه محمود؛ لأن من صفات الله تعالى أنه عفو قدير، فهو يعفو مع القدرة على الانتقام.

2. وفي الآية هذه إشارة إلى أن إبداء الخير وإخفاءه يشملهما العفو من الله؛ ولعل السبب أن إبداء الخير قد يكون فضولاً من القول ليس شكراً لنعمة ولا ذكراً لقدوة، والإخفاء قد يكون تقصيراً في كلام ينبغي أن يقال؛ لأنه شكر نعمة وليس المقصود به كتمانها فيكون غير معفو والمعفو ما لم يتعمد فيه معصية؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب:5] فما كان خطأً وزل فيه صاحبه فهو معفو سواء كان أبدأ أم أخفى. وأما النطق بالعفو عن السوء، فهو داخل في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ قال في (الصحاح): (وعفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه)، وقال الراغب في (المفرادات): (وقولهم في الدعاء: أسألكم العفو والعافية، أي ترك العقوبة، والسلامة)

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/200.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وإذا كان الله لا يريدنا أن نجهر بالسوء من القول؛ فإنه يترك لنا الخيار في الحديث عن الخير، فيما نخفيه ونبديه منه؛ فقد تمس الحاجة إلى الحديث عنه من أجل تشجيع الناس على القيام به، وقد تكون المسألة تفرض الإخفاء وترك الحديث عنه، لعلاقة ذلك بكرامة الإنسان الذي فعل الخير معه، لأن الإعلان عنه يحرجه ويسيء إليه لاعتبارات ذاتية أو اجتماعية، وقد تكون القضية مرتبطة بإخلاص فاعل الخير الذي يجب أن لا يتحدث الناس عن عمله، لأن مثل ذلك يعرّضه لبعض الحالات النفسية المعقدة التي تقوده إلى الرياء ونحوه، فعلينا أن نحترم مشاعره ـ إن كان الفاعل غيرنا ـ وعلينا أن‏ نخلص لعملنا ـ إن كنا نحن الفاعلين ـ وقد تكون القضية منطلقة من مبدأ المحافظة على عمل الخير، لأن الكتمان ينمي حركته ويبعد عنه التحديات الصعبة، وهكذا يختلف الموقف حسب اختلاف المصلحة العليا في ذلك كله.

2. وربما كانت الحالة التي تواجه الإنسان، هي حالة إساءة الآخرين إليه، مما قد يثير في نفسه العقدة تجاه ذلك، فتستيقظ نوازعه الذاتية لتحرك فيه جانب الثأر لنفسه لاسترداد حقه والدفاع عن كرامته، ولكن الله يريد أن يوجهه وجهة أخرى، هي الارتفاع بالمسألة إلى مستوى الروحية الإسلامية التي يواجه بها كل المشاكل مع إهمال كل السلبيات الذاتية ودراسة الظروف الموضوعية المحيطة بهذه المسألة لتظهر بذلك النتائج الإيجابية التي تكمن خلف اختيار الوجه الإيجابي من الحل، ليكون العفو عن الإساءة وتجاوز المسألة بوعي ورحمة وانفتاح، هو الانطلاقة التي تفتح القلب على الجانب الخيّر من الحياة، وتحرك الفكر والشعور في الجانب المشرق من الشخصية الطيبة الواعية، وذلك بتخلّق الإنسان بأخلاق الله في العفو من موقع القدرة، حيث يريد من عباده أن يتخلقوا بها؛ وكان الله عفوا قديرا.

3. وهكذا خططت هاتان الآيتان لحركة المؤمن، فيما يريد أن يتحدث به من أحاديث الخير والشر المتعلقة بالناس، كما وجهت سلوكه للعفو عن التصرفات السيئة التي يقوم بها الآخرون ضده؛ وذلك من موقع الارتفاع إلى المستوى الأعلى من روحية التصرف، وهذا هو الطابع الإسلامي للتربية، فيما يريده للشخصية الإسلامية من تربية سليمة.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/526.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية يشير القرآن الكريم إلى النقطة المواجهة للحكم السابق، حيث يبيح التحدث عن محاسن الأفراد أو كتمانها (على عكس المساوئ التي يجب أن تكتم إلّا في حالة استثنائية) كما تبيح ـ أو بالأحرى تحثّ ـ الفرد على إصدار العفو على من ارتكب السوء بحقّه، لأنّ العفو عند المقدرة من صفات الله العزيز القدير الذي يعفو عن عباده مع امتلاكه القدرة على الانتقام بأي صورة شاء، فتقول الآية في هذا المجال: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾

2. سؤال وإشكال: ألا يعتبر العفو عن الظالم المعتدي تأييدا لظلمه وتشجيعا لنزعة العدوان لديه؟ ألا يؤدي العفو إلى ظهور حالة سلبية من اللامبالاة لدى المظلومين؟ والجواب: أنّ العفو لا صلة له بمسألة تحقيق العدل ومكافحة الظالم، والدليل على ذلك ما نقرؤه في الأحكام الإسلامية من نهي عن ارتكاب الظلم وأمر بعدم الخضوع له، كما في الآية ﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ وقول أمير المؤمنين علي عليه السّلام (كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا)، وقوله: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾ كما نقرأ من جانب آخر الأمر بالعفو والصفح كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ وقوله: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾، من الممكن أن يتبادر إلى ذهن بعض البسطاء أن هناك تناقضا بين هذين الحكمين، ولدى الإمعان فيما ورد في المصادر الإسلامية في هذا المجال، يتّضح أنّ العفو والصفح يجب أن يكون في موضع بحيث لا يساء استغلاله، وإنّ الدعوة إلى مكافحة الظلم وقمع الظالم يكون له مجال آخر.

3. العفو والصفح يكونان لدى تملك القدرة وعند الانتصار على العدو وهزيمته النهائية، أي في حال لا يحتمل فيها حصول أي خطر جديد من جانب العدو، ويكون العفو والصفح عنه سببا لإصلاحه واستقامته ودفعه إلى إعادة النظر في سلوكه، والتاريخ الإسلامي فيه أمثلة كثيرة في هذا المجال، والحديث المشهور القائل‏ (إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه) خير دليل على هذا القول، أمّا في حالة وجود خطر من جانب العدو، واحتمال أن يؤدي العفو عنه إلى تجريه وتماديه أكثر في عدوانه، أو إذا اعتبر العفو استسلاما للظلم وخضوعا أمامه ورضي به، فإنّ الإسلام لا يجيز مطلقا مثل هذا العفو، وكما أنّ أئمّة الإسلام لم ينتخبوا طريق العفو في مثل هذه المجالات.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/510.

131. الكفار والتفريق بين الرسل

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈131⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [النساء: 150 ـ 151]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم وصف الله النفاق وأهله، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾، فجعل الله المؤمن مؤمنا حقا، والكافر كافرا حقا(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠١.

(2) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٢.

جابر:

روي عن جابر بن عبد الله (ت 78 هـ) أنّه قال: أتدري من الكافر؟ إن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٢.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: أولئك أعداء الله اليهود والنصارى؛ آمنت اليهود بالتوراة وموسى، وكفرت بالإنجيل وعيسى، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفرت بالقرآن ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فاتخذوا اليهودية والنصرانية، وهما بدعتان ليستا من الله، وتركوا الإسلام، وهو دين الله الذى بعث به رسله(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٣٦.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ﴾، يقولون: محمد ليس برسول الله، وتقول اليهود: عيسى ليس برسول الله، فقد فرقوا بين الله ورسله، ويقولون: نؤمن ببعض، ونكفر بهؤلاء، فهم يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٣٧.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾: يعني: دينا، يعني: إيمانا ببعض الرسل، وكفرا ببعض الرسل(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ حين كفروا ببعض الرسل، لا ينفعهم إيمان ببعض، ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾ يعني: الهوان(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٨.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ إلى قوله: ﴿بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾، اليهود والنصارى، آمنت اليهود بعزير، وكفرت بعيسى، وآمنت النصارى بعيسى، وكفرت بعزير، وكانوا يؤمنون بالنبي، ويكفرون بالآخر(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾، دينا يدينون به الله(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٣٧.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ﴾ أي: يريدون، أن يفرقوا بين الله ورسله؛ فيكون قوله: ﴿يَكْفُرُونَ بِاللهِ﴾: في الدهرية؛ لأنهم يكفرون بالله، ولا يؤمنون به، ويقولون بقدم العالم، فذلك فيهم، وقوله: ﴿وَرُسُلِهِ﴾ يكون في الذين يؤمنون بِاللهِ ويكفرون بالرسل كلهم.

ب. وقوله عز وجل: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ﴾: في الذين كفروا ببعض الرسل وآمنوا ببعض الرسل، ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض.

2. ثم أخبر عز وجل عنهم جميعًا ـ مع اختلاف مذاهبهم ـ أنهم كفار، وحقق الكفر فيهم بقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ ويحتمل أن يكون فيمن آمن ببعض الرسل وكفر ببعض الرسل؛ فيكون الكفر ببعض الرسل كفرًا بالله، وبجميع رسله، وبجميع كتبه؛ لأن كل واحد من الرسل يدعو الخلق كلهم إلى الإيمان بالله، والإيمان بجميع الرسل والكتب، وإذا كفر بواحد منهم ـ كفر بِاللهِ وبالرسل جميعًا.

3. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ أي: ويتخذون غير ذلك سبيلا؛ على طرح إرادة) أن)، أي: يتخذون بين ذلك، أي: بين إيمان ببعض الرسل، وكفر ببعض الرسل ـ دينًا؛ فذلك لا ينفعهم إذا كفروا ببعض الرسل.

4. قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أُولَئِكَ هو الكافرون الذين حق عليهم الكفر بالله.

ب. الثاني: يكفرون ببعض الرسل؛ أنهم ـ وإن كفروا ببعض الرسل ـ فقد حق عليهم الكفر بالله تعالى؛ لأن الكفر بواحد من الرسل كفر بالله وبالرسل جميعًا.

5. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾، قوله: ﴿مُهِينًا﴾: يهانون فيه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٠٥.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى الآية الإخبار من الله تعالى:‏ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾ ومعناه يجحدون بالله ورسله من اليهود والنصارى‏ ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي‏ يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه وأوحى اليهم ويزعمون انهم كاذبون على الله، وذلك معنى إرادتهم التفريق بين الله ورسله‏.

2. ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ ومعناه أنهم يقولون نصدق بهذا ونكذب بهذا، كما فعلت اليهود صدقوا موسى ومن تقدمه من الأنبياء، وكذبوا عيسى ومحمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم وكما فعلت النصارى صدقت عيسى ومن تقدمه من الأنبياء، وكذبوا محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم.

3. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ يعني يريد المفرقون بين الله ورسله الزاعمون انهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض أن يتخذوا بين قولهم: نؤمن ببعض، ونكفر ببعض سبيلا يعنى طريقاً إلى الضلالة التي أحدثوها، والبدعة التي ابتدعوها يدعون جهال الناس إليه.

4. ثم اخبر عن حالهم فقال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ أي هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وتفريقهم بين الله ورسله هم الكافرون حقاً فاستيقنوا ذلك ولا ترتابوا بدعواهم انهم يقرون بما زعموا انهم فيه مقرون من الكتب والرسل، فإنهم يكذبون في دعواهم هذه، لأنهم لو كانوا صادقين في ذلك، لصدقوا جميع رسل الله، لأنه لا يصح أن يكونوا عارفين بالله ورسوله مع جحودهم، لنبوة بعض الأنبياء على ما يذهب إليه في الموافاة وعند من قال بالإحباط لا يمتنع أن يكونوا عارفين بالله، وبعض رسله فإذا كفروا ببعضهم، انحبط ما معهم من الثواب على ايمانهم وهذا لا يصح على مذهبنا في بطلان الإحباط فالصحيح إذا ما قلناه.

5. ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ معناه أعددنا للكافرين يعني الجاحدين الذين ذكرهم ولغيرهم من اصناف الكفار (عذاباً) في الاخرة (مهيناً) يهينهم ويذلهم مخلدون في ذلك.

6. وقال قتادة والسدي ومجاهد نزلت في اليهود والنصارى وإنما قال إن هؤلاء هم الكافرون حقاً، وإن كان غيرهم أيضاً كافراً حقاً على وجه التأكيد لئلا يظن أنهم ليسوا كفاراً لقولهم: نؤمن ببعض ونكفر ببعض وقيل إنه قال ذلك استعظاماً لكفرهم، كما قال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ وقد يكون مؤمناً حقاً من لم يلحق هذه الخصال بلا خلاف.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/374.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. السبيل: الطريق، والسابلة: المختلفات في الطرق.

2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ﴾ يجحدونه ويجحدون صفاته أو يشكونه، وبرسله فينكرون إرساله كاليهود كفروا بعيسى ومحمد، والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل، وكفروا بمحمد والقرآن، عن الحسن وقتادة والسدي وابن جريج وأبي علي.

3. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ﴾ لأن الإيمان برسله إيمان به؛ حيث أمروا بطاعته، ودُعُوا إلى توحيده، والإيمان به إيمان برسله حيث أمر بطاعتهم، والتفريق بينهما هو تصديق أحدهما وتكذيب الآخر، وقيل: يريدون أن يفرقوا بين آيات الله وكلها سواء.

4. ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ أي: نصدق بعضًا ونكفر بعضًا ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾:

أ. قيل: طريقا ومذهبًا يذهبون إليه.

ب. وقيل: دينًا يدينون الله به، عن ابن جريج.

ج. وقيل: طريقًا غير طريق الحق.

5. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾:

أ. يعني كفرهم في العِظَمِ إذا أضيف إلى كفر سائر الكفار كأنهم مجاز وهَؤُلَاءِ الكفار حقيقة.

ب. وقيل: لما ذكر إيمانهم بالبعض، والكفر بالبعض بَيَّنَ أنهم الكافرون حقًّا إزالة لتوهم أن ذلك الإيمان يزيل عنهم إطلاق اسم الكفر.

6. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ يهانون فيه بأن يفعل بهم ذلك استحقاقًا.

7. تدل الآية الكريمة على أن الكفر فعل العبد؛ لذلك أضافه إليهم، وذمهم عليه، فيبطل قول الْمُجْبِرَة في المخلوق.

8. مسائل لغوية ونحوية:

أ. في خبر ﴿أَنْ﴾ في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾ قولان:

أحدهما: أنه محذوف، كأنه قيل: جمعوا المخازي.. وهو أحسن لوجهين:

● أحدهما: أنه أبلغ؛ لأنه إذا حذف الجواب ذهب الوهم كل مذهب من الغيب، فإذا ذكر اقتصر على المذكور.

● ثانيها: أنه رأس آية، فالأحسن ألَّا يكون الخبر في الآية الأخرى.

الثاني: أولئك هم الكافرون.

ب. في موضع ﴿هُمْ﴾ من الإعراب قولان:

الأول: أنه رفع بالابتداء، وخبره ﴿الْكَافِرُونَ﴾، والجملة خبر ﴿أُولَئِكَ﴾

الثاني: لا موضع له على أنه فصل مؤكد.

ج. الفرق بين ﴿أُولَئِكَ﴾ و﴿أُولَئِكُمْ﴾ أن ﴿أُولَئِكَ﴾ خطاب لواحد وإشارة إلى جماعة، و﴿أُولَئِكُمْ﴾ خطاب لجماعة بالكاف والميم، وإشارة إلى جماعة، كقوله تعالى: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾

د. انتصب حقًا لأنه وقع تأكيدًا للخبر كقوله: زيد أخوك حقًّا، أي: يحق ذلك حقًّا، ولا يجوز أن ينتصب؛ لأنه صفة للمصدر، نحو: قلت حقًا أي: قولاً حقًا؛ لأن الكفر ليس بحق على وجه.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/134.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما قدم سبحانه ذكر المنافقين، عقبه بذكر أهل الكتاب والمؤمنين، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ من اليهود، والنصارى، ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي: يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه، وأوحى إليهم، وذلك معنى إرادتهم التفريق بين الله ورسله.

2. ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ أي: يقولون نصدق بهذا، ونكذب بذاك، كما فعل اليهود، صدقوا بموسى ومن تقدمه من الأنبياء، وكذبوا بعيسى ومحمد، وكما فعلت النصارى، صدقوا عيسى ومن تقدمه من الأنبياء، وكذبوا بمحمد.

3. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ أي: طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها، والبدعة التي ابتدعوها، يدعون جهال الناس إليه.

4. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ أي: هؤلاء الذين أخبرنا عنهم، بأنهم يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض، هم الكافرون حقيقة، فاستيقنوا ذلك، ولا ترتابوا بدعوتهم أنهم يقرون بما زعموا أنهم مقرون به من الكتب والرسل، فإنهم لو كانوا صادقين في ذلك، لصدقوا جميع رسل الله، وإنما قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾، على وجه التأكيد، لئلا يتوهم متوهم أن قولهم: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ﴾ يخرجهم من جنس الكفار، ويلحقهم بالمؤمنين.

5. ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ أي: أعددنا، وهيأنا ﴿لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ يهينهم، ويذلهم.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/202.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ فيهم قولان:

أ. أحدهما: أنهم اليهود، كانوا يؤمنون بموسى، وعزير، والتّوراة، ويكافرون بعيسى، والإنجيل، ومحمّد، والقرآن، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: أنهم اليهود والنّصارى، آمن اليهود بالتّوراة وموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى، وآمن النّصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بمحمّد والقرآن، قاله قتادة.

معنى ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي: يريدون أن يفرّقوا بين الإيمان بالله، والإيمان برسله، ولا يصحّ الإيمان به والتكذيب برسله أو ببعضهم‏.

2. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ أي: بين إيمانهم ببعض الرّسل، وتكذيبهم ببعض‏ ﴿سَبِيلًا﴾ أي: مذهبا يذهبون إليه، وقال ابن جريج: دينا يدينون به.

3. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ ذكر (الحقّ) هاهنا توكيا لكفرهم إزالة لتوهّم من يتوهّم أنّ إيمانهم ببعض الرّسل يزيل عنهم اسم الكفر.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/493.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما تكلم الله تعالى على طريقة المنافقين عاد يتكلم على مذاهب اليهود والنصارى ومناقضاتهم وذكر في آخر هذه السورة من هذا الجنس أنواعا من أباطيلهم أولها: إيمانهم ببعض الأنبياء دون البعض، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ فإن اليهود آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل، والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا بمحمد والقرآن‏ ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله ورسله‏ ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ أي بين الإيمان بالكل وبين الكفر بالكل سبيلا أي واسطة، وهي الإيمان بالبعض دون البعض.

2. في خبر ﴿إِنَّ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه محذوف، كأنه قيل جمعوا المخازي.. وهو أحسن لوجهين:

أحدهما: أنه أبلغ لأنه إذا حذف الجواب ذهب الوهم كل مذهب من العيب، وإذا ذكر بقي مقتصرا على المذكور،

الثاني: أنه رأس الآية، والأحسن أن لا يكون الخبر منفصلا عن المبتدأ.

ب. الثاني: هو قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾

3. إنهم إنما كانوا كافرين حقا لوجهين:

أ. الأول: أن الدليل الذي يدل على نبوّة البعض ليس إلا المعجز، وإذا كان دليلا على النبوّة لزم القطع بأنه حيث حصل حصلت النبوّة فإن جوزنا في بعض المواضع حصول المعجز بدون الصدق تعذر الاستدلال به على الصدق، وحينئذ يلزم الكفر بجميع الأنبياء فثبت أن من لم يقبل نبوّة أحد منهم لزمه الكفر بجميعهم، سؤال وإشكال: هب أنه يلزمهم الكفر بكل الأنبياء، ولكن ليس إذا توجه بعض الإلزامات على الإنسان لزم أن يكون ذلك الإنسان قائلا به، فإلزام الكفر غير، والتزام الكفر غير، والقوم لما لم يلتزموا ذلك فكيف يقضى عليهم بالكفر، والجواب: الإلزام إذا كان خفيا بحيث يحتاج فيه إلى فكر وتأمل كان الأمر فيه كما ذكرتم، أما إذا كان جليا واضحا لم يبق بين الإلزام والالتزام فرق.

ب. الثاني: وهو أن قبول بعض الأنبياء إن كان لأجل الانقياد لطاعة الله تعالى وحكمه وجب قبول الكل، وإن كان لطلب الرياسة كان ذلك في الحقيقة كفرا بكل الأنبياء.

4. في قوله تعالى: ﴿حَقًّا﴾ وجهان:

أ. الأول: أنه انتصب على مثل قولك: زيد أخوك حقا، والتقدير: أخبرتك بهذا المعنى إخبارا حقا،

ب. الثاني: أن يكون التقدير: أولئك هم الكافرون كفرا حقا، طعن الواحدي فيه وقال: الكفر لا يكون حقا بوجه من الوجوه، والجواب أن المراد بهذا الحق الكامل، والمعنى أولئك هم الكافرون كفرا كاملا ثابتا حقا يقينا.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/255.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾ لما ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب، اليهود والنصارى، إذ كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبين أن الكفر به كفر بالكل، لأنه ما من نبي إلا وقد أمر قومه بالإيمان بحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

2. ومعنى ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي بين الإيمان بالله ورسله، فنص سبحانه على أن التفريق بين الله ورسله كفر، وإنما كان كفرا لأن الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا الرسل ردوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أمروا بالتزامها، فكان كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية، وكذلك التفريق بين رسله في الإيمان بهم كفر.

3. ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ وهم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد، وقد تقدم هذا من قولهم في البقرة، ويقولون لعوامهم: لم نجد ذكر محمد في كتبنا.

4. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ أي يتخذوا بين الإيمان والجحد طريقا، أي دينا مبتدعا بين الإسلام واليهودية، وقال: ﴿ذَلِكَ﴾ ولم يقل ذينك، لأن ذلك تقع للاثنين ولو كان ذينك لجاز.

5. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ تأكيد يزيل التوهم في إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض، وأن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله، وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به تعالى، وكفروا بكل رسول مبشر بذلك الرسول، فلذلك صاروا الكافرين حقا.

6. ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ يقوم مقام المفعول الثاني لاعتدنا، أي أعتدنا لجميع أصنافهم ﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾ أي مذلا.

__________

(1) تفسير القرطبي: 6/5.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما فرغ الله تعالى من ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، لأنهم كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان ذلك كالكفر بجميع الرسل والكتب المنزلة، والكفر بذلك كفر بالله.

2. ينبغي حمل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ على أنه استلزم ذلك كفرهم ببعض الكتب والرسل، لا أنهم كفروا بالله ورسله جميعا، فإن أهل الكتاب لم يكفروا بالله ولا بجميع رسله، لكنهم لما كفروا بالبعض كان ذلك كفر بالله وبجميع الرسل.

3. معنى: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ أنهم كفروا بالرسل بسبب كفرهم ببعضهم وآمنوا بالله، فكان ذلك تفريقا بين الله وبين رسله.

4. ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ هم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد، وكذلك النصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد.

5. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)﴾ أي: يتخذوا بين الإيمان والكفر دينا متوسطا بينهما، فالإشارة بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى قوله نؤمن ونكفر.

6. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ أي: الكاملون في الكفر، وقوله: ﴿حَقًّا﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة، أي: حق ذلك حقا، أو هو صفة الكافرين، أي: كفرا حقا.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/614.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من كفر برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من المنافقين وغيرهم، كاليهود والنصارى إذ كفروا ببعض الأنبياء وبعض الكتب، وآمنوا ببعض فقد كفر بالله وبكلِّ رسول، كما قال: ﴿اِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُّفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِه﴾ بأنْ يؤمنوا بالله ويكفروا ببعض رسله وكتبه، وهم اليهود والنصارى.

2. ﴿وَيَقُولُونَ نُومِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ كما كفرت النصارى بالتوراة وموسى، واليهود بعيسى والإنجيل، وكما كفر اليهود والنصارى بسيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن.

3. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَّتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَالِكَ سَبِيلاً﴾ بين الإيمان والكفر ولا واسطة، ومن كفر بنبيء أو كتاب فقد كذب بالأنبياء والكتب كلِّهم.

4. ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ الكاملون في الكفر، فإيمانهم ببعض كلا إيمان، وأَكْمَلُ منهم فيه مَن كَفَرَ بالكلِّ، وأشدُّ منه من كفر بالله تعالى ، ﴿حَقًّا﴾ حقَّ ذلك حقًّا، أو أحقَّ ذلك حقًّا، وهو مصدر، والكافرون كفرا حقًّا، أي: يقينا، فهو وصف، وما من نبيء إِلَّا قد بين لقومه محمَّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم ودينه وكتابه.

5. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ﴾ المذكورين، أو مطلقًا فيدخل المذكورون، ﴿عَذَابًا مُّهِينًا﴾ عذاب إهانة بالنار، لا عذاب تكفير، تكفير ذنوب، ولا عذاب رفع درجات، أو الآية فيمن نفى الله ورسوله، وفيمن آمن بالله ونفى الرُّسل كلَّهم والأنبياء، وهذا تفريق بين الله ورسوله، قيل: وفيمن نفى الله وأثبت غيره، فإِنَّ إيمان النصارى بعيسى على أنَّه ثالث ثلاثة نفيٌ لله تعالى، ولفظ (الَّذِينَ) واقع على المجموع بقصد التفصيل، وبعض يقدِّر: (مَن) أو (الذين) في الجملتين، أي: والذين يريدون، والذين يقولون، وقيل: (يُرِيدُونَ) إلخ تفسير لـ (يَكْفُرُونَ)، وقيل: الواو بمعنى أو التنويعيَّة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/332.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ قال ابن عباس: يعني كعبا وأصحابه‏ ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي في الإيمان‏ ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ﴾ من الرسل‏ ﴿وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ منهم، كما قالوا: نؤمن بموسى والتوراة، ونكفر بما وراء ذلك، وما ذاك إلا كفر بالله تعالى ورسله، وتفريق بين الله تعالى ورسله في الإيمان لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بكل نبيّ يأتي مصدقا لما معهم، ونصره، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل، وبالله تعالى من حيث لا يحتسب، لأنهم لما تساووا في المعجزات والدعوة إلى الحق، والقيام بالخيرات في أنفسهم، كان الكفر بواحد منهم كفرا بالكل، بل وبالله، إذ يعتقدون فيه أنه صدّق الكاذب بخلق المعجزات، كذا في (التبصير) ﴿وَيُرِيدُونَ﴾ أي: بقولهم ذلك‏ ﴿أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ أي بين الإيمان ببعض، والكفر ببعض‏ ﴿سَبِيلًا﴾ دينا يسلكونه، مع أنه لا واسطة بينهما قطعا.

2. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ أي الذين كفروا كفرا ثابتا لا ريب فيه، فلا عبرة بمن ادعوا الإيمان به، لأنه ليس شرعيّا، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله، لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانا منه‏.

3. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ يهانون به، وهو عذاب جهنم، أي: كما استهانوا بمن كفروا به، إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه، وإقبالهم على جمع حطام الدنيا، وإما بكفرهم به، بعد علمهم بنبوته، كما كان يفعله كثير من أحبارهم في عهده صلّى الله عليه وآله وسلّم، حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط الله عليهم الذل الدنيويّ الموصول بالذل الأخرويّ، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله في الدنيا والآخرة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/388.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يبين الله تعالى لنا في هذه الآيات أصلي الإيمان الأولين اللذين يبنى عليهما ما عداهما وكونهما لا يقبل الأول منها بدون الثاني فمن ادعاه فدعواه مردودة، وجزاء الكافر بهما أو بأحدهما، ثم جزاء من أقامهما كما أمر الله أن يقاما.

2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ هذا القول منهم تفسير لتفرقتهم بين الله ورسله أي يؤمنون بالله ولا يؤمنون برسله، وهم فريقان منهم من لا يؤمن بأحد من الرسل لإنكارهم الوحي وزعمهم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أتوا بما أتوا به من الهدى والشرائع من عند أنفسهم، وأكثر كفار هذا العصر من هذا الفريق، ومنهم من يؤمن ببعض الرسل دون بعض، بل يقولون ذلك بأفواههم ويدعونه بألسنتهم ـ كقول اليهود: نؤمن بموسى ونكفر بعيسى ومحمد وإن لم يسموهما رسولين.

3. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ أي طريقا بين الإيمان بالله ورسله بفصل أحدهما عن الآخر.

4. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ هذا هو الخبر الذي حكم الله تعالى به على أولئك المفرقين بينه وبين رسله أي أولئك المفرقون هم الكافرون الكاملون في الكفر الراسخون فيه، وأكد هذا الحكم بالجملة المعرفة الجزئين المشتملة على ضمير الفصل بينهما، وبقوله: ﴿حَقًّا﴾ وأي حق يكون أثبت وأصح مما يحقه الله تعالى حقا؟

5. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ﴾ منهم ومن غيرهم ـ وهذه هي نكتة وضع المظهر موضع الضمير إذ قال: ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ ولم يقل: (لهم) ﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾ أي ذا إهانة تشملهم فيه المذلة والضعة.

6. سبب هذا الحكم الشديد، وما ترتب عليه من الوعيد، هو أن من يؤمن بالله أي بأن للعالم خالقا ولا يؤمن بوحيه له من الشكر سبيلا، لا يعرف كيف يعبده على الوجه الذي يرضيه، ولا كيف يزكي نفسه التزكية التي يستحق بها دار كرامته، ولذلك نرى هؤلاء الكافرين بالرسل ماديين لا تهمهم إلا شهواتهم، وأوسعهم علما وأعلاهم تربية من يراعي في أعماله ما يسمونه الشرف باجتناب ما هو مذموم بين الطبقة التي يعيش فيها أو اجتناب إظهاره فقط، وأما الذين يقولون إنهم يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض كأهل الكتاب فلا يعتد بقولهم ولا يعد ما هم عليه من التعصب لبعضهم وحفظ بعض المأثور عنهم من الأحكام والمواعظ إيمانا صحيحا، وإنما تلك تقاليد اعتادوها، وعصبية جنسية أو سياسية جروا عليها، وإنما الإيمان بالرسالة والمراد منها وصفات الرسل ووظائفهم وتأثير هدايتهم، ومن فهم هذا لا يمكن أن يؤمن بموسى وعيسى ويكفر بمحمد عليهم الصلاة والسلام، فإن صفات الرسالة قد ظهرت في محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بأكمل مما ظهرت في غيره، والهداية به كانت أكبر من الهداية بمن قبله، وحجته كانت أنهض، وطرق العلم بها أقوى، والشبهة عليها أضعف، فقد نشأ موسى عليه السلام في بيت الملك، ومهد الشرائع والعلم، ونشأ عيسى عليه السلام في أمة ذات شريعة ودولة ذات علم ومدنية، وبلاد انتشرت فيها كتب الآداب والحكمة، فلا يظهر البرهان على كون ما جاء به كل منهما وحيا إليها لا كسب له فيه كما يظهر البرهان على ما جاء به محمد وهو أمي الذي نشأ بين الأميين، ونقل كتابه وأصول دينه بالتواتر القطعي والأسانيد المتصلة دون دينهما، وأما جعل النصارى نبيهم إلها في الشكل الذي أظهره فيه الملك قسطنطين الوثني وخلفه من الرومانيين فذلك طور آخر لم يعرفه المسيح وحواريه عليه السلام، وتشكيل لدينهم بشكل من أشكال وثنيتهم السابقة مؤلف من تقاليد وثنيي الهند والصين والمصريين والأوربيين وغيرهم كما بين ذلك علماء أوروبة الأحرار.

__________

(1) تفسير المنار: ‏6/8.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين سبحانه في هذه الآيات أن للإيمان ركنين يبنى عليهما ما عداهما، ولا يقبل الإيمان بدونهما، وهما الإيمان به وبجميع رسله بدون تفرقة بين رسول وآخر، ومن أنكرهما أو أحدهما فقد كفر وعاقبته العذاب الأليم في جهنم وبئس القرار.

2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ ليس المراد أنهم يصرحون بالكفر بل هو ما تقتضيه آراؤهم ومذاهبهم، وقوله: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾، بيان لتفريقهم بين الله ورسله.

3. الخلاصة ـ إن الكافرين بالرسل فريقان: فريق لا يؤمن بأحد منهم، لإنكارهم النبوات وزعمهم أن ما أتى به الأنبياء من الهدى والشرائع هو من عند أنفسهم لا من عند الله، وأكثر الملحدين في هذا العصر من ذلك الفريق، وفريق آخر يؤمن ببعض الرسل دون بعض كقول اليهود نؤمن بموسى ونكفر بعيسى ومحمد فهما ليسا برسولين، وقول النصارى نؤمن بموسى وعيسى ونكفر بمحمد، والفريقان كافرون مستحقون للعذاب، ولا عبرة بما يدعونه إيمانا.

4. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ أي وأعددنا لكل كافر سواء أكان منهم‏ أم من غيرهم عذابا فيه ذل وإهانة لهم جزاء كفرهم الذي ظنوا فيه العزة والكرامة، ذاك أن من يؤمن بالله ولا يؤمن بوحيه إلى رسله لا يكون إيمانه صحيحا ولا يهتدى إلى ما يجب له من الشكر ولا يعرف كيف يعبده على الوجه الذي يرضيه، ومن ثم نرى أمثال هؤلاء ماديين لاتهمهم إلا شهواتهم كما أن من يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض كأهل الكتاب لا يعتدّ بقولهم، لأن الإيمان بالرسالة على الوجه الحق إنما يكون بفهمها وفهم صفات الرسل ووظائفهم وتأثير هدايتهم.

5. من فهم هذا حق الفهم علم أن صفات الرسل قد ظهرت بأكملها في محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهو قد جاء بكتاب حوى ما لم يحوه كتاب آخر مع أنه نشأ بين قوم أميين، ونقل كتابه وأصول دينه بالتواتر القطعي والأسانيد المتصلة دون غيره من الكتب.

__________

(1) تفسير المراغي ‏6/7.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ)في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد ذلك يأخذ السياق في جولة مع ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ بصفة عامة! ثم ينتقل منها إلى اليهود في شوط، وإلى النصارى في الشوط الآخر.. واليهود يجهرون بالسوء ـ إفكا وبهتانا ـ على مريم وعلى عيسى ـ ويأتي ذكر هذا الجهر في ثنايا الجولة؛ فترتبط هذه الجولة بذلك البيان الذي تتضمنه الآيتان السابقتان في السياق، والجولة كلها طرف من المعركة التي خاضها القرآن مع أعداء الجماعة المسلمة في المدينة، والتي سلفت منها في هذه السورة وفي سورتي البقرة وآل عمران أطراف أخرى.. فنأخذ في استعراضها هنا كما وردت في السياق القرآني.

2. لقد كان اليهود يدعون الإيمان بأنبيائهم؛ وينكرون رسالة عيسى ورسالة محمد؛ كما كان النصارى يقفون بإيمانهم عند عيسى ـ فضلا عن تأليهه ـ وينكرون رسالة محمد كذلك، وكان القرآن ينكر على هؤلاء وهؤلاء ويقرر التصور الإسلامي الشامل الكامل عن الإيمان بالله ورسوله؛ بدون تفريق بين الله ورسله؛ وبدون تفريق كذلك بين رسله جميعا، وبهذا الشمول كان الإسلام هو (الدين) الذي لا يقبل الله من الناس غيره، لأنه هو الذي يتفق مع وحدانية الله؛ ومقتضيات هذه الوحدانية.

3. إن التوحيد المطلق لله سبحانه يقتضي توحيد دينه الذي أرسل به الرسل للبشر، وتوحيد رسله الذين حملوا هذه الأمانة للناس.. وكل كفر بوحدة الرسل أو وحدة الرسالة هو كفر بوحدانية الله في الحقيقة؛ وسوء تصور لمقتضيات هذه الوحدانية، فدين الله للبشر ومنهجه للناس، هو هولا يتغير في أساسه كما أنه لا يتغير في مصدره.

4. لذلك عبر السياق هنا عمن يريدون التفرقة بين الله ورسله (بأن يؤمنوا بالله ويكفروا بالرسل) وعمن يريدون التفرقة بين الرسل (بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا ببعضهم) عبر عن هؤلاء وهؤلاء بأنهم ﴿الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾، وعد تفرقتهم بين الله ورسله، وتفرقتهم بين بعض رسله وبعض، كفرا بالله وبرسله.

5. إن الإيمان وحدة لا تتجزأ.. الإيمان بالله إيمان بوحدانيته سبحانه ووحدانيته تقتضي وحدة الدين الذي ارتضاه للناس لتقوم حياتهم كلها ـ كوحدة ـ على أساسه، ويقتضي وحدة الرسل الذين جاءوا بهذا الدين من عنده ـ لا من عند أنفسهم ولا في معزل عن إرادته ووحيه ـ ووحدة الموقف تجاههم جميعا.. ولا سبيل إلى تفكيك هذه الوحدة، إلا بالكفر المطلق؛ وإن حسب أهله أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض! وكان جزاؤهم عند الله أن أعد لهم العذاب المهين.. أجمعين.. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2، ص: 798.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مناسبة هاتين الآيتين للآيتين اللتين قبلهما، هو أن هذا الذي يدعو إليه الكافرون، من الكفر بالله ورسله، والتفرقة بين الله ورسله، هو مما يدخل في باب الجهر بالسوء من القول.. وأن قولهم، ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ هو من المنكر من القول، ومن شأن التحدّث به وإذاعته في الناس أن يشيع الفتنة والفساد!

2. وفي تصدير الآية الكريمة بهذا الوصف للذين يقولون: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ ما يشير إلى أن الإيمان كلّ لا يتجزأ.. وأن الكفر ببعض رسل الله هو كفر برسل الله جميعا، وأن الكفر برسل الله هو كفر بالله..

3. وإذن فإن إيمان هؤلاء الذين يؤمنون بالله، مع كفرهم برسله أو ببعض رسله، هو إيمان غير مقبول، لأنه قائم على الشك في الله، إذ لو خلا من هذا الشك، لا نسحب إيمانهم بالله إلى إيمانهم برسل الله، وكتب الله، وبملائكة الله، وبالبعث والجزاء والجنة والنار.. وكل ما أخبر به الرسل من غيبيّات.

4. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ هو إشارة إلى هذا لأسلوب المنافق من أساليب الإيمان.. حيث يأخذون من الإيمان شيئا، ومن الكفر شيئا، والأمر هنا: إنما هو حق أو باطل، وإيمان أو كفر.. ولا ثالث بينهما..

5. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ هو حكم بكفر هؤلاء الذين يلبسون الحق بالباطل، ويجمعون بين الإيمان والكفر.. إنهم على الكفر الصّراح، ولو ستروا كفرهم بهذا الإيمان الزائف..

6. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ هو الجزاء الذي يؤخذ به هؤلاء الكافرون المنافقون.. إنه العذاب المهين، المعدّ لهم يوم الفصل والجزاء.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/957.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عادة القرآن عند التعرّض إلى أحوال من أظهروا النّواء للمسلمين أن ينتقل من صفات المنافقين، أو أهل الكتاب، أو المشركين إلى صفات الآخرين، فالمراد من الذين يكفرون بالله ورسله هنا هم اليهود والنصارى، قاله أهل التفسير، والأظهر أنّ المراد به اليهود خاصّة لأنّهم المختلطون بالمسلمين والمنافقين، وكان كثير من المنافقين يهودا وعبّر عنهم بطريق الموصول دون الاسم لما في الصلة من الإيماء إلى وجه الخير، ومن شناعة صنيعهم ليناسب الإخبار عنهم باسم الإشارة بعد ذلك.

2. جمع الرسل لأنّ اليهود كفروا بعيسى ومحمد ـ عليهما السلام ـ، والنصارى كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجمع الرسل باعتبار مجموع الكفّار، أو أراد بالجمع الاثنين، أو أراد بالإضافة معنى الجنس فاستوى فيه صيغة الإفراد والجمع، لأنّ المقصود ذمّ من هذه صفتهم بدون تعيين فريق، وطريق العرب في مثل هذا أن يعبّروا بصيغة الجموع وإن كان المعرّض به واحدا كقوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ [النساء: 54]، وقوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ [النساء: 37]، وقوله: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ [المائدة: 44] وقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما بال أقوام يشترطون شروطا)

3. جيء بالمضارع هنا للدلالة على أنّ هذا أمر متجدّد فيهم مستمرّ، لأنّهم لو كفروا في الماضي ثم رجعوا لما كانوا أحرياء بالذمّ.

4. معنى كفرهم بالله: أنّهم لمّا آمنوا به ووصفوه بصفات غير صفاته من التجسيم‏ واتّخاذ الصاحبة والولد والحلول ونحو ذلك، فقد آمنوا بالاسم لا بالمسمّى، وهم في الحقيقة كفروا بالمسمّى، كما إذا كان أحد يظنّ أنّه يعرف فلانا فقلت له: صفه لي، فوصفه بغير صفاته، تقول له: (أنت لا تعرفه)؛ على أنّهم لمّا كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد كفروا بما جاء به من توحيد الله وتنزيهه عن مماثلة الحوادث، فقد كفروا بإلهيته الحقّة، إذ منهم من جسّم ومنهم من ثلّث.

5. 6. معنى قوله: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أنّهم يحاولون ذلك فأطلقت الإرادة على المحاولة، وفيه إيذان بأنّه أمر صعب المنال، وأنّهم لم يبلغوا ما أرادوا من ذلك، لأنّهم لم يزالوا يحاولونه، كما دلّ عليه التعبير بالمضارع في قوله: ﴿وَيُرِيدُونَ﴾ ولو بلغوا إليه لقال: وفرّقوا بين الله ورسله.

7. معنى التفريق بين الله ورسله أنّهم ينكرون صدق بعض الرسل الذين أرسلهم الله، ويعترفون بصدق بعض الرسل دون بعض، ويزعمون أنّهم يؤمنون بالله، فقد فرّقوا بين الله ورسله إذ نفوا رسالتهم فأبعدوهم منه، وهذا استعارة تمثيليّة، شبّه الأمر المتخيّل في نفوسهم بما يضمره مريد التفريق بين الأولياء والأحباب، فهي تشبيه هيئة معقولة بهيئة معقولة، والغرض من التشبيه تشويه المشبّه، إذ قد علم الناس أنّ التفرقة بين المتّصلين ذميمة.

8. هذه الآية في معنى الآيات التي تقدّمت في سورة البقرة: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 136]، ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285]، وفي سورة آل عمران‏ ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 84] إلّا أنّ تلك الآيات في التحذير من التفريق بين الرسل، والآية هذه في التحذير من التفريق بين الله وبعض رسله، ومآل الجميع واحد: لأنّ التفريق بين الرسل يستلزم التفريق بين الله وبعض رسله.

9. إضافة الجمع إلى الضمير هنا للعهد لا للعموم بالقرينة، وهي قوله: ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ﴾

10. جملة ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ﴾ واقعة في معنى الاستئناف البياني للتفريق بين الله ورسله، ولكنّها عطفت؛ لأنّها شأن خاصّ من شئونهم، إذ مدلولها قول من أقوالهم الشنيعة، ومدلول‏ ﴿يُرِيدُونَ﴾ هيئة حاصلة من كفرهم، فلذلك حسن العطف باعتبار المغايرة ولو في الجملة، ولو فصلت لكان صحيحا، ومعنى‏ ﴿يَقُولُونَ نُؤْمِنُ﴾ إلخ أنّ اليهود يقولون: نؤمن بالله وبموسى ونكفر بعيسى‏ ومحمد، والنصارى يقولون: نؤمن بالله وبموسى وعيسى ونكفر بمحمد، فآمنوا بالله وبعض رسله ظاهرا وفرّقوا بينه وبين بعض رسله.

11. الإرادة في قوله: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ إرادة حقيقية، والسبيل يحتمل أن يراد به سبيل النجاة من المؤاخذة في الآخرة توهّما أنّ تلك حيلة تحقّق لهم السلامة على تقدير سلامة المؤمنين، أو سبيل التنصّل من الكفر ببعض الرسل، أو سبيلا بين دينين، وهذان الوجهان الأخيران يناسبان انتقالهم من الكفر الظاهر إلى النفاق، فكأنّهما تهيئة للنفاق، وهذا التفسير جار على ظاهر نظم الكلام، وهو أن يكون حرف العطف مشرّكا بين المتعاطفات في حكم المعطوف عليه، وإذ قد كان المعطوف عليه الأول صلة للذين، كان ما عطف عليه صلات لذلك الموصول وكان ذلك الموصول صاحب تلك الصّلات كلّها.

12. نسب إلى بعض المفسّرين أنّه جعل الواوات فيها بمعنى (أو) وجعل الموصول شاملا لفرق من الكفّار تعدّدت أحوال كفرهم على توزيع الصّلات المتعاطفة، فجعل المراد بالذين يكفرون بالله ورسله المشركين، والذين يريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله قوما أثبتوا الخالق وأنكروا النبوءات كلّها، والذين يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض اليهود والنصارى، وسكت عن المراد من قوله: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾، ولو شاء لجعل أولئك فريقا آخر: وهم المنافقون المتردّدون الذين لم يثبتوا على إيمان ولا على كفر، بل كانوا بين الحالين، كما قال تعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [النساء: 143]، والذي دعاه إلى هذا التأويل أنّه لم يجد فريقا جمع هذه الأحوال كلّها على ظاهرها لأنّ اليهود لم يكفروا بالله ورسله، وقد علمت أنّ تأويل الكفر بالله الكفر بالصفات التي يستلزم الكفر بها نفي الإلهية، وهذا الأسلوب نادر الاستعمال في فصيح الكلام، إذ لو أريد ذلك لكان الشأن أن يقال: والذين يريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله والذين يقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: 72]

13. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ الجملة خبر إنّ والإشارة إلى أصحاب تلك الصلة الماضية، وموقع الإشارة هنا لقصد التنبيه على أنّ المشار إليهم لاستحضارهم بتلك‏ الأوصاف أحرياء بما سيحكم عليهم من الحكم المعاقب لاسم الإشارة.

14. أفاد تعريف جزأي الجملة والإتيان بضمير الفصل تأكيد قصر صفة الكفر عليهم، وهو قصر ادّعائي مجازيّ بتنزيل كفر غيرهم في جانب كفرهم منزلة العدم، كقوله تعالى في المنافقين: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ﴾ [المنافقون: 4]، ومثل هذا القصر يدلّ على كمال الموصوف في تلك الصفة المقصورة، ووجه هذه المبالغة: أنّ كفرهم قد اشتمل على أحوال عديدة من الكفر، وعلى سفالة في الخلق، أو سفاهة في الرأي بمجموع ما حكي عنهم من تلك الصلاة، فإنّ كلّ خصلة منها إذا انفردت هي كفر، فكيف بها إذا اجتمعت.

15. ﴿حَقًّا﴾ مصدر مؤكّد لمضمون الجملة التي قبله، أي حقّهم حقّا أيّها السامع بالغين النهاية في الكفر، ونظير هذا قولهم: (جدّا)، والتوكيد في مثل هذا لمضمون الجملة التي قبله على ما أفادته الجملة، وليس هو لرفع المجاز، فهو تأكيد لما أفادته الجملة من الدلالة على معنى النهاية لأنّ القصر مستعمل في ذلك المعنى، ولم يقصد بالتوكيد أن يصير القصر حقيقيّا لظهور أنّ ذلك لا يستقيم، فقول بعض النحاة، في المصدر المؤكّد لمضمون الجملة: إنّه يفيد رفع احتمال المجاز، بناء منهم على الغالب في مفاد التأكيد.

16. ﴿أَعْتَدْنَا﴾ معناه هيّأنا وقدّرنا، والتاء في‏ ﴿أَعْتَدْنَا﴾ بدل من الدال عند كثير من علماء اللغة، وقال كثير منهم: التاء أصلية، وأنّه بناء على حدة هو غير بناء عدّ، وقال بعضهم: إنّ عتد هو الأصل وأنّ عدّ أدغمت منه التاء في الدال، وقد ورد البناءان كثيرا في كلامهم وفي القرآن.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/297.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال المنافقين، وما كانوا يصنعون مع المؤمنين، وذكر سبحانه وتعالى ما تكنه نفوسهم وما هم عليه من تردد وتذبذب، ومع ذلك فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة لهم إن أرادوا أن يسلكوا المنهاج القويم المستقيم، ثم ذكر سبحانه وتعالى أن الجهر بالسوء إلا ممن ظلم لا يجوز، وأن إبداء الخير خير، وإخفاءه خير وأن الله تعالى مجاز به، وجاءت هاتان الآيتان بين ذكر المنافقين، ثم ذكر الكافرين‏ من أهل الكتاب، وكثيرين من المنافقين منهم لبيان أن الجهر بالسوء لغير مصلحة لا يجوز، فإعلان سوء المنافقين كان ممن يظلمون ويتعدى إليهم شرهم، وفى هذه الآيات يبين الله تعالى حال بعض الكافرين وأسباب كفرهم، ومآلهم، وأحوال أهل الإيمان ونتائج إيمانهم.

2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ﴾ الكفر هو الجحود بالحق، والإيمان هو الإذعان له، والسير على مقتضاه، ومن يؤمن بحقيقتين متلازمتين لا تنفصل إحداهما عن الأخرى لا بد أن يكون إيمانه بالحقيقتين معا، فمن كفر بإحداهما، لا يعد مؤمنا بهما لأنه لا يمكن فصل الواحدة عن الثانية، إذ اللازم يقتضى أن يوجدا معا، أو ينتفيا معا، ومن المقررات أن الإيمان بالرسالة الإلهية والإيمان بالله حقيقتان متلازمتان، فلا يمكن أن يتحقق الإيمان بالله من غير الإيمان برسله، ولا يمكن أن يتحقق الإيمان بالرسالة الإلهية إلا على وجه الكمال بأن يذعن لكل رسالة تجى‏ء من الله تعالى، فمن آمن ببعض النبيين وكفر ببعض آخر قامت الأدلة على نبوته لا يعد مؤمنا برسالة الله تعالى ولا يعد مؤمنا بالله تعالى؛ إذ إنه فصل الجزء الذى لا يتحقق إلا في كل، وفصل الإيمان برسالة الله عن الله تعالى.

3. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية صفتين لهم، ونتيجتين باطلتين: أما الوصفان فهما الكفر بالله ورسله، ومحاولتهم أن يفرقوا بين الله ورسله:

أ. والكفر بالله تعالى هو هنا جحود رسالته الإلهية التي يبعث بها إلى خلقه؛ لأن جحود رسالة الرسل أو بعضهم مع قيام الدليل عليها جحود بالله الذى بعث بهذه الرسالة؛ لأن إنكار الرسالة الإلهية لنبي من الأنبياء عصيان لله وجحود به، وكفر بأصل الرسالات ومرسلها، إذ إن الإيمان بالله تعالى يستلزم الإيمان بأنه لم يخلق الناس سدى، والإيمان بعقابه وثوابه وحسابه والإيمان بأنه يرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فمن أنكر رسالة رسول من الرسل فقد كفر بالله وكفر برسله؛ لأن الكفر برسول ينسحب عليه بقية الرسل، إذ إن ما ثبت من تكذيب لرسول، فقد كذب الباقين، فمن كفر بموسى فقد كفر بمحمد وإبراهيم وعيسى، وغيرهم من الرسل.

ب. والوصف الثاني إرادتهم أن يفرقوا بين الله والرسل، بأن يعلنوا إيمانهم بالله خالق السموات والأرض، والإنكار لبعض الرسل، فإن ذلك تفريق بين الله ورسله، إذ إن علاقة الرسل بخالق السموات والأرض واحدة، ومن كفر ببعض الرسل، فإنه يفرق بين الله وأولئك الرسل الذين كفر بهم، فاليهود يفرقون بين الله ورسله؛ لأنهم لا يؤمنون بعيسى ابن مريم، ومحمد بن عبد الله، وهم بذلك يفرقون، وقد فسر بعضهم إرادتهم التفرقة بين الله ورسله أنهم يؤمنون بالله تعالى، وينكرون الرسالة الإلهية، وهو تفسير يحتمله النص، ولكنه بعيد لأن السياق يأباه.

4. أما النتيجتان الباطلتان فهما قولهم نؤمن ببعض ونكفر ببعض، واتخاذهم بذلك سبيلا بين الإنكار المطلق، والإيمان الكامل، وإن ذلك القول متلازم مع الكفر بالله وبرسله إذ إن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان والتصديق بالرسالة الإلهية حق التصديق يستلزم، كما نوهنا الإيمان بكل الرسل؛ لأنهم جميعا أتوا بغاية واحدة، وهي إصلاح الخليقة في ناحية رسالة كل رسول، وحثها على الجادة المستقيمة والإنذار والتبشير، ولا يصح لهذا أن يقال نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض لأن الكفر بالبعض كفر بالكل، إذ هو جحود للغاية من الرسالة، وجحود بذات الرسالة.

5. أما إرادتهم اتخاذ سبيل أي طريق وسط بين الإيمان الكامل بكل الرسل، والكفر الكامل بكل الرسل، فمؤداه أن يكونوا في حال بين الإيمان والكفر، ولا شك أن هذه الحال ليست إيمانا بالله ورسله وليس بعد الإيمان إلا الكفر، فهم داخلون في سلك الكافرين، سواء أكانوا مؤمنين بالبعض أم كافرين بالكل.

6. ولذلك حكم الله تعالى بهذا الحكم الحاسم الفاصل ما بين الكفر والإيمان بقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ التعبير بالإشارة للإفادة إلى أن هؤلاء الذين قالوا ذلك القول، وجحدوا ذلك الجحود بسبب هذه الأقوال وتلك الأحوال كافرون كفرا لا مجال للشك فيه، وقد أكد ـ سبحانه وتعالى الحكم عليهم بالكفر بثلاثة مؤثرات:

أ. أولها: الإتيان بكلمة (هم) الدالة على تأكيد الحكم، وقصرهم على الكفر وإثبات أنهم لا يخرجون عن دائرة الكفار يسارعون فيها ولا ينتقلون منها.

ب. ثانيها: تعريف الطرفين وهم أولئك الجاحدون بالإشارة، والحكم بأنهم الكافرون أكد القول، وأفاد من قبيل المبالغة في تأكيد الوصف بالكفر، كأن الكفر مقصور عليهم لا يخرج عنهم، وهم بذلك أوغل في الكفر من الذين لا يؤمنون بكتاب ولا رسول ولا رسالة؛ إذ هم يسلمون بالأصل ويعرفونه، ويكفرون مع ذلك به، ولا يطبقونه.

ج. ثالثها: التعبير بكلمة ﴿حَقًّا﴾، أي أن كفرهم ثابت قد ثبت وحق حقا، وقد قال الزمخشري في تخريج هذه الكلمة (أى هم الكاملون في الكفر، وحقا تأكيد لمضمون الجملة كقولك هو عبد الله حقا أي حق ذلك حقا وهو كونهم كافرين، أو صفة لمصدر الكافرين، أي هم الذين كفروا كفرا حقا ثابتا يقينا لا شك فيه)

7. سؤال وإشكال: لماذا كان ذلك التوكيد؟ والجواب: أن التوكيد يكون حيث مظنة التردد في عقول الذين قالوا ذلك القول، فقد حسبوا بقولهم وإرادتهم أنهم يرضونه بذلك فبين الله سبحانه أنه لا وسط بين الإيمان الكامل والكفر في شيء وخصوصا أن جحود هؤلاء ببعض الرسل انبعث من حقد دفين، وتفريقهم بين الأجناس، حتى في مقام الرسالة، وقد قال تعالى: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام‏]

8. وإنهم بهذا الكفر يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ إذ إنها كانت في اليهود وأشباههم الذين رفضوا محمدا، لأنه عربي وليس بعبرى، وحيث كان التردد في عقل وجب تأكيد الحق، ليزول التردد، ويتبع التابع عن بينة ويقين.

9. وقد ذكر الله تعالى عقاب هؤلاء، وأمثالهم فقال: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾، والمعنى هيأنا للكافرين الذين يندرجون في جمعهم عذابا مهينا يذيقهم الهوان والذل، كفاء استكبارهم في الدنيا، واعتزازهم بالباطل فيها، ويصح أن يقال إن كلمة (الكافرين) لا تعم كل الكفار، ولكنها تخص الذين ذكروا في الآية السابقة؛ لأن اللفظ إذا أعيد معرفا كان المراد به المذكور أولا، ويكون تخصيصهم بالذكر، لبيان نتيجة ما ارتكبوا وما فرقوا به بين رسله سبحانه.

10. هنا بحث لفظي في لفظ ﴿أَعْتَدْنَا﴾، وهو تعبير قرآني اختص القرآن به؛ لأن اعتد من العتاد، والتخريج اللفظي هيأنا لهم عتادا هو عذاب جهنم، وقد قال في ذلك‏ الأصفهاني في مفرداته: (العتاد ادخار الشيء قبل الحاجة إليه كالإعداد، وقوله تعالى: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ قيل هو أفعلنا، وقيل أصله من أعددنا فأبدل من إحدى الدالين تاء)، وخلاصة المعنى أن هؤلاء الكافرين ادخر لهم عذابا مذلا جزاء استكبارهم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1937.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾، آمن اليهود بموسى والتوراة، وكفروا بعيسى ومحمد، وآمن النصارى بعيسى والإنجيل وكفروا بمحمد والقرآن، وآمن المسلمون بالجميع، لأن الإيمان في نظر الإسلام وحدة لا تتجزأ، ولا سبيل عنده إطلاقا إلى التفكيك والتفريق بين عناصره، وهي الإيمان بالله واليوم الآخر وملائكته وجميع رسله وكتبه، ومن كفر بواحد منها فحكمه يوم القيامة حكم من كفر بالجميع.

2. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾، أي بين الكفر والايمان، مع انه لا واسطة بينهما، حتى المشكك يعد مع الكفار.. وإذا سأل سائل عن حكم الجاهل بنبوة نبي من الأنبياء أحلناه على تفسير الآية 115 من سورة آل عمران، فقرة (حكم تارك الإسلام)

3. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾، وان آمنوا ببعض، لأن الإيمان بالجميع وحدة لا تتجزأ.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/481.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. انعطاف إلى حال أهل الكتاب، وبيان لحقيقة كفرهم، وشرح لعدة من مظالمهم، ومعاصيهم ومفاسد أقوالهم.

2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ هؤلاء أهل الكتاب من اليهود والنصارى فاليهود تؤمن بموسى وتكفر بعيسى ومحمد، والنصارى تؤمن بموسى وعيسى‏ وتكفر بمحمد صلى الله عليهم أجمعين، وهؤلاء على زعمهم لا يكفرون بالله وببعض رسله، وإنما يكفرون ببعض الرسل، وقد أطلق الله عليهم أنهم كافرون بالله ورسله جميعا ولذلك احتيج إلى بيان المراد من إطلاق قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ ولذلك عطف على قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾

3. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ بعطف التفسير ونفس المعطوف أيضا بعضه يفسر بعضه، فهم كافرون بالله ورسله لأنهم بقولهم: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله فيؤمنون بالله وبعض رسله ويكفروا ببعض رسله مع كونه رسولا من الله، والرد عليه رد على الله تعالى.

4. ثم بين ذلك ببيان آخر بالعطف عليه عطف التفسير، فقال: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ أي سبيلا متوسطا بين الإيمان بالله ورسله جميعا، والكفر بالله ورسله جميعا، وهو الإيمان ببعض والكفر ببعض، ولا سبيل إلى الله إلا الإيمان به وبرسله جميعا فإن الرسول بما أنه رسول ليس له من نفسه شيء ولا له من الأمر شيء فالإيمان به إيمان بالله والكفر به كفر بالله محضا.

5. فالكفر بالبعض والإيمان بالبعض وبالله ليس إلا تفرقة بين الله وبين رسله، وإعطاء الاستقلال للرسول فيكون الإيمان به غير مرتبط بالإيمان بالله، والكفر به غير مرتبط بالكفر به فيكون طرفا لا وسطا، وكيف يصح فرض الرسالة ممن لا يرتبط الإيمان به والكفر به بالإيمان بالله والكفر به.

6. فمن البين الذي لا مرية فيه أن الإيمان بمن هذا شأنه والخضوع له شرك بالله العظيم، ولذلك ترى أنه تعالى بعد وصفهم بأنهم يريدون بالإيمان ببعض الرسل والكفر بالبعض أن يفرقوا بين الله ورسله ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ذكر أنهم كافرون بذلك حقا فقال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ ثم أوعدهم فقال: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/126.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَكْفُرُونَ بِاللهِ﴾ يتكرر منهم الكفر بالله مرة بعد مرة مثل حين عبدوا العجل فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي، ومثل حين شبهوه بخلقه وغير ذلك من كلامهم في الله بما هو كفر به ورسله، يتكرر منهم الكفر بالرسل بتكذيبهم في دعوى الرسالة جملة أو في بعض ما جاؤوا به، يتكرر منهم ذلك المرة بعد المرة، كجدالهم في طالوت بقولهم: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ [البقرة:247] ومثل حين قال لهم موسى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة:67] وهذا رد لخبره.

2. وقد دل على جراءتهم في تكذيب الرسل قوله تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة:87] ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ﴾ بأن يردوا ما تأتي به الرسل ويزعموا أن حكم الله غيره. فإذا قيل: حكم الرسول بكذا، قالوا: هذا قاله من تلقاء نفسه وحكم الله خلافه ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ من الرسل ومما أنزل الله كقوله: ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ [البقرة:91]

3. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ بين الإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه والكفر بذلك ﴿سَبِيلًا﴾ طريقة وديناً ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ هم الكافرون بحقيقتهم و﴿حَقًّا﴾ إنهم عين الكافرين وإن سبيلهم هو الكفر بعينه؛ لأن إيمانهم غير صحيح بما آمنوا به ولا مقبول فهم كفار خلص، وقد رد الله عليهم دعواهم الإيمان بقوله تعالى: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:93] فقد عبدوا العجل وعصوا موسى، فقالوا: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة:24] ودخلوا الباب على خلاف ما أمرهم الله تعالى بقوله: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ [آية:58] ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [آية:59] راجع (سورة البقرة)

4. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ أعتدنا للكافرين عموماً وهؤلاء قد دخلوا في العموم؛ لأنهم الكافرون حقاً فقد أعدلهم عذاباً مهيناً مُذِلاً محقِّراً مناسِباً لتكبرهم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/201.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: هل هناك علاقة ذاتية بين الناس وبين الرسل، في عملية الإيمان بهم واتباع سبيلهم؟ والجواب: ليس هناك أية علاقة بالمعنى الشخصي للعلاقة، بل هي‏ علاقة بين الناس وبين الله، لأن الرسل لا يمثلون أنفسهم من خلال ما يدعون الناس إليه وما يسيرون عليه، بل هم في ذلك كله، يمثلون الخط الإلهي الذي يتمثل في رسالة الله التي كلفهم بها من خلال وحيه، وقد أرادنا أن نؤمن برسله جميعا من دون تفريق بين رسول وآخر، فهم ـ جميعا ـ رسل الله، من خلال ما يملكونه من حجج على دعواهم؛ فكيف يمكن للإنسان أن يتجاوز الحجة إلى غيرها، وهل هذا إلا الكفر بعينه، عندما ينكر الإنسان رسالة أحد الأنبياء بعد قيام الحجة لديه من الله على ذلك، ويردّ عليه دعوته التي هي دعوة الله، مما يجعل الرادّ عليه رادّا على الله؟

2. وقد جاءت هذه الآيات لتحدثنا عن هذه الحقيقة، من خلال النماذج التي رافقت انطلاقة الإسلام الأولى، فقد كان اليهود ينكرون رسالة عيسى عليه السّلام ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان النصارى ينكرون رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد اعتبر الإسلام ذلك كفرا بالله ورسله، وتفريقا بينه وبينهم، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، لأن كل هذه التفاصيل تلتقي بالإيمان بالله، وبذلك يكون إنكار بعضها لونا من الكفر بالله فيما أوحاه من رسالة وكتاب أو أرسله من رسول، فليس هناك إلا سبيل واحد تلتقي فيه خطى جميع الرسل، وليست هناك فجوات أو طرق بين بعض وآخر.

3. وهكذا ينطلق القرآن ليؤكد العذاب للكافرين بجميع الرسل، وللكافرين ببعضهم، لأن النتيجة واحدة وهي الانحراف عن الخط الصحيح الذي هو الإيمان بالجميع.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/528.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تحدثت الآيات الأخيرة عن مواقف طائفة من الكافرين، ومواقف أخرى لطائفة من المؤمنين، كما ذكرت هذه الآيات نهاية كل من الطائفتين، وهي بهذا تأتي مكملة للآيات السابقة التي تحدثت بشأن المنافقين.

2. تشير الآية الأولى: إلى طائفة فرقوا بين الأنبياء، فاعتبروا بعضهم على حق والبعض الآخر على باطل، فتؤكد أنّ هذا النفر من الناس كفار حقيقيون، والواقع أنّ هذه الآية توضح موقف اليهود والنصارى، فاليهود كانوا يرفضون الإيمان بالنّبي عيسى نبي النصارى، واليهود والنصارى معا كانوا يرفضون‏ الإذعان لنبوة نبي الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم في حين أنّ كتابيهم السماويين قد أثبتا نبوة هؤلاء الأنبياء.

3. وهذا التمييز بين الحقائق الثابتة وقبول بعضها ورفض البعض الآخر، سببه أنّ هؤلاء كانوا يتبعون أهواءهم ونزواتهم ويسيرون وراء عصبياتهم الجاهلية، وينبع أحيانا من حسد هؤلاء ونظرتهم الضيقة.

4. وهذا دليل عدم إيمان هؤلاء بالأنبياء وبالله، لأنّ الإيمان ليس هو قبول ما طابق هوى النفس أو رفض ما يخالف الأهواء والميول، فهذه الحالة ما هي إلّا نوع من عبادة الهوى ولا صلة لها بالإيمان، فالإيمان الحقيقي هو ذلك الذي يدفع الإنسان إلى قبول الحقيقة ـ سواء طابقت هواه وميوله أو خالفتهما ـ ولذلك فإنّ القرآن الكريم اعتبر الذين يزعمون أنّهم يؤمنون بالله وببعض الأنبياء كفارا حقيقيين، وعلى هذا الأساس فإن ما يتظاهرون به من إيمان لا حقيقة ولا قيمة له مطلقا، لأنّه لا ينبع من روح طلب الحقيقة.

5. والقرآن الكريم يهدد هؤلاء ـ وأمثالهم ـ بأنّهم يلقون الذل والهوان، حيث تقول الآية: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ وقد يكون وصف العذاب في هذه الآية بـ (المهين) سببه أنّ هؤلاء بقبولهم بعض الأنبياء ورفضهم الإيمان بالبعض الآخر منهم، إنّما يوجّهون الإهانة بحق عدد من الأنبياء، لذلك يجب أن ينال هؤلاء عذابا مهينا يتناسب واهانتهم تلك.

6. ويجدر هنا توضيح أنّ العذاب قد يكون أليما أحيانا، مثل: الجلد والتعذيب الجسدي، وقد يكون مهينا كرش الشخص بالقاذورات، أو يكون العذاب عظيما كأن يكون العقاب أمام أعين الناس، وقد يكون أثره عميقا في نفس الإنسان يستمر معه لمدّة طويلة ويسمى هذا بالعذاب الشديد، وما إلى ذلك من أنواع العذاب.

7. وواضح أنّ وصف العذاب بواحد من الصفات يتناسب مع نوع الذنب، ولذلك فقد ورد في كثير من الآيات القرآنية أنّ عقاب الظالمين هو العذاب الأليم، لأنّه يتناسب وألم الظلم الذي يمارسه الظالم على المظلوم، وهكذا بالنسبة للأنواع الأخرى من العذاب، وقد قصدنا بهذا الشرح تقريب مسألة العذاب إلى الأذهان، علما بأنّ العذاب الأخروي شيء لا يمكن مقارنته بما هو موجود من عذاب في حياتنا الدنيوية هذه.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/513.

132. المؤمنون وعدم التفريق بين الرسل

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈132⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 152]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

الأعمش:

روي عن سليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾، أجورهم أن يدخلهم الجنة(1).

1. روي أنّه قال: ثم ذكر المؤمنين، فقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ يعني: بين الرسل، وصدقوا بالرسل جميعا، ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ يعني: جزاء أعمالهم، ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٣.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٨.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم نعت المؤمنين فقال عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ يعني: من الرسل، وقالوا: ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ إلى آخر ما ذكر، وفي الآية دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم لا يسمون صاحب الكبيرة مؤمنًا، وهو قد آمن بالله ورسله ولم يفرق بين أحد من رسله؛ فدخل في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ وهم يقولون: لا يؤتيهم أجورهم.

2. ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، أخبر عز وجل أنه لم يزل غفورًا رحيمًا، وهم يقولون: لم يكن غفورا رحيما ولكن صار غفورا رحيمًا، وبالله العصمة.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٠٦.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ يؤتيهم بالياء حفص الباقون بالنون حجة حفص قوله: ﴿سَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ومن قرأ نؤتيهم ـ بالنون ـ فلقوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ﴾، وقوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا﴾ وغير ذلك من الآي.

2. لما ذكر الله تعالى حكم من فرق بين الله ورسله، والايمان ببعض دون بعض، وانهم الكافرون، وانهم أعد لهم العذاب المهين، اخبر عقيبه عمن آمن بالله ورسله، وصدقهم وأقر بنبوتهم، ولم يفرقوا بين أحد منهم، بل آمنوا بجميعهم، فإن الله تعالى سيؤتيهم أجورهم بمعنى سيعطيهم ثوابهم الذي استحقوا على ايمانهم بالله ورسله، والإقرار بهم، وإنه يعطيهم جزاءهم على ذلك.

3. ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ومعناه يغفر لمن هذه صفته ما سلف له من المعاصي والآثام، ويسيرها عليهم، ويترك العقوبة عليها، فانه لم يزل كان غفوراً رحيما أي متفضلا عليهم بالهداية إلى سبيل الحق موفقاً لهم لما فيه خلاص رقابهم من عقاب النار.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/376.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الأجر والأجرة: الجزاء، جمع الأجر: أجور.

2. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ صدقوا الله بتوحيده وعدله وصفاته الواجبة وجميع أنبيائه ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ﴾ من رسله ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ﴾ يعطيهم ﴿أُجُورَهُمْ﴾ ثوابهم وجزاءهم على إيمانهم، ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾:

أ. يغفر لهم ما سلف من، المعاصي رحيم يدخلهم الجنة.

ب. وقيل: يغفر لهم، ويرحمهم بالهداية.

ج. وقيل: غفور لمن استحق الغفران، رحيم بمن استحق الأجر والثواب.

3. تدل الآية الكريمة على:

أ. أنه يسمى غفورًا رحيمًا، خلاف قول الباطنية.

ب. أن التفريق بين الرسل كفر، وهذا يدل على أنه يكفر بخصلة من خصال الكفر، ولا يصير مؤمنًا بخصلة من خصال الإيمان.

4. قرأ عاصم في رواية حفص ﴿سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ﴾ بالياء يرجع الضمير إلى اسم الله، والباقون بالنون، وذلك أوجه؛ لأنه أفخم، ويشاكل: و﴿أَعْتَدْنَا﴾

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/134.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي: صدقوا الله، ووحدوه، وأقروا بنبوة رسله ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾، بل آمنوا بجميعهم ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ﴾ أي: سنعطيهم ﴿أُجُورَهُمْ﴾، وسمى الله الثواب أجرا، دلالة على أنه مستحق أي: نعطيهم ثوابهم الذي استحقوه على إيمانهم بالله ورسله.

2. ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي: لم يزل، كان ﴿غَفُورًا﴾ لمن هذه صفتهم، ما سلف لهم من المعاصي والآثام، ﴿رَحِيمًا﴾ متفضلا عليهم بأنواع الانعام، هاديا لهم إلى دار السلام.

3. قرأ حفص (يؤتيهم) بالياء، والباقون: (نؤتيهم) بالنون.. حجة حفص قوله: (سوف يؤتي الله المؤمنين)، وحجة من قرأ (نؤتيهم) قوله: وآتيناه ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا﴾

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/202.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏:

أ. أحدها: أنهم سألوه أن ينزّل كتابا عليهم خاصّة، هذا قول الحسن، وقتادة.

ب. الثاني: أن اليهود والنّصارى أتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: لا نبايعك حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنّك رسول الله، وإلى فلان بكتاب أنّك رسول الله، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن جريج.

ج. الثالث: أن اليهود سألوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينزّل عليهم كتابا من السماء مكتوبا كما نزلت التّوراة على موسى، هذا قول القرظيّ، والسّدّي.

2. في المراد بأهل الكتاب قولان:

أ. أحدهما: اليهود والنّصارى.

ب. الثاني: اليهود.

3. في المراد بالكتاب المنزّل من السماء قولان:

أ. أحدهما: كتاب مكتوب غير القرآن.

ب. الثاني: كتاب بتصديقه في رسالته.

4. بيّنا في البقرة معنى سؤالهم رؤية الله جهرة، واتّخاذهم العجل.

5. ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ الآيات التي جاء بها موسى.

6. سؤال وإشكال: كيف قال ثم اتّخذوا العجل، و(ثم) تقتضي التّراخي، والتّأخّر، أفكان اتّخاذ العجل بعد قولهم: ﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾؟ والجواب: عنه أربعة أجوبة ذكرهنّ ابن الأنباري:

أ. أحدهن: أن تكون (ثم) مردودة على فعلهم القديم، والمعنى: وإذ وعدنا موسى أربعين فخالفوا أيضا، ثم اتّخذوا العجل.

ب. الثاني: أن تكون مقدّمة في المعنى، مؤخّرة في اللفظ، والتقدير: فقد اتّخذوا العجل، ثم سألوا موسى أكبر من ذلك، ومثله‏ ﴿فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ المعنى: فألقه إليهم، ثم انظر ماذا يرجعون، ثم تولّ عنهم.

ج. الثالث: أن المعنى، ثم كانوا اتّخذوا العجل، فأضمر الكون.

د. الرابع: أن ثم معناها التّأخير في الإخبار، والتّقديم في الفعل، كما يقول القائل: شربت الماء، ثم أكلت الخبز، يريد: شربت الماء، ثم أخبركم أني أكلت الخبز بعد إخباري بشرب الماء.

7. ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ أي: لم نستأصل عبدة العجل، و(السّلطان المبين):

أ. الحجّة البيّنة، قال ابن عباس: اليد والعصا.

ب. وقال غيره: الآيات التّسع.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/493.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى الوعيد أردفه بالوعد فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

2. إنما قال: ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ مع أن التفريق يقتضي شيئين فصاعدا إلا أن أحدا لفظ يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ويدل عليه وجهان:

أ. الأول: صحة الاستثناء.

ب. الثاني: قوله تعالى: ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [الأحزاب: 32].. إذا عرفت هذا فتقدير الآية: ولم يفرقوا بين إثنين منهم أو بين جماعة.

3. تمسك أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية في إثبات العفو وعدم الإحباط فقالوا: إنه تعالى وعد من آمن بالله ورسله بأن يؤتيهم أجورهم، والمفهوم منه يؤتيهم أجورهم على ذلك الإيمان وإلا لم تصلح هذه الآية لأن تكون ترغيبا في الإيمان وذلك يوجب القطع بعدم الإحباط والقطع بالعفو وبالإخراج من النار بعد الإدخال فيها.

4. قرأ عاصم في رواية حفص‏ ﴿يُؤْتِيَهُمُ﴾ بالياء والضمير راجع إلى اسم الله، والباقون بالنون، وذلك أولى لوجهين:

أ. أحدهما: أنه أفخم.

ب. الثاني: أنه مشاكل لقوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ [الأحزاب: 31]

5. ﴿سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ معناه أن إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتحقيقه لا كونه متأخرا، ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ والمراد أنه وعدهم بالثواب ثم أخبرهم بعد ذلك بأنه يتجاوز عن سيئاتهم ويعفو عنها ويغفرها.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/256.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ يعني به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته.

__________

(1) تفسير القرطبي: 6/6.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ بأن يقولوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ودخول بين على أحد لكونه عاما في المفرد مذكرا ومؤنثا ومثناهما وجمعهما، وقد تقدّم تحقيقه.

2. الإشارة بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرّقوا بين أحد منهم.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/614.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ كلِّهم، مقابل لقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾، ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَينَ أَحَدٍ﴾ معنى (أَحَدٍ) متعدِّد، فصحَّت (بَيْنَ)، أي: بين جماعة، أو بين اثنين، ﴿مِنْهُم﴾، أو بين أحد وأحد منهم، وقد مَرَّ ولا حاجة إليه مع قوله تعالى: ﴿فَمَا مِنكُم مِّنَ اَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 47]، وقوله: ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُم﴾ مقابل لقوله: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُّفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُومِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَّـتَّخِذُوا بَيْنَ ذَالِكَ سَبِيلاً﴾ [الآية: 150]

2. ﴿أُوْلَئِكَ سَوْفَ نُوتِيهِم﴾ المشهور أنَّ (سَوْفَ) تُخْلِصُ المضارعَ للاستقبالِ الطويلِ بَعْدَ احتمالِهِ الحالَ والاستقبالَ القريبَ، وقيل: هي لتأكيد مضمون مدخولها المستقبل، كأنَّه قيل: هو واقع لا محالة ولو تأخَّر جدًّا، وهو ضدُّ (لن يفعل) الموضوع للتأكيد كما قال سيبويه: (لن يفعلَ) نفيُ (سوفَ يَفعَلُ)، والمضمون هو هنا: إيتاء الثواب كما قال: ﴿أُجُورَهُمْ﴾ أي: ثواب علمهم وإيمانهم.

3. ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا﴾ لِمَا صدر من ذنوب التائب، وإنَّما يهلك من لا يتوب، ﴿رَحِيمًا﴾ بتضعيف الحسنات إلى أكثر من سبعمائةٍ لِحسنةٍ واحدة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/333.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ كلهم‏ ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ يعني بهم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنهم يؤمنون بكل نبيّ بعثه الله، ولا يفرقون بين أحد منهم، بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخرين، كما فعله الكفرة.

2. ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ﴾ أي: يعطيهم‏ ﴿أُجُورَهُمْ﴾ ثواب إيمانهم بالله ورسله في الآخرة ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا﴾ أي: لما فرط منهم‏ ﴿رَحِيمًا﴾ مبالغا في الرحمة عليهم، بتضعيف حسناتهم.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/389.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر تعالى مقابل هؤلاء الكفار فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ في الإيمان وإن كانوا لا يلتزمون العمل إلا بشريعة الأخير منهم، لعلمهم بأنهم كلهم مرسلون من عند الله عز وجل وأن مثلهم كمثل الولاة الذين يرسلهم السلطان إلى البلاد، ومثل الكتب التي جاءوا بها كمثل القوانين التي تصدر الإدارة السلطانية بالعمل بها (ولا حرج في ضرب الأدنى مثلا للأعلى) فكل وال يحترم لأنه من قبل السلطان وكل قانون يعمل به لأنه منه وإن كان الأخير ينسخ ما قبله، فالتفرق إما من جهل هذه الحقيقة وهو جهل حقيقة الرسالة والكتب المنزلة، وإما من اتباع الهوى وإيثاره على طاعة الله ورسله، فالمؤمنون الذين يعتد بإيمانهم هم الذين يعرفون حقيقة الرسالة وبها يعرفون الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم.

2. ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ لأنهم وقد صح إيمانهم بالله ورسله وكانوا على بصيرة فيه ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ الصحيح إلى العمل الصالح الذي هو أثره ولازمه، ولم يذكر العمل هنا كما هي سنة القرآن العامة في مقام الجزاء لأن السياق هنا في مقابلة الإيمان الصحيح بالله ورسله بلا تفرقة بالكفر التام، ومقابلة وعده للمؤمنين بوعيده للكافرين، ولم يقل في هؤلاء إنهم هم المؤمنون حقا كما قال في أولئك إنهم هم الكافرون حقا، لئلا يتوهم متوهم أن كمال الإيمان يوجد وإن لم يترتب عليه لازمه من الهدى والعمل الصالح فيغتر بذلك، وقد وقع الناس في مثل هذا على كثرة ما ينافيه ويرده من آيات القرآن، أما المؤمنون حقا فقد بين الله وصفهم في غير هذا الموضع كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 2 ـ 4]

3. وتأمل الفرق بين الوعد في هذه الآية الأخيرة من هذه الآيات والوعد في الآية التي نفسرها تجده عظيما فإنه تعالى أثبت لهؤلاء الذين هم المؤمنون حقا الدرجات العلى عند ربهم والرزق الكريم بلام الملك جزاء على ما أثبت لهم من أصل شجرة الإيمان وفروعها، وأما أولئك الذين أثبت لهم الأصل فقط هو الإيمان بالله ورسله بلا تفرقة بينهم فإنما وعدهم بأنه يعطيهم أجورهم أي بحسب حالهم في لعمل، قرأ حفص عن عاصم ويعقوب عن قالون (يؤتيهم) في الآية بالياء والباقون بالنون.

4. ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ غفورا لهفوات من صح إيمانه فلم يشرك بربه شيئا ولم يفرق بين أحد من رسله، رحيما بهم يعاملهم بالإحسان لا بمحض العدل، وقد يختص من شاء بضروب من رحمته التي وسعت كل شيء فلا يشاركهم فيها غيرهم.

__________

(1) تفسير المنار: ‏6/9.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكر الله تعالى حال الفريقين السالفى الذكر ذكر حال فريق ثالث فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ أي والذين آمنوا بالله وجميع الرسل وعملوا بشريعة آخرهم، علما منهم بأن جميعهم مرسل من عند الله، وما مثلهم إلا مثل ولاة يرسلهم السلطان إلى البلاد ومثل الكتب التي جاءوا بها مثل القوانين التي يصدر السلطان مراسيم للعمل بها، فكل وال منهم إنما ينفذ أوامر السلطان وكل قانون يعمل به لأنه منه، وكل قانون جديد ينسخ ما قبله ويمنع العمل به، وأولئك يؤتيهم الله أجورهم بحسب حالهم في العمل، لأنهم وقد صح إيمانهم به وبرسله يهديهم إلى العمل الصالح، إذ هو الأثر اللازم لذلك الإيمان الصحيح.

2. لم يقل في هؤلاء إنهم هم المؤمنون حقا كما قال في أولئك هم الكافرون حقا، لئلا يدور بخلد أحد أن كمال الإيمان يوجد بدون العمل الصالح فيغتر بذلك ويترك العمل النافع وهذا مما لا يتلاءم مع نصوص الدين، فلقد وصف الله المؤمنين حقا بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾.

3. ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي وكان الله غفورا لهفوات من صح إيمانه ولم يشرك بربه أحدا، ولم يفرّق بين أحد من رسله، رحيما به يعامله بالإحسان ويضاعف حسناته ويزيد على ما وعد تفضلا منه ورحمة.

__________

(1) تفسير المراغي ‏6/8.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ)في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أما (المسلمون) فهم الذين يشتمل تصورهم الاعتقادي على الإيمان بالله ورسله جميعا؛ بلا تفرقة، فكل الرسل عندهم موضع اعتقاد واحترام؛ وكل الديانات السماوية عندهم حق ـ ما لم يقع فيها التحريف فلا تكون عندئذ من دين الله، وإن بقي فيها جانب لم يحرف، إذ أن الدين وحدة ـ وهم يتصورون الأمر ـ كما هو في حقيقته ـ: إلها واحدا، ارتضى للناس دينا واحدا؛ ووضع لحياتهم منهجا واحدا، وأرسل رسله إلى الناس بهذا الدين الواحد وهذا المنهج الواحد، وموكب الإيمان ـ في حسهم ـ موصول، يقوده نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم جميعا ـ ونسبهم هم إلى هذا الموكب الموصول عريق؛ وهم حملة هذه الأمانة الكبرى، وهم ورثة هذا الخير الموصول على طول الطريق المبارك.. لا تفرقة ولا عزلة ولا انفصام.. وإليهم وحدهم انتهى ميراث الدين الحق، وليس وراء ما عندهم إلا الباطل والضلال.

2. هذا هو (الإسلام) الذي لا يقبل الله غيره من أحد، وهؤلاء هم (المسلمون) الذين يستحقون الأجر من الله على ما عملوا، ويستحقون منه المغفرة والرحمة فيما قصروا فيه: ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)﴾

3. والإسلام إنما يتشدد هذا التشدد في توحيد العقيدة في الله ورسله، لأن هذا التوحيد هو الأساس اللائق بتصور المؤمن لإلهه سبحانه كما أنه هو الأساس اللائق بوجود منظم، غير متروك للتعدد والتصادم، ولأنه هو العقيدة اللائقة بإنسان يرى وحدة الناموس في هذا الوجود أينما امتد بصره، ولأنه هو التصور الكفيل بضم المؤمنين جميعا في موكب واحد، يقف أمام صفوف الكفر، وفي حزب واحد يقف أمام أحزاب الشيطان.. ولكن هذا الصف الواحد ليس هو صف أصحاب الاعتقادات المحرفة ـ ولو كان لها أصل سماوي ـ إنما هو صف أصحاب الإيمان الصحيح والعقيدة التي لم يدخلها انحراف..

4. ومن ثم كان (الإسلام) هو (الدين)، وكان (المسلمون) ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ المسلمون المعتقدون عقيدة صحيحة، العاملون بهذه العقيدة، لا كل من ولد في بيت مسلم، ولا كل من لاك لسانه كلمة الإسلام! وفي ظل هذا البيان يبدو الذين يفرقون بين الله ورسله، ويفرقون بين بعض الرسل وبعض، منقطعين عن موكب الإيمان مفرقين للوحدة التي جمعها الله، منكرين للوحدانية التي يقوم عليها الإيمان بالله.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2، ص: 799.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في مقابل هذا العذاب المهين الذي يصلاه الكافرون والمنافقون، يتقلّب المؤمنون، الذين آمنوا بالله إيمانا خالصا، فصدّقوا رسله، وآمنوا بهم جميعا، ولم يفرقوا بين أحد منهم كما فعل هؤلاء المنافقون الكافرون ـ يتقلب هؤلاء المؤمنون في رضوان الله، ويلقون من رحمته ومغفرته، ما يغسل أدرانهم، ويمحو سيئاتهم، ويفتح لهم أبواب الجنات، يلقّون فيها تحية وسرورا.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/959.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جيء بجملة ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ إلى آخرها؛ لمقابلة المسيئين بالمحسنين، والنذارة بالبشارة على عادة القرآن، والمراد بالذين آمنوا المؤمنون كلّهم وخاصّة من آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، فهم مقصودون ابتداء لما أشعر به موقع هذه الجملة بعد ذكر ضلالهم ولما اقتضاه تذييل الجملة بقوله: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي غفورا لهم ما سلف من كفرهم، رحيما بهم، والقول في الإتيان بالموصول وباسم الإشارة في هذه الجملة كالقول في مقابله.

2. ﴿بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ تقدّم الكلام على مثله في قوله تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ في سورة البقرة [136].

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/300.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا شأن الذين كفروا بالله ورسله، وفرقوا بينهم، وما يدخر لهم، ويقابلهم المؤمنون حقا وصدقا، وقال فيهم سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾

2. وصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين حقا وصدقا بوصفين:

أ. الأول: الإيمان بالله تعالى ورسله أجمعين، لا فرق بين رسول ورسول، إذ الجميع يؤدون رسالات ربهم ويبلغونها.

ب. والثاني: أنهم لم يفرقوا في الإيمان بين رسول ورسول، بل إن الجميع في موضع من نفوسهم، والإيمان من قلوبهم، ذلك أنه حق على المؤمن أن يؤمن بكل رسول أرسله الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة] فإذا كان محمد خاتم النبيين فرسالته متممة للرسالات، وهو آخر لبنة في صرح النبوة الإلهية.

3. وإذا كان المؤمنون حقا وصدقا هم الذين يذعنون لما أمر الله، ويصدقون برسالاته، ويستجيبون لدعوة رسول الله وهم يناقضون الذين فرقوا بين رسله، فجزاؤهم لذلك مختلف، ولذا قال سبحانه في هذا الجزاء: ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ الإشارة هنا إلى الذين آمنوا الموصوفين بالصفات السابقة وتكرار ذكرهم بالإشارة للتوكيد بأن الإذعان الكامل من غير استعلاء، وجحود، وحقد، وعدم التفرقة بين الأنبياء وهو وحده الذى جعل لهم ذلك الجزاء، والأجر هنا هو الجزاء، وهي رحمة الله تعالى عليهم إذ جعل ذلك‏ الثواب المقيم، والنعيم الدائم، جزاء العمل، وهو أكبر من العمل، بل إن الأعمال ذاتها قد يكون فيها هفوات تستوجب الحساب ويتبعه العقاب، ولكن الله تعالى قرر في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود:]

4. ولذلك ذيلت بقوله الآية تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ للدلالة على أن ذلك الثواب هو من فضل الله وسعة رحمته، وإن ذلك لأنه متصف بالغفران الدائم والرحمة الدائمة.

5. وقد أكد الله سبحانه وتعالى الجزاء والثواب بالتعبير بسوف الدالة على تأكيد الفعل في الزمن المستقبل، اللهم اغفر لنا وارحمنا فأنت خير الراحمين.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1941.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾، وهؤلاء هم المسلمون أتباع محمد بن عبد الله الذي أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء، وقال: الأنبياء جميعهم اخوة، دينهم واحد، وأممهم شتى، وفي رواية ثانية: الأنبياء بنو علّات، وسبق الكلام مفصلا عن ذلك عند تفسير الآية 136 من هذه السورة، والآية 285 من سورة البقرة.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/481.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ لما كفر أولئك المفرقين بين الله ورسله، وذكر أنهم كافرون بالله ورسله ذكر من يقابلهم بالإيمان بالله ورسله على سبيل عدم التفرقة تتميما للأقسام.

2. وفي الآيات التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير في ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ ثم إلى الخطاب في قوله: ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ ولعل الوجه فيه أن إسناد الجزاء إلى المتكلم أقرب من الوقوع بحسب لحن الكلام من إسناده إلى الغائب.

3. ويفيد هذه الفائدة أيضا الالتفات الواقع في الآية الثانية: فإن توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عند الوعد الجميل وهو يعلم بإنجازه تعالى يفيد القرب من الوقوع‏.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/127.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ إلى آخر الآية [البقرة:285] ومن اتبع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف:158].

2. ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ﴾ قال في (المصابيح): (و﴿أَحَدٌ﴾ يستعمل في الواحد المذكر والمؤنث والمثنى والمجموع منهما)، ومثله في (الكشاف) و(مفردات الراغب الأصفهاني) وفي (المفردات) تفصيل جيد.

3. ﴿أُجُورَهُمْ﴾ ثواب كل منهم بقدر ما يستحق ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فلا يمنعهم ثوابهم لما يصدر من زلات غير متعمدة، أو لم يصروا عليها كما مرَّ في صفة المتقين، وهذا فارق بينهم وبين عصاة أهل الكتاب المصرِّين على الكبائر الراضين بما سلف من أوائلهم، فكانت معاصيهم مضادة للإيمان، دالة على أنهم غير صادقين في دعوى الإيمان.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/202.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أما الذين ساروا على الصراط المستقيم، فآمنوا بجميع الرسالات، وصدّقوا جميع الرسل، واعتبروا أن تعدد النبوات حسب تعدد الأزمان، يمثل ـ في وحي الله ـ نظام المراحل الذي يعطي كل مرحلة دورها وحاجتها ونظامها الذي يكفل لها التوازن والسعادة، أما هؤلاء فإن جزاءهم على الله أن يؤتيهم أجورهم، كما يشاء كرمه ومغفرته ورحمته، فإنه الغفور الرحيم.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/529.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تطرقت الآية الكريمة إلى موقف المؤمنين الذين آمنوا بالله وبجميع أنبيائه ورسله ولم يفرقوا بين أي من الأنبياء والرسل وأخلصوا للحق، وكافحوا كل أنواع العصبيات الباطلة، وبيّنت أنّ الله سيوفّي هؤلاء المؤمنين أجرهم وثوابهم في القريب العاجل، فتقول الآية: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾

2. وبديهي أنّ الإيمان بجميع الأنبياء والرسل لا يتنافى ومسألة تفضيل بعضهم على البعض الآخر، لأنّ مسألة التفاضل هذه ترتبط ارتباطا وثيقا بأهمية وعظم المسؤولية التي تحمّلها كل منهم، وطبيعي أنّ المسؤوليات المناطة بالأنبياء عليهم السّلام تتفاوت من حيث الأهمية والخطورة بالنسبة لكل منهم، وقد ثبت هذا الأمر بالدليل القطعي والمهم هنا أن لا يحصل تمايز أو تفريق في الإيمان بالأنبياء والإقرار بنبوّتهم.

3. وقد أكدت الآية في الختام أنّ الله سيغفر للمؤمنين الذين ارتكبوا اخطاء بالانجرار وراء العصبيات وممارسة التفرقة بين الأنبياء إن أخلص هؤلاء المؤمنون في إيمانهم وعادوا إلى الله، أي تابوا إليه من اخطائهم السابقة، حيث تقول الآية: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

4. ويجب الانتباه هنا إلى أنّ الآيات الأخيرة ذكرت الذين يعمدون إلى التفرقة بين الأنبياء بأنّهم كفار حقيقيون، بينما لم تذكر الذين يؤمنون بجميع الأنبياء بأنّهم‏ مؤمنون حقا وحقيقة، بل وصفتهم بالمؤمنين فقط، وقد يكون هذا التفاوت في الوصف هو لبيان أنّ المؤمنين حقّا هم أولئك الذين استقرّ الإيمان في قلوبهم وظهرت آثاره على أعمالهم، وكما يقول الخبر المأثور بأنّ‏ (الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل)، ويدلّ على هذا الأمر آيات وردت في بداية سورة الأنفال التي ذكرت المؤمنين بأوصاف عديدة: أوّلها الإيمان بالله، ويلي ذلك إقامة الصّلاة وإيتاء الزكاة والتوكل على الله والاعتماد عليه، ثمّ يأتي التأكيد بعد سرد هذه الصفات في قول الله تعالى في الآية المذكورة: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/515.

133. اليهود والخلل في معرفة الله

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈133⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ [النساء: 153]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: أنه قال في قول الله: ﴿جَهْرَةً﴾: أي: علانية(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾، إنهم إذا رأوه فقد رأوه، إنما قالوا: جهرة أرنا الله، قال هو مقدم ومؤخر(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٣.

(2) ابن جرير ٧/٦٤٢.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿عَفَوْنَا﴾، يعني: من بعد ما اتخذوا العجل(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٤.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، حجة(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٥.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿جَهْرَةً﴾، أي: عيانا(1).

__________

(1) ابن جرير ١/٦٨٨.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ معناه علانية(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ معناه بكفرهم وتوهمهم إدراك.. الله تعالى جهرة(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 124.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾، والصاعقة: نار(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٤.

عروة:

روي عن عروة بن رويم (ت 135 هـ) أنّه قال: سأل بنو إسرائيل موسى، يعني: أن يريهم الله جهرة، فأخبرهم أنهم لن يطيقوا ذلك، فأبوا، فسمعوا من الله، فصعق بعضهم وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء، وفي رواية: ثم بعث الذين صعقوا، أو صعق الآخرون ثم بعثوا، فقال الله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٤.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال في الآية: إن اليهود والنصارى قالوا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: لن نتابعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله: من الله إلى فلان أنك رسول الله، وإلى فلان أنك رسول الله، فأنزل الله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ الآية(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٤٠.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ نزلت في اليهود، وذلك أن كعب بن الأشرف وفنحاص اليهودي قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن كنت صادقا بأنك رسول فائتنا بكتاب غير هذا، مكتوب في السماء جملة واحدة، كما جاء به موسى، فذلك قوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله سبحانه: ‌‌﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ يعني: الموت ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ لقولهم: ﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾: معاينة(1).

3. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾، يعني: الآيات التسع(1).

4. روي أنّه قال: ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾، فلم نستأصلهم جميعا عقوبة باتخاذهم العجل(1).

5. روي أنّه قال: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، يعني: حجة بينة، يعني: اليد، والعصا(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٩.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وسألت: عن قول الله سبحانه فيما عبر عن قوم موسى، إذ قالوا: ﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾.. هؤلاء قوم من بني إسرائيل، سألوا موسى صلى الله عليه: أن يريهم الله جهرة؛ فأنزل الله سبحانه عليهم الصاعقة، فأهلكتهم بظلمهم، وشدة كفرهم، وما طلبوه من محال مسألتهم، وعظيم فريتهم؛ فسبحان الذي لا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأقطار، ولا تحده الفكر، ولا يلحقه النظر، ثم قص عز وجل ما كان من فعل بني إسرائيل وحربهم؛ إخبارا لمحمد صلى الله عليه وللمؤمنين بما كان عليه أولئك من شرارتهم، وقلة إنصافهم، وبعداوتهم وشدة كفرهم، وهم يرون الآيات العظام؛ فلا يرجعون، ولا بها ساعة يتعظون، ولا إلى الله سبحانه من جهلهم يستفيقون؛ فأخبرهم سبحانه: أن هؤلاء الذين تشاهدون، وبالمعاينة تنظرون ـ هم من أولئك الذين قد غابوا عنهم، يحتذون بفعلهم، ويسيرون بسيرتهم؛ أهل جهل وضلال، وباطل وإيغال، وكفر ومحال، ثم ذكر سبحانه: اتخاذهم العجل، بعد أن أنقذهم من آل فرعون، وما أبان لهم في ذلك من اللطف والعون، وما رأوا من الآيات العظام، من انفلاق البحر لهم طرقا، ومسيرهم فرقا، في قعره يبسا جددا؛ فلم ينتفعوا بذلك إذ عاينوه، ولم يرجعوا عن عبادة العجل ولم يرفضوه؛ فكان هذا ذما لهم، وتبيينا لعوارهم، وتوقيفا على كفرهم.. وقلت: كيف اتخذوا العجل من بعد أن أخذتهم الصاعقة؟ قال قد أخبر الله سبحانه بحياتهم، وبعثهم بعد موتهم، فقال: ﴿وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون﴾ [البقرة: 55، 56]

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/277.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾:

أ. قيل في أحد التأويلين: كان يريد كل أحد منهم أن يأتي إلى كل رجل منهم بكتاب: أن محمدًا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو كقوله سبحانه وتعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾، وكقوله تعالى: ﴿وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾

ب. وقيل: سألوا أن يأتيهم بكتاب جملة مثل التوراة؛ مثل قولهم: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾، كما أنزلت التوراة على موسى جملة واحدة؛ لأنهم يقولون: إن هذا القرآن من اختراع مُحَمَّد واختلاقه؛ لأنه لو كان من عند الله نزل، لنزل جملة كما نزلت التوراة جملة غير متفرقة؛ فأخبر أنهم: ﴿سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾، وقد سألوا محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم مثل سؤال أُولَئِكَ موسى، وهو قوله: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾، يعزي عز وجل رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويصبره على أذاهم، يقول: إنهم سألوا آيات على رسالته، فأتى بها، فلم يؤمنوا به، يخبر أن سؤالهم سؤال تعنت، لا سؤال استرشاد؛ لأن سؤالهم لو كان سؤال استرشاد ـ لكان إذا أُتُوا بها قبلوها؛ ولذلك أخذهم العذاب بقوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾؛ لأنهم كانوا يسألون سؤال تعنت، لا سؤال رشد.

2. في الآية دلالة أن المسئول لا يلزمه الدليل على شهوة السائل وإرادته؛ ولكن يلزمه أن يأتي بما هو دليل في نفسه، وفيه دلالة له ـ أيضًا ـ أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب؛ لأنه لما قال: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ ـ لم يخطر ببال أحد أنه أراد المجوس بقوله: ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، فبطل قول من قال بأنهم من أهل الكتاب.

3. ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ الصاعقة: هي العذاب الذي فيه الهلاك، وقد ذكرناه فيما تقدم، وإنما أخذهم العذاب بكفرهم بموسى بعد ما أتاهم موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم بآيات الرسالة، لا بسؤالهم الرؤية؛ لأنه لو كان ما أخذهم من العذاب إنما أخذ بسؤال الرؤية، لكان موسى بذلك أولى؛ حيث قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾؛ فدل أن العذاب إنما أخذهم بتعنتهم وبكفرهم بعد ظهور الآيات لهم أنه رسول الله، وذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يخبر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم عن شدة تعنتهم في تكذيب الرسل، وكثرة تمردهم وسفههم؛ ليصبر على أذى قومه، ولا يظن أنه أول مكذَّب من الرسل.

4. ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ قيل: السلطان المبين يحتمل الآيات التي أراهم، ما يعقل كل أحد ـ إن لم يعاند ولا كابر ـ أنها سماوية؛ إذ هي كانت خارجة عن الأمر المعتاد بين الخلق، من نحو: اليد البيضاء، والعصا، وفرق البحر، وغير ذلك.

$[1133]الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(2):

5. في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أن اليهود سألوا محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم، أن ينزل عليهم كتاباً من السماء مكتوباً، كما نزل على موسى الألواح، والتوراة مكتوبة من السماء، وهذا قول السدي، ومحمد بن كعب.

ب. الثاني: أنهم سألوه نزول ذلك عليهم خاصة، تحكماً في طلب الآيات، وهذا قول الحسن، وقتادة.

ج. الثالث: أنهم سألوه أن ينزِّل على طائفة من رؤسائهم كتاباً من السماء بتصديقه، وهذا قول ابن جريج.

6. قوله تعالى: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: أن الله تعالى بيَّن بذلك أن سؤالهم للإعْنَاتِ لا للاستبصار كما أنهم سألوا موسى أن يريهم الله جهرة، ثم كفروا بعبادة العجل.

ب. الثاني: أنه بيَّن بذلك أنهم سألوا ما ليس لهم، كما أنهم سألوا موسى من ذلك ما ليس لهم.

7. في قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنهم سألوه رؤيته جهرة، أي معاينة.

ب. الثاني: أنهم قالوا: جهرة من القول أّرِنا الله، فيكون على التقديم والتأخير، وهذا قول ابن عباس.

8. في قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: بظلمهم لأنفسهم.

ب. الثاني: بظلمهم في سؤالهم.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٠٧.

(2) تفسير الماوردي: ١/٥٤٠.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ مكتوباً كما سألوا موسى أكبر من ذلك ﴿فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ وإنما بين الله سبحانه وتعالى أن سؤالهم للإعنات لا للإستبصار كما أنهم سألوا موسى أن يريهم الله جهرة ظلماً منهم وعدواناً ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ في سؤالهم وطلبتهم.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/199.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يسألك يا محمد أهل الكتاب يعني اليهود أن تنزل عليهم كتاباً من السماء واختلفوا في الكتاب الذي سأل اليهود محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينزل عليهم من السماء:

أ. فقال قوم: سألوا ان ينزل كتابا من السماء مكتوبا، كما جاء موسى بني إسرائيل بالتوراة مكتوبة من عند الله في الألواح، ذهب إليه السدي ومحمد بن كعب القرطي، فأنزل الله فيهم هذه الآية إلى قوله: ﴿عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾

ب. وقال آخرون: بل سألوه أن ينزل عليهم كتابا خاصا لهم ذهب إليه قتادة.

ج. وقال آخرون: بل يسألون أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا بالأمر بتصديقه، واتباعه ذكر ذلك ابن جريج، واختاره الطبري وقال الزجاج: ذلك حين سألوا فقالوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ﴾

2. قال الجبائي: كان سؤالهم على وجه التعنت وإلا فكان فيما أنزله الله من القرآن دلالة واضحة على نبوته.

3. ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ فانه توبيخ من الله تعالى، سئل انزال الكتاب عليهم، وتفريع منه لهم بقوله لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا محمد لا يعظمن عليك مسألتهم، إياك ذلك فإنهم من جهلهم بالله عز وجل وجرأتهم عليه، واغترارهم بحلمه، لو أنزلت عليهم الكتاب الذي سألوه لخالفوا امر الله، كما خالفوا بعد أحياء الله اوائلهم من صعقتهم، فعبدوا العجل، واتخذوه آلهاً فعبدوه من دون خالقهم وبارئهم الذي أراهم قدرته، وعظمته وسلطانه بما أراهم، ثم قص من قصتهم وقصة موسى‏ ما قص، فقال‏: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ يعني سأل اسلاف هؤلاء اليهود موسى عليه السلام أعظم مما سألوك فقالوا ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ أي عيانا نعاينه وننظر إليه.

4. بينا معنى الجهرة فيما مضى، وحكي عن ابن عباس أنه قال فيه تقديم وتأخير، وتقديره إنما قالوا جهرة أرنا الله: وهو الذي اختاره أبو عبيدة، وقال غيره: أراد رؤية بالبصر ظاهرة منكشفة، لأن من علم الله فقد رآه، وهو اختيار الزجاج لقوله تعالى: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً﴾ وقول ابن عباس يدل على انه كان يذهب إلى استحالة الرؤية عليه تعالى، لأن على تأويله بنفس سؤال الرؤية، اخذتهم الصاعقة دون رؤية مخصوصة على ما يذهب إليه من قال بالرؤية.

5. ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ يعني فصعقوا بظلمهم أنفسهم عن سؤالهم موسى أن يريهم الله، لأن ذلك مما هو مستحيل عليه تعالى وفي ذلك دلالة واضحة على استحالة الرؤية عليه تعالى واستعظام لتجويزها، لأنهم كانوا يكفرون به ويجحدونه ولم ينزل عليهم الصاعقة، فلما سألوا الرؤية أنزلها عليهم، وفي ذلك دلالة على أن أصل كل تشبيه تجويز الرؤية عليه تعالي على قول أبي على، وقد بينا معنى الصاعقة فيما مضى، فلا نطول باعادته.

6. ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ معناه، ثم اتخذ هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا من رؤية الله بعد ما أحياهم وبعثهم من صعقتهم ـ العجل الذي كان السامري أضلهم به، وقد بينا فيما مضى السبب الذي من اجله اتخذوا العجل، وكيف كان أمرهم.

7. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ معناه من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى البينات من الله، ومن الدلالات الواضحات بان الرؤية مستحيلة عليه، ومنها اصعاق الله إياهم عند مسألتهم موسى يريدون ان يريهم ربهم جهرة، ثم إحياؤه إياهم بعد مماتهم مع غيره من الآيات التي أراهم الله دلالة على ذلك، فقال الله مقبحاً فعلهم، وموضعاً عن جهلهم ونقص عقولهم بإقرارهم للعجل بانه إلههم، وهم يرونه عياناً، وينظرون إليه، فعكفوا على‏ عبادته مصدقين بإلهيته.

8. ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ ومعناه عفونا للذين عبدوا العجل عن عبادتهم بعد أن أرادهم الله آية على أنهم لا يرون ربهم.

9. ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ معناه أعطينا موسى حجة ظاهرة تبين عن صدقه وحقيقة نبوته، وتلك الحجة هي الآيات التي أتاه الله إياها.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/377.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الصعق: الغشيان والموت، والصاعقة: الوقع الشديد من الرعد، كذلك الصعاق، وحمار صعوق الصوت أي: شديده.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. روي أن كعب بن الأشرف وجماعة من اليهود قالوا: يا محمد إن كنت نبيًّا فأتنا بكتاب جملة كما أتى موسى بالتوراة، فنزلت الآية، عن محمد بن كعب والسدي.

ب. وقيل: قالوا: لن نتابعك حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان وفلان أنك رسوله، فآمَنُوا به، فحينئذ نؤمن.

ج. وقيل: إنهم إنما سألوا ذلك تحكمًا في طلب المعجزات، عن الحسن وقتادة.

3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. قيل: اتصال الآية بما قبلها اتصال الإنكار بالإنكار؛ لأنه أنكر عليهم التفريق بين الرسل ثم أنكر التحكم في طلب الآيات.

ب. وقيل: اتصاله ببيان جهلهم في ترك الإيمان بالأنبياء مع ظهور الإيمان وطلبهم المحالات كجهلهم في التفريق بين الأنبياء، وجهل هَؤُلَاءِ في ذلك كجهل آبائهم في مخالفة الرسول.

4. ﴿يَسْأَلُكَ﴾ ياَ محمد ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ اليهود والنصارى ﴿أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾:

أ. قيل: سألوا ذلك تعنتًا، عن الحسن، قال ولو سألوه استرشادًا لآتاهم، قيل: سألوه أن ينزل عليهم كتابًا جملة، عن السدي ومحمد بن كعب.

ب. وقيل: سألوه كتابًا إليهم أنه رسوله.

5. ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى﴾ يعني أسلاف اليهود سألوا موسى، قيل: هم السبعون الَّذِينَ خرجوا إلى الميقات، وإنما عاب هَؤُلَاءِ بفعل أسلافهم؛ لأنهم يرضون بفعلهم، ويجرون على طريقتهم، ويقتدون بهم.

6. ﴿أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ أي: أعظم من هذا في التعنت والاستحالة ﴿فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾:

أ. قيل: أرنا الله عيانًا ننظر إليه.

ب. وقيل: هو على التقديم والتأخير؛ أي قالوا: جهرة أرنا الله، عن ابن عباس وأبي عبيدة.

7. ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾:

أ. يعني صعقوا أمواتًا.

ب. وقيل: عذاب صعقوا له، عن الأصم.

8. ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ أي: جزاء لعظيم ما فعلوا وسألوا ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ يعني ومن عظيم كفرهم اتخاذهم عجل السامري إلهًا يعبدونه ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾:

أ. قيل: علم التوحيد.

ب. وقيل: المعجزات.

9. ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾:

أ. أي: غفرنا ذلك لهم بعد التوبة.

ب. وقيل: عفونا عنهم بعد القتل المكتوب عليهم.

ج. وقيل: أمهلناهم للتوبة، ولم نستأصلهم.

10. ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى﴾ أعطيناه ﴿سُلْطَانًا﴾ حجة ﴿مُبِينًا﴾ بينا ظاهرًا على نبوته، وهي الآيات التسع.

11. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن الاقتراح على الأنبياء في الآيات لا يجوز بعد ظهور المعجز عليه؛ لأنه تعالى إنما يفعله للمصلحة، فربما يكون ما يسألونه مفسدة.

ب. تسلية له صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يفعله اليهود بما فعله أسلافهم، حيث لم يقنعوا بجواب موسى، حتى قالوا: أرنا الله جهرة، وغير ذلك مما حكي من ضلالتهم.

ج. أنه تعالى لا يُرَى؛ إذ لو جاز عليه الرؤية لما أهلكوا بسؤاله، ولكان بمنزلة إنزال الكتاب، ولم يكن أكبر.

د. أن التوبة مقبولة من جميع الذنوب؛ إذ لا ذنب أعظم من عبادة العجل، ثم عفا عنهم لما تابوا.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/137.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿جَهْرَةً﴾ يجوز أن يكون صفة لقولهم أي: قالوا جهرة، أي مجاهرة، أرنا الله، ويجوز أن يكون على: أرنا الله رؤية ظاهرة.

2. روي أن كعب بن الأشرف، وجماعة من اليهود، قالوا: يا محمد! إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء جملة: أي كما أتى موسى بالتوراة جملة، فنزلت الآية، عن السدي.

3. لما أنكر سبحانه على اليهود التفريق بين الرسل في الايمان، عقبه بالإنكار عليهم في طلبهم المحالات، مع ظهور الآيات والمعجزات، فقال: ﴿يَسْأَلُكَ﴾ يا محمد ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، يعني اليهود ﴿أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾، واختلف في معناه على أقوال:

أ. أحدها: إنهم سألوا أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا، كما كانت التوراة مكتوبة من عند الله في الألواح، عن محمد بن كعب، والسدي.

ب. ثانيها: إنهم سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا، يأمرهم الله تعالى فيها بتصديقه واتباعه، عن ابن جريج، واختاره الطبري.

ج. ثالثها: إنهم سألوا أن ينزل عليهم كتابا خاصا لهم، عن قتادة.

4. وقال الحسن: إنما سألوا ذلك للتعنت والتحكم في طلب المعجزات، لا لظهور الحق، ولو سألوه ذلك استرشادا لا عنادا، لأعطاهم الله ذلك.

5. ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ أي: لا يعظمن عليك يا محمد مسألتهم إياك إنزال الكتب عليهم من السماء، فإنهم سألوا موسى، يعني اليهود، أعظم من ذلك، بعد ما أتاهم بالآيات الظاهرة، والمعجزات القاهرة، التي يكفي الواحد منها في معرفة صدقه، وصحة نبوته، فلم يقنعهم ذلك.

6. ﴿فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ أي: معاينة، ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ أنفسهم، بهذا القول وقد ذكرنا قصة هؤلاء، وتفسير أكثر ما في الآية في سورة البقرة عند قوله: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً﴾ الآية، ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ الآية.

7. ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ أي: عبدوه واتخذوه إلها ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي: الحجج الباهرات، قد دل الله بهذا على جهل القوم وعنادهم.

8. ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ مع عظم جريمتهم، وخيانتهم، وقد أخبر الله بهذا عن سعة رحمته، ومغفرته، وتمام نعمته وأنه لا جريمة تضيق عنها رحمته، ولا خيانة تقصر عنها مغفرته.

9. ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى﴾ أي: أعطيناه ﴿سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي: حجة ظاهرة تبين عن صدقه، وصحة نبوته.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/204.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا هو النوع الثاني من جهالات اليهود:

أ. فإنهم قالوا: إن كنت رسولا من عند الله فائتنا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح.

ب. وقيل: طلبوا أن ينزل عليهم كتابا من السماء إلى فلان وكتابا إلى فلان بأنك رسول الله

ج. وقيل: كتابا نعاينه حين ينزل، وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت لأن معجزات الرسول كانت قد تقدمت، وحصلت فكان طلب الزيادة من باب التعنت.

2. ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى عليه السلام وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومشاكلين لهم في التعنت.

3. المقصود من الآية بيان ما جبلوا عليه من التعنت، كأنه قيل: إن موسى لما نزل عليه كتاب من السماء لم يكتفوا بذلك القدر، بل طلبوا منه الرؤية على سبيل المعاينة، وهذا يدل على أن طلب هؤلاء لنزول الكتاب عليهم من السماء ليس لأجل الاسترشاد بل لمحض العناد.

4. ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ وهذه القصة قد فسرناها في سورة البقرة، واستدلال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على نفي الرؤية قد أجبنا عنه هناك.

5. ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ والمعنى بيان كمال جهالاتهم وإصرارهم على كفرهم فإنهم ما اكتفوا بعد نزول التوراة عليهم بطلب الرؤية جهرة، بل ضموا إليه عبادة العجل وذلك يدل على غاية بعدهم عن طلب الحق والدين، والمراد بالبينات من قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أمور:

أ. أحدها: أنه تعالى جعل ما أراهم من الصاعقة بينات، فإن الصاعقة وإن كانت شيئا واحدا إلا أنها كانت دالة على قدرة الله تعالى وعلى علمه وعلى قدمه، وعلى كونه مخالفا للأجسام والأعراض وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوّة.

ب. ثانيها: أن المراد بالبينات إنزال الصاعقة وإحياؤهم بعد ما أماتهم.

ج. ثالثها: أنهم إنما عبدوا العجل من بعد أن شاهدوا معجزات موسى عليه السلام التي كان يظهرها في زمان فرعون وهي العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها من المعجزات القاهرة، والمقصود من ذلك الكلام أن هؤلاء يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتابا من السماء فاعلم يا محمد أنهم لا يطلبونه منك إلا عنادا ولجاجا، فإن موسى قد أنزل الله عليه هذا الكتاب وأنزل عليه سائر المعجزات القاهرة، ثم أنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وأقبلوا على عبادة العجل، وكل ذلك يدل على أنهم مجبولون على اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق.

6. ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ يعني لم نستأصل عبدة العجل‏ ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ يعني أن قوم موسى وإن كانوا قد بالغوا في إظهار اللجاج والعناد معه لكنا نصرناه وقويناه فعظم أمره وضعف خصمه، وفيه بشارة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على سبيل التنبيه، والرمز بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه فإنه بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/257.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سألت اليهود محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدعيه على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة، تعنتا له صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأعلم الله تعالى أن آباءهم قد عنتوا موسى عليه السلام بأكبر من هذا.

2. ﴿فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ أي عيانا، وقد تقدم في البقرة، و﴿جَهْرَةً﴾ نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة، فعوقبوا بالصاعقة لعظم ما جاءوا به من السؤال والظلم من بعد ما رأوا من المعجزات.

3. ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ في الكلام حذف تقديره: فأحييناهم فلم يبرحوا فاتخذوا العجل، وقد تقدم في البقرة، ويأتي ذكره في طه إن شاء الله.

4. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي البراهين والدلالات والمعجزات الظاهرات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها بأنه لا معبود إلا الله تعالى.

5. ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ أي عما كان منهم من التعنت، ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي حجة بينة وهي الآيات التي جاء بها، وسميت سلطانا لأن من جاء بها قاهر بالحجة، وهي قاهرة للقلوب، بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها.

__________

(1) تفسير القرطبي: 6/6.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ هم اليهود، سألوه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يرقى إلى السماء وهم يرونه، فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدّعيه، يدل على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى التوراة، تعنتا منهم، أبعدهم الله، فأخبره الله عزّ وجلّ بأنهم قد سألوا موسى سؤالا أكبر من هذا السؤال، فقالوا: ﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ أي: عيانا، وقد تقدّم معناه في البقرة، وجهرة: نعت لمصدر محذوف، أي: رؤية جهرة، ﴿فَقَدْ سَأَلُوا﴾ جواب شرط مقدر، أي: إن استكبرت هذا السؤال منهم لك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك.

2. ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ هي: النار التي نزلت عليهم من السماء فأهلكتهم.

3. الباء في قوله: ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ للسببية، أي: بسبب ظلمهم في سؤالهم الباطل، لامتناع الرؤية عيانا في هذه الحالة، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة، فقد جاءت بذلك الأحاديث المتواترة، ومن استدلّ بهذه الآية على امتناع الرؤية يوم القيامة فقد غلط غلطا بينا.

4. ثم لم يكتفوا بهذا السؤال الباطل الذي نشأ منهم بسبب ظلمهم بعد ما رأوا المعجزات، بل ضموا إليه ما هو أقبح منه، وهو عبادة العجل، وفي الكلام حذف والتقدير: فأحييناهم فاتخذوا العجل.

5. والبينات: البراهين والدلائل، والمعجزات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها.

6. ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ أي: عما كان منهم من التعنت وعبادة العجل‏ ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي: حجة بينة، وهي: الآيات التي جاء بها، وسميت: سلطانا، لأن من جاء بها قهر خصمه، ومن ذلك أمر الله سبحانه له بأن يأمرهم بقتل أنفسهم توبة عن معصيتهم، فإنه من جملة السلطان الذي قهرهم به‏.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/615.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قالت أحبار اليهود: إن كنت صادقًا فأتنا بكتاب من السماء جملة، كما أتى موسى بالتوراة جملة، وقيل: بكتاب محرَّر بخطٍّ سماويٍّ على الألواح كالتوراة، وقيل: بكتاب نعاين نزوله، وقيل: بكتاب إلينا بأعياننا وأسمائنا أنَّك رسول الله، فنزل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾

2. ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ سؤال تعنُّت ولو سألوه ليتبيَّن لهم الحقُّ لنزل ما طلبوا، كما قاله الحسن، ﴿أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَآءِ﴾ وليس ذلك ببدع منهم، ولا أوَّل جهالتهم، ولا تستعظمه ولا تبالِ به؛ لأنَّه قد سبق أكثر من ذلك منهم كما قال: ﴿فَقَدْ سَأَلُواْ﴾ أي: لأنَّهم قد سألوا، أو إن استعظمت ذلك وعرفت ما كانوا عليه تبيَّن لك رسوخ كفرهم، والواو لأهل الكتاب كلِّهم، ﴿مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَالِكَ﴾ وهو مجملٌ بيَّنه بقوله: ﴿فَقَالُواْ أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾، وإنَّما سأل هذا أوائلهم لكنَّهُم لَمَّا كانوا على أمثال هذا السؤال وراضين عنهم ومصوِّبين لأفعالهم وأقوالهم نسب إليهم السؤال، ويجوز رجوع الواو إلى البعض السائلين القائلين فلا مجاز، قال بعض المحقِّقِينَ: إسناد فعل البعض إلى الكلِّ وقع في نحو ألف موضع من القرآن، ولا أراه يصحُّ.

3. شبَّه إظهار ما يُرى بإظهار الصوت المسموع، فسمَّاه (جَهْرَةً) على الاستعارة، وأصل الجهر في الصوت، أو أطلق الجهر على مطلق الإظهار، فهو مجاز مرسل لعلاقة الإطلاق والتقييد، والمعنى: أرنا الله مجاهَرًا لنا به (بفتح الهاء)، أو أرنا الله مجاهرين له، أو إراءة جهرة، أو اجهر لنا به جهرة، كقمت وقوفًا، فـ (جَهْرَةً) حال من لفظ الجلالة، أو من (نَا)، أو مفعول مطلق.

4. خرج سبعون رجلا من بني إسرائيل مع موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الجبل، فقالوا: أرنا الله جهرًا ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ نار من السماء فأهلكتهم، وقيل: الموت، ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ لظلمِهِم أنفسَهُم، ودينَ الله، بطلب ما هو محال في حقِّ الله، وهو رؤيته، فإنَّه نقص، وشبه بالمخلوق، وما كان نقصًا يتنزَّه الله عنه في الآخرة كما تنزَّه عنه في الدُّنيا، فلا يُرى في الآخرة، وبيان الشبه والنقص: الجهات، والحدود، والحلول، والغِلظُ، والرقَّة، والطول، والعَرْض، المستلزِمات للَّون، وقومنا يقولون: ظلمهم هو إباؤهم عن الإيمان حتَّى يروه، وذكرُ الجهرة مع أنَّ رؤية العين لا تكون إلَّا جهرة زيادة في التشنيع عليهم، أو تحرُّزٌ عن توهُّمِ الرؤيةِ بدليلٍ لَا بالعين.

5. ﴿ثُمَّ اَتَّخَذُواْ الْعِجْلَ﴾ إلهًا صوَّروه من الذهب والفضَّة وجواهر، والترتيب في الأخبار لا في الأزمان؛ لأنَّ اتِّخاذهم العجل، في حال سؤال مَن ذَهَب مع موسى إلى المناجاة، أو قبله لا بعده، ﴿مِنم بَعْدِ مَا جَآءَتْهُم﴾ على وحدانيَّة الله تعالى: ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ المعجزات؛ من اليد، والعصا، وفلق البحر، وسائر كلِّ ما يدلُّ على وحدته تعالى بالألوهيَّة، لا التوراة؛ لأنَّهم اتَّخذوا العجل قبل نزولها.

6. ونسب إليهم اتِّخاذ العجل لأنَّه فعل آبائهم وقد رضوا عنهم، وفعلوا ما يشبه اتِّخاذ العجل من البدع ﴿فَعَفَوْنَا عَن ذَالِكَ﴾ لم نعاقبهم عليه لتوبتهم، فتوبوا أنتم من كفركم نعفُ عنكم، كما عفونا عن آبائكم.

7. ﴿وَءَاتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا﴾ تسلُّطًا عليهم، بأن أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتِّخاذ العجل، فأطاعوه، فقُتل منهم سبعون ألفًا، ﴿مُّبِينًا﴾ ظاهرًا.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/333.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بيّن تعالى ما جبل عليه اليهود من اللجاج والعناد، والبعد عن طريق الحق، بقوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ قال ابن عباس: كعب وأصحابه‏ ﴿أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي: كما نزلت التوراة على موسى جملة في الألواح، مع أنه لا حاجة لهم إلى طلب ذلك بعد ما وضحت البراهين على نبوتك، لا سيما بإعجاز ما نزل عليك من الفرقان، إلا أن الذي حملهم على سؤالهم هو التعنت والكفر، كما قال قبلهم كفار قريش نظير ذلك: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الإسراء: 90] الآيات.

2. ولهذا قال تعالى: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ أي: مما سألوك‏ ﴿فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ أي: رؤية ظاهرة ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ أي النار النازلة من السماء ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ أي: جراءتهم على الله وعتوّهم وعنادهم، إذ لا يرون آية إلا يطلبون أكبر منها، حتى يروا آية ملجئة إلى الإيمان بحيث لا يفيد الإيمان معها، فلا يكادون يؤمنون إيمانا يفيدهم أصلا، ولا يبعد منهم الكفر، بعد رؤية الآيات، فإنهم رأوا آيات موسى‏.

3. ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ أي: إلها وعبدوه‏ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي: الدلائل القاطعة على نفي الشرك، ثم تابوا عنه‏ ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ أي: تركناهم ولم نستأصلهم‏ ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي: حجة بينة وتسلطا ظاهرا على إهلاك من خالفه، وفي ذلك بشارة للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بنصره، وإن بالغوا في العناد والإلحاد.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/389.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تقدم في الآيات التي قبل هذه بيان حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بينه تعالى وبين رسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وهم أهل الكتاب الذين جعلوا الدين رياسة وعصبية، لا هداية إلهية، ثم بين هذه الآيات بعض أحوال الإسرائليين منهم في تعنتهم وتعجيزهم وجهلهم بحقيقة الدين.

2. ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ بأن ينزل عليهم منها محررا بخط سماوي يشهد أنك رسول الله إليهم، أو ينزل باسم جماعتهم، أو أسماء أفراد معينين من أحبارهم، وهم الذين اقترحوا ذلك ـ أقوال، وقيل أرادوا أن ينزل عليهم كتاب شريعة هذا النبي جملة واحدة كالألواح التي جاء بها موسى، وفي هذا أن اليهود طلبوا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينزل عليهم شريعته كلها جملة واحدة هو كالتوراة، والظاهر أن هذا مما كان يغش به اليهود المسلمين، فالمعروف في التوراة التي عندهم أن الذي جاء به موسى من عند الله تعالى جملة واحدة هو الوصايا العشر منقوشة في لوحين جاء بهما في المرة الأولى: فلما رآهم قد عبدوا العجل المصنوع من الحلي في غيبته غضب وألقى اللوحين فكسرهما، ثم أمره الله تعالى بأن ينحت لوحين آخرين وكتب له فيهما تلك الوصايا (راجع الفصل 24 والفصل 31 من سفر الخروج) وأما سائر الأحكام فقد كانت توحى إلى موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم في أوقات متعاقبة، ولم تنزل عليه مكتوبة جملة واحدة.

3. يقول الله تعالى يسألك أهل الكتاب هذا على سبيل التعنت والتعجيز ولا بقصد طلب الحجة لأجل الاقتناع، وإن تعجب أيها الرسول من سؤالهم وتستنكره وتستكبر عليهم، ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ سأله ذلك سلف هؤلاء الذين يسألونك أن تنزل عليهم كتابا من السماء، وإنما الخلف والسلف في الصفات والأخلاق سواء، لأن الأبناء ترث الآباء، والإرث يكون على أشده وأتمه في أمثال هؤلاء اليهود الذين يأبون مصاهرة الغرباء، على أن سنة القرآن في مخاطبة الأمم والحكاية عنها معروفة مما تقدم في شأن اليهود كغيرهم، وهو أن الأمة لتكافلها وتوارثها واتباع خلفها لسلفها تعد كالشخص الواحد فينسب إلى المتأخرين منها ما فعله المتقدمون، ويمكن جريان الكلام هنا على طريق الحقيقة بصرف النظر عن هذه السنة، وذلك أن كلا من السؤالين مسند إلى جنس أهل الكتاب وهو لا يقتضي أن يكون الأفراد الذين أسند إليهم السؤال الأول عين الأفراد الذين أسند إليهم السؤال الثاني.

4. إن سؤال هؤلاء القوم رؤية الله تعالى جهرة أكبر وأعظم من سؤالهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وكل من السؤالين يدل على جهلهم أو عنادهم، أما سؤال إنزال الكتاب فهو يدل على أحد أمرين:

أ. إما أنهم لا يفهمون معنى النبوة والرسالة على كثرة ما ظهر فيهم من الأنبياء والرسل، ولا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين سائر الأمور المستغربة كحيل السحر والشعوذة لمخالفتها للعادة، وقد بينت لهم أنه يقوم فيهم أنبياء كذبة وأن النبي يعرف بدعوته إلى التوحيد والحق والخير لا بمجرد آية أو أعجوبة يعلمها (كما نص على ذلك في أول الثالث عشر من سفر تثنية الاشتراع وغيره)

ب. وإما أنهم معاندون يقترحون تعجيزا ومرواغة.

5. أيا ما قصدوا من هاتين الأمرين فلا فائدة في إجابتهم إلى ما سألوا كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الأنعام: 8]

6. أما سؤالهم رؤية الله جهرة أي عيانا كما يرى بعضهم بعضا فهو أدل على جهلهم وكفرهم بالله تعالى لأنهم ظنوا أنه جسم محدود تدركه الأبصار، وتحيط به أشعة الأحداق، وقد عوقبوا على جهلهم هذا ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ إذ شبهوا ربهم بأنفسهم إلى ما فوق مرتبتها وقدرها ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الزمر: 27]، والصاعقة نار جوية، وتشتغل باتحاد الكهرباء الإيجابية بالسلبية، وتقدم تفسير مثل هذا في سورة البقرة.. وفيه أن هذه الواقعة معروفة في كتبهم وفيها التعبير بالنار بدل الصاعقة، وربما يظن الظان أنها نار خلقها الله تعالى من العدم، ولكن القرآن بين لنا أنها من الصواعق المعتادة أرسلها الله عليهم عند ظلمهم هذا، ولا يمنع ذلك أن تكون حدثت بأسبابها، والله تعالى يوفق أقدارا لأقدار.

7. ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ المثبتة للتوحيد النافية للشرك على يد موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتقدم بيان هذا في تفسير آية (51 ـ 92) من سورة البقرة: ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ الذنب الذي هو اتخاذ العجل حين تابوا منه تلك التوبة النصوح التي قتلوا بها أنفسهم كما بين الله لنا ذلك في سورة البقرة [51 ـ 54: 1] ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي سلطة ظاهرة بما أخضعناهم له على تمردهم وعصيانهم، حتى في قتل أنفسهم.

__________

(1) تفسير المنار: ‏6/11.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن بين سبحانه في سابق الآيات حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بين الله ورسله فيقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض وهم أهل الكتاب، بين في هذه الآيات بعض حوادث لليهود تدل على شديد تعنتهم وجهلهم بحقيقة الدين.

2. ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ فقد قالوا إن موسى عليه السلام جاء بالألواح من عند الله فائتنا بألواح من عنده تكون بخط سماوي يشهد أنك رسول الله إلينا، أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: إن اليهود قالوا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله يكون فيه (من الله تعالى إلى فلان إنك رسول الله وإلى فلان إنك رسول الله، وهكذا ذكروا أسماء معينة من أحبارهم، وما مقصدهم من ذلك إلا التعنت والتحكم لا طلب الحجة لأجل الاقتناع) وقال الحسن لو سألوه ذلك استرشادا لأعطاهم ما سألوا.

3. ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ أي عيانا ننظر إليه ونشاهده: أي لا تعجب أيها الرسول من سؤالهم وتستنكره فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، وكل من السؤالين يدل على جهل أو عناد، ذاك أن سؤال الرؤية جهرة دليل على الجهل بالله، إذ هم ظنوا أن الله جسم محدود تدركه الأبصار، وأما سؤال إنزال الكتاب فهو دليل إما على العناد لأنهم اقترحوا ما اقترحوا تعجيزا ومراوغة، وإما على الجهل بمعنى النبوة والرسالة مع ما ظهر فيهم من أنبياء، إذ هم لا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين الشعوذة وحيل السحرة المخالفة للعادة، وكتبهم قد بينت لهم أنه يقوم فيهم أنبياء كذبة وأن النبي‏ يعرف بدعوته إلى التوحيد والحق لا بمجرد أعجوبة يعملها كما نصت على ذلك التوراة في سفر تثنية الاشتراع وغيره.

4. وأيا ما كان فلا فائدة في إجابتهم إلى ما طلبوا كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾

5. نسب سؤال موسى إليهم والذين سألوا إنما هم سلفهم، لأن الخلف والسلف سواسية في الأخلاق والصفات، فالأبناء يرثون الآباء ولا سيما اليهود الذين يأبون مصاهرة الغرباء، ولأن سنة القرآن قد جرت على أن الأمة تعد كالشخص الواحد في اتباع خلفها لسلفها، فينسب إلى المتأخر ما فعله المتقدم كما سبق هذا في سورة البقرة في مخاطبة اليهود وغيرهم.

6. ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ الصواعق نيران جوية تنشأ من اتحاد الكهرباء الموجبة بالكهرباء السالبة، وقوله بظلمهم: أي بسبب ظلمهم: أي إن الله تعالى عاقبهم على جهلهم بإنزال الصاعقة عليهم عذابا لهم، إذ شبهوا الخالق بالمخلوق ورفعوا أنفسهم فوق أقدارها كما قال تعالى:‏ ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾

7. ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ تقدم هذا في سورة البقرة: أي وبعد أن جاءتهم المعجزات على يد موسى عليه السلام من قلب العصا حية واليد بيضاء وفلق البحر وغيرها، اتخذوا العجل إلها وعبدوه، فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا، فتوبوا أنتم مثلهم حتى نعفو عنكم مثلهم.

8. ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ السلطان هنا بمعنى السلطة: أي إننا أعطيناه سلطة ظاهرة فأخضعناهم له على تمردهم وعنادهم حتى في قتل أنفسهم، وفى هذا بشارة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندون فإنك ستتغلب عليهم آخرا وتقهرهم.

__________

(1) تفسير المراغي ‏6/9.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ)في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد تركيز تلك القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي عن حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر، فيما يتعلق بالرسل والرسالات.. يأخذ في استعراض بعض مواقف اليهود في هذا المجال، وفي مجال الجهر بالسوء الذي بدئ به هذا الدرس، منددا بموقفهم من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ورسالته، وتعنتهم في طلب الآيات والأمارات منه، ويقرن بين موقفهم هذا وما كان لهم من مواقف مع نبيهم موسى ـ عليه السلام ـ ثم مع رسول الله من بعده عيسى ـ عليه السلام ـ وأمه مريم، فإذا هم جبلة واحدة في أجيالهم المتتابعة.. والسياق يوحد بين الجيل الذي يواجه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والجيل الذي واجه عيسى عليه السلام.. والجيل الذي واجه موسى كذلك من قبل، ليؤكد هذا المعنى، ويكشف عن هذه الجبلة.

2. لقد وقف اليهود في الجزيرة من الإسلام ونبي الإسلام ذلك الموقف العدائي المتعنت المكشوف، وكادوا له ذلك الكيد المبيت المستمر العنيد، الذي وصفه القرآن تفصيلا، واستعرضنا ألوانا منه في سورتي البقرة وآل عمران، وفي هذه السورة كذلك من قبل، وهذا الذي تقصه الآيات هنا لون آخر.

3. إنهم يتعنتون فيطلبون إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يأتيهم بكتاب من السماء.. كتاب مخطوط ينزله عليهم من السماء مجسما يلمسونه بأيديهم: ﴿يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ﴾، ويتولى الله سبحانه الإجابة عن نبيه، ويقص عليه وعلى الجماعة المسلمة ـ في مواجهة اليهود ـ صفحة من تاريخهم مع نبيهم وقائدهم ومنقذهم موسى ـ عليه السلام ـ الذي يزعمون أنهم يؤمنون به؛ ويرفضون التصديق بعيسى من بعده وبمحمد!

4. إن هذه الجبلة ليست جديدة عليهم؛ وليست طابع هذا الجيل وحده منهم، إنما هي جبلتهم من قديم، إنهم هم هم من عهد موسى ـ نبيهم وقائدهم ومنقذهم ـ إنهم هم هم غلظ حس فلا يدركون إلا المحسوسات.. وهم هم تعنتا وإعناتا فلا يسلمون إلا تحت القهر والضغط.. وهم هم كفرا وغدرا فسرعان ما ينقلبون فينقضون عهدهم ـ لا مع الناس وحدهم ولكن مع ربهم كذلك ـ وهم هم قحة وافتراء؛ فلا يعنيهم أن يتثبتوا من قول؛ ولا يتورعون كذلك عن الجهر بالنكر.. وهم هم طمعا في عرض الدنيا؛ وأكلا لأموال الناس بالباطل؛ وإعراضا عن أمر الله وعما عنده من ثواب..

5. إنها حملة تفضحهم وتكشفهم؛ وتدل قوتها وتنوع اتجاهاتها، على ما كان يقتضيه الموقف لمواجهة خبث الكيد اليهودي للإسلام ونبي الإسلام في ذلك الأوان.. وهو هو خبث الكيد الذي ما يزالون يزاولونه ضد هذا الدين وأهله حتى الآن.

6. ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾.. فلا عليك من هذا التعنت؛ ولا غرابة فيه ولا عجب منه: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾

7. ولم تبلغ الآيات البينات التي أظهرها الله لهم على يد موسى نبيهم أن تلمس حسهم؛ وتوقظ وجدانهم وتقود قلوبهم إلى الطمأنينة والاستسلام؛ فإذا هم يطلبون رؤية الله سبحانه عيانا! وهو مطلب طابعه التبجح الذي لا يصدر عن طبع خالطته بشاشة الإيمان أو فيه استعداد للإيمان، ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾

8. ولكن الله سبحانه عفا عنهم؛ وتقبل فيهم دعاء موسى عليه السلام وضراعته إلى ربه؛ كما ورد في السورة الأخرى‏ ﴿فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾

9. ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾، عجل الذهب، الذي صاغه لهم السامري، مما كانوا قد أخذوه ـ حيلة ـ من نساء المصريين وهم خارجون من مصر ـ فإذا هم يعكفون عليه؛ ويتخذونه إلها في غيبة موسى عنهم في مناجاة ربه، في الموعد الذي حدده له، لينزل عليه الألواح فيها هدى ونور، ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾..

10. ولكن اليهود هم اليهود، لا يفلح معهم إلا القهر والخوف: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾.. والسلطان الذي آتاه الله موسى هو ـ في الغالب ـ الشريعة التي تضمنتها الألواح، فشريعة الله سلطان من الله؛ وكل شريعة غير شريعة الله ما أنزل الله بها من سلطان؛ وما جعل فيها من سطوة على القلوب، لذلك تستهين القلوب بالشرائع والقوانين التي يسنها البشر لأنفسهم، ولا تنفذها إلا تحت عين الرقيب وسيف الجلاد، فأما شريعة الله فالقلوب تخضع لها وتخنع؛ ولها في النفس مهابة وخشية..

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/800.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مما هو من قبيل الجهر بالسوء من القول، تلك الأسئلة الخبيثة الفاجرة، التي يسألها أهل الكتاب ـ والمراد بهم اليهود ـ ويلقون بها بين يدى النبي الكريم، في تحدّ وقاح! وسؤالهم هنا، هو أن ينزل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عليهم كتابا من السّماء.. يرونه رأى العين، كما رأوا تلك المائدة التي أنزلها الله على عيسى عليه السلام، حين اقترحوا عليه ذلك، ولكنهم ـ مع هذا ـ لم يؤمنوا به، ولم يصدقوا رسالته..

2. ومن قبل كان اليهود يلقون إلى مشركي مكة بمثل هذه المقترحات، ليعنتوا بها النبيّ وليقيموا لهم حجة عليه.. فكان من ذلك ما كشفه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾، فلما التقى اليهود بالنبي في المدينة، وواجهوه بكفرهم وعنادهم، أعادوا هذا السؤال الذي كانوا قد صاغوه من قبل لمشركى مكة..

3. قوله تعالى: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ هو ردّ مفحم على هؤلاء الكافرين المعاندين.. إنهم لم يسألوا ليعلموا، أو يؤمنوا، ولكن ليشتفوا من داء اللّجاج المتمكن فيهم.. ولو أنهم كانوا يؤمنون بآيات الله، لآمنوا بما بين أيديهم من آيات مادية محسوسة، تجبه كل معاند، وتخزى كل متحد.. ولكنهم لا يريدون إلا اللجاج والعناد، والتطاول والسّفه.. فلقد سألوا موسى أكبر من هذا السؤال، وأبعدوا في الوقاحة والتحدي، فقالوا ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾! وقد عاقبهم الله سبحانه على هذا العناد الفاجر.. فتجلّى لهم في جلال جبروته ونقمته.. فأخذتهم الصاعقة بظلمهم..

4. لكن لم تكن هذه الضربة القاصمة لتمسك بهم على طريق الاستقامة والهدى، بل لجّوا في غيّهم وضلالهم، وعادوا سيرتهم الأولى في الكفر والعناد.. فاتخذوا العجل إلها لهم يعبدونه من دون الله، ولم تنفعهم الآيات المشرقة التي جاءهم بها موسى، من ربّه.. إذ نجاهم من آل فرعون وفرق بهم البحر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وفجّر لهم من الصخر عيونا، حيث لا ماء ولا زرع، فشربوا، وزرعوا.. ولكنها القلوب القاسية، والنفوس المريضة، والطباع النكدة، لا تقبل على خير ولا تحتفظ بخير.. والله سبحانه وتعالى ويقول: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف: 58]

5. وفي توجيه الخطاب إلى جماعة اليهود عامة، سواء منهم من سألوا موسى أن يريهم الله جهرة، ومن لم يسألوه، ومن عبد العجل منهم ومن لم يعبده ـ في هذا ما يشير إلى أنهم جميعا من طبيعة واحدة، وعلى وجه واحد من وجوه الكفر والضلال، وأن قديمهم وحديثهم سواء، وأن الأبناء والآباء على طريق واحد، هو طريق اللجاج في الباطل، والإغراق في العناد.. وأن آباءهم الذين أعنتوا موسى، وكفروا بآيات الله ومكروا بها، لا يختلفون كثيرا عن هؤلاء الأبناء الذين التقوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فعادوا سيرة آبائهم في أنبياء للّه، مع هذا النبيّ الكريم، يلقونه بالأسئلة الماكرة المتحدّية، لا يبغون بها إلا العنت والضلال..

6. ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ أي تجاوزنا عن ذلك، وأفسحنا لهم المقام في هذه الحياة، لعلّهم يصلحون ما أفسدوا، ولتتظاهر الحجة عليهم، فيما يأخذهم الله به من عقاب، وفيما يصبّ عليهم من لعنات.

7. ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ كبت لهم، وحسرات عليهم، إذ فاتهم ما أرادوا بموسى من مكر، وما دبّروا من كيد.. ثم هو كبت وحسرة لهؤلاء الذين يلقون (محمدا) صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكرهم وكيدهم، وأنهم هم الخاسرون، ولن يصيبهم إلا ما أصاب آباءهم من نقمة وبلاء، وما ينال محمدا إلا ما نال موسى من فضل وإحسان.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/959.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لمّا ذكر الله تعالى معاذير أهل الكتابين في إنكارهم رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أعقبها بذكر شيء من اقتراحهم مجيء المعجزات على وفق مطالبهم، والجملة استئناف ابتدائي.

2. مجيء المضارع هنا: إمّا لقصد استحضار حالتهم العجيبة في هذا السؤال حتّى كأنّ السامع يراهم كقوله: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾ [هود: 38]، وقوله: ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾ [الصافات: 12]، وقوله: ﴿اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً﴾ [فاطر: 9]، وإمّا للدلالة على تكرار السؤال وتجدّده المرّة بعد الأخرى بأن يكونوا ألحّوا في هذا السؤال لقصد الإعنات، كقول طريف بن تميم العنبري: (بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم) أي يكرّر التوسّم، والمقصود على كلا الاحتمالين التعجيب من هذا السؤال، ولذلك قال بعده: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى﴾

3. السّائلون هم اليهود، سألوا معجزة مثل معجزة موسى بأن ينزل عليه مثل ما أنزلت الألواح فيها الكلمات العشر على موسى، ولم يريدوا جميع التوراة كما توهّمه بعض المفسّرين فإنّ كتاب التوراة لم ينزل دفعة واحدة، فالمراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود.

4. الكتاب هنا إمّا اسم للشيء المكتوب كما نزلت ألواح موسى، وإمّا اسم لقطعة ملتئمة من أوراق مكتوبة، فيكونون قد سألوا معجزة تغاير معجزة موسى.

5. الفاء في قوله: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى﴾ فاء الفصيحة دالّة على مقدّرة دلّت عليه صيغة المضارع المراد منها التعجيب، أي فلا تعجب من هذا فإنّ ذلك شنشنة قديمة لأسلافهم مع رسولهم إذ سألوه معجزة أعظم من هذا، والاستدلال على حالتهم بحالة أسلافهم من‏ قبيل الاستدلال بأخلاق الأمم والقبائل على أحوال العشائر منهم، وقد تقدّم بيان كثير منه في سورة البقرة.

6. في هذا الكلام تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ودلالة على جراءتهم، وإظهار أنّ الرسل لا تجيء بإجابة مقترحات الأمم في طلب المعجزات بل تأتي المعجزات بإرادة الله تعالى عند تحدّي الأنبياء، ولو أجاب الله المقترحين إلى ما يقترحون من المعجزات لجعل رسله بمنزلة المشعوذين وأصحاب الخنقطرات والسيمياء، إذ يتلقّون مقترحات الناس في المحافل والمجامع العامّة والخاصّة، وهذا ممّا يحطّ من مقدار الرسالة، وفي إنجيل متّى: أنّ قوما قالوا للمسيح: نريد أن نرى منك آية فقال: (جيل شرّير يطلب آية ولا تعطى له آية)، وتكرّر ذلك في واقعة أخرى، وقد يقبل ذلك من المؤمنين، كما حكى الله عن عيسى: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: 112، 115]، وقال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: 59]

7. وهم لمّا سألوا موسى أن يريهم الله جهرة ما أرادوا التيمّن بالله، ولا التنعّم بالمشاهدة، ولكنّهم أرادوا عجبا ينظرونه، فلذلك قالوا: ﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾، ولم يقولوا: ليتنا نرى ربّنا، و﴿جَهْرَةً﴾ ضدّ خفية، أي علنا، فيجوز أن يكون صفة للرؤية المستفادة من (أرنا)، ويجوز أن يكون حالا من المرفوع في (أرنا): أي حال كونك مجاهرا لنا في رؤيته غير مخف رؤيته.

8. واستطرد هنا ما لحقهم من جرّاء سؤالهم هذه الرؤية وما ترتّب عليه فقال: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾، وهو ما حكاه تعالى في سورة البقرة [55] بقوله: ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ وكان ذلك إرهابا لهم وزجرا، ولذلك قال: ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾

9. الظلم هو المحكي في سورة البقرة من امتناعهم من تصديق موسى إلى أن يروا الله جهرة، وليس الظلم لمجرّد طلب الرؤية؛ لأنّ موسى قد سأل مثل سؤالهم مرّة أخرى: حكاه الله عنه بقوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ الآية في سورة الأعراف [143]

10. وبيّن أنّهم لم يردعهم ذلك فاتّخذوا العجل إلها من بعد ما جاءتهم البيّنات الدالّة على وحدانية الله ونفي الشريك وعطفت جملة اتّخاذهم العجل بحرف (ثمّ) المفيد في عطفه الجمل معنى التراخي الرتبى، فإنّ اتّخاذهم العجل إلها أعظم جرما ممّا حكي قبله، ومع ذلك عفا الله عنهم وآتى موسى سلطانا مبينا، أي حجّة واضحة عليهم في تمرّدهم، فصار يزجرهم ويؤنّبهم، ومن سلطانه المبين أن أحرق لهم العجل الذي اتّخذوه إلها.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/301.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أحوال بعض أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض النبيين وكفروا ببعض، واعتبروا بهذا كافرين بالله تعالى؛ لأن من كفر برسول، فقد كفر بالرسالة الإلهية، ومن كفر برسالة الله تعالى؛ فقد كفر به، ثم بين سبحانه وتعالى حقيقة الإيمان واصفا الذين آمنوا بالله ورسوله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله موازنا بذلك بين الإيمان والكفر في الحقيقة وفى النتيجة، وأن الكافرين أعد الله لهم عذابا أليما، وأن المؤمنين لهم أجرهم نعيم مقيم، وغفران ورحمة، ورضوان من الله‏ أكبر، وفى الآيات التالية يبين الله تعالى لجاجة اليهود في كفرهم وإعنات الرسول المبعوث لهم، ولغيرهم، وهو خاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

2. ومن هذه اللجاجة ما قاله الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ أهل الكتاب هنا هم اليهود، بدليل ما جاء في السياق بعد ذلك من آيات، وكقوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [النساء] وإن هؤلاء اليهود متعنتون، لا يسألون النبي دليلا لكون الدليل الذى قدمه، وهو القرآن الكريم غير ملزم، ولكن يتعنتون، فيطلبون إعناتا، ولجاجة في العناد والكفر، وقد طلبوا دليلا قريبا، وهو أن ينزل عليهم كتابا من السماء.

3. وقد اختلف أهل التأويل من السلف الصالح، فقال بعضهم إنهم سألوا أن ينزل على النبي كتاب شامل مكتوب كما نزلت التوراة مكتوبة جملة واحدة، وقال آخرون إنهم طلبوا أن ينزل كتاب خالص في قرطاس يدعوهم إلى الإيمان بمحمد ليكون حجة الله تعالى عليهم، وقال آخرون من السلف إنهم طلبوا أن ينزل ذلك الكتاب الداعي إلى الاستجابة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بعض كبرائهم.

4. والحق كما قال ابن جرير الطبري إنهم طلبوا كل هذا، فقد طلبوا أن ينزل القرآن مكتوبا جملة واحدة كالتوراة وذلك ليشككوا في حقيقته، وفريق آخر منهم طلب أن ينزل من السماء كتاب خاص يقرءونه داعيا لهم بالإذعان، وفريق ثالث طلب كتابا ينزل على بعضهم، فالمطالب الثلاثة وجدت، ولو أجيبوا إلى ما طلبوا ما ضمنا إيمانهم؛ ولأن التعنت لا يقلعه شيء وقد قام الدليل القاطع المثبت، وهو القرآن المعجز، ولقد قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام‏] فالمتعنت لا يقنعه دليل مطلقا، وإن ماضي هؤلاء الكافرين ينبئ عن حاضرهم.

5. ولذا قال تعالى: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ إن الذين سألوا موسى من بنى إسرائيل هم الذين التقى بهم، وأخرجهم من استعباد فرعون إلى حيث الحرية والعزة.

6. سؤال وإشكال: سياق النص القرآني يفيد أنه منسوب إلى اليهود والذين عاصروا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكيف ينسب إلى الخلف ما قاله السلف؟ والجواب: أنه سبحانه ينسب القول إلى جنسهم، لا إلى آحادهم، ولا إلى طوائف منهم، وإذا نسب القول إلى الجنس جاز أن يخاطب به الحاضرون وخصوصا أن التشابه في الجمود والتعنت قائم بين السلف والخلف، فهم يحملون مثل ما وقع من أسلافهم، وإن كان الأول أشد إعناتا؛ لأنه أكبر، ولما أفاض الله به عليهم من نعم على يد موسى عليه السلام ـ ولكن دأبهم الجمود، فحاضرهم كماضى أسلافهم، لا يهمهم قوة الدليل، إنما يهمهم إعنات الرسول، واتخاذ فعلات للإنكار بعد أن ثبتت على يد موسى عليه السلام البينات الحسية وتكاثرت، حتى وصلت إلى تسع آيات بينات، ومع ذلك طلبوا طلبا غريبا، فلم يطلبوا أن يجيئهم كتاب كما طلبوا منك، بل طلبوا أن يروا الله سبحانه وتعالى جهرة، أي بالعين، وأن يكون أمامهم معاينا، ويطلب إليهم أن يصدقوا موسى، وهو سؤال لا تتصور إجابته في الدنيا، فالله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يرى في الدنيا، وقد روى في ذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل هل رأى ربه؟ فقال: (إنه نور فأنى أراه)

7. وقد عاقبهم الله سبحانه وتعالى على ذلك عقابا شديدا، ذكره بقوله سبحانه: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾:

أ. الصاعقة ـ فسرها بعض العلماء بأنها النار التي تنزل، وهي التي يقرر علماء الكون أنها تنشأ من احتكاك سحابة موجبة بأخرى سالبة، فيتكون من احتكاكهما ذلك اللهب، وأنها أصابت هؤلاء فبهتوا لها، فغشيهم من‏ الذهول ما غشيهم حتى صاروا كالموتى من عظم الإغماء الذى أصابهم، وذلك لا يعارض قوله تعالى في أول سورة البقرة: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة]

ب. وقال بعضهم: الصاعقة ما يصيب الإنسان من حال يترتب عليها موته أو إغماؤه إلى درجة الموت، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الزمر]

ج. وقد قال الراغب الأصفهاني في مفرداته، (إن الصاعقة على ثلاثة أوجه:

أولها: الموت كقوله تعالى: ﴿فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الزمر] وقوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ﴾

والثاني: العذاب، كقوله تعالى: ﴿أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت‏]

الثالث: أن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو ثم يكون منه نار، وينتهى بأن الصاعقة هي في الأصل بهذا المعنى، ثم تكون منه الآثار فهو سبب الموت، أو يكون إنذارا)

8. ولذلك نرجح التوجيه الأول الذى ذكرناه وهو تفسيرها بالنار التي تجلجل بصوت رهيب مفزع، قد يترتب عليه الموت، وهو في ذاته عذاب شديد.

9. سؤال وإشكال: إن الصاعقة لها سبب طبيعي وهو احتكاك سالب بموجب، فكيف يكون عقابا أو إنذارا، أو معجزة؟ والجواب: إن الأسباب الطبيعية لا تمنع الإرادة الإلهية، فالله سبحانه وتعالى سير الأكوان، وهي تحت قدرته وإرادته، فهو الذى يسير السحاب، والرياح، فإذا أراد جلت قدرته إنزال عذاب أو إنذار قوم أرسل الرياح المسخرات بأمره، فكانت منها الصاعقة أو الرعد، أو المطر الغزير الذى يكون غيثا ولا يكون غيثا، وقد صرح الله سبحانه وتعالى بأنه ينزل بالأقوام من الآفات بمقدار جرمهم وذلك لا يمنع تحقق الأسباب الطبيعية فمسير الكون هو خالقه، ومسبب الأسباب، وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، وقد قال تعالى في أهل مصر عندما أيدوا فرعون في طغيانه: ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ [الأعراف‏]

10. مع هذه البينات اتخذ السابقون من بنى إسرائيل العجل معبودا، ولذا قال تعالى: ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ هذا النص الكريم فيه بيان إمعانهم في الكفر والجحود، فهم بعد ما جاءتهم البينات أي الحجج المبينة للحق، المثبتة له الدامغة، وبعد أن أنقذهم الله سبحانه وتعالى من جبروت فرعون وطغيانه، واستعباده لهم، وبعد أن رأوا من الآيات ما رأوا، اتخذوا شكل العجل الذى صور من ذهب معبودا لهم، وإطلاق العجل على هذا التمثال الجامد لهم، من قبيل إطلاق اسم الشيء على شبهه في الصورة والهيكل، فهو ليس عجلا حقيقة، ولكنه صورة، وإن اتخاذ العجل بقية من بقايا الوثنية التي كانت تستولى على قلوبهم، ففي مصر كانت عبادة البقر، وفى مصر كانت عبادة نوع من الأوثان فاستمكنت الوثنية من قلوبهم حتى نسوا عقولهم وتفكيرهم، وما آتاهم الله تعالى من عزة، وما قام عليهم من برهان، ولذلك ذكر الله تعالى عنهم أنهم قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فقد قال تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف‏]، ولقد نبهوا إلى ضلالهم في عبادة هيكل العجل، فتنبهوا، وتابوا، وأقلعوا عن عبادته، فعفا الله تعالى عنهم؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، والإيمان بعد الكفر يذهب بآثار الكفر، ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال‏]

11. ولقد كان ذلك التمرد المتوالي مع ما آتى الله نبيه موسى من حجج باهرة قاهرة، ولذا قال سبحانه: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ السلطان هو القدرة وهو السلطة وقد أعطى الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام القوة التي تدفع الباطل، وتزيل رواءه المضلل فأعطاه المعجزات الباهرات البينة الواضحة، التي تبين الحق، وأعطاه القوة التي غلب بها فرعون طاغية الدنيا في عصره، ولهذا ألقاه في اليم وخرج ببنى إسرائيل، وأعطاه القوة التي بها أخضع أولئك المتمردين من بنى إسرائيل على الحق، الذين تعودوا العصيان، وأعطاه القوة فأنزل عليه التوراة، وهي وحدها سلطان مبين؛ لأنها بيان الحق، والحق في ذاته قوة، والتوراة هي ميثاق الله تعالى.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1942.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ المراد بأهل الكتاب هنا يهود المدينة الذين وقفوا من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم موقف العدو المتعنت، وكادوا له الكيد المستمر، وكانوا أول من ابتلي بهم من أهل الكتاب.. ومن تعنتهم ووقحتهم ما أشار اليه سبحانه في هذه الآية من طلبهم أن ينزل النبي عليهم كتابا من السماء يشهد له، على أن يروه رأي العين، وبديهة انهم قالوا ذلك على سبيل التعنت، لا طلبا للحجة، لأن ما تقدم من معجزاته كافية وافية في الاقتناع لمن طلب الحق لوجه الحق.

2. وقد تولى الله تعالى الاجابة عن نبيه، حيث قال عز من قائل: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾، أي لا غرابة ولا عجب إذا سألوك يا محمد أن تنزل عليهم كتابا من السماء فلقد سألوا موسى أكبر وأعظم من ذلك، سألوه ان يروا الله بالذات.

3. ﴿فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾، سبق تفسير سؤالهم هذا واتخاذهم العجل في سورة البقرة الآية 54 ـ 57، ومعلوم ان الذين سألوا الرؤية جهرة، واتخذوا العجل إلها هم اليهود الأولون، لا يهود المدينة.. ولكن هؤلاء راضون ومؤمنون بكل ما فعل الآباء والأجداد، ومن هنا صحت النسبة اليهم.

4. ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ المراد بالسلطان الحجة الظاهرة، والبرهان القاطع.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/482.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآيات تذكر سؤال أهل الكتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تنزيل كتاب من السماء عليهم حيث لم يقنعوا بنزول القرآن بوحي الروح الأمين نجوما، وتجيب عن مسألتهم.

2. ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ أهل الكتاب هم اليهود والنصارى على ما هو المعهود في عرف القرآن في أمثال هذه الموارد وعليه فالسائل هو الطائفتان جميعا دون اليهود فحسب، ولا ينافيه كون المظالم والجرائم المعدودة في ضمن الآيات مختصة باليهود كسؤال الرؤية، واتخاذ العجل، ونقض الميثاق عند رفع الطور والأمر بالسجدة والنهي عن العدو في السبت وغير ذلك، فإن الطائفتين ترجعان إلى أصل واحد وهو شعب إسرائيل بعث إليهم موسى وعيسى عليه السلام وإن انتشرت دعوة عيسى بعد رفعه في غير بني إسرائيل كالروم والعرب والحبشة ومصر وغيرهم، وما قوم عيسى بأقل ظلما لعيسى من اليهود لموسى عليه السلام.

3. ولعد الطائفتين جميعا ذا أصل واحد يخص اليهود بالذكر فيما يخصهم من الجزاء حيث قال: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ ولذلك أيضا عد عيسى بين الرسل المذكورين بعد كما عد موسى عليه السلام بينهم ولو كان وجه الكلام إلى اليهود فقط لم يصح ذلك، ولذلك أيضا قيل بعد هذه الآيات: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ﴾

4. وبالجملة السائل هم أهل الكتاب جميعا ووجه الكلام معهم لاشتراكهم في الخصيصة القومية وهو التحكم والقول بغير الحق والمجازفة وعدم التقيد بالعهود والمواثيق، والكلام جار معهم فيما اشتركوا فإذا اختص منهم طائفة بشيء خص الكلام به.

5. والذي سألوه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو أن ينزل عليهم كتابا من السماء، ولم يسألوه ما سألوه قبل نزول القرآن وتلاوته عليهم كيف والقصة إنما وقعت في المدينة وقد بلغهم من القرآن ما نزل بمكة وشطر مما نزل بالمدينة؟ بل هم ما كانوا يقنعون به دليلا للنبوة، ولا يعدونه كتابا سماويا مع أن القرآن نزل فيما نزل مشفعا بالتحدي ودعوى الإعجاز كما في سور: إسراء، ويونس، وهود، والبقرة النازلة جميعا قبل سورة النساء.

6. فسؤالهم تنزيل الكتاب من السماء بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن لم يكن إلا سؤالا جزافيا لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق ولا ينقاد للحقيقة وإنما يلغو ويهذو بما قدمته له أيدي الأهواء من غير أن يتقيد بقيد أو يثبت على أساس، نظير ما كانت تتحكم به قريش مع نزول القرآن، وظهور دعوته فتقول على ما حكاه الله سبحانه عنهم‏ ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ [يونس: 20] ﴿أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾ [إسراء: 93]

7. ولهذا الذي ذكرناه أجاب الله سبحانه عن مسألتهم:

أ. أولا: بأنهم قوم متمادون في الجهالة والضلالة لا يأبون عن أنواع الظلم وإن عظمت، والكفر والجحود وإن جاءت البينة، وعن نقض المواثيق وإن غلظت وغير ذلك من الكذب والبهتان وأي ظلم، ومن هذا شأنه لا يصلح لإجابة ما سأله والإقبال على ما اقترحه.

ب. وثانيا: أن الكتاب الذي أنزله الله وهو القرآن مقارن لشهادة الله سبحانه وملائكته وهو الذي يفصح عن التحدي بعد التحدي بآياته الكريمة.

8. فقال تعالى في جوابهم أولا ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ أي مما سألوك من تنزيل كتاب من السماء إليهم‏ ﴿فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ أي إراءة عيان نعاينه بأبصارنا، وهذه غاية ما يبلغه البشر من الجهالة والهذر والطغيان‏ ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ والقصة مذكورة في سورة البقرة (آية: 55 ـ 56) وسورة الأعراف [آية: 155]

9. ثم قال تعالى:‏ ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ وهذه عبادة الصنم بعد ظهور بطلانه أو بيان أن الله سبحانه منزه عن شائبة الجسمية والحدوث، وهو من أفظع الجهالات البشرية ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ وقد أمرهم موسى في ذلك أن يتوبوا إلى بارئهم فيقتلوا أنفسهم فأخذوا فيه فعفا الله عنهم ولما يتم التقتيل ولما يقتل الجميع، وهو المراد بالعفو، وآتى موسى عليه السلام سلطانا مبينا حيث سلطه عليهم وعلى السامري وعجله، والقصة مذكورة في سورة البقرة [آية: 54]

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/130.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا﴾ يخصهم ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ ولعلهم أرادوا أن ترقى في السماء وتنزل عليهم بنفسك كتاباً يتضمن إثبات نبوتك غير القرآن، لأن القرآن قد كفى لو أنصفوا، لكن للتعنت سألوا كتاباً ينزل عليهم إما بأسمائهم يقول: إلى فلان وفلان وفلان اتبعوا محمداً فإني أرسلته، وإما أن ينزل بالكتاب محمد إليهم خاصة، فيبلغهم عن الله أن محمداً نبي.

2. ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ فهم أهل التعنت وهو عادتهم فلا تبال بهم يا محمد، قال الشرفي: (ومعنى ﴿جَهْرَةً﴾ أن يريهم الله معاينة ومشاهدة)، وقال الراغب في (المفردات): (جهر، يقال لظهور الشيء بإفراط حاسة البصر أو حاسة السمع) فعلى هذا: طلبوا معاينة جلية واضحة وهذا أظهر.

3. ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ في طلب المحال وطمعهم فيه وجهلهم بالله حيث ظنوا انه من المواد التي ترى، وجهلهم هكذا قد سبقه جهلهم حين قالوا: ﴿يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف:138]

4. ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ ﴿ثُمَّ﴾ للترقِّي إلى ذكر جهالة أعظم وأبشع وأقبح من طلب الرؤية، وهي (اتخاذهم العجل) الذي ادعوا أنه إله موسى ولم يكتفوا بالشرك كقول الشاعر: (يرى غمرات الموت ثم يزورها) ويحتمل: أن اتخاذ العجل كان من أهله بعد أن أخذت الصاعقة الذين طلبوا الرؤية، فتكون ﴿ثُمَّ﴾ للترتيب في الوقوع، والأول أظهر عندي؛ لأن المتخذين للعجل غير الذين طلبوا الرؤية، وإنما جمعهم التراضي بطلب إله من جنس آلهة المشركين كما شاركهم الآخرون بالرضا فشاركوهم ونسب إلى الجملة، فحَمل ﴿ثُمَّ﴾ على الترقي في المعنى أظهر؛ لأن اتخاذ العجل ليس انتقالاً من طلب الرؤية، بل بعضهم طلب الرؤية وكانوا مع موسى في الميقات أربعين ليلة، وبعضهم اتخذ العجل وكانوا مع هارون خلفه موسى عليهم حين ذهب للميقات، وفي سورة البقرة: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [آية:51]

5. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أن ذلك منكر وباطل، حين قال لهم موسى: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ﴾ [الأعراف:139] و﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ الدالة على خالق السموات والأرض، القادر على كل شيء كفلق البحر لموسى ومن معه وجعله فيه طريقاً يبساً، وإنجائهم من فرعون وقومه، وإغراق فرعون ومن معه بنفس البحر الذي انفلق لموسى ومن معه، وآيات الله لا تحصى.

6. ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ حين تابوا أو عفونا حين وصل موسى ونسف العجل فلم يعاجلهم الله بالعذاب، كقوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ﴾ الآية [الكهف:58]

7. ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا﴾ قوة وهيبة لأجلها انقادوا له حين رجع إليهم ونسف العجل في البحر، وكذلك آتاه الله سلطاناً حين طلبوا الرؤية فأخذهم بالصاعقة، وهذا يدل على أن موسى لم يطلبها طمعاً فيها، ولكن لإقناع قومه بما يكون من الله بسبب الطلب.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/203.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ قال نزلت في اليهود، قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إن كنت نبيا فائتنا الكتاب جملة من السماء كما أتى به موسى، فأنزل الله تعالى هذه الآية، كما جاء في (تفسير البيان) للطبري حديث مرفوع إلى محمّد بن كعب القرظيّ قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: إنّ موسى جاء بالألواح من عند الله فائتنا بالألواح من عند الله حتى نصدّقك، فأنزل الله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾.. إلى قوله: ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾

2. كيف واجه أهل الكتاب ـ وهم في هذه الآيات اليهود ـ دعوة رسول الله إلى الإسلام؟ لقد دعاهم إلى الحوار بالأسلوب الهادئ والفكر المتّزن، والقلب المفتوح، ولكنهم لم يستجيبوا لذلك، لأنهم لا يملكون الحجة التي تواجه الحجة، ولا يعيشون مسئولية الفكر والإيمان بوعي وانفتاح، بل كان العناد والتمرّد والمناورة والمداورة هي العناصر التي تمثّل أجواء الصراع التي خاضها الإسلام معهم، فكيف عبّروا عن ذلك؟ لقد سألوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، كأسلوب من أساليب التعجيز، لأنهم يعرفون أن الله لا يستجيب للتحديات التي تطلق من أجل التعجيز والإثارة، ويعلمون أن طريق الإيمان لا يمرّ بمثل هذه المعاجز التي لا معنى لها، لأنها لا تحقق شيئا في مواجهة الكفر كقوة، بل تظل تتنقّل من اقتراح إلى اقتراح إلى ما لا نهاية، ولهذا، لم يلتفت النبي إليهم، فيما أوحاه الله إليه، بأن هؤلاء ليسوا في موقع الاقتناع، بل هم في موقع اللجاج والعناد.

3. ثم بدأ القرآن يثير أمام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تاريخهم المتمرّد الذي لم يتحرك في الاتجاه الصحيح، بل انطلق في الاتجاه المنحرف الذي يلعب ويلفّ ويدور ويقف المواقف المضادّة لكل دعوة خيّرة، ويتصرّف ضد الأنبياء بكل أساليب التعسّف والقتل والتشريد.. فكيف يمكن أن يأمل بهدايتهم وإقبالهم على دعوة الإسلام؟

4. ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ وهو من طلب المستحيل، لأن الله ليس جسما حتى يراه الناظرون، ثم ما معنى أن يطلبوا هذا الطلب!؟ فإذا كان ذلك من أجل الوصول إلى قناعة الإيمان فإن وسائل القناعة لا تقف عند حدّ لمن أراد الاقتناع، أما إذا أرادوا اللعب على موسى وإظهار عجزه، فإن ذلك يوحي بالانحراف والتفاهة.

5. ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ لأنفسهم ولموسى عليه السّلام فيما طلبوه، وما أثاروه كمظهر من مظاهر التحدّي.

6. ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ فلم يستجيبوا لها، بل انحرفوا عنها وأقبلوا على الدعوات الكافرة التي تدعوهم إلى عبادة العجل تشبّها بالقوم الذين شاهدوهم يعبدون الأصنام على هذه الطريقة، فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ بعد ما أنابوا إلى الله عند رجوع موسى إليهم، وآتَيْنا مُوسى‏ سُلْطاناً مُبِيناً بما أنزله الله عليه من التوراة، وما أعطاه من الشأن الكبير.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/530.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تشير الآية الأولى: إلى طلب أهل الكتاب (اليهود) من النّبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء كاملا وفي دفعة واحدة، فتقول: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾، ولا شك أنّ هؤلاء لم يكونوا صادقين في نواياهم مع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنّ الهدف من نزول الكتاب السماوي هو الإرشاد والهداية والتربية، وقد يتحقق هذا الهدف أحيانا عن طريق نزول كتاب كامل من السماء دفعة واحدة، وأحيانا أخرى يتحقق الهدف عن طريق نزول الكتاب السماوي على دفعات وبصورة تدريجية.

2. وبناء على هذا فقد كان الأجدر باليهود أن يطالبوا النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالدليل ويسألوه عن تعاليم سامية قيمة، لا أن يحددوا له طريقة لنزول الكتب السماوية ويطالبوه بأن ينزل عليهم كتابا الطريقة التي عينوها.

3. ولهذا السبب فضح الله نواياهم السيئة بعد طلبهم هذا، وأوضح للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنّ هذا العمل هو ديدن اليهود، وأنّهم معروفون بصلفهم وعنادهم واختلافهم الأعذار مع نبيّهم الكبير موسى بن عمران عليه السّلام، فقد طلب هؤلاء من نبيّهم ما هو أكبر وأعجب إذ سألوه أن يريهم الله جهارا وعلنا! تقول الآية: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾

4. وما مصدر هذا الطلب العجيب الغريب البعيد عن المنطق غير الصلف والعناد، فهم بطلبهم هذا قد تبنّوا عقيدة المشركين الوثنيين في تجسيد الله وتحديده، وقد أدى عنادهم هذا إلى نزول عذاب الله عليهم، صاعقة من السماء أحاطت بهم لما ارتكبوه من ظلم كبير، تقول الآية: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾

5. ثمّ تشير الآية إلى عمل قبيح آخر ارتكبه اليهود، وذلك حين لجئوا إلى عبادة العجل بعد أن شاهدوا بأعينهم المعجزات الكثيرة والدلائل الواضحة، فتقول: ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾

6. ومع كل هذا الصلف والعناد والشرك، يريهم الله لطفه ورحمته ويغفر لهم لعلهم يرتدعوا عن غيّهم، ويهب لنبيّهم موسى عليه السّلام ملكا بارزا وسلطانا مبينا، ويفضح السامري صاحب العجل ويخمد فتنته وفي هذا تقول الآية: ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/517.

134. اليهود وخيانة المواثيق

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈134⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 154]‌‌‌‌، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾، من باب صغير(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٥.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿غَلِيظًا﴾، يعني: شديدا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٧.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: باب الحطة من باب إيلياء من بيت المقدس(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٦.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾، جبل كانوا في أصله، فرفعه الله، فجعله فوقهم كأنه ظلة، فقال: لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به، فقالوا: نأخذه، وأمسكه الله عنهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾، كنا نحدث: أنه باب من أبواب بيت المقدس(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾، أمر القوم أن لا يأكلوا الحيتان يوم السبت، ولا يعرضوا لها، وأحلت لهم ما خلا ذلك(2).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.

(2) ابن جرير ٢/٢٢٩.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾ معناه الجبل(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 124.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدا على شق، ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله، فكشفه عنهم، فقالوا: ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم، فهم يسجدون كذلك، وذلك قول الله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٥.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾، يعني: باب حطة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾، أي: لا تعدوا في أخذ الحيتان يوم السبت(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، يعني: شديدا، والميثاق: إقرارهم بما عهد الله عز وجل في التوراة(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٩.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ حين لم يقبلوا التوراة؛ فعند ذلك قبلوا، ثم أخذ عليهم الميثاق بذلك، وهو ما ذكرنا.

2. ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾، عن ابن عَبَّاسٍ قال: ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾، يقول: لا تعملوا في السبت عملا من الدنيا، وتفرغوا فيه للعبادة، وفي حرف حفصة: (وقلنا لهم لا تَعدّوا في السبت)، وقال أبو معاذ: ويقرأ: (لا تَعَدَّوْا في السبت)؛ على معنى لا تتعدوا، تلقى إحدى، التائين، وإن شئت: تعتدوا، لم تدغم التاء في الدال.

3. ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، هو ما ذكر، قال ابن عَبَّاسٍ ما: من أرسل الله إليه رسولا فأقر به ـ فقد أوجب على نفسه ميثاقًا غليظًا، وقال مقاتل: الميثاق الغليظ: هو إقرارهم بما عهد الله إليهم في التوراة.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٠٨.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ يعني بالعهد الذي أخذ عليهم بعد تصديقهم بالتوراة أن يعملوا بما فيها فخالفوه لعبادة العجل ونقضوه فرفع الله عليهم الطور ليتوبوا وإلا سقط عليهم الطور فتابوا حينئذ.

2. ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ أي الباب الذي عبدوا فيه العجل وهو باب من أبواب بيت المقدس ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ من الاعتداء الذي هو الظلم وهو ترك واجباته ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ وهو ميثاق آخر بعد رفع الطور.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/199.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ يعني: بالعهد الذي أخذ عليهم بعد تصديقهم بالتوراة ان يعملوا بما فيها، فخالفوا بعبادة العجل ونقضوه، فرفع الله عليهم الطور، ليتوبوا، وإلَاّ سقط عليهم فتابوا حينئذ.

2. في قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه باب الموضع الذي عبدوا فيه العجل، وهو من أبواب بيت المقدس، وهذا قول قتادة.

ب. الثاني: باب حِطَّة فأمروا بدخوله ساجدين لله عز وجل.

3. ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ قرأ ورش عن نافع ﴿تَعُدُّوا﴾ بفتح العين وتشديد الدال، من الاعتداء، وقرأ الباقون بالتخفيف من عَدَوت، وعدوهم فيه تجاوزهم حقوقه، فيكون تعديهم فيه ـ على تأويل القراءة الثانية: ترك واجباته.

4. ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ وهو ميثاق آخر بعد رفع الطور عليهم، غير الميثاق الأول، وفي قوله تعالى: ﴿غَلِيظًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه العهد بعد اليمين.

ب. الثاني: أن بعض اليمين ميثاق غليظ.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٤٢.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ أهل المدينة (لا تعدوا) بتسكين العين وتشديد الدال والجمع بين ساكنين بمعنى لا تعتدوا، ثم ادغم التاء في الدال فصارت دالا مشددة مضمومة، كما قرأ من قرأ (يهتدي) بتسكين الهاء ـ وقووا ذلك بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ فجاء في هذه القصة افتعلوا وقال: ﴿لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ وقرأ الباقون بتسكين العين ـ من عدوت في الامر: إذا تجاوزت الحق فيه أعدو عدوانا وعداء وعدواً قال أبو زيد: عدا على اللص: أشد العدو، والعدو والعداء والعدوان أي سرقك وظلمك، وعدت يمينه عن ذلك أشد العدو وتعدو وحجتهم قوله: إذا يعدون في السبت في هذه القصة وقوله: فأولئك هم العادون.

2. معنى قوله: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾ يعني الجبل لما امتنعوا من العمل بما في التوراة وقبول ما جاءهم به موسى بميثاقهم يعني بما اعطوا الله من الميثاق والعهد ليعلمن بما في التوراة.

3. ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ يعني باب حطه حين أمرهم الله ان يدخلوا فيه سجوداً، فدخلوا على أستاههم يزحفون.

4. وقلنا لهم: ﴿لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ أي لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم إلى ما حرم عليكم، قال قتادة: أمرهم الله ان لا يأكلوا الحيتان يوم السبت، ولا يعرضوا لها، وأحل له ما عداه.

5. ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ يعني عهداً مؤكداً بأنهم يعلمون ما أمرهم الله به وينتهون عما أنهاهم الله عز وجل عنه، وقد بينا فيما مضى السبت الذي من أجله كانوا أمروا بدخول الباب سجداً، وما كان من أمرهم في ذلك، قال ابن عباس: رفع الله فوقهم الجبل، فقيل لهم: إما ان تأخذوا التوراة بما فيها، أو يلقى عليكم الجبل، وقال أبو مسلم: رفع الله الجبل فوقهم ظلالًا لهم من الشمس بميثاقهم أي بعهدهم جزاء لهم على ذلك، والاول قول اكثر المفسرين.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/379.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الميثاق: العهد المؤكد..

ب. عدوت الأمر: إذا تجاوزت الحق فيه، أعدو عدوًا أو عدوانًا، ويقال: عدا فلان طوره، أي قدره، وعدا عليه؛ أي: فعل به ما لا ينبغي له أن يفعل.

2. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾:

أ. قيل: لما امتنعوا من قبول التوراة والعمل به رفعنا الجبل فوقهم.

ب. وقيل: لما امتنعوا من الانقياد لموسى.

ج. وقيل: لما عبدوا العجل رفع عليهم ليتوبوا، وإلا أسقط عليهم فتابوا.

د. وقيل: رفع الجبل فوقهم ظلة لهم ومعجزة لموسى عن أبي مسلم، يعني بعدما فعلوا تلك الأفاعيل زدناهم معجزة ونعمة برفع الجبل.

3. ﴿بِمِيثَاقِهِمْ﴾:

أ. قيل: رفع الجبل بنقض ميثاقهم الذي أخذ عليهم أن لا يكفروا، عن أبي علي.

ب. وقيل: رفعنا الجبل ليقبلوا ما فيه ميثاقهم وهو التوراة، عن الأصم.

ج. وقيل: بميثاقهم أي: بإعطائهم أَمْرَ الميثاق عن أبي مسلم؛ يعني إنما أنعم عليهم بذلك بما جعلوا من الوفاء بالعهد والميثاق.

د. وقيل: بما أعطوا من الميثاق أن يعملوا بما في التوراة لما خالفوا رفع عليهم الجبل.

4. ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ﴾ ومن الميثاق المأخوذ عليهم دخول الباب، قيل: باب من أبواب بيت المقدس، عن قتادة وهو باب حطة، وقيل: هو في إيلياء؛ وقيل: أريحا ﴿سُجَّدًا﴾:

أ. قيل: خاضعين لله.

ب. وقيل: أمروا بالدخول راكعين فدخلوا يزحفون على استاههم.

ج. وقيل: على شق وجوههم.

5. ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ﴾ لليهود ومما أخذ عليهم الميثاق ﴿لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾:

أ. أي: لا تجاوزوا ما حد لكم، ولا تظلموا باصطياد الحيتان.

ب. وقيل: لا تعملوا فيه للدنيا شيئًا.

6. ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾:

أ. أي: أخذنا عهدًا ﴿غَلِيظًا﴾ مؤكدًا باليمين.

ب. وقيل: نفس اليمين ميثاق، وإنما كرر ذكر الميثاق؛ لأنهم أخذ عليهم ميثاق بعد ميثاق قبل رفع الطور وبعده، فَبَيَّنَ تعالى أن تأكيد الميثاق لم يمنعهم من ركوب العظائم والمناهي.

7. قرأ أبو جعفر ونافع ﴿لَا تَعْدُوا﴾ بتشديد الدال وضمها وتسكين العين، وروى ورش عن نافع بفتح العين والتشديد من اعتد، والأصل لا تعتدوا فأدغمت التاء في الدال؛ لأنها من مخرجها، وليس بأقوى منها، وقرأ الباقون ﴿تَعُدُّوا﴾ بضم الدال وسكون العين خفيفة من (عدوت)

8. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿سُجَّدًا﴾ نصب على الحال، وهو أمر في الحقيقة كأنه قال ادخلوا واسجدوا.

ب. ﴿مِيثَاقًا﴾ مفعولا ﴿غَلِيظًا﴾ نعت له.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/137.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عدا: قال أبو زيد يقول: عدا علي اللص أشد العدو، والعدوان، والعدا، والعدو، إذا سرقك، وظلمك، وعدا الرجل، يعدو، عدوا، في الحضر، وقد عدت عينه عن ذلك أشد العدو، تعدو، وعدا يعدو، إذا جاوز، يقال: ما عدوت إن زرتك: أي ما جاوزت ذلك.

2. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾:

أ. أي: الجبل لما امتنعوا من العمل بما في التوراة، وقبول ما جاءهم به موسى ﴿بِمِيثَاقِهِمْ﴾ أي: بما أعطوا الله سبحانه من العهد، ليعملن بما في التوراة.

ب. وقيل: معناه ورفعنا الجبل فوقهم بنقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم، بأن يعملوا بما في التوراة، وإنما نقضوه بعبادة العجل وغيرها، عن أبي علي الجبائي.

ج. وقال أبو مسلم: إنما رفع الله الجبل فوقهم إظلالا لهم من الشمس، بميثاقهم أي: بعهدهم جزاء لهم على ذلك، وهذا القول يخالف أقوال المفسرين.

3. ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ يعني (باب حطة)، وقد مر بيانه هناك.

4. ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ أي: لا تتجاوزوا في يوم السبت، ما أبيح لكم، إلى ما حرم عليكم، عن قتادة قال أمرهم الله أن لا يأكلوا الحيتان يوم السبت، وأجاز لهم ما عداه ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ أي: عهدا وثيقا وكيدا بأن يأتمروا بأوامره، وينتهوا عن مناهيه وزواجره.

5. قرأ أهل المدينة (لا تعدوا) بتسكين العين، وتشديد الدال، وروى ورش، عن نافع: ﴿لَا تَعْدُوا﴾ بفتح العين وتشديد الدال، وقرأ الباقون: ﴿لَا تَعْدُوا﴾ خفيفة.. من قرأ ﴿لَا تَعْدُوا﴾ فأصله لا تعتدوا، فأدغم التاء في الدال لتقاربهما، ولان الدال تزيد على التاء في الجهر، قال أبو علي: وكثير من النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني منهما مدغما، ولا يكون الأول حرف مد، ولين، نحو دابة، وأصيم، وتمود الثوب، ويقولون: إن المد يصير عوضا من الحركة، وقد قالوا: ثوب بكر، وجيب بكر، فأدغموا المد الذي فيهما أقل من المد الذي يكون فيهما، إذا كان حركة ما قبلهما منهما، فإذا جاز ذلك مع نقصان المد الذي فيه، لم يمتنع أن يجمع بين الساكنين في نحو ﴿لَا تَعْدُوا﴾، ويقوي ذلك جواز نحو أصيم ودويبة، ومديق، ومن قرأ: ﴿لَا تَعْدُوا﴾ فإن الأصل فيه لا تعتدوا فسكن التاء ليدغمها في الدال، ونقل حركتها إلى العين الساكنة قبلها، فصار ﴿لَا تَعْدُوا﴾، ومن قرأ: ﴿لَا تَعْدُوا﴾ فهو لا تفعلوا مثل قوله تعالى: إذ يعدون في السبت، وحجة الأولين قوله: ﴿اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/204.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ أي: بما أعطوا الله من العهد والميثاق: ليعملنّ بما في التّوراة.

2. ﴿لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ قرأ نافع: (لا تعدّوا) بتسكين العين وتشديد الدّال، وروى عنه ورش (تعدّوا) بفتح العين وتشديد الدال، وقرأ الباقون (تعدوا) خفيفة، وقد ذكرنا هذا وغيره في البقرة.

3. (الميثاق الغليظ): العهد المؤكّد.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/494.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. حكى الله تعالى عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم:

أ. أحدها: أنه تعالى رفع فوقهم الطور بميثاقهم، وفيه وجوه:

الأول: إنهم أعطوا الميثاق على أن لا يرجعوا عن الدين، ثم رجعوا عنه وهموا بالرجوع، فرفع الله فوقهم الطور حتى يخافوا فلا ينقضوا الميثاق.

الثاني: أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع الله الجبل فوقهم حتى قبلوا، وصار المعنى: ورفعنا فوقهم الطور لأجل أن يعطوا الميثاق بقبول الدين.

الثالث: أنهم أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عن الدين فالله يعذبهم بأي نوع من أنواع العذاب أراد، فلما هموا بترك الدين أظل الله الطور عليهم وهو المراد من قوله: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾

ب. ثانيها: قوله: ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ ومضى بيانه في سورة البقرة.

ج. ثالثها: قوله: ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، وفيه وجهان:

الأول: لا تعدوا باقتناص السمك فيه قال الواحدي: يقال عدا عليه أشد العداء والعدو والعدوان، أي ظلمه وجاوز الحد، ومنه قوله: ﴿فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا﴾ [الأنعام: 108]

الثاني: لا تعدوا في السبت من العدو بمعنى الحضر، والمراد النهي عن العمل والكسب يوم السبت، كأنه قال لهم: اسكنوا عن العمل في هذا اليوم واقعدوا في منازلكم فأنا الرزاق.

2. قرأ نافع‏ ﴿لَا تَعْدُوا﴾ ساكنة العين مشددة الدال، وأراد: لا تعتدوا، وحجته قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة: 65] فجاء في هذه القصة بعينها افتعلوا، ثم أدغم التاء في الدال لتقاربهما ولأن الدال تزيد على التاء في الجهر، وكثير من النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني‏ منهما مدغما ولم يكن الأول حرف الأول لين نحو دابة وشابة، وقيل لهم، ويقولون: إن المد يصير عوضا عن الحركة، وروى ورش عن نافع لا تعدوا بفتح العين وتشديد الدال، وذلك لأنه لما أدغم التاء في الدال نقل حركتها إلى العين، والباقون تعدوا بضم الدال وسكون العين حقيقة.

3. الميثاق الغليط: قال القفال: هو العهد المؤكد غاية التوكيد، وذلك بين فيما يدعونه من التوراة.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/258.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ أي بسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ منهم، وهو العمل بما في التوراة، وقد تقدم رفع الجبل ودخولهم الباب في البقرة.

2. ﴿سُجَّدًا﴾ نصب على الحال، وقرأ ورش وحده ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ بفتح العين من عدا يعدو عدوا وعدوانا وعدوا وعداء، أي باقتناص الحيتان كما تقدم في البقرة، والأصل فيه وتعتدوا أدغمت التاء في الدال، قال النحاس: ولا يجوز إسكان العين ولا يوصل إلى الجمع بين ساكنين في هذا، والذي يقرأ به إنما يروم الخطأ.

3. ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ يعني العهد الذي أخذ عليهم في التوراة، وقيل: عهد مؤكد باليمين فسمي غليظا لذلك.

__________

(1) تفسير القرطبي: 6/7.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ أي: بسبب ميثاقهم ليعطوه، لأنه روي أنهم امتنعوا من قبول شريعة موسى فرفع الله عليهم الطور فقبلوها؛ وقيل: إن المعنى بسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ منهم، وهو العمل بما في التوراة، وقد تقدّم رفع الجبل في البقرة، وكذلك تفسير دخولهم الباب سجدا.

2. ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ فتأخذوا ما أمرتم بتركه فيه من الحيتان، وقد تقدّم تفسير ذلك، وقرئ: لا تعتدوا، وتعدّوا، بفتح العين وتشديد الدال‏.

3. ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ مؤكدا، وهو العهد الذي أخذه عليهم في التوراة؛ وقيل: إنه عهد مؤكد باليمين، فسمي غليظا لذلك.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/615.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ﴾ الجبل، ليس هو الجبل المعروف بطور سيناء، بل هو جبل كانوا في أصله معسكرين، وهو فرسخ في فرسخ، ﴿بِمِيثَاقِهِمْ﴾ بسبب ميثاقهم، أي: ليحصل به أخذ الميثاق على أن يأخذوا التوراة، ويعملوا بها لو لم يقبلوها لسقط عليهم، وقيل: أخذ عليهم الميثاق أن يعملوا بما في التوراة فنقضوه بعبادة العجل، ويردُّه أنَّ العجل قبل نزول التوراة، وقيل: همُّوا بنقض الميثاق في شأن العمل بالتوراة فرفع فوقهم، وتركوا النقض.

2. ﴿وَقُلْنَا لَهُم﴾ على لسان موسى أو لسان يوشع وهو أشهر، ﴿اُدْخُلُواْ الْبَابَ﴾ باب بيت المقدس، أو أريحاء، وقيل: باب إيليا، وقيل (الْبَاب) اسم قرية، وقيل باب القبَّة التى يصلُّون إليها في التيه؛ لأنَّهم لم يخرجوا من التيه في حياة موسى، ﴿سُجَّدًا﴾، وعن ابن عبَّاس: ركَّعًا، وقيل: (سُجَّدًا) منحنين خضوعًا لله تعالى، وشاكرين على الخروجِ من التيه، وفتحِ القرية بيت المقدس أو أريحاء، أو تسجدون عند قرب الباب كذلك، قيل: الطور مطلٌّ عليهم، إن لم يدخلوا سجَّدًا سقط عليهم.

3. ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ﴾ على لسان داود، أو على لسان موسى بأن قال لهم عند رفع الجبل على قبول التوراة، أو دخول الباب سجَّدًا ما ذَكَر الله من قوله: ﴿لَا تَعَدُّواْ﴾ لا تعتدوا، أبدلت التاء دالاً، وأدغمت في الدال، ﴿فِي السَّبْتِ﴾ بصيد الحوت فيه، وذلك ظلم للحوت فيه، والنهيُ عن الصيد فيه وجعْلُه عيدًا لهم في عهد موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والتعدِّي فيه والمسخُ في زمان داود، ودخول التيه بعد نزول التوراة.

4. ﴿وَأَخَذْنَا مِنهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ على العمل بالتوراة وتعظيم السبت وتحريم صيد الحوت في السبت، أو الميثاق أنَّه إن همُّوا بالرجوع عن العمل بها أو السبت، أو تحريم الصيد أهلكهم الله بأيِّ عذاب شاء، أو الميثاق: قولهم سمعنا وأطعنا.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/335.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أشار الله تعالى إلى أن اليهود مع رؤيتهم الآيات، لم ينقادوا لأوامر موسى، كما قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾ أي: الجبل ليتحملوا التكليف‏ ﴿بِمِيثَاقِهِمْ﴾ أي: بسبب أخذ ميثاقهم، ليخافوا فلا ينقضوه.

2. قال ابن كثير: وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء على ما جاءهم به موسى عليه السلام، رفع الله على رؤوسهم جبلا، ثم ألزموا وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى ما فوق رؤوسهم، خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [الأعراف: 171] الآية.

3. ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ أي: ادخلوا باب إيلياء مطأطئين، عند الدخول، رؤوسكم، فخالفوا ما أمروا به، وقد تقدم في سورة البقرة إيضاح هذه الآيات مفصلا.

4. ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ أي: وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم ما دام مشروعا لهم‏ ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ أي: عهدا شديدا، فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عز وجل، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ [الأعراف: 163]

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/390.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ أي بسبب ميثاقهم ليأخذوا ما أنزل إليهم بقوة ويعملوا به مخلصين، وقد تقدم هذا أيضا في الجزء الأول في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 63] ومنه أن الظاهر أن هذا كان آية من الآيات الكونية لكنه ليس نصا قاطعا فيه بدليل آية الأعراف فراجعه.

2. ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ أي ادخلوا باب القرية أي المدينة خاضعين لله أو مطامني الرؤوس مائلي الأعناق ذلة وانكسارا لعظمة الله كما يقال سجد البعير إذا طأمن رأسه لراكبه، وتقول العرب شجرة ساجدة للرياح إذا كانت مائلة، والسفينة تسجد للرياح أي تطيعها، ذكر ذلك كله في الأساس، قيل تلك القرية بيت القدس وقبل أريحا وقيل غير ذلك وتقدم في الجزء الأول أن المختار السكوت عن تعيينها كما سكت الكتاب العزيز.

3. ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ أي لا تتجاوزا حدود الله فيه بالعمل الدنيوي ـ وقد بين لنا تعالى في سورة البقرة أن بعضهم اعتدى في السبت، وجاء سورة الأعراف بيان اعتدائهم في السبت بصيد السمك وأن بعضهم انكروا على المعتدين وبعضهم سكتوا، فهم قد خالفوا في السبت وخالفوا في دخول الباب سجدا فلا تستغرب بعد هذا مشاغبتهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعاندتهم.

4. ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ أي عهدا مؤكدا ليأخذن التوراة بقوة وجد وليعملن بها وليقيمن حدود الله فيها ولا يعتدونها، وقد أخذ الله على بني إسرائيل عدة موثيق والظاهر أن المراد بهذا الميثاق الغليظ ما ذكرناه من العمل بالتوراة كلهم بقوة واجتهاد، وما يتبع ذلك من البشارة بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهو ما تراه أو ترى بقاياه إلى الآن في الفصل التاسع والعشرين إلى الفصل الثالث والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع وهو آخر التوراة التي بأيديهم، وأما الفصل الأخير وهو الرابع والثلاثون فهو ذكر موت موسى عليه السلام:

أ. افتتح الفصل التاسع والعشرون بهذه الجملة (1 ـ هذا كلام العهد الذي أمر الرب موسى بأن يقطعه مع نبي إسرائيل في أرض موآب سوى العهد الذي قطعه معهم في حوريب) وسماه فيه عهدا وقسما، وتوعد على نقصه فيه بأشد الوعيد والغضب وجميع اللعنات والعقوبات ومنها الاستئصال من أرضهم، كما وعد على حفظه بأعظم البركات والخيرات، وكذلك عظم أمره في الفصل الثلاثين والحادي والثلاثين، ومما جاء في آخره ونعتمد بنصه ترجمة اليسوعيين لأنها أفصح قوله: (24 ولما فرغ موسى من رقم كلام هذه التوراة بتمامها 25 أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب وقال لهم 26 خذوا سفر هذه التوراة واجعلوه إلى جانب تابوت عهد الرب إلهكم فيكون ثم عليكم شاهدا 27 لأني أعلم تمردكم وقساوة رقابكم فإنكم وأنا في الحياة معكم اليوم قد تمردتم على الرب فكيف بعد موتي 28 اجمعوا إلي شيوخ اسباطكم وعرفاءكم حتى على أتلو على مسامعهم هذا الكلام وأشهد عليهم السماء والأرض 29 فإني أعلم أنكم بعد موتي ستفسدون وتعدلون عن الطريق التي سننتها لكم فيصيبكم الشر في آخر الأيام إذا صنعتم الشر في عيني الرب حيث تسخطونه بأعمال أيديكم 30 وتلا موسى على مسامع كل الجماعة إسرائيل كلام هذا النشيد إلى آخره)

ب. أما النشيد الذي وثق به العهد عليهم فهو من أول الفصل الثلاثين إلى الجملة 43 منه وأوله (أنصتي أيتها السماوات فأتكلم وتستمع الأرض لأقوال في) وبعدها أمره الله بأن يموت وباركه قبل موته بهذه الكلمة وهي آخر وحيه إليه فقال: [33 أقبل الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتجلى من جبل فاران: 2] (وترجمة البروتستان ـ وتلألأ من جبل فاران) وأتى من ربوات القدس وعن يمينه قبس (نار) شريعة لهم وفاران هي مكة كما ذكره في معجم البلدان، وفي الفصل 21 من سفر التكوين أن الله أوحى إلى هاجر بأنه سيجعل ولدها إسماعيل (أمة عظيمة) وأنه (21 سكن في برية فاران) ومن المعلوم بالتواتر أنه سكن في البرية التي بنى بها هو ووالده إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام بيت الله الحرام وبه تكونت مكة، وجبل فاران هو أبو قبيس الذي نزل فيه الوحي على نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بيت الله الحرام وهو في غار حراء، فإذا كان هؤلاء اليهود قد نقضوا عهد الله وميثاقه الغليظ عليهم بحفظ التوراة كما تنبأ عنهم نبيهم عند أخذ الميثاق عليهم، فهل يستغرب منهم تحريف بشارته بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومشاقتهما؟

__________

(1) تفسير المنار: ‏6/12.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. حكى عز اسمه عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم وقد تقدم بعضها في سورة البقرة فقال: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ الطور الجبل المعروف رفع فوقهم كأنه ظلة وقد كانوا في واديه، وقوله بميثاقهم: أي بسبب ميثاقهم أن يأخذوا ما أنزل إليهم بقوة ويعملوا به مخلصين ثم امتنعوا من العمل بما جاء به فرفع عليهم الجبل فخافوا وقبلوا العمل به.

2. ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ الباب هو باب المدينة وهي بيت المقدس وقيل أريحا، وقوله سجدا: أي خاضعى الرؤوس مائلى الأعناق ذلة وانكسارا لعظمته: أي وقلنا لهم على لسان يوشع عليه السلام ادخلوا باب هذه القرية بذلة وانكسار.

3. ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ والاعتداء تجاوز الحد، والاعتداء في السبت هو اصطياد الحيتان فيه: أي وقلنا لهم على لسان داوود عليه السلام لا تتجاوزوا حدود الله فيه بالعمل الدنيوي، وقد خالفوا في السبت وفى دخول الباب.

4. ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ الميثاق الغليظ العهد المؤكد: أي وأخذنا منهم عهدا مؤكدا ليأخذنّ التوراة بقوة، وليقيمنّ حدود الله ولا يتعدونها، ويتبع ذلك البشارة بعيسى ومحمد عليهما السلام وهو موجود إلى الآن في الفصل التاسع والعشرين وما بعده من سفر تثنية الاشتراع وهو آخر التوراة التي بأيديهم.

__________

(1) تفسير المراغي ‏6/11.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لكن اليهود الذين لا تستشعر قلوبهم الإيمان أبوا الاستسلام لما في الألواح.. وهنا جاءهم القهر المادي الذي يناسب طبيعتهم الغليظة، إذ نظروا فرأوا الصخرة معلقة فوق رؤوسهم؛ تهددهم بالوقوع عليهم؛ إذا هم لم يستسلموا ولم يتعهدوا بأخذ ما أعطاهم الله من العهد؛ وما كتب عليهم من التكاليف في الألواح.. عندئذ فقط استسلموا؛ وأخذوا العهد؛ وأعطوا الميثاق.. ميثاقا غليظا.. مؤكدا وثيقا.. يذكره ـ بهذه الصفة ـ ليتناسق المشهد مع غلظ الصخر المرفوع فوقهم، وغلظ القلب الذي في صدورهم، ثم يعطي ـ إلى جانب‏ التناسق معنى الجسامة والوثاقة والمتانة على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير، وبالتخييل الحسي والتجسيم‏.

2. وكان في هذا الميثاق: أن يدخلوا بيت المقدس سجدا، وأن يعظموا السبت الذي طلبوا أن يكون لهم عيدا، ولكن ماذا كان؟ إنهم بمجرد ذهاب الخوف عنهم؛ وغياب القهر لهم، تملصوا من الميثاق الغليظ فنقضوه، وكفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءه بغير حق، وتبجحوا فقالوا: إن قلوبنا لا تقبل موعظة، ولا يصل إليها قول، لأنها مغلفة دون كل قول! وفعلوا كل الأفاعيل الأخرى التي يقصها الله سبحانه على رسوله وعلى المسلمين ـ في مواجهة اليهود ـ في سياق هذه الآيات..

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/801.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هو بيان لما أخذ الله سبحانه وتعالى على آبائهم من عهود ومواثيق، وأنهم لم يرعوا عهود الله، ولم يحفظوا مواثيقه، بل ضيّعوا، ونقضوا ما عاهدوا الله عليه، فقد رفع الله فوقهم الطور، أي جبل الطور، وأقامه ظلّة عليهم ليظلّهم ويكنّهم في هذا التيه الذي غرقوا فيه أربعين سنة.. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ [الأعراف: 171] فلم يثقوا في هذا البناء الذي أقامه الله عليهم، ودخلوا تحته دخول الخائفين، حتى لكأن يد الله لا تقوى على الإمساك به!

2. ثم حين أخرجهم الله من التّيه، وساقهم إلى العمران، ووجههم إلى إحدى القرى، دعاهم سبحانه إلى أن يدخلوا باب هذه القرية سجّدا، شكرا لله على هذه النعمة، وأن يقولوا وهم في هذا السجود (حطّة) أي غفرانا لذنوبنا.. فبدّلوا وغيروا، ولم يحترموا كلمات الله، ولم ينزلوا عند وصاته لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [البقرة: 58 ـ 59]

3. ثم ألزمهم الله سبحانه ألّا يعدوا في السبت، وألا يعملوا فيه عملا، عقابا لهم ونكالا، حيث خرجوا عن طاعة الله، ونقضوا مواثيقه.. فاعتدوا في السبت، وباشروا فيه كل عمل.. وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: 65]

4. وانظر إلى هذا التكرار في قوله تعالى: ﴿قُلْنَا لَهُمْ﴾.. إذ يقول‏ سبحانه: ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾، ففي هذا التكرار ما يؤذن بأن القوم بما هم، عليه من جفاء طباع، وقسوة قلوب، وبلادة مشاعر، وعمى بصيرة، لا يخاطبون إلّا بمناخس حادة، لتوقظ هذه المشاعر الهامدة، وتلك الطباع المتبلّدة.. تماما كما تنخس الدوابّ كلما ونت أو حرنت.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/962.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر الله تعالى آيات أخرى أظهرها الله لهم وهي: رفع الطور، والأمر بقتال أهل أريحا، ودخولهم بابها سجّدا، والباب يحتمل أنّه باب مدينة أريحا، ويحتمل أنّه باب الممرّ بين الجبال ونحوها، كما سيأتي عند قوله تعالى: ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ﴾ في سورة العقود [23]؛ وتحريم صيد البحر عليهم في السبت، وقد مضى الكلام عليها جميعا في سورة البقرة.

2. أخذ الميثاق عليهم: المراد به العهد، ووصفه بالغليظ، أي القويّ، والغلظ من صفات الأجسام، فاستعير لقوّة المعنى وكنّى به عن توثّق العهد لأنّ الغلظ يستلزم القوّة، والمراد جنس الميثاق الصادق بالعهود الكثيرة التي أخذت عليهم، وقد ذكر أكثرها في آي سورة البقرة، والمقصود من هذا إظهار تأصّلهم في اللجاج والعناد، من عهد أنبيائهم، تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما لقي منهم، وتمهيدا لقوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ [النساء: 155]

3. ﴿لَا تَعْدُوا﴾ قرأه نافع في أصحّ الروايات، وهي لورش عنه ولقالون في إحدى روايتيه عنه ـ بفتح العين وتشديد الدال المضمومة ـ أصله: لا تعتدوا، والاعتداء افتعال من العدو، يقال: اعتدى على فلان، أي تجاوز حدّ الحقّ معه، فلمّا كانت التاء قريبة من مخرج الدال ووقعت متحرّكة وقبلها ساكن، تهيّأإدغامها، فنقلت حركتها إلى العين الساكنة قبلها، وأدغمت في الدال إدغاما لقصد التخفيف، ولذلك جاز في كلام العرب إظهارها؛ فقالوا: تعتدوا وتعدّوا، لأنّها وقعت قبل الدال، فكانت غير مجذوبة إلى مخرجه، ولو وقعت بعد الدال لوجب إدغامها في نحو أدّان، وقرأ الجمهور، وقالون في إحدى روايتين عنه: (لا تعدوا) ـ بسكون العين وتخفيف الدال ـ مضارع مجزوم من العدو، وهو العدوان، كقوله: ﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾ في سورة الأعراف [163]؛ وفي إحدى روايتين عن قالون: ـ باختلاس الفتحة ـ، وقرأه أبو جعفر: ـ بسكون العين وتشديد الدال ـ، وهي رواية عن نافع أيضا، رواها ابن مجاهد، قال أبو علي، في (الحجّة): وكثير من‏ النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذ كان الثاني منهما مدغما ولم يكن الأول منهما حرف لين، نحو دابّة، يقولون: المدّ يصير عوضا عن الحركة، قال وإذا جاز نحو دويبّة مع نقصان المدّ الذي فيه لم يمتنع أن يجمع بين الساكنين في نحو: تعدوا، لأنّ ما بين حرف اللين وغيره يسير، أي مع عدم تعذّر النطق به.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/303.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وفوق ذلك أخذ الله تعالى ميثاقا بمقتضى الفطرة، وميثاقا على الطاعة، كما في التوراة وقد قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ هؤلاء اليهود في ماضيهم، لا يتجهون إلى الحق اتجاه المؤمن المذعن، ولكن يحملون عليه حمل الملجأ، فلا تنتظروا أيها المؤمنون بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ورسالته أنهم يستجيبون له؛ لأن ذلك لم يكن من طبعهم فهم في ماضيهم لم ينفذوا التوراة ولم يذعنوا ويأخذوا على أنفسهم ميثاقا بتنفيذ أحكامها إلا بعد أن هددوا تهديدا حسيا بأن العذاب واقع بهم لا محالة حسا ونظرا، فقد رفع الله تعالى فوقهم الطور، ليقدموا عهدا بالطاعة.

2. فمعنى قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾ أي بسبب الميثاق الذى يحملون عليه حملا، وهو ميثاقهم الذى كان يجب تقديمه طوعا واختيارا، فالميثاق أخذ بعد الرفع، وإلى هذا يومئ قوله تعالى في آية أخرى: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف‏]

3. فالميثاق هو أحكام التوراة، وحملهم على الخضوع المطلق لله تعالى، وطاعته فيما يأمرهم به من غير تمرد ولا عصيان، وقد صرح سبحانه بأنه أمرهم بما فيه خضوع تعبدي لكن يتعودوا الطاعة، فذكر سبحانه وتعالى أمرين هما:

أ. ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ ادخلوا باب المدينة مطأطئى رؤوسكم بهيئة الساجدين أمارة الخضوع حسا، وهو دليل على الخضوع معنى بالإذعان لأوامر الله تعالى، وفى الآية تصريح بالطاعة المطلقة الذى يتضمنه الأمر بالدخول سجدا مطأطئى الرؤوس فقد قال تعالى في سورة البقرة: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ [البقرة]، ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا، وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة أي خاضعين قد ذهب عنا الكبرياء، والمدينة أو القرية قيل هي بيت المقدس، وقيل غيرها، وقد أبهمها الله، ولم يوجد من السنة الصحيحة ما يبينها، فلنترك أمرها، ولا ينقص ذلك الهدف القرآني من سياق هذه القصة، وهي أنهم أمروا بالطاعة المطلقة.

ب. والأمر الثاني الذى أمروا ـ ذكره الله تعالى بقوله: ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ أي لا تتجاوزوا الحدود التي أمركم بالتزامها يوم السبت، وهي ألا تصطادوا الحيتان في ذلك اليوم.

4. تكرر قوله تعالى:‏ ﴿وَقُلْنَا﴾ لبيان تأكيد الأمر ونسبته اليه سبحانه وتعالى: وقد اختبرهم سبحانه وتعالى اختبارا، فقد كانت الحيتان تأتيهم يوم السبت واضحا، وتختفى في غيره، كما قال تعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف‏]

5. ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ أخذ الله سبحانه وتعالى عهدا موثقا كامل التوثيق شديدا في قوته وفى موضوعه وأضاف سبحانه وتعالى الأخذ إلى ذاته العلية تقوية له، وتأكيدا، فإن ذا الجلال والإكرام العليم الخبير هو الذى أخذه، وهو الذى يتولى أمرهم إن نكثوا في أيمانهم، وأنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وغلظ الميثاق كما أشرنا في قوة توثيقه، فقد أخذه بعد أن رفع الجبل عليهم كأنه ظلة، وأمرهم بالطاعة المطلقة، وشدته في موضوع، فقد كلفهم تكليفات شديدة، لإفراطهم في الفساد، فكان السبيل لفطم نفوسهم عن الشهوات، وتربيتها على الضبط والعمل الصالح أن ينص على تحريم أمور كثيرة، ذلك أن النفس التقية تمتنع من ذاتها كثيرا من غير أوامر أو تكليف، أما النفوس المنحرفة، فتحتاج إلى النص على تحريم‏ الكثير مما يفعلون من غير أن ينالهم تهذيب شخصى من الضمير والوجدان وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام‏].. اللهم ارحمنا، وقنا شر الشهوات وطغيانها، إنك بكل شيء عليم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1947.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لكن اليهود يهون عليهم كل شيء ولا يكترثون بشيء إلا بواحد من اثنين: اما المنفعة، واما القوة، ومن أجل هذا خوفهم الله سبحانه بالجبل الذي أشار اليه بقوله: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾، الطور اسم الجبل الذي ناجى موسى عليه ربه، وفي سورة التين: ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ قال المفسرون: سينين وسيناء اسمان للموضع الذي فيه الجبل، أمر الله بني إسرائيل على لسان موسى أن يعملوا بالتوراة، فأبوا، فرفع الجبل فوقهم تخويفا، حتى قبلوا.

2. ﴿بِمِيثَاقِهِمْ﴾ المراد بنقض ميثاقهم الذي قطعوه على أنفسهم بأن يلتزموا بالدين، ثم رجعوا عنه، ولولا الجبل لم يعودوا اليه، اذن، فلا عجب إذا تمردت إسرائيل على الأنظمة الدولية ورفضت قرارات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ونقضت جميع العهود والمواثيق مرات وكرات، ولولا الخوف لم تقف عند حد.. لا عجب ولا غرابة، انها تنسجم بذلك مع تاريخ أسلافها الذين رفع الله فوق رؤوسهم الطور كي يفوا بالعهد والميثاق، ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾، مر تفسيره في الآية 58 من سورة البقرة.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/483.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ وهو الميثاق الذي أخذه الله منهم‏ ثم رفع فوقهم الطور، والقصة مذكورة مرتين في سورة البقرة (آية 63، 93)

2. ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ والقصتان مذكورتان في سورة البقرة (آية: 58 ـ 65) وسورة الأعراف (161 ـ 163) وليس من البعيد أن يكون الميثاق المذكور راجعا إلى القصتين وإلى غيرهما فإن القرآن يذكر أخذ الميثاق منهم متكررا كقوله تعالى:‏ ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ﴾ الآية: [البقرة: 83]، وقوله تعالى:‏ ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: 84]

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/131.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ حقق معناه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ [الأعراف:171] ﴿بِمِيثَاقِهِمْ﴾ على قبول التوراة بقوة وجدّ وصبر وعزم صادق على اتباعها، كما قال تعالى: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ الآية [البقرة:63]، وقال: (صاحب الكشاف): (﴿بِمِيثَاقِهِمْ﴾ بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه)، ولا يبعد أن (الباء) للمصاحبة، وأنهم أعطوا الميثاق حين ظنوا أنه واقع بهم، أو أن رفعنا فوقهم الطور مضمَّن معنى أمرناهم وكلفناهم؛ لأن رفع الطور فوقهم بعثهم على الميثاق، والمقصود: أن تخويفهم بهذه الآية بعثهم على العهد، إما باختيارهم بسبب الخوف؛ لأنهم لم ينذروا بوقوعه إن لم يعاهدوا ولكن خافوا فعاهدوا فلم يكن اضطراراً، وهذا أظهر، وإما أنهم أكرهوا على العهد ليحذروا في المستقبل وقوع مثل ذلك التخويف والاضطرار إلى العهد.

2. ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ ﴿سُجَّدًا﴾ بمعنى خاضعين لله، قال الشرفي في (المصابيح): (عن الحسين بن القاسم عليه السلام: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ [البقرة:58] أي ادخلوا الباب خشعاً لله عزَّ وجل وسيروا عند ذلك بالسكينة والوقار والخشية لله الواحد الجبار، ولم يرد في هذا الموضع سجودا على الوجوه وإنما أراد ما ذكرنا، وكذلك روينا عن أئمتنا وسلفناعليهم السلام) من تفسير (سورة الأعراف) وحكى الشرفي عن المرتضى عليه السلام مثله في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [آية: 106] آخر (سورة الأعراف)

3. ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ ﴿لَا تَعْدُوا﴾ أي لا تعتدوا ﴿فِي السَّبْتِ﴾ باصطياد الحيتان أو غيره مما هو محرم في السبت في دينهم ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ على أن لا يعتدوا في السبت، أو على ذلك وغيره، والأقرب: أنه ميثاق خاص بالسبت غلظ حرمة السبت.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/205.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾ ثم رفع الله فوقهم الجبل بميثاقهم، وقال لهم ﴿ادْخُلُوا الْبَابَ﴾ في بيت المقدس ﴿سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ ـ عندما حرّم الله عليهم الصيد في السبت ـ وأخذ منهم ميثاقا غليظا مؤكدا، ولكنهم لم يلتزموا بالتعاليم، ولم يفوا بالميثاق بل نقضوه بالتمرّد على كل ما فيه من التزامات.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏‏7/533.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لكن اليهود بسبب ما انطوت عليه سريرتهم من شرّ ـ لم يستيقظوا من غفلتهم، ولم يخرجوا من ضلالتهم، ولم يتخلوا عن صلفهم وغرورهم، فرفع الله جبل الطور لينزله على رؤوسهم، حتى أخذ منهم العهد والميثاق وأمرهم أن يدخلوا خاضعين خاشعين ـ من باب بيت المقدس ـ دليلا على توبتهم وندمهم، وأكّد عليهم أن يكفوا عن أي عمل في أيّام السبت، وأن لا يسلكوا سبيل العدوان، وأن لا يأكلوا السمك الذي حرم صيده عليهم في ذلك اليوم، وفوق كل ذلك أخذ الله منهم ميثاقا غليظا مؤكّدا، ولكنّهم لم يثبتوا ـ مطلقا ـ وفاءهم لأي من هذه المواثيق والعهود يقول القرآن الكريم في هذا المجال: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾

2. فهل يصح أن تكون هذه المجموعة مع ما تمتلكه من سوابق سيئة وتاريخ أسود صادقة مع النّبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما طلبته منه وإن كان هؤلاء صادقين، لماذا إذن لم يلتزموا بما نزل عليهم صريحا في كتابهم السماوي وحول العلامات الخاصّة بخاتم النّبيين؟ ولماذا أصروا على تجاهل كل ما أتى به النّبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم من براهين وأدلة واضحة بيّنة؟

3. سؤال وإشكال: لو اعترض معترض فقال: إن تلك الأعمال كانت خاصّة باليهود السابقين، فما صلتها باليهود في زمن النّبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ والجواب: إنّ اليهود في زمن النّبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يبدوا اعتراضا واستنكارا ـ أبدا ـ لأعمال أسلافهم السابقين، بل كانوا يظهرون الرضى عن تلك الأعمال.

4. قلنا في سبب نزول الآيتين الأخيرتين: (إنّ اليهود كانوا يزعمون نزول هذا الكتاب السماوي دفعة واحدة، في حين أنّ هذا الأمر لا يعتبر من الأمور المؤكّدة، ولعل الشيء الذي أدى إلى حصول هذا الوهم هو الوصايا العشرة) التي نزلت في ألواح دفعة واحدة على النّبي موسى عليه السّلام، بينما لا يوجد لدينا دليل على نزول بقية أحكام التوراة دفعة واحدة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/519.

135. الطبع على القلوب وأسبابه

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈135⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 155]‌‌، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، أي: لا تفقه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٨.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ﴾، يعني: ختم الله(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٩.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: الآيات: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ويده، وعصاه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٧.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، عليها طابع(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٩.

العوفي:

روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أنّه قال: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، أوعية للمنكر(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٨.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم، ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي: لا نفقه، ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ يقول: لما ترك القوم أمر الله، وقتلوا رسوله، وكفروا بآياته، ونقضوا الميثاق الذي عليهم؛ طبع الله على قلوبهم، ولعنهم حين فعلوا ذلك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، أي: لا نفقه(1).

3. روي أنّه قال: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، يقول: لما ترك القوم أمر الله، وقتلوا رسوله، وكفروا بآياته، ونقضوا الميثاق الذي عليهم؛ طبع الله على قلوبهم، ولعنهم حين فعلوا ذلك(1).

4. روي أنّه قال: لا يؤمن منهم إلا قليل(2).

__________

(1) ابن جرير ٢/٢٢٩.

(2) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٩.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا﴾ معناه ختم عليها(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 124.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: إن تقرأ هذه الآية: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ يكتبها إلى أدبارها(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/283.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾، يعني: فبنقضهم إقرارهم بما في التوراة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ﴾ يعني: الإنجيل والقرآن، وهم اليهود، ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، وذلك حين سمعوا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ عرفوا أن الذي قال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حق(2).

3. روي أنّه قال: وقالوا: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، يعني: في أكنة عليها الغطاء؛ فلا تفقه ولا تفهم ما تقول، يا محمد، كراهية ما سمعوا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من كفرهم بالإنجيل والفرقان(1).

4. روي أنّه قال: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، يقول: ما أقل ما يؤمنون، فإنهم لا يؤمنون البتة(2).

__________

(1) [مقاتل] مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) ١/٤١٩.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٩.

عوف:

روي عن عوف بن مالك الأشجعي(ت 173 هـ) أنّه قال: بلغني في قول الله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، قال قالوا: قلوبنا أوعية للخير، فأكذبهم الله، وقال: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٠٩.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ فقال: الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم، كما قال الله عز وجل: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ﴾ قال الكسائي: (ما) ـ هاهنا ـ صلة: فبنقضهم ميثاقهم، وفي حرف ابن مسعود: (وكفرهم بآيات الله من بعد ما تبينت)، وقال مقاتل: فبنقضهم إقرارهم بما في التوراة، وبكفرهم بآيات الله، يعني: بالإنجيل والقرآن، وهم اليهود.

2. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ يحتمل على حقيقة القتل، ويحتمل على القصد والهم في ذلك، وقد هموا بقتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غير مرة، وعن ابن عَبَّاسٍ: قال كانوا يقتلون الأنبياء، وأما الرسل عليهم السلام فكانوا معصومين، لم يقتل رسول قط؛ ألا ترى أنه قال: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا﴾، وقال عز وجل: ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ﴾

3. ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، قيل فيه بوجهين:

أ. أحدهما: أنهم قالوا: قلوبنا أوعية للعلم، لا تسمع شيئًا إلا حفظته؛ فالقرآن في هذا الوجه غلف.

ب. الثاني: قالوا: قلوبنا في أَكِنَّة مما تقول، لا تعقل ما تقول؛ فالقراءة في هذا الوجه غلف فيه.

4. ثم قال عز وجل: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾، يحتمل أن يكون هذا جوابًا وردًا على قولهم: إن قلوبنا أوعية للعلم، لا تسمع شيئا إلا وعته؛ أخبر عز وجل أنه طبع على قلوبهم بكفرهم؛ فلا يفقهون شيئا.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٠٩.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، أي مغلقة ومقفلة بقفال يمنعها ويغطيها، ويحول بينها وبين الهدى ويعميها، هذا اعتلال منهم، لما تركوا الهدى، ومالوا إلى الجهل والحيرة والردى، فأما الله فبريء من ظلمهم، ولم يحل سبحانه بين الهدى وبينهم، ولكنهم لما عموا عن الحق طبع على قلوبهم.. ومعنى طبعه عليها: هو تركه لها على جهلها، إذ لم يخرجها من حيرتها، ولم يحل بينها وبين قبيح فعلها(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/253.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي محجوبة عن فهم الإعجاز ودلائل التصديق كالمحجوب في غلافه، ويحتمل أن يكون المراد به أوعية للعلم وهي لا تعرف احتجاجك ولا تفهم إعجازك ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ فيه تأويلان:

أ. أحدهما: أنها جعل فيها علامة تدل الملائكة على كفرهم كعلامة المطبوع.

ب. الثاني: ذمهم بأن قلوبهم كالمطبوع عليها التي لا تفهم أبداً ولا تطيع مرشداً ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي القليل منهم يؤمن.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/199.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها محجوبة عن فهم الإعجاز ودلائل التصديق، كالمحجوب في غلافة، وهذا قول بعض البصريين.

ب. الثاني: يعني أنها أوعية للعلم وهي لا تفهم احتجاجك ولا تعرف إعجازك، وهذا قول الزجاج، فيكون ذلك منهم على التأويل الأول إعراضاً، وعلى التأويل الثاني إبطالاً.

2. في قوله تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: أنه جعل فيها علامة تدل الملائكة على كفرهم كعلامة المطبوع، وهو قول بعض البصريين.

ب. الثاني: ذمهم بأن قلوبهم كالمطبوع عليها التي لا تفهم أبداً ولا تطيع مرشداً، وهذا قول الزجاج.

3. في قوله تعالى: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: أن القليل منهم يؤمن بالله.

ب. الثاني: لا يؤمنون إلا بقليل، وهو إيمانهم ببعض الأنبياء دون جميعهم.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٤٣.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المعني في قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: قال الفراء والزجاج وغيرهما: إن (ما) زائدة، وتقديره فبنقضهم.

ب. والثاني: انها بمعنى شيء وتقديره فبشي‏ء ونقضهم، بدل منه ومجرور به مثله قوله: ﴿مَثَلًا مَا بَعُوضَةً﴾ وفيه القولان، والتقدير فبنقض هؤلاء الذين وصفهم من أهل الكتاب وميثاقهم يعني عهودهم التي عاهدوا الله عليها أن يعملوا بما في التوراة.

2. ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ﴾ يعني جحودهم بآيات الله، وهي اعلامه، وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه، ورسله‏.

3. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ يعني وقتلهم الأنبياء بعد قيام الحجة عليهم بصدقهم بغير حق يعني بغير استحقاق منهم، لكبيرة أتوها ولا خطيئة استوجبوا بها القتل، وقتل الأنبياء، وان كان لا يكون إلا بغير حق، فإنما اكده بقوله: ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ ومعناه ما قدمنا القول فيه أنه لا يكون ذلك إلا بغير حق، كما قال: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ والمعنى إن هذا لا يكون عليه برهان، ومثله قول الشاعر: (على لا حب لا يهتدى بمناره‏) وإنما أراد لا منارها هناك يهتدى به، وقد استوفينا ما في ذلك فيما مضى‏.

4. ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ تقديره يقولون: قلوبنا عليها غشاوة وأغطية لا نفقه ما تقول، ولا نعلق له، فأكذبهم الله في ذلك وقال الفراء والزجاج: معناه قلوبنا أوعية للعلم لا نفقة ما تقول، وقد بينا معنى الغلف فيما مضى.

5. ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ والمعنى كذبوا في قولهم قلوبنا غلف ما هي بغلف، ولا عليها اغطية، بل طبع الله عليها بكفرهم، وقد بينا معنى الطبع فيما مضى، وهو أنه السمة والعلامة وسم الله تعالى وعلّم على قلوب من الكفار الذين علم من حالهم أنهم لا يؤمنون فيما بعد، وجعل ذلك عقوبة لهم على كفرهم الذي ارتكبوه في الحال تعرفه الملائكة.

6. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إلا قَلِيلًا﴾ معناه فلا يصدقون إلا تصديقا قليلا، وإنما وصفه بالقلة لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به لكن صدقوا ببعض الأنبياء، وبعض الكتب وكذبوا بالبعض، فكان تصديقهم بما صدقوا به قليلا، لأنهم وان صدقوا به من وجه، فهم يكذبون به من وجه آخر، ويجوز أن يكون الاستثناء من الذين نفى الله عنهم الايمان فكأنه علم انه يؤمن منهم جماعة قليلة فيما بعد، فاستثناهم من جملة من اخبر عنهم أنهم لا يؤمنون، وبهذه الجملة قال جماعة المفسرين: قتادة وغيره.

7. اختلفوا في قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ هل هو متصل بما قبله من الكلام أو منفصل منه:

أ. فقال قتادة: هو منفصل وقال لما ترك القوم أمر الله، وقتلوا رسله وكذبوا بآياته ونقضوا ميثاقه طبع الله على قلوبهم بكفرهم، ولعنهم.

ب. وقال قوم: بل هو متصل بما قبله، قالوا: معناه فاخذتهم الصاعقة بظلمهم بنقضهم ميثاقهم، وبكفرهم بآيات الله، وبقتلهم الأنبياء بغير حق، وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة، فتبع الكلام بعضه بعضا، ومعناه مردود على أوله، وجوابه قول (فبظلم) من الذين قالوا الزجاج هو بدل من قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾

ج. واختار الطبري الاول، وأنه منفصل من معنى ما قبله والمعنى: فيما نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله وبكذا وكذا لعناهم، وغضبنا عليهم، فترك ذكر لعناهم لدلالة قوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ على معنى ذلك من حيث كان من طبع على قلبه، فقد لعن وسخط عليه قال وإنما قلنا ذلك، لأن الذين اخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، الذين قتلوا الأنبياء، والذين رموا مريم بالبهتان العظيم، وقالوا قتلنا عيسى، كانوا بعد موسى بدهر طويل، ومعلوم أن الذين اخذتهم الصاعقة لم تأخذهم عقوبة على رميهم مريم بالبهتان، ولا لقولهم: أنا قتلنا المسيح فبان بذلك أن الذين قالوا هذه المقالة غير الذين عوقبوا بالصاعقة.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/380.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. النَّقْضُ: نَقْضُ البناء والحبل والعهد بفتح النون، والنِّقْضُ بكسرها: المنقوض، ومنه المناقضة في الشعر والكلام، كأنه ينقض بعضها بعضًا.

ب. قلب أغلف: كأنما أغشي غلافًا فهو لا يعي شيئًا، وعش أغلف أي: واسع، وأغلفت السكين: جعلت لها غلافًا، وأدخلتها في الغلاف، وغلفت لحيته بالغالية من ذلك.

ج. الطبع: الختم، والطبع: الحيلة، والطَّبَعُ بفتح الباء: الدنس، والطابَع بالألف وفتح الباء: الخاتم، وبكسر الباء: الذي يَخْتِمُ.

2. بَيَّنَ تعالى من حيث أفعالهم وما جازاهم به فقال سبحانه ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ أي: بنقض هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تقدم ذكرهم عن أهل الكتاب ﴿مِيثَاقَهُمْ﴾ عهودهم:

أ. قيل: هم أسلاف اليهود.

ب. وقيل: هم الَّذِينَ كانوا أيام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن أبي علي.

3. ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ﴾:

أ. أي: حججه ومعجزاته التي أظهرها على أنبيائه.

ب. وقيل: كفرهم بمحمد والقرآن ومعجزاته، عن أبي علي.

4. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ من غير استحقاق كزكريا ويحيى وغيرهما ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾:

أ. قيل: ذات غلف أي: هي في غلاف ﴿مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ لأنا لا نفهم منه شيئًا، عن أبي علي وجماعة.

ب. وقيل: غلف: أوعية للعلم، وهي مع ذلك لا تفهم احتجاجك بما تحتج به، عن الزجاج.

ج. وقيل: هي أوعية للعلم فلا تحتاج إلى علمك.

5. ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا﴾:

أ. قيل: الطبع علامة جعلها الله على قلوبهم تدل الملائكة أنهم كفار، وليس ذلك بمانع من الإيمان عن أبي علي.

ب. وقيل: إنه ذم لهم بأن جعلها كالمطبوع عليها التي لا تفلح أبدًا، وكان الحسن يقول: أهل الطبع لا يؤمنون أبدًا.

6. ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ أي: بسبب كفرهم ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾:

أ. قيل: إلا قليلاً منهم، عن أبي علي، قال فلما آمنوا أزال الطبع.

ب. وقيل: إلا إيمانا قليلاً؛ لأنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.

7. تدل الآية الكريمة على:

أ. الآية تتضمن الحكاية من قبيح أفعال اليهود وأقوالهم وما جازاهم به من اللعن.

ب. النهي عن مثل حالهم، والحث على مخالفتهم.

8. مسائل لغوية ونحوية:

أ. العامل في الباء في قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾:

محذوف، وتقديره: فبنقضهم ميثاقهم، وكفرهم وقتلهم وقولهم لعناهم وسخطنا عليهم، عن قتادة، ودليل المحذوف أنها صفات ذم، فتدل على اللعن، وقوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ﴾ اعتراض بين ذلك.

وقيل: العامل في الباء حرمنا عليهم طيبات عن الزجاج، وزعم أن قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ بدل من قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ وفي هذا بعد لتباعد ما بين الكلامين.

ب. ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ صلة مؤكدة كقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾ تقديره: فبنقضهم ميثاقهم.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/140.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر سبحانه أفعالهم القبيحة، ومجازاته إياهم بها، فقال: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾، أي: فبنقض هؤلاء الذين تقدم ذكرهم ووصفهم ﴿مِيثَاقَهُمْ﴾ أي: عهودهم التي عاهدوا الله عليها أن يعملوا بها في التوراة ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ﴾ أي: جحودهم بأعلام الله، وحججه، وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله.

2. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ بعد قيام الحجة عليهم بصدقهم ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي: بغير استحقاق منهم لذلك، بكبيرة أتوها، أو خطيئة استوجبوا بها القتل، وقد قدمنا القول في أمثال هذا، وإنه إنما يذكر على سبيل التوكيد، فإن قتل الأنبياء لا يمكن إلا أن يكون بغير حق، وهو مثل قوله: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾، والمعنى أن ذلك لا يكون البتة عليه برهان.

3. ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ مضى تفسيره في سورة البقرة ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ قد شرحنا معنى الختم والطبع، عند قوله: ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾

4. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾:

أ. أي: لا يصدقون قوله إلا تصديقا قليلا، وإنما وصفه بالقلة، لأنهم لم يصدقوا بجميع ما كان يجب عليهم التصديق به.

ب. ويجوز أن يكون الاستثناء من الذين نفى عنهم الايمان، فيكون المعنى: إلا جمعا قليلا، فكأنه سبحانه علم أنه يؤمن من جملتهم جماعة قليلة فيما بعد، فاستثناهم من جملة من أخبر عنهم، أنهم لا يؤمنون به، قال جماعة من المفسرين، مثل قتادة، وغيره.

5. ذكر بعضهم أن الباء في قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ يتصل بما قبله، والمعنى: فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، وبنقضهم ميثاقهم، وبكفرهم، وبكذا، وبكذا، فتبع الكلام بعضه بعضا، وقال الطبري: إن معناه منفصل مما قبله، يعني: فبهذه الأشياء لعناهم، وغضبنا عليهم، فترك ذكر ذلك لدلالة قوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ على معنى ذلك، لان من طبع على قلبه، فقد لعن وسخط عليه، قال: وإنما قال ذلك لان الذين أخذتهم الصاعقة، كانوا على عهد موسى، والذين قتلوا الأنبياء، والذين رموا مريم بالبهتان العظيم، وقالوا: قتلنا عيسى، كانوا بعد موسى بزمان طويل، ومعلوم أن الذين أخذتهم الصاعقة، لم يكن ذلك عقوبة على رميهم مريم بالبهتان، ولا على قولهم: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ﴾، فبان بذلك أن الذين قالوا هذه المقالة، غير الذين عوقبوا بالصاعقة، وهذا الكلام إنما يتجه على قول من قال إنه يتصل بما قبله، ولا يتجه على قول الزجاج، وهذا أقوى، لأنه إذا أمكن إجراء الكلام على ظاهره، من غير تقدير حذف، فالأولى: أن يحمل عليه.

6. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ما في قوله: (فبما نقضهم) لغو أي: فبنقضهم، ومعناه التوكيد أي: فبنقضهم ميثاقهم حقا والجالب للباء في (فبنقضهم) والعامل فيه: قيل إنه محذوف أي: لعناهم، وقيل: العامل فيه قوله: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾

ب. وقوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ﴾ بدل من قوله: (فبنقضهم) عن الزجاج، وعلى هذا فقوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ إلى آخر الآية اعتراض، وكذلك قوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ إلى قوله: ﴿شَهِيدًا﴾،

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/206.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ (ما) صلة مؤكّدة، قال الزجّاج: والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم، وهو أنّ الله أخذ عليهم الميثاق أن يبيّنوا ما أنزل عليهم من ذكر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيره، والجالب للباء العامل فيها.

2. ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ﴾ أي: بنقضهم ميثاقهم، والأشياء التي ذكرت بعده حرّمنا عليهم.

3. ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ بدل من قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾

4. جعل الله جزاءهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم، وقال ابن فارس: الطّبع: الختم ومن ذلك طبع الله على قلب الكافر كأنه ختم عليه حتى لا يصل إليه هدى ولا نور فلم يوفق لخير، والطابع: الخاتم يختم به.

5. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ فيه قولان:

أ. أحدهما: فلا يؤمن منهم إلّا القليل، وهم عبد الله بن سلّام، وأصحابه، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: المعنى: إيمانهم قليل، وهو قولهم: ربّنا الله، قاله مجاهد.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/495.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في متعلق الباء في قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ قولان:

أ. الأول: أنه محذوف تقديره فيما نقضهم ميثاقهم وكذا، لعناهم وسخطنا عليهم، والحذف أفخم لأن عند الحذف يذهب الوهم كل مذهب، ودليل المحذوف أن هذه الأشياء المذكورة من صفات الذم فيدل على اللعن.. وهو أولى، ويدل عليه وجهان:

أحدهما: أن من قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ الآيتين بعيد جدا، فجعل أحدهما بدلا عن الآخر بعيد.

الثاني: أن تلك الجنايات المذكورة عظيمة جدا لأن كفرهم بالله وقتلهم الأنبياء وإنكارهم للتكليف بقولهم: قلوبنا غلف أعظم الذنوب، وذكر الذنوب العظيمة إنما يليق أن يفرع عليه العقوبة العظيمة، وتحريم بعض المأكولات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقه بتلك الجنايات العظيمة.

ب. الثاني: أن متعلق الباء هو قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: 160] وهذا قول الزجاج وزعم أن قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ بدل من قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾

2. اتفقوا على أن (ما) في قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ صلة زائدة، والتقدير: فبنقضهم ميثاقهم، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: 159]

3. أدخل الله تعالى حرف الباء على أمور:

أ. أولها: نقض الميثاق.

ب. ثانيها: كفرهم بآيات الله، والمراد منه كفرهم بالمعجزات، وقد بينا فيما تقدم أن من أنكر معجزة رسول واحد فقد أنكر جميع معجزات الرسل، فلهذا السبب حكم الله عليهم بالكفر بآيات الله.

ج. ثالثها: قتلهم الأنبياء بغير حق، وذكرنا تفسيره في سورة البقرة.

د. رابعها: قولهم‏ ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ وذكر القفال فيه وجهين:

أحدهما: أن غلفا جمع غلاف والأصل غلف بتحريك اللام فخفف بالتسكين، كما قيل كتب ورسل بتسكين التاء والسين، والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا غلف، أي أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا، فكذبوا الأنبياء بهذا القول.

الثاني: أن غلفا جمع أغلف وهو المتغطى بالغلاف أي بالغطاء، والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا في أغطية فهي لا تفقه ما تقولون، نظيره ما حكى الله في قوله: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصلت: 5]

4. قوله تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ يحتمل وجهين:

أ. إن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الأول كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم أوعية للعلم وبيّن أنه تعالى طبع عليها وختم عليها فلا يصل أثر الدعوة والبيان إليها، وهذا يليق بمذهبنا (2).. وهو أولى، وهو المطابق لقوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾

ب. وإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الثاني كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم في الأكنة والأغطية، وهذا يليق بمذهب المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ

5. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي لا يؤمنون إلا بموسى والتوراة، وهذا إخبار منهم على حسب دعواهم وزعمهم، وإلا فقد بيّنا أن من يكفر برسول واحد وبمعجزة واحدة فإنه لا يمكنه الإيمان بأحد من الرسل ألبتة.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/259.

(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ خفض بالباء و﴿فَبِمَا﴾ زائدة مؤكدة كقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ [آل عمران] وقد تقدم، والباء متعلقة بمحذوف، التقدير: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم، عن قتادة وغيره، وحذف هذا لعلم السامع، وقال أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي: هو متعلق بما قبله، والمعنى فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إلى قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ قال: ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بما بعده من نقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء وسائر ما بين من الأشياء التي ظلموا فيها أنفسهم، وأنكر ذلك الطبري وغيره، لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، والذين قتلوا الأنبياء ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برميهم مريم بالبهتان، قال المهدوي وغيره: وهذا لا يلزم، لأنه يجوز أن يخبر عنهم والمراد آباؤهم، على ما تقدم في البقرة، قال الزجاج: المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، لأن هذه القصة ممتدة إلى قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا﴾

2. نقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقيل: المعنى فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم، وقيل: المعنى فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلا، والفاء مقحمة.

3. ﴿كُفْرُهُمْ﴾ عطف، وكذا و﴿قَتْلَهُمْ﴾، والمراد ﴿بِآيَاتِ اللهِ﴾ كتبهم التي حرفوها، و﴿غُلْفٌ﴾ جمع غلاف، أي قلوبنا أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا، وقيل: هو جمع أغلف وهو المغطى بالغلاف، أي قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول، وهو كقوله: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ﴾ [فصلت] وقد تقدم هذا في البقرة وغرضهم بهذا درء حجة الرسل، والطبع الختم، وقد تقدم في البقرة.

4. ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ أي جزاء لهم على كفرهم، كما قال: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة] أي إلا إيمانا قليلا أي ببعض الأنبياء، وذلك غير نافع لهم.

__________

(1) تفسير القرطبي: 6/7.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ ما: مزيدة للتوكيد، أو نكرة، ونقضهم: بدل منها، والباء: متعلقة بمحذوف، والتقدير: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم، وقال الكسائي: هو متعلق بما قبله، والمعنى: فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إلى قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ قال: ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة بسببه بما بعده من نقضهم ميثاقهم وقتلهم الأنبياء وما بعده، وأنكر ذلك ابن جرير الطبري وغيره، لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، والذين قتلوا الأنبياء ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برمتهم بالبهتان، قال المهدوي وغيره: وهذا لا يلزم لأنه يجوز أن يخبر عنهم، والمراد آباؤهم، وقال الزجاج: المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، لأن هذه القصة ممتدة إلى قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا﴾، ونقضهم الميثاق: أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وقيل المعنى: فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم؛ وقيل المعنى: فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلا.

2. والفاء في قوله: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ مقحمة، قوله: ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ﴾ معطوف على ما قبله، وكذا قوله: ﴿وَقَتْلِهِمُ﴾، والمراد بآيات الله: كتبهم التي حرّفوها، والمراد بالأنبياء الذين قتلوهم: يحيى وزكرياء.

3. وغلف: جمع أغلف، وهو المغطى بالغلاف، أي: قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول، وقيل: إن غلف: جمع غلاف، والمعنى: أن قلوبهم أوعية للعلم، فلا حاجة لهم إلى علم غير ما قد حوته قلوبهم، وهو كقولهم: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ﴾ وغرضهم بهذا ردّ حجة الرسل.

4. ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ هذه الجملة اعتراضية؛ أي: ليس عدم قبولهم للحق بسبب كونها غلفا بحسب مقصدهم الذي يريدونه، بل بحسب الطبع من الله عليها، والطبع: الختم، وقد تقدم إيضاح معناه في البقرة.

5. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي: هي مطبوع عليها من الله بسبب كفرهم فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، أو إلا قليلا منهم: كعبد الله بن سلام ومن أسلم معه منهم.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/616.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ﴾ لَعَنَّاهم، يقدَّر (لعنَّاهم) مؤخَّرًا كما في المائدة [الآية: 13]؛ فهو أولى من تقدير: (فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا، من اللعن والغضب وضرب الذلة والمسكنة وغير ذلك مِمَّا تسبَّب فيه نقضهم).

2. (مَا) صلة للتأكيد، وقيل: نكرة تامَّة، و(نَقْضِ) بدل منها، ولو علَّقنا الباء بـ (حَرَّمْنَا) لزم تعليق حرفَيْ جرٍّ لمعنى واحد بعامل واحد، وذلك لا يجوز إلَّا في العطف والبدل، والتوكيد اللفظي، وعطف البيان على القول بجوازه في الجُمل، والجارِّ والمجرور، وذلك أنَّ (بِظُلْمٍ) المتعلِّق بـ (حَرَّمْنَا)، ودعوى أنَّ فاء (فَبِظُلْمٍ) زائدة في البدل من قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم﴾ ضعيف بطول ما بين البدل والمبدل منه؛ ولأنَّ الأصل عدم الزيادة، ولا يُسيغ زيادتَها طولُ الفصل كما زعم بعض أنَّها زيدت فيُعلم بزيادتها أنَّها ومدخولها بدل من الفاء ومدخولها؛ ولأنَّ الكفرَ والنقضَ وقتلَ الأنبياء وقولَهم قلوبنا غلف ذنوب عظام، إِنَّمَا يناسبها العقاب العظيم، لا تحريم بعض المأكولات.

3. ﴿وَكُفْرِهِم بِئَايَاتِ اللهِ﴾ القرآن والإنجيل والتوراة وحججه الدالَّة على وحدانيَّته، ﴿وَقَتْلِهِمُ الَانبِئَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ لا يكون قتل نبيٍّ حقًّا، ولكن ذكر (بِغَيْرِ حَقٍّ زيادة تشنيع، كأنَّه قيل: وقتلهم الأنبياء مع أنَّ قتلهم أبدًا غير حقٍّ، أو المراد أنَّهم علموا أنَّه غير حقٍّ.

4. ﴿وَقَوْلِهِمْ﴾ للنبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ منطمسة تأبى قبول ما تقول لبطلانه، أو جُعلت كذلك خِلقة، والمفرد: أغلف، كأقلف وقُلْف، كقوله تعالى: ﴿فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ﴾ [فصِّلت: 5] الآية، أو أوعية للعلم فلا نحتاج إلى ما تقول، إذ مُلِئتَ، فالمفرد: غلاف ككتابٍ وكُتْب، بالإسكان من الضمِّ تخفيفًا، أو جمعًا على حدة.

5. ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ حجبها عن العلم خذلانًا عن أن يوفِّقها للتدبُّر في الآيات، لا إجبارًا، وإلَّا لم يَذُمَّهم وهي كالبيت المقفل، والباء سببيَّة، أو للآلة، وقيل: الطبع حقيق، كما روى البزَّار والبيهقيُّ عن ابن عمر عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الطابع معلَّق بقائمة العرش، فإذا انتُهِكَت الحُرمَةُ، وعُمل بالمعاصي، واجْتُرِئَ على الله بعث الله الطابع، فطبع على قلب العاصي فلا يعقل بعد ذلك شيئًا)

6. ﴿فَلَا يُومِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ أي: إلَّا إيمانًا قليلاً لأنَّهم لم يؤمنوا بِكُلِّ ما يجب، بل بنبوءة موسى ولم يعملوا بها، أو زمانًا قليلاً ثمَّ يرتدُّون، لا منصوب على الاستثناء من الواو لأنَّه يترجَّح الإبدال لتقدُّم النفي، وقيل: لأنَّ الواو لمن طُبع على قلوبهم، ومن طُبع على قلبه لا يؤمن، قلت: لا مانع من إيمانه ببعض دون بعض، فهو الإيمان القليل، ولا من إيمانه زمانًا قليلاً ثمَّ يرتدُّ، ولا ينفعهم، فلا يمتنع نصبه على الاستثناء من الواو، وأيضًا الإسناد في الآية من إسناد ما للأكثر إلى الكلِّ، ويجوز عود الواو إلى الكفرة بلا قيد الطبع، فيصحُّ الاستثناء منه مع كون الإيمان صحيحًا كإيمان عبد الله بن سلام وأهله.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/337.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله تعالى ما أوجب لعنهم وطردهم ومسخهم من مخالفتهم بقوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ (ما) مزيدة للتأكيد، أو نكرة تامة، و(نقضهم) بدل منها، والباء متعلقة بفعل محذوف، أي فبسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم، فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخ وغيرهما من العقوبات النازلة عليهم، أو على أعقابهم‏ ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ﴾ أي: حججه وبراهينه والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليهم السلام‏.

2. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ كزكريا ويحيى عليهما السلام، قال البقاعيّ: وهو أعظم من مطلق كفرهم، لأن ذلك سدّ لباب الإيمان عنهم وعن غيرهم، لأن الأنبياء سبب الإيمان ولما كان الأنبياء معصومين من كل نقيصة، ومبرأين من كل دنية، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه، قال تعالى:‏ ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي: كبير ولا صغير أصلا، وهذا الحرف لكونه في سياق طعنهم في القرآن، الذي هو أعظم الآيات، وقع التعبير فيه بأبلغ مما في آل عمران، لأن هذا مع جمع الكثرة، وتنكير الحق، عبر فيه بالمصدر، المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقا وصفة راسخة، بخلاف ما مضى، فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض.

3. ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال‏: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ جمع (أغلف) أي: هي مغشاة بأغشية جبلّية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما قال تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ [فصلت: 5]، أي: فلا ذنب لنا: لأن قلوبنا خلقت بعيدة عن فهم ما يقول الأنبياء، وذلك سبب قتلهم ورد قولهم، وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبيّ الكريم ويشهدون له بالرسالة، وبأنه خاتم الأنبياء، ويصفونه بأشهر صفاته ويترقبون إتيانه، لا جرم ردّ الله عليهم بقوله، عطفا على ما تقديره (وقد كذبوا) لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان، فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفا.

4. ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ أي: ليس كفرهم، وعدم وصول الحق إلى قلوبهم لكونها غلفا بحسب الجبلّة، بل الأمر بالعكس، حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم، لأنه خلقها أولا على الفطرة متمكنة من اختيار الخير والشر، فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقص عن الخير، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم، وتركوا ما تدعو إليه عقولهم، طبع سبحانه عليهم فجعلها قاسية محجوبة، ولذا سبب عنه قوله: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ منهم، كعبد الله بن سلام وأضرابه، أو: إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به لتمرن قلوبهم على الكفر والطغيان.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/391.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي فبسبب نقض أهل الكتاب لميثاقهم الذي واثقهم الله به إذ نكثوا فيه، وأحلوا ما حرمه وحرموا ما أحله، وكفرهم بآيات الله التي أراهم منها ما لم يره سواهم، وقتلهم الأنبياء الذين بعثوا لهدايتهم، كزكريا ويحيى عليهما السلام، وقولهم قلوبنا غلف، وغير ذلك من سيئاتهم التي يذكر أهم كبائرها في الآيات الآتية ـ أي بسبب هذا كله فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والغضب وضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال، لأن هذه الذنوب قد مزقت نسيج وحدتهم، وفرقت شمل أمتهم، وذهبت بريحهم وقوتهم، وأفسدت جميع أخلاقهم، فكل ما حل بهم من البلاء، هو أثر ذلك النقض والكفر والعصيان.

2. فعلم من هذا أن قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ متعلق بمحذوف يدل عليه ما عرف من حالهم في القرآن، وفي التاريخ والعيان، مثل هذا الحذف كثير في الكلام، وكلمة (ما) الفاصلة بين الباء وقوله: (نقضهم) تفيد التأكيد سواء كانت مزيدة في الإعراب، أو نكرة تامة مجرورة بالباء ونقضهم بدل منها، وقيل إنه متعلق بقوله تعالى في الآية الأتية: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: 160] كأنه قال فبسبب نقضهم ميثاقهم وكفرهم وقتلهم الأنبياء وقولهم غلف، وبكفرهم بعد ذلك بعيسى وافترائهم على أمه، وتبجحهم بدعوى قتله، وبظلمهم في غير ذلك من أعمالهم وأحكامهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم الخ فيكون قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ﴾ الخ بدلا من قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ ومثل هذا معهود في الكلام إذا طال، ولكن اعتراض هذا من جهة المعنى لا الإعراب، وذلك أن تحريم تلك الطيبات عليهم كان قبل هذه الجرائم التي منها قتل الأنبياء وبهت المسيح ووالدته العذراء، وأن تحريم بعض الطيبات عليهم عقاب قليل لا يقابل هذه الموبقات كلها بل هو قليل على واحدة منها، فهو إنما كان جزاء على ما دون هذه الموبقات من ظلمهم لأنفسهم.

3. وأما قولهم: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ فذكر المفسرون فيه وجهين:

أ. أحدهما: أن ﴿غُلْفٌ﴾ جمع (أغلف) وهو الذي غلاف يمنع نفود الشيء إليه، أي أن قلوبهم لا ينفذ إليها شيء مما جاء به الرسول فهي لا تدركه وهو لا يؤثر فيها، كما حكى الله تعالى عن المشركين: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصلت: 5]

ب. ثانيها: أنه جمع غلاف (ككتاب وكتب) وسكنت اللام فيه كما تسكن إلى شيء جديد تستفيده من الرسول أو من غيره.

4. وقد رد الله تعالى عليهم هذا الزعم بقوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ أي ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع بل طبع الله عليها بكفرهم أي كان كفرهم شديدا وما له من الأثر القبيح في الأخلاقهم وأعمالهم سببا للطبع على قلوبهم أي جعلها كالسكة المطبوعة (الدراهم مثلا) في قساوتها وتكيفها بطبعة خاصة لا تقبل غيرها من النقوش، فهم بجمودهم على ذلك الكفر التقليدي ولوازمه لا ينظرون في شيء آخر نظر استدلال واعتبار، ولا يتأملون فيه تأمل الإخلاص والاستبصار، وإنما النظر والتأمل من الأمور الممكنة التي ينالها كسبهم، ويصل إليها اختيارهم، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر لم يؤمن.

5. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ من الإيمان كإيمانهم بموسى والتوراة وهو إيمان لا يعتد به، لأنه ـ على ضعفه في نفسه ـ تفريق بين الله ورسله، (وتقدم بيان هذا) أو إلا قليلا منهم ـ كعبد الله بن سلام وأصحابه ـ وكذلك كان.

__________

(1) تفسير المنار: ‏6/14.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي فبسبب نقض أهل الكتاب للميثاق الذي واثقهم الله به فأحلوا ما حرمه وحرموا ما أحله، وكفرهم بآياته وحججه الدالة على صدق أنبيائه، وقتل الأنبياء الذين أرسلوا لهدايتهم كزكريا ويحيى عليهما السلام.

2. ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ جمع أغلف وهو ما عليه غلاف: أي لا ينفذ إليها شيء مما جاء به الرسول ولا يؤثر فيها وهذا كقوله حكاية عن المشركين‏: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ وغير ذلك من سيئاتهم التي ستذكر بعد ـ فعلنا بهم ما فعلنا من لعن إلى غضب إلى ضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال، لأن هذه الذنوب فرقت شملهم وذهبت بقوتهم وأفسدت أخلاقهم إلى غير ذلك من أنواع البلاء التي سببها الكفر والعصيان.

3. ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ طبع الله عليها جعلها كالسكة المطبوعة (الدراهم مثلا) في قساوتها وجعلها بوضع خاص لا تقبل غيره: أي ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع، بل لأن الله ختم عليها بسبب كفرهم الكسبي وما له من الأثر القبيح في أعمالهم وأخلاقهم، فهم باستمرارهم على ذلك الكفر لا ينظرون في شيء آخر نظر استدلال واعتبار، مع أنه من الأمور التي يصل إليها اختيارهم، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا.

4. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي إلا قليلا من الإيمان لا يعتد به، لأنه تفريق بين الله ورسله، فالكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم، وهم قد كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام.

__________

(1) تفسير المراغي ‏6/13.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ وعند قولهم: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾.. وهي القولة التي كانوا يجيبون بها على دعوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إما تيئيسا له من إيمانهم واستجابتهم، وإما استهزاء بتوجيه الدعوة إليهم، وتبجحا بالتكذيب وعدم الإصغاء، وإما هذا وذلك معا.

2. عند قولهم هذا ينقطع السياق للرد عليهم: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ فهي ليست مغلفة بطبعها، إنما هم كفرهم جر عليهم أن يطبع الله على قلوبهم، فإذا هي صلدة جامدة مغطاة، لا تستشعر نداوة الإيمان ولا تتذوق حلاوته، فلا يقع منهم الإيمان إلا قليلا، ممن لم يستحق بفعله، أن يطبع الله على قلبه، أي أولئك الذين فتحوا قلوبهم للحق واستشرفوه، فهداهم الله إليه ورزقهم إياه، وهم قلة قليلة من اليهود، كعبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية، وأسد بن عبيد الله.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/802.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية والآيات التي بعدها يحصى الله سبحانه وتعالى على اليهود ما ارتكبوا من خطايا، وما اقترفوا من آثام، حتى كان لهم من الله هذا العقاب الأليم الذي أخذهم به في الدنيا، وجعله ميراثا يقتسمه أبناؤهم من بعدهم، إذ كانت جرائمهم من الشناعة والهول بحيث لا يستقلّ بحملها جيل أو عدة أجيال.. بل إنها لو قسمت عليهم في أجيالهم السابقة واللاحقة لأحاطت بهم جميعا، ثم كان من فائضها ما يتسع لأمثالهم.. فقد نقضوا مواثيق الله، وكفروا بآياته، وقتلوا رسله.. عدوانا وبغيا، حيث لا شبهة ولا مظنّة شبهة يقتل بها رسول من رسل الله، إذا قتل غيرهم من الناس، بحق أو بغير حق.. فما رسل الله إلّا رحمة من رحمته، وفضل من فضله، ونعمة من نعمه.. فالذي يدفع الرحمة، ويأبى الفضل، ويكفر بالنعمة، هو إنسان مبتلى في عقله، متّهم في إنسانيته؛ فإذا تجاوز ذلك إلى أن يكون حربا على الرحمة والفضل والنعمة، فقل أي كائن هو.. ولكن لا تنسبه إلى عالم الإنسان أبدا! على أن الأمر لا يحتاج إلى بحث أو نظر، فقد حكم القوم على أنفسهم، ونطقوا بما ينطق به في شأنهم الوجود كله، ويدينهم به.

2. وهذا ما أشار إليه‏ قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي مغلفة، مغلّقة، لا ينفذ إليها شيء من الحق والخير.. وهم إنما يقولون هذا القول في مجال الاستهزاء والسخرية، كما يقول من يتعالم: إني جاهل..! والمغرور بماله، المدلّ بثروته: إني فقير! بل إن أمرهم لأكثر من هذا، إذ ليس ما بقلوبهم مجرد غطاء يحجبها عن كل خير، كما ادعوا على أنفسهم استهزاء وتعاظما، ولو كان ذلك هو الذي بهم لكان لدائهم طب، ولعلتهم دواء! ولكنّ الذي بهم هو شيء لو عقلوه لبكوا كثيرا، ولضحكوا قليلا، بل لكانت حياتهم كلها بكاء موصولا، ودمعا جاريا، لما رماهم الله به من داء قتل كل معانى الإنسانية فيهم.. فإذا هم ناس وليسوا ناسا، أحياء وليسوا بالأحياء! انظر إلى قلوب هؤلاء القوم.. فهل تجد ما بها، هو حجاب كثيف مضروب عليها؟ أو غلاف صفيق اشتمل عليها واحتواها؟ وكلا.. ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا﴾

3. وإذن فداء هذه القلوب هو في كيانها ذاتها، وليس مادة غريبة غشيتها واحتوتها، بل هو الختم المحكم الذي ختمه الله عليها، فلا يخرج ما فيها من خبث ولا يدخل إليها ما في الحياة من حق وخير.. إنها ستظل هكذا مغلقة على ما فيها.. أشبه بالبركة الراكدة العفنة، لا تزداد مع الأيام إلا ركودا وعفنا، ولا تلد مع الزمن إلا العفن، والوباء!

4. قوله تعالى: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ هو وصف لمن أفلت منهم من تلك اللعنة، استثناء من هذا الأصل الذي ينتسب إليه القوم جميعا.. وهو عدد قليل، لا يشفع لهذه الجماعة بالخروج من هذا الحكم المضروب عليها.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/964.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ﴾ التفريع على قوله: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 154] والباء للسببية جارّة لـ ﴿نَقْضِهِمْ﴾، و(وما) مزيدة بعد الباء لتوكيد التسبّب، وحرف (ما) المزيد بعد الباء لا يكفّ الباء عن عمل الجرّ وكذلك إذا زيد (ما) بعد (من) وبعد (عن)، وأمّا إذا زيد بعد كاف الجرّ وبعد ربّ فإنّه يكفّ الحرف عن عمل الجرّ.

2. متعلّق قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾: يجوز أن يكون محذوفا، لتذهب نفس السامع في مذاهب الهول، وتقديره: فعلنا بهم ما فعلنا، ويجوز أن يتعلّق بـ ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: 160]، وما بينهما مستطردات، ويكون قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ [النساء: 160] كالفذلكة الجامعة لجرائمهم المعدودة من قبل، ولا يصلح تعليق المجرور بـ ﴿طَبَعَ﴾ لأنّه وقع ردّا على قولهم: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، وهو من جملة المعطوفات الطالبة للتعلّق، لكن يجوز أن يكون (طبع) دليلا على الجواب المحذوف.

3. تقدّم تفسير هذه الأحداث المذكورة هنا في مواضعها، وتقدّم المتعلّق لإفادة الحصر: وهو أن ليس التحريم إلّا لأجل ما صنعوه، فالمعنى: ما حرمنا عليهم طيّبات إلّا بسبب نقضهم، وأكّد معنى الحصر والسّبب بما الزائدة، فأفادت الجملة حصرا وتأكيدا.

4. ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ اعتراض بين المعاطيف، والطبع: إحكام الغلق بجعل طين ونحوه على سدّ المغلوق بحيث لا ينفذ إليه مستخرج ما فيه إلّا بعد إزالة ذلك الشيء المطبوع به، وقد يسمون على ذلك الغلق بسمة تترك رسما في ذلك المجعول، وتسمى الآلة الواسمة طابعا ـ بفتح الباء ـ فهو يرادف الختم، ومعنى‏ ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ بسببه، فالكفر المتزايد يزيد تعاصي القلوب عن تلقّي الإرشاد، وأريد بقوله: ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ كفرهم المذكور في قوله: ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ﴾

5. الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ من عموم المفعول المطلق: أي لا يؤمنون إيمانا إلّا إيمانا قليلا، وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه إذ الإيمان لا يقبل القلّة والكثرة، فالقليل من الإيمان عدم، فهو كفر، وتقدّم في قوله: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 88]، ويجوز أن يكون قلّة الإيمان كناية عن قلّة أصحابه مثل عبد الله بن سلام.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/304.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت الآيات السابقة في بيان غلظ قلوب اليهود، وعنادهم وامتناعهم عن قبول الحق، وأن حاضر اليهود في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كماضيهم مع موسى عليه السلام يتعنتون في طلب الدليل، ولا يهتدون إلى الحق إذا قامت عليهم البينات، حتى إنهم ليطلبون من موسى عليه السلام أن يريهم الله جهرة عيانا، وقد أنزل بهم من الشدائد ما يدفعهم إلى الخضوع، فنزلت بهم الصاعقة وارتفع الجبل عليهم، وقد خضعوا ولا يكادون، وأخذ عليهم الميثاق، ولكنهم لم يلبثوا أن نقضوه، وفى هذا النص الكريم يبين سبحانه وتعالى ما ارتكبوا من مظالم، وعواقب ذلك عليهم.

2. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ ذكر الله تعالى في هذه الآيات الظلم الذى وقع منهم، فذكر مظالم كثيرة لهم، فهم نقضوا الميثاق، وكفروا بالحجج والبينات وقتلوا الأنبياء، ونسبوا سبب الكفر إلى غيرهم، وكذبوا على مريم البتول، وادعوا أنهم قتلوا المسيح، وصدوا عن سبيل الله، وأكلوا الربا وقد نهوا عنه.. إلى آخر ما كفروا به.

3. هؤلاء هم بنو إسرائيل، دائما ينقضون المواثيق والعهود، ولا يراعون إلا ولا ذمة، ويكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء، ويظلمون أنفسهم، فيشدد الله عليهم الأحكام، فيحرم عليهم الطيبات التي كانت مباحة لهم، وقد حقت عليهم اللعنة بخطيئاتهم التي اكتسبوها.

4. وقولهم‏: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي هي أوعية للعلوم مملوءة مغلفة، فلسنا في حاجة إلى علم غير الذى عندنا، ولن نقبل شيئا مما تدعونا إليه يا محمد، ورغم العلم الذى وعيناه واستوعبناه فإن قلوبنا غلف، عليها أغطية تجعلنا لا نفقه ما تقول، فأرح نفسك، وأرحنا معك، فلن نستمع إليك ولن يصل إلى قلوبنا شيء مما تدعو إليه.

5. ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ والحق، أن الله سبحانه وتعالى، لما رأى أنهم لا يهتدون، ولا يعطون التفاتا للدعوة، ويدرءون حجة الرسل، ويدفعون براهينهم بباطل من عندهم جزاهم على كفرهم هذا بأن طبع على قلوبهم، وختم عليها، فهم لذلك لا يهتدون سبيلا، ولا يؤمنون إلا قليلا.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1949.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾، أي لعناهم بسبب نقضهم الميثاق الذي التزموا به، وأبرموه على أنفسهم، وهو أن يؤمنوا ويعملوا بما جاءهم به موسى عليه السلام.. ثم غيّروا وبدّلوا، وحرّموا ما أحل الله، وحللوا ما حرم.

2. ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾، وهي الحجج والدلائل على نبوة عيسى ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ كزكريا ويحيى بعد أن قامت الأدلة على نبوّتهما، ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، أي مغطاة لا يصل إليها شيء من دعوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قالوا هذا للرسول الأعظم تيئيسا له من ايمانهم بنبوته، واستجابتهم إلى دعوته.

3. ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾، جملة معترضة بين المعطوفات، جاءت للرد على قولهم: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ والمعنى ليست قلوبكم غلفا بطبيعتها، وانما كفركم بمحمد وتماديكم في الغي والضلال هو الذي جعلها صلدة كالحجارة، أو أشد قسوة، وبعد أن بلغت قلوبهم مبلغا لا تنفتح معه للحق بحال أصبحوا كمن خلقهم الله بلا قلوب، وبهذا الاعتبار صحت نسبة الطبع عليها إلى الله سبحانه.

4. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)﴾ كعبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن عبيد الله وغيرهم.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/485.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ الفاء للتفريع والمجرور متعلق بما سيأتي بعد عدة آيات ـ يذكر فيها جرائمهم ـ من قوله: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ﴾ والآيات مسوقة لبيان ما جازاهم الله به من وخيم الجزاء الدنيوي والأخروي، وفيها ذكر بعض ما لم يذكر من سننهم السيئة أولا، وقوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ تلخيص لما ذكر منهم من نقض المواثيق ولما لم يذكر من المواثيق المأخوذة منهم.

2. ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ﴾ تلخص لأنواع من الكفر كفروا بها في زمن موسى عليه السلام وبعده قص القرآن كثيرا منها، ومن جملتها الموردان المذكوران في صدر الآيات أعني قوله: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ وإنما قدما في الصدر، وأخرا في هذه الآية لأن المقامين مختلفان فيختلف مقتضاهما فإن صدر الآيات متعرض لسؤالهم تنزيل كتاب من السماء و، ذكر سؤالهم أكبر من ذلك وعبادتهم العجل أنسب به وألصق، وهذه الآية وما بعدها متعرضة لمجازاتهم في قبال أعمالهم بعد ما كانوا أجابوا دعوة الحق وذكر أسباب ذلك والابتداء بذكر نقض الميثاق أنسب في هذا المقام وأقرب.

3. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ يعني بهم زكريا ويحيى وغيرهما ممن ذكر القرآن قتلهم إجمالا من غير تسمية.

4. ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ جمع‏ أغلف‏ أي في أغشية تمنعها عن استماع الدعوة النبوية، وقبول الحق لو دعيت إليه، وهذه كلمة ذكروها يريدون بها رد الدعوة، وإسناد عدم إجابتهم للدعوة إلى الله سبحانه كأنهم كانوا يدعون أنهم خلقوا غلف القلوب، أو أنهم جعلوا بالنسبة إلى دعوة غير موسى كذلك من غير استناد ذلك إلى اختيارهم وصنعهم.

5. ولذلك رد الله سبحانه عليهم بقوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ فبين أن إباء قلوبهم عن استماع الدعوة الحقة مستند إلى صنع الله لكن لا كما يدعون أنهم لا صنع لهم في ذلك بل إنما فعل ذلك بهم في مقابل كفرهم وجحودهم للحق، وكان أثر ذلك أن هذا القوم لا يؤمنون إلا قليل منهم، وقد تقدم الكلام في هذا الاستثناء، وأن هذه النقمة الإلهية إنما نزلت بهم بقوميتهم ومجتمعهم، فالمجموع من حيث المجموع مكتوب عليهم النقمة، ومطبوع على قلوبهم محال لهم أن يؤمنوا بأجمعهم، ولا ينافي ذلك إيمان البعض القليل منهم.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/132.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ (الباء) سببيه أي بسبب نقضهم لميثاقهم ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ﴾ التي يأتي بها الأنبياء الذين كذبوهم.

2. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ ﴿بِغَيْرِ﴾ استحقاق للقصاص مثلاً، وقتل الأنبياء لا يكون بحق، ولكن فيه إشارة إلى أن المكلفين سواءٌ أمام العدل لا هوادة ولا لين لأحد، فيفيد: أن الأنبياء لو قَتَلُوا بغير حق لاستحقوا القصاص، فكذلك من قتلهم بغير حق في أن ذلك جريمة عظيمة.

3. ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي لا نفهم ما جاء به النبي من الأنبياء الذين كذبوهم أو قتلوهم، أو ما جاء به خاتمهم صلّى الله عليه وآله وسلّم و﴿غُلْفٌ﴾ جمع أغلف أي مغطى بغلاف ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا﴾ فهم يفهمون، ولكن قلوبهم لا تقبل الحق، فكأن عليها طبعاً وختماً يمنع دخول الإيمان إليها ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ من الإيمان قال الشرفي في (المصابيح): (ذَمٌّ لهم بأن جعلها كالمطبوع عليها التي لا تفلح أبداً، أي خذلها وسلبها الألطاف؛ بسبب كفرهم، وفعل الكفر يوجب العقاب، فبان أن الطبع والختم إنما هو على وجه العقوبة) وفي إسناد ذلك الطبع إلى الله تعالى وفوائده وكذلك وجه صحة النسبة للمانع من الإيمان إلى الله، كلام قد مر مفصلاً عند تفسير قول الله تعالى: ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [آية:7] من سورة البقرة فراجع، وقوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ﴾ معطوف على نقضهم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/206.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وامتد بهم الطغيان فكفروا بآيات الله الواضحة التي أظهرها على أيدي أنبيائه، وقتلوا الأنبياء بغير حق، وأيّ حق يمكن أن يتصوره الإنسان في قتل الأنبياء الذين أرسلهم الله رحمة للعالمين؟ وسخروا من كل الدعوات الخيّرة الموجّهة إليهم، وقالوا للدعاة إلى الله: إن ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، لا تدخل إليها الكلمات ولا تعي ما يلقى إليها من وحي، ولكن الله سبحانه يرفض هذا الادّعاء، بل إن قلوبهم كقلوب بقية البشر مفتوحة، لكل أساليب الهداية، ولكنهم أغلقوها وغلّفوها بالأفكار السوداء، فطبع الله عليها بسبب ذلك، فلا يؤمنون إلا قليلا، لأنهم لا ينفتحون على معاني الإيمان وإيحاءاته.

2. تلك هي بعض قصة هؤلاء فيما رفعوه كشعار، وقدّموه كانتماء، وخالفوه كرسالة وتعاليم.. وما زالت للقصة بقية من التاريخ، وبقية من المستقبل الذي يحفل بالكثير الكثير من جرائمهم وعدوانهم على القيم في حركة الإنسان والحياة.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏‏7/533.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تشير هذه الآيات إلى نماذج أخرى من انتهاكات بني إسرائيل وممارساتهم العدوانية التي واجهوا بها أنبياء الله.

2. فالآية الأولى: تشير إلى قيام اليهود بنقض العهود، وإلى ارتداد بعضهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم للأنبياء، بحيث استوجبوا غضب الله والحرمان من رحمته وحرمانهم من قسم من نعم الله الطاهرة، فقد أنكر هؤلاء آيات الله وكفروا بها بعد نقضهم للعهد واتّبعوا بذلك سبيل‏ الضلال ولم يكتفوا بهذا الحدّ، بل تمادوا في غيّهم، فارتكبت أياديهم الآثمة جريمة كبرى، إذ عمدوا إلى قتل الهداة والقادة إلى طريق الحق من أنبياء الله، إيغالا منهم في اتباع طريق الباطل والابتعاد عن طريق الحق.

3. لقد كان هؤلاء اليهود بدرجة من العناد والصلف والوقاحة، بحيث كانوا يواجهون كلام الأنبياء بالسخرية والاستهزاء، ووصل بهم الأمر إلى أن يقولوا بكل صراحة أنّ قلوبهم تغطيها حجب عن سماع وقبول قول الأنبياء!

4. ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ هنا يؤكّد القرآن الكريم أنّ قلوب هؤلاء مختومة حقا، بحيث لا ينفذ إليها أي حقّ، وسبب ذلك هو كفرهم وانعدام الإيمان لديهم، فهم لا يؤمنون لعنادهم وصلفهم إلّا القليل منهم.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/521.

136. اليهود والافتراء على مريم

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈136⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 156]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: قال لي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن لك من عيسى مثلا، أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه المنزل الذي ليس له(1).

__________

(1) أحمد ٢/٤٦٨.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن عيسى عليه السلام استقبل رهطا من اليهود، وقالوا: الفاجر بن الفاجرة، والفاعل بن الفاعلة، فقذفوه وأمه، فلما سمع عيسى ذلك دعا عليهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾، رموها بالزنا(2).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٤٠٩.

(2) ابن جرير ٧/٦٤٩.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال في حديث قال فيه: ألم ينسبوا مريم بنت عمران (عليهما السلام) إلى أنها حملت بعيسى من رجل نجار اسمه يوسف؟(1).

__________

(1) الأمالي: 92/2.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾، وذلك أن اليهود قذفوا مريم بيوسف بن ماثان بالزنا، وكان ابن عمها، وكان قد خطبها، ومريم ابنة عمران بن ماثان(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٠.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾، قال ابن عَبَّاسٍ: قذفوها بالزنا، وهو قولهم: ﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾

2. قيل في قوله تعالى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ أي: كفرهم بمُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالقرآن، وقولهم على مريم ما قالوا: ﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤١٠.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ معناه وبكفر هؤلاء الذين وصفهم، وقولهم على مريم بهتاناً يعني رميهم لها بالزنا، وهو البهتان وبقريتهم عليها، لأنهم رموها وهي بريئة بغير بينة ولا برهان به بل هتوها بباطل القول، وهو قول ابن عباس والسدي والضحاك.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/382.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. البهتان: الكذب الذي يحير لشدته، وأصله التحير من قولهم: رجل مبهوت أي: متحير، والمباهتة: نظير المكابرة، وبنوا البهتان على بناء نقيضه البرهان، وبهت الرجل: دهش، ومنه ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ وتقول العرب: يا للبهتة؛ أي: يا للكذب.

2. ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾:

أ. قيل: إنما كرر ذكر الكفر؛ لأن المعنى وبكفرهم بالمسيح فهو محذوف لدلالة ما بعده عليه، عن أبي علي.

ب. وقيل: تفخيمًا لحالهم أنهم كفروا كفرًا بعد كفرهم.

3. ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ﴾ أم عيسى ﴿بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ أي: كذبًا عظيمًا، وذلك أنهم رموها بالزنا، عن ابن عباس وجويبر والسدي وغيرهم.

4. سؤال وإشكال: هل للبهتان حد في العظم، وفي الصغر؟ والجواب: أما في العظم فَنَعَمْ؛ لأنه لا شيء أعظم من البهتان على الله تعالى، وأما في الصغر فلا بد أن يكون له حد غير أنا لا نعلم ذلك؛ لما ذكرنا أن تعريفه قد يكون مفسدة.

5. تدل الآية الكريمة على:

أ. كذبهم على مريم، وبراءة مريم مما رموها به.

ب. عظيم أمر القذف والفرية؛ ولذلك سمي بهتانًا..

6. العامل في قوله: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: المحذوف بأن يعطف على أول الكلام بتقدير: بنقضهم وبكفرهم لعناهم.

ب. الثاني: أن يعمل فيه ﴿طَبَعَ﴾ فيكون معطوفًا على الفعل في آخر الكلام.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/140.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. البهتان: الكذب الذي يتحير فيه من شدته وعظمته، وقد مر معنى المسيح في سورة آل عمران.

2. ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ أي: بجحود هؤلاء لعيسى ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ أي: أعظم كذب وأشنعه، وهو رميهم إياها بالفاحشة.

3. عن ابن عباس، والسدي، قال الكلبي: مر عيسى برهط، فقال بعضهم لبعض: (قد جاءكم الساحر ابن الساحرة، والفاعل ابن الفاعلة) فقذفوه بأمه، فسمع ذلك عيسى، فقال: اللهم أنت ربي خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي، اللهم العن من سبني، وسب والدتي! فاستجاب الله دعوته فمسخهم خنازير.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/206.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ في إعادة ذكر الكفر فائدة وفيها قولان:

أ. أحدهما: أنه أراد: وبكفرهم بمحمّد والقرآن، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: وبكفرهم بالمسيح، وقد بشّروا به، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

2. فأما (البهتان) فهو في قول الجماعة: قذفهم مريم بالزّنى.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/495.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما نسبوا مريم إلى الزنا لإنكارهم قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب ومنكر قدرة الله على ذلك كافر لأنه يلزمه أن يقول: كل ولد ولد فهو مسبوق بوالد لا إلى أول، وذلك يوجب القول بقدم العالم والدهر، والقدح في وجود الصانع المختار، فالقوم لا شك أنهم:

أ. أولا: أنكروا قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب.

ب. وثانيا: نسبوا مريم إلى الزنا، فالمراد بقوله: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ هو إنكارهم قدرة الله تعالى، وبقوله: ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ نسبتهم إياها إلى الزنا.

2. لما حصل التغير لا جرم حسن العطف، وإنما صار هذا الطعن بهتانا عظيما لأنه ظهر عند ولادة عيسى عليه السلام من الكرامات والمعجزات ما دلّ على براءتها من كل عيب، نحو قوله: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: 25] ونحو كلام عيسى عليه السلام حال كونه طفلا منفصلا عن أمه، فإن كل ذلك دلائل قاطعة على براءة مريم عليها السلام من كل ريبة، فلا جرم وصف الله تعالى طعن اليهود فيها بأنه بهتان عظيم، وكذلك وصف طعن المنافقين في عائشة بأنه بهتان عظيم حيث قال: ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 16]

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/260.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كرر ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ ليخبر أنهم كفروا كفرا بعد كفر، وقيل: المعنى ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ بالمسيح، فحذف لدلالة ما بعده عليه، والعامل في ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ هو العامل في ﴿نَقْضِهِمْ﴾ لأنه معطوف عليه، ولا يجوز أن يكون العامل فيه ﴿طَبَعَ﴾

2. والبهتان العظيم رميها بيوسف النجار وكان من الصالحين منهم، والبهتان الكذب المفرط الذي يتعجب منه.

__________

(1) تفسير القرطبي: 6/8.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ معطوف على قولهم، وإعادة الجار لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وهذا التكرير لإفادة أنهم كفروا كفرا بعد كفر؛ وقيل: إن المراد بهذا الكفر: كفرهم بالمسيح، فحذف لدلالة ما بعده عليه.

2. ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ هو رميها بيوسف النجار، وكان من الصالحين، والبهتان: الكذب المفرط الذي يتعجب منه.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/616.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ بعيسى عليه السلام  والإنجيل والقرآن ومحمَّد صلَّى الله عليهما وسلَّم، وذلك عطفٌ لِمَا فَعَلَ الآخِرُون على فِعْلِ الأوَّلين، لرضاهم عنهم، وجعلهم كقوم واحد، وهو معطوف على (بِكُفْرِهِمْ)، ولا تكرير؛ لأنَّ هذا كفر بعيسى ومَن ذُكِرَ بعدَه والسابقُ كفرٌ بغيرهم، أو السابق عامٌّ وهذا خاصٌّ، أو السابق بسيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم لاتِّصاله بذكر (غُلْفٌ)، وقد واجهوه به في مواضع، وهذا بعيسى.

2. ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ قالوا: إنَّها زنت، وإنَّ عيسى ولد زنًى، حاشاهما، و(بُهْتَانًا) مفعول به للقول، لإرادة معنى الجملة به، أو مفعول مطلق، أو حال، أي: باهتين.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/338.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ أي: بعيسى عليه السلام، وهو عطف على (قولهم) وإعادة الجار لطول ما بينهما، وقد جوز عطفه على (بكفرهم) فيكون هو وما عطف عليه من أسباب الطبع، وقيل هذا المجموع معطوف على مجموع ما قبله، تكرير الكفر للإيذان بتكرر كفرهم، حيث كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد عليهم الصلاة والسلام، كذا في أبي السعود.

2. ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ أي: مع قولهم الذي يجترئون به على مريم عليها السلام، بعد ظهور كراماتها وإرهاصات ولدها ومعجزاته، يبهتونها به.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/392.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ هذا معطوف على قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ الخ والمراد بالكفر هنا كما يظهر من القرينة الكفر بعيسى ولذلك عطف عليه بهت أمه (عليهما السلام) وهو قذفها بالفاحشة، والبهتان الكذب الذي يبهت من يقال فيه أي يدهشه ويحيره لبعده عنه وغرابته عنده، يقال قال فلان البهتان وقول البهتان، وقال الزور، وفي الحديث الكبائر (ألا وقول الزور) (ألا وشهادة الزور) كما يقال في مقابله قال الحق (قوله الحق)

1. وصف البهتان بالعظيم، وأي بهتان تبهت به العذراء التقية النقية أعظم من هذا؟ أي فهذا الكفر والبهتان من أسباب ما حل بهم من غضب الله ولعنته، ومن توابعه ما بينه بقوله عطفا على ما قبله.

__________

(1) تفسير المنار: ‏6/15.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ المراد بالكفر هنا الكفر بعيسى عليه السلام بدليل ما بعده، وبالكفر الذي قبله الكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بقرينة قوله: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾

2. البهتان: الكذب الذي يبهت من يقال فيه: أي يدهشه ويحيّره لبعده وغرابته، والمراد به هنا رميها بالفاحشة، والمعنى ـ إن الله طبع على قلوبهم بكفرهم بعيسى وأمه ورميهم إياها بالكذب العظيم، وأي بهتان تبهت به العذراء التقية أعظم من هذا؟ والخلاصة ـ إن هذا الكفر والبهتان من أسباب ما حل بهم من غضب الله.

__________

(1) تفسير المراغي ‏6/13.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد هذا الاستدراك والتعقيب، يعود السياق إلى تعداد الأسباب التي استحقوا عليها ما استحقوا من تحريم بعض الطيبات عليهم في الدنيا، ومن إعداد النار وتهيئتها لهم، لتكون في انتظارهم في الآخرة!

2. ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾ ويكرر صفة الكفر كلما ذكر إحدى منكراتهم، فقد ذكرها عند قتلهم الأنبياء بغير حق ـ وما يقتل نبي بحق أبدا فهي حال لتقرير الواقع ـ وذكرها هنا بمناسبة قولهم على مريم بهتانا عظيما، وقد قالوا على مريم الطاهرة ذلك المنكر الذي لا يقوله إلا اليهود! فرموها بالزنا مع يوسف النجار ـ لعنة الله عليهم!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/802.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مما أحصاه الله من شناعات هؤلاء القوم ـ اليهود ـ كفرهم بالمسيح، وتكذيبهم له، وقولهم فيه وفي أمّه تلك الأقوال الشنيعة، التي هي محض بهتان وزور، فقد رموا مريم البتول بالفحش، واتهموها بالفاحشة ونسبوا ابنها إلى أنه ابن سفاح، جاء على غير رشدة.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/966.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عطف‏ ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ مرّة ثانية على قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ [النساء: 155] ولم يستغن عنه بقوله: ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ﴾ [النساء: 155] وأعيد مع ذلك حرف الجرّ الذي يغني عنه حرف العطف قصدا للتأكيد، واعتبر العطف لأجل بعد ما بيّن اللفظين، ولأنّه في مقام التهويل لأمر الكفر، فالمتكلّم يذكره ويعيده: يتثبّت ويرى أنّه لا ريبة في إناطة الحكم به، ونظير هذا التكرير قول لبيد:

çفتنازعا سبطا يطير ظلاله‏...كدخان مشعلة يشبّ ضرامها

مشمولة غلثت بنابت عرفج‏...كدخان نار ساطع أسنامهاé

فأعاد التشبيه بقوله: (كدخان نار) ليحقّق معنى التشبيه الأوّل، وفي (الكشاف) (تكرّر الكفر منهم لأنّهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد ـ صلوات الله عليهم ـ فعطف بعض كفرهم على بعض)، أي فالكفر الثاني اعتبر مخالفا للذي قبله باعتبار عطف قوله: ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا﴾، ونظيره قول عويف القوافي:

çاللؤم أكرم من وبر ووالده‏...واللؤم أكرم من وبر وما ولداé

إذ عطف قوله: (واللؤم أكرم من وبر) باعتبار أنّ الثاني قد عطف عليه قوله: (وما ولدا)

2. البهتان مصدر بهته إذا أتاه بقول أو عمل لا يترقّبه ولا يجد له جوابا، والذي يتعمّد ذلك بهوت، وجمعه: بهت وبهت، وقد زيّن اليهود ما شاءوا في الإفك على مريم ـ عليها السلام ـ، أمّا قولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، فمحلّ المؤاخذة عليهم منه: هو أنّهم قصدوا أن يعدّوا هذا الإثم في مفاخر أسلافهم الراجعة إلى الإخلاف بالعهد المبيّن في سبيل نصر الدين.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/305.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ لقد كفروا بالمسيح من قبل، وأتوا ببهتان عظيم، فاتهموا مريم العذراء البتول، بأن لها علاقة بيوسف النجار.

2. ويوسف هذا كان أحد الصالحين من بنى إسرائيل، وقد خطب مريم، ورغب في أن يتزوجها، وعندما ولدت المسيح عليه السلام، صدقها، ووثق ببراءتها وطهرها، وبقى معها يرعاها هي وابنها، ولكن اليهود كفروا ورموا مريم ويوسف ببهتان عظيم، ونحن المسلمين نؤمن بطهارة مريم، ونؤمن بعيسى نبيا ورسولا، فويل بعد ذلك للمكذبين.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1950.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)﴾، كرر سبحانه نسبة الكفر إلى اليهود ثلاث مرات:

أ. الأولى: بمناسبة ذكره لجحودهم آيات الله وقتلهم الأنبياء.

ب. الثانية: بمناسبة قولهم: قلوبنا غلف.

ج. الثالثة: عند ذكره لقولهم على مريم المنكر الذي لا يقوله الا اليهود الذين تناصرهم أمريكا (المسيحية) وتزودهم بالسلاح ليعتدوا على القدس، وينتهكوا الشعائر الدينية التي يقدسها المسيحيون والمسلمون، بخاصة الكنائس ومقابر المسيحيين.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/485.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)﴾ وهو قذفها عليه السلام في ولادة عيسى بالزنا، وهو كفر وبهتان معا وقد كلمهم عيسى في أول ولادته وقال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/133.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ هذا عطف على ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ وكفرهم؛ لعله هنا كفرهم بعيسى وبالآيات التي جاءهم بها، ويحتمل: العموم لهذا ولكفرهم بأنبياء غيره مثل سليمان، كما قال تعالى: ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة:87]

2. والبهتان العظيم: رميها بالفاحشة مع أن الله قد برأها من ذلك، ومع بعدها من ذلك القبيح ونزاهتها الكاملة ومع فضلها وعلو شأنها في الدين، ومع أن غرضهم برميها فيما بعد ظهور الآيات جحد الآيات والتكذيب بخلق الله لعيسى من غير أب والتكذيب بكونه رسولاً من الله والتكذيب بآيات الله التي جاء بها، فتظاهرت أسباب قبح رميها بالفاحشة، قال الراغب الأصفهاني في تفسير (البهتان): (أي كذب يبهت سامعه لفظاعته ـ وقال أيضاً في تفسير: بُهِت ـ: أي دهِش وتَحيَّر)

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/207.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وماذا بعد ذلك؟ لقد كفروا بالله وبرسالاته، وتقوّلوا على مريم ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)﴾ ونسبوا إليها الفاحشة التي نزّهها الله عنها، مما يجعل من كلامهم بهتانا عظيما، لأنها ليست كذبة بسيطة تتعلق ببعض الشؤون العادية، ولكنها كذبة تتعلق بقضية الشرف فيمن هي في المستوى العظيم من الطهر والشرف، مما يوحي بأنهم لا يتورّعون عن أيّ شيء مما يتصل بمطامعهم وأهوائهم.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏‏7/534.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وقد تجاوز هؤلاء المجرمون الحدّ، فالصقوا بمريم العذراء الطاهرة تهمة شنيعة وبهتانا عظيما، هي أمّ لأحد أنبياء الله الكبار، وذلك لأنّها حملت به بإذن الله دون أن يمسها رجل، تقول الآية في هذا المجال: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/522.

137. اليهود ودعوى قتل المسيح

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈137⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 157 ـ 158]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه، وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين، فخرج عليهم من عين البيت ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثني عشر مرة بعد أن آمن بي، ثم قال أيكم يلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنا، فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب، فقال: أنا، فقال: أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء، قال وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبه، فقتلوه، ثم صلبوه، وكفر به بعضهم اثني عشر مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق، وقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء، ثم صعد إلى السماء، فهؤلاء اليعقوبية، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله، وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة، فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا، حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله: ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ يعني: الطائفة التي آمنت في زمن عيسى، وكفرت الطائفة التي كفرت في زمن عيسى، ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في زمن عيسى، بإظهار محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم دينهم على دين الكافرين(1).

2. روي أنّه قال: إن عيسى عليه السلام استقبل رهطا من اليهود، وقالوا: الفاجر بن الفاجرة، والفاعل بن الفاعلة، فقذفوه وأمه، فلما سمع عيسى ذلك دعا عليهم، وقال: اللهم، أنت ربي، وأنا عبدك من روح نفخت، ولم أتهم من تلقاء نفسي، اللهم، فالعن من سبني وسب أمي، فاستجاب الله دعاءه، ومسخ الذين سبوه وسبوا أمه خنازير، فلما رأى رأس اليهود ما جرى بأميرهم فزع لذلك، وخاف دعوته آنفا، فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى، فاجتمعوا عليه، وجعلوا يسألونه، فقال لهم: كفرتم، وإن الله يبغضكم، فغضبوا من مقالته غضبا شديدا، وثاروا إليه ليقتلوه، فبعث الله تعالى جبرئيل، وأدخله خوخة فيها روزنة في سقفها، فصعد به إلى السماء من تلك الروزنة، فأمر يهودا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له: ططيانوس أن يدخل الخوخة، ويقتله، فلما دخل ططيانوس الخوخة لم ير عيسى بداخلها، فظنوا أنه يقاتله فيها، وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى، فلما خرج [ظنوا] أنه عيسى، فقتلوه، وصلبوه(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾، يعني: لم يقتلوا ظنهم يقينا(3).

4. روي أنّه أتاه رجل، فقال: أرأيت قول الله: ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾؟ قال كذلك كان، ولم يزل(4).

5. روي أنّه قال: أن يهوديا قال له: إنكم تزعمون أن الله كان عزيزا حكيما، فكيف هو اليوم؟ قال إنه كان من نفسه عزيزا حكيما(4).

6. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾، قال ثلاثة وثلاثين سنة، وهو الذي رفع عليه عيسى ابن مريم عليه السلام(5).

__________

(1) ابن أبي شيبة ٦/٣٣٩.

(2) تفسير الثعلبي ٣/٤٠٩.

(3) ابن جرير ٧/٦٦٢.

(4) ابن أبي حاتم ٤/١١١٢.

(5) ابن أبي حاتم ٤/١١١١.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ما ترك عيسى بن مريم حين رفع إلا مدرعة صوف، وخفي راع، وقذافة يقذف بها الطير(1).

__________

(1) أبو نعيم ٢/٢٢١.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿شُبِّهَ لَهُمْ﴾، صلبوا رجلا غير عيسى، شبهوه بعيسى، يحسبونه إياه، ورفع الله إليه عيسى حيا(1).

2. روي أنّه قال في الآية: ما قتلوا ظنهم يقينا(2).

3. روي أنّه قال: قوله: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾، رفع الله إليه عيسى حيا(3).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٥٨.

(2) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.

(3) ابن أبي حاتم ٤/١١١٢.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾، ما استيقنته أنفسهم، ولكن ظنا منهم(1).

2. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لليهود: إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١١١.

(2) ابن جرير ٥/٤٤٨.

ابن منبه:

روي عن وهب بن منبه (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت، وأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا! لتبرزن لنا عيسى، أو لنقتلنكم جميعا، فقال عيسى لأصحابه: من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم: أنا، فخرج إليهم، فقال: أنا عيسى، وقد صوره الله على صورة عيسى، فأخذوه، فقتلوه، وصلبوه، فمن ثم شبه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك(1).

2. روي أنّه قال: إن عيسى لما أعلمه الله أنه خارج من الدينا جزع من الموت، وشق عليه، فدعا الحواريين، فصنع لهم طعاما، فقال: احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليلة عشاهم، وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم، ويوضيهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك، وتكارهوه، فقال: ألا من رد علي شيئا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه، فأقروه، حتى إذا فرغ من ذلك قال أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم فلا يتعظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم نفسه لبعض كما بذلت نفسي لكم، وأما حاجتي التي استعنتكم عليها فتدعون لي الله، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا؛ أخذهم النوم، حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم، ويقول: سبحان الله! ما تصبرون لي ليلة واحدة تعينونني فيها! قالوا: والله، ما ندري ما لنا، لقد كنا نسمر فنكثر السمر، وما نطيق الليلة سمرا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي، وتتفرق الغنم، وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعي به نفسه، ثم قال الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني، فخرجوا، وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون أحد الحواريين، فقالوا: هذا من أصحابه، فجحد، وقال: ما أنا بصاحبه، فتركوه، ثم أخذه آخرون، فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود، فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها، ودلهم عليه ـ وكان شبه عليهم قبل ذلك ـ، فأخذوه، واستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، فجعلوا يقودونه، ويقولون: أنت كنت تحيي الموتى، وتبرئ المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل!؟ ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شبه لهم، فمكث سبعا، ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث المصلوب، فجاءهما عيسى، فقال: علام تبكيان؟ قالتا: عليك، قال إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبه لهم، فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا، فألقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وقعد الذي كان باعه ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه، فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق، وقتل نفسه، قال لو تاب تاب الله عليه، ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له: يحنا، فقال: هو معكم، فانطلقوا، فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم، فلينذرهم، وليدعهم(2).

3. روي أنّه قال: إن عيسى عليه السلام كان سياحا، فمر على امرأة يستقي، فقال: اسقيني من مائك الذي من شرب منه مات، وأسقيك من مائي الذي من شرب منه حيي، قال وصادف امرأة حكيمة، فقالت له: أما تكتفي بمائك الذي من شرب منه حيي عن مائي الذي من شرب منه مات! قال إن ماءك عاجل، ومائي آجل، قالت: لعلك هذا الرجل الذي يقال له: عيسى ابن مريم؟ قال فإني أنا هو، وأنا أدعوك إلى عبادة الله، وترك ما تعبدين من دون الله عز وجل، قالت: فأتني على ما تقول ببرهان، قال برهان ذلك أن ترجعي إلى زوجك فيطلقك، قالت: إن في هذا لآية بينة، ما في بني إسرائيل امرأة أكرم على زوجها مني، ولئن كان كما تقول إني لأعرف أنك صادق، قال فرجعت إلى زوجها، وزوجها شاب غيور، فقال: ما بطؤ بك؟ قالت: مر علي رجل، فأرادت أن تخبره عن عيسى، فاحتملته الغيرة، فطلقها، فقالت: لقد صدقني صاحبي، فخرجت تتبع عيسى وقد آمنت به، فأتى عيسى ومعه سبعة وعشرون من الحواريين في بيت، وأحاطوا بهم، فدخلوا عليهم وقد صورهم الله على صورة عيسى، فقالوا: قد سحرتمونا، لتبرزن لنا عيسى، أو لنقتلكم جميعا، فقال عيسى لأصحابه: من يشتري منكم نفسه بالجنة؟ فقال رجل من القوم: أنا، فأخذوه، فقتلوه، وصلبوه، فمن ثم شبه لهم، وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، وصلبوه، وظنت النصارى مثل ذلك، ورفع الله عيسى من يومه ذلك...(3).

4. روي أنّه قال: لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر ـ وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر ـ أن اطلعي به إلى الشام، ففعلت الذي أمرت به، فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين، ثم رفعه الله إليه(4).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٥٠.

(2) ابن جرير ٧/٦٥١.

(3) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر، وله تتمة طويلة، ينظر: الدر المنثور ٥/١٠٣.

(4) ابن جرير ٥/٤٢٤.

ابن أبي بزة:

روي عن القاسم بن أبي بزة (ت 115 هـ) أن عيسى ابن مريم قال أيكم يلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني؟ فقال رجل من أصحابه: أنا، يا رسول الله، فألقي عليه شبهه، فقتلوه، فذلك قوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٥٥.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾، قال ألقي شبهه على رجل من الحواريين، فقتل، وكان عيسى ابن مريم عرض ذلك عليهم، فقال: أيكم ألقي شبهي عليه وله الجنة؟ فقال رجل: علي(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٥٤.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلا من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم، وصعد بعيسى إلى السماء، فلما خرج الحواريون أبصروهم تسعة عشر، فأخبروهم أن عيسى عليه السلام قد صعد به إلى السماء، فجعلوا يعدون القوم فيجدونهم ينقصون رجلا من العدة، ويرون صورة عيسى فيهم، فشكوا فيه، وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى، وصلبوه، فذلك قول الله ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: اختلافهم من حيث أنهم قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾، قال وما قتلوا أمره يقينا أن الرجل هو عيسى،‌‌ بل رفعه الله إليه(3).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٥٤.

(2) تفسير البغوي ٢/٣٠٧.

(3) ابن جرير ٧/٦٦٢.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: اختلافهم فيه هو أن اليهود قالت: نحن قتلناه، وقالت طائفة من النصارى: نحن قتلناه، وقالت طائفة منهم: ما قتله هؤلاء ولا هؤلاء، بل رفعه الله إلى السماء، ونحن ننظر إليه(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٤١٠.

السيباني:

روي عن أبي زرعة السيباني (ت 148 هـ) أنّه قال: إن عيسى ابن مريم رفع من جبل طور زيتا، قال بعث الله ريحا، فخفقت به حتى هرول، ثم رفعه الله إلى السماء(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١١٢.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ ولم يقولوا: رسول الله، ولكن الله عز وجل قال: ﴿رَسُولُ اللهِ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ثم قال تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ بصاحبهم الذي قتلوه، وكان الله عز وجل قد جعله على صورة عيسى، فقتلوه، وكان المقتول لطم عيسى، وقال لعيسى حين لطمه: أتكذب على الله حين تزعم أنك رسوله!؟ فلما أخذه اليهود ليقتلوه قال لليهود: لست بعيسى، أنا فلان، واسمه يهوذا، فكذبوه، وقالوا له: أنت عيسى، وكانت اليهود جعلت المقتول رقيبا على عيسى صلّى الله عليه وآله وسلّم، فألقى الله ـ تعالى ذكره ـ شبهه على الرقيب، فقتلوه(1).

3. روي أنّه قال: ثم قال سبحانه: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ يعني: في عيسى، وهم النصارى، فقال بعضهم: قتله اليهود، وقال بعضهم: لم يقتل، ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ في شك من قتله، ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾، يقول: وما قتلوا ظنهم يقينا، يقول: لم يستيقنوا قتله، كقول الرجل: قتله علما(1).

5. روي أنّه قال: فأكذب الله عز وجل اليهود في قتل عيسى صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال عز وجل: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ إلى السماء حيا في شهر رمضان في ليلة القدر، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، رفع إلى السماء من جبل بيت المقدس، فذلك قوله سبحانه: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾(2).

6. روي أنّه قال: ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا﴾، يعني: عزيزا منيعا حين منع عيسى من القتل، ﴿حَكِيمًا﴾ حين حكم رفعه(2).

7. روي أنّه قال: وترك عيسى صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد رفعه خفين، ومدرعة، وحذافة يحذف بها الطير، وقالت عائشة: وترك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد موته إزارا غليظا، وكساء، وسادة أدم حشوها ليف(2).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٠.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢١.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله رجلا منهم يقال له: داود، فلما أجمعوا لذلك منه لم يفظع عبد من عباد الله بالموت ـ فيما ذكر لي ـ فظعه، ولم يجزع منه جزعه، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءه، حتى إنه ليقول ـ فيما يزعمون ـ: اللهم، إن كنت صارفا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني، وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دما، فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه، وهم ثلاثة عشر بعيسى، فلما أيقن أنهم داخلون عليه قال لأصحابه من الحواريين، وكانوا اثني عشر رجلا: فطرس، ويعقوب بن زبدي، ويحنس أخو يعقوب، وأندرابيس، وفيلبس، وأبرثلما، ومتى، وتوماس، ويعقوب بن حلقايا، وتداوسيس، وفتاتيا، ويودس زكريا يوطا، قال ابن إسحاق: وكان فيهم ـ فيما ذكر لي ـ رجل اسمه سرجس، فكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى، جحدته النصارى، وذلك أنه هو الذي شبه لليهود مكان عيسى، قال فلا أدري ما هو من هؤلاء الاثني عشر أم كان ثالث عشر!؟ فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى، وكفروا بما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من الخبر عنه، فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر، وإن كانوا اثني عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى ثلاثة عشر(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾، أي: حين اختلفوا في العدة من أصحابه(2).

3. روي أنّه قال: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾، أي: ما استيقنوا بقتله إلا اتباع الظن(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٥٦.

(2) ابن أبي حاتم ٤/١١١١.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أراد سبحانه بذلك: عيسى صلى الله عليه، لما أخذه الظالمون ليهلكوه، وسجنوه في البيت ليقتلوه، فسلمه الله من كيدهم، ودفع عنه ما هموا به من عظيم كفرهم، وألبس الكافر الذي كان يحرسه شبه عيسى في صورته وخلقه، فلم يفرقوا عند ذلك بينه وبين عيسى في شيء من أمره، فلما أن نهضوا لقتل عيسى صلى الله عليه وجدوا صاحبهم في مكانه فقتلوه، ولم يشكوا فيه عندما عاينوه أنه عيسى صلى الله عليه، فأخبرهم عز وجل عنه، فقال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾، ثم رفعه الله عنهم، وأخرجه من بينهم سالما مسلما.

2. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ [النساء: 159]، فهذا دليل على حياته، وأنهم سيؤمنون به قبل موته؛ وذلك على ما يروى عند نزوله مع المهدي، وإسلام الخلق ورجوعهم، وما وعد الله به نبيه أن يظهر دينه على الأديان جميعا، ولو كره المشركون، وقلت: هل يجوز أن يقرأ: (قبل موتهم)؟ وهذا لا يجوز، والذين يؤمنون به فهم: أهل الكتاب، وقد يقال: إن عيسى بن مريم صلى الله عليه يقيم بعد المهدي سنينا، ثم يموت.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/278.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ﴾:

أ. قيل: سمي مسيحًا؛ لأن جبريل عليه السلام مسحه بالبركة؛ فهو كالممسوح الفعيل، بمعنى: المفعول، وذلك جائز في اللغة.

ب. وقيل: المسيح، بمعنى: ماسح؛ لأنه كان يمسح المريض والأبرص والأكمه فيبرأ؛ فسمي لذلك مسيحًا، وذلك جائز الفعيل بمعنى فاعل.

2. ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾ الآية، لبعض الناس تعلق بهذه الآية بوجهين:

أ. أحدهما: في احتمال الغلط والخطأ في المشاهدات والمعاينات.

ب. الثاني: في احتمال المتواتر من الأخبار الغلط والكذب؛ وذلك أنه قيل في القصة: إن اليهود طلبت عيسى عليه السلام ليقتلوه، فحاصروه في بيت ومعه نفر غير أصحابه من الحواريين، فأدركهم المساء؛ فباتوا يحرسونه؛ فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾؛ فأخبر أصحابه، وقال: أيكم يحب أن يلقى عليه شبهي فيقتل، ويجعله الله يوم القيامة معي وفي درجتي؟ فقال رجل منهم: أنا يا رسول الله؛ فألقى الله تعالى عليه شبهه ورفع عيسى صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما أصبح القوم أخذوا الذي ألقى اللهُ عليه شبهه؛ فقتلوه، وصلبوه، وقيل: إنه أُلقي شبهه على رجل من اليهود، وقيل: إنه لما هموا بقتله التجأ إلى بيت، فدخل فيه، فإذا هم قد جاءوا في طلبه، فدخل رجل منهم البيت ليقتله، فأبطأ عليهم؛ فظنوا أنه قد قتله، فلما خرج وقد أُلقي شبهه عليه؛ فقتلوه، وقالوا لما قتلوا ذلك الرجل، وعندهم أنه عيسى؛ لما كان به شبهه، ثم لم يكن ذلك عيسى فلا يمنع أيضًا أن ما يشاهد ويعاين أنه ـ في الحقيقة ـ على غير ذلك، كما شاهد أُولَئِكَ القوم وعاينوا، وعندهم أنه عيسى، ثم لم يكن، ثم الخبر ـ أيضًا ـ قد تواتر فيهم بقتل عيسى، فكان كذبًا ما يمنع ـ أيضًا ـ أن الأخبار المتواترة يجوز أن تخرج كذبًا وغلطًا، قيل: أما الخبر بقتله إنما انتشر عن ستة أو سبعة؛ على ما ذكر في القصة، والخبر الذي كان انتشاره بذلك القدر من العدد، هو من أخبار الآحاد عندنا.

3. أما قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾، يجوز أن يكون ذلك التشبيه تشبيه خبر أنه قتل من إلقاء الشبه على غيره، وقتله حقيقة؛ وذلك أنه ذكر في بعض القصة: أنهم لما طلبوه في ذلك البيت فلم يجدوه، ولم يكن غاب أحد منهم ـ قالوا: قتلناه؛ لأنهم قالوا: إنه دخل البيت، فدخلوه على أثره، فلم يجدوه ـ كان ذلك إنباء عن عظيم آيات رسالته؛ فلم يحبوا أن يقولوا ذلك، فقالوا: قتلناه، كذبًا؛ فذلك تشبيه لهم، فإن احتمل هذا ـ لم يكن ما قالوا من تخطئة العين لهم درك، ولو كان ما قال أهل التأويل من إلقاء شبهه عليه؛ فذلك من آيات رسالته، أراد الله أن تكون آياته قائمة بعد غيبته عنهم، وفي حال إقامته بينهم.

4. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾:

أ. قيل: لفي شك، من قتل عيسى عليه السلام قتل أو لم يقتل؛

ب. وقيل: ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ في عيسى، أي: على الشك يقولون ذلك.

5. قال الله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾، أي: ليس لهم بذلك إلا اتباع الظن: إلا قولا منهم بظنهم في غير يقين.

6. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾:

أ. أي: ما قتلوا ظنهم يقينًا؛ ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ﴾

ب. وقيل: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي: يقينًا ما قتلوه.

7. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾:

أ. قيل: عزيزا حين حال بينهم وبين عيسى أن يقتلوه ويصلوا إليه، ﴿حَكِيمًا﴾، حكم أن يرفعه الله حيَّا.

ب. وعن ابن عَبَّاسٍ: ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ في أن رسله يكونون معصومين، وهو قوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، وقوله عز وجل أيضًا ـ: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ﴾، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤١٠.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾، وروي في ذلك أنهم لما حبسوه أخرجه الله من حبسهم، ورفعه حياً سوياً إلى حيث شاء ونجاه منهم، وقيل: إن الله رفعه إلى السماء.. وروي أن معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾: أن الله عز وجل صور بعض أعدائه على صورة عيسى، فكان شبهَهُ في الخلق، فلما رآه إخوانه الكافرون حسبوه المسيح، فقتلوه وصلبوه، وقالوا: قتلنا عيسى، فهذا معنى قوله: ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾، كما قد ترون اليوم من الناس المشتبهين في الألوان والصور والهيئات، فإذا نظر بعضهم إلى بعض لم يكد يفرق بينهم إلا بالشيء اليسير، فكذلك هذا الكافر كان شبه عيسى المسيح في الصورة والقدر، ولم يشبهه ـ والحمد لله رب العالمين ـ في الدين والفخر.

2. ثم قال مولانا عز وجل مكذباً لهؤلاء الكافرين، عليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾، وهذا الكلام يحتمل ثلاثة أوجه:

أ. إما أن يكون عنا بقوله: ﴿لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾: أي عند غصة موتهم يؤمنون كإيمان فرعون عند يقينه بالغرق، حين لا تنفعهم توبة، ولا تقبل منهم معذرة.

ب. والوجه الآخر: هو أن يكون أراد بقوله: ﴿لَيُؤْمِنُنَّ﴾: أي ليس منهم أحد إلا وقد آمن بالمسيح قبل أن يموت إيمان الإقرار.

ج. ويمكن أن يكون قوله: ﴿لَيُؤْمِنُنَّ﴾: أي قد آمنوا، لأن المستعمل في اللفظ ربما كان ماضياً في بعض اللغة، قال الشاعر:

çوانضح جوانب قبره بدمائها... فلقد يكون أخا دم وذبائحé

فقال يكون، وإنما أراد فلقد كان أخا دم وذبائح.

3. الثاني: هو ما روي عن الأئمة صلوات الله عليهم من أن الله عز وجل يظهره في آخر الزمان، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به في ذلك الوقت، عند نزوله إلى المهدي، حين يدعو الناس إلى طاعته، ويصلي فيما روي خلف الإمام.. وقيل: إنه يقيم بعد موت الإمام سنتين ثم يموت.. وروي أنه إذا ظهر كثر إسلام الناس ورجعوا إلى الحق، والله أعلم بصحة ذلك.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/253.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾ هذا قول اليهود حكى الله عنهم وقوله رسول على زعمه أنه رسول الله ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ وسبب ذلك أن رؤساء اليهود خافوا فتنة عوامهم بأن الله منعهم منه فعمدوا إلى غيره فقتلوه وصلبوه وموهوا على العامة ليزول افتتانهم به.

2. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ ووجه الاختلاف فيه أن قوماً قالوا هو إله، وقال بعضهم لا بل هو ولد، وقال بعضهم هو شاعر فشكوا ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ أي ما لهم بحاله من علم هل كان رسولاً أو غير رسول إلا اتباع الظن ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي ما قتلوه مرة يقيناً كما يقول القائل قتلته علماً أن الرجل هو المسيح أو غيره ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ أي رفعه إلى موضع لا يجرى عليه حكم أحد من العباد فصار رفعه إلى حين لا يجري عليه حكم العباد رفعاً إليه.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/200.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أما قولهم: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ فهو من قول اليهود، أخبر الله به عنهم، أما ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ ففيه قولان:

أ. أحدهما: أنه من قول اليهود بمعنى رسول الله في زعمه.

ب. الثاني: أنه من قول الله تعالى لا على وجه الإخبار عنهم، وتقديره: الذي هو رسولي.

2. في قوله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: أنهم كانوا يعرفونه فألقى شبهه على غيره، فظنوه المسيح فقتلوه، وهذا قول الحسن، وقتادة، ومجاهد، ووهب، والسدي.

ب. الثاني: أنهم ما كانوا يعرفونه بعينه، وإن كان مشهوراً فيهم بالذكر، فارتشى منهم يهودي ثلاثين درهماً، ودلهم على غيره مُوهِماً لهم أنه المسيح، فشُبِّهَ عليهم.

ج. الثالث: أنهم كانوا يعرفونه، فخاف رؤساؤهم فتنة عوامِّهم، فإن الله منعهم عنه، فعمدوا إلى غيره، فقتلوه وصلبوه، ومَوَّهُوا على العامة أنه المسيح، ليزول افتتانهم به.

3. في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنهم اختلفوا فيه قبل قتله، فقال بعضهم: هو إله، وقال بعضهم: هو ولد، وقال بعضهم: هو ساحر، فشكوا ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ الشك الذي حدث فيهم بالاختلاف.

ب. الثاني: ما لهم بحاله من علم ـ هل كان رسولاً أو غير رسول؟ ـ إلا اتباع الظن.

4. في قوله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: وما قتلوا ظنَّهم يقيناً كقول القائل: ما قتلته علماً، وهذا قول ابن عباس، وجويبر.

ب. الثاني: وما قتلوا أمره يقيناً أن الرجل هو المسيح أو غيره، وهذا قول السدي.

ج. الثالث: وما قتلوه حقاً، وهو قول الحسن.

5. في قوله تعالى: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه رفعه إلى موضع لا يجري عليه حكم أحد من العباد، فصار رفعه إلى حيث لا يجري عليه حكم العباد رفعاً إليه، وهذا قول بعض البصريين.

ب. الثاني: أنه رفعه إلى السماء، وهو قول الحسن.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٤٤.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية عطف على ما قبلها وتقديره، فيما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم: قلوبنا غلف وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، أنزلنا من العذاب، وأوجبنا لهم من العقاب، لأن اخبارهم انهم قتلوا المسيح يقيناً، وما قتلوه، كفر من حيث هو جرأة على الله في قتل أنبيائه، ومن دلت المعجزات على صدقه.

2. ثم كذبهم الله في قولهم: إنا قتلناه فقال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ واختلفوا في كيفية التشبيه الذي شبيه لليهود في أمر عيسى:

أ. فقال وهب بن منبه: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليهم صيرهم الله كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعاً، فقال عيسى لأصحابه: من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة، فقال رجل منهم: أنا فخرج اليهم فقال: أنا عيسى، وقد صيره الله على صورة عيسى، فأخذوه وقتلوه، وصلبوه، فمن ثم شبه لهم، وظنوا انهم قد قتلوا عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك، وبه قال قتادة والسدي وابن إسحاق ومجاهد وابن جريج، وان اختلفوا في عدد الحواريين، ولم يذكر أحد غير وهب ان شبهه ألقي على جميعهم، بل قالوا: ألقي شبهه على‏ واحد، ورفع عيسى من بينهم قال ابن إسحاق: وكان اسم الذي القي عليه شبهه سرجس، وكان أحد الحواريين، ويقال: إن الذي دلهم عليه وقال هذا عيسى أحد الحواريين أخذ على ذلك ثلاثين درهما، وكان منافقاً، ثم انه ندم على ذلك فاختنق حتى قتل نفسه، وكان اسمه بودس زكريا بوطا، وهو ملعون في النصارى، وبعض النصارى يقول: إن بودس زكريا بوطا هو الذي شبه لهم فصلبوه، وهو وبعض النصارى يقول: إن بودس زكريا بوطا هو الذي شبه لهم فصلبوه، وهو يقول: لست بصاحبكم الذي دللتكم عليه، قال الطبري: الأقوى قول ابن المنبه، وهو ابن سبعة عشر القي على جماعتهم شبه عيسى، لأنه لو كان ألقي على واحد منهم مع قول عيسى أيكم يلقى عليه شبهي وله الجنة، ثم رأوا عيسى قد رفع من بين أيديهم لما اشتبه عليهم، وما اختلفوا فيه، وان جاز أن يشتبه على أعدائهم من اليهود الذين لم يكونوا يعرفونه، لكن لما ألقي شبهه على جميعهم، فكان يرى كل واحد بصورة عيسى، فلما قتل واحد منهم اشتبه الحال عليهم، وهذا الذي ذكره قريب.

ب. وقال الجبائي: وجه التشبيه ان رؤساء اليهود أخذوا إنساناً فقتلوه وصلبوه على موضع عال، ولم يمكنوا احداً من الدنو منه فتغيرت حليته وتنكرت صورته، وقالوا: قتلنا عيسى، ليوهموا بذلك على عوامهم، لأنهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي فيه عيسى فلما دخلوه كان رفع عيسى من بينهم، فخافوا أن يكون ذلك سبب إيمان اليهود به، ففعلوا ذلك، والذين اختلفوا غير الذين صلبوا من صلبوه، وهم باقي اليهود.

3. سؤال وإشكال: هل يجوز أن يلقي الله شبه زيد على عمر حتى لا يفصل الناظر اليهما بينهما، كما كان يفصل قبل إلقاء الشبه؟ والجواب: ذلك مقدور لله بلا خلاف، ويجوز ان يفعله عندنا تغليظاً للمحنة، وتشديداً للتكليف، وان كان ذلك خارقاً للعادة، يجوز أن يجعل ذلك معجزة أو كرامة، لبعض أوليائه الصالحين، أو الائمة المعصومين عليه السلام، وعند المعتزلة لا يجوز ذلك إلا على يدي الأنبياء أو في وقتهم، لأنه لا يجوز خرق العادة عنهم إلا على يده، وقد قيل: إن اصحاب عيسى عليه السلام تفرقوا عنه حتى لم يبق غير عيسى، وغير الذي القي شبهه عليه، فلذلك‏ اشتبه على النصارى.

4. سؤال وإشكال: كيف يجوز من الخلق العظيم ان يخبروا بالشيء على خلاف ما هو به، وقد علمنا كثرة اليهود والنصارى، ومع كثرتهم أخبروا ان عيسى صلب وقتل، فكيف يجوز ان يكونوا مع كثرتهم كذابين؟ ولئن جاز هذا لم نثق بشيء من الاخبار أصلا ويؤدي ذلك إلى قول التسمية! والجواب: هؤلاء القوم دخلت عليهم الشبهة، لأن اليهود لم يكونوا يعرفون عيسى، وإنما أخبروا انهم قتلوا واحداً، وقيل لهم انه عيسى، فهم في ذلك صادقون، وان لم يكن المقتول عيسى، وأما النصارى فاشتبه عليهم، لأنه كان ألقي شبهه على غيره، فلما رأوا من هو في صورته مقتولا، ظنوا انه عيسى، فلم يخبر أحد من الفريقين بما ظن ان الامر على ما اخبر به، فلا يؤدي ذلك إلى بطلان الاخبار بحال.

5. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ يعني به الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حيث أرادوا قتله لأنهم كانوا قد عرفوا عدة من في البيت، فلما دخلوا عليهم فقدوا واحداً منهم، فالتبس عليهم أمر عيسى بفقدهم واحداً من العدة، وقتلوا من قتلوا على شك منهم في أمر عيسى، هذا على قول من قال لم يتفرق أصحابه حتى دخل عليهم اليهود واما من قال تفرقوا عنه، فانه يقول: اختلافهم كان بأن عيسى هل كان في من بقي في البيت أو كان في الذين خرجوا، فاشتبه الامر عليهم، قال الزجاج: وجه اختلاف النصارى أن منهم من ادعى انه اله لا يقتل، ومنهم من قال قتل، فكذب الله الجميع.

6. ﴿إلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ استثناء منقطع، وتقديره لم يكن لهم بمن قتلوه علم لكنهم اتبعوه ظناً منهم انه عيسى، ولم يكن به.

7. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ معناه وما قتلوا ظنهم الذي اتبعوا المقتول الذي قتلوه، وهم يحسبونه عيسى يقيناً إنه عيسى، ولا انه غيره، لكنهم كانوا منه على ظن وشبهة، كما يقول القائل: ما قلت هذا الامر علما، وما قتلته يقيناً: إذا تكلم فيه بالظن على غير يقين، فالهاء في (قتلوه) عائدة على الظن، وقال ابن عباس وجويبر وما قتلوا ظنهم يقيناً، وحكي الزجاج عن قومهم: أن الهاء راجعة إلى عيسى عليه السلام، نفى الله عنه القتل على وجه التحقيق واليقين، وقال السدي: وما قتلوا أمره يقينا إن الرجل هو عيسى عليه السلام.

8. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إليه﴾ يعني بل رفع الله المسيح إليه، ولم يقتلوه، ولم يصلبوه، لكن الله رفعه وطهره من الذين كفروا.

9. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ معناه لم يزل الله عزيراً منتقما من أعدائه كانتقامه من الذين اخذتهم الصاعقة بظلمهم، وكلعنه من نقض ميثاقه وفعل ما قصه الله، حكيما في أفعاله وتدبيراته وتصريفه خلقه في قضائه، واحذروا وأيها السائلون محمداً ان ينزل عليكم كتابا من السماء ـ حلول عقوبته بكم، كما حل باوائلكم الذين فعلوا فعلكم في تكذيبهم رسلي وافترائهم على أوليائي، وبه قال ابن عباس.

10. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ﴾ في القراء من ادغم اللام في الراء وعليه الأكثر، وهو الأقوى لقرب مخرج اللام من مخرج الراء، وهو أقوى من ادغام الراء في اللام، لأن في الراء تكويراً فهو يجري مجرى الحرفين، ومن لم يدغم قال لأنه من كلمتين، وقال الفراء: لا يجوز غير الإدغام، وقال سيبويه: الإدغام أجود وتركه جائز وهي لغة حجازية.

11. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إليه﴾ معناه انه رفعه إلى الموضع الذي يختص الله (تعالى) بالملك، ولم يملك احداً منه شيئاً، وهو السماء، لأنه لا يجوز ان يكون المراد انه رفعه إلى مكان هو تعالى، فيه لأن ذلك من صفات الأجسام (تعالى الله عن ذلك) وعلى هذا يحمل قوله حكاية عن إبراهيم:‏ ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ يعني إلى الموضع الذي أمرني به ربي ومثل قوله: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ يعني مهاجراً إلى الموضع الذي أمره الله بالهجرة إليه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/383.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المسح: مسح اليد بالشيء، والمسيح قيل: إنه مُعَرَّبٌ وقيل: إنه مشتق من المسح، والمسّيح الدجال بالتشديد، وقد مضى ذلك.

ب. القتل: مصدر قتله، وقتلت الشيء علمًا وخبرًا: علمته يقينًا.

ج. اليقين: زوال الشك والشبهة، والتشبيه في الشيئين يتشابهان، والمشتبهات من الأمور المشكلات.

2. لما تقدم حكاية قولهم في مريم والرد عليهم عقبه بذكر قولهم في المسيح، فقال سبحانه: ﴿وَقَوْلِهِمْ﴾ يعني قول اليهود ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ سمي مسيحًا:

أ. لأنه مسح بالبركة، اسمان سماه الله تعالى بهما، عن الحسن.

ب. وقيل: لأنه كان يسيح في الأرض، فيكون علما على أنه يقطعها سيحًا ومسحًا.

3. ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ يعني عيسى رسول الله ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ الكلام يشتمل على فصول:

أ. أولها: جواز التشبيه فأنكره بعضهم؛ لأنه إغراء بالجهل، وجوزه الأكثر في أزمان الأنبياء معجزة ومصلحة، كما روي أن جبريل كان يأتي في صورة دحية الكلبي، وإنما جاز ذلك لبيان الأنبياء ذلك، وإزالة اللبس.

ب. ثانيها: إلقاء الشبيه فيمن اختلفوا فيه:

فقيل: الله تعالى شبه عليهم بأن ألقى شبه عيسى على ذلك الرجل، عن أكثر المفسرين.

وقيل: هم شبهوا على أنفسهم، كما يقال: أين يذهب بك؛ يعني أين تذهب، عن أبي مسلم.

وقيل: الرؤساء شبهوا للجهال والعوام، عن أبي علي.

ج. ثالثها: كيفية التشبيه اختلفوا فيه على أقوال:

الأول: أنه تعالى ألقى شبه عيسى على غيره، فظنوا أنه هو لما رأوا ذلك الغير، عن ابن عباس والحسن وقتادة ووهب ومجاهد والسدي وابن جريج وابن إسحاق.

الثاني: أنهم لم يكونوا يعرفونه بغتة، وإن كان مشهورًا فيهم بالذكر، فارتشى منهم يهودي ثلاثين درهمًا، ودلهم على غيره موهمًا أنه المسيح، فشبه عليهم.

الثالث: أنه تعالى لما رفعه إلى السماء خاف رؤساؤهم فنبه عوامهم بأن الله منعهم منه، فعمدوا إلى إنسان فقتلوه وصلبوه، ولبسوا على الناس موهمين أنه المسيح، عن أبي علي.

4. اختلف من قال إنه تعالى ألقى شبهه على غيره:

أ. قيل: لما هَمَّ اليهود بقتل عيسى جاء جبريل وأدخله خوخة في سقفها روزنة فرفعه تعالى، فأمر يهوذا رأس اليهود رجلاً من أصحابه اسمه ططيانوس أن يدخل عليه فيقتله، فدخل فلم ير المسيح، وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى، فخرج وظنوه المسيح، فقتلوه وصلبوه، عن ابن عباس.

ب. وقيل: وكَّلوا بعيسى رجلاً يحرسه، وصعد عيسى الجبل، ورفع إلى السماء، وألقى الله تعالى الشبه على ذلك الرقيب، فقتلوه، وهو يقول: لست بعيسى، أنا فلان، فلم يصدقوه وصلبوه، عن مقاتل.

ج. وقيل: إنهم حبسوا المسيح مع عشرة من أصحابه في بيت، فدخل عليهم رجل من اليهود، فألقى الله عليه شبه عيسى، ورفع عيسى، فقتلوا الرجل، عن السدي.

د. وقيل: ألقى الشبه على رجل من أصحابه، وأنه قال لهم: من يشتري الجنة بأن يوقع عليه شبهي، فقال رجل: أنا، فشبه به فخرج وأُخِذ وقتل، ورُفع المسيح، عن قتادة والأصم.

هـ. وقيل: كان رجل ينافق عيسى، وكان عيسى متواريًا فدلهم عليه، فألقى الله تعالى شبهه على ذلك الرجل الدال، فقتلوه، ذكره الأصم.

و. وقيل: إن الذي ارتشى من أصحاب موسى دخل البيت الذي فيه عيسى، فألقى الله عليه الشبه، فخرج وقال: ليس هو في البيت، قالوا: أنت عيسى فقتلوه، واختلفوا في اسمه فقيل: ططيانوس، وقيل: استوع الإسرائيلي.

5. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾:

أ. مَنْ اختلف: قيل: جماعة قال بعضهم: قتلناه، وقال بعضهم: ما قتلناه، وقد اختلف عوامهم، وأما رؤساؤهم فعلموا أنهم قتلوا غيره.

ب. وأي شيء اختلفوا فيه، قيل: هو اختلاف النصارى، قال بعضهم: هو إله، وقال بعضهم: ولد، وقال بعضهم: ما قتل لأنه إله، وقال بعضهم: قتل.

ج. وقيل: اختلافهم في قتله، اليهود قالوا: قتلناه، وطائفة من النصارى قالوا: نحن قتلناه، وطائفة قالوا: ما قتل، عن الكلبي.

د. وقيل: اختلافهم أنهم قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟ عن السدي ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ قيل: في قتله.

هـ. وقيل: في الإيمان به..

و. وقيل: في ادعائهم أنه إله.

6. ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ يعني أنهم لما لم يجدوه، ولم يقفوا له على أثر ظنوا أنه المقتول، والذين شكوا في قتله قيل: الَّذِينَ قتلوه، وقيل غيرهم، عن أبي علي.

7. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾:

أ. قيل: الهاء في قتلوه يعود على الظن يعني ما قتلوا ظنهم يقينًا، كما يقال: قتلته علمًا، عن ابن عباس وجويبر والسدي.

ب. وقيل: يعود على العلم أي: ما علموا ذلك يقينًا.

ج. وقيل: ما قتلوا المسيح على نفس أنه المسيح؛ لأنه التبس الحال عليهم.

د. وقيل: يقينًا ما قتلوه، فاليقين عائد على نفي القتل، عن الأصم.

هـ. وقيل: يقينًا حقًّا فهو من تأكيد الخبر، عن الحسن.

8. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾:

أ. قيل: رفعه إلى الموضع الذي لا يملك أحد الحكم فيه غيره، فالرفع إلى ذلك الموضع رفع إليه، عن أبي علي.

ب. وقيل: رفعه إلى السماء التي جعل فيها سرير الملك، عن الحسن.

ج. وقيل: رفعه الله يعني قبضه مَرْضِيَّ السيرة، رفيع الدرجة، وليس المراد الرفع إلى السماء، عن أبي مسلم.

9. ﴿وَكَانَ اللهُ﴾ لم يزل ﴿عَزِيزًا﴾:

أ. قادرًا يقدر على نجاة من يشاء من أيدي الكفار.

ب. وقيل: يقدر على الانتقام من أعدائه فينتقم.

ج. وقيل: غالبًا على أمره، لا يمتنع عليه شيء.

10. ﴿حَكِيمًا﴾ في تدابيره في أمر أوليائه وأعدائه.

11. دغم أبو عمرو والكسائي وغيرهما لام ﴿بَلْ﴾ في الراء لقرب مخرجهما، والأكثر على الإظهار على الأصل، وكانوا يدغمون اللام في الراء، ولا يدغمون الراء في اللام من قوله؛ لما في الراء من التكرير، وإنما يدغم الأنقص في الأفضل من المتقاربة؛ لئلا يقع إخلال بالحرف في الكلام، فيصير كأنه قد أُذهب حرفان.

12. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿وَقَوْلِهِمْ﴾ عطف على قوله: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ وقيل: تقديره: نالهم العقاب بما تقدم وقولهم، وقيل: تقديره: ومن البهتان أيضًا قولهم.

ب. ﴿إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾: نصب على الاستثناء، وهو استثناء منقطع، والمعنى: لكنهم يتبعون الظن، والفرق بين ﴿بَلْ﴾ و﴿لَكِنِ﴾: أن ﴿بَلْ﴾ للإضراب عن الأول، وإيجاب الثاني، و﴿لَكِنِ﴾ لاستدراك النفي بالإيجاب، أو الإيجاب بالنفي.

13. تدل الآية الكريمة على:

أ. في الآية دلالة قاطعة على أن القتل والصلب لم يقع على عيسى، وأجمع المسلمون على ذلك، وخالفهم اليهود والنصارى مع ادعائهم أنه إله أو اتحد به الابن، اختلفوا في أن القتل والصلب على ماذا وقع مع اتفاقهم على أنه قتل وصلب، فمنهم من قال المسيح ناسوت ولاهوت، فالقتل والصلب وقع عليه من جهة ناسوت، لا من جهة لاهوت، ومنهم من قال اتحدا اتحادًا فعادا شيئًا واحدًا، فالصلب والقتل وقع على مجموع اللاهوت والناسوت.

ب. أن اختلافهم في أمر المسيح لم يكن عن يقين، وإنما قالوا ذلك ظنًّا وتخمينا.

ج. أن عيسى مرفوع، وحقيقته الرفع إلى السماء، على ما روي في الخبر، وهو جائز لا مانع منه، فلا وجه لإنكاره، وأجمع المفسرون على ذلك، وإنما تفرد أبو مسلم بإنكاره، وما ذكره يحتمل، غير أن الإجماع سبقه، وهو محجوج به.

14. سؤال وإشكال: أليس اليهود والنصارى رووا أنه قتل، وهذا تواتر؟ والجواب: أن من شرط التواتر كثرة الرواة في الطرفين والوسط، ولم يوجد.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/143.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يقال: قتلت الشيء خبرا وعلما أي: علمته علما تاما، وذلك لان القتل هو التذليل، ويكون كالدرس أنه من التذليل، ومنه الرسم الدارس لذلته، فقولك: درست العلم بمعنى ذللته، ويقال في المثل: (قتل أرضا عالمها وقتلت أرض جاهلها)، قال الأصمعي: معناه ضبط الامر من يعلمه، وأقول: معناه إن العالم يغلب أهل أرضه، والجاهل مغلوب مقهور، كما أن الجاهل بالطريق لا يهتدي فيتردد فيه.

2. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾:

أ. يعني: قول اليهود ﴿الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾ حكاه الله تعالى عنهم، أي: رسول الله في زعمه.

ب. وقيل: إنه من قول الله سبحانه، لا على وجه الحكاية عنهم، وتقديره: الذي هو رسولي.

3. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ واختلفوا في كيفية التشبيه:

أ. فروي عن ابن عباس أنه قال: لما مسخ الله تعالى الذين سبوا عيسى وأمه بدعائه، بلغ ذلك يهوذا وهو رأس اليهود، فخاف أن يدعو عليه، فجمع اليهود، فاتفقوا على قتله، فبعث الله تعالى جبرائيل يمنعه منهم، ويعينه عليهم، وذلك معنى قوله: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾، فاجتمع اليهود حول عيسى، فجعلوا يسألونه فيقول لهم: يا معشر اليهود! إن الله تعالى يبغضكم، فساروا إليه ليقتلوه، فأدخله جبرائيل في خوخة البيت الداخل لها روزنة في سقفها، فرفعه جبرائيل إلى السماء، فبعث يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه اسمه طيطانوس، ليدخل عليه الخوخة فيقتله، فدخل فلم يره، فأبطأ عليهم، فظنوا أنه يقاتله في الخوخة، فألقى الله عليه شبه عيسى، فلما خرج على أصحابه، قتلوه وصلبوه.

ب. وقيل: ألقى عليه شبه وجه عيسى، ولم يلق عليه شبه جسده، فقال بعض القوم: إن الوجه وجه عيسى، والجسد جسد طيطانوس، وقال بعضهم: إن كان هذا طيطانوس فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى، فأين طيطانوس؟ فاشتبه الامر عليهم.

ج. وقال وهب بن منبه: أتى عيسى ومعه سبعة من الحواريين في بيت، فأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليهم، صيرهم الله كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا، ليبرزن لنا عيسى، أو لنقتلنكم جميعا! فقال عيسى لأصحابه: من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم اسمه سرجس: أنا، فخرج إليهم، فقال: أنا عيسى، فأخذوه، وقتلوه، وصلبوه، ورفع الله عيسى من يومه ذلك، وبه قال قتادة، ومجاهد، وابن إسحاق، وإن اختلفوا في عدد الحواريين، ولم يذكر أحد غير وهب، أن شبهه ألقي على جميعهم، بل قالوا: ألقي شبهه على واحد، ورفع عيسى من بينهم، قال الطبري: وقول وهب أقوى، لأنه لو ألقي الشبه على واحد منهم، مع قول عيسى: (أيكم يلقى شبهي فله الجنة) ثم رأوا عيسى رفع من بينهم، قال الطبري: لما اشتبه عليهم، ولما اختلفوا فيه، وإن جاز أن يشتبه على أعدائهم من اليهود الذين ما عرفوه، لكن ألقي الشبه على جميعهم، وكانوا يرون كل واحد منهم بصورة عيسى، فلما قتل أحدهم، اشتبه الحال عليهم.

د. وقال أبو علي الجبائي: إن رؤساء اليهود أخذوا إنسانا، فقتلوه وصلبوه، على موضع عال، ولم يمكنوا أحدا من الدنو إليه، فتغيرت حليته، وقالوا: قد قتلنا عيسى، ليوهموا بذلك على عوامهم، لأنهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي فيه عيسى، فلما دخلوه، كان عيسى قد رفع من بينهم، فخافوا أن يكون ذلك سببا لإيمان اليهود به، ففعلوا ذلك، والذين اختلفوا فيه هم غير الذين صلبوه، وإنما باقي اليهود.

هـ. وقيل: إن الذي دلهم عليه، وقال: هذا عيسى، أحد الحواريين، أخذ على ذلك ثلاثين درهما، وكان منافقا، ثم إنه ندم على ذلك، واختنق حتى قتل نفسه، وكان اسمه بودس زكريا بوطا، وهو ملعون في النصارى، وبعض النصارى يقول: إن بودس زكريا بوطا، هو الذي شبه لهم، فصلبوه، وهو يقول: لست بصاحبكم! أنا الذي دللتكم عليه! وقيل: إنهم حبسوا المسيح، مع عشرة من أصحابه، في بيت، فدخل عليهم رجل من اليهود، فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى، فقتلوا الرجل، عن السدي.

4. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾:

أ. قيل: يعني بذلك عامتهم، لأن علماءهم علموا أنه غير مقتول، عن الجبائي.

ب. وقيل: أراد بذلك جماعة اختلفوا، فقال بعضهم: قتلناه، وقال بعضهم: لم نقتله.

5. ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾:

أ. أي: لم يكن لهم بمن قتلوه علم، لكنهم اتبعوا ظنهم، فقتلوه ظنا منهم، أنه عيسى، ولم يكن به، وإنما شكوا في ذلك، لأنهم عرفوا عدة من في البيت، فلما دخلوا عليهم، وفقدوا واحدا منهم، التبس عليهم أمر عيسى، وقتلوا من قتلوه على شك منهم في أمر عيسى، هذا على قول من قال لم يتفرق أصحابه، حتى دخل عليهم اليهود.

ب. وأما من قال تفرق أصحابه عنه، فإنه يقول: كان اختلافهم في أن عيسى هل كان فيمن بقي، أو كان فيمن خرج، اشتبه الأمر عليهم.

ج. وقال الحسن: معناه فاختلفوا في عيسى، فقالوا مرة هو عبد الله، ومرة هو ابن الله، ومرة هو الله.

د. وقال الزجاج: معنى اختلاف النصارى فيه أن منهم من ادعى أنه إله لم يقتل، ومنهم من قال قتل.

6. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ اختلف في الهاء في ﴿قَتَلُوهُ﴾:

أ. فقيل: إنه يعود إلى الظن، أي: ما قتلوا ظنهم يقينا، كما يقال: ما قتله علما، عن ابن عباس، وجويبر، ومعناه: ما قتلوا ظنهم الذي اتبعوه في المقتول الذي قتلوه، وهم يحسبونه عيسى، يقينا أنه عيسى، ولا أنه غيره، لكنهم كانوا منه على شبهة.

ب. وقيل: إن الهاء عائد إلى عيسى، يعني: ما قتلوه يقينا، أي: حقا، فهو من باب تأكيد الخبر، عن الحسن أراد أن الله تعالى نفى عن عيسى القتل، على وجه التحقيق واليقين.

7. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ يعني: بل رفع الله عيسى إليه، ولم يصلبوه، ولم يقتلوه، وقد مر تفسيره في سورة آل عمران عند قوله: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾

8. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ معناه: لم يزل الله سبحانه منتقما من أعدائه، حكيما في أفعاله وتقديراته، فاحذروا أيها السائلون محمدا أن ينزل عليكم كتابا من السماء، حلول عقوبة بكم، كما حل بأوائلكم في تكذيبهم رسله، عن ابن عباس.

9. ما مر في تفسير هذه الآية من أن الله ألقى شبه عيسى على غيره، فإن ذلك من مقدور الله بلا خلاف بين المسلمين فيه، ويجوز أن يفعله الله سبحانه على وجه التغليظ للمحنة، والتشديد في التكليف، وإن كان ذلك خارقا للعادة، فإنه يكون معجزا للمسيح، كما روي أن جبرائيل كان يأتي نبينا في صورة دحية الكلبي.

10. سؤال وإشكال: مما يسأل عن هذه الآية أن يقال: قد تواترت اليهود والنصارى، مع كثرتهم، وأجمعت على أن المسيح قد قتل، وصلب، فكيف يجوز عليهم أن يخبروا عن الشيء بخلاف ما هو به؟ ولو جاز ذلك، فكيف يوثق بشيء من الاخبار؟ والجواب: إن هؤلاء دخلت عليهم الشبهة، كما أخبر الله سبحانه عنهم بذلك، فلم يكن اليهود يعرفون عيسى بعينه، وإنما أخبروا أنهم قتلوا رجلا، قيل لهم: إنه عيسى، فهم في خبرهم صادقون، وإن لم يكن المقتول عيسى، وإنما اشتبه الامر على النصارى، لان شبه عيسى ألقي على غيره، فرأوا من هو على صورته مقتولا مسلوبا، فلم يخبر أحد من الفريقين إلا عما رآه، وظن أن الامر على ما أخبر به، فلا يؤدي ذلك إلى بطلان الأخبار بحال.

11. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ عطف بيان ركب مع ابن وجعل كاسم واحد، لوقوع ابن بين علمين، مع كونه صفة، والصفة ربما ركبت مع الموصوف، فجعلا كاسم واحد نحو لا رجل ظريف في الدار، ورسول الله صفة للمسيح، أو بدل منه،

ب. ﴿اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ منصوب على الاستثناء، وهو استثناء منقطع، وليس من الأول، فالمعنى ما لهم به من علم، لكنهم يتبعون الظن.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/206.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ﴾ قال الزجّاج: أي باعترافهم بقتلهم إيّاه، وما قتلوه، يعذّبون عذاب من قتل، لأنّهم قتلوا الذي قتلوا على أنّه نبي.

في قوله تعالى: ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه من قول اليهود، فيكون المعنى: أنه رسول الله على زعمه.

ب. الثاني: أنه من قول الله، لا على وجه الحكاية عنهم.

2. ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أي: ألقي شبهه على غيره، وفيمن ألقي عليه شبهه قولان:

أ. أحدهما: أنه بعض من أراد قتله من اليهود، روى أبو صالح عن ابن عباس: أنّ اليهود لمّا اجتمعت على قتل عيسى، أدخله جبريل خوخة لها روزنة، ودخل وراءه رجل منهم، فألقى الله عليه شبه عيسى، فلمّا خرج على أصحابه، قتلوه يظنّونه عيسى، ثم صلبوه، وبهذا قال مقاتل وأبو سليمان.

ب. الثاني: أنه رجل من أصحاب عيسى، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنّ عيسى خرج على أصحابه لمّا أراد الله رفعه، فقال: أيّكم يلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟ فقام شابّ، فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم أعاد القول، فقام الشابّ، فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد، فقال الشابّ: أنا، فقال: نعم أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى، وجاء اليهود، فأخذوا الرجل، فقتلوه، ثم صلبوه‏، وبهذا القول قال وهب بن منبه، وقتادة، والسّدّي.

3. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ في المختلفين قولان:

أ. أحدهما: أنهم اليهود، فعلى هذا في هاء (فيه) قولان:

أحدهما: أنها كناية عن قتله، فاختلفوا هل قتلوه أم لا؟ وفي سبب اختلافهم في ذلك قولان:

● أحدهما: أنهم لمّا قتلوا الشخص المشبّه كان الشّبه قد ألقي على وجهه دون جسده، فقالوا: الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره، ذكره ابن السّائب.

● الثاني: أنهم قالوا: إن كان هذا عيسى، فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا، فأين عيسى يعنون الذي دخل في طلبه، هذا قول السّدّي.

الثاني: أنّ (الهاء) كناية عن عيسى، واختلافهم فيه قول بعضهم: هو ولد زنى، وقول بعضهم، هو ساحر.

ب. الثاني: أنّ المختلفين النّصارى، فعلى هذا في هاء (فيه) قولان:

أحدهما: أنها ترجع إلى قتله، هل قتل أم لا؟

الثاني: أنها ترجع إليه، هل هو إله أم لا؟

4. في هاء (منه) قولان:

أ. أحدهما: أنها ترجع إلى قتله.

ب. الثاني: إلى نفسه، هل هو إله، أم لغير رشدة، أم هو ساحر؟

5. ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ قال الزجّاج: (اتّباع) منصوب بالاستثناء، وهو استثناء ليس من الأوّل، والمعنى: ما لهم به من علم إلّا أنّهم يتّبعون الظّنّ، وإن رفع جاز على أن يجعل علمهم اتّباع الظّنّ، كما تقول العرب: تحيّتك الضّرب.

6. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ في (الهاء) ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها ترجع إلى الظّنّ فيكون المعنى: وما قتلوا ظنّهم يقينا، هذا قول ابن عباس.

ب. الثاني: أنها ترجع إلى العلم، أي: ما قتلوا العلم به يقينا، تقول: قتلته يقينا، وقتلته علما للرأي والحديث، هذا قول الفرّاء، وابن قتيبة، قال ابن قتيبة: وأصل هذا: أنّ القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء وغلبة، يقول: فلم يكن علمهم بقتل المسيح علما أحيط به، إنّما كان ظنّا.

ج. الثالث: أنها ترجع إلى عيسى، فيكون المعنى: وما قتلوا عيسى حقّا، هذا قول الحسن، وقال ابن الأنباريّ: اليقين مؤخّر في المعنى، فالتّقدير: وما قتلوه، بل رفعه الله إليه يقينا.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/495.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾ هذا يدل على كفر عظيم منهم لأنهم قالوا فعلنا ذلك، وهذا يدل على أنهم كانوا راغبين في قتله مجتهدين في ذلك، فلا شك أن هذا القدر كفر عظيم.

2. سؤال وإشكال: اليهود كانوا كافرين بعيسى أعداء له عامدين لقتله يسمونه الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة، فكيف قالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله؟ والجواب: من وجهين:

أ. الأول: أنهم قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون‏ ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: 27] وكقول كفار قريش لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: 6]،

ب. الثاني: أنه يجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعا لعيسى عليه السلام عما كانوا يذكرونه به.

3.﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾، لما حكى الله تعالى عن اليهود أنهم زعموا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام فالله تعالى كذبهم في هذه الدعوى وقال‏: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾

4. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿شُبِّهَ﴾ مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسندا إلى المسيح فهو مشبّه به وليس بمشبه، وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر؟ والجواب: من وجهين:

أ. الأول: أنه مسند إلى الجار والمجرور، وهو كقولك: خيل إليه كأنه قيل: ولكن وقع لهم الشبه.

ب. الثاني: أن يسند إلى ضمير المقتول لأن قوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ يدل على أنه وقع القتل على غيره فصار ذلك الغير مذكورا بهذا الطريق، فحسن إسناد ﴿شُبِّهَ﴾ إليه.

5. سؤال وإشكال: إن جاز أن يقال: إن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة، فإنا إذا رأينا زيدا فلعله ليس بزيد، ولكنه ألقى شبه زيد عليه، وعند ذلك لا يبقى النكاح والطلاق والملك، وثوقا به، وأيضا يفضي إلى القدح في التواتر لأن خبر التواتر إنما يفيد العلم بشرط انتهائه في الآخرة إلى المحسوس، فإذا جوزنا حصول مثل هذه الشبهة في المحسوسات توجه الطعن في التواتر، وذلك يوجب القدح في جميع الشرائع، وليس لمجيب أن يجيب عنه بأن ذلك مختص بزمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنا نقول: لو صح ما ذكرتم فذاك إنما يعرف بالدليل والبرهان، فمن لم يعلم ذلك الدليل وذلك البرهان وجب أن لا يقطع بشيء من المحسوسات ووجب أن لا يعتمد على شيء من الأخبار المتواترة، وأيضا ففي زماننا إن انسدت المعجزات فطريق الكرامات مفتوح، وحينئذ يعود الاحتمال المذكور في جميع الأزمنة، وبالجملة ففتح هذا الباب يوجب الطعن في التواتر، والطعن فيه يوجب الطعن في نبوّة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذا فرع يوجب الطعن في الأصول فكان مردودا، والجواب: اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضع، وذكروا وجوها:

أ. الأول: قال كثير من المتكلمين: إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم، فأخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس أنه المسيح، والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلا بالاسم لأنه كان قليل المخالطة للناس، وبهذا الطريق زال السؤال، لا يقال: إن النصارى‏ ينقلون عن أسلافهم أنهم شاهدوه مقتولا، لأنا نقول: إن تواتر النصارى ينتهي إلى أقوام قليلين لا يبعد اتفاقهم على الكذب.

ب. الثاني: أنه تعالى ألقى شبهه على إنسان آخر ثم فيه وجوه:

الأول: أن اليهود لما علموا أنه حاضر في البيت الفلاني مع أصحابه أمر يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له طيطايوس أن يدخل على عيسى عليه السلام ويخرجه ليقتله، فلما دخل عليه أخرج الله عيسى عليه السلام من سقف البيت وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى فظنوه هو فصلبوه وقتلوه.

الثاني: وكلوا بعيسى رجلا يحرسه وصعد عيسى عليه السلام في الجبل ورفع إلى السماء، وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست بعيسى.

الثالث: أن اليهود لما هموا بأخذه وكان مع عيسى عشرة من أصحابه فقال لهم: من يشتري الجنة بأن يلقى عليه شبهي؟ فقال واحد منهم أنا، فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج وقتل، ورفع الله عيسى عليه السلام.

الرابع: كان رجل يدعي أنه من أصحاب عيسى عليه السلام، وكان منافقا فذهب إلى اليهود ودلهم عليه، فلما دخل مع اليهود لأخذه ألقى الله تعالى شبهه عليه فقتل وصلب، وهذه الوجوه متعارضة متدافعة والله أعلم بحقائق الأمور.

6. في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ قولان:

أ. الأول: أنهم هم النصارى وذلك لأنهم بأسرهم متفقون على أن اليهود قتلوه، إلا أن كبار فرق النصارى ثلاثة: النسطورية، والملكانية، واليعقوبية:

أما النسطورية فقد زعموا أن المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لا هوته، وأكثر الحكماء يرون ما يقرب من هذا القول، قالوا: لأنه ثبت أن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو إما جسم شريف مناسب في هذا البدن، وإما جوهر روحاني مجرد في ذاته وهو مدبر في هذا البدن، فالقتل إنما ورد على هذا الهيكل، وأما النفس التي هي في الحقيقة عيسى عليه السلام فالقتل ما ورد عليه، لا يقال: فكل إنسان كذلك فما الوجه لهذا التخصيص؟ لأنا نقول: إن نفسه كانت قدسية علوية سماوية شديدة الإشراق بالأنوار الإلهية عظيمة القرب من أرواح الملائكة، والنفس متى كانت كذلك لم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن، ثم إنها بعد الانفصال عن ظلمة البدن تتخلص إلى فسحة السموات وأنوار عالم الجلال فيعظم بهجتها وسعادتها هناك، ومعلوم أن هذه الأحوال غير حاصلة لكل الناس بل هي غير حاصلة من مبدأ خلقة آدم عليه السلام إلى قيام القيامة إلا لأشخاص قليلين، فهذا هو الفائدة في تخصيص عيسى عليه السلام بهذه الحالة.

وأما الملكانية فقالوا: القتل والصلب وصلا إلى اللاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة.

وقالت اليعقوبية: القتل والصلب وقعا بالمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين، فهذا هو شرح مذاهب النصارى في هذا الباب، وهو المراد من قوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾

ب. الثاني: أن المراد بالذين اختلفوا هم اليهود، وفيه وجهان:

الأول: أنهم لما قتلوا الشخص المشبه به كان الشبه قد ألقى على وجهه ولم يلق عليه شبه جسد عيسى عليه السلام، فلما قتلوه ونظروا إلى بدنه قالوا: الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره.

الثاني: قال السدي: إن اليهود حبسوا عيسى مع عشرة من الحواريين في‏ بيت، فدخل عليه رجل من اليهود ليخرجه ويقتله، فألقى الله شبه عيسى عليه ورفع إلى السماء، فأخذوا ذلك الرجل وقتلوه على أنه عيسى عليه السلام، ثم قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟ فذلك اختلافهم فيه.

7. احتج نفاة القياس بهذه الآية وقالوا: العمل بالقياس اتباع للظن، واتباع الظن مذموم في كتاب الله بدليل أنه إنما ذكره في معرض الذم، ألا ترى أنه تعالى وصف اليهود والنصارى هاهنا في معرض الذم بهذا فقال‏: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾: وقال في سورة الأنعام في مذمة الكفار: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 116]، وقال في آية أخرى:‏ ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [يونس: 36] وكل ذلك يدل على أن اتباع الظن مذموم، والجواب: لا نسلم أن العمل بالقياس اتباع الظن، فإن الدليل القاطع لما دل على العمل بالقياس كان الحكم المستفاد من القياس معلوما لا مظنونا، وهذا الكلام له غور وفيه بحث.

8. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾، هذا اللفظ يحتمل وجهين، أحدهما: يقين عدم القتل، والآخر يقين عدم الفعل:

أ. فعلى التقدير الأول يكون المعنى: أنه تعالى أخبر أنهم شاكون في أنه هل قتلوه أم لا، ثم أخبر محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن اليقين حاصل بأنهم ما قتلوه.. وهو أولى لأنه تعالى قال بعده:‏ ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ وهذا الكلام إنما يصح إذا تقدم القطع واليقين بعدم القتل.

ب. وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أنهم شاكون في أنه هل قتلوه؟ ثم أكد ذلك بأنهم قتلوا ذلك الشخص الذي قتلوه لا على يقين أنه عيسى عليه السلام، بل حين ما قتلوه كانوا شاكين في أنه هل هو عيسى أم لا.

9. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ قرأ أبو عمرو والكسائي‏ ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ بإدغام الكلام في الراء والباقون بترك الإدغام، حجتهما قرب مخرج اللام من الراء والراء أقوى من اللام بحصول التكرير فيها، ولهذا لم يجز إدغام الراء في اللام لأن الأنقص يدغم في الأفضل، وحجة الباقين أن الراء واللام حرفان من كلمتين فالأولى: ترك الإدغام.

10. المشبهة احتجوا بقوله تعالى: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ في إثبات الجهة، والجواب: المراد الرفع إلى موضع لا يجرى فيه حكم غير الله تعالى كقوله: ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة: 210]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النساء: 100] وكانت الهجرة في ذلك الوقت إلى المدينة، وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ [الصافات: 99]

11. رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ثابت بهذه الآية، ونظير هذه الآية قوله في آل عمران:‏ ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [آل عمران: 55]

12. لما ذكر الله تعالى عقيب ما شرح أنه وصل إلى عيسى أنواع كثيرة من البلاء والمحنة أنه رفعه إليه دل ذلك على أن رفعه إلى أعظم في باب الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية، وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية.

13. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ المراد من العزة كمال القدرة، ومن الحكمة كمال العلم، فنبّه بهذا على أن رفع عيسى من الدنيا إلى السموات وإن كان كالمتعذر على البشر لكنه لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وإلى حكمتي، وهو نظير قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء: 1] فإن الإسراء وإن كان متعذرا بالنسبة إلى قدرة محمد إلا أنه سهل بالنسبة إلى قدرة الحق سبحانه.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/260.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ كسرت ﴿إِنَّ﴾ لأنها مبتدأة بعد القول وفتحها لغة، وقد تقدم في آل عمران اشتقاق لفظ المسيح، ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ بدل، وإن شئت على معنى أعني.

2. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ رد لقولهم، ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أي ألقي شبهه على غيره كما تقدم في آل عمران، وقيل: لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾، والإخبار قيل: إنه عن جميعهم، وقيل: إنه لم يختلف فيه إلا عوامهم، ومعنى اختلافهم:

أ. قول بعضهم إنه إله، وبعضهم هو ابن الله، قاله الحسن.

ب. وقيل اختلافهم أن عوامهم قالوا قتلنا عيسى، وقال من عاين رفعه إلى السماء: ما قتلناه.

ج. وقيل: اختلافهم أن النسطورية من النصارى قالوا: صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته، وقالت الملكانية: وقع الصلب والقتل على المسيح بكماله ناسوته ولاهوته.

د. وقيل: اختلافهم هو أنهم قالوا: إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى!؟ وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا!؟

هـ. وقيل: اختلافهم هو أن اليهود قالوا: نحن قتلناه، لأن يهوذا رأس اليهود هو الذي سعى في قتله، وقالت طائفة من النصارى: بل قتلناه نحن، وقالت طائفة منهم: بل رفعه الله إلى السماء ونحن ننظر إليه.

3. ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ من زائدة، وتم الكلام، ثم قال تعالى: ﴿إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ استثناء ليس من الأول في موضع نصب، ويجوز أن يكون في موضع رفع على البدل، أي ما لهم به من علم إلا اتباع الظن، وأنشد سيبويه:

çوبلدة ليس بها أنيس...إلا اليعافير وإلا العيسé

4. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ قال ابن عباس والسدي: المعنى ما قتلوا ظنهم يقينا، كقولك: قتلته علما إذا علمته علما تاما، فالهاء عائدة على الظن، قال أبو عبيد: ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقينا لقال: وما قتلوه فقط، وقيل: المعنى وما قتلوا الذي شبه لهم أنه عيسى يقينا، فالوقف على هذا على ﴿يَقِينًا﴾، وقيل: المعنى وما قتلوا عيسى، والوقف على ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ و﴿يَقِينًا﴾ نعت لمصدر محذوف، وفيه تقديران: أحدهما: أي قالوا هذا قولا يقينا، أو قال الله هذا قولا يقينا، والقول الآخر: أن يكون المعنى وما علموه علما يقينا، النحاس: إن قدرت المعنى بل رفعه الله إليه يقينا فهو خطأ، لأنه لا يعمل ما بعد ﴿بَلْ﴾ فيما قبلها لضعفها، وأجاز ابن الأنباري الوقف على ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ على أن ينصب ﴿يَقِينًا﴾ بفعل مضمر هو جواب القسم، تقديره: ولقد صدقتم يقينا أي صدقا يقينا.

5. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ ابتداء كلام مستأنف، أي إلى السماء، والله تعالى متعال عن المكان، وقد تقدم كيفية رفعه في آل عمران.

6. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا﴾ أي قويا بالنقمة من اليهود فسلط عليهم بطرس بن أستيسانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة، ﴿حَكِيمًا﴾ حكم عليهم باللعنة والغضب.

__________

(1) تفسير القرطبي: 6/9.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾ معطوف على ما قبله، وهو من جملة جناياتهم وذنوبهم، لأنهم كذبوا بأنهم قتلوه، وافتخروا بقتله، وذكروه بالرسالة استهزاء، لأنهم ينكرونها ولا يعترفون بأنه نبيّ، وما ادّعوه من أنهم قتلوه قد اشتمل على بيان صفته وإيضاح حقيقته الإنجيل، وما فيه هو من تحريف النصارى، أبعدهم الله، فقد كذبوا، وصدق الله القائل في كتابه العزيز: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ والجملة حالية: أي: قالوا ذلك والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه‏.

2. ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أي: ألقي شبهه على غيره؛ وقيل: لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه‏.

3. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أي: في شأن عيسى، فقال بعضهم: قتلناه، وقال من عاين رفعه إلى السماء: ما قتلناه؛ وقيل: إن الاختلاف بينهم هو: أن النسطورية من النصارى قالوا: صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته، وقالت الملكانية: وقع القتل والصلب على المسيح بكماله ناسوته ولا هوته، ولهم من جنس هذا الاختلاف كلام طويل لا أصل له، ولهذا قال الله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ أي: في تردّد لا يخرج إلى حيز الصحة، ولا إلى حيز البطلان في اعتقادهم، بل هم مترددون مرتابون في شكهم يعمهون، وفي جهلهم يتحيرون.

4. ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ من: زائدة لتوكيد نفي العلم، والاستثناء منقطع، أي: لكنهم يتبعون الظن؛ وقيل: هو بدل مما قبله، والأوّل أولى، لا يقال: إن اتباع الظنّ ينافي الشكّ الذي أخبر الله عنهم بأنهم فيه، لأن المراد هنا بالشك: التردد، كما قدمنا، والظنّ نوع منه، وليس المراد به هنا: ترجح أحد الجانبين.

5. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي: قتلا يقينا، على أنه صفة مصدر محذوف، أو متيقنين، على أنه حال، وهذا على أن الضمير في قتلوه لعيسى؛ وقيل: إنه يعود إلى الظن، والمعنى: ما قتلوا ظنهم يقينا، كقولك: قتلته علما، إذا علمته علما تاما، قال أبو عبيدة: ولو كان المعنى: وما قتلوا عيسى يقينا، لقال: وما قتلوه فقط؛ وقيل: المعنى: وما قتلوا الذي شبه لهم؛ وقيل: المعنى: بل رفعه إليه يقينا، وهو خطأ، لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها، وأجاز ابن الأنباري: نصب يقينا بفعل مضمر هو جواب قسم، ويكون‏ ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ كلاما مستأنفا، ولا وجه لهذه الأقوال، والضمائر قبل قتلوه وبعده لعيسى، وذكر اليقين هنا: لقصد التهكم بهم، لإشعاره بعلمهم في الجملة.

6. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ ردّ عليهم وإثبات لما هو الصحيح، وقد تقدم ذكر رفعه عليه السلام في آل عمران.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/616.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِم﴾ مفتخرين ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى اَبْنَ مَرْيَمَ﴾ وصلبناه، بدليل: ﴿وَمَا صَلَبُوهُ﴾، وقولُه: ﴿رَسُولَ اللهِ﴾ من كلام الله تعظيمًا له لا من كلامهم؛ لأنَّهم لا يقرُّون برسالته، كما تقول: قال عمرو: إنِّي أكرم زيدًا القرشيَّ، وعمرو لم يذكر لفظ القرشيَّ بل زدته أنت، إذ كان مرادًا لِعَمْرٍو، فإنَّ هذا في النعت والبدل والبيان والتوكيد كعطف التلقين، أو يقدَّر: أمدح رسول الله، أو قوله: ﴿رَسُولَ اللهِ﴾ من كلامهم تهكُّمًا برسالته، كقول قريش: ﴿يَآ أَيـُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: 6]، وقول فرعون: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: 27]، أو مرادهم: رسول الله بزعمه، أي: بزعم عيسى.

2. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ نائب الفاعل، أو شُبِّه هو، أي: عيسى بغيره لهم، أو شبه هو، أي: المقتول بعيسى، وهو أولى؛ لأنَّ المتبادر أن يُشبَّه غيرُ عيسى بعيسى، وقيل: إنَّ الضمير للأمر، وإنَّ التشبيه: اللبس.

3. قال رهط من اليهود: هو السِّاحر ابن الساحرة، الفاعل ابن الفاعلة، قذفوه وأمَّه، ولَمَّا سمع عيسى ذلك قال: (اللهمَّ أنت ربِّي، وأنا من روحك خرجتُ، وبكلماتك خلقتني، ولم آتِهِم من تلقاء نفسي، اللهمَّ فالعن من سبَّني، وسبَّ أُمِّي)، فاستجاب الله تعالى دعاءه، ومسخ الذين سبُّوه وسبُّوا أمَّه قردة وخنازير، فخاف يهوذا رئيسهم دعوتَه، فاجتمعوا على قتله، فبعث الله جلَّ وعلا جبريل يخبره بأنَّه يرفعه إلى السماء، فقال لأصحابه: أيُّكم يرضى أن يُلقى إليه شبهي فيُقتل ويُصلب ويدخل الجنَّة؟ فقام رجل منهم، فألقى الله عليه الشبه، فقتلوه وصلبوه.

4. ويقال: كان رجل ينافقه، فخرج ليدلَّ عليه، وأعطوه ثلاثين درهمًا، فألقى الله عليه الشبه، فأُخذ وقُتل وصُلب، وقيل: دخل طيطابوس اليهودي بيتًا هو فيه فلم يجده، وألقى الله عليه شبهه ولَمَّا خرج ظنُّوه عيسى فأُخذ وصلب، ويقال وكِلوا به رجلاً يدور معه حيث دار، فصعد الجبل فجاءه المَلَك فأخذ بضبعه ورفعه إلى السماء، وألقى الله على الرجل شبه عيسى فظنُّوه عيسى فقتلوه وصلبوه، وكان يقول: أنا فلان لا عيسى فلم يصدِّقوه، ويقال: خاف رؤساء اليهود فتنة العامَّة فأخذوا رجلاً فقتلوه وصلبوه في جبل ومنعوا الناس من الدُّنو إليه حتَّى يتغيَّر، وشبَّهوا على الناس أنَّه المسيح؛ لأنَّ عيسى المسيح لا يعرف إلَّا بالاسم؛ لأنَّه لا يخالط الناس إلَّا قليلاً.

5. وتواتُرُ النصارى أنَّهم شاهدوا عيسى مقتولاً لا يتمُّ لانتهائه إلى قوم قليلين لا يبعد اتِّفاقهم على الكذب؛ ولأنَّه قد يشبَّه لهم كما شُبِّه على اليهود، وقال أبو حيان: لم نعلم كيفيَّة القتل ولا من أُلقي عليه الشِّبه، ولا يصحُّ بذلك حديث، وروى النسائيُّ عن ابن عبَّاس أنَّ رهطًا من اليهود سبُّوه وأمَّه، فدعا عليهم، فمسخهم الله قردة وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله، فأخبره الله بأنَّه يرفعه إلى السماء، وعن الضَّحَّاك ـ كما قال القرطبيُّ ـ أنَّه لَمَّا أرادوا قتل عيسى اجتمع الحواريُّون في غرفة، وهم اثنا عشر رجلاً، وقال وهب بن منبِّه: سبعة وعشرون، فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة، فأخبر إبليس جميع اليهود، فركب أربعة آلاف رجلٍ فأخذوا باب الغرفة، فقال المسيح للحواريِّين: أيُّكم يَخرج ويُقتل ويكون معي في الجنَّة؟ فقال رجل: أنا يا نبيَّ الله، فألقى إليه مدرعته من صوف وعمامته من صوف وناوله عكازه، وألقى الله عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه، وأمَّا المسيح فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذَّة المطعم والمشرب فصار مع الملائكة، وقيل: كلُّهم ألقى الله عليهم الشبه فكلٌّ بصورة عيسى، فقال اليهود: سحرتمونا، بيِّنوا لنا أيُّكم عيسى أو لَنقتلنَّكم جميعًا، فقال عيسى: أيُّكم يخرج،،، إلخ.

6. وأنكر الروم إلقاء الشبه وقالوا: إنَّه إضلال، ويجاب بأنَّه لو لم يثبت إلقاء الشبه لزم تكذيب المسيح وإبطال نبوَّته وسائر النبوَّات، وأيضًا أقرُّوا بأنَّ المصلوب قال: إلهي إلهي لِمَ تركتني؟ وهذا مناف للرضا، وأنَّه طلب الماء وشكا العطش، وفي الإنجيل أنَّ المسيح يطوي أربعين يومًا، فالمصلوب الشِّبه.

7. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اَخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾ في شأنه، وهم اليهود، فقال بعض: إنَّه كاذب فقتلناه، وَقَالَ بعض: وجه هذا القتيل وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا، وَقَالَ بعض: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟، ويقال: إنَّ اليهود حبسوا عيسى مع عشرة من الحواريِّين في بيت، فدخل رجل من اليهود ليخرجه فيقتله فألقى الله عليه شبه عيسى فقتلوه، وَقَالَ من سمع منه: (إنَّ الله يرفعني إلى السماء): إنَّه رُفع إلى السماء.

8. وقيل: إنَّ المختلفين هم النصارى، فقال قوم: صلب الناسوت وصعد اللاهوت، وهم النسطوريَّة، ولا يعدُّون القتل نقيصة؛ لأنَّه وقع على الناسوت لا على اللاهوت، وَقَالَ الملكانيَّة: القتل والصلب وصلَا إلى اللاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة، وَقَالَ اليعقوبيَّة: القتل والصلب وقعَا بالمسيح الذي هو جوهر متولِّد من جوهرين، وهم القائلون: المسيح صار بالاتِّحاد طبيعة واحدة، وليس في الطبيعة الواحدة ناسوت متميِّز عن لاهوت، والشيء الواحد لا يقال فيه: مات ولم يمت، وأهين ولم يُهَن.

9. وقالت الروم: هو على طبيعتين مع الاتِّحاد، قلنا: إنْ فارَق اللاهوتُ ناسوتَه عند القتل فقد أبطلوا دينهم، إذ لم يستحقُّ الربوبيَّة إِلَّا بالاتِّحاد، وإن لم تفارقها فقد قُتِل الناسوتُ واللاهوتُ معًا، وإن أرادوا بالاتِّحاد أنَّ الإله جعله مسكنًا وفارق المسكن عند ورود القتل على الناس فقد أبطلوا إلَهيَّته وقد أهين، إذ لم يَأْنف اللاهوتُ عن مسكنه، وأساء الجوار إن قدر على الانتصار ولم ينتصر، وإن لم يقدر فأبعَدُ عن الربوبيَّة، وهذا هو المراد بقوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، والناسوت: جسمه، واللاهوت: روحه.

10. ﴿لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾ لفي تردُّد من شأنه، ولو من قال: (رُفِع)؛ لأنَّه لم يجزم ولو سمعه منه، وهذا هو المراد، وأصله استواء الطرفين، ولكونه هنا لعدمِ الاستواء أكَّده بنفي العلم في قوله: ﴿مَا لَهُم بِهِ مِنْ عَلْمٍ اِلَّا اَتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ الاستثناء منقطع؛ لأنَّ اتِّباع الظنِّ ليس من جنس العلم، كما أنَّ الظنَّ ليس من جنس العلم، وإن فسَّرنا الشكَّ بالجهل، والعلمَ بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس جزمًا كان أو غيره، كان الاستثناء متَّصلاً، والشكُّ والظنُّ لا يجتمعان؛ لأنَّ إدراك النسبة مع الشكِّ فيها لا يترجَّح فيه أحد الجانبين على الآخر، وإدراكها بطريق ترجُّح أحدهما ظنٌّ، والرجحان وعدمه لا يجتمعان، فالشكُّ بمعنى التردُّد كما مَرَّ، فإِنَّ الشكَّ كما يطلق على ما لا يترجَّح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردُّد، وعلى ما يقابل العلم، فأكَّده بقوله: ﴿مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ اِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾، والفرق بين التردُّد الذي هو عدم الجزم وبين ما يقابل العلم أنَّ الثاني أَعَمُّ؛ لأنَّه كما يتناول الشكَّ المصطلحَ عليه والظنَّ، يتناول الجهلَ، وهو الاعتقادُ غيرُ المطابق، ولا يتناوله التردُّد.

11. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي: انتفى قتلهم إيَّاه انتفاء يقينًا، أي: انتفاءً يتيقَّنه أهل الحقِّ، أو ما أيقنوا قتله بل ادَّعوا قتله، أي: ما قتلوه موقنين بأنَّه عيسى، أو بالقتل، أو ذوي يقين، أو ما قتلوه قتلاً يقينًا، ولا يجوز نصبه بقوله: ﴿بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾؛ لأنَّ معمول المعطوف لا يتقدَّم على العاطف، وقيل: ما قتلوا العلم، أي: ما بالغوا فيه، وقيل: ما قطعوا الظنَّ يقينًا، ومعنى رفعه إليه: رفعه إلى السماء وإيصاله إلى موضع لا يجرِي فيه حكمٌ غير الله 2  ، فلا يجري عليه حكم العباد، وهو في السماء الثالثة، وقيل: الثانية، وقيل: حول العرش مع الملائكة لا يأكل ولا يشرب، ويَنزِل آخر الزمان فيُسْلِم الناس كلُّهم، ويموت ويدفن في حجرة النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقيل: في بيت المقدس، ويحجُّ ويعتمر، ويتزوَّج ويضع الجزية، ويقتل الخنزير، ويمحو الصليب.

12. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا﴾ لا يُرَدُّ عمَّا أراد، لكمال قدرته، ومنها رفع عيسى ﴿حَكِيمًا﴾ قولا وفعلاً، ومن حكمته رفْعُ عيسى إلى السماء وإلقاء الشبه، والمختار أنَّ رفعه قبل صلب الشبه، وآدم في الأولى، ويحيى وعيسى في الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/339.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾، قال أبو السعود: نظم قولهم هذا في سلك سائر جناياتهم التي نعيت عليهم‏ ليس لمجرد كونه كذبا، بل لتضمنه لابتهاجهم بقتل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والاستهزاء به، فإن وصفهم له عليه السلام بعنوان الرسالة إنما هو بطريق التهكم به عليه السلام، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ [الحجر: 6]، ولإنبائه عن ذكرهم له عليه السلام بالوجه القبيح، على ما قيل من أن ذلك وضع للذكر الجميل من جهته تعالى، مكان ذكرهم القبيح، وقيل: هو نعت له صلّى الله عليه وآله وسلّم من جهته تعالى، مدحا له، ورفعا لمحله، وإظهارا لغاية جراءتهم، في تصديهم لقتله، ونهاية وقاحتهم في افتخارهم بذلك.

2. قال الراغب: سمي عيسى بالمسيح لأنه مسحت عنه القوة الذميمة، من الجهل والشره والحرص وسائر الأخلاق الذميمة، كما أن الدجال مسحت عنه القوة المحمودة من العلم والعقل والحلم والأخلاق الحميدة، وقال شمر: لأنه مسح بالبركة، وهو قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ [مريم: 31]، أو لأن الله مسح عنه الذنوب، وذكر المجد في كتابه (البصائر) في اشتقاقه ستة وخمسين قولا، وتطرّق شارح القاموس لبعضها، فانظره‏.

3. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أي: لا يصح لهم الفخر بقتله، لأنهم ما قتلوه، ولا متمسك لهم فيما يزعمونه من صلبهم إياه، لأنهم ما صلبوه ولكن قتلوا وصلبوا من ألقى عليه شبهه‏.

4. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أي: في شأن عيسى‏ ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ أي: من قتله، وسنبينه بعد ﴿مَا لَهُمْ بِهِ﴾ أي: بقتله‏ ﴿مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ استثناء منقطع، أي: لكن يتبعون فيه الظن الذي تخيلوه‏.

5. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي: قتلا يقينا بمعنى متيقنين أنه عيسى عليه السلام، بل فعلوه شاكّين فيه، أو المعنى: انتفى قتله انتفاء يقينا بمعنى انتفائه على سبيل القطع، قال البرهان البقاعي: وهو أولى لقوله: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾

6. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ ردّ وإنكار لقتله، وإثبات لرفعه، أي: اليقين إنما هو في رفعه إليه‏ ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ أي: لا يبعد رفعه على الله، لأنه عزيز لا يغلب على ما يريده، وحكيم اقتضت حكمته رفعه، فلا بد أن يرفعه، وهي حفظه لتقوية دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، حين انتهائه إلى غاية الضعف بظهور الدجال، فيقتله، أفاده المهايميّ.

7. لا خفاء في أن هذه الآية الكريمة لتكذيب اليهود في دعوى الصلب التي تابعهم عليها أكثر النصارى، ولتبرئة ساحة مقام عيسى عليه السلام مما توهموه في ذلك، ولما كانت هذه الآية من مباحث الأمتين، ومعارك الفرقتين ـ أردت بسط الكلام في هذا المقام، انتهاجا للحق، وأخذا بناصر الصدق، وردّ أباطيل المكذبين، وتزييف أقوال الملحدين، نورد أولا ما زعموه ورووه، مما نفاه التنزيل الكريم، ثم بطلان المرويّ عندهم وتهافته بالحجج الدامغة، ثم ما رواه أئمة سلفنا في هذه القصة، ثم رد زعمهم أن إلقاء الشبه سفسطة، ثم سقوط دعواهم التواتر في الصلب، ثم تزييف تفسير بعض النصارى لهذه الآية، وأنها مطابقة لمعتقدهم على زعمه، مع ذكر من رفض عقيدة الصلب من فرق النصارى، وذكر ما روي في إنجيل خامس يوافق عقيدة المسلمين، ويطابق هذه الآية، ونختم هذه المباحث بما قاله تقيّ الدين ابن تيمية في هذه الآية، وأبدع، على عادته قدس سره، فهذا المطالب ينبغي معرفتها لكل طالب، إذ تفرعت إلى مباحث فائقة، وفوائد شائقة(2).

8. في كتبهم الموجودة من التضارب في هذه القصة ما يقضي بالعجب ويبرهن على عدم الوثوق بها، كما قال تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ [النساء: 157]، قال البرهان البقاعيّ في (تفسيره) بعد (أن ساق أزيد مما سقناه عن أناجيلهم، وقال: أحسن ما ردّ على الإنسان بما يعتقده) ما نصه: (فقد بان لك أن أناجيلهم كلها اتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد، وهو الأسخريوطيّ، وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه، وإنه إنما وضع يده عليه ولم يقل بلسانه إنه هو، وأن الوقت كان ليلا، وأن عيسى نفسه قال لأصحابه: كلكم تشكّون فيّ هذه الليلة، وأن تلاميذه كلهم هربوا فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره، وإن‏ بطس إنما تبعه من بعيد، وإن الذي دل عليه خنق نفسه، وإن الناقل لأن الملك قال إنه قام من الأموات، إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد، وما يدري النسوة الملك من غيره، ونحو ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن، وأما الآيات التي وقعت على تقدير تسليمها لا يضرنا التصديق بها.. وتكون لجراءتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح، وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه، ويدل على أن المصلوب، إن صح أنهم صلبوه، من ظنوه إياه، هو الذي دل عليه، قال بعض العلماء: إنه ألقى شبهه عليه، ويؤيد ذلك قولهم إنه خنق نفسه، فالظاهر أنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه: فجزموا به)

9. وقال خير الدين الآلوسي في (الجواب الفسيح): (اعلم أن ما ذكره هذا النصرانيّ من أن المسيح عليه السلام مات بجسده، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة، ثم أنزل ودفن، وأقام في القبر إلى صبيحة يوم الأحد، ثم انبعث حيّا بلاهوته وتراءى للنسوة اللاتي جئن إلى قبره زائرات، وظهر بعد لحوارييه.. إلى آخر ما قاله ـ هو ما أجمع عليه النصارى، ويرد ذلك العقل والنقل، وإن صدقتهم اليهود في قتله، فاستمع من المنقول ما يتلى عليك بأذن واعية، وخذ ما يأتيك من المعقول بالدلائل الهادية، على أن المقتول هو الشبه، وأن الحال عند صالبيه اشتبه، وأن المسيح رفعه الله تعالى، قبل القتل، إليه، لشرفه عنده ومكانته، لديه، قال الله تعالى في بيان حال اليهود: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ الآية، وفي الإنجيل أن رئيس الكهنة أقسم على المأخوذ بالله أأنت المسيح بن الله؟ فقال له: أنت قلت، ولم يجبه بأنه المسيح، فلو كان المقسم عليه هو المسيح لقال له: نعم، ولم يورّ ولم يتلعثم، وهو محلّف بالله، لا سيما وهو بزعمهم الإله، الذي نزل لخلاص عباده بإفداء نفسه ودخول الجحيم ولأواه)

10. قال خير الدين في (الجواب الفسيح) قال النصارى: القول بإلقاء الشبه على عيسى عليه السلام قول يفضي إلى السفسطة، والدخول في الجهالات، وما لا يليق بالعقلاء، لأنا إذا جوزنا ذلك فينبغي إذا رأى الإنسان ولده أو زوجته لم يثق بأنه ولده أو زوجته، وكذلك سائر المعارف، لا يثق الإنسان بأحد منهم ولا يسكن إليه، ونحن نعلم بالضرورة أن الإنسان يقطع بأن ولده هو ولده، وإن كل واحد من معارفه هو، من غير شك ولا ريبة، بل القول بالشبه يمنع من الوثوق بمدينة الإنسان ووطنه إذا دخله، ولعله مكان آخر ألقي عليه الشبه، بل إذا غمض الإنسان عينه عن صديقه بين يديه لحظة، ثم فتحها، ينبغي أن لا يقطع بأنه صديقه، لجواز إلقاء الشبه على غيره، وكل ذلك خلاف الضرورة، فالقول بإلقاء الشبه على غير عيسى خلاف الضرورة، كالقول بأن الواحد نصف العشرة مثلا، فلا يسمع، والجواب عنه من وجوه:

أ. أحدها: أن هذا تهويل ليس عليه تعويل، بل البراهين القاطعة، والأدلة الساطعة قائمة على أن الله تعالى خلق الإنسان وجملة أجزاء العالم، وإن حكم الشيء حكم مثله: فما من شيء خلقه الله تعالى في العالم إلا هو قادر على خلق مثله، لتعذر خلقه في نفسه، فيلزم أن يكون خلق الإنسان مستحيلا، بل جملة العالم، وهو محال بالضرورة، وإذا ثبت أن الله تعالى قادر على خلق مثل لكل شيء في العالم، فجميع صفات جسد عيسى عليه السلام لها أمثال في حيز الإمكان في العدم، يمكن خلقها في محل آخر غير جسد المسيح، فيحصل الشبه قطعا، فالقول بالشبه قول بأمر ممكن، لا بما هو خلاف الضرورة، ويؤنس ذلك أن التوراة مصرحة بأن الله تعالى خلق جميع ما للحية في عصا موسى عليه السلام، وهو أعظم من الشبه، فإنّ جعل حيوان يشبه حيوانا، وإنسان يشبه إنسانا ـ أقرب من جعل نبات يشبه حيوانا، وقلب العصا مما أجمع عليه اليهود والنصارى، كما أجمعوا على قلب النار بردا وسلاما، وعلى قلب لون يد موسى عليه السلام، وعلى انقلاب الماء خمرا وزيتا للأنبياء عليهم السلام، وإذا جوزوا مثل هذا فيجوز إلقاء الشبه من غير استحالة، على أن عيسى عليه السلام قد خولفت عادة الله تعالى الأغلبية في خلقه من ماء واحد، ونفخ جبريل في جيب مريم، فجعل شبهه على غيره ليس بأبعد من العادة، من خلقه، على أن إحياءه للموتى وإبراءه للأبرص والأكمه أعظم من إلقاء شبهه على غيره، على أن عروجه إلى السماء بناسوته وخرق السماء والتئامها، ليس بأهون من ذلك، على أن رد الشمس ليوشع بن نون، ومشي عيسى وحواريّه على الماء، وسائر معجزات أنبياء بني إسرائيل، ليس بأهون مما هنالك، وإذا صح عند النصارى انقلاب الخبز إلى جسد المسيح، والخمر إلى دمه في العشاء السرّي، لم لا يمكن أن يوقع شبهه على أحدهم؟ كما لا يخفى.

ب. ثانيها: أن الإنجيل ناطق بأن المسيح عليه السلام نشأ بين ظهراني اليهود، وحضر مرارا عديدة في مواسمهم وأعيادهم وهياكلهم، يعظهم ويعلمهم ويناظرهم، ويتعجبون من براعته وكثرة تحصيله، حتى إنهم (كما في الإنجيل) يقولون: أليس هذا ابن يوسف؟ أليست أمه مريم؟ أليس إخوته عندنا؟ فمن أين له هذه الحكمة؟ وإذا، كان في غاية الشهرة والمعرفة عندهم، وقد نص الإنجيل على أنهم عند إرادة الصلب لم يحققوه، حتى دفعوا لتلميذه ثلاثين درهما ليدلهم عليه، فما حاجتهم حينئذ أن يكتروا رجلا من تلاميذه ليعرفهم شخصه؟ لولا وقوع الشبه الذي نقول به.

ج. ثالثها: أنه كما تقدم في الأناجيل، أخذ في حندس من الليل المظلم في حالة شوّهت صورته وغيّرت محاسنه وهيئته، بالضرب والسحب وأنواع النكال الموجبة لتغير الحال، ومثل ذلك يوجب اللبس بين الشيء وخلافه، فكيف بين الشيء وشبهه؟ حتى إن رئيس الكهنة عند إحضاره أقسم عليه هل هو يسوع المسيح ابن الله؟ فلم يجبه، ولو كان هو لأجابه، فمن أين للنصارى واليهود القطع بأن المصلوب هو عين عيسى عليه السلام دون شبهه؟ بل إنما يحصل الظن والتخمين كما قال تعالى في كتابه المبين: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾

د. رابعها: قد تقدم في الأناجيل أنه لما جاء اليهود إلى محله خرج إليهم وقال: من تريدون؟ قالوا: يسوع، وقد خفى شخصه عليهم، ففعل ذلك مرتين وهم ينكرون صورته، وهذا دليل الشبهة، ورفع عيسى عليه السلام، ولا سيما وقد نقل غير واحد من العلماء عن بعض النصارى القول بأن المسيح عليه السلام كان قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة.

هـ. خامسها ـ قول متى في (الفصل الخامس والعشرين) من (إنجيله) ما لفظه: (حينئذ قال لهم يسوع كلكم تشكون فيّ هذه الليلة، لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية، ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل، فأجاب بطرس وقال له: وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدا، قال له يسوع: الحق أقول لك، إنك هذه الليلة، قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات)، فقد شهد عليهم بالشك، بل خيرهم بطرس الذي هو خليفة عليهم، شك، فقد انخرمت الثقة بأقوالهم، وصح قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾

و. سادسها ـ إن في (الفصل السابع والعشرين) من (إنجيل متى) ما لفظه: (حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، قائلا: قد أخطأت إذ سلمت دما بريئا، فقالوا: ما علمنا، أنت أبصر، فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه)، فهذه الأناجيل ليست قاطعة في صلبه، بل فيها اختلافات، فيحتمل أن يهوذا كذب عليهم في قوله: (هو هذا) ويدل على وقوع ذلك، ويقرّبه ظهور ندمه بعد هذا، ولا سيما وهو من جملة الاثني عشر الذين شهد لهم المسيح بالسعادة الأبدية، والسعيد لا يتم منه مثل هذا الفساد العظيم، فيلزم إما أنّ يهوذا ما دل عليه، أو كون المسيح ما شهد لهم بالسعادة الدائمة، أو إن أناجيلهم محرفة مبدلة، ويحتمل أن أحد أتباع المسيح باع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح عليه السلام، وادعى أنه هو، ومثل هذا كثير في أتباع الأنبياء، حيث يريدون أن يفدوا أنفسهم بدل أنبيائه، ويحتمل أن الأعوان أخذوا عليه رشوة وأطلقوه، وأخذوا بدله، كما أن يهوذا، مع أنه صديقه ورسوله، أخذ رشوة ودلهم عليه، ويحتمل أن الله تعالى أرسل شيطانا على صورته وصلبوه، ويحتمل أن الملك الذي نزل عليه ليقويه، كما تقدم في إنجيل لوقا بزعمهم، صار فداء له، ويحتمل أن هذا الذي نزل إنما نزل لرفعه، لأنه لو كان نازلا لتقويته لقوّاه، فلما لم نر أنه قواه فيقتضي أنه رفعه إلى السماء، أو فدى نفسه له.

11. وقال بعض الأفاضل: (ومن الأدلة على رفعه وصلب شبهه ما في الفصل التاسع من (إنجيل لوقا) ما لفظه: (أن المسيح صعد إلى جبل ليصلي وأخذ بطرس ويوحنا ويعقوب معه، وفيما هو يصلي صارت هيئته ووجهه متغيرة، ولباسه مضيئا لامعا)، إلخ، فهذا فيه دلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به، إذ لا معنى لظهور موسى وإيلياء، ووقوع النوم على أصحابه، وتغير وجهه وإضاءة لباسه، إلا رفعه.. ورؤيتهم له بعد ذلك، إنما هو من تطور روحه، لأنه عليه السلام كان له قوة التطور: وهذا من أحكام الروح والنفس، ولئن قلنا إنه لا يدل على الرفع بالوجه التام، غير أنا نتنزل ونقول: ما دام في هذه المرة تغيرت هيئته ووجهه ولباسه، واجتمع بالأنبياء وسمع من الغمامة هذا الصوت، فلا أقل من أن يكون ذلك مقدمة لرفعه ومقياسا، ومبدأ لتقويته وإيناسا، واليهود لم يتحققوا من أنفسهم أنه هو المسيح، بل اعتمدوا على قول يهوذا كما تقدم لك، ويهوذا قوله قول فرد، وغير صالح للاحتجاج، للاحتمالات والأدلة التي ذكرناها لك، فلم يبق في قول الفرقتين حجة أن المصلوب هو المسيح عليه السلام، لا شبهه، وأنا جيلهم حالها معلوم لديك، وبيان اشتباههم المحكيّ لك في القرآن، لا يخفى عليك)

12. سؤال وإشكال: هنا سؤال يورده بعض النصارى وهو: أن عيسى عليه السلام إذا كان لم يصلب حقيقة، وإنما صلب رجل ألقي عليه شبهه، ورفع هو إلى السماء، فلم لم يخبر الحواريين بذلك قبل رفعه أو بعده؟ والجواب: أن عيسى عليه السلام لم يخبر بذلك لعلمه بأن أناسا سيفترون عليه ويقولون بألوهيته، فأبهم الأمر ليكون ذلك أدل على كونه عبدا من عبيد الله، لا يقدر على جلب نفع ولا دفع ضر، بخلاف ما لو أخير بأنه لا يصلب، أو لم يصلب، وأن المصلوب شبهه، فإنه ربما كان ذلك مقويا لشبهة أولئك الجماعة، ولعدم كون هذه المسألة من المسائل الاعتقادية في الأصل، إذ لو اعتقد أحد، قبل إرسال نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم، بصلب عيسى، لم يضره ذلك، لكن لما ورد نبينا الذي لا ينطق عن الهوى، أبان خطأ النصارى في الوجهين:

أ. أحدهما: اعتقاد أن عيسى إله.

ب. والآخر اعتقاد أنه قد قتل وصلب، وأبان أنه عبد من عبيد الله تعالى تولاه بالرسالة، واصطفاه وحفظه من أيدي أعدائه وحماه، كذا في (منية الاذكاء في قصص الأنبياء)

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/392.

(2) اقتصرنا هنا على أهم ما ذكره، والباقي أكثره مكرر، وموجود في الكتب المتخصصة

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾ أي وبسبب قولهم هذا فإنه قول يؤذن بمنتهى الجرأة على الباطل، والضراوة بارتكاب الجرائم، واستهزاء بآيات الله ورسله، ووصفه هنا بصفة الرسالة للإيذان بتهكمهم به عليه السلام واستهزائهم بدعوته، وهو أن أناجيلهم ناطقة بأنه كان موحدا لله تعالى مدعيا للرسالة كقوله في رواية إنجيل يوحنا [17 وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته: 3] ويجوز أن يكون قوله: (رسول الله) منصوبا على المدح أو الاختصاص للإشارة إلى فظاعة عملهم، ودرجة جهلهم وشناعة زعمهم.

2. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ أي الحال أنهم ما قتلوه كما زعموا تبجحا بالجريمة وما صلبوه كما ادعوا وشاع بين الناس ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أي وقع لهم الشبهة أو الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى وإنما صلبوا غيره، ومثل هذا الشبه أو الاشتباه يقع في كل زمان كما سنبينه قريبا.

3. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ أي وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب في شك من حقيقة أمره أي في حيرة وتردد ما لهم به من علم ثابت قطعي لكنهم يتبعون الظن أي القرائن التي ترجح بعض الآراء الخلافية على بعض، فالشك الذي هو التردد بين أمرين شامل لمجموعهم لا لكل فرد من أفرادهم، هذا إذا كان ـ كما يقول المنطق ـ لا يستعمل إلا فيما تساوى طرفاه بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر، والذين يتبعون الظن في أمرهم أفراد رجحوا بعض ما وقع الاختلاف فيه على بعض بالقرائن أو بالهوى والميل، والصواب أن هذا معنى اصطلاحي للشك، وأما معناه في أصل اللغة فهو نحو من معنى الجهل، وعدم استبانة ما يجول في الذهن من الأمر، قال الركاض الدبيري:

çيشك عليك الأمر ما دام مقبلا...وتعرف ما فيه إذا هو أدبراé

فجعل المعرفة في مقابلة الشك، وقال ابن الأحمر:

çوأشياء مما يعطف المرء ذا النهى...تشك علي فما أستبينهاé

وفي لسان العرب أن الشك ضد اليقين، فهو إذا يشمل الظن في اصطلاح أهل المنطق، وهو ما ترجح أحد طرفيه، فالشك في صلب المسيح هو التردد فيه أكان هو المصلوب أم غيره؟ فبعض المختلفين في أمره الشاكين فيه يقول إنه هو، وبعضهم يقول إنه غيره، وما لأحد منها علم يقيني بذلك وإنما يتبعن الظن، وقوله تعالى: ﴿إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ استثناء منقطع كما علم من تفسيرنا له، وفي الأناجيل المعتمدة عند النصارى أن المسيح قال لتلاميذه (كلكم تشكون في هذه الليلة) أي التي يطلب فيها للقتل (متى 26: 31 ومرقس 13: 27)، فإذا كانت أناجيلهم لا تزال ناطقة بأنه أخبر أن تلاميذه وأعرف الناس به يشكون فيه في ذلك الوقت وخبره صادق قطعا فهل يستغرب اشتباه غيرهم وشك من دونهم في أمره، وقد قصته رواية تاريخية منقطعة الإسناد؟

4. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي وما قتلوا عيسى ابن مريم قتلا يقينا أو متيقنين أنه هو بعينه لأنهم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة، وهذه الأناجيل المعتمدة عند النصارى تصرح بأن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الأسخريوطي وأنه جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو يسوع المسيح فلما قبله قبضوا عليه، وأما إنجيل برنابا فيصرح بأن الجنود أخذوا يهوذا الأسخريوطي نفسه ظنا أنه المسيح لأنه ألقى عليه شبهه، فالذي لا خلاف فيه هو أن الجنود ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية.

5. قيل إن الضمير في قوله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ للعلم الذي نفاه عنهم، والمعنى ما لهم به من علم لكنهم يتبعون الظن وما قتلوا العلم يقينا وتثبتا به بل رضوا بتلك الظنون التي يتخبطون فيها، يقال قتلت علما وخبرا ـ كما في الأساس ـ إذا أحطت به واستوليت عليه حتى لا ينازع ذهنك منه اضطراب ولا ارتياب، وروي عن ابن عباس أنه راجع إلى الظن الذي يتبعونه، قال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ رواه ابن جرير، أي أنهم يتبعون ظنا غير ممحص ولا موفى أسباب الترجيح والحكم التي توصل إلى العلم، وقد اختلفت رواية المفسرين بالمأثور في هذه المسألة لأن عمدتهم فيها النقل عمن أسلم من اليهود والنصارى وهؤلاء كانوا مختلفين ما لهم به من علم يقيني، ولكن الروايات عنهم تشتمل على نحو ما عند النصارى من مقدمات القصة، كجمع المسيح لحوارييه (أو تلاميذه) وخدمته إياهم وغسله لأرجلهم، وقوله لبعضهم أنه ينكره قبل صياح الديك ثلاث مرات، ومن بيعه بدلالة أعدائه عليه في مقابلة مال قليل، وكون الدلالة عليه كانت بتقبيل الدال عليه له، ولكن بعضهم قال أن شبهه ألقى على من دلهم عليه، وبعضهم قال بل ألقى شبهه على جميع ما كانوا معه، وروى ابن جرير القولين عن وهب بن منبه، والحاصل أن جميع روايات المسلمين متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أيدي مريدي قتله فقتلوا آخر ظانين أنه هو.

6. أما قوله تعالى: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ فقد سبق نظيره في سورة آل عمران وذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [آل عمران: 155] روي عن ابن عباس تفسير التوفي هنا بالإماتة كما هو الظاهر المتبادر وعن ابن جريح تفسيرها بأصل معناها وهو الأخذ والقبض والمراد منه ومن الرفع إنقاذه من الذين كفروا بعناية من الله الذي اصطفاه وقربه إليه، قال ابن جرير بسنده عن ابن جريج (فرفعه إياه توفيه إياه وتطهيره من الذين كفروا) أي ليس المراد الرفع إلى السماء لا بالروح والجسد ولا بالروح فقط، وعلى أن القول أن التوفي إماتة لا يظهر للرفع معنى إلا رفع الروح، والمشهور بين المفسرين وغيرهم أن الله تعالى رفعه بروحه وجسده إلى السماء ويستدلون على هذا الحديث المعراج إذ فيه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رآه هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية: ولو كان هذا يدل على أنه رفع بروحه وجسده إلى السماء لدل أيضا على رفع يحيى وسائر من رآهم من الأنبياء في سائر السماوات، ولم يقل بهذا أحد.

7. ذكر الرازي أن المشبهة يستدلون بالآية على إثبات المكان لله تعالى وذكر للرد عليهم وجوها منها: أن المراد (برافعك إلي) إلى محل كرامتي وجعل ذلك رفعا للتفخيم والتعظيم ومثله قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ [الصافات: 99] وإنما ذهب من العراق إلى الشام ومنها: أن المراد إلى مكان لا يملك الحكم فيه عليه غير الله، وقد فسرنا آية آل عمران في الجزء الثالث وذكرنا ما قاله محمد عبده فيها وفي مسألة نزول عيسى في آخر الزمان كما ورد في الأحاديث، وقد أنكر بعض الباحثين ما أوردناه في ذلك وهو يحتاج إلى تمحيص وبيان ليس التفسير بمحل له لأن القرآن لم يثبت لنا هذه المسألة.

8. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ فبعزته وهي كونه يقهر ولا يقهر، ويغلب ولا يغلب، أنقذ عبده ورسوله عيسى عليه السلام من اليهود الماكرين، والروم الحاكمين وبحكمته جزى كل عامل بعمله، فأحل باليهود ما أحل بهم وسيوفيهم جزاءهم في الآخرة.

__________

(1) تفسير المنار: ‏6/16.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾ أي وبسبب قولهم هذا القول المؤذن بالجرأة على الباطل والاستهزاء بآيات الله، وذكروه بوصف الرسالة تهكما واستهزاء بدعوته، بناء على أنه إنما ادعى النبوة والرسالة فيهم لا الألوهية كما ادعت النصارى، إذ جاء في إنجيل يوحنا (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته)

2. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أي والحال أنهم ما قتلوه كما ادعوا، وما صلبوه كما زعموا وشاع بين الناس، ولكن وقع لهم الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى‏ وهم إنما صلبوا غيره، ومثل هذا الشبه يحدث كثيرا في كل زمان وتحكى عنه نوادر وحوادث غاية في الغرابة لكنها قد وقعت فعلا، فقد ذكر بعض المؤلفين في الطب الشرعي من الإنجليز حادثة وقعت سنة 1539 في فرنسا استحضر فيها 150 شخصا لمعرفة شخص يدعى (مارتين جير) جزم أربعون منهم بأنه هو هو وقال خمسون انه غيره والباقون ترددوا ولم يمكنهم أن يبدوا رأيا ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غير مارتين جير وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون وعاش مع زوجته مارتين محوطا بأقاربه وأصحابه ومعارفه ثلاث سنوات وكلهم مصدق أنه مارتين، ولما حكمت المحكمة عليه بظهور كذبه بالدلائل القاطعة استأنف الحكم في محكمة أخرى فأحضر ثلاثون شاهدا أقسم عشرة منهم بأنه هو مارتين، وقال سبعة إنه غيره وتردد الباقون.

3. على أن هذا الحادث من خوارق العادات التي أيد الله بها نبيه عيسى بن مريم وأنقذه من أعدائه فألقى شبهه على غيره وغيّر شكله، فخرج من بينهم وهم لا يشعرون، وفى أناجيلهم وكتبهم نصوص متفرقة تؤيد هذا الوجه.

4. سؤال وإشكال: وإذا قال قائل: وإذا كان المسيح قد نجا من أعدائه فأين ذهب؟ والجواب: أنا إذا قلنا إنه رفع بروحه وجسده إلى السماء فلا ترد هذه الشبهة، وإذا قلنا إن الله توفاه في الدنيا ثم رفعه إليه كما رفع إدريس عليهما السلام فلا غرابة في ذلك، فإن أخاه موسى عليه السلام قد انفرد عن قومه في مكان لم يعرفه أحد منهم، وكانوا ألوفا عدة خاضعين لأمره ونهيه، فكيف يستغرب أن يفرّ عيسى عليه السلام من قوم هم أعداء له، لا ولى له فيهم ولا نصير إلا أفراد من الضعفاء قد انفضّوا من حوله وقت الشدة، وقد أنكره أمثلهم بطرس الحوارى ثلاث مرات؟

5. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ قال في لسان العرب: الشك ضد اليقين، فالشك في صلب المسيح هو التردد فيه أهو المصلوب أم غيره؟ والمعنى ـ وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب لفي تردد من حقيقة أمره، إذ ليس لهم به من علم قطعىّ الثبوت، وإنما هم يتبعون الظن والقرائن التي ترجح بعض الآراء على بغض، وقد جاء في بعض الأناجيل التي يعوّلون عليها أنه قال لتلاميذه (كلكم تشكّون في هذه الليلة) أي الليلة التي يطلب فيها للقتل (إنجيل متى من 26 ـ 31 ومرقس من 14 ـ 27)، وإذا كانت أناجيلهم تنطق بأنه أخبر تلاميذه أو عرف الناس له بأنهم سيشكون فيه في ذلك الوقت، وخبره صادق قطعا، فهل من العجيب اشتباه غيرهم وشكّ من دونهم في أمره؟

6. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي وما قتلوا عيسى بن مريم وهم متيقنون أنه هو بعينه، إذ هم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة، والأناجيل التي يعوّل عليها صريحة في أن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الاسخريوطي وقد جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو المسيح فلما قبّله قبضوا عليه، وإنجيل برنابا يصرح بأن الجنود أخذوا يهوذا الاسخريوطي نفسه ظنا أنه هو المسيح، لأنه ألقى عليه شبهه، ومن هذا تعلم أن الجند ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية، والخلاصة ـ إن روايات المسلمين جميعها متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أعدائه ومريدى قتله فقتلوا آخر ظنا منهم أنه هو.

7. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ هذه الآية كآية آل عمران‏ ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وقد روى عن ابن عباس أنه فسر التوفى بالإماتة، وعن ابن جريج تفسيره بالأخذ والقبض والمراد منه ومن الرفع إنقاذه من الذين كفروا بعناية من الله بعد أن اصطفاه إليه وقربه، وقال ابن جرير نقلا عن ابن جريج: فرفعه إياه توفيه إياه وتطهيره من الذين كفروا أي فليس المراد الرفع إلى السماء بالروح والجسد ولا بالروح فقط، وفى تفسير ابن عباس‏ معنى الرفع رفع الروح، ولكن المشهور بين جمهرة المفسرين وغيرهم أن الله تعالى رفعه بروحه وجسده إلى السماء بدليل حديث المعراج، إذ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رآه هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية، وأنت ترى أنه لا دليل لهم في ذلك إذ لو دل هذا على ما يقولون لدل على رفع يحيى وسائر من رآهم من الأنبياء في سائر السموات ولا قائل بذلك، وقال الرازي ـ المعنى رافعك إلى محل كرامتى، وجعله رفعا للتفخيم والتعظيم كقوله حكاية عن إبراهيم‏ ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ وهو إنما ذهب من العراق إلى الشام، والمراد رفعه إلى مكان لا يملك الحكم فيه عليه إلا الله اه.

8. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ أي إن الله عزيز يغلب ولا يغلب، وبهذه العزة أنقذ عبده ورسوله من اليهود الماكرين وحكام الروم الظالمين، وبحكمته جازى كل عامل بعمله، ومن ثم أحل باليهود ما أحل بهم من الذلة والمسكنة والتشريد في الأرض، وسيوفيهم جزاءهم يوم القيامة ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾

__________

(1) تفسير المراغي ‏6/13.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم تبجحوا بأنهم قتلوا المسيح وصلبوه، وهم يتهكمون بدعواه الرسالة فيقولون: قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله! وحين يصل السياق إلى هذه الدعوى منهم يقف كذلك للرد عليها، وتقرير الحق فيها: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾..

2. إن قضية قتل عيسى عليه السلام وصلبه، قضية يخبط فيها اليهود ـ كما يخبط فيها النصارى بالظنون ـ فاليهود يقولون: إنهم قتلوه ويسخرون من قوله: إنه رسول الله، فيقررون له هذه الصفة على سبيل السخرية! والنصارى يقولون: إنه صلب ودفن، ولكنه قام بعد ثلاثة أيام، و(التاريخ) يسكت عن مولد المسيح ونهايته كأن لم تكن له في حساب! وما من أحد من هؤلاء أو هؤلاء يقول ما يقول عن يقين.. فلقد تتابعت الأحداث سراعا؛ وتضاربت الروايات وتداخلت في تلك الفترة بحيث يصعب الاهتداء فيها إلى يقين.. إلا ما يقصه رب العالمين..

3. والأناجيل الأربعة التي تروي قصة القبض على المسيح وصلبه وموته ودفنه وقيامته.. كلها كتبت بعد فترة من عهد المسيح؛ كانت كلها اضطهادا لديانته ولتلاميذه يتعذر معه تحقيق الأحداث في جو السرية والخوف والتشريد.. وقد كتبت معها أناجيل كثيرة، ولكن هذه الأناجيل الأربعة اختيرت قرب نهاية القرن الثاني للميلاد؛ واعتبرت رسمية، واعترف بها؛ لأسباب ليست كلها فوق مستوى الشبهات! ومن بين الأناجيل التي كتبت في فترة كتابة الأناجيل الكثيرة: إنجيل برنابا، وهو يخالف الأناجيل الأربعة المعتمدة، في قصة القتل والصلب، فيقول: (ولما دنت الجنود مع يهوذا، من المحل الذي كان فيه يسوع، سمع يسوع دنو جم غفير، فلذلك انسحب إلى البيت خائفا، وكان الأحد عشر نياما، فلما رأى الخطر على عبده، أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل، سفراءه.. أن يأخذوا يسوع من العالم، فجاء الملائكة الأطهار، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فحملوه، ووضعوه في السماء الثالثة، في صحبة الملائكة التي تسبح إلى الأبد.. ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع، وكان التلاميذ كلهم نياما، فأتى الله العجيب بأمر عجيب فتغير يهوذا في النطق وفي الوجه فصار شبيها بيسوع، حتى أننا اعتقدنا أنه يسوع، أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم، لذلك تعجبنا وأجبنا: أنت يا سيدي معلمنا، أنسيتنا الآن؟. إلخ)

4. وهكذا لا يستطيع الباحث أن يجد خبرا يقينا عن تلك الواقعة ـ التي حدثت في ظلام الليل قبل الفجر ـ ولا يجد المختلفون فيها سندا يرجح رواية على رواية، ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾، أما القرآن فيقرر قراره الفصل: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾، ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾

5. ولا يدلي القرآن بتفصيل في هذا الرفع أكان بالجسد والروح في حالة الحياة؟ أم كان بالروح بعد الوفاة؟ ومتى كانت هذه الوفاة وأين، وهم ما قتلوه وما صلبوه وإنما وقع القتل والصلب على من شبه لهم سواه، لا يدلي القرآن بتفصيل آخر وراء تلك الحقيقة؛ إلا ما ورد في السورة الأخرى من قوله تعالى:‏ ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾.. وهذه كتلك لا تعطي تفصيلا عن الوفاة ولا عن طبيعة هذا التوفي وموعده.. ونحن ـ على طريقتنا ـ في ظلال القرآن ـ لا نريد أن نخرج عن تلك الظلال؛ ولا أن نضرب في أقاويل وأساطير؛ ليس لدينا من دليل عليها، وليس لنا إليها سبيل..

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/802.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كذلك مما أحصاه الله عليهم من المآثم، هذه الفعلة الشنيعة التي أصبحوا على إيمان بها، فلم يتأثمّوا، ولم يندموا، بل كان ذلك نغما مسعدا، ونشيدا مرفّها، يرددونه صباح مساء، ليغذّوا داء الانتقام والتشفّي الكامن فيهم.. ﴿قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾! هكذا يملئون بها أفواههم، ويضربون بها على آذانهم!.. قتلنا المسيح.. عيسى بن مريم.. رسول الله.. فلم يكفهم أنهم قتلوا نفسا، بغيا وعدوانا.. كما كان ذلك معتقدهم.. ولم يكفهم أن تكون هذه النفس نفس إنسان لم يقل كلمة سوء، ولم يمدّ يده إلى أحد بسوء.. بل كان فمه مشرق نور ومطلع حكمة.. وكانت يده ملاك برّ ورحمة.. تهدى الشفاء إلى كل مريض، وتمسح بالعافية على كل ذي علة.. لم يكفهم هذا.. بل راحوا يعلنون هذا النبأ السارّ المسعد، يبشرون به في آفاقهم، ويرفعونه إلى الله دعوات وصلوات، في وقاحة واجتراء على الله.

2. ولم يكفهم هذا، فعرضوا قتيلهم هذا العرض الطويل الممتد.. حتى لكأنهم وقد مزّقوه أشلاء، أو قتلوه.. مرة، بعد مرة، بعد أخرى.. قتلنا..!.. يا للإثم العظيم! المسيح..!.. ويا للهول المهول! عيسى.. ويا للعنة السماء لمن يقولها! ابن مريم.. ويا لشؤم القوم الذين يردّدونها! رسول الله، ويا لسيف الله لمن يحارب رسل الله! ومع هذا، فإن القوم يهنؤهم الطعام والشراب.. بل إنهم ليأتدمون بهذا الدّم، ويغمسون به كل لقمة يأكلونها! وقولهم (المسيح) ليس اعترافا منهم بأنه المسيح، وإنما يقولون ذلك استهزاء به.. وكذلك قولهم: (رسول الله) فهم لم يعترفوا بالمسيح رسولا، ولم يقبلوه مسيحا.

3. قوله تعالى: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) هو كبت لليهود، وخزى لهم، إذ يفجؤهم القرآن الكريم بهذا الخبر، ويقطع لهم عنه الشك باليقين.. ذلك أنه كان قد وقع في نفوسهم شك في أن الذي قتلوه وصلبوه ليس هو المسيح، فإن هذا الشك قد أصبح يقينا بهذا الذي جاءهم به القرآن الكريم، وهم يعلمون صدقه، ويستيقنون أنه من عند الله، وإن جحدوه استكبارا، وعنادا.. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)﴾ [البقرة،: 146] والضمير في يعرفونه يعود إلى القرآن.

4. وقوله تعالى: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)﴾ هو كبت وخزى‏ لليهود، بهذا الفضل الذي فضل الله به على المسيح، بعد كبتهم وخزيهم، بإبطال كيدهم فيه، وإفساد مكرهم به.. لقد أرادوا موته وصلبه.. فلم تنله أيديهم، ونجاه الله منهم، بعد أن أخذهم بهذا الذنب العظيم، الذي عقدوا نيّتهم عليه، وشرعوا في تنفيذه، بل ونفذوه.. ولكن لا في المسيح كما قدروا، بل في شخص آخر شبّه لهم أنه المسيح.. ولقد أرادوا يصلب المسيح أن يوقعوه تحت اللعنة، التي قضت بها شريعة موسى، والتي جاء فيها: (ملعون من علّق على خشبة).. فما كان يقع تحت هذا الحكم من اليهود إلا من جدّف على الله، وكفر به.. فمن فعل هذا حكم عليه بالصلب، ثم الطرد من ملكوت الله! لقد أراد اليهود هذا بالمسيح، فرفعه الله إليه، وأعلى منزلته عنده، وأحلّه في مقام كريم، مع المصطفين من عباده.

5. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ هو تعقيب على تلك الأحكام التي أجراها سبحانه وتعالى، والتي جاءت على غير ما أراد أهل الشر والسوء.. فبعزّته سبحانه أفسد كيد هؤلاء المضلّين المفسدين، وبحكمته وضع الأمور في مواضعها، فجاءت على أتم صورة وأكملها..

6. هذا، ولما كانت قضية صلب المسيح.. من القضايا التي أثارت ولا تزال تثير كثيرا من الجدل والخلاف بين المسلمين والنصارى واليهود.. فقد رأينا أن نقف وقفة، ننظر بها نظرا أرحب وأوسع، في هذه القضية، وفي رأى القرآن فيها، وفي مقولات المسيحيين واليهود عنها (2):

أ. لم يلتفت القرآن الكريم إلى المسيح وإلى المعتقدات التي يعتقدها أولياؤه وأعداؤه إلّا من جانب واحد، هو شخصيته، وتحديد هذه الشخصية على الوجه الذي يراه له، وهو أنه إنسان بشر، وليس إلها ولا ابن إله، على الرغم من الأسلوب الفريد الذي ولد به! ففي الوقت الذي نزل فيه القرآن كان قد مضى على ظهور المسيح نحو ستة قرون، دارت فيها الأحداث التي صحبت حياته، منذ دخوله في هذا العالم، إلى خروجه منه ـ دارت تلك الأحداث فيها دورات كثيرة، والتقت بأنماط مختلفة لا حصر لها من العقول، وكاد الأمر يستقر في معتقد الناس، في المسيح وفي الأحداث التي اتصلت به! فأتباعه كان قد انتهى بهم الرأي فيه إلى أنه (الله) ممثّلا أقنوم الابن من الأقانيم الثلاثة التي جعلوها للّه، وهي: الأب، والابن، وروح القدس، وأعداؤه ـ اليهود ـ لم يتغير رأيهم فيه منذ وقع في أنفسهم أنهم صلبوه بتهمة الشعوذة والتجديف على الله، وكان على القرآن أن يكشف عن شخص المسيح، وأن يضعه بالموضع الذي له في حساب العقيدة.. أهو ابن الله؟ أم هو إله مع الله؟ أم هو الله وحده؟ أم هو بشر.. رسول من الله، إلى عباد الله؟ وقد حرص القرآن على أن يجلّى عن شخصية المسيح، وأن يدفع عنه كل شبهة تلبس على الناس أمره، وتجعل له إلى الألوهية مدخلا من أية جهة، وعلى أية صفة!

ب. هذه هي قضية المسيح في القرآن: أهو إله؟. أم هو إنسان من الناس وخلق من خلق الله؟ وإذ فصل القرآن في هذه القضية فصلا قاطعا، وأنزل المسيح من سماء الألوهية إلى أرض البشر ـ إذ فعل القرآن هذا لم يلتفت من أمر المسيح إلى شيء وراءه، مما يجرى على البشر، وينزل بهم من أحداث، ويقع في حياتهم من شئون! فإذا مات المسيح ـ على هذا الاعتبار ـ أو قتل فليس ذلك بالأمر الذي يجعل له حسابا خاصا دون الحساب الذي يجرى على الناس، حين يموتون أو يقتلون، وإذا صلب المسيح، فهو واحد من كثيرين ماتوا بتلك الميتة، وكما مضى المصلوبون إلى ما هم صائرون إليه، كذلك يمضى المسيح إلى مصيره! وإذا كان هناك من شيء يلتفت إليه في هذا الأمر العارض، فهو هذا الحمق وذلك الضلال، اللذان يركبان الناس فيغريانهم بالتطاول على تلك الأيدي الكريمة الممدودة إليهم بالخير، والمبسوطة إليهم بالهدى، وأن يطفئوا بأفواههم هذا النور المتوهج في ظلام ليلهم البهيم، وأن يمثّلوا بهذا الإنسان الطاهر البريء إنه لا أكثر من الشعور بالحسرة والأسى، تندلع نارهما في صدور الأخيار الأبرار من الناس، حين يصابون في مثلهم الفاضلة، ويفجعون في أسوتهم الحسنة، وحين يرون الشرّ يأكل منابت الخير ويفسد ثمارها! إنها وقفة.. قد تطول أو تقصر.. ثم تمضى الحياة ويمضى الناس معها في هذا الصراع المتصل بين الحق والباطل والخير والشر، وفي هذا التدافع الدائم بين المحقّين والمبطلين، وبين الأخيار والأشرار!

ج. فليس بمستنكر على الحياة إذن أن يصلب المسيح! وليس بدعا أن تمتد إليه يد البغي، وأن تتمكن منه وتبلغ ما تريد فيه! فما أكثر الأنبياء الذين أصابتهم أيدى البغاة، وسلّطت عليهم قوى الشر والعدوان، فذاقوا الموت في أمرّ كئوسه، وواجهوه في أبشع صوره! وما أكثر الصدّيقين والأبرار الذين وقعوا صرعى في ميادين الجهاد في سبيل الله، فمزّقوا إربا إربا، ومثّل بهم أحياء وأمواتا! فليكن المسيح بن مريم رسول الله، واحدا من هؤلاء! فما أحد من الناس قد أخذ على الله عهدا ألا يموت، وما أحد من البشر تخيّر لنفسه الميتة التي يموت عليها! وقد حرص القرآن على أن يخلى شعور أتباعه المسلمين من كل خاطرة تخطر لهم أن (محمدا) رسول الله، بمعزل عن هذا الحكم، الذي ينزل عليه الناس جميعا، ويردون موارده.. فقال تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: 144] إن الرسل يموتون أو يقتلون كما يموت الناس وكما يقتلون، ومحمد رسول الله واحد من الرسل وإنسان من الناس.. فليس بدعا أن يموت أو يقتل.. ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: 9] ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30] ومن أجل هذا لم يلتفت القرآن في موقفه من أهل الكتاب، وفي تسويته لحساب المسيح عندهم ـ لم يلتفت إلى حادثة (الصلب) ولم يجعل منها قضية يناقشها معهم، ويفصل فيها بحكمه بينهم!

د. وقد يبدو هذا الموقف الذي وقفه القرآن الكريم من أمر (الصلب) وإغفاله له، تسليما به، وبالمعتقد الذي قام عليه، وهذا يعطى لأصحاب هذا المعتقد القائم على صلب المسيح حجة على القرآن بأنه لم يواجههم مواجهة صريحة في هذه القضية، ولم يأخذ عليهم معتقدهم في أن المسيح قد صلب! ونقول ـ كما قلنا من قبل ـ إن القرآن لا يعنيه كثيرا أن يكشف حقيقة هذا الحدث، وأن يقيم الناس على رأى في أن المسيح صلب، أو أنه لم يصلب، فذلك الأمر على أي وجهيه وقع ـ لا يقدم ولا يؤخر في أصل القضية التي ينازع فيها القرآن، أولئك الذين يعتقدون في بنوّة المسيح للّه، أو ألوهيته! فالمسيح إله، أو ابن إله.. كما يقولون ويعتقدون، والمسيح ليس إلها ولا ابن إله، وإنما هو عبد من عباد الله ورسول من رسل الله.. كما ينطق الحق، ويحدّث القرآن!.. هذا هو أصل القضية..

هـ. فإذا فصل فيها القرآن على هذا الوجه الذي ارتضاه في المسيح، فقد فصل ضمنا في هذه الجزئية العارضة من حياة المسيح، وهي الصلب، ومن ثمّ يكون القول بصلب المسيح أو عدم صلبه سيان.. فهو إنسان من الناس وليس موته على أية ميتة كانت، بالذي يحدث له وضعا جديدا في الحياة، أو بالذي ينشئ له في النفوس مكانا يقوم عليه دين وتستند إليه عقيدة.

و. إن القرآن إذ يواجه أتباع المسيح، لم ير في حديثه إليهم عن حادثة الصلب التي يؤمنون بها ويقيمون معتقدهم عليها ـ لم ير في هذا الحديث جدوى، لأن هذا الحديث لا يعنى في نظر الدعوة الإسلامية أكثر من أنه خبر من أخبار التاريخ، لا يتعلق بوقوعه أو عدم وقوعه شيء يتصل بالعقيدة في ذات الله.. إنه مثل الحديث عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، واختلاف الناس في شأنهم وفيما يروى من أخبارهم.. فإذا قال القرآن في مثل هذه الأخبار قولا فهو امتحان للقرآن ذاتية.. في أنه متلقّى من عند الله، أو مستوحّى من الأساطير وتكهنات الكهان،!

ز. في حياة المسيح عليه السلام أكثر من حدث، أثار تضارب الآراء فيه واختلاف الناس عليه:

فأولا: ميلاده من عذراء: كان هذا الميلاد مشكلة ضخمة.. إذ أن هذا الميلاد غير طبيعي وغير جار على مألوف الحياة.. وذلك مما يدير الرؤوس نحوه، ويلفت العقول إليه، ويفتح للناس طرائق شتى، للقول فيه والتقوّل عليه، فاليهود مثلا ـ لم يعترفوا بهذا الميلاد ـ ولم يقبلوه.. بل اعتبروه ولادة غير شرعية، جاءت على غير رشدة.. من اتصال محرّم، بين مريم ويوسف النجار؛ الذي أضافوا نسبة المسيح إليه، حيث كان يخدم مع مريم في المعبد، وبهذا وضعوا المسيح وأمّه هذا الوضع الذي يصمهما بالدنس.. والعار.

وثانيا: صلبه.. ووقوعه بهذا الصّلب تحت حكم الناموس الذي يقضى بلعن كل من علّق على خشبة! حسب ما جاء في التوراة.

وثالثا: ألوهيته.. وخروجه بهذه الألوهية عن وجوده البشرى، الذي رآه الناس عليه، والقضاء على شخصيته وإفنائها.

ح. فهذه ثلاث شبه أو تهم تحوم حول شخص المسيح، وتفسد الرأي فيه وتجعل منه شخصية أسطورية، أكثر منها شخصية حقيقية.. والقرآن الكريم هو وحده الذي تولّى الدفاع عن المسيح وكشف الشبه عن شخصه الكريم، ووضعه بالمقام المحمود الجدير به كإنسان يأخذ مكان الذروة بين الناس، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ [النساء: 171] ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الزخرف: 59] ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ [المائدة: 75]

ط. إن الأخذ بما يقول القرآن في المسيح هو الذي يرفع هذه الشّبهة التي كانت ولا تزال داعية لسوء القالة فيه عند أعدائه اليهود، أو باعثة للاضطراب والقلق النفسىّ والروحىّ والعقلي، عند أتباعه.. إذ يرونه إنسانا في شخص إله، أو إلها في جسد إنسان! كان المسيح قد تنبّألهذا الخلاف الذي يكون في شأنه، ولهذه المقولات التي قيلت أو تقال فيه.. وقد أشفق على نفسه منها، إذ كان بعضها يطعنه في شرف مولده، وفي طهارة أمه وعفافها، على حين كان بعضها الآخر يسلخه من بشريته ويخرجه عن إنسانيته، إلى صورة مختلطة، تجمع الإله والإنسان في ذات واحدة وفي جسد واحد..

ي. كان المسيح قد تنبأ لهذا، وأشفق منه بل وتألم له! ولكن الله طمأنه وأذهب مخاوفه إذ أوحى إليه أن هناك من سيتولّى الدفاع عنه، ورفع الشبهات التي ستدخل على الناس من أمره.. في حال حياته، وبعد أن فارق الحياة.. يقول السيد المسيح فيما روت الأناجيل على لسانه مخاطبا تلاميذه وحواريّيه: (ولكنى أقول لكم: الحق إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّى ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذلك، يبكّت العالم على خطيّة، وعلى برّ، وعلى دينونة.. أما على خطية، فإنهم لا يؤمنون بي، وأما على برّ، فإني ذاهب إلى أبى ولا تروننى، أيضا، وأما على دينونة، فلأن رئيس هذا العالم قد دين! إن لي أمورا كثيرة أقولها لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لي ويخبركم، كل ما للأب هو لي لهذا قلت إنه يأخذ مما لي ويخبركم، بعد قليل لا تبصروننى، ثم بعد قليل أيضا تروننى، لأنى ذاهب إلى الأب (إنجيل يوحنا)، يتحدث المسيح إلى أتباعه هنا عن شخص سيجيء بعده، وقد ترك هو مقامه فيهم وفارق هذه الدنيا، وصفات هذا الشخص كما يحدّدها السيد المسيح هي:

أولا: أنه المعزّى الذي يجيء مواسيا ومعزّيا فيما أصيب به المسيح في شخصه، وما رمى به من تهم.. وكلمة المعزى هي إحدى المعاني التي فسّرت بها كلمة (بارقليت) اليونانية، والتي فسرت أيضا بمعنى المحامى أو مستشار الدفاع.

ثانيا: إنه سيبكّت العالم على أمور ثلاثة:

● على خطيّة: هي أنهم لم يؤمنوا بالمسيح على الوجه الذي جاءهم عليه.

● على برّ: وهو أنه ذاهب إلى الله لينزل المنزل الكريم الذي أعده له، ولكن هم أنزلوه في غير هذه المنزلة حيث رفعه أتباعه إلى مقام الإله ذاته، على حين أنزله اليهود منازل الضالين.

● على دينونة: وهي هذا الحكم الظالم الذي حكم به اليهود على المسيح، وعلى الثوب الإلهي الذي ألبسه أتباعه إياه.

ثالثا: أن هذا المعزّى سيرشد أتباع المسيح إلى الحقيقة كلها، ومعنى هذا أن هناك أشياء لم يكشف عنها المسيح، ومعنى هذا أيضا أن هذه الأشياء هي مما جدّ بعد المسيح، من أمور، اختلط على الناس وجه الحق فيها.. وهذا هو موضوع القضية الذي سيكون من عمل محامى الدفاع عنه.

رابعا: أن هذا المحامى لا يتكلّم من عند نفسه، بل بما قد سمع.. ومعنى هذا أنه إنما يأخذ دفاعه تلقّيا من جهة غير جهته، هي التي تلقّنه المقولات والحجج التي يلقيها على الشبه المتلبسة بتلك القضية.

خامسا: أن هذا المحامى سيمجد المسيح.

سادسا: أن هذا التمجيد الذي يقدمه المحامى في شأن المسيح، ليس مديحا تستجلب به صفات لم يكن متصفا بها، وإنما هو تمجيد يكشف حقيقته للناس، ويزيل ما علق بذاته من شبه وضلالات.

ك. وهذا ما تنطق به كلمات الإنجيل على لسان السيد المسيح في أوصاف المحامى أو المعزّى الذي سيجيء بعده! ولكن أتباع السيد المسيح خرّجوا هذه الكلمات تخريجا على غير هذا الوجه على ما سنرى، يقول أحد علماء المسيحية وشرّاح أناجيلها: (وقد بلغ الأمر بيسوع، من حيث ثقته واقتناعه من مكانه الرئيسىّ في قصد الله ـ بلغ به حدّا جعله يأخذ على عاتقه أن يرسل شخصا ليحلّ محله بعد صعوده إلى السماء، ألا وهو الروح القدس، وقد دعاه (المعزى) (باراكليت) وهي تسمية مشروعة، ومعناها المحامى أو مستشار الدفاع، (وبذلك يكون عمل (الروح القدس) الدفاع عن قضية يسوع أمام العالم، وقال عنه يسوع (هو يشهد لي [يوحنا 15: 26] ثم (ذاك يمجّدنى لأنه يأخذ ممالى ويخبركم [يوحنا 16: 14]، ومفهوم هذا القول أن الشخص الذي سيرسله المسيح هو (روح القدس)، وإذا علمنا أن معتقد المسيحية، هو أن المسيح هو (الله) وأن (روح القدس) هو الله، بمعنى أن كلّا منهما هو الله في أقنوم من أقانيمه الثلاثة، إذا علمنا ذلك كان عجبا أن يكون (المعزى) شخصا وأن يكون هذا الشخص هو الله، ثم أن يكون المسيح وهو الله هو الذي يرسل (روح القدس) وهو الله! الله يذهب في صورة المسيح (الابن)، ويجيء في صورة الله (روح القدس)! ثم من جهة أخرى.. ما معنى أن المحامى ـ إذا كان هو روح القدس، الذي هو الله ذاته ـ ما معنى أنه لا يتكلم من عند نفسه.. (بل يتكلم بما يكون قد سمع، ويخبركم؟).. أروح القدس أو الله ينتظر من يلقنه ما يقول، وبأذن له به؟ فيتكلم بما يكون قد سمع؟ هذا من حيث الشكل ـ كما يقال في لغة القضاء ـ أما من حيث الموضوع، فإذ ننظر نجد:

أولا: أن (روح القدس) الذي يقال إن المسيح وعد بإرساله بعد أن يمضى، لم ير له أحد وجها، لا من أتباع المسيح ولا من غيرهم.

ثانيا: أن روح القدس هذا، وهو المحامى أو مستشار الدفاع، لم يعرف له أحد موقفا، ولم يكن له قول مأثور في شأن المسيح وفي تمجيده..

ل. فأين إذن هو روح القدس؟ وأين أعماله أو أقواله التي واجه بها الناس لتمجيد المسيح؟ ولسنا نجد جوابا لهذا إلا إذا نظرنا في القرآن الكريم ووقفنا عندما جاء فيه من دفاع مشرق مفحم، عن السيد المسيح.. هذا الدفاع المشرق المفحم، هو تمجيد وتعزية للسيد المسيح، لما أصابه في شخصه وفي شخص أمّه من ضرّ وأذى! جاءت بعثة (محمد) صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وقد مض على الدعوة المسيحية نحو ستة قرون، وكان هذا الزمن الممتد كافيا لأن يفسح للدعوة مجال الحركة في الحياة، وأن يبلغ بها أقصى ما تبلغه في عقول الناس وقلوبهم، من أولياء الدعوة وأعدائها على السواء.. إذ استنفد أعداؤها كل ما لديهم من مقولات يقولونها في المسيح ودعوته.. كما استنفد أولياؤها كل ما عندهم من مقولات في تصويرها، وتقرير حقائقها والاحتجاج لها..

م. ومن هذا الشدّ والجذب، والهجوم والدفاع، تشكّلت للمسيح (قضية) من أشد ما عرف الناس من القضايا غموضا وتعقيدا.. والمسيح هو (القضية) التي تنوشها رميات المتنازعين فيه والمختلفين عليه.. من أعدائه وأوليائه جميعا! وهنا تبرز الحكمة في الحاجة إلى محام، أو مستشار للدفاع، ليقول في هذه القضية لا شيئا من عند نفسه، بل بما يكون قد سمع، ويخبر به! وليس ثمة شك في أن هذا المحامى أو مستشار الدفاع أو المعزّى هو (محمد) صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهو كما تنطق كلمات السيد المسيح:

أولا: هو المحامى الذي كان له دور معروف في قضية المسيح وكان بمشهد وبمسمع من الناس جميعا.

وثانيا: هو الذي دافع في هذه القضية دفاعه المعروف عن شخص المسيح وعن أمه، وكان دفاعه هذا تمجيدا وعزاء لهما مما أصابهما من رميات وطعنات.

وثالثا: لم يقل هذا المحامى كلمة من عند نفسه، بل كل ما قاله هو مما تلقاه وحيا من ربه، (لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلّم به)

ورابعا: أن هذا الذي سمعه وحيا من ربه لم يحتفظ به لنفسه، بل أخبر به وبلغه للناس كما أمره ربه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾.. وفي هذا يقول السيد المسيح (بل يتكلم بما يكون قد سمع ويخبركم)

ن. لقد كان (محمد) بما تلقى من كلمات الله، هو المحامى الذي ردّ للمسيح ولأمه اعتبارهما، وهو الذي مجدهما ورفع قدرهما في العالمين، وكان في ذلك العزاء الجميل لهما، والمواساة الكريمة لما أصابهما من بلاء عظيم، وفي هذا يقول القرآن الكريم: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران ويقول سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾.. ويقول: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ (75: النساء: 42]، وننظر في كلمات المسيح مرة أخرى.. ونقف من كلمات السيد المسيح عند هذه الكلمات.

(إن في انطلاقي لخيرا لكم).. فهذا الخير هو ما ينكشف لهم من أمر المسيح على لسان (المحامى) الذي يتولى الدفاع عن قضيته، ويعرضها لهم في المعرض الذي يجلّي حقيقته، ويكشف شخصه الكريم.

(فإنى أرسله إليكم)، وهذه القولة توحى بأن المسيح هو الذي يرسل هذا المحامى، أو بمعنى آخر هو الذي يملك إرسال الرسل، أو بمعنى ثالث هو الإله المتصرف في هذا الوجود، وهي مقولة إن حملت على ظاهرها هذا كانت إقرارا من الله تعالى ـ الذي هو المسيح ـ بالعجز عن الدفاع عن نفسه فيقيم محاميا يتولى الدفاع عنه.. وعلى هذا، فإن هذه القولة إما أن تكون قد حرّفت ليستقيم عليها الفهم الذي وقع لأتباع المسيح من أنه هو الله، وإما أن تحمل على غير ظاهرها ويكون قول المسيح (إنى أرسله إليكم) محمولا على المجاز السببى، إذ لمّا كان وجود المسيح مانعا من وجود المحامى الذي يتولى الدفاع في قضيته، إذ القضية لا تتشكل بصورتها الكاملة إلا بعد أن يذهب المسيح، وتكثر المقولات فيه وفي صلبه وقيامته، فإن ذهاب المسيح هو الذي يهيئ للمحامى سبيلا إلى الظهور، وبهذا يمكن القول بأن المسيح هو الذي أرسله، بمعنى أنه كان سببا من أسباب إرساله!

في قوله: (ويخبركم بما يأتي فيه إشارة إلى تلك المقولات التي ستقال في المسيح بعد ذهابه، والتي ستشكّل منها تلك القضية التي تولّى القرآن الكريم الكشف عن وجه الحق فيها.

قوله: (يأخذ مما لي ويخبركم) إشارة إلى أن ما يقوله المحامى الذي يتولى الدفاع عن المسيح ليس شيئا غريبا عن المسيح، بل هو ممّا له أي مما اشتملت عليه ذاته، سواء أكان ذلك عن مولده، أو عن بشريّته كما نطق بذلك القرآن الكريم.

7. سؤال وإشكال: ثم لماذا أخبر القرآن عن الصلب؟ والجواب: إنه مجرد خبر.. لا أكثر ولا أقلّ! خبر يبهت اليهود، ويفجعهم، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا! إن اليهود على يقين من أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم، الذي عرفوه وعرفهم وسمع منهم وسمعوا منه، ولم يكن قتلهم له لأنه جدّف على الله كما ادّعوا عليه.. وإنما كان لأنه جاءهم بأنه (المسيح) الذي وعدوا به، وطال انتظارهم له! والمسيح الذي رأوه في شخص (عيسى) ليس هو المسيح الذي عاشوا في أجيالهم يحلمون به، ويتوقعون الخلاص على يديه! كان اليهود يحلمون بالخلاص من هذه الفواجع والمآسى التي كانوا يتقلّبون على جمرها، بين الأسر والتشريد.. ولقد كانت الضربات القاسية المدمرة تنزل بهم متلاحقة متعاقبة كما يتعاقب الليل والنهار.. فما يكادون يخلصون من محنة، حتى تستقبلهم أكثر من محنة ـ ولهذا استبدّ بهم اليأس واستولى عليهم الجزع من توقعات الفواجع المباغتة وطلوع النوازل المهلكة.. فلم يكن لهم ـ والأمر كذلك ـ من أمل في الخلاص، إلا أن تتعلق آمالهم وأحلامهم بربّ الجنود (يهوه)، وقد امتلأت أسفار التوراة بالرّؤى والأحلام والتنبؤات التي تلقى إليهم من عالم الأوهام بحبال النجاة، فيمدّون أيديهم إليها، وهم يضطربون في هذا البحر اللجىّ المتلاطم الأمواج، فلا يجدون إلا سرابا، لا تمسك أيديهم بشيء منه، وكانوا كلما تطاول بهم الزمن ـ وهم فيما هم فيه من بلاء وهوان ـ أفسحت لهم الأسفار في الآمال، ووسعت لهم في آفاق المستقبل المشرق المسعد فأرتهم الخلاص القريب، وأطلّت عليهم بوجه المخلّص مقبلا بين عشية وضحاها! ولهذا باتوا يحلمون أحلاما ملحّة بأن عهد الشر هذا الذي خيّم على ربوعهم قد آن له أن يزول، وأن عهدا جديدا سيشرق عليهم بصبحه، وبهذا يقضى على عهد الشر والألم، إما يتدخل الله نفسه، وإما بإرسال ابنه أو ممثله المسيح إلى الأرض:

أ. أو لم ينبئ به أشعيا قبل ذلك العهد ـ أي عهد المسيح عيسى ـ بمائة عام، إذ يقول: (لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا، أبا أبديا، رئيس السلام؟) (التوراة: سفر أشعياء) وكان كثير من اليهود يتفقون مع (أشعياء) فيما وصف به المسيح من أنه ملك دنيوي يولد من بيت داوود الملكي، ومنهم من يسمونه باسم (ابن الإنسان) كأخنوخ ودانيال ويصورونه بأنه سينزل من السماء!.

ب. أما صاحب سفر الأمثال، وصاحب حكمة سليمان، فلعلهما قد تأثرا بأفكار أفلاطون أو بروح الأرض التي يقول بها الرواقيون ـ فقد تصوّراه الحكمة مجسّدة، التي هي أول شيء (قناها) الربّ، وهي الكلمة أو العقل!.

ج. ويكاد مؤلفو سفر الرؤيا كلهم يجمعون على أن المسيح سينتصر انتصارا سريعا، ويتفقون جميعا على أن المسيح سيخضع الكفار آخر الأمر ويحرّر إسرائيل، يتّخذ إسرائيل عاصمة له، يضم إليه الناس جميعا ليؤمنوا بيهوه والشريعة الموسوية.. ويسود بعد ذلك عصر طيب تسعد به الدنيا بأجمعها، فتكون الأرض كلها خصبة، وتحمل كل حبّة قدر ما كانت تحمله ألف مرة، ويصير الخمر موفورا، ويزول الفقر ويصبح الناس أصحّاء متمسكين بالفضيلة، وتسود العدالة والصداقة والسلام في الأرض!.

8. هذا هو بعض جوانب الصورة التي يتصورها اليهود عن المسيح والتي عاشوا الأزمان الطويلة يحلمون بها.. فلما التقوا بالمسيح في شخص عيسى ابن مريم ـ كما قلنا ـ ولم يطلع عليهم بتأويل هذه الأحلام التي طال انتظارهم لها وتطلعهم إليها أنكروا وجه المسيح، وتنكروا له، وأبوا أن يفتحوا أعينهم على هذه الحقيقة، وآثروا أن يظلوا مغمضين أعينهم على تلك الأحلام حتى يجيء (المسيح) الذي يقع على يديه تأويلها على الوجه الذي يتصورون ويتوقعون! من أجل هذا عجّل اليهود بالقضاء على المسيح عيسى بن مريم وإجلائه من بينهم، لأنه ليس (المسيح) الذي ينتظرون، وما زالوا إلى اليوم على انتظار لهذا المسيح.. وقد أشار المعرّى إلى هذا بقوله:

çيا آل إسرال.. هل يرجى مسيحكم...‏ هيهات.. قد ميّز الأشياء من خلبا!

قلنا أتانا ولم يصلب، وقولكم...‏ ما جاء بعد، وقالت أمة صلباé

9. فإذا دخل القرآن في أمر (الصلب) فإنما يدخل فيه:

أ. من هذه الجهة التي التي تطلع منها أحلام اليهود بالمسيح، الذي ينتظرون الخلاص والحياة المستقرة الطيبة على يديه، وقد جاءهم القرآن بما لم يكونوا يحتسبون، فكشف لهم عن هذا الضّلال الذي عاشوا أزمانا متطاولة فيه، ورفع لهم عن ستر الغيب ليروا أن (المسيح) الذي طال انتظارهم لهم وتعلقت آمالهم به، هو (عيسى) بن مريم! وألّا (مسيح) يرجى لهم بعده! وأنهم وقد فاتهم حظهم منه، فقد أفلت من أيديهم الخير الذي توقعوه وانتظروه.. أفلت إلى الأبد! ولن يعود! هذه واحدة!

ب. وأخرى.. هي أنهم ارتكبوا بجهالاتهم وحماقاتهم وغرورهم أبشع جريمة، إذ قتلوا بأيديهم أملا عاشوا له وأضاعوا بأيديهم الشحيحة الممسكة، خيرهم المدخر لهم، وبدّدوا ـ مع بخلهم القاتل ـ ثروة طائلة لا تنفد على الإنفاق أبدا.

ج. وثالثة.. هي أنهم وقد حملوا دم المسيح دنيا، وديانة، فإنهم لم يقتلوا المسيح، ولم يصلبوه! إنها حسرة، وحسرة، وحسرات، تملأ قلوب اليهود حزنا وكمدا حين يكشف لهم القرآن عن (المسيح) الذي حسبوا أنهم صلبوه! هذا، ولم يعرض القرآن لهذا الأمر إلا عرضا، في سياق الزّراية على اليهود، وفضح طواياهم وما اشتملت عليه من سوء! وفي هذا يقول القرآن الكريم: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾، [النساء: 155 ـ 160] هذه هي المرة الوحيدة التي ذكر فيها القرآن حادثة الصلب، وهو إنما يواجه بهذا اليهود، لا أتباع المسيح الذين يؤمنون بالصلب ويقيمون معتقدهم الديني عليه.. وننظر في هذه الآيات فنرى:

أ. أولا: يقرن القرآن مقولة اليهود بأنهم قتلوا المسيح ـ يقرنها بعملين من أعمال اليهود، بحيث ـ تبدو هذه الفعلة وإن لم تقع ـ ممكنة الوقوع منهم، وذلك: أن لهم تاريخا أسود مع أنبياء الله ورسله، يؤذونهم بألسنتهم وبأيديهم، وربما بلغ بهم الشر إلى جريمة القتل ـ ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وقد قتلوا نبيّ الله يحيى (يوحنّا) المعمدان، وذلك بمرأى من المسيح ومسمع! ثم إنهم مع المسيح خاصة، قد اتّصل أذاهم له، وامتد عدوانهم عليه، فتطاولوا على أمه البتول الطاهرة، ورموها بالفاحشة ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)﴾، فإذا ادّعوا أو ادّعى عليهم أنهم قتلوا المسيح، فتلك الدعوى أشبه بحالهم، وأقرب إلى طبيعتهم.. إنها على الطريق الذي ساروا فيه مع أنبيائهم.. وكم قتلوا من أنبياء وأبرياء!

ب. ثانيا: يسجل القرآن على اليهود اعترافهم بألسنتهم بأنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله.. فهذا الاعتراف منهم يقضى عليهم بتبعة هذه الجريمة المنكرة،! وليس يدفع عنهم وزرها أن يكون الذي قتلوه شخصا آخر غير المسيح، أو أن يكون المسيح قد دفع عن نفسه سلطان الموت، فقام من بين الأموات كما يعتقد أتباعه.. ذلك أن الجريمة وقعت على شخص عيسى بن مريم حسب اعتقادهم وتقديرهم، وأنهم لم يتركوه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، ولفّ في الكفن وأودع القبر، فإذا وقع بعد هذا ما ليس في تقديرهم، فكان المصلوب شخصا آخر غير عيسى، أو كان عيسى لم يمت كما يموت الناس، فذلك ما لا دخل له بحال أبدا كعنصر من عناصر التخفيف لجنايتهم أو حمل وزرها عنهم! ثالثا: أخذ القرآن شهادتهم على أنفسهم بأنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، أخذها من أفواههم وجعل ذلك اعترافا منهم بالجريمة، الأمر الذي لا يحتاج إلى استدعاء شهود غيرهم، بعد أن وصفوا الشخص الذي قتلوه وصفا كاشفا.. فهذه ثلاث صفات يصفون بها الشخص الذي قتلوه.. فهو: المسيح.. عيسى بن مريم.. رسول الله..

10. وظاهر حالهم تنبئ عن أنهم ينكرون على (عيسى بن مريم) أنه المسيح وأنه رسول الله.. فهم إنما قتلوا حين قتلوا ذلك الشخص الذي يدعى (يسوع) والمعروف بعيسى بن مريم! ولو عرفوا أنه (المسيح) لما قتلوه، أو لو عرفوا أنه رسول الله لما صلبوه! ولكن القرآن ينفذ إلى الصميم من أعماقهم، ويضبط الشوارد من عقولهم، وإذا حصيلة هذا، هو أنهم يعرفون أن عيسى بن مريم رسول الله، وأنه المسيح، ومع هذا فإنهم قتلوه وصلبوه! ذلك أنهم ـ كما قلنا ـ كانوا ينتظرون مسيحا يحقق لهم تلك الرؤى ـ وهذه الأحلام التي انتظروا تأويلها على يد المسيح الموعود الذي حدثهم عنه أنبياؤهم، وتنبئوا لهم بقرب مجيئه وبالخلاص المنتظر على يديه! وإذ طلع عليهم (يسوع) بأنه المسيح أنكروا أن يكون هو المسيح ثم لا يكون بين يديه هذا الخلاص الذي انتظروه.. فليكن (يسوع) مسيحا ولكنهم ليس مسيحهم.. وإلا فيا لخيبة الآمال ويا لطول الشقاء،! ثم إنهم لكى يقضوا على هذا (الكابوس) المزعج الذي جاء فطرد أحلامهم المسعدة، كان لا بد من أن يقتلوا هذا المسيح، وأن يعجّلوا بقتله وأن يمثّلوا به، شفاء لما امتلأت به صدورهم من خيبة أمل وسوء مصير، فكان أن صلبوا المسيح، لا لأنه جدّف على الله، بل لأنه قضى على أحلامهم، وجاءهم باليأس القاتل..

11. لما سمع يوحنا المعمدان وهو في السجن بأعمال المسيح أرسل إليه اثنين من تلاميذه ليقولا له: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ [من 11: 3] أما يوحنا فقد أيقن أنه هو المسيح.. وأما اليهود فقد أنكروا أنه هو مسيحهم الموعودون به، لأن مسيحهم كما خيل إليهم يفتح لهم خزائن الأرض ويقيمهم منها مقام المالك المطلق فيها! إنهم كانوا يستعجلون مجيء المسيح، وها هو ذا يقول إنه قد جاء.. ولكنهم لا يجدون عنده ما يتمنون ويشتهون.. ولهذا كانوا معه على حال من الحيرة القاتلة، والشك المؤرّق! (كان عيد التجديد في أورشليم.. وكان شتاء.. وكان يسوع يتمشّى في الهيكل في رواق سليمان فأحاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تلعق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرا! أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون.. الأعمال التي أنا أعملها باسم أبى هي تشهد لي ولكنكم ولستم تؤمنون، لأنكم لستم من خرافى كما قلت لكم: خرافى تسمع صوتى وأنا أعرفها فتتبعنى) (يوحنا 10: 22 ـ 28) مصيبة اليهود مع دعوات الحق التي يدعوهم رسل الله إليها، أنهم لا يفتحون لها قلوبهم، ولا يتعاملون معها بعواطفهم ووجدانهم، وإنما ينظرون إلى هذه الدعوات من جانب عمليّ واقعي، يقاس بمقياس المادة، ويحسب بحسابها، ويوزن بميزان النقد المعجّل المقبوض! وليس بهذا المقياس تقاس الأمور العقائدية، ولا بهذا الحساب تحسب مسائل الإيمان..! ذلك أن الإيمان بمعناه الصحيح إنما يقوم على أشواق ومواجد تولّدها العاطفة المنقدحة من الوجدان! وبغير هذا لا يكون إيمان، وإن كان، فهو إيمان قائم على خواء، لا يلبث حتى يضمر ويموت! إن الإيمان استجابة لدعوة من دعوات الفن الرفيع الجميل.. فإذا لم يكن المدعوّ إلى الإيمان على حظ من سلامة الوجدان ورفاهة الحس، لم تبلغ الدعوة موطن الإيمان منه!

12. هؤلاء هم اليهود.. لقد شهدوا على أنفسهم بأنهم أصحاب طبيعة جفّت منها موارد العاطفة، فقالوا ما أخذه القرآن من أفواههم: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي لا تتأثر كثيرا لهذه المعجزات، ولا تنبهر بتلك الآيات، فكان ردّ الله عليهم وحكمه على قلوبهم (بل طبع الله عليها) وكانت نتيجة هذا التبلد الغبىّ أنهم لا يخطون إلى الإيمان إلا خطوات بطيئة متخاذلة.. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي إيمانا ضعيفا مترددا، قائما على شفا جرف هار من الريبة والشك! ولهذا كان إيمانهم بالمسيح عيسى بن مريم إيمانا من هذا القبيل، إيمانا متلبسا بالكفر، ويقينا محوطا بالشك! وهكذا ظل حالهم معه حتى غلب الكفر إيمانهم، وقهر الشكّ يقينهم، فجدّفوا عليه، وحاكموه، وأسلموه إلى الصلب! إنهم كانوا يعرفون عن يسوع أنه المسيح وأنه رسول الله، ولكن غلب عليهم طبعهم المشئوم فحجزهم عن الخير، وقصّر بهم عن السعي إليه، وما زال بهم حتى أراهم الصبح ليلا، والحق باطلا، فأنكروه على علم، وجحدوه على معرفة.. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.. هكذا شأن اليهود دائما مع آيات الله ومع رسل الله.

13. كشف القرآن الكريم لليهود عن تلك الواقعة التي خيل إليهم أنهم طمسوا معالمها وعاشوا على زيفها واطمأنوا إلى باطلها.. ولقد خيّل إليهم الوهم الذي أدخلوه على أنفسهم وألبسوه لباس الحقيقة أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم!، ووقر في أنفسهم أنه لو كان هو المسيح المنتظر لما استطاعوا أن يصلوا إليه، لأنه سماوي لا يخلص إليه أذى من الناس! فجاءهم القرآن ـ وهم يعرفون أنه الحق ـ جاءهم ليوقظهم من هذه النومة التي نعموا بها، وليزعجهم عن هذا المواطن الذي اطمأنوا إليه في شأن المسيح، فقال تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾، هكذا يعلنهم القرآن بهذا الحكم القاطع الجازم! يعلنهم دون أن يقيم له حيثيات، أو يأتي له بأدلة وبراهين!.

14. وحسب القرآن أن يقول قولا وأن يحكم حكما، فيقوم الوجود كله شاهدا له وبرهانا عليه، وهذا الحكم ـ كما قلنا ـ يقطع اليهود عن أحلامهم بالمسيح المنتظر، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا، لأنهم تركوا الخير الذي كان بين أيديهم، وتعلّقوا بأوهام وخيالات لا تقع أبدا.. وهذا بعض ما يشير إليه القرآن في قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾، فقد ظلموا أنفسهم وخسروا خسرانا مبينا بتطاولهم على المسيح وبتكذيبهم له، فكان أن حرمهم الله هذا الخير الطيب الذي مدّ إليهم من يد كريمة طاهرة، وكان أن أصبح هذا الخير محرّما عليهم إلى الأبد، لا ينالون منه شيئا!.

15. سؤال وإشكال: ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ وهنا نقف أمام حقيقة تاريخية لا سبيل إلى إنكارها وهي أن هناك شخصا صلب تحت اسم (يسوع) بن مريم.. فمن هو ذلك الشخص؟ والجواب: اليهود على زعم أنه هو (يسوع) بن مريم الذي كان يدّعى أنه المسيح ابن الله، أو هو المسيح (الله)، والقرآن يقول إن المسيح عيسى بن مريم هذا لم يقتل ولم يصلب؟ وإذ يقول القرآن هذا القول، فهو إنما يقول الحق الذي لا لبس فيه، ويبقى بعد ذلك أن تقوم الأدلة على نقض هذا القول.. ونقض هذا القول بالبرهان‏ القاطع حكم على القرآن كله بالبطلان، وأنه ليس من عند الله، وإنما هو من قول بشر، يجيء بالصدق وبالكذب، وينطق بالحق وبالباطل! والقرآن وإن يكن قد واجه اليهود بهذا الحكم فإنه قد ألزم به أتباع المسيح، وأدخلهم ضمنا فيه.. وقد كشفنا من قبل عن العلة التي من أجلها لم يواجه القرآن أصحاب المسيح بهذا الحكم، الذي هو أصل معتقدهم الديني، وقلنا: إن صلب المسيح في ذاته لا يقدم ولا يؤخر في موضوع العقيدة متى عرفت حقيقة المسيح، أهو إنسان من الناس وعبد من عباد الله أم هو الله أو ابن الله؟. وهذا هو ما التفت القرآن إليه، واهتمّ له، وفصل فيه! ونعود إلى حديثنا عن شخص المصلوب.. ومن هو؟ شخص مصلوب.. هذا ما لا شك فيه بشهادة الأخبار التاريخية المتواترة، وبشهادة القرآن نفسه إذ يقول‏ ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أي خيل إليهم أن المقتول المصلوب هو (المسيح)! والأناجيل هي المصدر التأريخي الذي سجل حياة المسيح، وروى الأحداث التي وقعت له، ومنها حادثة الصلب التي كانت أبرز تلك الأحداث وأهمها، وقد اختلفت الأناجيل في رسم صورة الحادثة اختلافا يقيم كثيرا من الشكوك والشبه حول شخصية (المصلوب) بحيث لا يرى المتأمل في الصورة أنه على يقين من أن المصلوب هو المسيح بعينه! وشواهد هذا كثيرة يراها من يطالع ما تحدّث به الأناجيل، في هذه الواقعة.. ولا نرى بأسا من أن نجعلها فيما بلى:

أ. فأولا: الأناجيل الثلاثة ـ مرقس ومتى ولوقا ـ تحدّث بأن السيد المسيح وقد جاهره اليهود بالشرّ وتوعدوه بالقتل، فزع إلى الله يناجيه ويبثّه ما به‏ وقد أعلن تلاميذه أنه قد لا يلقاهم.. وفيما هو في تلك الحال تغيّرت هيأته وظهر له موسى وإيليا!، وفي هذا تقول الأناجيل: (وفيما هو يصلّى على انفراد كان التلاميذ معه، فسألهم قائلا: من تقول الجموع أنى أنا؟ فأجابوا وقالوا: يوحنا المعمدان! قال لهم: وأنتم من تقولون أنى أنا؟ فأجاب بطرس وقال: مسيح الله! فانتهرهم وأوصى ألا يقولوا ذلك لأحد.. إنه ينبغي أن ابن الإنسان يتألم كثيرا ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة وفي اليوم الثالث يقوم!، وقال للجميع: إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعنى).. وبعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب، وصعد إلى جبل ليصلّى، وفيما هو يصلّى صارت هيئة وجهه متغيرة ولباسه مبيضا لامعا، وإذا رجلان يتكلمان معه وهما موسى وإيليا اللذان ظهرا بمجد وتكلما عن خروجه الذي كان عتيدا أن يكمله في أورشليم وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم فلما استيقظوا رأوا مجده والرجلين الواقفين معه وفيما هما يفارقانه قال بطرس ليسوع، يا معلم: جيّد أن تكون هاهنا فنصنع ثلاث مظال، لك واحدة ولموسى واحدة ولإيلياء واحدة وهو لا يعلم ما يقول وفيما هو يقول ذلك كانت سحابة تظلّلهم فخافوا ـ أي التلاميذ ـ عندما دخلوا السحابة ـ أي المسيح وصاحباه ـ وصار صوت من السحابة قائلا: هذا هو ابني الحبيب، له اسمعوا، (ولما كان الصوت وجد يسوع وحده،) لوقا [18 ـ 37: 9]، ونجد في هذا الخبر أمورا تستلفت النظر:

فمنها، أن شعورا كان متسلطا على اليهود يومذاك بأن القديسيين والأنبياء يمكن أن يقوموا من الأموات، وأن يصلوا من حياتهم ما انقطع بسبب الموت.. ولهذا كان معتقد كثير من اليهود أن المسيح هو يوحنا المعمدان قام من الأموات!

ومنها أيضا أن بطرس حين قال للمسيح: أنت مسيح الله، انتهره، وأوصى تلاميذه ألا يقولوا ذلك لأحد.. وعلل ذلك بأن ابن الإنسان ـ أي المسيح ـ ينبغي أن يتألم كثيرا، وأن يرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وفي اليوم الثالث يقوم، ولا ندرى ـ إذا كان المسيح هو المسيح ـ لماذا ينكر نفسه؟ ولماذا لا يلقى الناس على الصفة التي جاء بها؟ إن ذلك هو أول ما ينبغي أن يتحدث به إلى الناس، حتى يعرفوا شخص من يتعاملون معه، والصفة التي له وإلا تقطعت بينه وبينهم الأسباب، وكانت دواعي التناكر والتنابذ أشد وأقوى من دواعي التعارف والتآلف! فكيف ينكر المسيح صفته؟ وكيف للناس أن يعرفوه، وهو يأبى إلا أن يستر حاله عنهم، ويقيم بينهم وبينه حجبا وأستارا، ويكلمهم من وراء حجاب؟ فبأي وجه يلقاهم؟ ومن هو؟ وما صفته التي يخاطبهم بها؟ ندع هذا، وننظر فيما يتكشف من هذا الخبر من ملابسات تتصل بشخصية المسيح قبل حادثة الصلب.. فها نحن أولا نرى السيد المسيح يكشف لتلاميذه عن شخصيته، وأنه المسيح.. مسيح الله..! ونراه يدعوهم إلى التمسك برسالته واحتمال الأذى في سبيلها.. فهو مزمع أن يرحل، ومن أراد أن يلحق به في الملكوت الأعلى فلينكر نفسه، وليحمل صليبه كل يوم ويتبعه، ثم نرى السيد المسيح كذلك وقد انفرد بثلاثة من خاصة تلاميذه: بطرس، ويوحنا، ويعقوب.. وصعد بهم إلى جبل ثم أخذ يصلى.. إنه هنا على موعد مع ربه.. ولقد تغيرت هيئته وصار لباسه مبيضا لامعا، وظهر له موسى، وإيليا، وأخذت تلاميذه سنة من النوم، فلما استيقظوا رأوا هذا المشهد العجيب الرائع.. ثم رأوا المسيح وصاحبيه قد أظلتهم سحابة، وصار صوت من السحابة يقول: هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا..)، ثم تعقّب الأناجيل على هذا الخبر بقولها (ولما كان الصوت، وجد يسوع وحده)! ونقول: ألا يحق لنا أن نفترض ـ مجرد افتراض ـ أن المسيح قد صعد مع صاحبيه موسى وإيليا؟ ثم ألا يقوّى هذا الافتراض أن يقوم إلى جانبه زعم آخر، وهو أن موسى وإيليا إنما ظهرا ليسوع في الوقت الذي قطع فيه الشوط إلى آخره من رسالته، ليصحباه وليؤنساه في طريقه إلى العالم العلوي؟ ويعترضنا هنا قول الأناجيل (ولما كان الصوت وجد المسيح وحده)! ونقول إنه كان لا بد أن يوجد المسيح أو أن يحتفظ له بهذا الوجود!.. إنه لا بد أن يملأ هذا الفراغ بأية صورة! وإلا فكيف يكون موقف هؤلاء التلاميذ الثلاثة الذين صحبوه، إذا هم عادوا بغيره؟ ثم كيف يكون موقف تلاميذه وأتباعه إذا رآهم الناس ولم يروا المسيح معهم؟ أيقولون مثلا: إن‏ المسيح قد رفع إلى السماء؟ فمن يشهد لهم بهذا؟ ومن يقبل هذا القول منهم، ويصدّقه؟ لقد أنكر اليهود على المسيح أنه المسيح، وأنكروا عليه أنه رسول من عند الله.. وها هم أولاء يتوعدونه ويعدّون العدة للإيقاع به، والقضاء عليه، ثم ها هو ذا يختفى من الميدان.. أفيقبل بعد هذا من أحد أن يقول إن المسيح قد رفع إلى السماء؟ إن هذا القول لأشد نكرا عند اليهود من كل ما تحدّث به المسيح إليهم، وكان داعية لثورتهم عليه، وتربّصهم به؟ لا بدّ إذن أن يظل المسيح قائما في الميدان! وأين المسيح؟ بل أين من يأخذ مكان المسيح؟

ب. تلك هي المشكلة! ولا سبيل إلى حلّ هذه المشكلة إلا إذا تخففنا كثيرا من منطق العقل ـ خاصة وأن القضية كلها خارجة عن سلطان العقل ـ وإلا إذا سمحنا للخيال القصصى والأسطورى أن يقوم بدوره هنا لحلّ هذه المشكلة! عندئذ يتغير وجه الصورة التي تمثلت لنا في حادثة الصلب، كما ترويها الأناجيل، فنرى مثلا يهوذا الأسخريوطي، وهو أحد الحواريّين الاثني عشر الذين اختارهم المسيح وربّاهم على يديه ـ نراه وقد اتّجه إلى اليهود الذين كانوا يتربصون بالمسيح، فيدخل عليهم الهيكل ويهتف بهم أن الفرصة قد سنحت لهم ليأخذوا المسيح ويفعلوا به ما يشاءون، وكان ذلك على علم من أصحابه الذين بعثوا به، ليتمّ ما دبروه، وكان تدبير التلاميذ قد سبق هذا العمل، فتخيّروا واحدا من أتباع المسيح فيه بعض مشابه منه، ليكون هو البديل عن المسيح، ويتقبل المصير الذي كان اليهود مزمعين أن يصيروا بالمسيح إليه!

ج. وكان من التدبير أيضا أن تخيّر (يهوذا) الوقت الذي يقبض فيه على (المسيح) المدّعى، وهو الليل، كما كان من التدبير أيضا أن يكون المكان بستانا، لا بيتا ولا خلاء.. وفي هذا الزمان وذلك المكان تختلط أشباح الناس، بالأشجار والأغصان التي تتراقص وتضطرب في ضوء الشموع والمشاعل والمصابيح، التي حملها القوم معهم، ليروا طريقهم في هذا الليل البهيم! وقد كان! فجاء القوم وخرج إليهم (المسيح) البديل يسألهم: من تطلبون؟ فيقولون: يسوع! فيقول: ها أنا ذا! وفي هذا يقول يوحنّا: (وخرج ـ المسيح ـ مع تلاميذه عبر وادي قدرون حيث كان بستان دخله هو وتلاميذه، وكان يهوذا مسلمه، يعرف الموضع، لأن يسوع اجتمع هناك كثيرا مع تلاميذه، فأخذ يهوذا الجند وخداما من عند رؤساء الكهنة والفرّيسيين وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه، وقال: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري، قال لهم يسوع: أنا هو! وكان يهوذا مسلمه أيضا واقفا معهم، فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض.. فسألهم أيضا: من تطلبون؟ فقالوا: يسوع الناصري! أجاب يسوع: قد قلت لكم أنا هو..؟ (إنجيل يوحنا: 18: 1 ـ 9)، إنهم كانوا بلا شك يعرفون شخص المسيح الذي تعلقت الأنظار به في أكثر من موقف من مواقفه الرائعة المذهلة.. ولكنهم في هذا الظلام أو في هذا النّور المظلم، لم يكن في مقدورهم أن يتبينوا شخوص الناس، وأن يتحققوا من ذواتهم.. ولهذا كان سؤال وكان جواب! وقد وضع القوم يدهم على هذا الذي دعاهم إليه وقال: إنه يسوع! ثم إنهم ما كانوا يضعون أيديهم عليه حتى أخذته الأيدي والأرجل، صفعا وركلا، حتى لتتغيّر لذلك هيأته، وتكاد تذهب كل معالم شخصيته! وفي صورة هذا المسيح (البديل) نستطيع أن نفسّر كثيرا من تلك المواقف الغامضة، التي كانت تبدو متأبّية على كل تفسير وتأويل:

فهذا يهوذا الأسخريوطي الذي بدا لنا من قبل خائنا ساقط المروءة، يبيع أستاذه ومعلمه بدراهم معدودة، وهو الذي كان إلى يده بيت مال المسيح وأتباعه ـ ها هو ذا يبدو لنا في هذا التصور حواريّا قائما على العهد الذي بينه وبين المسيح، محتفظا بمكانه بين الاثني عشر حواريا الذين يقول المسيح عنهم مخاطبا ربه ـ كما تروى الأناجيل ـ (إن الذي أعطيتنى لم أفقد منهم أحدا)

ثم ها هو ذا بطرس الذي تبع (المسيح) وأنكره ثلاث مرات لم يكتف بهذا بل سبّه ولعنه ـ وهو في هذا الموقف أسوأ حالا من يهوذا ـ نراه هنا لم يكذب حين أنكر معرفته بهذا الرجل، كما أنه لم يأت كبيرة حين سبّ ولعن! لأنه لم يسب المسيح ولم يلعنه، وإنما أنكر البديل، وسبّه ولعنه!

ثم هذا الذي كنا نستغربه، ونعجب له من صمت المسيح ومن عيّه عن ردّ الجواب.. أمام رئيس الكهنة (قيافا) وأمام الوالي بيلاطس..

ثم هذا العجز الظاهر وهذه ـ الشخصية الباهتة التي رآها فيه (هيرودس)..

ثم هذا الجزع وهذا الضعف وهذا الصراخ اليائس الذي كنّا نسمعه من المصلوب، ونعجب له‏ كل هذا يبدو مقبولا يقوم على مألوف الحياة، وعلى مستوى الطبيعة البشرية، على حين كان ـ يبدو غريبا ممعنا في الغرابة أن يصدر من مسيح الله، ومن أحد حوارييه وتلاميذه الذين وطّنوا أنفسهم على الموت في سبيل الله!

16. فهل رأيت إلى هذا الفرض الذي افترضناه وكيف حلّ كثيرا من المشكلات وقضى على كثير من المتناقضات التي كانت تصادفنا في قصّة صلب المسيح، كما ترويها الأناجيل؟ لقد استقرت أجزاء هذه الصورة وثبتت ملامحها، بعد أن كانت تبدو مهزوزة مضطربة تجمع المتناقضات،! ثم ألا ترى‏ أن قبول هذا الفرض أولى من الأخذ بتلك الأخبار المتنافرة عن صلب المسيح، واعتبار أن المسيح نفسه هو الذي صلب؟ ألا يعفينا هذا الفرض من كثير من المشكلات التي واجهها العقل ـ واضطرب فيها حين وجد نفسه بين يدى (الله) أو ابن الله.. مصلوبا معلقا على خشبة، يصرخ في رعب وفزع واضطراب؟ فإذا جاء بعد هذا شاهد يشهد بأن المسيح لم يصلب، ولم يقتل، أفلا يلفتنا هذا الشاهد إليه، وإلى كل كلمة يقولها في هذه القضية؟ ثم ألا تقوّى هذه الشهادة من الفرض الذي افترضناه وتدنيه من الواقع وتدفع به إليه؟ فكيف إذا كان هذا الشاهد منزّها عن الكذب، لا يشهد إلا بالحق، ولا يقول غير الحق؟ ثم كيف إذا كان الشاهد هو القرآن الكريم، والقول هو قول رب العالمين؟. وكيف إذا قال هذا الشاهد في صلب المسيح: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾؟

17. هذا، وقد حاول كثير من مفسري القرآن الكريم من علماء المسلمين أن يقولوا بآرائهم فيما أجمله القرآن ولم يفصّله ويكشف عن وجهه،! ومثل هذه المقولات إنما هي لحساب أصحابها، وليس على القرآن شيء منها، إذ لا تعدو أن تكون أنظارا متجهة إلى آية من آيات الله.. قد تتهدّى إلى بعض أسرارها، وقد تضلّ الطريق فلا تعرف شيئا! وللإمام الرازي قصب السبق في هذا المجال، فهو أكثر مفسري القرآن تقليبا لوجوه الرأي وجلبا للآراء والأخبار من كل واد، شرحا لمجملات القرآن، وإشاراته.. وفي قوله تعالى:‏ ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ مثل لهذا المنهج في تفسير القرآن، يقول الرازي في تفسيره لهذا المقطع من الآية الكريمة: (اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضوع، وذكروا طرقا:

أ. الأول: قال كثير من المتكلمين: إن اليهود لمّا قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء، فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم فأخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه وشهدوا على الناس أنه المسيح!

ب. الثاني: أنه تعالى ألقى شبهه على إنسان آخر.. ثم في هذا وجوه:

دخل طيطاوس اليهودي المكان الذي فيه المسيح فلم يجده، فألقى شبهه عليه، فلما خرج ظنّ أنه عيسى، فأخذ وصلب!

وكلوا بعيسى رجلا يحرسه، فرفع عيسى إلى السماء وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب.. فقتلوه وهو يقول: لست بعيسى!.

تطوّع أحد أصحابه، فألقى الله شبه عيسى عليه، فأخرج وقتل، ورفع عيسى.

نافق أحد تابعيه، ودلّهم على عيسى ليقتلوه، فلما دخل اليهود لأخذه ألقى الله شبهه عليه، فقتل وصلب!

18. وهذه الوجوه متعارضة متدافعة! والله أعلم بحقائق الأمور! ثم يثير الرازي مناقشة حول هذه المقولات فيجرّحها جميعا، ولا يرتضى واحدة منها.. فيقول: (فكيفما كان، ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات:

أ. الإشكال الأول: أنه إن جاز أن يقال إن الله يلقى شبه إنسان على إنسان آخر، فهذا يفتح باب السفسطة، وأيضا يفضى إلى القدح في التواتر.. ففتح هذا الباب، أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية.

ب. الإشكال الثاني: أن الله أيده بروح القدس جبريل، فهل عجز هنا عن تأييده؟ وهو ـ المسيح ـ كان قادرا على إحياء الموتى.. فهل عجز عن حماية نفسه!؟

ج. الإشكال الثالث: أنه تعالى كان قادرا على تخليصه برفعه إلى السماء، فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره؟ وهل فيه إلّا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه؟

د. الإشكال الرابع: بإلقاء شبهه على غيره اعتقد اليهود أن هذا الغير هو عيسى، مع أنه ما كان عيسى، فهذا إلقاء لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله!

هـ. الإشكال الخامس: أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها، وشدة محبتهم للمسيح، وغلوّهم في أمره، أخبروا أنهم شاهدوه مقتولا مصلوبا، فلو أنكرنا ذلك طعنّا فيما ثبت بالتواتر.. والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد وعيسى وسائر الأنبياء.

و. الإشكال السادس: ألا يقدر المشبوه به أن يدافع عن نفسه أنّه ليس بعيسى؟ والمتواتر أنه ما فعل، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن الأمر ليس على ما ذكرتم!)

19. هذه هي الإشكالات التي أثارها (الرازي) على القول بأن المصلوب شخص آخر ألقى شبه المسيح عليه،! وقد عرضنا من قبل رأيا افترضناه فرضا، وهو أن الشخص المصلوب شخصية قدّمها أتباع المسيح ـ لا اليهود ـ لتحاكم وتقتل، وذلك بعد أن رفع المسيح إلى السماء مع موسى وإيليا، وذلك لكى يسدّوا هذا الفراغ الهائل الذي تركه المسيح! وهذا الفرض لا يثير إلا إشكالا واحدا.. وهو أن اليهود قتلوا شخصا هو المسيح بن مريم في اعتقادهم، على حين أن المقتول شخص آخر غيره.. وهذا ـ كما يقول الرازي ـ إلقاء لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله! وقلنا إن ذلك كان عقوبة لليهود، إذ حملوا دم المسيح دون أن يقتلوه! وفي ذلك ما فيه من الكبت والحسرة لهم!

20. وبعد، فإن (قضية صلب المسيح) ينبغي أن يعاد النظر فيها، وأن تحقّق تحقيقا علميا، وأن تفنّد الحجج التي تؤيدها والتي تنكرها.. بل إن هذا هو الذي ينبغي أن يقوم له العلماء والدارسون على اختلاف عقائدهم منذ نزل القرآن الكريم وأعلن هذا النبأ العظيم: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾

21. ولو أن البحث في قضية الصلب انتهى بالباحثين إلى تلك الحقيقة التي قرّرها القرآن ـ وهو لا بد منته بهم إليها ـ لالتقت الديانات السماوية الثلاث على سواء:

أ. فأولا: كاد اليهود يقطعون الشك باليقين في أمر مسيحهم المنتظر الذي يعدّون العدة لاستقباله، الأمر الذي يملأ صدورهم شعورا بالعزلة عن الناس والتعالي عن العالمين، باعتبارهم شعب الله المختار، ولنظروا إلى أنفسهم من جديد فرأوا أنهم قد فاتهم خير كثير كان يمكن أن يصل إليهم من هذا الميراث العظيم من تعاليم المسيح وأدبه، وبهذا يلتقون بتلك التعاليم السمحة الكريمة التي تذهب بالكثير من أدوائهم وعللهم، التي تنشر الشر والبلاء في العالم كله.

ب. وثانيا: كان أتباع المسيح يعيشون مع تعاليم المسيح على هذه الأرض، ويغرسون مغارس الرحمة والحب والأخوة في كل مكان، فلا تظل عيونهم معلقة به في ملكوته، بينما تخلو قلوبهم وتصفر أيديهم من هذا الثمر الكريم الذي غرسته يداه في هذه الأرض!

ج. وثالثا: كان المسلمون لا يرون هذه الحواجز القائمة بينهم وبين أتباع المسيح في دراسة الأناجيل والتأدّب بآدابها والانتفاع بتعاليمها.. فالمسلمون وإن كانوا على يقين بأن المسيح لم يصلب ولم يكن إلها ولا ابن إله، فإن اعتقاد أتباع المسيح بهذا كله يدخل على المسلمين شعورا خفيا بالحذر من مخالطة الأناجيل، والتلقّى عنها، لما فيها من هذه المقولات التي تخالف معتقدهم الديني وتأخذ طريقا غير طريقه!

22. سؤال وإشكال: ونسأل: ترى أتكشف الأيام عن جديد في قضية الصلب والقيامة؟ وهل تجى‏ء الأيام بتأويل ما نطق به القرآن الكريم في هذه القضية؟ والجواب: ذلك ما لا نشك فيه.. إن لم يكن اليوم فغدا!

23. سؤال وإشكال: أحسب أن كثيرا من إخواننا المسيحيين قد يسوؤهم أن يقع هذا وأن يقول قائلهم ـ كما يقال ـ وأين المسيحية التي ندين بها، إذا لم يكن المسيح قد صلب وقام من بين الأموات؟ أمسيحية بغير المسيح مصلوبا ومقاما من بين الأموات؟ ثم أمسيحية بغير الإله يصلب في شخص المسيح، لتكفير الخطايا وغفران الذنوب؟ والجواب: ونقول لأولئك الذين يجزعون من القول بأن المسيح لم يصلب، ولم يقم من بين الأموات، ولم يكن إلها ولا ابن إله، وإنما كان عبدا من عباد الله ورسولا من رسل الله، كما يقول هو عن نفسه، وكما يصرح الإنجيل على لسانه بأنه نبيّ من أنبياء الله.. إذ جاء في إنجيل لوقا: (في ذلك اليوم تقدّم إليه بعض‏ الفرّيسيين قائلين: اخرج واذهب من هنا، لأن هيرودس ـ وكان حاكم منطقة الجليل ـ يريد أن يقتلك، فقال لهم امضوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أخرج شياطين وأشفى اليوم وغدا وفي اليوم الثالث أكمل، بل ينبغي أن أسير اليوم وغدا وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبيّ خارج أورشليم) (لوقا: 13: 31 ـ 34).. فالمسيح عند نفسه أنه نبيّ إذا كان هذا كلامه.. وهو عند أتباعه كذلك.. نبيّ إذا كان هذا مما تصوره كاتب الإنجيل.. نعم ـ نقول لهؤلاء الذين يجزعون من القول بنفي صلب المسيح وألوهيته ـ لا عليكم.. فإنكم لو أقمتم نظركم على المسيح إنسانا رسولا، والتقيتم به على هذا الوجه وتعاملتم به على تلك الصفة، لتضاعف هذا الخير الذي تركه المسيح وراءه.. في كلماته المشرقة وآياته الوضيئة، وكان لكم من هذا الزاد الطيب غذاء صالح تحيا به النفوس، وتطهر به الأرواح وتعمر القلوب.. بالحب والمودة والإخاء.. ولكان لكم في المسيح الإنسان المثل الأعلى والقدوة الصالحة، لما تنزع إليه النفوس من حق وخير وكمال في عالم البشر.. لا تجده الحياة على تمامه وكماله إلا في رسل الله وأنبيائه، وفي الصفّ الأول منهم المسيح.. الإنسان.. ابن الإنسان!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/966.

(2) تقسيم الفروع هنا ليس منهجيا، وإنما من باب التبسيط فقط

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المسيح كان لقبا لعيسى عليه السلام لقّبه به اليهود تهكّما عليه: لأنّ معنى المسيح في اللغة العبرية بمعنى الملك، كما تقدّم في قوله تعالى: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ في سورة آل عمران [45]، وهو لقب قصدوا منه التهكّم، فصار لقبا له بينهم، وقلب الله قصدهم تحقيره فجعله تعظيما له، ونظيره ما كان يطلق بعض المشركين على النبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم اسم مذمّم، قالت امرأة أبي لهب: مذمّما عصينا، وأمره أبينا، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم، يشتمون ويلعنون مذمّما وأنا محمد.

2. ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ إن كان من الحكاية: فالمقصود منه الثناء عليه والإيمان إلى أنّ الذين يتبجّحون بقتله أحرياء بما رتّب لهم على قولهم ذلك، فيكون نصب‏ ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ على المدح، وإن كان من المحكي: فوصفهم إيّاه مقصود منه التهكّم، كقول المشركين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: 6] وقول أهل مدين لشعيب‏ ﴿أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ [هود: 87] فيكون نصب (رسول الله) على النعت للمسيح.

3. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ الظاهر أنّ الواو فيه للحال، أي قولهم ذلك في حال أنّهم ما قتلوه، وليس خبرا عن نفي القتل لأنّه لو كان خبرا لاقتضى الحال تأكيده بمؤكّدات قويّة، ولكنّه لمّا كان حالا من فاعل القول المعطوف على أسباب لعنهم ومؤاخذتهم كانت تلك الأسباب مفيدة ثبوت كذبهم، على أنّه يجوز كونه خبرا معطوفا على الجمل المخبر بها عنهم، ويكون تجريده من المؤكّدات: إمّا لاعتبار أنّ المخاطب به هم المؤمنون، وإمّا لاعتبار هذا الخبر غنيّا عن التأكيد، فيكون ترك التأكيد تخريجا على خلاف مقتضى الظاهر، وإمّا لكونه لم يتلقّ إلّا من الله العالم بخفيّات الأمور فكان أعظم من أن يؤكّد.

4. عطف‏ ﴿وَمَا صَلَبُوهُ﴾ لأنّ الصلب قد يكون دون القتل، فقد كانوا ربما صلبوا الجاني تعذيبا له ثم عفوا عنه، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا﴾ [المائدة: 33]، والمشهور في الاستعمال: أنّ الصلب هو أن يوثق المعدود للقتل على خشبة بحيث لا يستطيع التحرّك ثم يطعن بالرمح أو يرمى بسهم، وكذلك كانوا يزعمون أنّ عيسى صلب ثم طعن برمح في قلبه.

5. جملة ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ استدراك، والمستدرك هو ما أفاده‏ ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ من كون هذا القول لا شبهة فيه، وأنّه اختلاق محض، فبيّن بالاستدراك أنّ أصل ظنّهم أنّهم قتلوه أنّهم توهّموا أنّهم قتلوه، وهي شبهة أوهمت اليهود أنّهم قتلوا المسيح، وهي ما رأوه ظاهرا من وقوع قتل وصلب على ذات يعتقدونها ذات المسيح، وبهذا وردت الآثار في تأويل كيفيّة معنى الشبه.

6. ﴿شُبِّهَ لَهُمْ﴾ يحتمل أن يكون معناه: أنّ اليهود الّذين زعموا قتلهم المسيح في زمانهم قد شبّه لهم مشبّه بالمسيح فقتلوه، ونجّى الله المسيح من إهانة القتل، فيكون قوله: ﴿شُبِّهَ﴾ فعلا مبنيّا للمجهول، مشتقّا من الشبه، وهو المماثلة في الصورة، وحذف المفعول الذي حقّه أن يكون نائب فاعل (شبّه) للدلالة فعل (شبّه) عليه؛ فالتقدير: شبّه مشبّه فيكون (لهم) نائبا عن الفاعل، وضمير (لهم) على هذا الوجه عائد إلى الذين قالوا: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ وهم يهود زمانه، أي وقعت لهم المشابهة، واللام على هذا بمعنى عند كما تقول: حصل لي ظنّ بكذا، والاستدراك بيّن على هذا الاحتمال، ويحتمل أن يكون المعنى ولكن شبّه لليهود الأولين والآخرين خبر صلب المسيح، أي اشتبه عليهم الكذب بالصدق، فيكون من باب قول العرب: خيّل إليك، واختلط على فلان، وليس ثمّة شبيه بعيسى ولكن الكذب في خبره شبيه بالصدق، واللام على هذا لام الأجل: أي ليس الخبر كذبه بالصدق لأجلهم، أي لتضليلهم، أي أنّ كبراءهم اختلقوه لهم ليبردوا غليلهم من الحنق على عيسى إذ جاء بإبطال ضلالاتهم، أو تكون اللام بمعنى ـ على ـ للاستعلاء المجازي، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: 7]، ونكتة العدول عن حرف ـ على ـ تضمين فعل شبّه معنى صنع، أي صنع الأحبار هذا الخبر لأجل إدخال الشبهة على عامّتهم.

7. في الأخبار أنّ (يهوذا الاسخريوطي) أحد أصحاب المسيح، وكان قد ضلّ ونافق، هو الذي وشى بعيسى عليه السلام وهو الذي ألقى الله عليه شبه عيسى، وأنّه الذي صلب، وهذا أصله في إنجيل برنابي أحد تلاميذ الحواريين، وهذا يلائم الاحتمال الأول، ويقال: إنّ (بيلاطس)، والي فلسطين، سئل في رومة عن قضية قتل عيسى وصلبه فأجاب بأنّه لا علم له بشيء من هذه القضية، فتأيّد بذلك اضطراب النّاس في وقوع قتله وصلبه، ولم يقع، وإنّما اختلق اليهود خبره، وهذا يلائم الاحتمال الثاني.

8. الّذي يجب اعتقاده بنصّ القرآن: أنّ المسيح لم يقتل، ولا صلب، وأنّ الله رفعه إليه ونجّاه من طالبيه، وأمّا ما عدا ذلك فالأمر فيه محتمل، وقد تقدّم الكلام في رفعه في قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ في سورة آل عمران [55]

9. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ يدلّ على وقوع خلاف في شأن قتل المسيح، والخلاف فيه موجود بين المسيحيين: فجمهورهم يقولون: قتلته اليهود، وبعضهم يقول: لم يقتله اليهود، ولكن قتلوا يهوذا الاسخريوطي الذي شبّه لهم بالمسيح، وهذا الاعتقاد مسطور في إنجيل برنابي ـ الذي تعتبره الكنيسية اليوم كتابا محرّفا ـ فالمعنى أنّ معظم النّصارى المختلفين في شأنه غير مؤمنين بصلبه، بل يخالج أنفسهم الشكّ، ويتظاهرون باليقين، وما هو باليقين، فما لهم به من علم قاطع إلّا اتّباع الظنّ، فالمراد بالظنّ هنا: معنى الشكّ، وقد أطلق الظنّ على هذا في مواضع كثيرة من كلام العرب، وفي القرآن‏ ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]، وفي الحديث الصحيح: (إيّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث)؛ فالاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ منقطع، كقول النابغة:

çحلفت يمينا غير ذي مثنوية...ولا علم إلّا حسن ظنّ بصاحب‏é

10. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ يجوز أن يكون معطوفا على قوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ ويجوز أن يعطف على قوله: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾، واليقين: العلم الجازم الذي لا يحتمل الشكّ، فهو اسم مصدر، والمصدر اليقن بالتحريك، يقال: يقن كفرح ييقن يقنا، وهو مصدر قليل الاستعمال، ويقال: أيقن يوقن إيقانا، وهو الشائع.

11. ﴿يَقِينًا﴾ يجوز أن يكون نصب على النيابة عن المفعول المطلق المؤكّد لمضمون جملة قبله: لأنّ مضمون: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ بعد قوله: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ يدلّ على أنّ انتفاء قتلهم إيّاه أمر متيقّن، فصحّ أن يكون يقينا مؤكّدا لهذا المضمون، ويصحّ أن يكون في موضع الحال من‏ الواو في‏ ﴿قَتَلُوهُ﴾، أي ما قتلوه متيقّنين قتله، ويكون النفي منصبّا على القيد والمقيّد معا، بقرينة قوله قبله‏ ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾، أي: هم في زعمهم قتله ليسوا بموقنين بذلك للاضطراب الذي حصل في شخصه حين إمساك من أمسكوه، وعلى هذا الوجه فالقتل مستعمل في حقيقته، وضمير النصب في‏ ﴿قَتَلُوهُ﴾ عائد إلى عيسى ابن مريم عليه السلام، ويجوز أن يكون القتل مستعملا مجازا في التمكّن من الشيء والتغلّب عليه كقولهم: قتل الخمر إذا مزجها حتّى أزال قوّتها، وقولهم: قتل أرضا عالمها، ومن شعر (الحماسة) في باب الهجاء:

çيروعك من سعد ابن عمرو جسومها...وتزهد فيها حين تقتلها خبرا é

وقول الشاعر:

çكذلك تخبر عنها العالمات بها...وقد قتلت بعلمي ذلكم يقنا é

وقول الآخر:

çقتلتني الأيام حين قتلتها...خبرا فأبصر قاتلا مقتولاé

12. ضمير النصب في‏ ﴿قَتَلُوهُ﴾ عائد إلى العلم من قوله تعالى:‏ ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾، فيكون‏ ﴿يَقِينًا﴾ على هذا تمييزا لنسبة ﴿قَتَلُوهُ﴾، ولذلك كلّه أعقب بالإبطال بقوله: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ أي فلم يظفروا به.

13. الرفع: إبعاده عن هذا العالم إلى عالم السماوات، و(إلى) إفادة الانتهاء المجازي بمعنى التشريف، أي رفعه الله رفع قرب وزلفى، وقد تقدّم الكلام على معنى هذا الرفع، وعلى الاختلاف في أنّ عيسى عليه السّلام بقي حيّا أو أماته الله، عند قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ في سورة آل عمران [55]

14. التذييل بقوله: ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ ظاهر الموقع لأنّه لمّا عزّ فقد حقّ لعزّه أن يعزّ أولياءه، ولمّا كان حكيما فقد أتقن صنع هذا الرفع فجعله فتنة للكافرين، وتبصرة للمؤمنين، وعقوبة ليهوذا الخائن.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/306.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ هذه إحدى جرائمهم الكبرى، سؤال وإشكال: ولكن هل قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم يعد جريمة؟ والجواب: أن ما يدل عليه بطريق التضمن هو جريمة، والقول ذاته جريمة؛ وذلك لأن القول يدل على أنهم أرادوا قتله، واتخذوا كل السبل لذلك، فدسوا عليه عند الرومان، وكذبوا عليه وافتروا، وحاولوا أن يسلموه ليصلب، وسلموه في زعمهم، ولكن الله سبحانه وتعالى أنقذه بإلقاء الشبه على أحد الذين دبروا القتل، وكل هذه جرائم، ومن المقرر فقها وقانونا أن من شرع في ارتكاب جريمة واتخذ كل الأسباب وفعل فعلها، ولكن لم تتم بأمر ليس في إرادته يعد مجرما، وظالما يستحق العقاب فكان القول مبنيا على إجرام، ثم القول ذاته إجرام؛ لأنه تهجم بالكذب على مقام الرسول المبعوث لهم، ثم هم قالوا هذا القول، وقد قامت البينات على صدق رسالته وعلى أنه لم يمت.

2. سؤال وإشكال: قوله: ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ أهي من مقول اليهود أم هي من وصف الله تعالى لمن قالوا فيه؟ والجواب: يجوز الأمران، وعلى الأول يكون كلامهم فيه نوع من السخرية بالرسالة والرسول كأنهم يقولون إن الله تعالى لم يحمه منهم، وعلى الثاني يكون المعنى أنهم قالوا فيه ما قالوا، وأرادوا به ما أرادوا، وقد قامت الأدلة على أنه رسول الله، وسينزل بهم العقاب على ما فعلوا وأرادوا وقالوا: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾

3. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ فما ذهبت روحه عليه السلام بقتل أنزلوه‏ ﴿وَمَا صَلَبُوهُ﴾، وما كان صلب لأنه لم يكن قتل، ولكن شبه الأمر عليهم، فظنوا المقتول المصلوب هو المسيح، وما كان هو، بل كان المصلوب المقتول غيره، فخيل إليهم أنه قتل وصلب، وما كان كذلك.

4. سؤال وإشكال: لماذا ذكر نفى الصلب بعد نفى القتل مع أن نفى القتل يقتضى ألا يكون صلب؛ لأن الصلب لا يكون إلا لمقتول؟ والجواب: أن هذا تأكيد في النفي ولأن النصارى واليهود يدعون أنه صلب، فلا بد من النص على نفى الصلب، ليكون ردا على هذه الدعوى، ولو اقتصر على نفى القتل ما كان التصريح برد الدعوى، ورد الدعاوى لا يكتفى فيه ما تضمن عن التصريح، ولو نفى الصلب فقط ما اقتضى نفى القتل، فكان النسق البليغ مقتضيا نفيهما معا.

5. وقد نسب القتل المنفى إليهم مع أن التاريخ والأناجيل تثبت أن القتل المنفى والصلب كان من حاكم الرومان، ولكن بتحريض اليهود؛ وذلك لأنهم هم الذين ألحوا في طلب القتل حتى إن الروماني يلقى عليهم تبعة قتله، والمحرض قاتل، والشاهد الكاذب قاتل، وكل متسبب يعد قاتلا، وهؤلاء قاموا بكل ذلك، فقد دبروا شهادات الزور، وحرضوا وتسببوا فكانوا بهذا قاتلين كفعل الجبناء، ولكن الله تعالى أنقذه منهم ومن الرومان معا.

6. والتشبيه لهم بأن خلق الله تعالى شبهه على أحد الذين خانوه، ودبروا القتل، وقد جاء ذلك في إنجيل برنابا الذى عثر عليه في خزانة أحد البابوات في آخر القرن الخامس عشر، فقد جاء في هذا الإنجيل الذى لا يوجد ما يدل على أنه ليس في قوة أناجيلهم: (إن يهوذا الأسخريوطى الذى كان عينا على السيد المسيح عليه السلام قد ألقى الله تعالى عليه، شكل السيد المسيح فقبض عليه على أنه هو، فقد قال برنابا في هذا: (الحق أقول: إن صوت يهوذا ووجهه وشخصه بلغت من الشبه بيسوع أن اعتقد تلاميذه والمؤمنون به كافة أنه يسوع، كذلك خرج بعضهم من تعاليم يسوع معتقدين أن يسوع كان نبيا كاذبا، وإنما الآيات التي فعلها بصناعة السحر؛ لأن يسوع قال إنه لا يموت إلى وشك انقضاء العالم، لأنه سيؤخذ في ذلك الوقت من العالم) ثم يبين أن يسوع رفع إلى السماء، ولما علم أن بعض المتبعين ضلوا طلب إلى الله تعالى أن ينزله إلى الأرض فنزل بعد ثلاثة أيام؛ ويقول برنابا: (ووبخ كثيرين ممن اعتقدوا أنه مات وقام قائلا: أتحسبونني أنا!؟ والله كافر بالله؛ لأن الله وهبنى أن أعيش حتى قبيل انقضاء العالم، كما قد قلت لكم، الحق أقول لكم أنى لم أمت، بل يهوذا الخائن، احذروا لأن الشيطان سيحاول جهده أن يخدعكم ولكن كونوا شهودى في كل إسرائيل وفى العالم كله، لكل الأشياء التي رأيتموها وسمعتموها)

7. ومن هذا يتبين معنى أنه خيل لهم أنهم قتلوه، وما قتلوه، وأنهم قد اعتراهم الشك من بعد ذلك في أمره، ولذا قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ ولقد اختلف اليهود والمسيحيون في شأن السيد المسيح، فمنهم من أنكر أنه نبي ومنهم من زعم أن فيه عنصرا إلهيا مع العنصر الإنساني ومنهم من زعم أنه ابن الله تعالى وأن النبوة ليست نبوة ألوهية، إنما هي نبوة ثقة ومحبة ورحمة، ومنهم من قال إن الذى ولدته مريم هو العنصر الإنساني وفاض عليه من بعد العنصر الإلهي ومنهم من قال إن مريم ولدت العنصرين، ومنهم من قال إن كلام عيسى وإرادته هي من العنصر الإنساني ومنهم من قال إن الإرادة وليدة العنصرين.

8. وهكذا كان الاختلاف، وكل كون طائفة وحزبا، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ إلى أن قال تعالى: ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [مريم‏]، ولا يزالون يختلفون حول حقيقة المسيح وصلبه، ومع أن اليهود هم الذين سعوا بلا ريب لقتله، ولكن ردهم الله تعالى على أعقابهم خاسرين، وأبطل الله مكرهم وكيدهم، مع هذا تجد الآن المجمع المسكونى المسيحي قام باقتراح قسيس‏ ألمانى يدرس تبرئة اليهود من دم المسيح، وأيد ذلك الزعم كبير أساقفة إنجلترا وهم بذلك يضربون بنصوص أناجيلهم عرض الحائط، وإن هذا مصداق لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ فهم في ريب دائم، ولا يؤمنون بشيء مما يقولون ويزعمون، وما هم يتبعون الا الظن، فيظنون ويتوهمون، ثم يحكمون بالظن والوهم.

9. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ أكد الله سبحانه وتعالى نفى قتل السيد المسيح الذى حاوله اليهود، فقال تعالت كلماته: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾، وهنا تأويلان لكلمة ﴿يَقِينًا﴾:

أ. الأول: أنها وصف لمحذوف، والمعنى وما قتلوه قتلا قد استيقنوا به وتأكدوه، وهذا فيه ترشيح للاختلاف والشك الذى اعتراهم.

ب. الثاني: أنها تأكيد للنفي والمعنى وما قتلوه حقا وصدقا، فاليقين منصب على النفي أي أن نفى كونه قتل أمر مستيقن مؤكد، وليس ظنا كظنكم، ولا وهما كوهمكم.

10. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ إضراب بياني فيه رد لزعمهم القتل، والمعنى بل إنه لم يقتل، وأن الله رفعه إليه، وظاهر القول أن الرفع كان بجسده وروحه، لا بروحه فقط، وبهذا جاء التفسير المأثور، وعليه أكثر المفسرين، وأيدته السنة، وإن كانت أخبار آحاد، وقد فسر بعض العلماء الرفع بأنه رفع الروح، وأخذوا ذلك من قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران‏]، فبمقتضى النسق الظاهر يكون الرفع عقب الوفاة.

11. وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾، وفيه وصف الله تعالى الدائم بأنه العزيز الرفيع الجناب الذى لا يلجأ إليه أحد إلا أعزه، وأعلى قدره، وحماه، كما فعل مع ابن مريم وغيره من أنبيائه عليهم السلام، وهو الحكيم الذى يضع الأمور في مواضعها.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1951.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾، وصفوه برسول‏ الله تهكما به وبدعوته.

2. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾، لما صمم اليهود على قتل السيد المسيح ألقى الله شبهه على أحد المجرمين المستحقين للقتل، وقيل: ان هذا المجرم هو يهوذا الذي قاد الحملة ضد عيسى، فأخذه اليهود، وعذبوه وصلبوه معتقدين انه السيد المسيح، وبعد الصلب فقدوا صاحبهم، فارتبكوا وتحيروا، وقالوا: ان كان المصلوب عيسى فأين صاحبنا؟ وان كان المصلوب صاحبنا فأين عيسى؟

3. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾، اختلف اليهود والنصارى في السيد المسيح عليه السلام، ووقفوا منه موقفين متناقضين، فقال اليهود: هو ابن زنا، وقال النصارى هو ابن الله، وأيضا قال اليهود: صلبناه، ودفن تحت الأرض إلى غير رجعة، وقال النصارى: انه صلب ودفن، ولكنه قام من تحت التراب، ورجع إلى الدنيا بعد ثلاثة أيام.

4. فرد الله سبحانه على الجميع بقوله: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾، والظن لا يغني عن الحق شيئا، والحق اليقين الذي لا ريب فيه هو ما أنبأنا الله به في قوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾، هذه هي الحقيقة رفع إلى الله تعالى، لا قتل ولا صلب.

5. سؤال وإشكال: هنا تتوارد الأسئلة: كيف حصل الرفع؟ ومتى؟ قبل صلب الشبيه، أو بعده؟ وهل الرفع كان بالروح فقط، أو بها وبالجسد؟ وهل رفع إلى السماء الثانية: أو الثالثة، أو غيرها؟ وماذا يصنع هناك؟ وهل ينزل قبيل الساعة إلى الأرض؟ والجواب: إلى غير ذلك من الأسئلة التي أجاب عنها القصاصون بما يشبه الأساطير، والقرآن الكريم لم يتعرض لشيء من ذلك من قريب أو بعيد، وكل ما دلت عليه آياته ان السيد المسيح لم يقتل ولم يصلب، وان الله رفعه اليه، وان الذي قتل أو صلب شخص آخر، تخيل القتلة انه المسيح، ولا شيء في القرآن أكثر من ذلك، ونحن لا نخرج عن نصوصه في مثل هذا الموضوع إلا بحديث متواتر.. بل لا نهتم بهذه الأسئلة وأجوبتها ما دمنا غير مسؤولين عنها، ولا مكلفين بها، وسبق أن تعرضنا لما قيل في المسيح عند تفسير الآية 58 من سورة آل عمران، فقرة الاختلاف في عيسى، وللتفكيه ننقل هذه الاسطورة عن بعض التفاسير، تقول الاسطورة: ان الله‏ رفع عيسى اليه، وكساه حلة من نور، وأنبت له جناحين من ريش، ومنعه من الطعام والشراب، وصيره من الملائكة يطير معهم حول العرش، وجعل فيه طبيعتين: ناسوتية، وملائكية.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/485.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ قد تقدم في قصص عيسى عليه السلام في سورة آل عمران أنهم اختلفوا في كيفية قتله صلبا وغير صلب فلعل حكايته تعالى عنهم دعوى قتله أولا ثم ذكر القتل والصلب معا في مقام الرد والنفي لبيان النفي التام بحيث لا يشوبه ريب فإن الصلب لكونه نوعا خاصا في تعذيب المجرمين لا يلازم القتل دائما، ولا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق القتل، وقد اختلف في كيفية قتله فمجرد نفي القتل ربما أمكن أن يتأول فيه بأنهم ما قتلوه قتلا عاديا، ولا ينافي ذلك أن يكونوا قتلوه صلبا فلذلك ذكر تعالى بعد قوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ قوله: ﴿وَمَا صَلَبُوهُ﴾ ليؤدي الكلام حقه من الصراحة، وينص على أنه عليه السلام لم يتوف بأيديهم لا صلبا ولا غير مصلوب، بل شبه لهم أمره فأخذوا غير المسيح عليه السلام مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه، وليس من البعيد عادة، فإن القتل في أمثال تلك الاجتماعات الهمجية والهجمة والغوغاء ربما أخطأ المجرم الحقيقي إلى غيره وقد قتله الجنديون من الروميين، وليس لهم معرفة بحاله على نحو الكمال فمن الممكن أن يأخذوا مكانه غيره، ومع ذلك فقد وردت روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على غيره فأخذ وقتل مكانه.

2. وربما ذكر بعض محققي التاريخ أن القصص التاريخية المضبوطة فيه عليه السلام والحوادث المربوطة بدعوته وقصص معاصريه من الحكام والدعاة تنطبق على رجلين اثنين مسميين بالمسيح ـ وبينهما ما يزيد على خمسمائة سنة ـ: المتقدم منهما محق غير مقتول، والمتأخر منهما مبطل مصلوب، وعلى هذا فما يذكره القرآن من التشبيه هو تشبيه المسيح عيسى بن مريم رسول الله بالمسيح المصلوب.

3. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أي اختلفوا في عيسى أو في قتله‏ ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ أي في جهل بالنسبة إلى أمره‏ ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ وهو التخمين أو رجحان ما بحسب ما أخذه بعضهم من أفواه بعض.

4. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي ما قتلوه قتل يقين أو ما قتلوه أخبرك خبر يقين، وربما قيل: إن الضمير في قوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ راجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم يقينا، وقتل العلم لغة تمحيضه وتخليصه من الشك والريب، وربما قيل: إن الضمير يعود إلى الظن أي ما محضوا ظنهم وما تثبتوا فيه، وهذا المعنى على تقدير ثبوته معنى غريب لا يحمل عليه لفظ القرآن.

5. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ وقد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران فقال: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: 55] فذكر التوفي ثم الرفع.

6. وهذه الآية بحسب السياق تنفي وقوع ما ادعوه من القتل والصلب عليه فقد سلم من قتلهم وصلبهم، وظاهر الآية أيضا أن الذي ادعي إصابة القتل والصلب إياه، وهو عيسى عليه السلام بشخصه البدني هو الذي رفعه الله إليه، وحفظه من كيدهم فقد رفع عيسى بجسمه وروحه لا أنه توفي ثم رفع روحه إليه تعالى فهذا مما لا يحتمله ظاهر الآية بمقتضى السياق فإن الإضراب الواقع في قوله: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ لا يتم بمجرد رفع الروح بعد الموت الذي يصح أن يجامع القتل والموت حتف الأنف، فهذا الرفع نوع التخليص الذي خلصه الله به وأنجاه من أيديهم سواء كان توفي عند ذلك بالموت حتف الأنف أو لم يتوف حتف الأنف ولا قتلا وصلبا بل بنحو آخر لا نعرفه أو كان حيا باقيا بإبقاء الله بنحو لا نعرفه فكل ذلك محتمل.

7. وليس من المستحيل أن يتوفى الله المسيح ويرفعه إليه ويحفظه، أو يحفظ الله حياته على نحو لا ينطبق على العادة الجارية عندنا فليس يقصر عن ذلك سائر ما يقتصه القرآن الكريم من معجزات عيسى نفسه في ولادته وحياته بين قومه، وما يحكيه من معجزات إبراهيم وموسى وصالح وغيرهم، فكل ذلك يجري مجرى واحدا يدل الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلا ما تكلفه بعض الناس من التأويل تحذرا من لزوم خرق العادة وتعطل قانون العلية العام، وقد مر في الجزء الأول من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الإعجاز وخرق العادة.. وبعد ذلك كله فالآية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياته عليه السلام وعدم توفيه بعد.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/133.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾ ﴿وَقَوْلِهِمْ﴾ عطف على ﴿نَقْضِهِمْ﴾ وهذا القول جريمة مع كونه كذباً؛ لأنهم افتخروا بما يدعونه وهو منكر عظيم لو كان والجمع بين الأسماء لتحقيق أنه المقصود بالافتخار بقتله، وهذه جرأة منهم عظيمة، ودليل على عناد شديد، و﴿الْمَسِيحُ﴾ وعِيسَى اسمان مترادفان و﴿رَسُولُ اللهِ﴾ وصف محقق لدفع استبعاد أن يكون هو المقصود، وللدلالة على أنهم لم يبالوا بكونه رسول الله.

2. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ الصلب: تعليق الإنسان على خشبة أو نحوها مشدود إليها، قال الشرفي في (المصابيح) ـ حاكياً عن المرتضى محمد بن الهادي إلى الحق عليهما السلام، وهو المراد أينما ذكره في (المصابيح) ـ قال: (أراد الله سبحانه بذلك عيسى صلوات الله عليه لما أخذه الظالمون ليهلكوه وسجنوه في البيت لقتلوه [كذا والصواب: ليقتلوه] فسلمه الله من كيدهم ودفع عنه ما هموا به من عظيم كفرهم، وألبس الكافر الذي يحرسه شبه عيسى في صورته وخلقه فلم يفرقوا عند ذلك بينه وبين عيسى عليه السلام في شيء من أمره فلما أن نهضوا لقتل عيسى ـ صلى الله عليه ـ وجدوا صاحبهم في مكانه فقتلوه ولم يشكوا فيه عندما عاينوه أنه عيسى ـ صلى الله عليه ـ فأخبرهم عزَّ وجل عنه، فقال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ ثم رفعه الله عنهم، وأخرجه من بينهم سالماً مسلّماً)

3. ﴿الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أهل الكتاب الكافر برسالته والمدعي لإلهيته، والمدعى أنه ابن الله كلهم في ﴿شَكٍّ مِنْهُ﴾ وإن ادعوا أنه قتل وصلب فهم مترددون في ذلك، والشك التردد في الشيء تردداً متساوياً أو راجحاً ومرجوحاً فيسمى شكاً باعتبار التردد وعدم العلم، ولذلك يعبر عن العلم بنفي الشك فتقول هذا الأمر واقع لا شك فيه، قال في (الصحاح): (الشك خلاف اليقين)، وفي (لسان العرب): (الشك نقيض اليقين)، وفي (القاموس): (الشك: خلاف اليقين)

4. فقوله تعالى: ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ إثباتٌ لترددهم في قتله وصلبه، ثم قال تعالى تصريحاً بعدم علمهم بذلك فقال: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ فهو تأكيد لإثبات الشك، وقوله تعالى: ﴿إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ أي لكن اتباع الظن زعموا أنهم قتلوه في قولهم: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ﴾ والظن اعتقاد راجح مع بقاء التردد، فهم اتبعوا الظن في دعوى قتله بسبب أنه شبه لهم فظنوا أنهم قتلوه ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي وما تيقنوا أنهم قتلوه هذا حاصل المعنى. فكأنه قيل: وما قتلوه قتلاً يقيناً، أي متيقناً

5. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ كما مر في سورة آل عمران، ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ فرفْع عيسى لم يكن لقوة أعدائه؛ لأن الله لو شاء أهلكهم في لحظة، ولكن اقتضت حكمته رفعه فرفعه مع عزته وحكمته، ومن العجيب دعواهم أنه إله، مع أنهم يقولون: إنه قتل وصلب، ويحملون صورة الصليب ويتبركون بها في ملابسهم، وذلك دليل على أنهم أهملوا عقولهم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/208.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وماذا بعد ذلك؟ ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾ لقد قالوا، بزهو الطغاة الذين يحسون بطعم النصر في المعركة: إنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم صلبا، ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ ولكن الله ينفي هذه الفرية فيؤكد أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ ولكنهم توهّموا ذلك لأنه شبّه لهم الأمر، وقيل في تأويل ذلك إن معناه: أن الله ألقى شبه عيسى على شخص، فكان هو المصلوب لا عيسى، وقيل: إن معناه، أنه شبّه لهم القتل، ولكن ذلك لم يحصل، بل كانت القضية مجرد تخيّل.

2. وتحولت القضية بعد ذلك إلى مجال للخلاف بين من يؤكد القتل والصلب، وبين من ينفيهما، ولكنّ القوم لم يرتكزوا في إثباتهم على أساس من العلم أو الحجة، بل استندوا إلى ظنون وتخمينات ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾

3. ثم يؤكد الله أنهم لم يقتلوه يقينا ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)﴾، فلا شك في هذه الجهة، ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ بل رفعه الله إليه بروحه وجسده، كما قال به بعض المفسرين، أو بروحه بعد أن قبضه الله إليه بطريقة عادية غير ظاهرة للناس؛ وكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً، فيما يفعل ويقدّر.

4. نحن لا نريد ـ في هذا الحديث ـ أن ندخل في تفاصيل الوجوه التي تحدث عنها المفسرون، لأن الأسلوب القرآني أجمل المسألة ولم يدخل في‏ التفاصيل، لأنها لا تمثل شأنا كبيرا من شؤون العقيدة والعمل، بل كل ما هناك أن الله ساقها في مقام تعداد الانحرافات التي انحراف بها اليهود في إشارات خاطفة، وربما كان تصور البعض منها يحتاج إلى علم من الغيب لا نملكه ولا نملك الحجة عليه، مما تقوم به الحجة على الناس؛ وقد يكون في هذا الوقوف عند الأسلوب القرآني، فيما أجمله وما فصّله، فائدة كبري في التخلص من كثير من القصص التي دخلها الخيال من قبل الرواة والقصاصين الذين أرادوا إرضاء فضول الناس، وذلك في الدخول في تفصيل ما أجمله القرآن وما لم يبيّنه لهم؛ فأدخلنا ذلك في متاهات كبيرة من الأكاذيب والأساطير.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏‏7/535.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تباهي هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء، وزعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾ ولعل هؤلاء كانوا يأتون بعبارة (رسول الله) استهزاء ونكاية، وقد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، بل صلبوا شخصا شبيها بعيسى المسيح عليه السّلام، وإلى هذه الواقعة تشير الآية بقولها: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾

2. وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيح عليه السّلام كانوا ـ هم أنفسهم ـ في شك من أمرهم، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن، تقول الآية: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾

3. بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية، فاحتمل بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة ومقام المسيح عليه السّلام حيث اعتبره جمع من المسيحيين ابنا للّه، ورفض البعض الآخر ـ كاليهود ـ كونه نبيّا، وإن كل هؤلاء كانوا على خطأ من أمرهم، وقد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيح عليه السّلام حيث قال البعض بأنّه قتل، وقال آخرون بأنّه لم يقتل، ولم يكن أي من هاتين الطائفتين ليثق بقول نفسه، أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم بالمسيح عليه السّلام، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح، أو هو شخص غيره!؟ ويأتي القرآن ليؤكّد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبدا، بل رفعه الله إليه، والله هو القادر على كل شيء وهو الحكيم لدى فعل أي شيء تقول الآية: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾

4. يؤكّد القرآن الكريم في الآية الكريمة على أنّ المسيح عليه السّلام لم يقتل ولم يصلب، بل اشتبه الأمر على اليهود فظنوا أنّهم صلبوه، وهم لم يقتلوه أبدا! أمّا الأناجيل الأربعة الموجودة اليوم في متناول أيدينا فهي كلها تقول بأنّ‏ المسيح عليه السّلام قد صلب وقتل على هذه الصورة، وقد جاء هذا القول في الفصول الأخيرة من هذه الأناجيل الأربعة (متى ـ لوقا ـ مرقس ـ يوحنا) وبصورة تفصيلية.

5. والمسيحيون اليوم يعتقدون بهذا الأمر بصورة عامّة، ومسألة الصلب أو قتل المسيح عليه السّلام تعتبر اليوم أحد أهم المسائل الأساسية للديانة المسيحية، ونحن نعلم أنّ المسيحيين اليوم لا يعتبرون المسيح عليه السّلام مجرّد نبي أرسل لهداية وإرشاد البشرية، بل يعتقدون بأنّه (ابن الله) من أركان الثالوث المقدس لديهم، ويزعمون بأنّ هدف مجيء المسيح إلى هذا العالم ليكون قربانا يفتدي بنفسه مقابل الخطايا والآثام التي يرتكبها البشر، فيقولون: إنّه جاء ليضحي بنفسه من أجل ذنوبهم وخطاياهم، وقد صلب وقتل ليغسل بدمه ذنوب البشر، ولينقذ البشرية من العقاب، ولذلك فهم يعتقدون بأنّ طريق الخلاص والنجاة من العذاب والعقاب هو الإيمان بهذا الموضوع.

6. ومن هذا المنطلق فهم ـ أحيانا ـ يدعون المسيحية بدين (الإنقاذ) أو دين (الفداء) ويسمّون المسيح عليه السّلام بـ (المنقذ) أو (المخلص) أو (الفادي)، واعتمادهم المفرط على الصليب واتخاذه شعارا لأنفسهم إنّما يرتكز على قضية القتل والصلب هذه.

7. كانت تلك نبذة عن عقيدة المسيحيين حول مصير المسيح عليه السّلام، أمّا المسلمون فلا يشك أحدهم ببطلان وزيف هذه العقيدة، والسبب هو:

أ. أنّ المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام، كان نبيّا كسائر أنبياء الله أوّلا، ولم يكن هو الله ولا ابن الله، لأن الله واحد أحد فرد صمد لا شبيه ولا مثيل ولا زوج له ولا ولد.

ب. وثانيا: إنّ مسألة الفداء والتضحية من أجل خطايا الآخرين، تعتبر مسألة بعيدة عن المنطق كل البعد، فكل إنسان يؤاخذ بجريرته وعمله، وإنّ طريق النجاة والخلاص يكون في الإيمان والعمل الصالح فقط.

ج. وثالثا: إنّ عقيدة الفداء من أجل الخطايا تعتبر خير مشجع على الفساد وممارسة الذنوب، وتؤدي بالبشرية إلى التلوث والهلاك، وحين تلاحظ أن القرآن يؤكّد على قضية عدم صلب المسيح عليه السّلام مع أنّ هذه القضية تظهر للعيان وكأنّها مسألة اعتيادية بسيطة، من أجل دحض عقيدة الفداء الخرافية بشدّة، لمنع المسيحيين من الإيغال في هذا الإعتقاد الفاسد، ولكي يؤمنوا بأنّ طريق الخلاص والنجاة إنّما هو في أعمالهم هم أنفسهم وليس في ظل الصليب.

د. رابعا: هناك قرائن موجودة تثبت وهن وضعف قضية الإعتقاد بصلب المسيح عليه السّلام هي:

المعروف أنّ الأناجيل الأربعة المتداولة في الوقت الحاضر، والتي تشهد بصلب المسيح عليه السّلام ـ كانت قد دوّنت بعده بسنين طويلة، وقد دوّنها حواريوه أو التالون من أنصاره عليه السّلام ـ وهذه حقيقة يعترف بها حتى المؤرخون المسيحيون.

كما نعرف أيضا أنّ حواري المسيح عليه السّلام قد هربوا حين هجم الأعداء عليه، والأناجيل نفسها تشهد بهذا الأمر، وعلى هذا الأساس فإنّ هؤلاء الحواريين قد تلقفوا مسألة صلب عيسى المسيح عليه السّلام من أفواه الناس الآخرين، ولم يكونوا حاضرين أثناء تنفيذ عملية الصلب، وقد أدت التطورات التي حصلت آنذاك إلى تهيئة الأجواء المساعدة للاشتباه بشخص آخر وصلبه بدل المسيح عليه السّلام، وسنوضح هذا الأمر فيما يلي من حديثنا.

إنّ العامل الآخر الذي يجعل من الاشتباه بشخص آخر بدل المسيح عليه السّلام أمرا محتملا هو أنّ المجموعة التي كلّفت بالقبض على عيسى المسيح عليه السّلام والتي ذهبت إلى بستان (جستيماني) هذه المجموعة كانت تتشكل من أفراد الجيش الرومي الذين كانوا منهمكين في أمور عسكرية، فهم لم يكونوا يعرفون اليهود ولغتهم وتقاليدهم، كما لم يميزوا بين حواري المسيح عليه السّلام وبين المسيح نفسه.

تذكر الأناجيل أن الهجوم على مقر عيسى المسيح عليه السّلام قد تمّ ليلا، وبديهي أنّ ظلام الليل يعتبر خير ستار للشخص المطلوب ليتخفى به ويهرب، وليقع شخص آخر في أيدي المهاجمين.

يستنتج من نصوص جميع الأناجيل أنّ المقبوض عليه قد اختار الصمت أمام (بيلاطيس) الحاكم الرومي لبيت المقدس ـ آنذاك ـ ولم يتفوه إلّا بالقليل دفاعا عن نفسه ويستبعد كثيرا أن يقع عيسى المسيح عليه السّلام في خطر كهذا ولا يدافع عن نفسه بما يستحقه الدفاع عن النفس، وهو المعروف بالفصاحة والبلاغة والشجاعة والشهامة، ألا يحتمل في هذا المجال أن يكون شخص آخر كـ (يهوذا الأسخربوطي) الذي خان ووشى بعيسى المسيح عليه السّلام وكان يشبهه كثيرا ـ قد وقع هو بدل المسيح في الأسر وأنّه لهول الموقف قد استولى عليه الخوف والرعب، فعجز عن الدفاع عن نفسه أو التحدث أمام الجلادين بشيء نقرأ في الأناجيل أنّ (يهوذا الأسخربوطي) لم يظهر بعد حادثة الصّلب أبدا، وأنّه ـ كما تقول هذه الأناجيل ـ قد قتل نفسه وانتحر.

لقد بيّنا أنّ حواري المسيح عليه السّلام ـ وكما ذكرت الأناجيل ـ قد هربوا حين أحسوا بالخطر يحدق بهم، كما هرب واختفى الأنصار الآخرون، وأخذوا يراقبون الأوضاع عن بعد، بحيث أصبح الشخص المقبوض عليه وحيدا بين الجنود الرومان، ولم يكن أي من أصحابه قريبا منه، ولذلك لا يستبعد ولا يبدو غريبا أن يقع خطأ أو سهو في تشخيص هوية الشخص المقبوض عليه.

ونقرأ في الأناجيل ـ أيضا ـ أنّ الشخص المصلوب قد اشتكى من ربه‏ (وليس لربّه) لأنّه ـ بحسب قوله ـ قد جفاه وتركه بأيدي الأعداء ليقتلوه‏! فلو صدقنا مقولة أنّ المسيح جاء لهذه الدنيا ليصلب ولينقذ بصلبه البشرية من عواقب خطاياهم وآثامهم، فلا يليق لمن يحمل هدفا ساميا كهذا الهدف أن يصدر منه هذا الكلام، وهذا دليل على أن الشخص المصلوب لم يكن المسيح نفسه، بل كان إنسانا ضعيفا وجبانا، وعاجزا، ومثل هذا الإنسان يمكن أن يصدر منه كلام كالذي سبق، لا يمكن أن يكون هذا الإنسان هو المسيح عليه السّلام‏.

لقد نفت بعض الأناجيل الموجودة مثل إنجيل (برنابا) قضية صلب المسيح عليه السّلام (وهذا الإنجيل هو غير الأناجيل الأربعة التي يقبلها المسيحيون) كما أنّ بعضا من الطوائف المسيحية أبدت شكوكها حول قضية الصلب‏، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أبعد من هذا، فادعوا بأن التاريخ قد ذكر شخصين باسم (عيسى)، أحدهما عيسى المصلوب والآخر هو عيسى غير المصلوب وبينهما فاصل زمني يقدر بخمسمائة عام‏.

8. كانت تلك مجموعة من القرائن المؤيدة لقول القرآن الكريم في قضية الشبه الحاصل في قتل أو صلب المسيح عليه السّلام.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/522.

138. المسيح والإيمان به قبل موته

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈138⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ [النساء: 159]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

أبو هريرة:

روي عن أبي هريرة (ت 58 هـ) أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة خيرا من الدنيا وما فيها)، ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾(1).

__________

(1) البخاري ٣/٨٢.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، قبل موت عيسى(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، خروج عيسى ابن مريم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، هي في قراءة أبي بن كعب: (قبل موتهم)، قال ليس يهودي يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى، قيل لابن عباس: أرأيت إن خر من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهواء، فقيل: أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال يتلجلج بها لسانه(3).

4. روي أنّه قال: لا يموت يهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، ولو عجل عليه بالسلاح(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، لو أن يهوديا ألقي من فوق قصر ما خلص إلى الأرض حتى يؤمن أن عيسى عبد الله ورسوله(5).

6. روي أنّه قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى، قيل: وإن ضرب بالسيف؟ قال: يتكلم به، قيل: وإن هوى؟ قال: يتكلم به وهو يهوي(5).

7. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، ليس من يهودي يموت حتى يؤمن بعيسى ابن مريم، فقال له رجل من أصحابه: كيف والرجل يغرق، أو يحترق، أو يسقط عليه الجدار، أو يأكله السبع؟ فقال: لا تخرج روحه من جسده حتى يقذف فيه الإيمان بعيسى(6).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٦٤.

(2) الحاكم ٢/٣٠٩.

(3) الطيالسي ـ كما في تفسير ابن كثير ٢/٤٠٥.

(4) ابن جرير ٧/٦٦٨.

(5) ابن جرير ٧/٦٦٩.

(6) ابن جرير ٧/٦٧١.

ابن الحنفية:

روي عن محمد بن الحنفية (ت 80 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، ليس من أهل الكتاب أحد إلا أتته الملائكة يضربون وجهه ودبره، ثم يقال: يا عدو الله، إن عيسى روح الله وكلمته، كذبت على الله، وزعمت أنه الله، إن عيسى لم يمت، وإنه رفع إلى السماء، وهو نازل قبل أن تقوم الساعة، فلا يبقى يهودي ولا نصراني إلا آمن به(1).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، ذلك عند نزول عيسى ابن مريم، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٦٤.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: لا يموت اليهودي والنصراني حتى يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

__________

(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ١٣٢.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، النجاشي وأصحابه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، قبل موت عيسى، والله، إنه الآن لحي عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون(2).

3. روي أنه قيل له: يا أبا سعيد، قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾؟ قال: قبل موت عيسى، وإن الله رفع إليه عيسى، وهو باعثه قبل يوم القيامة مقاما يؤمن به البر والفاجر(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، يؤمنون إيمانا لا ينفعهم(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١١١٢.

(2) ابن جرير ٧/٦٦٥.

(3) ابن أبي حاتم ٤/١١١٣.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ ليس من أحد من جميع الأديان يموت إلا رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمير المؤمنين عليه السلام حقا. (1)

2. عن أبي حمزة عن شهر بن حوشب، قال: قال لي الحجاج: يا شهر، إن آية في كتاب الله قد أعيتني، فقلت: أيها الأمير، أية آية هي؟ فقال: قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ والله إني لآمر باليهودي والنصراني فيضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرك شفتيه حتى يخمد! فقلت: أصلح الله الأمير، ليس على ما تأولت، قال كيف هو؟ قلت: إن عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا فلا يبقى أهل ملة يهودي ولا غيره إلا آمن به قبل موته، ويصلي خلف المهدي، قال ويحك، أنى لك هذا، ومن أين جئت به؟ فقلت: حدثني به محمد بن علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام)، فقال: جئت بها والله من عين صافية(2).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/ 284

(2) تفسير القمّي 1/158.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ قبل موت عيسى، إذا نزل آمنت به الأديان كلها(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾، يقول: يكون عليهم شهيدا يوم القيامة، على أنه قد بلغ رسالة ربه، وأقر بالعبودية على نفسه(2).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٧٧.

(2) ابن جرير ٧/٦٧٦.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، هما راجعتان إلى عيسى(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٤١١.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، قال قبل موت عيسى، إذا نزل آمنت به الأديان كلها(1).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٧٧.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

2. عن المفضل بن عمر، قال: سئل الإمام الصادق عن قول الله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ فقال: هذه نزلت فينا خاصة، إنه ليس رجل من ولد فاطمة يموت ولا يخرج من الدنيا حتى يقر للإمام بإمامته كما أقر ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: ﴿تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا﴾(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ إيمان أهل الكتاب، إنما هو بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/283.

(2) تفسير العيّاشي 1/284.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ قد أبلغهم ما أرسله به إليهم(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٧٦.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ﴾ يعني: وما من أهل الكتاب، يعني: اليهود، ﴿إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ يعني: بعيسى صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أنه نبي رسول قبل موت اليهودي، يعني: عند موته؛ لأن الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم، وتقول: يا عدو الله، إن المسيح الذي كذبتم به هو عبد الله ورسوله حقا، فيؤمن به، ولا ينفعه، ويؤمن به من كان منهم حيا إذا نزل عيسى صلّى الله عليه وآله وسلّم، فينزل عيسى صلّى الله عليه وآله وسلّم على ثنية يقال لها: أفيق، دهين الرأس، عليه ممصرتان(1).. ومعه حربة يقتل بها الدجال، فقيل لابن عباس: روي أنّه قال: فمن غرق من اليهود، أو أحرق بالنار، أو أكله السبع؟ قال: لا تخرج روحه حتى يؤمن بعيسى صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).

__________

(1) تثنية ممصرة، وهي الثياب التي فيها صفرة خفيفة، النهاية (مصر).

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢١.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، إذا نزل عيسى، فقتل الدجال؛ لم يبق يهودي في الأرض إلا آمن به، فذلك حين لا ينفعهم الإيمان(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٦٦.

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، هذا إخبار عن عيسى بن مريم صلى الله عليه وعن أهل الكتاب، الذين كفروا به من اليهود والنصارى، وقد قيل: إنه صلى الله عليه حي إلى ساعة الناس هذه، وأنه يصلي ورآء المهدي، ويظهر، ويأمر وينهى، ويؤمن به جميع أهل الكتاب، ثم يموت من بعد ذلك، ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾، هو: شهيد عليهم بما ألقى إليهم، وأمرهم به وأدى إليهم، من كتاب الله وأمره ونهيه، فخالفوا إلى غيره، وكفروا به.. ومما يشهد به عليهم يوم القيامة صلى الله عليه، فيما أدى إليهم عن الله سبحانه، من ذكر من محمد صلى الله عليه، والتبشير به والإخبار بصفته ووقته، وما أمرهم به عن الله من طاعته، فخالفوا ذلك كله، وصاروا إلى ضده، من الكفر بنبيه، فبذلك يشهد عليهم المسيح صلوات الله عليه يوم القيامة: أني قد أمرتكم بأمر الله؛ فكفرتم، وأوقفتكم على الحق؛ فخالفتم.

2. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ [النساء: 159]، هذا إخبار عن عيسى بن مريم صلى الله عليه، وعن أهل الكتاب الذين كفروا به من اليهود والنصارى، وقد قيل: إنه صلى الله عليه حي إلى ساعة الناس هذه، وأنه يصلي ورآء المهدي، ويظهر ويأمر وينهى، ويؤمن به جميع أهل الكتاب، ثم يموت من بعد ذلك.

3. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ فهو شهيد عليهم بما ألقى إليهم وأمرهم به، وأدى إليهم من كتاب الله وأمره ونهيه، فخالفوا إلى غيره وكفروا به، ومما يشهد به عليهم يوم القيامة صلى الله عليه فيما أدى إليهم عن الله سبحانه، من ذكر من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والتبشير به، والإخبار بصفته ووقته، وما أمرهم به عن الله من طاعته، فخالفوا ذلك كله وصاروا إلى ضده، من الكفر بنبيه، فبذلك يشهد عليهم المسيح صلوات الله عليه يوم القيامة: إني قد أمرتكم بأمر الله فكفرتم، وأوقفتكم على الحق فخالفتم.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/279.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ اختلف فيه:

أ. قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله تعالى: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ هو أي: قبل موت عيسى، إذا نزل من السماء ـ آمنوا به أجمعين، وبه يقول الحسن.

ب. وقال الكلبي: إن الله تعالى إذا أنزل عيسى عليه السلام عند مخرج الدجال، فقتل الدجال ـ يؤمن به بقية أهل الكتاب؛ فلا يبقى يهودي ولا نصراني إلا أسلم.

ج. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ﴿إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أي: قبل موت الكتابي؛ لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى، عليه السلام، وكذلك رُوي عن ابن عَبَّاسٍ: قال لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى عليه السلام، قيل: وإن ضرب بالسيف؟ قال وإن ضرب بالسيف، وقال: هي في حرف أُبَي: (إلا ليؤمنن به قبل موتهم)

د. وقيل: ﴿إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ﴾ قيل: بالله، وقيل: بعيسى. وقيل: بمُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ذلك أن عيسى صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا نزل يدعو الناس إلى الإيمان بمُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

2. لكن التأويل إن كان هو الثاني؛ فهو في رؤسائهم الذين كانت لهم الرياسة، فلم يؤمنوا؛ خوفًا على ذهاب تلك الرياسة والمنافع التي كانت لهم، فلما حضرهم الموت أيقنوا بذهاب ذلك عنهم؛ فعند ذلك يؤمنون، وهو كقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ الآية، لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت؛ كقوله تعالى: ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾؛ لأنه إيمانُ دفع العذاب والاضطرار؛ كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾ الآية؛ فكان إيمانهم إيمان دفع العذاب عن أنفسهم، لا إيمان حقيقة؛ لأنه لو كان إيمان حقيقة لقبل، ولكن إيمان دفع العذاب؛ كقول فرعون حين أدركه الغرق: ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾، فلم يقبل منه ذلك؛ لأنه إيمان دفع العذاب، وإيمان الاضطرار، لا إيمان حقيقة؛ فعلى ذلك الأول.

3. وقيل في حرف ابن مسعود: (وإن من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به قبل موته)، وفي حرف حفصة: (وإن كل أهل الكتاب لما ليؤمنن به قبل موته)

4. وقوله عز وجل: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾:

أ. قيل: إنه يكون عليهم شهيدًا بأنه قد بلغ رسالة ربه إليهم، وأقر على نفسه بالعبودية.

ب. وقيل: الشهيد: الحافظ.

ج. وقيل: (ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا)

د. وقيل: يكون مُحَمَّد عليهم شهيدًا، وهذا كله محتمل، والله أعلم ما أراد.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤١٢.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أي ليؤمنن بالمسيح قبل موت المسيح إذا نزل من السماء، ويجوز أن يكون تقدير الكلام قبل موته أي موت الكتابي فإنها ترجع إلى الكتابي بما أنزل الله من الحق وبالمسيح عيسى ابن مريم، وتحتمل وجهاً ثالثاً: إلا ليؤمنن برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل موت الكتابي.

2. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ يعني المسيح شهيداً تكذيب من كذب به وتصديق من صدق به من أهل عصره.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/200.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: إلا ليؤمنن بالمسيح قبل موت المسيح، إذا نزل من السماء، وهذا قول ابن عباس، وأبي مالك، وقتادة، وابن زيد.

ب. الثاني: إلا ليؤمنن بالمسيح قبل موت الكتابي عند المعاينة، فيؤمن بما أنزل الله من الحق وبالمسيح عيسى ابن مريم، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والضحاك، وابن سيرين، وجويبر.

ج. الثالث: إلا ليؤمنن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل موت الكتابي، وهذا قول عكرمة.

2. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ يعني المسيح، وفيه قولان:

أ. أحدهما: أنه يكون شهيداً بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه من أهل عصره.

ب. الثاني: يكون شهيداً أنه بلَّغ رسالة ربه، وأقر بالعبودية على نفسه، وهذا قول قتادة، وابن جريج.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٤٥.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى (ان) معنى (ما) النافية وموضعها الرفع وهي مثل قوله: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا﴾ أي ما منكم أحد إلا واردها، ومعنى الآية الاخبار منه تعالى بانه إلا ليؤمن به يعني بعيسى قبل موته واختلفوا في الهاء إلى من ترجع:

أ. فقال قوم: هي كناية عن عيسى، كأنه قال لا يبقى أحد من اليهود إلا يؤمن بعيسى قبل موت عيسى بأن ينزله الله إلي الأرض إذا اخرج المهدي وأنزله الله لقتل الدجال، فتصير الملل كلها ملة واحدة وهي ملة الإسلام الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، ذهب إليه ابن عباس وأبو مالك والحسن وقتادة، وابن زيد وذلك حين لا ينفعهم الايمان، واختاره الطبري، قال والآية خاصة لمن يكون في ذلك الزمان وهو الذي ذكره علي بن إبراهيم في تفسير أصحابنا، وروى شهر بن حوشب عن محمد بن علي بن الحنفية ان الحجاج سأله عن هذه الآية وقال: نرى اليهود تضرب رقبته، فلا يتكلم بشيء فقال: حدثني محمد بن علي أن الله يبعث إليه ملكا ينفضه ويضرب رأسه ودبره، ويقول له: كذبت عيسى، فيؤمن حينئذ ويقول: كذبت عيسى ويعترف به، فقال الحجاج: عمن؟ فقال: عن محمد بن علي فقال له، جئت بها من عين صافية، فقيل لشهر ما أردت بذلك؟ قال أردت ان اغيظه وذكره البلخي مثل ذلك وضعف هذا الوجه الزجاج وقال: الذين يبقون إلى زمن نزول عيسى عليه السلام من أهل الكتاب قليل، والآية تقتضي عموم إيمان أهل الكتاب أجمع قال: إلا ان تحمل على أن جميعهم يقول: ان عيسى الذي ينزل لقتل الدجال نحن نؤمن به فعلى هذا يجوز، واختار الوجه الثاني.

ب. وقال قوم: الهاء كناية عن الكتابي، وتقديره أنه لا يكون أحد من أهل الكتاب يخرج من دار الدنيا إلا ويؤمن بعيسى عند موته إذا زال تكليفه، وتحقق الموت، ولكن لا ينفعه الايمان حينئذ ذهب إليه ابن عباس في رواية أخرى، ومجاهد، قال ابن عباس: لو ضربت رقبته لم تخرج نفسه حتى يؤمن، وبه قال عكرمة والضحاك، وفي رواية عن الحسن وقتادة.

ج. وقال قوم: الهاء كناية عن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والتقدير وليس من أهل الكتاب إلا من يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل موت الكتابي ذهب إليه عكرمة وطعن الطبري على هذا الوجه بأن قال لو كان ذلك صحيحاً لما جاز اجزاء أحكام الكفار عليهم إذا ماتوا من ترك الصلاة عليهم، ومنع المدافنة والموارثة، وغير ذلك، ووجب اجراء حكم الإسلام عليهم، وهذا الذي ذكره ليس بشيء لأن ايمانهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم انما يكون في حال زوال التكليف، فلا حكم لذلك الايمان، وذلك مثل إيمان فرعون حين غرق وقال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ فقال الله تعالى له: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ فكذلك إيمان هؤلاء لا يعتد به، وإنما يضعف هذا الجواب من حيث انه لم يجر لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكر فيما تقدم، ولا ها هنا ضرورة موجبة لرد الكناية عليه، وما هذه صورته لا تجوز الكناية عنه، وإنما قلناه في قوله: حتى توارت بالحجاب إنها كناية عن الشمس للضرورة، لأنه يحتمل سواها، وقد جرى ذكر عيسى والكتابي فأمكن ان يكون كناية عن كل واحد منهما، فلا يجوز العدول عنه، وقوله: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ قال قتادة وابن جريج: يكون عيسى عليهم شهيداً على أنه قد بلغ رسالة ربه، وأقر على نفسه بالعبودية مكذباً من كذبه ومصدقاً من صدقه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/387.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الشهيد: فعيل من الشاهد، والشهادة: الإخبار عما شوهد، وأصله من المشاهدة، والشهيد: القتيل في سبيل الله، قيل: لأن ملائكة الرحمة تشهده، وقيل: لأنهم من الشهداء يوم القيامة، وقيل: لأنهم شهدوا الوقعة، وقيل: لسقوطه بالأرض، والأرض الشاهدة.

2. بين تعالى أنهم وإن اختلفوا في أمر عيسى فإنهم يؤمنون به، فقال سبحانه: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يعني اليهود والنصارى؛ لأن جميعهم مبطلون: اليهود في بغضه، والنصارى في الغلو في أمره ﴿إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾:

أ. قيل: بِاللهِ.

ب. وقيل: بعيسى.

ج. وقيل: بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما تقدم.

3. ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾:

أ. قيل: قبل موت عيسى.

ب. وقيل: قبل موت الكتابي.

4. اختلفوا في وقت الإيمان به:

أ. فقيل: وقت المعاينة، عن أبي علي وأبي مسلم.

ب. وقيل: وقت نزوله من السماء لقتل الدجال، وقد ورد الخبر به، ولا مانع منه غير أنه ينزل إما في وقت رفع التكليف، أو ينزل على وجه لا يعرف؛ لأن خلاف ذلك لا يجوز؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون نبيًّا، ولا نبيَّ بعدَ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو يكون غير نبي، ولا يجوز عزل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن النبوة.

5. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾:

أ. قيل: عيسى يشهد عليهم بتصديق مَنْ صدقه وتكذيب من كذبه، عن أبي علي.

ب. وقيل: شهيد بأنه بلغ الرسالة، وأقر بالعبودية على نفسه، عن ابن جريج وقتادة.

ج. وقيل: شهيدًا على اليهود أنهم كذبوه، وعلى النصارى أنهم أشركوا به، وكذلك كل نبي شاهد على أمته.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن كل كافر يؤمن عند المعاينة.

ب. أن إيمانه لا يقبل؛ لأنه ملجأ إلى الإيمان فتدل على أن الإيمان لو كان خلقًا لله تعالى لما أثيب عليه كإيمان الملجأ؛ لأن ذلك أشد، وفي قبوله دليل على فساد قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق والاستطاعة.

7. مسائل لغوية ونحوية:

أ. الفاعل في ﴿لَيُؤْمِنُنَّ﴾ ضمير يعود إلى محذوف، على تقدير: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به، ومثله ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ أي: ما منا أحد.

ب. الضمير في قوله: ﴿لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ إلى مَنْ يرجع في الكنايتين؟ فيه أقوال:

قيل: كلاهما يرجع إلى المسيح يعني الكتابي يؤمن بعيسى قبل موت عيسى إذا خرج في آخر الزمان، عن ابن عباس والحسن وقتادة والربيع وابن زيد.

وقيل: الأول يعود على عيسى، والثاني على الكتابي، على تقدير: يؤمن بعيسى قبل موت الكتابي، عن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والضحاك والسدي وجويبر وابن سيرين.

وقيل: الأول يعود على محمد، والثاني على الكتابي، تقديره: يؤمن بمحمد قبل موت الكتابي، عن عكرمة بخلاف

وقيل: الأول يعود على اسم الله، والثاني على الكتابي تقديره: يؤمن بِاللهِ وحده قبل موته في وقت المعاينة، وفي القولين الآخرين بُعْدٌ؛ لأنه لم يجر لهما ذكر.

والصحيح الثاني؛ لأنه عام فلا يخص من غير دليل.

ب. ﴿يَوْمَ﴾ نصب على الظرف في قوله: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/147.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أخبر تعالى أنه لا يبقى أحد منهم إلا ويؤمن به، فقال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ اختلف فيه على أقوال:

أ. أحدها: إن كلا الضميرين يعودان إلى المسيح، أي: ليس يبقى أحد من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، إلا ويؤمنن بالمسيح، قبل موت المسيح، إذا أنزله الله إلى الأرض، وقت خروج المهدي، في آخر الزمان، لقتل الدجال، فتصير الملل كلها ملة واحدة، وهي ملة الاسلام الحنيفية دين إبراهيم، عن ابن عباس، وأبي مالك، والحسن، وقتادة، وابن زيد، وذلك حين لا ينفعهم الايمان، واختاره الطبري قال: (والآية خاصة لمن يكون منهم في ذلك الزمان)، وذكر علي بن إبراهيم في تفسيره أن أباه حدثه، عن سليمان بن داوود المنقري، عن أبي حمزة الثمالي، عن شهر بن حوشب قال قال الحجاج بن يوسف: آية من كتاب الله قد أعيتني قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ الآية، والله! إني لآمر باليهودي والنصراني، فيضرب عنقه، ثم أرمقه بعيني، فما أراه يحرك شفتيه، حتى يحمل، فقلت: أصلح الله الأمير! ليس على ما أولت، قال فكيف هو؟ قلت: إن عيسى بن مريم ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، ولا يبقى أهل ملة يهودي، أو نصراني، أو غيره، إلا وآمن به قبل موت عيسى، ويصلي خلف المهدي، قال ويحك أنى لك هذا؟ ومن أين جئت به؟ قال قلت: حدثني به الباقر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال جئت والله بها من عين صافية، فقيل لشهر: ما أردت بذلك؟ قال أردت أن أغيظه، وذكر أبو القاسم البلخي مثل ذلك، وضعف الزجاج هذا الوجه قال إن الذين يبقون إلى زمن عيسى من أهل الكتاب، قليل، والآية تقتضي عموم إيمان أهل الكتاب، إلا أن جميعهم يقولون: إن عيسى الذي ينزل في آخر الزمان نحن نؤمن به.

ب. ثانيها: إن الضمير في به يعود إلى المسيح، والضمير في موته يعود إلى الكتابي، ومعناه: لا يكون أحد من أهل الكتاب، يخرج من دار الدنيا، إلا ويؤمن بعيسى قبل موته، إذا زال تكليفه، وتحقق الموت، ولكن لا ينفعه الايمان حينئذ، وإنما ذكر اليهود والنصارى لان جميعهم مبطلون: اليهود بالكفر به، والنصارى بالغلو في أمره، وذهب إليه ابن عباس في رواية أخرى، ومجاهد، والضحاك، وابن سيرين، وجويبر، قالوا: ولو ضربت رقبته لم تخرج نفسه حتى يؤمن.

ج. ثالثها: أن يكون المعنى: ليؤمنن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل موت الكتابي، عن عكرمة، ورواه أيضا أصحابنا، وضعف الطبري هذا الوجه بأن قال: (لو كان ذلك صحيحا، لما جاز إجراء أحكام الكفار عليهم، إذا ماتوا)، وهذا لا يصح لان إيمانهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما يكون في حال زوال التكليف، فلا يعتد به، وإنما ضعف هذا القول، من حيث لم يجر ذكر لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم ها هنا، ولا ضرورة توجب رد الكناية إليه، وقد جرى ذكر عيسى، فالأولى: أن يصرف ذلك إليه.

2. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ يعني: عيسى:

أ. يشهد عليهم بأنه قد بلغ رسالات ربه، وأقر على نفسه بالعبودية، وأنه لم يدعهم إلى أن يتخذوه إلها، عن قتادة، وابن جريج.

ب. وقيل: يشهد عليهم بتصديق من صدقه، وتكذيب من كذبه، عن أبي علي الجبائي.

3. في هذه الآية دلالة على أن كل كافر يؤمن عند المعاينة، وعلى أن إيمانه ذلك غير مقبول، كما لم يقبل إيمان فرعون في حال اليأس عند زوال التكليف، ويقرب من هذا ما رواه الامامية أن المحتضرين من جميع الأديان، يرون رسول الله وخلفاءه عند الموت، ويروون في ذلك عن علي عليه السلام أنه قال للحارث الهمداني:

çيا حار همدان من يمت يرني... من مؤمن أو منافق قبلا

يعرفني طرفه وأعرفه... بعينه واسمه وما فعلاé

فإن صحت هذه الرواية فالمراد برؤيتهم في تلك الحال: العلم بثمرة ولايتهم وعداوتهم، على اليقين، بعلامات يجدونها من نفوسهم، ومشاهدة أحوال يدركونها، كما قد روي أن الإنسان إذا عاين الموت، أري في تلك الحالة ما يدله على أنه من أهل الجنة، أو من أهل النار.

4. (إن) في قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ نافية، وأكثر ما تأتي مع الا، وقد تأتي من غير الا نحو قوله: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ أي: في الذي ما مكناكم فيه، قال الزجاج: المعنى وما منهم أحد إلا ليؤمنن به، وكذلك قوله: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ معناه: وما منكم أحد إلا واردها، وكذلك ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ أي: وما منا أحد إلا له مقام، ومثله قول الشاعر:

çلو قلت ما في قومها، لم تيثم... يفضلها في حسب وميسمé

أي: ما في قومها أحد يفضلها، وذهب الكوفيون إلى أن المعنى: وما من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به، وما منكم إلا من هو واردها، وما منا إلا من له مقام، وأهل البصرة لا يجيزون حذف الموصول، وتبقية الصلة.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/210.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ قال الزجّاج: المعنى: وما منهم أحد إلّا ليؤمننّ‏ به، ومثله‏ ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾

2. في أهل الكتاب قولان:

أ. أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: اليهود والنّصارى، قاله الحسن، وعكرمة.

3. في هاء (به) قولان:

أ. أحدهما: أنها راجعة إلى عيسى، قاله ابن عباس: والجمهور.

ب. الثاني: أنها راجعة إلى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله عكرمة.

4. في هاء (موته) قولان‏:

أ. أحدهما: أنها ترجع إلى المؤمن، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ليس يهوديّ يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى، فقيل لابن عباس: إن خرّ من فوق بيت؟ قال يتكلّم به في الهويّ‏، قال وهي في قراءة أبيّ: (قبل موتهم)، وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير، وروى الضّحّاك عن ابن عباس قال يؤمن اليهوديّ قبل أن يموت، ولا تخرج روح النّصرانيّ حتى يشهد أنّ عيسى عبد، وقال عكرمة: لا تخرج روج اليهوديّ والنّصرانيّ حتى يؤمن بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. الثاني: أنها تعود إلى عيسى، روى عطاء عن ابن عباس قال: إذا نزل إلى الأرض لا يبقى يهوديّ ولا نصرانيّ، ولا أحد يعبد غير الله إلا اتّبعه، وصدّقه، وشهد أنه روح الله، وكلمته، وعبده‏ ونبيّه، وهذا قول قتادة، وابن زيد، وابن قتيبة، واختاره ابن جرير، وعن الحسن كالقولين وقال الزجاج: هذا بعيد، لعموم قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ والذين يبقون حينئذ شرذمة منهم، إلّا أن يكون المعنى: أنهم كلّهم يقولون: إنّ عيسى الذي ينزل لقتل الدّجّال نؤمن به.

5. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ قال قتادة: يكون عليهم شهيدا أنه قد بلّغ رسالات ربّه، وأقرّ بالعبوديّة على نفسه.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/496.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى فضائح اليهود وقبائح أفعالهم وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى عليه السلام وبيّن أنه ما حصل لهم ذلك المقصود، وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجل المراتب بيّن تعالى أن هؤلاء اليهود الذين كانوا مبالغين في عداوته لا يخرج أحد منهم من الدنيا إلا بعد أن يؤمن به فقال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾

2. سؤال وإشكال: كلمة (إن) بمعنى (ما) النافية كقوله: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ [مريم: 71] فصار التقدير: وما أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به، ثم إنا نرى أكثر اليهود يموتون ولا يؤمنون بعيسى عليه السلام، والجواب: من وجهين:

أ. الأول: ما روي عن شهر بن حوشب قال: قال الحجاج: إني ما قرأتها إلا وفي نفسي منها شيء يعني هذه الآية فإني أضرب عنق اليهودي ولا أسمع منه ذلك، فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالوا يا عدو الله أتاك عيسى نبيّا فكذبت به، فيقول آمنت أنه عبد الله، وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه هو الله وابن الله، فيقول: آمنت أنه عبد الله فأهل الكتاب يؤمنون به، ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان فاستوى الحجاج جالسا، وقال: عمن نقلت هذا؟ فقلت: حدّثني به محمد بن علي بن الحنفية فأخذ ينكت في الأرض بقضيب، ثم قال: لقد أخذتها من عين صافية، وعن ابن عباس أنه فسّره كذلك فقال له عكرمة: فإن خر من سقف بيت أو احترق أو أكله سبع قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به، ويدل عليه قراءة أُبي‏ ﴿إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ بضم النون على معنى وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم لأن أحدا يصلح للجمع، قال صاحب (الكشاف): والفائدة في أخبار الله تعالى بإيمانهم بعيسى قبل موتهم أنهم متى علموا أنه لا بدّ من الإيمان به لا محالة فلأن يؤمنوا به حال ما ينفعهم ذلك الإيمان أولى من أن يؤمنوا به حال ما لا ينفعهم ذلك الإيمان والوجه

ب. الثاني: في الجواب عن أصل السؤال: أن قوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أي قبل موت عيسى، والمراد أن أهل الكتاب الذين يكونون موجودين في زمان نزوله لا بدّ وأن يؤمنوا به: قال بعض المتكلمين: إنه لا يمنع نزوله من السماء إلى الدنيا إلا أنه إنما ينزل عند ارتفاع التكاليف أو بحيث لا يعرف، إذ لو نزل مع بقاء التكاليف على وجه يعرف أنه عيسى عليه السلام لكان إما أن يكون نبيا ولا نبي بعد محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو غير نبي وذلك غير جائز على الأنبياء، وهذا الأشكال عندي ضعيف لأن انتهاء الأنبياء إلى مبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فعند مبعثه انتهت تلك المدة، فلا يبعد أن يصير بعد نزوله تبعا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

3. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ قيل: يشهد على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه، وعلى النصارى أنهم أشركوا به، وكذلك كل نبي شاهد على أمته.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/264.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة: المعنى ليؤمنن بالمسيح ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾:

أ. أي الكتابي، فالهاء الأولى: عائدة على عيسى، والثانية: على الكتابي، وذلك أنه ليس أحد من أهل الكتاب اليهود والنصارى إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام إذا عاين الملك، ولكنه إيمان لا ينفع، لأنه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت، فاليهودي يقر في ذلك الوقت بأنه رسول الله، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله، وروي أن الحجاج سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال: إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب عنقه، وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان فقال له شهر بن حوشب: إنه حين عاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبد الله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه، فقال له الحجاج: من أين أخذت هذا؟ قال أخذته من محمد بن الحنفية، فقال له الحجاج: أخذت من عين صافية، وروي عن مجاهد أنه قال ما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موته، فقيل له: إن غرق أو احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى؟ فقال: نعم!

ب. وقيل: إن الهاءين جميعا لعيسى عليه السلام، والمعنى ليؤمنن به من كان حيا حين نزوله يوم القيامة، قاله قتادة وابن زيد وغيرهما واختاره الطبري، وروى يزيد بن زريع عن رجل عن الحسن في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ قال: قبل موت عيسى، والله إنه لحي عند الله الآن، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون، ونحوه عن الضحاك وسعيد بن جبير.

ج. وقيل: ﴿لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ أي بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن لم يجر له ذكر، لأن هذه الأقاصيص أنزلت عليه والمقصود الإيمان به، والإيمان بعيسى يتضمن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أيضا، إذ لا يجوز أن يفرق بينهم.

د. وقيل: ﴿لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ أي بالله تعالى قبل أن يموت ولا ينفعه الإيمان عند المعاينة.

2. التأويلان الأولان أظهر، وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: لينزلن ابن مريم حكما عدلا فليقتلن الدجال وليقتلن الخنزير وليكسرن الصليب وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين، ثم قال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ قال أبو هريرة: قبل موت عيسى، يعيدها ثلاث مرات، وتقدير الآية عند سيبويه: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به، وتقدير الكوفيين: وإن من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به، وفيه قبح، لأن فيه حذف الموصول، والصلة بعض الموصول فكأنه حذف بعض الاسم.

3. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ أي بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه.

__________

(1) تفسير القرطبي: 6/10.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ المراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى، والمعنى: وما من أهل الكتاب أحد إلا والله ليؤمننّ به قبل موته، والضمير في به: راجع إلى عيسى، والضمير في موته: راجع إلى ما دلّ عليه الكلام، وهو لفظ أحد المقدّر، أو الكتابي المدلول عليه بأهل الكتاب، وفيه دليل: على أنه لا يموت يهوديّ أو نصرانيّ إلا وقد آمن بالمسيح؛ وقيل: كلا الضميرين لعيسى، والمعنى: أنه لا يموت عيسى حتى يؤمن به كل كتابيّ في عصره؛ وقيل: الضمير الأوّل للّه؛ وقيل: إلى محمد، وقد اختار كون الضميرين لعيسى ابن جرير، وقال به جماعة من السلف، وهو الظاهر، والمراد: الإيمان به عند نزوله في آخر الزمان، كما وردت بذلك الأحاديث المتواترة.

2. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ﴾ عيسى على أهل الكتاب‏ ﴿شَهِيدًا﴾ يشهد على اليهود بالتكذيب له، وعلى النصارى بالغلوّ فيه حتى قالوا هو ابن الله.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/617.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِن مِّنَ اَهْلِ الْكِتَابِ﴾ ما أحد من أهل الكتاب، يشمل الصابئين، وقيل: المراد اليهود، ﴿إِلَّا﴾ والله ﴿لَيُومِنَنَّ بِهِ﴾ أي: بعيسى أنَّه عبد الله ورسوله، وقيل: هاء (بِهِ) لله تعالى، وقيل: لمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي القولين ضعف، ولم يَجْرِ ذكر له صلّى الله عليه وآله وسلّم .

2. والقسم وجوابه مقول لقول محذوف، أي: إلَّا يقال في حقِّه: والله ليؤمننَّ به، فإِنَّ الجملة نعت لمحذوف، والقسم إنشاء، والإنشاء لا يكون نعتًا، أي: إلَّا أحد مقول فيه: والله ليؤمننَّ به، وقيل المعتمد الجواب، وهو إخبار لا إنشاء، وانتفاء المحلِّ لجواب القسم، ومحلُّ الرفع على الخبريَّة له مع القسم، ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أي: موت الكتابيِّ ذاك.

3. قال الحجَّاج: ما قُرئت هذه الآية إِلَّا وفي نفسي منها شيء، فإنِّي أضرب عنق اليهوديِّ والنصرانيِّ ولا أشمُّ منه الإيمان، فقال شهر بن حوشب: إنَّ اليهوديَّ إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالوا: يا عدوَّ الله، أتاك عيسى نبيئًا فكذَّبت به! فيقول: آمنت أنَّه عبد الله ورسوله، وتقول للنصرانيِّ: يا عدوَّ الله، أتاك عيسى نبيئًا فزعمت أنَّه الله، أو ابن الله؟ فيقول: آمنت أنَّه عبد الله، وذلك حين لا ينفعهم الإيمان، فاستوى الحجَّاج جالسًا فقال: عمَّن نقلت هذا؟ فقال: حدثني به محمَّد بن الحنفيَّة، فأخذ ينكث في الأرض بقضيب، ثمَّ قال: لقد أخذتها من عين صافية، وعن شهر بن حوشب: والله ما أخذتها إِلَّا عن أمِّ سلمة، ولكن أحبُّ أنَّ أغيظه بأهل البيت، والحجَّاج من بني أميَّة، وفسَّرها ابن عبَّاس كذلك، فقال عكرمة: فإن قُتل فأين الإيمان؟ قال: يحرِّك به شفتيه قبل خروج روحه، قال: فإن خرَّ من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع؟ قال: لا تخرج روحه حتَّى يؤمن، والآية تحريض على أن يؤمنوا بعيسى عليه السلام .

4. أو الهاءان لعيسى، والإيمان به إِنَّمَا هو بعد نزوله، كما روي أنَّه ينزل بعد خروج الدجَّال فيقتله ويقتل أهل الكتاب إِلَّا من آمن منهم به حين نزل، واتَّبع ملَّة الإسلام معه، فتقع الأمنة حتَّى يجتمع الأسد مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئب مع الغنم، وتلعب الصبيان بالحيَّات، ويلبث في الأرض أربعين سنة ثمَّ يُتوفَّى، ويصلِّي عليه المسلمون ويدفنونه، وقيل: إذا نزل آمن أهل الكتاب كلُّهم فلا يكون في الأرض منهم إِلَّا مؤمن، ويقبل إيمانهم، وقيل: لا يقبل؛ لأنَّه حين لا ينفعهم لمشاهدتهم، وقيل: إذا نزل آمن به كلُّ كتابيِّ وكلُّ مشرك، فتكون الدُّنيا كلُّها محمَّدية، ثمَّ تكون الفجَّار بعد موت عيسى، أو لا يُقبل إيمانهم للمشاهدة.

5. ﴿وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ﴾ عيسى ﴿عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ على اليهود بالتكذيب، وعلى النصارى بدعوى أنَّه الله أو ابن الله، عاقبة ظلم اليهود وأخذهم الربا وثواب المؤمنين منهم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/343.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى فضائح اليهود وقبائح أفعالهم، وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى عليه السلام، وبين أنه ما حصل لهم ذلك المقصود، وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجلّ المراتب ـ بيّن تعالى تحقيق ما أثبته في الآية السابقة، من القطع بكذبهم، مثبتا أنهم في مبالغتهم في عداوته، سيكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره، الذي منه التصديق بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، مؤكدا له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له، بقوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾

2. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أي: ما أحد من أهل الكتاب يدرك نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، إلا ليؤمنن به قبل موته، أي: موت عيسى عليه السلام، أي: لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان يؤيد الله به دين الإسلام، حتى يدخل فيه جميع أهل الملل، إشارة إلى أن موسى عليه السلام، إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زمانا طويلا، فالنبيّ الذي ينسخ شريعة موسى، وهو عيسى عليهما السلام، هو الذي يؤيد الله به هذا النبيّ العربيّ، في تجديد شريعته، وتمهيد أمره، والذود عن دينه، ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة، وأتباع مستكثرة، أمر قضاه الله تعالى في الأزل، فاقصروا أيها اليهود، فمعنى الآية إذن، والله أعلم: إنه ما من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى عليه السلام على شك، إلا وهو يوقن بعيسى عليه السلام قبل موته، بعد نزوله من السماء، أنه ما قتل وما صلب، ويؤمن به عند زوال الشبهة أفاده البقاعي.

3. روى البخاريّ‏ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: والذي نفسي بيده! ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا له من الدنيا وما فيها، ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾، وأخرجه مسلم‏ أيضا وابن مردويه وزاد بعد قوله: (قبل موته): موت عيسى ابن مريم، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.

رواه أحمد عن حنظلة عن أبي هريرة أيضا مرفوعا ولفظه: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطى المال حتى لا يقبل ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما، قال وتلا أبو هريرة: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال يؤمن به قبل موت عيسى، فلا أدري هذا كله حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أو شيء قاله أبو هريرة.

4. وقد ذكر الحافظ ابن كثير، هنا، الأحاديث المتواترة في نزوله عليه السلام، من رواية أبي هريرة وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأبي أمامة والنوّاس بن سمعان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومجمّع بن جارية وأبي سريحة حذيفة بن أسيد، وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه من أنه بالشام بل بدمشق عند المنارة الشرقية، وأن ذلك يكون عند إقامة صلاة الصبح، قال ابن كثير: (وقد بنيت في هذه الأعصار، في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، منارة للجامع الأمويّ، بيضاء من حجارة منحوتة، عوضا عن المنارة التي هدمت‏ بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وكان أكثر عمارتها من أموالهم، وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وهذا من إخبار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك)، وقد اشتهرت هذه المنارة بمئذنة عيسى.

5. ذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في (تاريخه) عن بعض السلف؛ أن عيسى عليه السلام، بعد نزوله، يدفن مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجرته، فالله أعلم.

6. سؤال وإشكال: قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ والجواب: فائدته الوعيد، وليكون علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب، عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم ـ بعثا لهم وتنبيها على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به، وليكون إلزاما للحجة لهم.

7. قال الأصبهانيّ: ويدل على صحة هذا التأويل قراءة أبيّ بن كعب (إلا ليؤمننّ به قبل موتهم) بضم النون وإلحاق ميم الجمع، والأسانيد إلى ابن عباس في هذا التأويل كلهم صحيحة، كما قاله ابن كثير.

8. وثمة وجه آخر وهو أن الضمير الأول للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والثاني للكتابيّ، رواه ابن جرير عن عكرمة قال لا يموت النصرانيّ ولا اليهوديّ حتى يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وتلا الآية، قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب، بعد نزول عيسى عليه السلام، إلا آمن به قبل موته أي: قبل موت عيسى عليه السلام.

9. قال ابن كثير: ولا شك أن الذي قاله ابن جرير هو الصحيح، لأنه المقصود من سياق الآي، في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه، وهم لا يتبيّنون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حيّ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مسح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية (يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف)، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم.

10. ثم قال فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى: أن كل كتابيّ لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما السلام ـ فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له، إذا كان قد شاهد الملك، كما قال تعالى: في أول هذه السورة: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ [النساء: 18]، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾ الآية ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ﴾ أي: عيسى عليه السلام‏ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ أي: على أهل الكتاب‏ ﴿شَهِيدًا﴾ أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء، وبعد نزوله إلى الأرض، قال قتادة: يشهد عليهم أنه قد بلّغهم الرسالة من الله، وأقرّ بعبوديته لله عز وجل، وهكذا كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ﴾ إلى قوله: ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 116]

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/442.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أي وما من أهل الكتاب أحد ﴿إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ أي ليؤمنن بعيسى إيمانا صحيحا وهو أنه عبد الله ورسوله وآيته للناس ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أي قبل موت ذلك الأحد الذي هو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم، وحاصل المعنى أن كل أحد من أهل الكتاب عندما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى وغيره من أمر الإيمان فيؤمن بعيسى إيمانا صحيحا، فاليهودي يعلم أنه رسول صادق غير دعي ولا كذاب، والنصراني يعلم أنه عبد الله ورسوله فلا هو إله ولا ابن الله.

2. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ يشهد عليهم، بما تظهر به حقيقة أمره معهم، ومنه ما حكاه عنه في آخر سورة المائدة: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ [المائدة: 117] وقد يشهد للمؤمن منهم في حال الاختبار والتكليف بإيمانه، وعلى الكافر بكفره، لأنه مبعوث إليهم وكل نبي شهيد على قومه كما قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41]

3. ذهب بعضهم إلى أن المراد أن كل أحد من أهل الكتاب يؤمن بعيسى قبل موت عيسى وهذا مبني على القول تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ وهم على هذا يحتاجون إلى تأويل النفي العام هنا بتخصيصه بمن يكون منهم حيا عند نزوله فيقولون: المعنى وما من أحد من أهل الكتاب الذين ينزل المسيح من السماء إلى الأرض وهم أحياء إلا ليؤمنن به ويتبعنه، والمتبادر من الآية المعنى الأول وهذا التخصيص لا دليل عليه وهو مبين على شيء لا نص عليه في القرآن حتى يكون قرينة له، والأخبار التي وردت فيه لم ترد مفسرة للآية، أما المعنى الأول الذي هو الظاهر المتبادر من النظم البليغ فيؤيده ما ورد من اطلاع الناس قبل موتهم من الآخرة ومن كونهم يبشرون برضوان الله وكرامته أو بعذابه وعقوبته، ففي حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين أن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، وأن الكافر إذا حضر الموت (بضم الحاء أي حضره الموت) بشر بعذاب الله وعقوبته، وروى أحمد والنسائي من حديث أنس وغيرهما من حديث عبادة بن الصامت وعن عائشة زيادة في حديث (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) الذي في الصحيحين وغيرهما وهي أنهم قالوا يا رسول الله كلنا نكره الموت فقال: (ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب لقاءه، وأن الفاجر إذا حضر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه) وروى ابن مردويه وابن منده بسند ضعيف عن ابن عباس (ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار) وروى عن ابن أبي الدنيا عن رجل لم يسم عن علي مرفوعا، فهذه الأحاديث تؤيد ما روي عن ابن عباس وغيره في تفسير الآية من كون الملائكة تخاطب من يموت من أهل الكتاب قبل خروج روحه بحقيقة أمر المسيح، مع الإنكار الشديد والتقبيح، ومما يؤيد هذه الحقيقة النص في سورة يونس على تصريح فرعون بالإيمان حين أدركه الغرق، ولها دلائل أخرى كالأحاديث الواردة في عدم قبول التوبة عند الغرغرة والله أعلم.

4. إن مسألة الصلب من المسائل التاريخية التي لها نظائر وأشباه كثيرة، فقد كان الملوك والحكام يقتلون ويصلبون، وناهيك بالرومانيين وقسواتهم، واليهود وعصبيتهم، وقد قتل هؤلاء غير واحد من أنبيائهم أشهرهم زكريا ويحيى عليهما السلام، والفائدة في إثبات التاريخ لمثل هذه الوقائع لا تعدو العبرة بأخلاق الأمة ودرجة ضلالها وهدايتها وسيرة الحكام فيها، وقد كان اليهود في عصر المسيح تحت سلطان الروم (الرومانيين) والحاكم الروماني في بيت المقدس في ذلكم العهد (ببلاطيس) لم يكن يريد قتل المسيح، ولم يحفل بوشاية اليهود وسعايتهم فيه، ولا خاف أن يكون ملكا يزيل سلطان الروم عن قومه، هكذا تقول النصارى في كتبها، وإنما كانت اليهود تريد قتله عليه السلام لما دعا إليه من الإصلاح الذي يزحزحهم عن تقاليدهم المادية، لأنهم بقتل زكريا ويحيى قد أصيبوا بالضراوة بسفك دماء النبيين والمصلحين، فسواء صح خبر دعوى قتل عيسى وصلبه أم لم يصح، فلا صحته تفيدنا عبرة بحال أولئك القوم لم تكن معروفة، ولا عدمها ينقص من معرفتنا بأخلاقهم وتاريخ زمنهم.

5. نعم إن مسألة الصلب ليست في ذاتها بالأمر الذي يهتم بإثباته أو نفيه في كتاب الله عز وجل بأكثر من إثبات قتل اليهود النبيين بغير حق وتقريعهم على ذلك، لولا أن النصارى جعلوها أساس العقائد وأصل الدين، فمن فاته الإيمان بها فهو في الآخرة من الهالكين، ومن آمن بها على الوجه الذي يقولونه ويدعون إليه كان هو الناجي الفائز بملكوت السماء مع المسيح والرسل والقديسين، لأجل هذا كبر عليهم نفي القرآن العظيم لقتل المسيح وصلبه، وهم يوردون في ذلك الشبهات على القرآن والإسلام، لهذا رأينا أن نبين عقيدة الصلب عندهم، وشبهاتهم على نفيها مع الجواب عنها، وما يتعلق بذلك من المباحث المهمة.

6. نرى دعاة النصارى في بلادنا قد جعلوا قاعدة دعوتهم وأساسها عقيدة صلب المسيح فداء عن البشر، فهذه العقيدة عندهم هي أصل الدين وأساسه والتثليث يليها، لأن أصل الدين وأساسه هو الذي يدعى إليه أولا، ويجعل ما عداه تابعا له، ولذلك كان التوحيد هو الأصل والأساس لدعوة الإسلام، ويليه الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واليوم الآخر، وكان أول شيء دعا إليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ودعا أهل الكتاب في كتبه إلى الإسلام بقوله عز وجل: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 63] وبهذا أمره الله تعالى، فكان يكتفي في دعوته الأولى: لمشركي العرب بتوحيد الألوهية لأن شركهم إنما كان في الألوهية بعبادة غير الله تعالى وهي اتخاذ أولياء يقربونهم إليه زلفى ويشفعون لهم عنده، بواسطتهم يدفع الله عنهم الضر ويسوق إليهم الخير كما كانوا يزعمون، وأما المشركون أهل الكتاب فكان قد طرأ على توحيدهم مثل هذا الشرك في الألوهية باتخاذ غيره من حواريه وغيرهم آلهة بالوساطة والشفاعة، وطرد عليه فوق ذلك الشرك في الربوبية بإتباعهم لأحبارهم ورهبانهم فيما يحلون لهم ويحرمون عليهم، فدعاهم صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى توحيد الألوهية والربوبية معا، فلولا أن عقيدة الصلب والفداء هي أصل هذه الديانة النصرانية عند أهلها لما كانوا يبدؤون بالدعوة إليها قبل كل شيء أما تقرير هذه العقيدة كما سمعنا من بعض دعاة البروتستانت في بعض المجامع العامة التي يعقدونها للدعوة في مدارسهم، وفي المجالس الخاصة التي اتفق لنا حضورها مع بعضهم، فهي أن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها صار هو وجميع أفراده ذريته خطاة مستحقين للعقاب في الآخرة بالهلاك الأبدي ـ ثم إن جميع ذريته جاؤوا خطاة مذنبين فكانوا مستحقين للعقاب أيضا بذنوبهم كما أنهم مستحقون له بذنب أبيهم الذي هو الأصل لذنوبهم، ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة جميعا طرأ عليه (سبحانه تعالى عن ذلك) مشكل منذ عصى آدم، وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته فلا يكون رحيما!! وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله فلا يكون عادلا!! فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع بها بين العدل والرحمة!! فلم يهتد إلى ذلك سبيلا إلا منذ ألف وتسع مئة واثنتي عشرة سنة بالنسبة إلى سنتنا هذه (سبحانه سبحانه) وذلك بأن يحل ابنه تعالى الذي هو هو نفسه في بطن امرأة من ذرية آدم ويتحد بجنين في رحمها ويولد منها فيكون ولدها إنسانا كاملا من حيث هو ابنها وإلها كاملا من حيث هو ابن الله ـ وابن الله هو الله ـ ويكون معصوما من جميع معاصي بني آدم، ثم بعد أن يعيش زمنا معهم يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون، ويتلذذ كما يتلذذون ويتألم كما يتألون، يسخر أعداءه لقتله أفظع قتله، وهي الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي، فيحتمل اللعن والصلب لأجل فداء البشر وخلاصهم من خطاياهم فقط بل لخطايا كل العالم أيضا ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: 180]

7. كنت مرة مارا بشارع محمد علي في القاهرة وأنا قريب عهد بالهجرة إليها فرأيت رجلا واقفا على باب المدرسية الإنكليزية فيه يدعو كل من مر أمامه: تفضلوا تعالوا اسمعوا كلام الله، ولما خصني بالدعوة أجبت فدخلت فإذا بناس على مقاعد من الخشب في رحبة المدرسة، فلما كثر الجمع قام أحد دعاة النصرانية فألقى نحو ما تقدم آنفا من العقيدة الصليبية، وبعد فراغه وحثه الناس على الأخذ بما قاله والإيمان به، ودعواه أن لا خلاص لهم بدونه، قمت فقلت: إذا كنتم قد دعوتمونا إلى هذ المكان لتبلغونا هذه الدعوة شفقة علينا ورحمة بنا، فأذنوا لي أن أبين لكم موقعها من نفسي، فأذن لي القس بالكلام فوقفت في موقف الخطابة وأوردت عليهم ما يترتب على هذه الدعوة من العقائد الباطلة والقضايا المتناقضة التي سأبينها هنا، وطلبت الجواب عنها، فكان الجواب أن هذا المكان خاص بالوعظ والكرازة دون الجدال، فإن كنت تريد الجدال والمناظرة فموضعهما المكتبة الإنكليزية، فلما سمع المسلمون الحاضرون هذا الجواب صاحوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله وانصرفوا، أما ما يؤخذ من هذه العقيدة وما يترتب عليها فدونكه بالاختصار:

أ. لا يمكن أن يقبل هذه القصة من يؤمن بالدليل العقلي أن خالق العالم لا بد أن يكون بكل شيء عليما، وفي كل صنعه حكيما، لأنها تستلزم الجهل والبدء على الباري عز وجل، كأنه حين خلق آدم ما كان يعلم ما يكون عليه أمره، وحين عصى ما كان يعلم ما يقتضيه العدل والرحمة في شأنه، حتى اهتدى إلى ذلك بعد ألوف من السنين مرت على خلقه، كان فيها جاهلا كيف يجمع بين تينك الصفتين من صفاته، وواقعا في ورطة التناقض بينهما، ولكن قد يقبلها من يشترط في الدين عندهم أن لا يتفق مع العقل، وأن يأخذ صاحبه بكل ما يسند إلى من نسب إليهم عمل العجائب، ويقول آمنت به وإن لم يدركه، ولم تذعن له نفسه، ومن ينقلون في أول كتاب من كتبهم الدينية (سفر التكوين) هذه الجملة [6 فندم الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه (تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا: 6]

ب. يلزم من يقبل هذه القصة أن يسلم ما يحيله كل عقل مستقبل من أن خالق الكون يمكن أن يحل في رحم امرأة في هذه الأرض التي نسبتها إلى سائر ملكه أقل من نسبه الذرة إليها وإلى سمواتها التي ترى منها، ثم يأخذه أعداؤه بالقهر والإهانة فيصلبوه مع اللصوص ويجعلوه ملعونا بمقتضى حكم كتابه لبعض رسله (تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا)

ج. تقتضي هذه القصة أن يكون الخالق العليم الحكيم قد أراد شيئا بعد التفكير فيه ألوفا من السنين فلم يتم له ذلك الشيء وذلك أن البشر لم يخلصوا وينجوا بوقوع الصلب من العذاب، فإنهم يقولون إن خلاصهم متوقف على الإيمان بهذه القصة وهم لم يؤمنوا بها ـ لنا أن نقول إنه لم يؤمن بها أحد قط لأن الإيمان هو تصديق العقل وجزمه بالشيء والعقل لا يستطيع أن يدرك ذلك، والذين يقولون إنهم مؤمنون بها يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم تقليدا لمن لقنهم ذلك، فإن سمينا مثل هذا القول إيمانا، نقول إن أكثر البشر لا يقولونه بل يردونه بالدلائل العقلية، ومنهم من يرده أيضا بالدلائل النقلية، ومن دين ثبتت أصوله عندهم بالأدلة العقلية، ومنم من لم يعلموا بهذه القصة، ومنهم من يقول بمثلها لآلهة أخرى، فإذا عذبهم الله تعالى في الآخرة ولم يدخلهم ملكوته ـ كما تدعى النصارى ـ لا يكون رحيما على قاعدة دعاة الصلب والصليب، فكيف جمع بذلك بين العدل والرحمة؟

د. يلزم من هذه القصة شيء أعظم من عجز الخالق (تعالى وتقدس) عن إتمام مراده بالجمع بين عدله ورحمته، وهو انتفاء كل من العدل والرحمة في صلب المسيح لأنه عذبه من حيث هو بشر وهو لا يستحق العذاب لأنه لم يذنب قط، فتعذيبه بالصلب والطعن بالحراب ـ على ما زعموا ـ لا يصدر من عادل ولا من رحيم بالأحرى، فكيف يعقل أن يكون الخالق غير عادل ولا رحيم، أو يكون عادلا رحيما فيخلق خلقا يوقعه في ورطة الوقوع في انتفاء إحدى هاتين الصفتين، فيحاول الجمع بينهما فيفقدهما معا؟؟

هـ. إذا كان كل من يقول بهذه العقيدة ينجو من عذاب الآخرة كيفما كانت أخلاقه وأعماله، لزم من ذلك أن يكون أهلها إباحيين، وأن يكون الشرير المبطل الذي يعتدي على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم ويفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل، من أهل الملكوت الأعلى لا يعذب على شروره وخطيئاته ولا يجازى عليها بشيء، فله أن يفعل في هذه الدنيا ما يشاء هواه، وهو آمن من عذاب الله، ـ وناهيك بهذا مفسدا للبشر ـ وإذا كان يعذب على شروره وخطيئاته كغيره من غير الصليبين فما مزية هذه العقيدة؟ وإذا كان له امتياز عند الله تعالى في نفس الجزاء فأين العدل الإلهي؟

و. ما رأينا أحدا من العقلاء ولا من علماء الشرائع والقوانين يقول إن عفو الإنسان عمن يذنب إليه، أو عفو السيد عن عبده الذي يعصيه، ينافي العدل والكمال، بل يعدون العفو من أعظم الفضائل، وترى المؤمنين بالله من الأمم المختلفة يصفونه بالعفو ويقولون إنه أهل للمغفرة، فدعوى الصليبيين أن العفو والمغفرة مما ينافي العدل مردودة غير مسلمة.

8. يتوهم دعاة النصرانية من القياس على مذهبهم ومن الخرفات التي سرت إلى بعض عامة المسلمين أن الإسلام مبني على أن النجاة في الآخرة والسعادة الأبدية فيها إنما تكون ما يسمونه الفداء في عقيدة الصلب، وأن الفرق بين الإسلام والنصرانية إنما هو في الفادي، فهم يقولون إنه المسيح ونحن نقول إنه محمد (عليهما الصلاة والسلام) ولذلك يشككون عوام المسلمون في دينهم، بما يكتبون من سفسطة الجدل في صحفهم وكتبهم، وما يقولون في المجالس والمجامع بألسنتهم، ومداره على قولهم إن المسيح لم يخطئ قط وأن نبينا قد أذنب، والمذنب لا يستطيع أن ينقد من هو مثله من تبعة ذنبه، وإنما يستطيع ذلك من لم يذنب (2):

أ. أما نحن المسلمين فلا نرد عليهم هذا بتخطئة هذه القاعدة فقط، ولا بتعجيزهم في إثبات دعواهم أن المسيح لم يقترف خطيئة بالدليل العقلي، وكون الدليل النقلي هنا لا يمكن إلا إذا فرض أن عددا كثيرا من الناس يعد نقلهم تواترا صحيحا قد لازموا المسيح في كل ساعات حياته ودقائقها فلم يروا منه خطيئة فيها ـ ولم يحصل هذا قط ـ أو فرض نص صريح من الوحي يخصه بذلك، وليس عندهم شيء من ذلك يقوم حجة علينا وليس لهم أن يحجونا بما عندنا من القول بمعصية الأنبياء لأن هذا ـ على كونه عاما يعد عندنا لجميع الرسل ـ من الاحتجاج الذي يؤدي إلى نقض نفسه، لأن اعتقادنا ينقض اعتقادهم واعتقادهم ينقض اعتقادنا، فالاحتجاج بمثل هذا إذا نفع في إفحام الخصم وإلزامه لا ينفع في إقناعه، والمراد في هذا المقام الإقناع لا مجرد الغلب في الخصام.

ب. ولا نرد عليهم أيضا بأن إثبات الخطيئة على نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم متعذر عليهم، وأنه لا ينفعهم في هذا المقام المشاغبة بمثل ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: 2] لأن الخطيئة التي ننفيها عن محمد والمسيح على حد سواء هي مخالفة دين الله تعالى بارتكاب ما نهى الله عنه أو ترك ما أمر به، والذنب في اللغة كل عمل له تبعة لا تسر ولا توافق غرضه، فهو مأخوذ من ذنب الحيوان، ومثل هذا يقع من جميع الأنبياء، ومثاله من عمل نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم إذنه لبعض المنافقين في التخلف والقعود عن السفر معه في غزوة تبوك، وكان إذنه لهم مبنيا على اجتهاد صحيح وهو أنهم إذا خرجوا وهم كارهون ومصرون على نفاقهم يضرون ولا ينفعون كما قال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ [التوبة47] ولكن لو لم يأذن لهم لتبين له الصادق من المعتذرين وعلم الكاذبين منهم، فكان هذا الإذن ذنبا لأن له عاقبة مخالفة للمقصد أو للمصلحة، وهي عدم ذلك التبين والعلم، ـ فإن أولئك الكاذبين في الاعتذار الذي بنوا عليه الاستئذان ما كانوا يريدون الخروج معه صلّى الله عليه وآله وسلّم مطلقا أذن أو لم يأذن، ولذلك قال الله تعالى في هذا الذنب: ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: 43] فمثل هذا ـ وإن سمي ذنبا لغة ـ لا يعد من الخطايا التي تمنع الإنسان من استحقاق ملكوت الله المسلمين من لم تعرف له ولم تقع منه خطيئة من الخطايا التي يرمي الصليبيون بها الأنبياء والرسل عليهم السلام.

ج. لا نرد على قاعدة هؤلاء بأمثال هذه النواقض لأسسهم، والهوادم لأبنيتهم، لأنها ليست عندنا هي موضوع النجاة والسعادة في الآخرة، فلو فرضنا أن مزاعمهم فيها صحيحة لا يضرنا ذلك شيئا، ولذلك اختصرنا فيها هنا اعتمادا على بيانها المفصل في مواضعها من التفسير وغيره.

9. وإنما نرد عليهم ببيان عقيدة الإسلام في هذه المسألة ونذكرها هنا بالإيجاز لأن شرحها قد تقدم مرارا كثيرة فنقول (2):

أ. إن مدار نجاة الإنسان في الآخرة من العقاب وفوزه بالنعيم والسعادة الأبدية إنما هو تزكية نفسه وتطهيرها من العقائد الوثنية الباطلة والأخلاق الفاسدة حتى تكون متخلية عن الأباطيل والشرور، متحلية بالفضائل وعمل البر والخير، ومدار الهلاك على ضد ذلك، قال الله تعالى في سورة الشمس ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 8 ـ 10] فالله تعالى جعل كل إنسان متمكنا بقواه الفطرية من أعمال الفجور والشرور، ومن أعمال التقوى والخيرات، وهو الذي يزكي نفسه بهذا أو يدسيها بتلك، فمن صحت عقيدته وحسن عمله، صلحت نفسه وزكت، وكانت أهلا للنعيم في ذلك العالم العلوي، ومن كانت عقيدته خرافية باطلة، وأعماله سيئة، فسدت أخلاقه، وخبثت نفسه، وكان هو الذي تكلف تدسيتها ودهورتها إلى هاوية الجحيم، ولا يشترط في التزكية، أن لا يلم الإنسان بخطأ ولا تقع منه سيئة البتة، بل المدار على طهارة القلب وسلامته من الخبيث وسوء النية، بحيث إذا غلبه بعض انفعالات النفس فألم بذنب يبادر إلى التوبة، ويلجأ إلى الندم والاستغفار، وتكفير ذلك الذنب بعمل صالح، فيكون مثل نفسه كمثل بيت تتعاهده ربته بالكنس والمسح وسائر وسائل النظافة، فإذا ألم به غبار أو أصابه دنس بادرت إلى إزالته فيكون غالبا عليه النظافة، ولا يشترط في الشهادة له بذلك ما لا تخلوا منه البيوت النظيفة عادة من قليل غبار أو وسخ لا يلبث أن يزال، فالجزء أثر لازم للعمل، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وقد شرحنا هذا المعنى بالتفصيل في مواضع متعددة، منها في تفسير هذه السورة ما تقدم في الكلام على قوله تعالى: ﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد من دون الله وليا ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أوأنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا﴾ [النساء: 123، 124]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ [النساء: 18] ـ الآيتين، وقوله تعالى: ﴿إن تجتنبوا كبائر تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما﴾ [النساء: 30]، وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: 47و 116] الخ.

ب. فمن أخلص لله في تزكية نفسه وإصلاحها بالإيمان والعمل الصالح بقدر استطاعته كان مقبولا مرضيا عند الله تعالى ولا يؤاخذه تعالى بما لا يستطيع، ومن لم يكن كذلك غضب الله عليه وكان محروما من رضوانه الأكبر، ولا ينفعه في الآخرة شفاعة شافع، ولا يقبل منه فداء لو ملك الفداء، ولا يستطيع أحد من أهل السماوات والأرض يشفع لأحد لم يرض الله تعالى بالإيمان والإخلاص وتزكية النفس، التي يغلب بها الحق الخير على ضدهما ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [الأنبياء: 28] ـ ﴿واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدلا ولا تنفعها شفاعة﴾ [البقرة: 123] ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: 254]

ج. وقد علم مما ذكرناه من تزكية النفس وتدسيتها بعمل الإنسان وكسبه الاختياري أن الجزاء في الآخرة أثر لازم للتزكية والتدسية مرتب عليهما ترتب المسبب على السبب والمعلوم على العلة بفضل الله وحكمته ومقتضى سنته في خلقه، ﴿وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 261] ـ ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: 173]

د. أليست هذه التعاليم الإسلامية هي التي ترفع قدر الإنسان وتعلي همته وتحفزه إلى طلب الكمال بإيمانه وإخلاصه وأعماله الصالحة؟ أليست أفضل وأنفع من الارتكاب على تلك القصة الصليبية المأثورة مثلها عن خرافات الوثنيين، التي لا يصدقها عقل مستقل ولا يطمئن بها قلب سليم، المخالفة لسنن الفطرة ونظام الخلقة، التي أفسدت العقول والأخلاق في الممالك الصليبية منذ شاعت فيها بنفوذ الملك قسطنطين الصيليبي إلى أن عتقت أروبة من رق الكنيسة بنور العلم والاستقلال اللذين أشرق عليهما من بلاد الإسلام (ولكن واأسفاه على ذلك النور الذي ضرب بينه وبين أهله بسور له باب، ظاهر فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، وواشوقاه إلى اليوم الذي يندك فيه هذا السور الذي حجبهم عن القرآن)

10. اعترف أمامنا كثير من الذين قالوا إنهم نصارى بأن كلا من هذه العقيدة وعقيدة التثليث لا تعقل، وإن العمدة في إثباتهما عندهم النقل عن كتبهم المقدسة، فلما كانت تلك الكتب ثابتة عندهم وجب أن يقبلوا جميع ما فيها سواء عقل أم لم يعقل، ويقول بعضهم إن كل دين من الأديان فيه عقائد وأخبار يجزم العقل باستحالتها ولكنها تؤخذ بالتسليم، ونحن نقول إنه ليس في عقائد الإسلام شيء يحكم العقل باستحالته، وإنما فيه أخبار عن عالم الغيب لا يستقل العقل بمعرفتها لعدم الاطلاع على ذلك العالم ولكنها كلها من الممكنات أخبر بها الوحي فصدقناه، فالإسلام لا يكلف أحدا أن يأخذ بالمحال، وأما نقلهم هذه العقيدة عن كتابهم (وسيأتي البحث فيه) فهو معارض بنقل مثله عن كتب الوثنيين وتقاليدهم، فهذه عقيدة وثنية محصنة سرت إلى النصارى من الوثنيين كما بينه علماء أروبة الأحرار ومؤرخوهم وعلماء الآثار والعاديات منهم في كتبهم:

أ. قال (دوان) في كتابه خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الأخرى (ص 181، و182) ما ترجمته بالتخليص: (إن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد جدا عند الهنود الوثنيين وغيرهم) وذكر الشواهد على ذلك، منها قوله: (يعتقد الهنود إن كرشنا المولود البكر ـ الذي هو نفس الإله فشنو الذي لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم ـ تحرك حنوا كي يخلص الأرض من ثقل حملها، فأتاها وخلص الإنسان بتقديم نفسه ذبيحة عنه)، وذكر أن (مسترمور) قد صور كرشنا مصلوبا كما هو مصور في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه قلب الإنسان معلقا، ووجدت له صورة مصلوبا وعلى رأسه إكليل من الذهب، والنصارى تقول إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

ب. وقال: (هوك) في ص 326 من المجلد الأول من رحلته (ويعتقد الهنود الوثنيون بتجسيد أحد الآلهة وتقديم نفسه ذبيحة فداء للناس من الخطيئة)

ج. وقال: (مورينورليمس) في ص 36 من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيون بالخطيئة الأصلية، ومما يدل على ما جاء في مناجاتهم وتوسلاتهم التي يتوسلون بعد (الكياترى) وهو (إني مذنب ومرتكب الخطيئة وطبيعتي شريرة وحملتني أمي بالإثم فخلصني يا ذا العين الحندقوقية يا مخلص الخاطئين من الآثام والذنوب)

د. وقال القس جورج كوكس في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود (ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتا لأنه قدم شخصه ذبيحة)

هـ. ونقل هيجين عن (اندرادا الكروزيوس) وهو أول أروبي دخل النيبال والتبت أنه قال في الإله (اندار) الذي يعبدونه إنه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلص البشر من ذنوبهم، وإن صورة الصليب موجودة في كتبهم.

و. وفي كتاب جورجيوس الراهب صورة الإله (أندار) هذا مصلوبا، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسي أقصرها (وفيه صورة وجه) والسفلي أطولها، ولولا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة إنها تمثل شخصا.

ز. هذا وأما ما يروى عن البوذيين في (بوذا) فهو أكثر انطباقا على ما يرويه النصارى عن المسيح، من جميع الوجوه، حتى أنهم يسمونه المسيح والمولود الوحيد، ومخلص العالم، ويقولون إنه إنسان كامل وإله كامل تجسد بالناسوت، وإنه قدم نفسه ذبيحة ليكفر ذنوب البشر ويخلصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات، بين ذلك كثير من علماء الغرب منهم (بيل) في كتابه (تاريخ بوذه) و(هوك) في رحلته (موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتية، وغيرهم.

ح. ومن أراد المقابلة بين إله النصارى وآلهة الوثنيين الأولين في الشرق والغرب فعليه أن يقرأ كتاب العقائد الوثنية في الديانات النصرانية فهل يتصور من مسلم هداه الله بالإسلام إلى التوحيد الخالص والدين القيم دين العقل والفطرة المبني على تكريم نوع الإنسان أن يستحب العمى على الهدى فيرضى لنفسه التخبط في ظلمات هذه العقائد الوثنية؟؟

11. شبهات النصارى على إنكار الصلب:

أ. الأولى: يدعي بعضهم فيما يموه به على عوام المسلمين أن مسألة الصلب متواترة فالعلم بها قطعي، والجواب: عن هذه الشبهة أن دعوى التواتر ممنوعة، فإن التواتر عبارة عن إخبار عدد كثير لا يجوز العقل اتفاقهم وتواطأهم على الكذب بشيء قد أدركوه بحواسهم إدراكا صحيحا لا شبهة فيه، وكان خبرهم بذلك متفقا لا اختلاف فيه، هذا إذا كان التواتر في طبقة واحدة رأوا بأعينهم شيئا (مثلا) وأخبروا به، فإن كان التوتر في طبقات كان ما بعد الأولى: مخبرا عنها، ويشترط أن يكون أفراد كل طبقة لا يجوز عقل عاقل تواطؤهم على الكذب في الإخبار عمن قبلهم، وأن يكون كل فرد من كل طبقة قد سمع جميع الأفراد الذين يحصل بهم التواتر ممن قبلهم، وأن يتصل السند هكذا إلى الطبقة الأخيرة، فإن اختل شرط من هذه الشروط لا ينعقد التواتر، وأنى للنصارى بمثل هذا التواتر، والذين كتبوا الأناجيل والرسائل المعتمدة عندهم لا يبلغون عدد التوتر، لم يخبر أحد منهم عن مشاهدة، ومن تنقل عنه المشاهدة كبعض النساء لا يؤمن عليه الاشتباه والوهم؟ بل قال يوحنا في إنجيله إن مريم المجدلية، وهي أعرف الناس بالمسيح، اشتبهت فيه وظنت أنه البستاني، وهو قد كان صاحب آيات، وخوارق عادات، فلا يبعد أن يلقي شبهه على غيره، وينجو بالتشكل بصورته، كما رووا عنه أنه قال لهم) إنهم يشكون فيه)، كما قال مرقس أنه ظهر لهم بهيئة أخرى، ثم إن ما عزى إليهم لم ينقله عنهم عدد التواتر بالسماع منهم طبقة بعد طبقة إلى العصر الذي صار للنصارى فيه ملك وحرية يظهرون فيهما دينهم، وقد بين الشيخ رحمة الله الهندي وغيره انقطاع أسانيد هذه الكتب بالبينات الواضحة، وسيأتي في هذا السياق ما يدل على عدم الثقة بها.

ب. الثانية: يقولون لو لم تكن هذه القصة متواترة متفقا عليها لوجد فيهم من أنكر كما وجدت فيهم فرق خالفت الجمهور في أصول عقائده كالتثليث ولم تخالفه في هذه العقيدة، والجواب: عن هذا عسير على من يجهل تاريخهم، يسير على المطلع عليه، فقد أنكر الصلب منهم فرقة السيرنثيين والتاتانوسيين أتباع تاتيانوس تلميذ يوستينوس الشهيد وقال فوتيوس أنه قرأ كتابا يسمى (رحلة الرسل) فيه أخبار بطرس ويوحنا واندراوس وتوما وبولس، ومما قرأ فيه (إن المسيح لم يصلب ولكن صلب غيره وقد ضحك بذلك من صالبيه)، هذا وإن مجامعهم الأولى: قد حرمت قراءة الكتب التي تخالف الأناجيل الأربعة والرسائل التي اعتمدتها فصار أتباعهم ينكر الصلب، وما يدرينا أن تلك الكتب التي فقدت كانت تنكره أيضا، فنحن لا ثقة لنا باختيار المجامع لما اختارته فنجعله حجة ونعد ما عداه كالعدم: على أن عدم العلم بالمنكرين لا يقتضي عدم وجودهم، وعدم وجودهم لا يقتضي أن يكون ما اتفقوا عليه بتقليد بعضهم لبعض ثابتا في نفسه.

ج. الثالثة: يقولون إن الأناجيل ورسائل العهد الجديد قد أثبتت الصلب وهي كتب مقدسة معصومة من الخطأ فوجب اعتقاد ما أثبتته، والجواب: أولا: لا دليل على عصمة هذه الكتب ولا على أن كاتبيها كانوا معصومين، ثانيا: لا دليل على نسبتها إلى من ينسب إليهم لأنها غير متواترة كما تقدم، وثالثا: إنها معارضة بأمثالها كإنجيل برنابا، وترجيحهم إياها على هذا الإنجيل لا يصلح مرجحا عندنا لأنهم اتبعوا في اعتمادها تلك المجامع التي لا ثقة لنا بأهلها، ولا كانوا معصومين عندهم ولا عندنا، ورابعا: إنها متعارضة في قصة الصلب وفي غيرها، وخامسا: إنها معارضة بالقرآن العزيز وهو الكتاب الإلهي الذي ثبت نقله بالتواتر الصحيح دون غيره، فقصارى تلك الكتب أن تفيد الظن بالقرائن كما قال تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ [النساء: 157] والقرآن قطعي فوجب تقديمه لأنه يفيد العلم القطعي، وإن بعض المسلمين يصدقون دعاة النصرانية ومجادليهم من زعمهم أن هذه الأناجيل محفوظة عندهم من عهد المسيح إلى الآن، وأنها مسلمة عند جميع فرقهم ومعروفة عند غيرهم، فلم يكن يختلف فيها اثنان، ولكن من طالع كتبهم التاريخية والدينية يعلم أن هذه الدعوى باطلة، وإنما يصدقهم المسلمون الجاهلون لتوهم أن النصرانية نشأت كالإسلام في مهد القوة والعزة والمدنية والحضارة فأمكن حفظ القرآن، وشتان بين الأمتين في نشأتهما شتان، وإليك نزرا من البيان، وإن شئت من مثله فارجع إلى الكتب المؤلفة في هذا الشأن.

د. الرابعة: قولهم إن كتب العهد العتيق قد بشرت بمسألة الصلب ونوهت بها تنويها، والجواب: نحن نقول إن هذا غير مسلم بل أنتم تأولتم عبارات من تلك الكتب وجعلتموها مشيرة إلى هذه القصة ـ أو كما قال السيد جمال الدين إنكم فصلتم قميصا من تلك الكتب وألبستموها للمسيح، كما إنكم تدعون إن الذبائح الوثنية كانوا يشيرون بها إلى صلب المسيح فكأن جميع خرافات البشر وعباداتهم حجج لكم على عقيدتكم هذه وإن كانوا قد سبقوكم إلى مثلها، على أن كثيرا من تلك العبادات حجة عليكم لا لكم هو مبسوط في محله.

هـ. الخامسة: يقولون إذا جاز أن يشتبه في المسيح ويجهل شخصه الجنود الذين جاءوا للقبض عليه والحكام ورؤساء الكهنة الذين طلبوا صلبه بعد القبض عليه، فهل يجوز أن يشتبه في ذلك تلاميذه ومريدوه الذين يعرفونه حق المعرفة؟ والجواب: ونقول إن الجواب على هذا من وجهين:

أحدهما: إنه عهد بين الناس أن يشبه بعضهم بعضا شبها تاما بحيث لا يميز أحد المتشابهين المعاشرون والأقربون، وقد يكون هذا بين الغرباء كما يكون بين الأقربين، ولعله يقل في الذين يسافرون ويتقلبون بين كثير من الناس من لم يقع له الاشتباه بين من يعرف ومن لا يعرف، وقد وقع لي غير مرة أن أسلم على رجل غريب اشتبه علي بصديق لي ثم أعرف بعد الحديث معه أنه غيره، وإننا لزيادة البيان نورد قليلا من الشواهد عن الإفرنج الذين يثق دعاة النصرانية عندنا بهم ما لا يثقون بغيرهم لأن هؤلاء الدعاة من أبناء جنسهم أو مقلدتهم، قال صاحب كتاب التربية الاستقلالية (اميل القرن التاسع عشر) حكاية عن كتاب كتبته امرأة الدكتور إراسم إلى زوجها ما نصه: (لقد كثر ما لاحظت أنه يوجد في بعض الأحوال بين شخصين مختلفين في الذكورة والأنوثة والموطن تشابه كالذي يوجد بين أفراد أسرة واحدة مع أن كلا منهما يكون أجنبيا من الآخر من كل الوجوه، أتدري من هو الذي حضرت صورته في ذهني عند وقوع بصري على السيدة وارنجتون؟ ذلك هو صديقك يعقوب نقولا، خلتني أراه بذاته في زي امرأة) اهـ فهذا مثال لرأي الكاتب في تشابه الناس، وفي رسالة نشرت في مجلد الحادي عشر من المنار ما نصه (ص 368)، (ويوجد في كتب الطب الشرعي حوادث كثيرة في باب تحقيق الشخصيات دالة على أنه كثيرا ما يحدث للناس الخطأ في معرفة بعض الأشخاص ويشبهون عليهم بغيرهم وقد ذكر (جاي) و(فرير) مؤلفا (كتاب أصول الطب الشرعي) في اللغة الإنكليزية حادثة استحضر فيها 150 شاهدا لمعرفة شخص يدعى (مارتين جير) فجزم أربعون منهم أنه هو هو وقال خمسون أنه غيره والباقون ترددوا جدا ولم يمكنهم أن يبدوا رأيا ثم إتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غير مارتين جير وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون وعاش مع زوجة مارتين محاطا بأقاربه وأصحابه ومعارفه مدة ثلاث سنوات وكلهم مصدقون أنه مارتين ولما حكمت المحكمة عليه لظهور كذبه بالدلائل القاطعة استأنف الحكم في محكمة أخرى فأحضر ثلاثون شاهدا آخرون فأقسم عشرة منهم بأنه هو مارتين وقال سبعة أنه غيره وتردد الباقون، وقد حدثت هذه الحادثة سنة 1539 في فرنسة وأمثالها كثير، وقد بلغ من شبه بعض الأشخاص لغيرهم أن وجد فيهم بعض ما يوجد في غيرهم ممن شابههم من الكسور أو الجروح أو آثارها وغير ذلك حتى تعسر تمييز بعضهم عن بعض ولذلك جد الأطباء في وضع مميزات لأشخاص البشر المختلفين اهـ.

الثاني: أن هذه الحادثة من خوارق العادات التي أيد الله بها نبيه عيسى ابن مريم وأنقذه من أعدائه، فألقى شبهه على غيره وغير شكله هو فخرج من بينهم وهم لا يشعرون، وفي أناجيلهم وكتبهم جمل متفرقة تؤيد هذا الوجه أشرنا إلى بعضها من قبلـ منها: قوله لهم إنهم يشكون فيه يومئذ (ومنها) أنه يتشكل بغير شكله، (ومنها) أنه طلب من الله أن يعبر عنه هذه الكأس أي قتله وصلبه إن أمكن، ولا شك أن هذا من الممكنات الخاضعة لمشيئة الله وقدرته، ويمكن أن يستدل على استجابة الله لدعائه بقول يوحنا حكاية عنه في سياق قصة الصلب من آخر الفصل 16 (ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم) قال هذا بعد إخبارهم بأنه تأتي ساعة يتفرقون عنه ويبقى وحده ولكن الله يكون معه، أي بعونه وحفظه، وفي هذا المعنى قول متى [56 حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا: 26] وقول مرقص [5° فتركه الجميع وهربوا: 14] فهذا نص في أن التلاميذ كلهم هربوا حين جاء الجند ليقبضوا على المسيح فلم يكن الذين يعرفونه حق المعرفة هنالك، ومما يدل على استجابة الله دعوته بأن ينقذه ويعبر عنه تلك الكأس عبارة المزمور 109 التي يقولون إن المراد بها المسيح وهذا نصها (26 أعني يا رب إلهي خلصني حسب رحمتك 27 وليعلموا أن هذه يدك أنت يا رب فعلت هذا 28 أما هم فيعلنون وأما أنت فتبارك، قاموا وخزوا، أما عبدك فيفرح 29 ليلبس خصمائي خجلا وليتعطفوا بخزيهم كالرداء 30 أحمد الرب جدا بفمي وفي وسط كثيرين أسلحه 31 لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلصه من القاضين على نفسه) وفي العبارات التي يحملونها على المسيح شواهد أخرى بمعنى هذا.

و. السادسة: يقولون: إذا كان المسيح قد نجا من أعدائه بعناية آلهية خاصة، فأين ذهب؟ ولماذا لم يقف له أحد على عين ولا أثر؟ والجواب: أن هذه الشبهة لا ترد على الذين يقولون إنه رفع بروحه وجسده إلى السماء، وإنما ترد على الذين قالوا إن الله توفاه في الدنيا ثم رفعه إليه كما رفع إدريس عليهما السلام، ويقول هؤلاء لا غرابة في الأمر فإن أخاه موسى عليه السلام كان بين الألوف من قومه، الخاضعين لأمره ونهيه، وقد انفرد عنهم، ومات في مكان لم يعرفه أحد منهم، فكيف يستغرب أن يفر عيسى عليه السلام من قوم أعداء له، لا ولي له فيهم ولا نصير إلا أفراد من الضعفاء، وقد انفضوا من حوله وقت الشدة وأنكره أمثلهم (بطرس) ثلاث مرات؟ لا بدع إذا ذهب إلى مكان مجهول ومات فيه كما مات فيه موسى (عليهما السلام) ولم يعرف قبره أحد، كما هو منصوص في آخر سفر تثنيه الاشتراع من أسفار التوراة، ومن الناس من يزعم أن قبر المسيح الذي دفن فيه بعد موته قد اكتشف في الهند كما سيأتي.

ز. السابعة: يقولون إنكم تأخذون بقول إنجيل برنابا وغيره بالموضوع وأقوال مبتدعة النصارى الأولين الذين زعموا أن يهوذا هو الذي صلب لا المسيح مع أن يهوذا قد انتحر كما ثبت في الإنجيل، والجواب: اتفقت النصارى على القول بأن يهوذا الأسخريوطي هو الذي دل على يسوع المسيح وكان يهوذا هذا رجلا عاميا من بلدة تسمى (خريوت) في أرض يهوذا تبع المسيح وصار من خواص أتباعه الذي يلقبونه بالتلاميذ الاثني عشر الذي بشرهم بأنهم يكونون معه في الملكوت على اثني عشر كرسيا ويدينون بني إسرائيل، أي يحاسبونهم في يوم الدين، ومن الغريب أن يهوذا كان يشبه المسيح في خلقه كما نقل (جورج سايل) الإنكليزي في ترجمته للقرآن المجيد فيما علقه على سورة آل عمران، وعزا هذا القول إلى (السيرنثيين والكربوتيين) من أقدم فرق النصارى الذين أنكروا صلب المسيح وصرحوا بأن الذي صلب هو يهوذا الذي كان يشبهه شبها تاما، وقالوا إن يهوذا أسف وندم على ما كان من إسلامه المسيح إلى اليهود حتى حمله ذلك على بخع نفسه (الانتحار) فذهب إلى حقل وخنق نفسه فيه (متى 27: 3ـ10) أو علقها (أعمال: 1: 18) وغرضنا من هذا الخبر بيان أنهم معترفون بأن يهوذا فقد بعد حادثة الصلب ولم يظهر في الوجود وأنهم يدعون أن سبب هذا هو قتل نفسه من الحزن والأسف، واختلف الرسل في كيفية القتل وإن كانوا معصومين (؟)، ونحن نرى أنه إنما فقد لأنه هو الذي صلب، والمسيح هو الذي نجاه الله تعالى ورفعه، فإن الذي يحمله انفعاله وألم نفسه على أن يبخع نفسه بيده خنقا أو شنقا لا يستبعد منه أن يبسلها بالاستسلام إلى من يتولى ذلك عنه فإنه أهون عليه، فمن المعقول أن يكون يهوذا عندما دل اليهود على المسيح في الليل رأى بعينه عناية الله تعالى بانجائه وإنقاذه من بين أيديهم (كما أنجى أخاه محمد عليهما الصلاة والسلام من أيدي كفار قريش وكانوا أشد معرفة له من معرفة اليهود للمسيح ـ لأنهم لم يكونوا يحتاجون إلى بذل المال لمن يدلهم عليه كما بذلت اليهود ثلاثين قطعة من الفضة ليهوذا ـ فخرج ليلة الهجرة من بين الذين كانوا ينتظرونه عند داره ليقتلوه ولم يبصروه) فلما رأى يهوذا ذلك وعلم درجة عناية الله تعالى بعبده ورسوله عظم ذنبه في نفسه واستسلم للموت ليكفر الله عنه ذنبه كما كفر ذنب الذين اتخذوا العجل من بني إسرائيل بقتل أنفسهم فأخذوه وصلبوه من غير مقاومة تذكر، فرواية الإنجيل وسفر الأعمال عن وجدانه مخنوقا أو مشنوقا غير مسلمة وقد تعارض القولان فتساقطا ووجب اعتماد قول برنابا الذي أخذ به بعض قدماء النصارى، وإذا كان إيمان يهوذا قويا إلى هذه الدرجة درجة الانتحار والبخع من ألم الذنب فليت شعري لماذا لا تقبل توبته ولا ينفعه إيمانه حتى ادعوا أنه مات كافرا، وإن كرسيه في الملكوت سيبقى خاليا، وبشارة المسيح له لا تكون صادقة؟ ولماذا تقبل توبة بطرس الذي أنكر المسيح وتركه ولعنه المسيح في حياته وسماه شيطانا، على أن توبته دون توبة يهوذا، وما كان يهوذا إلا متمما لذريعة الفداء التي هي أساس الدين عندهم؟

ح. الثامنة: يقولون إن المسيح قد قام من قبره بعد موته ودفنه وظهر للنساء ولتلاميذه ولأناس آخرين، وأرى بعضهم أثر المسامير في جسده، وقد اتفقت على قيامه جميع الأناجيل، فكيف يجمع بين هذا وبين القول.

12. الدلائل على عدم الثقة بالأناجيل: ألف سلسوس من علماء الوثنيين في القرن الثاني للميلاد كتابا في إبطال الديانة النصرانية قال فيه كما نقل عنه أكهارن من علماء ألمانيا ما ترجمته (بدل النصارى أناجيلهم ثلاث مرات أو أربع مرات بل أكثر من هذا تبديلا كأن مضامينها بدلت)، وفي كتبهم أن الفرقة الأبيونية من فرق النصارى في القرن الأول ميلادي كانت تصدق بإنجيل متى وحده وتنكر ما عداه، ولكن كان ذلك الإنجيل مخالفا لإنجيل متى الذي ظهر بعد ظهور قسطنطين، وأن الفرقة المارسيونية من فرق النصارى القديمة كانت تأخذ بإنجيل لوقا وكانت النسخة التي تؤمن بها مخالفة للموجودة الآن، وكانت تنكر سائر الأناجيل وهي عندهم من المبتدعة، وفي رسالة بولس إلى أهل غلاطية ما نصه: [6 إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر 7 ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح: 1] هكذا في ترجمة البرتستانت الأخيرة (يحولوا) وفي الترجمة القديمة التي نقل عنها كثيرون (يحرفوا) وفي ترجمة الجزويت (يقلبوا) والمعاني متقاربة تدل كلها على أنه كان في عهد بولس قوم يدعون الناس إلى إنجيل غير الذي يدعو هو إليه، ومعنى كونه أنهم حرفوه أو قلبوه حتى صار كأنه إنجيل آخر، وكما اعترف بولس بهذا اعترف بأنه كان يوجد في عصره رسل كذابون غدارون تشبهوا برسل المسيح، صرح بذلك في رسالته الثانية: إلى أهل كورنثيوس فقال [13 لأن مثل هؤلاء رسل كذبة فعلة ماكرون مغيرون شكلهم إلى رسل المسيح 14 ولا عجب لأن الشيطان يغير شكله إلى ملاك نور 15 فليس عظيما إذا كان خدامه أيضا يغيرون شكلهم كخدام للبر: 11]، وفي سفر الأعمال تصريح بأن بعض اليهود كانوا ينبثون بين المسيحيين ويعلمونهم غير ما يعلمهم رسل المسيح، وأن الرسل والمشايخ أرسلوا بولس وبرنابا إلى انطاكية لتحذير إخوانهم فيها من الذين يوصونهم بالختان وحفظ الناموس الذي لم يأمروهم به، كما ذكر في الفصل 15 منه، وفي آخره إنه حصلت مشاجرة هنالك بين بولس وبرنابا وافترقا، ومن المعلوم أن بولس كان عدو المسيحيين وخصمهم وأنه لما ادعى الإيمان لم يصدقه جماعة المسيح عليه السلام ولولا أن شهد له برنابا لما قبلوه، وبرنابا يقول في أول إنجيله إن بولس نفسه كان من الذين بشروا بتعليم جديد غير تعليم المسيح، فمع أمثال هذه النصوص في أمهات كتبهم كيف يمكن للمسلم أن يثق بها.

13. من الشواهد على التعارض والتناقض في قصة الصلب:

أ. منها أن أصل هذه العقيدة أن المسيح بذل نفسه باختياره فداء وكفارة عن البشر، مع أن هذه الأناجيل تصرح بأنه حزن واكتأب عندما شعر بقرب أجله وطلب من الله أن يصرف عنه هذه الكأس، ففي متى [37 ثم معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب 38 فقال لهم نفسي حزينة جدا حتى الموت امكثوا هنا واسهروا معي 39 ثم تقدم قليلا وخر على وجهه وكان يصلي قائلا: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما (تريد: 26] أنت.. 42 فمضى أيضا ثانية وصلى قائلا: يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك) ومثل هذا في لوقا [43 ـ 45: 22]، فكيف يقول المسيح هذا وهو إله عنندهم؟ فهل يمكن أن يجهل ما يمكن وما لا يمكن، وأن يطلب إبطال الطريقة التي أراد الأب ـ وهو هو عندهم ـ أن يجمع بها بين عدله ورحمته؟؟

ب. ومن الشواهد عليها مسألة اللصين اللذين قالوا إنهما صلبا معه، قال مرقس: [15 وصلبوا معه لصين واحدا عن يمينه وآخر عن يساره 28: 27] فتم الكتاب القائل (وأحصي مع أثمة) ـ إلى أن قال واللذان صلبا معه كانا يعيرانه، وكذلك قال متى: [44 وأما لوقا فقد سمى الرجلين اللذين صلبا معه مذنبين: 27] ولكنه قال 23: 39 وكان واحد من المذنبين المعلقين معه يجدف عليه قائلا: (إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا 30 فأجاب الأخر وانتهره) الخ وفيه أن المسيح بشر هذا بأنه يكون معه في الفردوس ذلك اليوم، فكانت نبوة الكتاب (المراد به أشيعا) أنه يصلب مع أثمة بصيغة الجمع ثم كان الجمع اثنين ولا بأس بذلك، ولكن كيف يقول إثنان من الإنجيليين المعصومين على رأيهم إن الذي عيره وأهانه هو أحدهما والآخران وهما مثله في عصمته يقولان بل كلاهما عيره؟ ومثل هذه المخالفات والمعارضات في هذه القصة كثيرة، ومِن أظهرِها مسألةُ دفنه ليلة السبت وقيامه من القبر قبل فجر يوم الأحد، مع أن البشارة أنه يكون في بطن الأرض ثلاثة أيام بلياليها وهي مدة يونان في بطن الحوت، ومنها مسألة النساء اللواتي جئن القبر وفيها عدة خلافات في وقت المجيء ورؤية الملك أو الملكين ورؤيته هو الخ.

14. قول بعض النصارى بعدم موت المسيح بالصلب:

أ. رووا أن القبر الذي دفن فيه المصلوب وجد في صباح الأحد خاليا واللفائف ملقاه، وأن اليهود والوثنيين لما عملوا بذلك قالوا إن الجثة سرقت.

ب. ويروى عن بعض المدققين من علماء أروبة الأحرار وكذا الذين يسمون المسيحيين العقليين إن الذي صلب لم يمت بل أغمي عليه، فلما أنزل ولف باللفائف ووضع في ذلك الناووس أفاق وألقى اللفائف حتى إذا جاء الذين رفعوا الحجر لافتقاده خرج واختفى عن الناس حتى لا يعلم به أعداؤه، ومما أوردوا من التقريب على هذا أن المصلوب لم يخرج منه إلا كفاه ورجلاه وهي ليست من المقاتل ولم يمكث معلقا إلا ثلاث ساعات وكان يمكن أن يعيش على هذه الصفة عدة أيام، وأنه لما جرح بالحربة خرج منه دم وماء والميت لا يخرج منه ذلك، بل قالوا إن ذلك لم يكن صلبا تاما كالمعتاد في تلك الأزمنة.

ج. من النقول المصرحة بشيوع هذا الرأي ما جاء في (ص 563 من كتاب ذخيرة الألباب، وفي بيان الكتاب) وهو: (فللكفرة والجاحدين في تكذيب تلكم المعجزة مذاهب شتى..، فمنهم من استفزتهم مع بهردواك وبولس غثلب حماقة الجهل ووساوس الكفر إلى أن قالوا إن يسوع نزل عن الصليب حيا ودفن في القبر حيا)

د. وقال: (في ص 564 منه) إن اليهود والوثنيين وهم أعداء المسيح ودينه الحق قد توغلوا في بيداء الهذيان وتمادوا في إغواء ضلالهم حتى قالوا إن تلاميذ يسوع رفعوا جسده خفية وعلى حين غفلة من الحرس وبثوا في القوم أنه انبعث حيا وعندهم إن ذلك كان شائعا عند اليهود حين كتب القديس متى إنجيله (عد 15 من فصل 28 من متى) 1هـ.

15. القول بهجرة المسيح إلى الهند وموته في البلدة (سِرَيْ نَكْرَا) في كشمير، يوجد في بلدة سيري نكر أو نقر (والهنود تكتب نكر بالكاف المفخمة وهي كالجيم المصرية) مقبرة فيها مقام عظيم يقال هناك إنه مقام نبي جاء بلاد كشمير من زهاء ألف وتسع مائة سنة يسمى يوز آسفا، ويقال إن إسمه الأصلي عيسى صاحب (وكلمة صاحب في الهند لقب تعظيم كأفندي عند الترك ومستر ومسيو عند الإفرنج) وأنه نبي من بني إسرائيل وإنه ابن ملك، وإن هذا القول مما يتناقله اهل تلك الأديار عن سلفهم وتذكر في بعض كتبهم، وإن دعاة النصرانية الذين ذهبوا إلى ذلك المكان لم يسعهم إلا أن قالوا إن ذلك القبر لأحد تلاميذ المسيح أو رسله، ذكر ذلك بالتفصيل غلام أحمد القدياني الهندي في كتابه الذي سماه (الهدى والتبصرة لمن يرى) وذكر فيه أنه اكتفى بالإجمال وأن تفصيل هذه المسألة يوجد في كتاب معروف هناك اسمه (إكمال الدين) وذكر أكثر من سبعين اسما من أسماء أهل ذلك البلد الذين قالوا إن ذلك القبر هو قبر المسيح عيسى ابن مريم، ورسم صورة المقبرة بالقلم وأما قبر المسيح فوضعه في الكتاب بالرسم الشمسي (الفوتوغرافي) مكتوبا عليه (مقبرة عيسى صاحب)، وغلام أحمد هذا يفسر الإيواء في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ بالهجرة إلى الهند واللجوء إلى تلك البلدة في كشمير، فإن الإيواء يستعمل في مقام الإنقاذ والتنجية من الهم والكرب والمصائب والمخاوف، واستشهد بقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾، وقوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ﴾، وقوله حكاية عن ولد نوح: ﴿سآوي إلى جبل يعصمني من الماء والربوة المكان المرتفع وبلاد كشمير من أعلى بلاد الدنيا وهي ذات قرار مكين، وماء معين، والمشهور عند المفسرين أن هذه الربوة هي رملة فلسطين أو دمشق الشام، ولو آوى الله المسيح وأمه إليهما، لما خفي مكانهما فيهما لا سيما إذا كان ذلك بعد محاولة صلب وتألب اليهود عليه، كما يدل عليه لفظ الإيواء الذي لم يستعمل في القرآن إلا في الإنقاذ من المكروه كما علم من الأمثلة المذكورة آنفا، ومثلها قوله تعالى في الأنصار رضي الله عنهم ﴿والذين آووا ونصروا﴾ (الأنفال: 74] وفي يوسف عليه السلام ﴿آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [يوسف: 69] وفي آية أخرى ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ﴾ [يوسف: 99] ولم يكن المسيح قبل تألب اليهود عليه والسعي لقتله وصلبه في مخافة يحتاج فيها إلى الإيواء في مأمن منه، ففراره إلى الهند وموته في ذلك البلد ليس ببعيد عقلا ولا نقلا.

__________

(1) تفسير المنار: ‏6/18.

(2) تقسيم الفروع هنا ليس منهجيا، وإنما من باب التبسيط فقط

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أي وإن كل أحد من أهل الكتاب عندما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى وسواه من أمور الدين فيؤمن بعيسى إيمانا حقا لا زيغ فيه ولا ضلال، فاليهودى يعلم أنه رسول صادق في رسالته ليس بالكذاب، والنصراني يعلم أنه عبد الله ورسوله وليس بإله وليس هو بابن للّه، وفائدة إخبارهم بذلك ـ بيان أنه لا ينفعهم حينئذ فعليهم أن يبادروا به قبل أن يضطرّوا إليه مع عدم الجدوى والفائدة.

2. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ أي ويوم القيامة يشهد عيسى عليهم بما تظهر به حقيقة حاله معهم كما حكى الله عنه من قوله: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ فهو يشهد للمؤمنين منهم بالإيمان حال التكليف والاختيار وعلى الكافر بالكفر، إذ هو مرسل إليهم وكل نبي شهيد على قومه كما قال تعالى:‏ ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ وقد ورد في الآثار ما يدل على اطلاع الناس قبل موتهم على منازلهم من الآخرة، فيبشّرون برضوان الله أو بعذابه وعقوبته، روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ (إن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته، وإن الكافر إذا حضر (حضره الموت) بشر بعذاب الله وعقوبته) وروى ابن مردويه عن ابن عباس (ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار)، وهذا يؤيد ما روى عن ابن عباس في تفسير الآية من أن الملائكة تخاطب من يموت من أهل الكتاب قبل خروج روحه بحقيقة أمر المسيح، مع الإنكار الشديد والتقبيح.

__________

(1) تفسير المراغي ‏6/16.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نعود من هذا الاستطراد، مع عودة السياق القرآني إلى بقية هذا الاستدراك: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾، وقد اختلف السلف في مدلول هذه الآية، باختلافهم في عائد الضمير في (موته):

أ. فقال جماعة: وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن بعيسى عليه السلام قبل موته ـ أي عيسى ـ وذلك على القول بنزوله قبيل‏ الساعة.

ب. وقال جماعة وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن بعيسى قبل موته.. أي موت الكتابي ـ وذلك على القول بأن الميت ـ وهو في سكرات الموت ـ يتبين له الحق، حيث لا ينفعه أن يعلم!

2. ونحن أميل إلى هذا القول الثاني؛ الذي ترشح له قراءة أبيّ: (إلا ليؤمننّ به قبل موتهم).. فهذه القراءة تشير إلى عائد الضمير؛ وأنه أهل الكتاب.. وعلى هذا الوجه يكون المعنى: أن اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام وما زالوا على كفرهم به، وقالوا: إنهم قتلوه وصلبوه، ما من أحد منهم يدركه الموت، حتى تكشف له الحقيقة عند حشرجة الروح، فيرى أن عيسى حق، ورسالته حق، فيؤمن به، ولكن حين لا ينفعه إيمان.. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/803.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المعنى الحرفىّ لهذه الآية هو: ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بالمسيح قبل أن يموت المسيح، ثم يكون المسيح يوم القيامة شهيدا على أهل الكتاب هؤلاء.. أي شاهدا عليهم بما كان منهم معه.. وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى.. فما تأويل هذا؟ وكيف يؤمن أهل الكتاب جميعا بالمسيح، وقد أنكره اليهود، وما زالوا، وهم من أهل الكتاب؟ ثم إن الأمر لأكثر من هذا.. فقد جاء الخبر مؤكّدا، مستغرقا جميع أهل الكتاب، فردا فردا.. وهذا يعنى أن الخبر على حقيقته، وأنه لا مجال فيه للمجاز.. وأنه حكم جازم قاطع بأن كل أحد من أهل الكتاب لا يموت إلا وهو مؤمن بالمسيح! فما تأويل هذا؟

2. قيل إن المراد من إيمان أهل الكتاب ـ من اليهود والنصارى ـ بالمسيح، هو تصحيح إيمانهم به ومعتقدهم فيه.. إذ كان اليهود قد نسبوه إلى أمّ زانية، واتهموه بالسحر والشعوذة والتجديف على الله، وحكموا عليه بالموت صلبا.. على حين أن النصارى رفعوه إلى مقام الألوهية، وجعلوه هو الله سبحانه وتعالى، تجسّد في عذراء، وبشّر بالإنجيل، ثم صلب ـ مختارا ـ ليفتدى بدمه خطيئة آدم، وليطهّر البشر منها، ثم قام من بين الأموات بعد ثلاثة أيام..! وتصحيح إيمان هؤلاء وأولئك بالمسيح، هو رؤيته على الصورة التي هي له، وأنه عبد من عباد الله، وأنه ولد من أمّ دون أب، كما ولد آدم من غير أب ولا أم، وأنه نبيّ اصطفاه الله لهداية الناس، والتبشير بالحق، والعدل، والسلام‏ فيهم، وأنه لم يصلب ولم يقتل، ولم يقم من بين الموتى.. وأنه ليس إلها ولا ابن إله..

3. أما تصحيح هذا الإيمان فإنه يكون في سكرة الموت، حيث تشهد الروح قبل أن تفارق البدن شعاع الحق يكشف لها كل ما كانت عليه من ضلال.. وفي لمحة خاطفة، أشبه بلمحة البرق ترى الروح كلّ شيء وتعلم كل شى‏ء..! ومن بين ما تعلمه فساد معتقدها أو سلامته، وسوء مصيرها أو حسنه! وهذا الذي تشهده الروح في هذه اللمحة من معالم الحق لا يغيّر من وضعها الذي كانت عليه.. فهذا إيمان كإيمان فرعون حين أدركه الغرق، ﴿حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 90] وقد ردّ الله إيمانه ولم يقبله بقوله تعالى: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 91]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/1002.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ عطف على جملة ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾، وهذا الكلام إخبار عنهم، وليس أمرا لهم، لأنّ وقوع لام الابتداء فيه ينادي على الخبرية، و﴿إِن﴾ نافية و﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ صفة لموصوف محذوف تقديره: أحد.

2. الضمير المجرور عائد لعيسى: أيّ ليومننّ بعيسى، والضمير في‏ ﴿مَوْتِهِ﴾ يحتمل أن يعود إلى أحد أهل الكتاب، أي قبل أن يموت الكتابيّ، ويؤيّده قراءة أبي بن كعب‏ ﴿إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾

3. وأهل الكتاب يطلق على اليهود والنّصارى؛ فأمّا النصارى فهم مؤمنون بعيسى من قبل، فيتعيّن أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود، والمعنى أنّ اليهود مع شدّة كفرهم بعيسى لا يموت أحد منهم إلّا وهو يؤمن بنبوّته قبل موته، أي ينكشف له ذلك عند الاحتضار قبل انزهاق روحه، وهذه منّة منّ الله بها على عيسى، إذ جعل أعداءه لا يخرجون من الدنيا إلّا وقد آمنوا به جزاء له على ما لقي من تكذيبهم، لأنّه لم يتمتّع بمشاهدة أمّة تتبعه، وقيل: كذلك النصرانيّ عند موته ينكشف له أنّ عيسى عبد الله، وعندي أنّ ضمير ﴿بِهِ﴾ راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل‏ ﴿رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء: 158]، ويعمّ قوله: ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ اليهود، والنّصارى، حيث استووا مع اليهود في اعتقاد وقوع الصلب، والظاهر أنّ الله يقذف في نفوس أهل الكتابين الشكّ في صحّة الصلب، فلا يزال الشكّ يخالج قلوبهم ويقوى حتّى يبلغ مبلغ العلم بعدم صحّة الصلب في آخر أعمارهم تصديقا لما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث كذّب أخبارهم فنفى الصلب عن عيسى عليه السلام.

4. وقيل: الضمير في قوله: ﴿مَوْتِهِ﴾ عائد إلى عيسى، أي قبل موت عيسى، ففرّع القائلون بهذا تفاريع: منها أنّ موته لا يقع إلّا آخر الدنيا ليتمّ إيمان جميع أهل الكتاب به قبل وقوع الموت، لأنّ الله جعل إيمانهم مستقبلا وجعله قبل موته، فلزم أن يكون موته مستقبلا؛ ومنها ما ورد في الحديث: أنّ عيسى عليه السلام ينزل في آخر مدّة الدنيا ليؤمن به أهل الكتاب‏، ولا يخفى أنّ عموم قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يبطل هذا التفسير: لأنّ الّذين يؤمنون به ـ على حسب هذا التأويل ـ هم الذين سيوجدون من أهل الكتاب لا جميعهم.

5. الشهيد: الشاهد؛ يشهد بأنّه بلّغ لهم دعوة ربّهم فأعرضوا، وبأنّ النّصارى بدّلوا، ومعنى الآية مفصّل في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ﴾ الآيات في سورة العقود [109]

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/310.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾:

أ. (إن) هنا النافية، والمعنى ما من أحد من أهل الكتاب اليهود أو النصارى، أو بعبارة أدق الذين يسمون أنفسهم نصارى أو مسيحيين إلا ليؤمنن به حق الإيمان ويخضعون حق الخضوع قبل موته عليه السلام، فالضمير في موته يعود إلى المسيح عليه السلام، وهذا يسير على أن عيسى سيعود، ويحكم بشريعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

ب. وهناك تخريج آخر، وهو أن الضمير في (موته) يعود إلى أحد المطوية في الكلام ومقدرة، والمعنى ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى عند موت أي كتابي لأنه عند حشرجة الموت يتنبه الشخص لما أنكر وجحد، فيؤمن، كما كانت حال فرعون إذ قال عندما أدركه الغرق: آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل.

2. وإن عيسى عليه السلام سيكون شهيدا بالحق يوم الحق يشهد على اليهود بما كفروا به، ويشهد على الذين يقولون إنهم نصارى، وأنهم كفروا به فادعوا أنه إله أو ابن الله، وأن كلامهم في هذا باطل، وأنه عبد الله ورسوله.

3. وهنا نريد أن نشير إلى موقف الإسلام، ومن يقولون أنهم نصارى ـ من المسيح عليه السلام: هم يقولون أنه قتل وصلب ليطهر الخليقة من ذنب أبيهم آدم، وأن الله اختار ابنه ليكون فداء، وأما الإسلام فإنه يقول أن الله نجاه، ورفعه إلى المنازل العليا.

4. ولا نريد أن نقول إنهم يرمون الله تعالى بالجهل إذ سكت أزمانا طويلة ـ حتى بدا له أن يجعل ابنه فداء، ولا نريد أن نقول إن العنصر الإلهي كيف حل في مريم البتول، ولا نريد أن نقول إن الله عفا عن آدم، وإن لم يعف فإن العقاب يكون عليه ولا يكون على غيره، لا نريد أن نقول إن هذا كله مخالف لكل معقول، ولكن نقول كيف يتصور أن يكون الفداء للخليقة بإنزال ابنه إلى الأرض ليقتله بعض ذرية آدم الذى عصى!!؟ إن المعقول أن يكونوا قد أضافوا إلى قولهم جريمة أخرى هي قتل ابن الله بل إنها جريمة أشد وأنكى، وإذا قيل لهم ذلك‏ القول قالوا إن الدين له منطق غير منطق العقل، ولكن عيسى ابن مريم، الحق فيه ما قاله القرآن ولكنهم يمترون، ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص‏]

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1955.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ مِنْ أهل الْكِتَابِ إلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، أي ما أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى قبل أن يموت ذلك الأحد من أهل الكتاب، فضمير به يعود على عيسى، وضمير موته يعود على أحد، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى.

2. وقد جاء في بعض الروايات ان كل إنسان عندما يعاني سكرة الموت ينكشف له الحق عما كان يعتقده في دار الدنيا، وهذه الآية تشهد بالصحة لتلك الروايات، حيث دلت بظاهرها على أن كل كتابي يهوديا كان أو نصرانيا لا بد أن يؤمن ايمانا صحيحا بعيسى بعد سكرة الموت، فاليهودي الذي كان يقول عن عيسى: انه ساحر وابن فاعلة يعدل عن ذلك، ويؤمن بأنه نبي مرسل، وان امه صدّيقة، والنصراني الذي كان يقول: انه ابن الله، وثالث ثلاثة يؤمن بأنه عبد من عباد الله المخلصين.

3. وليس هذا بمحال في نظر العقل، وقد أخبر به الوحي، وكل ما أخبر به الوحي، ولم ينكره العقل وجب التصديق به على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر، أما من لا يؤمن إلا بما يقع تحت المجهر فلا يصدق ـ قطعا ـ وعليه أن لا يصدق من يقول له: لك عقل وروح ووعي وعاطفة.. لأنها لا تقع تحت المجهر، ولا تنالها المعدات والآلات بالاختبار والتحليل، وصدق من قال من فقد الايمان بالله فقد نفسه.

4. سؤال وإشكال: أي جدوى من الإخبار بأن الحق ينكشف لأهل الكتاب عند سكرة الموت، مع العلم أنهم في هذه الحال يعجزون عن ادراك ما فات؟ والجواب: الغرض من ذلك هو الحث على المبادرة إلى تصحيح ايمانهم قبل أن تجتمع عليهم حسرة الفوت وسكرة الموت، تماما كالغرض من الإخبار عن الجنة والنار.

5. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾، يشهد غدا عيسى عليه السلام على اليهود بأنهم ناصبوه العداء كفرا وعنادا لما جاءهم به من الله، ويشهد على النصارى‏ بأنهم غالوا فيه غلوا تجاوزوا ما أمرهم به من عبادة الله وحده، ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ [المائدة].. وكل نبي، وطليعتهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، يشهد على من زاغ وانحرف من أمته عما جاءهم به وبلّغهم إياه، ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ ـ 89 النحل: 117]

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/487.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ﴾ نافية والمبتدأ محذوف يدل عليه الكلام في سياق النفي، والتقدير: وإن أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن، والضمير في قوله: ﴿بِهِ﴾، وقوله: ﴿يَكُونُ﴾ راجع إلى عيسى.

2. أما الضمير في قوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ ففيه خلاف:

أ. فقد قال بعضهم: إن الضمير راجع إلى المقدر من المبتدأ وهو أحد، والمعنى: وكل واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أن عيسى كان رسول الله عليه السلام وعبده حقا وإن كان هذا الإيمان منه إيمانا لا ينتفع به، ويكون عيسى شهيدا عليهم جميعا يوم القيامة سواء آمنوا به إيمانا ينتفع به أو إيمانا لا ينتفع به كمن آمن به عند موته، ويؤيده أن إرجاع ضمير ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الأخبار أن عيسى حي لم يمت، وأنه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهذا يوجب تخصيص عموم قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ من غير مخصص، فإن مقتضى الآية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم، ممن وقع بين رفع عيسى ونزوله فمات ولم يدرك زمان نزوله، فهذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصص ظاهر.

ب. وقد قال آخرون: إن الضمير راجع إلى عيسى عليه السلام والمراد به إيمانهم به عند نزوله في آخر الزمان من السماء، استنادا إلى الرواية كما سمعت.

3. هذا ما ذكروه، والذي ينبغي التدبر والإمعان فيه هو أن وقوع قوله: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ في سياق قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ ظاهر في أن عيسى عليه السلام شهيد على جميعهم يوم القيامة كما أن جميعهم يؤمنون به قبل الموت، وقد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص هذه الشهادة على وجه خاص، فقال عنه: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 117]، فقصر عليه السلام شهادته في أيام حياته فيهم قبل توفيه، وهذه الآية أعني قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ تدل على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان المؤمن به هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفى إلا بعد الجميع، وهذا ينتج المعنى الثاني، وهو كونه عليه السلام حيا بعد، ويعود إليهم ثانيا حتى يؤمنوا به، نهاية الأمر أن يقال: إن من لا يدرك منهم رجوعه إليهم ثانيا يؤمن به عند موته، ومن أدرك ذلك آمن به إيمانا اضطرارا أو اختيارا.

4. على أن الأنسب بوقوع هذه الآية: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ فيما وقع فيه من السياق أعني بعد قوله تعالى:‏ ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ إلى أن قال ـ ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ أن تكون الآية في مقام بيان أنه لم يمت وأنه حي بعد إذ لا يتعلق ببيان إيمانهم الاضطراري وشهادته عليهم في غير هذه الصورة غرض ظاهر.

5. هذا الذي ذكرناه يؤيد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعا به قبل موته عليه السلام، لكن هاهنا آيات أخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 55] حيث يدل على أن من الكافرين بعيسى من هو باق إلى يوم القيامة، وكقوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ حيث إن ظاهره أنه نقمة مكتوبة عليهم، فلا يؤمن‏ مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة، بل ظاهر ذيل قوله: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ حيث إن ذيله يدل على أنهم باقون بعد توفي عيسى عليه السلام، لكن الإنصاف أن الآيات لا تنافي ما مر فإن قوله: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ لا يدل على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنهم أهل الكتاب، وكذا قوله تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ إنما يدل على أن الإيمان لا يستوعبهم جميعا، ولو آمنوا في حين من الأحيان شمل الإيمان منهم قليلا من كثير، على أن قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ لو دل على إيمانهم به قبل موته فإنما يدل على أصل الإيمان وأما كونه إيمانا مقبولا غير اضطراري فلا دلالة له على ذلك، وكذا قوله: ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ مرجع الضمير فيه إنما هو الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام: ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ الآية: [المائدة: 116]، ويدل على ذلك أيضا أنه عليه السلام من أولي العزم من الرسل مبعوث إلى الناس كافة، وشهادته على أعمالهم تعم بني إسرائيل والمؤمنين به وغيرهم.

6. وبالجملة، الذي يفيده التدبر في سياق الآيات وما ينضم إليها من الآيات المربوطة بها هو أن عيسى عليه السلام لم يتوف بقتل أو صلب ولا بالموت حتف الأنف على نحو ما نعرفه من مصداقه ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ وقد تكلمنا بما تيسر لنا من الكلام في قوله تعالى:‏ ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: 55]

7. من غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشري في الكشاف: أنه يجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، ويعلمهم نزوله، وما أنزل له، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم، وهذا قول بالرجعة.

8. وفي معنى الآية بعض وجوه رديئة أخرى:

أ. منها: ما يظهر من الزجاج أن ضمير قوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ يرجع إلى الكتابي وأن معنى قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أن جميعهم يقولون: إن عيسى‏ الذي يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به، وهذا معنى سخيف فإن الآيات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسى عليه السلام وصلبه والرد عليهم دون كفرهم به ولا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان يحيي أمر شعب إسرائيل حتى يذيل به الكلام، على أنه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ لارتفاع الحاجة بدونه، وكذا قوله: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ لأنه على هذا التقدير فضل من الكلام لا حاجة إليه.

ب. ومنها: ما ذكره بعضهم أن المراد بالآية: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد قبل موت ذلك الكتابي، وهذا في السخافة كسابقه فإنه لم يجر لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكر في سابق الكلام حتى يعود إليه الضمير، ولا أن المقام يدل على ذلك، فهو قول من غير دليل، نعم، ورد هذا المعنى في بعض الروايات مما سيمر بك في البحث الروائي التالي لكن ذلك من باب الجري كما سنشير إليه وهذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا يخفى على من تتبع فيها.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/135.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ وما من أحد إلا ليؤمنن به أي بعيسى عليه السلام قبل موته.

2. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ بكذبهم في دعواهم قتله وصلبه، وهذا لا ينافي قوله تعالى حاكيا عن عيسى عليه السلام: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ [المائدة:117]؛ لأن هذه الشهادة العامة بما فعلوا وهو حاضر فيهم مشاهد لهم، أما هذه الخاصة بتكذيبهم فيما افتخروا به من قتله وصلبه فإنها جارية مجرى الشهادة بالمحسوس من حيث أنه عالم أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، فصح أن يشهد على المدعين لقتله وصلبه بكذبهم، وعلى سائر أهل الكتاب الذين أطبقوا على أنه قتل وصلب.

3. وقد دل سياق هذه الآيات: على قبح هذه المقالة، ولعل السبب أن أصلها من أعدائه الذين افتخروا بها فأخذها النصارى بجهالة؛ لأنها تنفي كرامة الله لرسوله بمجرد قول أعدائه الظالمين الذين شبّه لهم أو اتّباع الظن مثلهم.

4. ويحتمل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ على أهل الكتاب بجميع أفعالهم لكنها خاصة بمن كان فيهم قبل أن يتوفاه الله.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/210.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يأتي ختام الآيات، ليؤكد الله بأن الذين كفروا به من أهل الكتاب سوف يؤمنون به قبل موته ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾، وذلك ـ كما يقول المفسرون ـ عندما يبعثه الله أو يظهره في آخر الزمان، فيرونه رأي العين فيواجهون الحقيقة في ظروف لا يمكنهم معها الإنكار.

2. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)﴾ وسوف يكون عليهم شهيدا في يوم القيامة، كما يشهد كل نبيّ على أمته من الكافرين أو المؤمنين به.

3. وقال البعض: إن الضمير في كلمة (موته) يرجع إلى بعض أهل الكتاب الذين كفروا به، فإنهم سيواجهون قبل موتهم المسيح بالصورة التي تفرض عليهم الإيمان به؛ ولكن هذا خلاف الظاهر؛ والله العالم.

4. وتلك هي الصورة المظلمة التي توضح لنا طبيعة الأخلاق الشريرة التي كانوا يتصفون بها في مواجهتهم للرسل والرسالات، فلا يتورّعون عن أيّ شيء يقولونه أو يفعلونه، ويعيشون الزهو بما ينسبونه إلى أنفسهم من الجرائم صدقا أو كذبا؛ فكيف يمكن للأمة أن تواجههم في صراع الحاضر والمستقبل؟

__________

(1) من وحى القرآن: ‏‏7/536.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هنالك احتمالان في تفسير هذه الآية، وكل واحد منهما جدير بالملاحظة من جوانب متعددة:

أ. إنّ الآية تؤكّد أنّ أي إنسان يمكن أن لا يعتبر من أهل الكتاب ما لم يؤمن قبل موته بالمسيح عليه السّلام حيث تقول: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ وأن هذا الأمر يتمّ حين يشرف الإنسان على الموت وتضعف صلته بهذه الدنيا، وتقوى هذه الصلة بعالم ما بعد الموت، وترفع عن عينيه الحجب فيرى بعد ذلك الكثير من الحقائق ويدركها، وفي هذه اللحظة يرى المسيح بعين بصيرته ويؤمن به، فالذين أنكروا نبوته يؤمنون به، والذين وصفوه بالألوهية يدركون في تلك اللحظة خطأهم وانحرافهم، وبديهي أنّ مثل هذا الإيمان لا ينفع صاحبه، كما أنّ فرعون والأقوام الأخرى وأقوام استولى عليهم العذاب، فقالوا: آمنا فلم ينفعهم إيمانهم أبدا، فالأجدر بالإنسان أن يؤمن قبل أن تدركه لحظة العذاب عند الموت، حين لا ينفع الإيمان صاحبه، وتجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنّ الضمير في عبارة (قبل موته) يعود لأهل الكتاب بناء على التّفسير الذي ذكرناه.

ب. قد يكون المقصود في الآية هو أنّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى المسيح قبل موته، فاليهود يؤمنون بنبوته والمسيحيون يتخلون عن الإعتقاد بربوبية المسيح عليه السّلام، ويحدث هذا ـ طبقا للروايات الإسلامية ـ حين ينزل المسيح عليه السّلام من السماء لدى ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه، وواضح أن عيسى المسيح سيعلن في مثل هذا اليوم انضواءه تحت راية الإسلام، لأن الشريعة السماوية التي جاء بها إنّما نزلت قبل الإسلام، ولذلك فهي منسوخة به، وبناء على هذا التّفسير فإن الضمير في عبارة (قبل موته) يعود إلى عيسى المسيح عليه السّلام، وقد نقل عن النّبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كيف بكم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم)، وطبيعي أنّ هذا التّفسير يشمل اليهود والمسيحيين الموجودين في زمن ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ونزول عيسى المسيح عليه السّلام من السماء.

2. جاء في تفسير (علي بن إبراهيم) نقلا عن (شهر بن حوشب) إنّ الحجاج ذكر يوما أن هناك آية في القرآن قد أتبعته كثيرا وهو حائر في معناها، فسأله (شهر) عن الآية، فقال الحجاج: إنّها آية ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وذكر أنّه قتل يهودا ومسيحيين ولم يشاهد فيهم أثرا لمثل هذا الإيمان فأجابه (شهر) بأنّ تفسيره للآية لم يكن تفسيرا صحيحا، فاستغرب الحجاج وسأل عن التّفسير الصحيح للآية، فأجاب (شهر) بأنّ تفسير الآية هو أن المسيح ينزل من السماء قبل نهاية العالم، فلا يبقى يهودي أو غير يهودي إلّا ويؤمن بالمسيح قبل موته، وأن المسيح‏ سيقيم الصّلاة خلف المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فلما سمع الحجاج هذا الكلام قال لـ (شهر) ويلك من أين جئت بهذا التّفسير؟ فأجابه (شهر) بأنّه قد سمعه من محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام، وعند ذلك قال الحجاج: (والله جئت بها من عين صافية)

3. وتقول الآية في الختام: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ أي شهادة المسيح عليه السّلام على قومه بأنّه قد بلّغهم رسالة الله ولم يدعهم لاتّخاذه إلها من دون الله، بل دعاهم إلى الإقرار بربوبية الله الواحد القهار.

4. سؤال وإشكال: قد يعترض البعض بأنّ المسيح عليه السّلام ـ كما جاء في الآية من سورة المائدة ـ إنّما يقصر شهادته على الزمن الذي كان هو موجودا فيه بين قومه ويتنصل عن الشهادة بالنسبة للأزمنة التي جاءت بعده، وذلك بدلالة الآية التي جاءت على لسانه وهي تقول: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ لكن الآية الكريمة تدل على أنّ المسيح عليه السّلام يشهد على الجميع يوم القيامة، سواء أولئك الذين كانوا في عصره وزمانه أو الذين لم يكونوا في ذلك الزمان، والجواب: هو أنّنا لو أمعنا النظر في مضمون الآيتين المذكورتين، لرأينا أنّهما تدلان على أنّ الآية الكريمة تتحدث عن الشهادة حول تبليغ الرسالة ونفي الألوهية عن المسيح عليه السّلام بينما الآية من سورة المائدة تشهد على أعمال أولئك القوم، فالآية الأخيرة تذكر أنّ عيسى المسيح عليه السّلام سيشهد على جميع الذين نسبوا له الألوهية، سواء من كانوا في زمانه أو من جاءوا بعد ذلك الزمان، وأن المسيح عليه السّلام يؤكّد أنّه لم يدع هؤلاء القوم إلى مثل هذا الأمر أبدا، بينما الآية من سورة المائدة تذكر على لسان المسيح عليه السّلام أنّه علاوة على الدعوة لرسالته بالأسلوب الصحيح، فهو قد حال طيلة فترة بقائه بين قومه ـ دون انحرافهم، إلّا أنّهم انحرفوا بعده ونسبوا له الألوهية في زمن لم يكن هو موجودا بينهم، ليشهد على أعمالهم وليحول دون انحرافهم.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/528.

139. ظلم اليهود وأكلهم الربا وتحريم الطيبات

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈139⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: 160 ـ 161]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾، قال أنفسهم وغيرهم عن الحق(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٧٧.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾، قال عوقب القوم بظلم ظلموه، وبغي بغوه، فحرمت عليهم أشياء ببغيهم وظلمهم(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦٧٦.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قال الإمام الصادق: من زرع حنطة في أرض فلم تزك في أرضه، وخرج زرعه كثير الشعير فبظلم عمله في ملك رقبة الأرض أو بظلم مزارعه وأكرته، لأن الله تعالى يقول: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ يعني لحوم الإبل والبقر والغنم، هكذا أنزلها الله فاقرؤوها هكذا، وما كان الله ليحل شيئا في كتابه ثم يحرمه من بعد ما أحله، ولا يحرم شيئا ثم يحله بعد ما حرمه)، قلت: وكذلك أيضا قوله: ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا﴾ قال: نعم، قلت: فقوله: ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ قال: إن إسرائيل كان إذا أكل من لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة، فحرم على نفسه لحم الإبل، وذلك من قبل أن تنزل التوراة، فلما نزلت التوراة لم يأكله ولم يحرمه(1).

2. روي أنّه قال: من زرع حنطة في أرض فلم يزك زرعه، أو خرج زرعه كثير الشعير، فبظلم عمله في ملك رقبة الأرض، أو بظلم لمزارعيه وأكرته، لأن الله عز وجل يقول: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ يعني لحوم الإبل والبقر والغنم، وقال: إن إسرائيل كان إذا أكل من لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة، فحرم على نفسه لحم الإبل، وذلك قبل أن تنزل التوراة، فلما نزلت التوراة لم يحرمه ولم يأكله(2).

__________

(1) تفسير القمّي 1/158.

(2) الكافي 5/306.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾، كان الله تعالى حرم على أهل التوراة حين أقروا بها أن يأكلوا الربا، ونهاهم أن يبخسوا الناس أشياءهم، ونهاهم أن يأكلوا أموال الناس ظلما، فأكلوا الربا، وأكلوا أموال الناس ظلما، وصدوا عن دين الله وعن الإيمان بمحمد، فلما فعلوا ذلك حرم الله عليهم بعض ما كان أحل لهم في التوراة، عقوبة لهم بما استحلوا ما كان نهاهم عنه، فحرم عليهم كل ذي ظفر: البعير، والنعامة، ونحوهما من الدواب، ومن البقر، والغنم وشحومهما، إلا ما حملت ظهورهما من الشحم والحوايا، يقال: هذا البقر، ويقال: هو البطن غير الثرب(1).. وما اختلط بعظم من اللحم، يقول: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ﴾ [الأنعام: ١٤٦]، يقول: باستحلالهم ما كان الله حرم عليهم(2).

2. روي أنّه قال: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾، صدوا عن دين الله، وعن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(3).

3. روي أنّه قال: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾، كان الله حرم على أهل التوراة حين أقروا بها أن يأكلوا الربا، فأكلوا الربا(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ﴾ كان الله حرم على أهل التوراة حين أقروا بها أن يأكلوا أموال الناس، فأكلوا أموال الناس، فلما فعلوا ذلك حرم الله عليهم ما كان أحل لهم في التوراة، ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ قال ظلما(3).

__________

(1) الثَّرْب: شحم رقيق يُغَشِّي الكَرش والأمعاء، القاموس المحيط (ثرب).

(2) ابن أبي حاتم ٤/١١١٤.

(3) ابن أبي حاتم ٤/١١١٥.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قوله سبحانه: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ يعني: اليهود ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ يعني: في الأنعام، يعني: اللحوم، والشحوم، وكل ذي ظفر لهم حلال، فحرمها الله عز وجل عليهم بعد موسى(1).

2. روي أنّه قال: قوله سبحانه: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ فيها إضمار، يقول: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ يعني: دين الإسلام، وعن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾، وهو محرم بغير حق... فهذا الظلم الذى ذكره في هذه الآية(2).

4. روي أنّه قال: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ﴾ يعني: اليهود ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ يعني: وجيعا(2).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢١.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٢.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ لولا آية أخرى سوى هذه؛ وإلا صرفنا قوله سبحانه وتعالى: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ﴾ على المنع، دون حقيقة التحريم؛ لأنهم أهل كفر؛ فلا يبالون ما يتناولون من المحرم والمحلل، ولا يمتنعون عن التناول من ذلك؛ فإذا كان ما ذكرنا ـ فيجيء أن يعود تأويل الآية إلى المنع؛ كقوله تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾، فليس هو على التحريم؛ ولكن على المنع؛ أي: منعناه؛ فلم يأخذ من لبن المراضع دون لبن أمه؛ فعلى ذلك يجب أن يكون الأول.

2. ثم المنع لهم يكون من وجهين:

أ. أحدهما: منع من جهة منع الإنزال؛ لقلة الأمطار والقحط؛ كسني يوسف عليه السلام وسني مكة، على ما كان لهم من القحط.

ب. الثاني: منع من جهة الخلق: ألا يعطوا شيئًا، لا بيعًا ولا شراء ولا معروفًا.

3. ولكن في آية أخرى بيان أن قوله: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ ـ أنه على التحريم، ليس على المنع، وهو قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ﴾: أخبر عز وجل أن ذلك جزاء بغيهم؛ فدل ما ذكرنا في الآية أن ذلك على حقيقة التحريم؛ لما يحتمل أن يكونوا لا يستحلون ما ذكر في الآية، ولكن كانوا يتناولون الربا على غير الاستحلال؛ فحرم ذلك عليهم.

4. في قوله تعالى: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ دلالة لأصحابنا في قولهم: إن من قد أَقَرَّ، فقال: هذا الشيء لفلان اشتريته منه ـ أنه له، ولا يؤخذ منه؛ وإلا في ظاهر قوله: هذا الشيء لفلان اشتريته منه ـ أنه إذا اشتراه منه لا يكون لفلان؛ فيكون ذلك منه إقرارًا له، لكنه على الإضمار؛ كأنه قال هذا الشيء كان لفلان اشتريته منه.

5. وكذلك قوله: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ أي: كانت أحلت لهم، وكذلك في حرف ابن مسعود وحرف ابن عباس ما: (حرمنا عليهم طيبات كانت أحلت لهم)

6. وقوله عز وجل: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ أي: بصدهم الناس عن سبيل الله كثيرًا، يحتمل هذا وجهين:

أ. يحتمل: أنهم صدوا من يستجهلون ويستسفهون عن سبيل الله: كانوا يدلون على الباطل وعلى غير سبيل الله، فذلك الصد محتمل.

ب. ويحتمل: أنهم كانوا يصدون عن سبيل الله بالقتال والحرب.

7. ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ دل أن الربا لم يزل محرمًا على الأمم كلها كما حرم على هذه الأمة.

8. قوله عز وجل: ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ يحتمل هذا وجهين:

أ. يحتمل أكل أموالهم بالباطل: هو الرشوة؛ كقوله تعالى: ﴿وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾، قيل: هو الرشوة.

ب. وقيل: ما كانوا ينالون من أموال الأتباع والسفلة؛ بتحريفهم التوراة لهم، وهو قول ابن عباس،.

9. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، الآية ظاهرة.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤١٤.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هاتان الآيتان معطوفتان على ما تقدم، قال الزجاج: قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ بدل من قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ والعامل في الياء قوله: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ﴾

2. لما طال الكلام أجمل تعالى ما ذكره ها هنا في قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ واخبر انه حرم على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذين واثقوا الله عليه، وكفروا بآياته، وقتلوا أنبياءه، وقالوا البهتان على مريم وفعلوا ما فعلوا مما وصفه الله في كتابه طيبات من المأكل وغيرها، وكانت لهم حلالا، عقوبة لهم بظلمهم الذي أخبر الله عنه لأنهم لما فعلوا ما فعلوا، اقتضت المصلحة تحريم هذه الأشياء عليهم، وهو قول مجاهد واكثر المفسرين.

3. ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ يعني بمنعهم عباد الله عن دينه وسبيله التي شرعها لعباده صداً كثيراً، وكان صدهم عن سبيل الله بقولهم على الله الباطل، وادعائهم ان ذلك عن الله، وتبديلهم كتاب الله وتحريفهم معانيه عن وجوهه، ومن أعظم ذلك جحدهم نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وتركهم بيان ما قد عملوا من أمره من جهل أمره من الناس، وهو قول مجاهد وغيره.

4. ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا﴾ يعني على رؤوس أموالهم بتأخيرهم له عن محله إلى محل آخر وقد نهوا عنه يعني عن الربا، وأكلهم اموال الناس بالباطل يعني بغير استحقاق، ولا استيجاب، وهو ما كانوا يأخذونه من الرشا على الأحكام، كما قال تعالى: ﴿وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ومنه ما كانوا يأخذونه من أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم، ويقولون هذا من عند الله، وما أشبه ذلك من المآكل الخسيسة الخبيثة، فعاقبهم الله تعالى على جميع ذلك بتحريم ما حرم عليهم من الطيبات.

5. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا﴾ معناه وجعلنا للظالمين أنفسهم بكفرهم بالله، وجحدهم رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من هؤلاء اليهود العذاب الأليم، وهو المؤلم الموجع يصلونها في الاخرة عدة لهم، قال أبو علي: حرم الله تعالى هذه الطيبات على الظالمين منهم عقوبة لهم على ظلمهم ومن لم يكن ظالماً منهم نسخة منهم اما على لسان عيسى أو على لسان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم نبينا وهو ما حرمه من كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وغير ذلك مما ذكره في قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا﴾ إلى قوله.. ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ﴾ فهذا البغي هو الظلم الذي ذكره ها هنا.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/388.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الصد: الإعراض، وصددته عن الأمر: عدلته عنه، وصد يَصُدُّ بضم الصاد: أعرض، وصد يَصِدُّ بكسر الصاد إذا ضج.

ب. الربا في الأصل: الزيادة من قولك: ربا الشيء يربو ربًا، وربُوا: إذا زادوا، ومنه ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ ومنه: الربوة: المكان المرتفع.

2. بَيَّنَ تعالى ما كلفهم بسبب ما سبق من ظلمهم، فقال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ إنما قدم فبظلم لأنه غرض التحريم، وإن كان فيه غرض آخر وهو الاستصلاح، يعني فبما ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي التي تقدم ذكرها، من نقض الميثاق وقتل الأنبياء والبهتان وغير ذلك.

3. ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ يعني اليهود ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ﴾ قيل: ما كان حلالاً، وقيل مَلاَذا، وهي ما بَيَّنَ في قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ الآية.

4. ﴿أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ يعني كانت حلالاً لهم قبل ظلمهم، فحرم عليهم عند الظلم.

5. ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾:

أ. يعني بمنعهم عباد الله عن دينه المشروع صدًّا كبيرًا، بما حرفوا من الكتاب، ودعوا إلى الضلال وكتموا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. وقيل: بصدهم بأنفسهم وبصدهم غيرهم، أي: أعرضوا، ومنعوا.

6. ﴿كَثِيرًا﴾ يعني فعلوا ذلك كثيرًا ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا﴾ قيل: الزيادة على رأس المال لتأخير في الأجل، ﴿وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ قيل: في التوراة ويحتمل في القرآن، ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾:

أ. قيل: الرشا في الحكم.

ب. وقيل: ما يأخذون من عوامهم بتحريف الكتاب.

ج. وقيل: ما كانوا يأخذون من غير حلها ومن غير وجهها.

د. وقيل: كان ذلك من وجهين: استحلال ما حرم الله،

هـ. الثاني الغصب والظلم.

7. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ﴾ أي: هيأنا يوم القيامة لمن جحد الله أو الرسل ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وجيعًا، وهو عذاب النار.

8. لا خلاف أن التحريم وقع عند ظلمهم أنفسهم بالمعاصي، ثم اختلفوا:

أ. فذهب جماعة من المفسرين إلى أن ذلك عقوبة لهم على الظلم.

ب. وقال أبو علي: كان تحريمه عقوبة فيمن تعاطى ذلك الظلم، ثم صار تحريمه على غيرهم مصلحة.

ج. والصحيح ما ذكره أبو هاشم أن تحريمه لما كان مصلحة عند هذا للإقدام جاز أن يقال: حرم عليهم بظلمهم؛ لأن التحريم تكليف يستحق الثواب بفعله، ويجب الصبر على أدائه، وهو معدود في النعم، ويجب قبوله بخلاف العقوبات.

9. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن الكفار مخاطبون بالشرائع؛ لأنه مع كفرهم ذمهم على ترك الشرائع وهو الربا.

ب. أن الربا من الكبائر.

ج. أن أكل مال الغير بالباطل كبيرة.

10. ﴿كَثِيرًا﴾: نصب لأنه صفة لمحذوف دل عليه ﴿وَبِصَدِّهِمْ﴾، وتقديره: بصدهم صدًّا كثيرا.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/148.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عطف سبحانه على ما تقدم بقوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ أي: من اليهود، معناه فبما ظلموا أنفسهم، بارتكاب المعاصي التي تقدم ذكرها، وقد مضى فيما تقدم عن الزجاج أنه قال: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ بدل من قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ وما بعده، والعامل في الباء قوله: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ﴾، ولكنه لما طال الكلام، أجمل في قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ ما ذكره قبل، وأخبر أنه حرم على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا الله عليه، وكفروا بآياته، وقتلوا أنبياءه، وقالوا على مريم بهتانا عظيما، وفعلوا ما وصفه الله، طيبات من المآكل، وغيرها.

2. ﴿أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾:

أ. أي: كانت حلالا لهم، قبل ذلك، فلما فعلوا ما فعلوا، اقتضت المصلحة تحريم هذه الأشياء عليهم، عن مجاهد، وأكثر المفسرين.

ب. وقال أبو علي الجبائي: حرم الله سبحانه هذه الطيبات على الظالمين منهم، عقوبة لهم على ظلمهم، وهي ما بين في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ﴾ الآية.

3. ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ أي: وبمنعهم عباد الله عن دينه وسبيله التي شرعها لعباده، صدا كثيرا، وكان صدهم عن سبيل الله، تقولهم على الله الباطل، وادعاءهم أن ذلك عن الله، وتبديلهم كتاب الله، وتحريفهم معانيه عن وجوهه، وأعظم من ذلك كله، جحدهم نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتركهم بيان ما علموه من أمره، لمن جهله من الناس، عن مجاهد، وغيره.

4. ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا﴾ أي: ما فضل على رؤوس أموالهم بتأخيرهم له عن محله إلى أجل آخر، ﴿وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ أي: عن الربا ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ أي: بغير استحقاق، ولا استيجاب، وهو ما كانوا يأخذونه من الرشى في الاحكام، كقوله: ﴿وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ وما كانوا يأخذونه من أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم، ويقولون هذا من عند الله، وما أشبه ذلك من المآكل الخبيثة، عاقبهم الله تعالى على جميع ذلك بتحريم ما حرم عليهم من الطيبات.

5. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ﴾ أي: هيأنا يوم القيامة لمن جحد الله، أو الرسل، من هؤلاء اليهود ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أي: مؤلما موجعا.

6. اختلف في أن التحريم هل كان على وجه العقوبة، أم لا؟

أ. فقال جماعة من المفسرين: إن ذلك كان عقوبة، وإذا جاز التحريم ابتداء على جهة المصلحة، جاز أيضا عند ارتكاب المعصية على جهة العقوبة.

ب. وقال أبو علي: كان تحريمه عقوبة فيمن تعاطى ذلك الظلم، ومصلحة في غيرهم.

ج. وقال أبو هاشم: إن التحريم لا يكون إلا للمصلحة، ولما صار التحريم مصلحة عند إقدامهم على هذا الظلم، جاز أن يقال حرم عليهم بظلمهم، قال: لأن التحريم تكليف يستحق الثواب بفعله، ويجب الصبر على أدائه، فهو معدود في النعم، بخلاف العقوبات.

7. قرأ حمزة وحده (سيؤتيهم) بالياء، والباقون بالنون.

8. اختلف في نصب ﴿وَالْمُقِيمِينَ﴾:

أ. فذهب سيبويه والبصريون إلى أنه نصب على المدح، على تقدير أعني المقيمين الصلاة، قالوا: إذا قلت مررت بزيد الكريم، وأنت تريد أن تعرف زيدا الكريم، من زيد غير الكريم، فالوجه الجر، وإذا أردت المدح والثناء، فإن شئت نصبت، وقلت: مررت بزيد الكريم، كأنك قلت: أذكر الكريم، وإن شئت رفعت فقلت الكريم على تقدير هو الكريم.

ب. وقال الكسائي: موضع (المقيمين) جر، وهو معطوف على ما من قوله: ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي: وبالمقيمين الصلاة.

ج. وقال قوم: إنه معطوف على الهاء والميم، من قوله منهم على معنى ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ وفي المقيمين الصلاة.

د. وقال آخرون: إنه معطوف على الكاف من قبلك أي بما أنزل من قبلك، ومن قبل المقيمين الصلاة.

هـ. وقيل: إنه معطوف على الكاف في إليك، أو الكاف في قبلك.. وهذه الأقوال الأخيرة لا تجوز عند البصريين، لأنه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور، من غير إعادة الجار، وقد شرحنا هذا في مبتدأ السورة عند قوله: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾

و. وأما ما روي عن عروة، عن عائشة قال سألتها عن قوله: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾، وعن قوله: ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾، وعن قوله: ﴿إِنْ هَذَانِ﴾، فقالت: يا ابن أختي! هذا عمل الكتاب، أخطأوا في الكتاب، وما روي عن بعضهم: إن في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، قالوا: وفي مصحف ابن مسعود: (والمقيمون الصلاة)، فمما لا يلتفت إليه، لأنه لو كان كذلك، لم يكن لتعلمه الصحابة الناس على الغلط، وهم القدوة، والذين أخذوه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/212.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾:

أ. قال مقاتل: حرّم الله على أهل التّوراة الرّبا، وأن يأكلوا أموال الناس ظلما، ففعلوا، وصدّوا عن دين الله، وعن الإيمان بمحمّد عليه السلام، فحرّم الله عليهم ما ذكر في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ عقوبة لهم.

ب. قال أبو سليمان: وظلمهم: نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وما ذكر في الآيات قبلها.

2. ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾:

أ. قال مجاهد: صدّهم أنفسهم وغيرهم عن الحقّ.

ب. قال ابن عباس: صدّهم عن سبيل الله، يعني الإسلام، وأكلهم أموال الناس بالباطل، أي: بالكذب على دين الله، وأخذ الرّشى على حكم الله، وتبديل الكتاب التي أنزلها الله ليستديموا المأكل.

3. ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ أي: أعددنا للكافرين، يعني اليهود، وقيل: إنّما قال: (منهم)، لأنه علم أنّ قوما منهم يؤمنون، فيأمنون العذاب.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/498.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما شرح الله تعالى فضائح أعمال اليهود وقبائح الكافرين وأفعالهم ذكر عقيبه تشديده تعالى عليهم في الدنيا وفي الآخرة، أما تشديده عليهم في الدنيا فهو أنه تعالى حرّم عليهم طيبات كانت محللة لهم قبل ذلك، كما قال تعالى في موضع آخر ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام: 146] ثم إنه تعالى بيّن ما هو كالعلة الموجبة لهذه التشديدات.

2. أنواع الذنوب محصورة في نوعين: الظلم للخلق، والإعراض عن الدين الحق، أما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ ثم إنهم مع ذلك في غاية الحرص في طلب المال، فتارة يحصلونه بالربا مع أنهم نهوا عنه، وتارة بطريق الرشوة وهو المراد بقوله: ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ ونظيره قوله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ [المائدة: 43] فهذه الأربعة هي الذنوب الموجبة للتشديد عليهم في الدنيا وفي الآخرة:

أ. أما التشديد في الدنيا فهو الذي تقدم ذكره من تحريم الطيبات عليهم.

ب. وأما التشديد في الآخرة فهو المراد من قوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/264.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ قال الزجاج: هذا بدل من ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾، والطيبات ما نصه في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ [الانعام]، وقدم الظلم على التحريم إذ هو الغرض الذي قصد إلى الإخبار عنه بأنه سبب التحريم.

2. ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ أي وبصدهم أنفسهم وغيرهم عن اتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ كله تفسير للظلم الذي تعاطوه، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وما بعده، وقد مضى في آل عمران أن اختلاف العلماء في سبب التحريم على ثلاثة أقوال هذا أحدها.

3. قال ابن العربي: لا خلاف في مذهب مالك أن الكفار مخاطبون، وقد بين الله في هذه الآية أنهم قد نهوا عن الربا وأكل الأموال بالباطل، فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فبها ونعمت، وإن كان خبرا عما أنزل الله على موسى في التوراة، وأنهم بدلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا فهل يجوز لنا معاملتهم والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا؟ فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز، وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد، والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحام ما حرم الله سبحانه عليهم، فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة، قال الله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ [المائدة] وهذا نص، وقد عامل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اليهود ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله، والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأمة على جواز التجارة مع أهل الحرب، وقد سافر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إليهم تاجرا، وذلك من سفره أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم، سؤال وإشكال: كان ذلك قبل النبوة، والجواب: إنه لم يتدنس قبل النبوة بحرام ـ ثبت ذلك تواترا ـ ولا اعتذر عنه إذ بعث، ولا منع منه إذ نبئ، ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته، ولا أحد من المسلمين بعد وفاته، فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى وذلك واجب، وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره، وقد يجب وقد يكون ندبا، فأما السفر إليهم لمجرد التجارة فمباح.

__________

(1) تفسير القرطبي: 6/12.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الباء في قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ للسببية، والتنكير والتنوين للتعظيم، أي: فبسبب ظلم عظيم حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم، لا بسبب شي آخر، كما زعموا أنها كانت محرّمة على من قبلهم، وقال الزجاج: هذا بدل من قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾

2. والطيبات المذكورة: هي ما نصه الله سبحانه: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ الآية ﴿وَبِصَدِّهِمْ﴾ أنفسهم وغيرهم‏ ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ وهو اتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتحريفهم، وقتلهم الأنبياء، وما صدر منهم من الذنوب المعروفة، ﴿كَثِيرًا﴾ مفعول للفعل المذكور، أي: بصدّهم ناسا كثيرا، أو صفة مصدر محذوف، أي: صدّا كثيرا.

3. ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ أي: معاملتهم فيما بينهم بالربا وأكلهم له وهو محرّم عليهم‏ ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ كالرشوة والسحت الذي كانوا يأخذونه.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/619.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ متعلِّق بـ (حَرَّمْنَا)، والباء سببيَّة، وقُدِّم تنبيهًا على قبح سبب التحريم، والتنكير لتعظيم ظلمهم، وهو نقض الميثاق، وقولهم: ﴿اجْعَل لَّنَآ إِلَهًا﴾ [الأعراف: 138]، وقولهم: ﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: 153]، وعبادة العجل، ونحو ذلك، ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُواْ﴾ نعت لـ (ظُلْمٍ)، وذكرهم بلفظ (هَادُوا) إيذانًا بكمال سوئهم، إذ قارفوا ذنوبا عظامًا بعدما زعموا أنَّهم هادوا، أي: تابوا عن عبادة العجل، وإيذانا بأنَّهم ينقضون العهدَ والتوبةَ، ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ﴾ مذكورة في قوله تعالى : ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ الآية [الأنعام: 146]، ﴿أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ نعت (طَيِّبَاتٍ)، أي: أحلَّت لهم قبل أن تحرَّم، قيل: أحلَّت قبل التوراة وحُرِّمت فيها، وقيل: أُحلَّت فيها وحُرِّمت بعد نزولها، وكانوا كلَّما ارتكبوا معصية من المعاصي التي اقترحوها يحرَّم عليهم نوع من الحلال، ويزعمون أنَّها لم تحرَّم علينا، بل على إبراهيم ونوح ومن بعدهما، حتَّى انتهى التحريم إلينا فكذَّبهم الله تعالى بقوله: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَآئِيل﴾، إلى قوله: ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: 93]، أي: في ادِّعائكم أنَّه تحريم قديم، وقيل: المحرَّم عليهم ما في سورة الأنعام، ويردُّه أنَّ التحريم في التوراة، ولم يكن يومئذ كفر بمحمَّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعيسى عليه السلام ، وأجيب بأنَّ المراد استمرار التحريم في قوله: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ﴾

2. ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ أي: وبإعراضهم عن سبيل الله إعراضًا كثيرًا، أو زمانًا كثيرًا، أو بصدِّهم الناس عن سبيل الله صدًّا كثيرًا، أو زمانًا كثيرًا، أو بصدِّهم عن سبيل الله ناسًا كثيرًا، والعطف على (بِظُلْمٍ)، قال أهل المعاني: العطف على المتقدِّم ينافي الحصر، نحو: (بِزيد مررت وبعمرو)، وهو مقيَّد بما إذا لم يكن الثاني لبيان الأوَّل، وبما إذا لم يكن الحصر من دليل آخر أيضًا، ومثال البيان: (بذنب ضربت زيدا وبسوء أدبه)

3. ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ﴾ في التوراة ﴿عَنْهُ﴾ أن يتعاملوا به فيما بينهم، وأن يتعاملوا به مع غيرهم، وأن يأكلوه منهم ومن غيرهم، وكذبوا على الله، وقالوا: إِنَّمَا حرَّم أن نتعامل به فيما بيننا، وأمَّا من أحلَّ السبت من النصارى ومن المسلمين ومن غيرهم فلا يحرم الربا معهم ومنهم، وإنَّهم حلال المال والدم لإِحلالِهم السبتَ، وجملة (قَدْ نُهُوا) حال من (الرِّبَا)، أو من الهاء.

4. ﴿وَأَكْلِهِمُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ بالرشا ودعوى حِلِّ المال بإحلال السبت، وبتحريف التوراة لفظًا أو تفسيرًا، والزيادة فيها والنقص، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، وكتم الحقِّ، والسرقة والغشِّ، ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ عطف على (حَرَّمْنَا)، ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ المصرِّين ﴿مِنْهُمْ﴾ لا لمن تاب كعبد الله بن سلام من الصحابة، وكعب الأحبار من التابعين، ﴿عَذَابًا اَلِيمًا﴾ على تلك الأفعال وارتكاب النهي، وفي الآية دليل على أنَّ النهي المجرَّد للتحريم؛ لأنَّه قال لهم: لا تفعلوا، فعاقبهم بمجرَّد مخالفة هذا النهي.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/345.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ أي: بسبب ظلم عظيم؛ فالتنوين للتفخيم، وهو جامع لتفصيل نقض الميثاق وما عطف عليه مما استحلوه، بعد أن حرمته التوراة ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ أي تلبسوا باليهودية، وفيه تعظيم ظلمهم أيضا، إذ صدر عنهم بعد ما ادعوا أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق‏.

2. ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ قال ابن كثير: هذا التحريم قد يكون قدريّا، بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم، فحرموها على أنفسهم تضييقا وتنطعا، ويحتمل أن يكون شرعيّا، بمعنى أنه تعالى حرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ [آل عمران: 93]، أي: ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، من لحوم الإبل وألبانها، ثم إنه تعالى حرّم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال في سورة الأنعام: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام: 146]، أي: إنما حرمنا عليهم ذلك، لطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه.

3. ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته بقوله تعالى:‏ ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ أي: الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم‏ ﴿كَثِيرًا﴾ أي: ناسا كثيرا، أو صدّا كثيرا، فهم صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق، وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل وقتلوا خلقا من الأنبياء، وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.

4. ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ أي: في التوراة ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ﴾ أي: من اليهود المصرّين على الكفر، لا لمن تاب وآمن من بينهم‏ ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وجيعا يخلص إلى قلوبهم.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/446.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله في الآيات السابقة ما كان من اليهود من نقض العهد والكفر وقتل الأنبياء.. ثم بين في هذه الآيات جزاءهم على ما دون ذلك من سيئاتهم فقال: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ أي فإذا كان هؤلاء اليهود قد استحقوا بظلم ما ظلموا به أنفسهم أن نحرم عليهم طيبات كانت أحلت لهم ولمن قبلهم، فحرمناها عليهم عقوبة وتربية لهم، لعلهم يرجعون عن ظلمهم، فكيف لا يستحقون أكبر الخزي والنكال في الدنيا والآخرة بنقضهم ميثاق ربهم، وقتلهم لأنبيائه ورسله، وكفرهم بالمسيح وبهتهم لأمه، وتبجحهم بدعوى قتله وصلبه؟

2. فتعليل تحريم الطيبات عليهم بظلم مبهم منهم، وبما ذكر بعده من المعاصي عطفا عليه زائدا عنه أو بيانا له يدل على العقاب العظيم والخزي الكبير الذي يستحقونه على نقض الميثاق الأكبر وما عطف عليه من الكفر والموبقات، وهو المتعلق المحذوف لقوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ فهو قد حذف ذلك المتعلق، ثم ذكر عقابهم في الدنيا على ما دون ذلك وهو تحريم بعض الطيبات عليهم، فعلم منه أن ذلك المتعلق المحذوف يشمل كل ما أصابهم في الدنيا من الخزي والنكال وفقد الاستقلال، وختم الآيات بذكر عذابهم في الآخرة.

3. أما الطيبات التي حرمها الله عليهم فهي مبينة بقوله عز وجل: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ [الأنعام: 147] الآية هكذا ذهب بعض المفسرين، وتوقف بعضهم فلم يجزم بتعيين ما حرم عليهم، ولم يعرف ما نكره الكتاب، وفي الفصل الحادي عشر من سفر الأوليين (الأحبار) تفصيل ما حرم عليهم في التوراة من حيوانات البر والبحر وهي كثيرة جدا، وكانت قد أحلت لهم بقاعدة كون الأصل في الأشياء الحل بإحلالها لسلفهم كما ورد في قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ [آل عمران: 93] فليراجع تفسير هذه الآية.

4. تقديم (فبظلم) على (حرمنا) يفيد الحصر أي حرم عليهم ذلك بسبب الظلم لا بسبب آخر، وقد أبهم ما حرم عليهم هنا لأن الغرض من السياق العبرة بكونه عقوبة لا بيانه في نفسه، كما أبهم ما حرم عليهم هنا لأن الغرض من السياق العبرة بكونه عقوبة لا بيانه في نفسه، كما أبهم الظلم الذي كان سببا له، ليعلم القارئ والسامع أن أي نوع من الظلم يكون سببا للعقاب في الدنيا قبل الآخرة، هذا إذا لم يكن ما عطف عليه بيانا له، والعقاب قسمان: دنيوي وأخروي، ولكل منها أقسام سيأتي بسطها، ومن الدنيوي التكاليف الشرعية الشاقة في زمن التشريع، والجزاء الوارد فيها على الجرائم من حد أو تعزيز، وما اقتضته سنن الله تعالى في نظام الاجتماع من كون الظلم سببا لضعف الأمم وفساد عمرانها، واستيلاء أمة أخرى على ملكها.

5. ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ هو عطف على قوله، ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ وقد أشرنا آنفا إلى احتمال أنه هو وما عطف عليه مبين له أي للظلم، وهو حينئذ لا ينافي الحصر، لأن العطف على المعمول المتقدم على عامله ينافي الحصر إذا كان المعطوف مغاير له، وأما إذا كان مبينا له فهو عينه، ويجوز أن يكون عطف مغايرة وأن يكون تقديم ذكر الظلم للاهتمام ببيان قبح قليله وكثيره واقتضائه العقاب لا للحصر، وقيل إن بصدهم متعلق بمحذوف، أي بسبب صدهم على سبيل الله الخ شددنا عليهم في أحكام التكاليف أخرى كالبقرة التي أمروا بذبحها في حادثة القتيل التي تقدمت، وعلى الأول يكون من البيان والتفصيل بعد الإبهام والإجمال، وهو أوقع في النفس، وأبلغ في العبرة والموعظة.

6. الصدود والصد يستعمل لازما ومتعديا ومعناه المنع، أي صدودهم أنفسهم عن سبيل الله مرارا كثيرة بما كانوا يعصون موسى عليه السلام ويعاندونه، أو صدهم الناس عن سبيل الله بسوء القدوة أو بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وقال بعض المفسرين: إن المراد صدهم الناس عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأوقعوا أنفسهم بهذا التفسير في الإشكال وحار بعضهم في الخروج منه، ونسوا أنهم كانوا في غنى عن الدخول فيه، حتى عد بعضهم الآية من أكبر المشكلات، لأن تحريم تلك الطيبات على بني إسرائيل كان قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فكيف يكون الصد عن الإيمان به سببا لها والسبب يجب أن يكون قبل المسبب؟ ويتفصى بعضهم من الإشكال بجعل هذا الصد متعلقا بفعل محذوف كما تقدم، وتساءل بعضهم: من حرم ذلك عليهم ومتى كان؟ وبمثل هذه الأفهام الضعيفة وتقليد بعضهم لبعض يولدون لنا شبها على القرآن وأصل الدين، ينقلها الكافرون به عنهم ويطعنون بها في بلاغته وبيانه، والصواب ما جرينا عليه أولا وأن صدهم عن سبيل هو إعراضهم عن هداية دينهم غواية وإغواء، وذلك مفصل في كتبهم الدينية.

7. ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ أي بسبب أخذهم الربا وقد نهوا عنه على ألسنة أنبيائهم ولكن التوراة التي بين أيديهم إنما تصرح بتحريم أخذهم الربا من شعبهم، ومن إخوتهم دون الأجانب ففي سفر الخروج [25 إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي، لا تضعوا عليه ربا: 22] وفي سفر الاويين (الأحبار) وإذا افتقر أخوك وقصرت يده عندك فاعضده غريبا أو مستوطنا فيعيش معك 36 لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة بل اخش الهك فيعيش أخوك معك 37 فضتك لا تعطه بالربا وطعامك لا تعطه بالمرابحة) وفي سفر تثنيه الاشتراع [23 لا تقرض أخاك بالربا، ربا فضة أو ربا شيء ما مما يقرض بربا 20 للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا: 19]

8. نحن لا نسلم أن هذا هو نص التوراة التي كتبها موسى عليه السلام لأن نسخة موسى فقدت بإجماع اليهود والنصارى، وهذه التي عندهم قد كتبت بعد السبي وثبت تحريفها بالشواهد الكثيرة، والظاهر أن عبارة (للأجنبي تقرض بربا) قد أخذها الذي كتب التوراة عزرا أو غيره من مفهوم الأخ لأنه كتب ما حفظ منها بالمعنى، وهذا من مفهوم المخالفة الذي لا يحتج به جمهور علماء الأصول إذا كان مفهوم لقب، على أن بعض أنبيائهم قد أطلقوا ذم الربا والنهي عنه إطلاقا فلم يقيدوه بشعب إسرائيل ولا بإخواتهم كقول داوود عليه السلام في المزمور الخامس عشر (وهو الرابع عشر في نسخة الجزويت) (فضته لا يعطيها بالربا ولا يأخذ الرشوة من البريء) وكقول سليمان عليه السلام في سفر الأمثال المكثر ماله بالربا والمرابحة فلمن يرحم الفقراء يجمعه) وقول حزقيال مما أوحاه إليه الرب في صفات البارّ [18 بذل خبره للجوعان وكسا العريان ثوبا 8 ولم يعط بالربا ولم يأخذ مرابحة: 7] وشريعة هؤلاء الأنبياء هي التوراة فلا بد أن يكونوا أخذوا إطلاق تحريم الربا منها.

9. ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ كالرشوة والخيانة وغير ذلك فإن من أخذ من مال آخر شيئا بغير مقابل، فقد أكله بالباطل، وإنما يعتد بالمقابل إذا كنت تملكه، ولا يجب عليك بذله بغير عوض.

10. ثم بين تعالى جزاءهم في الآخرة على هذه الذنوب بعد بيان بعض جزائها في الدنيا ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ عذاب النار المؤلم أعتده الله أي هيأه للذين كفروا منهم بأي رسول من رسله ولاسيما عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهم الذين بين الله حالهم في السياق وغيره.

__________

(1) تفسير المنار: ‏6/49.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكر سبحانه فضائح اليهود وقبيح أعمالهم، ذكر هنا تشديده عليهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبتحريم طيبات كانت محللة لهم، وأما في الآخرة فبما بينه الله بقوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ ثم بين أن فريقا منهم آمنوا إيمانا صادقا وعملوا الصالحات فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وتوعدهم بالأجر العظيم يوم القيامة

2. ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ أي فبسبب ظلمهم استحقوا تحريم طيبات كانت محلّلة لهم ولمن قبلهم عقوبة وتربية لهم، لعلهم يرجعون عن ظلمهم، وكانوا كلما ارتكبوا معصية يحرم عليهم نوع من الطيبات وهم مع ذلك كانوا يفترون على الله الكذب، ويقولون لسنا بأول من حرمت عليه، بل كانت محرمة على نوح وإبراهيم فكذبهم الله في مواضع كثيرة كقوله: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾

3. أما الطيبات التي حرمها عليهم فهي ما بيّن في قوله عزّ اسمه‏: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ الآية، وقد أبهمها الله هنا، لأن الغرض من السياق العبرة بكونها عقوبة، لا بيانها في نفسها، كما أبهم الظلم الذي كان سببا في العقوبة، ليعلم أن أيّ نوع منه يكون سببا للعقاب في الدنيا قبل الآخرة.

4. والعقاب إما دنيوي كالتكاليف الشاقة زمن التشريع، والجزاء الوارد في الكتب على الجرائم كالحد والتعزير وما اقتضته السنن التي سنها الله في نظم الاجتماع من كون الظلم سببا لضعف الأمم وفساد عمرانها واستيلاء الأمم الأخرى عليها، وإما أخروىّ وهو ما بيّنه في الكتاب الكريم من العذاب في النار.

5. ثم بين هذا الظلم وفصله بعد ذكره إجمالا، ليكون أوقع في النفس، وأبلغ في الموعظة: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ الصدّ والصدود: المنع، وهو يشمل صدهم أنفسهم عن سبيل الله بما كانوا يعصون به موسى ويعاندونه مرارا، وصدّهم الناس عن سبيل الله بسوء القدوة، أو بالأمر بالمنكر والنهى عن المعروف.

6. ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ أي وبسبب أخذهم الربا وقد نهوا عنه على ألسنة أنبيائهم، والتوراة التي بين أيديهم إنما تصرح بتحريم أخذهم الربا من شعبهم ومن إخوتهم دون الأجانب، فقد جاء في سفر الخروج (إن أقرضت فضة لشعبى الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابى، لا تضعوا عليه ربا) وفى سفر تثنية الاشتراع (لا تقرض أخاك بربا، ربا فضة أو ربا شيء ما مما يقرض بربا، للأجنبى تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا) وهذه عبارة التوراة التي كتبت بعد السبي، وثبت تحريفها بالشواهد الكثيرة، أما النسخة التي كتبها موسى فقد فقدت باتفاق اليهود والنصارى، وبعض أنبيائهم قد نهوا عن الربا إطلاقا فلم يقيدوه بشعب إسرائيل كقول داوود في المزمور الخامس عشر: فضته لا يعطيها بالربا، ولا يأخذ الرشوة من البريء وقول سليمان في سفر الأمثال (المكثر ماله بالربا والمرابحة، فلن يرحم الفقراء بجمعه)

7. ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ أي بالرشوة والخيانة ونحوهما مما أخذ فيه المال بلا مقابل يعتدّ به، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ والسحت: الكسب الحرام فقد كانوا يأخذون أثمان الكتب التي يكتبونها بأيديهم ثم يقولون هي من عند الله.

8. وبعد أن ذكر وجوه الذنوب التي اقترفوها، والجرائم التي ارتكبوها، بين جزاءهم عليها في الآخرة فقال: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أي وأعددنا للذين كفروا منهم برسل الله عذابا مؤلما في نار جهنم خالدين فيها أبدا.

__________

(1) تفسير المراغي ‏6/17.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بذلك يحسم القرآن الكريم قصة الصلب، ثم يعود بعدها إلى تعداد مناكر اليهود؛ وما نالهم عليها من الجزاء الأليم في الدنيا والآخرة، ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾..

2. فيضيف إلى ما سبق من مناكرهم هذه المنكرات الجديدة: الظلم، والصد الكثير عن سبيل الله، فهم ممعنون فيه ودائبون عليه، وأخذهم الربا ـ لا عن جهل ولا عن قلة تنبيه ـ فقد نهوا عنه فأصروا عليه! وأكلهم أموال الناس بالباطل، بالربا وبغيره من الوسائل.

3. بسبب من هذه المنكرات، ومما أسلفه السياق منها.. حرمت عليهم طيبات كانت حلالا لهم، وأعد الله للكافرين منهم عذابا أليما.

4. وهكذا تتكشف هذه الحملة عن كشف طبيعة اليهود وتاريخهم؛ وفضح تعلاتهم وعدم الاستجابة للرسول وتعنتهم؛ ودمغهم بالتعنت مع نبيهم وقائدهم ومنقذهم؛ ويسر ارتكابهم للمنكر وجهرهم بالسوء في حق الأنبياء والصالحين، بل قتلهم والتبجح بقتلهم! وتسقط بذلك وتتهاوى دسائس اليهود في الصف المسلم وكيدهم ومكرهم وحبائلهم، وتعرف الجماعة المسلمة ـ ما ينبغي أن تعرفه الأمة المسلمة في كل حين ـ عن طبيعة اليهود وجبلتهم، ووسائلهم وطرائقهم؛ ومدى وقوفهم للحق في ذاته سواء جاء من غيرهم أو نبع فيهم، فهم أعداء للحق وأهله، وللهدى وحملته، في كل أجيالهم وفي كل أزمانهم، مع أصدقائهم ومع أعدائهم.. لأن جبلتهم عدوة للحق في ذاته؛ جاسية قلوبهم، غليظة أكبادهم لا يحنون رؤوسهم إلا للمطرقة! ولا يسلمون للحق إلا وسيف القوة مصلت على رقابهم..

5. وما كان هذا التعريف بهذا الصنف من الخلق، ليقصر على الجماعة المسلمة الأولى: في المدينة، فالقرآن هو كتاب هذه الأمة ما عاشت، فإذا استفتته عن أعدائها أفتاها، وإذا استنصحته في أمرهم نصح لها؛ وإذا استرشدت به أرشدها، وقد أفتاها ونصح لها وأرشدها في شأن يهود، فدانت لها رقابهم.. ثم لما اتخذته مهجورا دانت هي لليهود، كما رأيناها تتجمع فتغلبها منهم الشرذمة الصغيرة، وهي غافلة عن كتابها.. القرآن.. شاردة عن هديه، ملقية به وراءها ظهريا! متبعة قول فلان وفلان! وستبقى كذلك غارقة في كيد يهود وقهر يهود، حتى تثوب إلى القرآن..

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/804.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من العقوبات التي عجّلها الله سبحانه وتعالى لليهود في هذه الدنيا، أن حرّم عليهم طيبات كانت أحلت لهم، فلما مكروا بآيات الله أخذهم الله بذنوبهم، فأعنتهم وأوقعهم في الحرج، كما أعنتوا هم رسله وأخرجوهم.. فمن طيبات الطعام التي حرمها الله على اليهود، ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)﴾ [الأنعام: 146]

2. ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ أي بسبب ما كان من الذي هادوا من ظلم.. ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)﴾ هو سبب آخر لتلك العقوبة التي أخذوا بها، وهي أنهم صدّوا عن سبيل الله وأعرضوا عنها، كما صدّوا غيرهم عن سبيل الله، وأضلوهم عنه.

3. ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ﴾ هو بيان لبعض مآثم هؤلاء القوم، التي كانت سببا في أن سلط الله عليه لعنته وأخذهم بهذا العقاب الأليم.. فقد استحلّوا الرّبا، وقد نهاهم الله عنه.. وقد بلغ من جرأتهم على الله أن حرّفوا التوراة، وأقاموا نصوصها على الوجه الذي يرضون.. فجعلوا الربا محرما إذا كان بين يهودي ويهودى، ومباحا حلالا إذا كان بين يهودي وأممىّ، أي غير يهودى.. وفي هذا تقول التوراة، كما أرادوا لها أن تقول: (لا تقرض أخاك بربا فضة، أو ربا طعام، أو ربا شيء مما يقرض بربا.. للأجنبى تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا!) [تثنية 33: 19].. أفهذا شرع الله بين عباده؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

4. في قوله تعالى: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا﴾ ما يجعلنا نأنس إلى الرأي الذي رأيناه في تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ فقد قلنا إن المراد بآكلى الربا هنا هم المقترضون، لا المقرضون.. ولهذا جاء قوله تعالى هنا: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا﴾ مرادا به المقرضون، وأصحاب الأموال، التي يتعاملون فيها بالربا، ولم يجيء هكذا: (وأكلهم الربا) لأن اليهود يقرضون ولا يقترضون..

5. ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ هو أعمّ من الربا، وهو كل مال جاء من طريق غير مشروع، كالسلب والسرقة، وكالقمار، والخداع، والغش، والرشوة، ونحو هذا.. واليهود يتزاحمون دائما على كل مورد من هذه الموارد، حتى لا يكادون يدعون مكانا لغيرهم من الناس!

6. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)﴾.. هو نذير لليهود بالعذاب الأليم في الآخرة، بعد أن لبسوا البلاء المهين في الدنيا.. وفي وصفهم بالكفر، والاتجاه بالخطاب إليهم بهذا الوصف، هو لغلبة الكفر عليهم، كما يقول الله تعالى فيهم: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)﴾ [آل عمران: 110]

7. في قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ﴾ استنقاذ لمن خلص بجلده من هذه الجماعة، وخرج عن محيطها، فآمن بالله، وأخلص دينه للّه!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1004.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن كان متعلّق قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ [النساء: 155] محذوفا على أحد الوجهين المتقدّمين كان قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ مفرّعا على مجموع جرائمهم السالفة، فيكون المراد بظلمهم ظلما آخر غير ما عدّد من قبل، وإن كان قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ [النساء: 155] متعلّقا بقوله: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ﴾ فقوله: ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ بدل مطابق من جملة ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ [النساء: 155] بإعادة العامل في البدل منه لطول الفصل، وفائدة الإتيان به أن يظهر تعلّقه بقوله: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ﴾ إذ بعد ما بينه وبين متعلّقه، وهو قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ [النساء: 155] ليقوى ارتباط الكلام، وأتي في جملة البدل بلفظ جامع للمبدل منه وما عطف عليه: لأنّ نقض الميثاق، والكفر، وقتل الأنبياء، وقولهم قلوبنا غلف، وقولهم على مريم بهتانا، وقولهم قتلنا عيسى: كلّ ذلك ظلم، فكانت الجملة الأخيرة بمنزلة الفذلكة لما تقدّم، كأنّه قيل: فبذلك كلّه حرّمنا عليهم، لكن عدل إلى لفظ الظلم لأنّه أحسن تفنّنا، وأكثر فائدة من الإتيان باسم الإشارة، وقد مرّ بيان ذلك قريبا عند قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ [النساء: 155]، ويجوز أن يكون ظلما آخر أجمله القرآن.

2. تنكير (ظلم) للتعظيم، والعدول عن أن يقول (فبظلمهم)، حتّى تأتي الضمائر متتابعة من قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ﴾ إلى آخره، إلى الاسم الظاهر وهو ﴿الَّذِينَ هَادُوا﴾ لأجل بعد الضمير في الجملة المبدل منها: وهي‏ ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ [النساء: 155]، ولأنّ في الموصول وصلته ما يقتضي التنزّه عن الظلم لو كانوا كما وصفوا أنفسهم، فقالوا: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 156]؛ فصدور الظلم عن الذين هادوا محلّ استغراب.

3. الآية اقتضت: أنّ تحريم ما حرّم عليهم إنّما كان عقابا لهم، وأنّ تلك المحرّمات ليس فيها من المفاسد ما يقتضي تحريم تناولها، وإلّا لحرّمت عليهم من أوّل مجيء الشريعة، وقد قيل: إنّ المراد بهذه الطيّبات هو ما ذكر في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ﴾ في سورة الأنعام [146]، فهذا هو الجزاء على ظلمهم.

4. نقل الفخر في آية سورة الأنعام عن عبد الجبّار أنّه قال: (نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر منهم لأنّ التكليف تعريض للثواب، والتعريض للثواب إحسان، فلم يجز أن يكون التكليف جزاء على الجرم، قال الفخر: والجواب أنّ المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لقصد استحقاق الثواب ويمكن أن يكون للجرم)، وهذا الجواب مصادرة على أنّ ممّا يقوّي الإشكال أنّ العقوبة حقّها أن تخصّ بالمجرمين ثمّ تنسخ، فالذي يظهر لي في الجواب: إمّا أن يكون سبب تحريم تلك الطيّبات أنّ ما سرى في طباعهم بسبب بغيهم وظلمهم من القساوة صار ذلك طبعا في أمزجتهم فاقتضى أن يلطّف الله طباعهم بتحريم مأكولات من طبعها تغليظ الطباع، ولذلك لمّا جاءهم عيسى أحلّ الله لهم بعض ما حرّم عليهم من ذلك لزوال موجب التحريم، وإمّا أن يكون تحريم ما حرّم عليهم عقابا للذين ظلموا وبغوا ثمّ بقي ذلك على من جاء بعدهم ليكون لهم ذكرى ويكون للأوّلين سوء ذكر من باب قوله: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال: 25]، وقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما من نفس تقتل ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، ذلك لأنّه أوّل من سنّ القتل)، وإمّا لأنّ هذا التحريم عقوبة دنيوية راجعة إلى الحرمان من الطيّبات فلا نظر إلى ما يعرض لهذا التحريم تارة من الثواب على نيّة الامتثال للنهي، لندرة حصول هذه النيّة في التّرك.

5. وصدّهم عن سبيل الله: إن كان مصدر صدّ القاصر الذي مضارعه يصدّ ـ بكسر الصاد ـ فالمعنى بإعراضهم عن سبيل الله؛ وإن كان مصدر المتعدّي الذي قياس مضارعه ـ بضمّ الصاد ـ، فلعلّهم كانوا يصدّون النّاس عن التقوى ويقولون: سيغفر لنا، من زمن موسى قبل أن يحرّم عليهم بعض الطيّبات، أمّا بعد موسى فقد صدّوا النّاس كثيرا، وعاندوا الأنبياء، وحاولوهم على كتم المواعظ، وكذّبوا عيسى، وعارضوا دعوة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وسوّلوا لكثير من النّاس، جهرا أو نفاقا، البقاء على الجاهليّة، كما تقدّم في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ [النساء: 51] الآيات، ولذلك وصف بـ ﴿كَثِيرًا﴾ حالا منه.

6. وأخذهم الربا الذي نهوا عنه هو أن يأخذوه من قومهم خاصّة ويسوغ لهم أخذه من‏ غير الإسرائيليّين كما في الإصحاح 23 من سفر التثنية (لا تقرض أخاك بربا ربا فضّة أو ربا طعام أو ربا شيء ما ممّا يقرض بربا، للأجنبي تقرض بربا)، والربا محرّم عليهم بنصّ التوراة في سفر الخروج في الإصحاح 22 (أن أقرضت فضّة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا) وأكلهم أموال النّاس بالباطل أعمّ من الربا فيشمل الرشوة المحرّمة عندهم، وأخذهم الفداء على الأسرى من قومهم، وغير ذلك.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/311.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قلوبهم قسوة، وفى نفوسهم جفوة، وعقولهم غلف لا تنفتح للحق، ولا تذعن له، ظهرت آياته وقامت بيناته، أتتهم آيات الحق والمعجزات فكذبوا بها وطلبوا غيرها، وقالوا أرنا الله جهرة، ورأوا الجبل يعلو عليهم، فقبلوا ميثاق الإيمان ثم نقضوه، وقتلوا بعض الأنبياء لغلظ قلوبهم، وانطماسها، وغفلتها عن الحق، ورموا مريم البتول ببهتان وكذب، ومحاولتهم قتل عيسى ابن مريم رسول الله، وافتخارهم لقتله وما قتلوه، فهذه مظالم تتلوها مظالم، ولا بد من تربية نفوسهم على الحق، وتهذيبها لتذعن له، والنفس الشرهة الشرسة لا يهذبها إلا الحرمان أبدا، عسى أن تنقشع عنها غياهب المادة فترى.

2. ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ الظلم هنا خاص بالكفر الذى ذكرته الآيات سابقا، كفروا بمواثيق الله، ولم يذعنوا للحق، إذعانا ظاهرا إلا بعد تهديد غليظ، ثم نقضوا ما عاهدوا الله تعالى عليه وقتلوا الأنبياء وكذبوا على الأبرياء، فالظلم إذن هو هذا الكفر الذى أوغلوا فيه إيغالا، ولا شك أن ما جاء بعد ذلك ظلم بين، فالصد عن سبيل الله ظلم، وأخذهم الربا ظلم، وأكلهم أموال الناس بالباطل ظلم، وكل واحدة من هذه الجرائم التي أركسوا فيها ظلم وذنب، ولذلك صح أن تذكر كل واحدة منها منفردة، وإن كانت تدخل في عموم كلمة ظلم، ولكن عند اجتماعها مع هذه الجرائم تخصص كل كلمة بما ذكر أولا أنهم ارتكبوه، ودل على غلظ أكبادهم وقسوة قلوبهم، وكفرهم الصريح وهو أشد أنواع الظلم، وإن الشرك لظلم عظيم.

3. وقد ذكر سبحانه وتعالى العقوبة بقوله: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ هذا هو حكم الله تعالى الذى قرره تهذيبا وتأديبا لهم، وفطما لنفوسهم عن الشهوات، ولقلوبهم التي استغرقتها المادة، والنفوس إذا فطمت تتهذب، وقد تذهب قسوتها، حرم الله سبحانه وتعالى أمورا كانت حلالا لهم، وهي بتكوينها من الطيبات التي أحلها الله تعالى، وليست من الخبائث التي يحرمها الله تعالى، فهي في أصل تكوينها طيبات من شأنها الحل، ولكن حرم بعضها عليهم تهذيبا وتربية لكى تذهب عن قلوبهم بعض القسوة، وبعض الأنانية التي استولت عليها.

4. التنكير في قوله تعالى: ﴿طَيِّبَاتِ﴾ فيه إشارة إلى أنه لم تحرم كل الطيبات، بل بعض منها، وقد بينه سبحانه وتعالى بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام‏]، وإنه يلاحظ أن هذه المحرمات من الطيبات من شأن الإكثار منها أن يوجد شحما في الجسم واسترخاء، وحيث كان الجسم كذلك تضعف الهمة، وحيث ضعفت الهمة، كانت محبة المادة، والكسب الرخيص، وطلب من غير الله، وقد كانوا كذلك، وقد كانوا لا همة لهم إلا في الكسب الرخيص ولا همة لهم في دفع اعتداء، فقد كانوا يقولون لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة]، وهمتهم الكبرى في الإيذاء لخمول قلوبهم بقدر خمول أجسامهم، وكان في فطمهم عن الشحوم، وما يزيد البدن ترهلا، تهذيبا لنفوسهم، وتقوية لأبدانهم، وفتح باب الهمة العليا لهم.

5. ومن المظالم التي ارتكبوها صدهم أنفسهم عن طريق الحق، وصدهم غيرهم ومنع غير اليهود من أن يدخلوا في ديانة موسى، ولذا قال سبحانه: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ أي صدا كثيرا في ذاته أو صدا لناس كثيرين.

6. وقد ذكر سبحانه وتعالى بقية الأسباب التي أوجبت ذلك التحريم فقال: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ كان الظلم الأول موضعه القلب والاعتقاد، وما ينبعث من أفعال شاذة فيها اعتداء على رسل الله تعالى وأنبيائه، فالاعتداء فيها كان على جنب الله تعالى والفساد كان في القلوب، وفى الأعمال التي تتعلق بها، أما الظلم هنا فهو واقع على العباد، ذلك أن ضعف همتهم في الكسب، وعدم الاتجاه إلى العمل المثمر المنتج جعلهم يتجهون إلى الكسب الفاسد غير المنتج وذلك بالربا، وأكل مال الناس بالباطل:

أ. فأما الربا، وهو الزيادة في نظير الزيادة في الأجل فهو كسب الخبيث، وغير منطقى، لأنه كسب بالنقد، والنقد لا يلد النقد كما قال أرسطو، وهو كسب بالانتظار فالزمن هو العامل فيه، والكسب بالانتظار عمل الكسالى الجبناء؛ لأنه يجيئهم من غير عمل، ومن غير تعرض للخسارة وهو في الغالب نوع من البطالة، ويؤدى إلى القمار والمراهنات، ولذلك تقترن هذه الآفات الاجتماعية بالتعامل بالربا، وتكون في أكثر أحوالها ممن يتعاملون به، حيث لا مخاطرة كالتي تكون في التجارة أو الزراعة، ويندر أن تجد يهوديا في أي بلد من البلاد يشتغل‏ بالزراعة، ولكنهم يتخذون لأنفسهم صفة الوسطاء التي لا تحتاج إلى همة، ولا تحتاج إلى شجاعة.

ب. وحيث كانت المعاملات اليهودية كان معها أكل أموال الناس بغير الحق الذى فيه أخذ وعطاء، ونفع وانتفاع، بل تكون معاملاتهم قائمة على الاحتكار، والرشوة كيفما كانت تسميتها، وكيفما كانت صفتها، والمخادعات والاحتيال، والنصب الماهر المستور، وغير ذلك من التعامل الذى لا شرف فيه.

7. وقد بين سبحانه وتعالى عقابهم بقوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أي بسبب هذه المظالم في الدنيا لا يكتفى بحرمانهم الجزئي فيها، بل لا بد للكافرين من عقاب شديد مؤلم في الآخرة، وقد ذكر وصف الإيلام في العذاب، للإشارة إلى أنهم إن كانوا يتمتعون في الدنيا كما تتمتع الأنعام، ويرتعون كما ترتع، فذلك إلى أمد قصير.

8. إن أولئك الماديين الذين فسدت ضمائرهم وضعفت عقائدهم، وأصبحوا لا يؤمنون إلا بالدنيا، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب وما نحن بمبعوثين.. يكون منهم دائما الاستهانة بحقوق غيرهم وينشرون اللهو والعبث والمجون، وتكون الدنيا متعتهم وتكون هذه المتعة غايتهم، ومطلبهم، فلا يذكرون أن وراء هذه المتعة آلاما، ووراءها عذاب أليم، فليذكروا ذلك، وإن ربك لبالمرصاد.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1956.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾، ما زال الكلام عن اليهود وقبائحهم، فقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة وقاحتهم بطلبهم رؤية الله جهرة، وعبادتهم العجل، واعتداءهم في السبت، ونقضهم الميثاق، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء، وقولهم قلوبنا غلف، وافتراءهم على مريم، وتبجحهم بقتل المسيح.. وذكر هنا صدهم عن سبيل الله، وأكلهم الربا والرشوة، وانه سبحانه بسبب هذه القبائح والفضائح حرم عليهم في الدنيا بعض الطيبات التي كانت حلالا لهم ولغيرهم.

2. ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾، معطوف على بظلم من الذين هادوا، وقيل: ان اليهود أول من سنّ الربا وشرّع تحليله، ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾، كالرشوة وغيرها من الوجوه المحرمة، وقد وصفهم سبحانه في الآية 42 من سورة المائدة بأنهم: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾، أما الطيبات التي حرمها عليهم فهي التي أشار إليها سبحانه بقوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أو الْحَوَايَا أو مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾

3. وإذا قارنا بين سيرة اليهود منذ القديم، بخاصة في عهد موسى وعيسى ومحمد، وبين وسائلهم وطرائقهم اليوم لم نجد أي فرق بين يهود الأمس ويهود اليوم، من حيث الضلال والفساد، والعداء للإنسانية وقيمها، وعدم الخضوع إلا (للطور) يرفع فوق رؤوسهم.. وان دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الشر طبع أصيل في اليهود، وجبلة لا تنفك عنهم، ولا ينفكون عنها، مهما تغيرت الأزمان، وتطورت الأحوال، تماما كما لا ينفك اللدغ عن طبع العقارب، ونفث السموم عن جبلة الأفاعي، وإذا وجد في كل إنسان استعداد للخير والشر فإن طبيعة اليهود متمحضة للشر وحده، وإذا وجد منهم بين الحين والحين من يعرف الحق، ويعمل به فانه قليل نادر، والنادر لا ينقض القاعدة، بل يكرسها.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/488.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ الفاء للتفريع، وقد نكر لفظ الظلم وكأنه للدلالة على تفخيم أمره أو للإبهام، إذ لا يتعلق على تشخيصه غرض مهم وهو بدل مما تقدم ذكره من فجائعهم غير أنه ليس بدل الكل من الكل كما ربما قيل، بل بدل البعض من الكل، فإنه تعالى جعل هذا الظلم منهم سببا لتحريم الطيبات عليهم، ولم تحرم عليهم إلا في شريعة موسى المنزلة في التوراة، وبها تختتم شريعة موسى، وقد ذكر فيما ذكر من فجائعهم ومظالمهم أمور جرت ووقعت بعد ذلك كالبهتان على مريم وغير ذلك، فالمراد بالظلم بعض ما ذكر من مظالمهم الفجيعة فهو السبب لتحريم ما حرم عليهم من الطيبات بعد إحلالها.

2. ثم ضم إلى ذلك قوله: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ وهو إعراضهم المتكرر عن سبيل الله‏ ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾

3. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ معطوف على قوله: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ﴾ فقد استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين: جزاء دنيوي عام وهو تحريم الطيبات، وجزاء أخروي خاص بالكافرين منهم وهو العذاب الأليم.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/138.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ أي فبذلك المذكور من أول الآيات من قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ قال في (الكشاف): (بدل من قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾)، فهو كالإعادة للتعليل، وفيه زيادة فائدة: أن هذه الأشياء كانت علة للتحريم؛ لكونها ظلماً عظيماً؛ ولعلهم أنفوا من تحريم ما حرم الله عليهم عقوبة لهم فكان ذلك سبباً لتعداد جرائمهم التي كانت سبباً لتحريم طيبات.

2. ثم عطف على ذلك ذكر أسباب أخر، فقال تعالى: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ (صدهم): منعهم عن سبيل الله عن دينه كثيراً من الناس، أوصداًّ كثيراً، وذلك نحو صدهم عن الإيمان بعيسى ومحمد ـ صلى الله عليهما وآل محمد ـ قال الشرفي في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: دلت على تحريم الاحتجاج بالشُّبَهِ المضلة؛ لأنها صد عن سبيل الله)

3. ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ عطف على الأسباب للتحريم المذكور، وفيها دلالة على أن النهي يكفي لإفادة التحريم، وقيام الحجة على المخالف له ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ عطف على أسباب التحريم المذكورة أي حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم بصدهم وأخذهم وأكلهم، والباطل ضروب: منها: الربا، وقد خص بالذكر لزيادة في قبحه وعاره، ومنها: الرشوة، وأجرة السحر، وأجرة الكهانة، وأجرة تحريف الكتاب، ونسبة ما ليس منه إليه، كما مر في قول الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة:79].

4. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ عطف على حرمنا عليهم وخص الكافرين بالذكر لبيان أن السبب كفرهم لنعم الله وكفرهم بآيات الله لا كونهم يهوداً، وليخرج من آمن منهم كما يأتي في قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/211.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد كان من حكمة الله سبحانه، أنه واجه اليهود بتحريم كثير من الطيبات المحلّلة في ذاتها، لهم ولغيرهم، لا على أساس وجود ما يفرض المنع عنها، من حيث ذاتها من المفسدة المترتبة عليها، بل على أساس التشديد عليهم كعقوبة لهم، فيما فعلوه من الأفعال الظالمة والمنحرفة عن الصراط المستقيم؛ وذلك ما تحدث الله عنه في هاتين الآيتين، فقد ظلموا أنفسهم بالمعصية والانحراف عن خط الله سبحانه، وصدّوا عن سبيل الله كثيرا، بما أثاروا من شكوك وشبهات حول دعوة الأنبياء، وما وضعوه من عقبات أمام الرسل، وأخذوا الربا الذي حرمه الله عليهم، وأكلوا أموال الناس بالباطل، لأنهم كانوا يستحلون مال غير اليهود وذلك ما حكاه الله عنهم في‏ سورة آل عمران، ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران: 75]؛ وكانوا يأخذون الرشوة في الحكم، ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا بعد تحريفها وغير ذلك.

2. أما هذه الأشياء المحرمة، فهي التي أشار الله إليها في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا﴾ [الأنعام: 146] هذا في الدنيا، أما في الآخرة، فقد هيّأالله لهم عذابا أليما.

3. وقد نستوحي من هذا الأسلوب الذي اتبعه الله في عقوبة اليهود لونا آخر في أسلوب التربية، في بعض الأوضاع الإنسانية التي توحي بالتمرّد على أساس العقدة الذاتية، فيمكن ممارسة ذلك، لا على سبيل التشريع، بل على سبيل التحديد لبعض الحريات، أو المنع من بعض الأمور من أجل الضغط على الانحراف في وقت معين، ليعود الأمر بعد ذلك كما كان من دون تحديد أو منع.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏‏7/537.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد أشارت الآيات السابقة إلى نماذج من انتهاكات اليهود، أما الآيات الأخيرة فإنما ذكرت نماذج أخرى من تلك الانتهاكات، وبيّنت العقوبات التي استحقها اليهود بسبب تمردهم وعصيانهم، والعذاب الذي لا قوه وسيلاقوه نتيجة لذلك في الدنيا والآخرة.

2. ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ تبيّن الآية الكريمة أنّ الله قد حرم بعضا من الأشياء الطاهرة على اليهود بسبب ممارستهم الظلم والجور، وتصديهم للسائرين في‏ طريق الله، كما عاقبهم الله بالحرمان من تلك الطيبات لتعاملهم بالربا على الرغم من منعهم من ممارسة المعاملات الربوية ولاستيلائهم على أموال الآخرين بطرق غير مشروعة، فتقول الآية في هذا المجال: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾

3. وتؤكّد الآية أنّ عذاب اليهود لمعاصيهم تلك لا يقتصر على العقاب الدنيوي، بل سيذيقهم الله ـ أيضا ـ عقاب وعذاب الآخرة الأليم الذي يشمل الكافرين من اليهود، تقول الآية الكريمة: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾

4. المقصود بالطيبات المحرمة على اليهود هي تلك التي ذكرتها الآية من سورة الأنعام، والتي شملت بعض الحيوانات وشحوم حيوانات أخرى كالبقر والأغنام التي أحبّها اليهود، ولم يكن هذا التحريم تحريما تكوينيا، بل كان تحريما تشريعيا قانونيا، أي أن اليهود منعوا من استعمال هذه النعم مع أنّها كانت متيسرة في أيديهم، وقد جاء ذكر بعض هذا التحريم في التوراة المتداولة بيد اليهود حاليا، في (سفر الآويين) في الفصل الحادي عشر، ولكن لم تشر التوراة الحالية إلى الطابع العقابي لهذا التحريم‏.

5. أمّا هل أنّ هذا التحريم يتميز بطابع شمولي، أي هل يشمل غير الظالمين من اليهود، أم يخص الظالمين وحدهم؟ فإنّ ظاهر الآية الكريمة والآية من سورة الأنعام، يدلان على أنّ التحريم له طابع عام بدلالة عبارة (لهم) على عكس العقاب الأخروي الذي تخصصه الآية ﴿لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ﴾ وعلى هذا الأساس فإن هذا التحريم له طابع عقابي بالنسبة للظالمين من اليهود، كما يحمل‏ طابع الاختبار والامتحان بالنسبة لأخيارهم الذين يشكلون الأقلية فيهم.

6. ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هذا التحريم يشمل الظالمين من اليهود فقط، كما تدل بعض الروايات على هذا الرأي ـ أيضا ـ فقد جاء في تفسير البرهان في تفسير الآية من سورة الأنعام، نقلا عن الإمام الصّادق عليه السّلام: (إنّ زعماء بني إسرائيل كانوا قد حرموا على فقراء طائفتهم أكل لحوم الطيور وشحوم الحيوانات، ولهذا السبب حرم الله على هؤلاء الظالمين مثل هذه الطيبات عقابا لهم على ظلمهم وجورهم‏)

7. تدل هذه الآية ـ أيضا ـ على أنّ تشريع تحريم (الربا) لم يقتصر على الإسلام وحده، بل كان محرما لدى الأقوام والديانات السابقة، والتوراة المتداولة حاليا والمحرفة إنّما تحرم على اليهود أخذ الربا من أبناء عقيدتهم فقط، ولا تعتبر أخذه من أبناء الديانات الأخرى حراما عليهم‏.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/532.