...
77. التدبر والاختلاف
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈77⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾، أي: تفاوتا وتناقضا كثيرا(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٣٥٠.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾، قال يتدبرون النظر فيه(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٥٢.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾، يقول: إن قول الله لا يختلف، وهو حق ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٥١.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم وعظهم، فقال سبحانه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾ يعني: أفلا يسمعون ﴿الْقُرْآنُ﴾(1).
2. روي أنّه قال: فيعلمون أنه ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾، يعني: كذبا كبيرا؛ لأن الاختلاف في قول الناس، وقول الله عز وجل لا اختلاف فيه(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٢.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: سمعت ابن المنكدر يقول، وقرأ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾، فقال: إنما يأتي الاختلاف من قلوب العباد، فأما ما جاء من عند الله فليس فيه اختلاف(1).
2. روي أنّه قال: إن القرآن لا يكذب بعضه بعضا، ولا ينقض بعضه بعضا، ما جهل الناس من أمر فإنما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم، وقرأ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾، قال فحق على المؤمن أن يقول: كل من عند الله، ويؤمن بالمتشابه، ولا يضرب بعضه ببعض، إذا جهل أمرا ولم يعرفه أن يقول: الذي قال الله حق، ويعرف أن الله لم يقل قولا وينقضه، ينبغي أن يؤمن بحقيقة ما جاء من الله(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠١٤.
(2) ابن جرير ٧/٢٥١.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: قلت: ما معنى قوله سبحانه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾، فقلت: قد نجد فيه ألفاظا مختلفة، حتى كأنه ينقض بعضها بعضا؟ والجواب: اعلم ـ هداك الله ـ أن هذا شيء لا يطلق في الكتاب، ولا يتكلم به أهل المعرفة والألباب؛ قد بعد من الاختلاف والتناقض؛ بل هو المؤتلف الواضح، يشهد بعضه لبعض، ويؤكد بعضه بعضا، ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، شفاء من الأدواء، ونور لمن اهتدى، منجي من الهلكة، قائد في كل ظلمة، لا يضل من تعلق به، ولا يهلك أبدا من تمسك بحبله، فيه شفاء الصدور، وموضح ما التبس من الأمور، ولو كان في نسقه، ورصين كلامه، ومحكم تأليفه، وعزيز مطرد وصفه: اختلاف وتناقض أو تفاوت ـ لما قال سبحانه: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: 23]، فلما أن كان معناه واحدا، وتنزيله محكما ـ عز على الخلق أن يأتوا بمثله، أو يقدروا على سورة من شكله؛ فانقطع عند ذلك كلام المتكلمين، وانقطعت لديه حجج المخالفين؛ فالج من خصمه، وقاهر من حاوره، وناضل من ناضله؛ إليه يرجع الصادون، ويتحاكم المتحاكمون، مزيح الشبهات، وكاشف الظلمات؛ فكل كلام سواه مختلف، وفي معانيه غير مؤتلف؛ فهو كما قال العلي الأعلى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57] [يونس: 57]
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/246.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عز وجل: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ لو كان الحكم لظاهر المخرج على ما يقوله قوم ـ لكان القرآن خرج مختلفًا متناقضًا؛ لأنه قال عز وجل في الآية: ﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الآية، ويقول في آية أخرى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، لو كان على ظاهر المخرج فهو مختلف، وكذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، وقال اللَّه عز وجل في آية أخرى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ في إحداهما حظر وفي الأخرى إباحة، فلو كان على ظاهر المخرج والعموم ـ لكان مختلفًا متناقضًا، ويجد أهل الإلحاد أوضح طعن فيه وأيسر سبيل إلى القول بأنه غير منزل من عند الرحمن؛ إذ به وصفه أنه لو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا.
2. وقال عز وجل: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ الآية، وقال عز وجل: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، ثم وجد أكثر ما فيه الحكم متفرقًا إلى غير المخرج، ومحصلا على غير مجرى اللفظ من العموم والخصوص؛ فدل به أن الحكم لا كذلك، ولكن المعنى المودع فيه والمدرج، لا يوصل إلى ذلك إلا بالتدبر والتفكر فيه، وإلى هذا ندب اللَّه عباده؛ ليتدبروا فيه؛ ليفهموا مضمونه، وليعملوا به.
3. ثم يحتمل بعد هذا وجهان:
أ. أحدهما: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ أي: لو كان هذا القرآن من عند غير اللَّه، لكان لا يُوَافَقُ بما يخبرهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكن يخبرهم مخالفا لذلك؛ لأن الكهنة، الذين كانوا يدعون الخبر عن غيب، لا يخرج خبرهم موافقا، بل كان بعضه مخالف لبعض مناقض له، فلما خرج هذا ما يخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من سرائرهم موافقًا له، دل أنه خبر عن اللَّه تعالى.
ب. والثاني: أنهم كانوا يقولون: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾، ﴿مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى﴾، ونحوه، فأخبر اللَّه تعالى أنه لو كان من عند غير اللَّه لكان لا يوافق لما عندهم من الكتب، بل كان مختلفا متناقضا، فلما خرج هذا القرآن مستويا، موافقًا لسائر الكتب؛ كقوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾، ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾، دل أنه من عند اللَّه نزل.
ج. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن هذا القرآن نزل على مُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم في أوقات متفرقة متباعدة على نوازل مختلفة، فلو كان من عند غير اللَّه نزل ـ لخرج مختلفًا، مناقضًا بعضه بعضًا؛ لأن حكيمًا من البشر لو تكلم بكلمات في أوقات متباعدة ـ لخرج كلامه متناقضًا مختلفًا، إلا أن يستعين بكلام رب العالمين، ويعرضه عليه؛ فعند ذلك لا تناقض، فلما خرج هذا ـ مع تباعد الأوقات ـ غير مختلف ولا متناقض، دل أنه من عند اللَّه تعالى نزل.
4. وفيه الاحتجاج على الْمُلْحِدَة؛ حيث قال عز وجل: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ إلى قوله: ﴿اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ فلو وجدوا لأظهروا ذلك، وقوله تعالى: ﴿بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ ولو قدروا على ذلك لأتوا به؛ دل ترك إتيانهم ذلك: أنهم لم يقدروا على إتيان مثله، ولو وجدوه مختلفًا لأظهروه، ولو كان من كلام البشر ـ على ما قالوا ـ لأتوا به؛ لأنهم من البشر؛ فظهر أنه منزل من عند اللَّه، واللَّه الموفق.
5. وقوله عز وجل: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ وقوله: ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾، دلالة بينة على وجهين:
أ. أحدهما: أن المقصود منه يدرك بالتأمل والتدبر؛ إذ به جرى الأمر والترغيب قبل وقت العمل، بل ألزم القيام بما يعقل بالتدبر، ثم فيه وجهان:
• أحدهما: أن الأمر ليس على مخرج الكلام عند أهل اللسان، ولا على حق الأيسر في اللغة؛ إذ حق مثله أن يرغب في معرفة الموقع عند أهل اللسان من المخرج، ويوجه إليه لا يدَّبَّر فيه، ومعلوم ـ أيضًا ـ أن التدبر فيه حظ الحكماء وأهل البصر، لا حظ العوام، وما يعرف من حيث اللسان فهو حظ الفريقين، ثبت أن على العوام اتباع الخواص فيما فهموا هم والاقتداء بهم.
• والثاني: أنه جعل وجه معرفة الاختلاف والاتفاق بالتدبر فيه لا يقرع الكلام السمع، وإذا ثبت ذلك لم يلزم العمل بشيء من الظاهر حتى يعرف الموقع أنه على ذلك بالتدبر؛ لئلا يلحق المتمسك به النقيض بالتدبر، واللَّه أعلم.
ب. الثاني: بما تضمنت الاختلاف أن ارتفاع الاختلاف جعله حجة على أنه عن اللَّه؛ إذ علم اللَّه ـ مما جبل عليه الخلق ـ أنه لا أحد يملك بحق الاختراع لا عن علم السماع ينتهي إليه عن اللَّه بخبر الصادقين، يملك تأليف الكلام ونظم مثله غير متناقض، ولا مختلف ينفي بنفي الاختلاف ما قرن به من الكهنة؛ إذ كذلك كلام الكهنة يخرج مختلفًا، وما قرن من تعليم البشر وأساطير الأولين، والسحر، ونحو ذلك؛ إذ كل ذلك يخرج على الاختلاف، وفي ذلك بيان حظر جعل المخرج بحق اللسان من الاسم حجة ودليلا؛ لما يوجد من ذلك الوجه اختلافا كثيرا، ولو كان من ذلك الوجه الاحتجاج ـ لوجد الاختلاف، ومن رام أن يجعل القرآن ـ لولا بيان الخبر ـ موقعه على جهة قد يقع فيه الاختلاف دونه ـ فهو وصف القرآن مع اجتماع الخبر بنفي الاختلاف، وأما ما هو في نفسه مختلف، فمثله لكل كاهن وبشر أريد تثبيت التناقض فيه أمكن لمن يذب عنه إن كان عنه مترجم معبر يجب ضم تأويله إليه، فيبطل أن يكون على أحد، ووجود اختلاف في مكان، ويكون احتجاج العدين عبثا، جل عن ذلك، ثم ما ذكر يحتمل الأحكام والحدود، والأوامر والنواهي، وذلك يوجب أن التناسخ والخصوص والعموم لا يكون مختلفًا.
6. ويحتمل: الإخبار، والوعد والوعيد، ونحو ذلك، وأعني بالإخبار: عن الغيب، وعما كان أخبر عز وجل عن شرك المنافقين، وعما إليه مرجع الأمور، وعما كان عنهم، ونحو ذلك مما خرج كذلك.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٢٧٣
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ أصل التدبر الدبور لأنه النظر في عواقب الأمور ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ أي تناقض من جهة حق وباطل ويجوز أن يكون من جهة بليغ ومرذول.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/187.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرءَآنَ﴾ أصل التدبر الدبور، لأنه النظر في عواقب الأمور.
2. ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ في الاختلاف ها هنا ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: تناقض من جهة حق وباطل، وهذا قول قتادة، وابن زيد.
ب. الثاني: من جهة بليغ ومرذول، وهو قول بعض البصريين.
ج. الثالث: يعني اختلافاً في الأخبار عما يُسِرُّونَ، وهذا قول الزجاج.
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥١١)
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية تدل على أربعة أشياء:
أ. أحدها: على بطلان التقليد، وصحة الاستدلال في اصول الدين، لأنه حث ودعا إلى التدبر، وذلك لا يكون إلا بالفكر والنظر.
ب. الثاني: يدل على فساد مذهب من زعم ان القرآن، لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول له من الحشوية، والمجبرة، لأنه تعالى حث على تدبره، ليعلموا به.
ج. الثالث: يدل على أنه لو كان من عند غير الله، لكان على قياس كلام العباد من وجود الاختلاف فيه.
د. الرابع: تدل على أن المتناقض من الكلام ليس من فعل الله، لأنه لو كان من فعله، لكان من عنده، لا من عند غيره.
2. التدبر: هو النظر في عواقب الأمور، وأصله الدبر، والتدابر: التقاطع، لأن كل واحد يولي الآخر دبره، بعداوته له، ودبر القوم يدبرون دباراً: إذا هلكوا، لأنهم يذهبون في جهة الأدبار عن الغرض، وأدبر القوم: إذا ولى أمرهم عن الرشد، والدبر: النحل، والدبر: المال الكثير، والتدبير: إصلاح الامر لعاقبة، وفي الحديث (لا تدابروا)، أي لا تكونوا أعداء، والفرق بين التدبر والتفكر ان التدبر تصرف القلب بالنظر في العواقب، والتفكر تصرف للقلب بالنظر في الدلائل.
3. الاختلاف: هو امتناع أحد الشيئين أن يسد مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته كالسواد الذي لا يسد مسد البياض، وكذلك الذهاب في الجهات المختلفة جهة الخلف، والقدام واليمين، والشمال، وقيل في معنى الاختلاف هاهنا ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: قال أبو علي من جهة بليغ، ومرذول.
ب. وقال الزجاج: الاختلاف في الاخبار بما يسرون.
ج. الثالث: قال قتادة، وابن زيد: اختلاف تناقض من جهة حق، وباطل.
4. والاختلاف على ثلاثة اضرب: اختلاف تناقض، واختلاف تفاوت، واختلاف تلاوة، وليس في القرآن اختلاف تناقض، ولااختلاف تفاوت، لان اختلاف التفاوت هو في الحسن والقبح، واخطأ والصواب، ونحو ذلك مما تدعو إليه الحكمة أويصرف عنه. وأما اختلاف التلاوة، فهو ماتلاءم في الحسن، فكله صواب، وكله حق، وهو اختلاف وجوه القراء ات واختلاف مقادير الآيات والسور واختلاف الاحكام في الناسخ والمنسوخ، ومن اختلاف التناقض ما يدعو فيه أحد الشيئين إلى فساد الآخر، وكلاهما باطل. الآخر، وكلاهما باطل، نحو مقدارين وصف أحدهما بأنه أكبر من الآخر ووصف الآخر بأنه أصغر منه، فكلاهما باطل إذ هو مساو له، وفي الناس من قال انتفاء التناقض عن القرآن إنما يعلم انه دلالة على أنه من فعل الله، لما أخبرنا الله تعالى بذلك، ولولا أنه تعالى أخبر بذلك كان لقائل أن يقول: إنه يمكن أن يتحفظ متحفظ في كلامه ويهذبه تهذيباً، لا يوجد فيه شيء من التناقض وعلى هذا لا يمكن أن يجعل ذلك جهة اعجاز القرآن قبل أن يعلم صحة السمع، وصدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/271.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التدبر والتفكر من النظائر، وقال علي بن عيسى: التدبر: تصرف القلب بالنظر في عواقب الأمور، والتفكر: تصرف القلب بالنظر في الدلائل، والتدبر أصله من الدبور؛ لأنه النظر في عواقب الأمور، والدبر خلاف القبل، والتدابر: التقاطع؛ لأن كل واحد يولي الآخر دبره لعداوته له، ودبر القوم دبارًا هلكوا، وأدبر القوم إذا ولى أمرهم عن الرشد، والتدبير إصلاح الأمر بعاقبته.
ب. القرآن قيل: أصله الجمع من قولهم للحوض مِقرَاة، وقيل: من قولهم: قرأت قرآنا، وهو في الشرع والعرف اسم لكلام الله تعالى المنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم باللغة العربية، وهو مائة وأربع عشرة سورة، مكتوب بين الدفتين أنزله جبريل صلى الله عليه، والخلاف بين الشيئين ألّا يسد أحدهما مسد الآخر، وكل شيئين لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكونا مثلين، أو مختلفين، أو ضدين، فالمثلان ما يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته، كالجوهرين والسوادين والبياضين، والمختلفان ما لا يسد مسده كالحلاوة والسواد، والضد ما يمتنع وجود أحدهما لأجل وجود الآخر تحقيقًا أو تقديرًا، كالسواد والبياض، والله تعالى ليس له مثل ولا ضد، وهو مخالف للأشياء كلها.
2. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجوه:
أ. قيل: تتصل بالإخبار عن المنافقين في قوله: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ ونحوها، فأطلع الله على سرائرهم ثم بين في هذه الآية أنه من جهة علام الغيوب، ولو كان من غيره لاختلف خبره.
ب. وقيل: يتصل بقوله: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ﴾، فلما بَيَّنَ إرساله بين أن القرآن معجزة له، وأمر بتدبره ليعلم إعجازه.
ج. وقيل: تقدم ذكر المنافقين الَّذِينَ أمروا بالقتال فاستشعروا، وذكر أهل الكتاب الَّذِينَ حرفوا الكلم عن مواضعه، ويقولون سمعنا وعصينا، ويؤمنون بالجبت والطاغوت، وذكر المشركين فجمعهم الله تعالى في التعيين بترك تدبر القرآن الذي لو تدبروه لعلموا أنه من عند الله وكلامه معجزة لنبيه، ويعرفوا الحق عن أبي مسلم.
3. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾ أي يتفكرون ﴿الْقُرْآنُ﴾ المنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم:
أ. قيل: ليعلموا أنه حجة في اتباعك وطاعتك.
ب. وقيل: ليعلموا أنهم لا يقدرون على مثله فيعلموا أنه كلامه تعالى ومعجزة لنبيه.
ج. وقيل: ليعرفوا اتساق معانيه وائتلاف أحكامه، وشهادة بعضه لبعض، وحسن عباراته.
د. وقيل: ليعلموا كيف اشتمل على أنواع الحكمة: أَمرٍ بحسن، ونهي عن قبيح، وخبر عن مخبر صدق، ودعاء إلى مكارم الأخلاق، وحث على الزهد، ثم جميع أنواعه مع فصاحة لفظه، وصحة معناه، بخلاف كلام الخلق.
هـ. وقيل: ليعلموا صحة أخباره، وبشارته للمؤمنين، وإنذاره للكافرين.
و. وقيل: ليعلموا صدق قولك: ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك.
ز. والصحيح أن يحمل على كل ذلك؛ لأنه بالتدبر يعلم جميع ذلك، ولا تنافي.
4. ﴿وَلَوْ كَانَ﴾ يعني القرآن ﴿مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ﴾ أي كان كلام غيره ﴿لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾:
أ. قيل: اختلاف، تناقض من جهة حق وباطل عن قتادة وابن زيد.
ب. وقيل: بليغ ورَذل عن أبي علي.
ج. وقيل: اختلافًا في الإخبار عما يُسِرُّون عن الزجاج.
د. وقيل: تناقضًا كثيرًا عن ابن عباس.
هـ. وقيل: التناقض في المعاني والاضطراب في النظم والفساد في الألفاظ، وكله منتف عن كلام الله تعالى عن أبي مسلم.
5. تدل الآية الكريمة على:
أ. بطلان التقليد ووجوب النظر، لذلك أوجب التدبر.
ب. أن من تدبر القرآن صح أن يعرف معانيه، بخلاف من يقول: لا يفهم بظاهره شيء على ما تزعمه الحشوية وبعض الإمامية؛ إذ لو كان كذلك لما أمر بتدبره.
ج. أن المعارف ليست بضرورة لذلك صح التدبر.
د. صحة القياس حيث بين أنه لو كان كلامًا للعباد لوجد فيه التناقض، كما في سائر أقوالهم وأفعالهم، وإذا وجب نفي التناقض عن أقواله كذلك عن أفعاله، فتدل على بطلان مذهب الجبر في المخلوق، وكذلك قوله: ﴿يَتَدَبَّرُونَ﴾ يدل على أن التفكر فعلهم.
هـ. أن الكلام المتناقض ليس من فعله تعالى؛ إذ لو كان من فعله لكان من عنده، ذكر ذلك كله شيخنا أبو علي.
و. أن كلامه فعله؛ لأنه أطلق أنه من عنده؛ لأن كلامه عندهم حرف واحد فكيف يتصور فيه الاختلاف، وكيف يتدبر فيه، وهو قائمٌ بذاته؟
6. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿أَفَلَا﴾ استفهام والمراد التقدير فمعناه تفكروا وتدبروا.
ب. ﴿اخْتِلَافًا﴾ نصب؛ لأنه مفعول ﴿وَجَدُوا﴾ ﴿كَثِيرًا﴾ نعْتٌ له.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/721
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التدبر: النظر في عواقب الأمور، والتدابر: التقاطع، لان كل واحد يولي الآخر دبره بعداوته له، ودبر القوم، يدبرون، دبارا: هلكوا، لأنهم يذهبون في جهة الإدبار عن الغرض، والفرق بين التدبر والتفكر: إن التدبر تصرف القلب بالنظر في العواقب، والتفكر: تصرف القلب بالنظر في الدلائل.
ب. الاختلاف هو امتناع أحد الشيئين أن يسد مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته، كالسواد الذي لا يسد مسد البياض، وكذلك الذهاب في الجهات المختلفة.
2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: إنه يتصل بقوله ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ الآية، فإن الله اطلع على سرائر المنافقين، ثم بين هنا أنه من جهة علام الغيوب، ولو كان من جهة غيره، لكان المخبر بخلاف الخبر.
ب. وقيل: إنه يتصل بقوله ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ﴾ لما بين إرساله أمر يتدبر معجزه.
3. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ أي أفلا يتفكر اليهود والمنافقون في القرآن، إذ ليس فيه خلل، ولا تناقض:
أ. ليعلموا أنه حجة.
ب. وقيل: ليعلموا أنهم لا يقدرون على مثله، فيعرفوا أنه ليس بكلام أحد من الخلق.
ج. وقيل: ليعرفوا اتساق معانيه، وائتلاف أحكامه وشهادة بعضه لبعض، وحسن عباراته.
د. وقيل: ليعلموا كيف اشتمل على أنواع الحكم من أمر بحسن، ونهي عن قبيح، وخبر عن مخبر صدق، ودعاء إلى مكارم الأخلاق، وحث على الخير والزهد، مع فصاحة اللفظ، وجودة النظم، وصحة المعنى، فيعرفوا أنه خلاف كلام البشر.
هـ. والأولى أن تحمل على الجميع لان من تدبر فيه علم جميع ذلك.
4. ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ﴾ أي كلام غير الله: أي لو كان من عند النبي، أو كان يعلمه بشر كما زعموا ﴿لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ قيل فيه أقوال:
أ. أحدها: إن معناه لوجدوا فيه اختلاف تناقض من جهة حق وباطل، عن قتادة، وابن عباس.
ب. الثاني: اختلافا في الإخبار عما يسرون، عن الزجاج.
ج. الثالث: من جهة بليغ ومرذول، عن أبي علي.
د. والرابع: تناقضا كثيرا، عن ابن عباس، وذلك أن كلام البشر إذا طال، وتضمن من المعاني ما تضمنه القرآن، لم يخل من التناقض في المعاني والاختلاف في اللفظ.
5. كل هذه المعاني منفي عن كلام الله كما قال: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾
6. هذه الآية تضمنت الدلالة على معان كثيرة.
أ. منها: بطلان التقليد، وصحة الاستدلال في أصول الدين، لأنه دعا إلى التفكر والتدبر، وحث على ذلك.
ب. ومنها: فساد قول من زعم أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول من الحشوية، وغيرهم، لأنه حث على تدبره ليعرفوه ويتبينوه.
ج. ومنها: إنه لو كان من عند غيره لكان على وزان كلام عباده، ولوجدوا الاختلاف فيه.
د. ومنها: إن المتناقض من الكلام، لا يكون من فعل الله، لأنه لو كان من فعله، لكان من عنده، لا من عند غيره، والاختلاف في الكلام، يكون على ثلاثة أضرب: اختلاف تناقض، واختلاف تفاوت، واختلاف تلاوة:
• واختلاف التفاوت يكون في الحسن والقبح، والخطأ والصواب، ونحو ذلك، مما تدعو إليه الحكمة، وتصرف عنه، وهذا الجنس من الاختلاف لا يوجد في القرآن البتة، كما لا يوجد اختلاف التناقض.
• وأما اختلاف التلاوة: فهو ما يتلاوم في الجنس، كاختلاف وجوه القرآن، واختلاف مقادير الآيات والسور، واختلاف الاحكام في الناسخ والمنسوخ، فذلك موجود في القرآن، وكله حق، وكله صواب.
7. استدل بعضهم بانتفاء التناقض عن القرآن على أنه من فعل الله، بأن قال: لو لم يكن ذلك دلالة لما أخبرنا الله به، ولو لم يخبر بذلك، لكان لقائل أن يقول إنه يمكن أن يتحفظ في الكلام، ويهذب تهذيبا لا يوجد لذلك فيه شئ من التناقض، وعلى هذا فلا يمكن أن يجعل انتفاء التناقض جهة إعجاز القرآن إلا بعد معرفة صحة السمع، وصدق النبي.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/125.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ قال الزجّاج: (التدبّر): النّظر في عاقبة الشّيء، و(الدّبر) النّحل، سمّي دبرا، لأنه يعقب ما ينتفع به، و(الدّبر): المال الكثير، سمي دبرا لكثرته، لأنّه يبقى للأعقاب، والأدبار، وقال ابن عباس: أفلا يتدبّرون القرآن، فيتفكّرون فيه، فيرون تصديق بعضه لبعض، وأنّ أحدا من الخلائق لا يقدر عليه، قال ابن قتيبة: والقرآن من قولك: ما قرأت النّاقة سلى وإنما سمّي قرآنا، لأنه جمع السّور، وضمّها.
2. في قوله تعالى: ﴿لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ فيه ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه التّناقض، قاله ابن عباس، وابن زيد، والجمهور،
ب. الثاني: الكذب، قاله مقاتل، والزجّاج،
ج. الثالث: أنه اختلاف تفاوت من جهة بليغ من الكلام، ومرذول، إذ لا بدّ للكلام إذا طال من مرذول، وليس في القرآن إلا بليغ، ذكره الماورديّ في جماعة.
__________
(1) زاد المسير: 1/439.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما حكى الله تعالى عن المنافقين أنواع مكرهم وكيدهم، وكان كل ذلك لأجل أنهم ما كانوا يعتقدون كونه محقا في ادعاء الرسالة صادقا فيه، بل كانوا يعتقدون أنه مفتر متخرص، فلا جرم أمرهم الله تعالى بأن ينظروا ويتفكروا في الدلائل الدالة على صحة نبوته، فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ فاحتج تعالى بالقرآن على صحة نبوته.
2. ﴿يَتَدَبَّرُونَ﴾: التدبير والتدبر عبارة عن النظر في عواقب الأمور وأدبارها، ومنه قوله: إلام تدبروا أعجاز أمور قد ولت صدورها، ويقال في فصيح الكلام: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، أي لو عرفت في صدر أمري ما عرفت من عاقبته.
3. ظاهر الآية يدل على أنه تعالى احتج بالقرآن على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ لو تحمل الآية على ذلك لم يبق لها تعلق بما قبلها ألبتة، والعلماء قالوا: دلالة القرآن على صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: فصاحته.
ب. ثانيها: اشتماله على الاخبار عن الغيوب.
ج. الثالث: سلامته عن الاختلاف، وهذا هو المذكور في هذه الآية، ثم القائلون بهذا القول ذكروا في تفسير سلامته عن الاختلاف ثلاثة أوجه:
أ. الأول: قال أبو بكر الأصم: معناه أن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد، والله تعالى كان يطلع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على تلك الأحوال حالا فحالا ويخبره عنها على سبيل التفصيل، وما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق، فقيل لهم: إن ذلك لو لم يحصل باخبار الله تعالى وإلا لما اطرد الصدق فيه، ولظهر في قول محمد أنواع الاختلاف والتفاوت، فلما لم يظهر ذلك علمنا أن ذلك ليس إلا بإعلام الله تعالى،
ب. الثاني: وهو الذي ذهب اليه أكثر المتكلمين أن المراد منه أن القرآن كتاب كبير، وهو مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم، فلو كان ذلك من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة، لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك، ولما لم يوجد فيه ذلك علمنا أنه ليس من عند غير الله، سؤال وإشكال: أليس أن قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 23] كالمناقض لقوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: 103] وآيات الجبر كالمناقضة لآيات القدر، وقوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: 92] كالمناقض لقوله: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾ [الرحمن: 39]، والجواب: قد شرحنا في هذا التفسير أنه لا منافاة ولا مناقضة بين شيء منها ألبتة.
ج. الثالث: في تفسير قولنا: القرآن سليم عن الاختلاف ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أن المراد منه الاختلاف في رتبة الفصاحة، حتى لا يكون في جملته ما يعد في الكلام الركيك، بل بقيت الفصاحة فيه من أوله إلى آخره على نهج واحد، ومن المعلوم أن الإنسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة، فإذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكبيرة، فلا بد وأن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قويا متينا وبعضه سخيفا نازلا، ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه المعجز من عند الله تعالى، وضرب القاضي لهذا مثلا فقال: ان الواحد منا لا يمكنه أن يكتب الطوامير الطويلة بحيث لا يقع في شيء من تلك الحروف خل ونقصان، حتى لو رأينا الطوامير الطويلة مصونة عن مثل هذا الخلل والنقصان لكان ذلك معدودا في الاعجاز فكذا هاهنا.
4. دلت الآية على أن القرآن معلوم المعنى خلاف ما يقوله من يذهب إلى أنه لا يعلم معناه إلا النبي والامام المعصوم، لأنه لو كان كذلك لما تهيأ للمنافقين معرفة ذلك بالتدبر، ولما جاز أن يأمرهم الله تعالى به وأن يجعل القرآن حجة في صحة نبوته، ولا أن يجعل عجزهم عن مثله حجة عليهم، كما لا يجوز أن يحتج على كفار الزنج بمثل ذلك.
5. دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال، وعلى القول بفساد التقليد، لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته، وإذا كان لا بد في صحة نبوته من الاستدلال، فبأن يحتاج في معرفة ذات الله وصفاته إلى الاستدلال كان أولى.
6. قال أبو علي الجبائي: دلت الآية على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى لأن قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ يقتضي أن فعل العبد لا ينفك عن الاختلاف، والاختلاف والتفاوت شيء واحد، فإذا كان فعل العبد لا ينفك عن الاختلاف والتفاوت، وفعل الله لا يوجد فيه التفاوت لقوله تعالى: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الملك: 3] فهذا يقتضي أن فعل العبد لا يكون فعلا لله، والجواب أن قوله: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ معناه نفي التفاوت في أنه يقع على وفق مشيئته بخلاف غيره، فان فعل غيره لا يقع على وفق مشيئته على الإطلاق.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 10/152.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم عاب المنافقين بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر فيه وفي معانيه، تدبرت الشيء فكرت في عاقبته، وفي الحديث (لا تدابروا) أي لا يولي بعضكم بعضا دبره، وأدبر القوم مضى أمرهم إلى آخره، والتدبير أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته.
2. دلت هذه الآية وقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه، فكان في هذا رد على فساد قول من قال: لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب، وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال وإبطال التقليد، وفيه دليل على إثبات القياس.
3. ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ أي تفاوتا وتناقضا، عن ابن عباس وقتادة وابن زيد، ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات ومقادير السور والآيات، وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت، وقيل: المعنى لو كان ما تخبرون به من عند غير الله لاختلف، وقيل: إنه ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير، إما في الوصف واللفظ، وإما في جودة المعنى، وإما في التناقض، وإما في الكذب، فأنزل الله تعالى القرآن وأمرهم بتدبره، لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف ولا ردا له في معنى، ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/291.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾ للإنكار، والفاء: للعطف على مقدّر، أي: أيعرضون عن القرآن فلا يتدبرونه؟ يقال: تدبرت الشيء، تفكرت في عاقبته وتأملته، ثم استعمل في كل تأمل، والتدبير: أن يدبر الإنسان أمره، كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته.
2. دلت هذه الآية، وقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ على وجوب التدبر للقرآن ليعرف معناه، والمعنى: أنهم لو تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفا غير مختلف، صحيح المعاني، قوي المباني، بالغا في البلاغة إلى أعلى درجاتها.
3. ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ أي: تفاوتا وتناقضا، ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات والسور، لأن المراد: اختلاف التناقض، والتفاوت، وعدم المطابقة للواقع، وهذا شأن كلام البشر، لا سيما إذا طال وتعرّض قائله للإخبار بالغيب، فإنه لا يوجد منه صحيحا مطابقا للواقع إلّا القليل النادر.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/568.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ﴾ أيشكُّون فلا يتدبَّرون؟ أو أيعرضون فلا يتدبَّرون؟ والتدبُّر: النظر في دُبر الأمر، أي: عاقبته، ويستعمل في مطلق النظر في حقيقته وأجزائه، أو سابقه أو لاحقه وأسبابه، والمراد أفلا يكتسبون معرفة عاقبته، وهي ما ترجع إليه ألفاظه من المعاني، والاستفهام بمعنى الأمر كقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ﴾ [المائدة: 74]، أو توبيخ وإنكار بصحَّة حالهم، والمأصدق واحد، ولو تدبَّروا لعلموا أنَّ الله شهد له، وأنَّه لا شبهة في شهادته تعالى له، وذلك جواب لِمَا يقال: من أين يعلم أنَّه تعالى شهد له صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟.
2. ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ﴾ كما قالوا: ﴿أَسَاطِيرُ الَاوَّلِينَ﴾ [الأنعام: 25]، وكما قالوا: ﴿يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: 103]، ﴿لَوَجَدُواْ فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ بأن يكون بعضه فصيحًا وبعضه غير فصيح، أو بعضه صِدْقًا وبعضه كذبًا، وبعضه تسهل معارضته، وبعضه تصعب معارضته، وبعضه يقبله العقل السليم، وبعضه ينكره، وأفصح الفصحاء إذا طال كلامه توجد في بعضه ركَّة، ولا أقلَّ من أن تتفاوت فصاحته، والقرآن كلُّه على نهج واحد من الفصاحة.
3. ولا تَخَالُفَ بين ﴿لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ﴾ [الرحمن: 39] و﴿لَنَسْأَلَنَّهُم﴾ [الحجر: 92]؛ لأنَّ المعنى: يُسأل في موطن دون آخر، أو لا يسأل استفهامًا ويسأل توبيخًا، ولا بين ﴿اِلَىٰ رَبـِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 23] و﴿لَا تُدْرِكُهُ الَابْصَارُ﴾ [الأنعام: 103]؛ لأنَّ المعنى: ناظرة إلى رحمته، ولا بين ﴿حَيَّةٌ﴾ و﴿جَآنٌّ﴾ و﴿ثُعْبَانٌ﴾ فإنَّها في العظم كالثعبان، وفي الخفَّة كالجانِّ، وفي الخبث كالحيَّة، وغير ذلك من التأويل، ولا في النسخ؛ لأنَّ المنسوخ موقوف لوقته عند الله لمصلحة، كنفع دواء في وقت وغيره في آخر، ونفعه لنوع وغيره لنوع، والحمد لله الذي أنعم علينا بإدراك تطابق آيات القرآن وتجاوبها كلِّها مِمَّا أشكل لبادئ الرأي.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/208.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ إنكار واستقباح لعدم تدبرهم القرآن وإعراضهم عن التأمل فيما فيه من موجبات الإيمان، ليعلموا كونه من عنده تعالى، بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكيّ على ما هو عليه، وأصل التدبّر التأمل والنظر في أدبار الأمر وعواقبه خاصة، ثم استعمل في كل تأمل، سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه.
2. ﴿وَلَوْ كَانَ﴾ أي القرآن ﴿مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ﴾ تعالى كما يزعمون ﴿لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للواقع، إذ لا علم بالأمور الغيبية، ماضية، كانت أو مستقبلة، لغيره سبحانه، وحيث كانت كلها مطابقة للواقع، تعيّن كونه من عنده تعالى، قال الزجاج: ولولا أنه من عند الله تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب، مما يسره المنافقون وما يبيّتونه، مختلفا: بعضه حق وبعضه باطل، لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
3. قال أبو بكر الأصم: إن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من الكيد والمكر، وكان الله تعالى يطلع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على ذلك، ويخبره بها مفصلة، فقيل لهم إن ذلك، لو لم يحصل بإخبار الله تعالى لما اطرد الصدق فيه، ولوقع فيه الاختلاف، فلما لم يقع ذلك قط، علم أنه بإعلامه تعالى، وأما حمل الاختلاف على التناقض وتفاوت النظم في البلاغة، فمما لا يساعده السباق ولا السياق، أفاده أبو السعود.
4. دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال، وعلى القول بفساد التقليد، لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته، أفاده الرازيّ.
5. في الآية، أيضا، الحث على تدبر القرآن ليعرف إعجازه من موافقته للعلوم واشتماله على فوائد منها، وكمال حججه وبلاغته العليا، وموافقة أحكامه للحكمة، وأخباره الماضية لكتب الأولين، والمستقبلة للواقع، قال الحافظ ابن حجر: من أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعن أصحابه، الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه، ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصرا على ما يصلح للحجة منها، فإنه الذي يحمد وينتفع به، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم.
روى البخاريّ في صحيحه تعليقا عن ابن عون (وهو عبد الله البصريّ، من صغار التابعين)، أنه قال: ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني: هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها، والقرآن أن يتفهموه ويسألوا الناس عنه، ويدعوا الناس إلّا من خير، وفي رواية (فيتدبروه) بدل (يتفهموه)، قال الكرمانيّ: قال في القرآن: يتفهموه، وفي السنة: يتعلموها، لأن الغالب أن المسلم يتعلم القرآن في أول أمره فلا يحتاج إلى الوصية بتعلمه، فلهذا أوصى بتفهم معناه وإدراك منطوق.
6. في بقية الآية العذر للمصنفين فيما يقع لهم من الاختلاف والتناقض، لأن السلامة عن ذلك من خصائص القرآن.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/234.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ التدبر هو النظر في أدبار الأمور وعواقبها، وتدبر الكلام هو النظر والتفكر في غاياته ومقاصده التي يرمي إليها وعاقبة العامل به والمخالف له، والمعنى جهل هؤلاء حقيقة الرسالة، وكنه هذه الهداية، أفلا يتدبرون القرآن الذي يدل على حقيقتها، وعاقبة المؤمنين بها والجاحدين لها، فيعرفوا أنه الحق من ربهم، وأن ما أنذر به الكافرين والمنافقين واقع بهم، لأنه كما صدق فيما أخبر به عما يبيتون في أنفسهم، وما يثنون عليه صدورهم، ويطوون عليه سرائرهم، يصدق كذلك فيما يخبر به من سوء مصيرهم، وكون العاقبة للمتقين الصادقين، والخزي والسوء على الكافرين والمنافقين، بل لو تدبروه حق التدبر لعلموا أنه يهدي إلى الحق، ويأمر بالخير والرشد، وأن عاقبة ذلك لا تكون إلا الفوز والفلاح، والصلاح والإصلاح، فإذا كانوا لاستحواذ الباطل والغي عليهم، لا يدركون كنه هداية هذا القرآن في ذاتها، أفلم يأن لهم أن يدركوا من خصائصه ومزاياه، أنه لا يمكن أن يكون إلا من عند الله؟.
2. ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ أي لو كان من عند محمد بن عبد الله القرشي لا من عند الله الذي أرسله به لوجدوا فيه اختلافا كثيرا:
أ. لعدم استطاعته واستطاعة أي مخلوق أن يأتي بمثل هذا القرآن في تصوير الحق بصورته كما هي لا يختلف ولا يتفاوت في شيء منها، لا في حكايته عن الماضي الذي لم يشاهده محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يقف على تاريخه، ولا في إخباره عن الآتي في مسائل كثيرة وقعت كما أنبأ بها، ولا في بيانه لخفايا الحاضر، حتى حديث الأنفس ومخبآت الضمائر، كبيان ما تبيت هذه الطائفة مخالفا لما تقول للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو ما يقوله لها فتقبله في حضرته.
ب. ولعدم استطاعته واستطاعة غيره أن يأتي بمثله في بيان أصول العقائد، وقواعد الشرائع، وفلسفة الآداب والأخلاق، وسياسة الشعوب والأقوام، مع اتفاق جميع الأصول، وعدم الاختلاف والتفاوت في شيء من الفروع.
ج. ولعدم استطاعته واستطاعة غيره أن يأتي بمثله فيما جاء به من فنون القول وألوان العبر في أنواع المخلوقات، في الأرض والسماوات، وفيها الكلام على الخلق والتكوين ووصف الكائنات بأنواعها، كالكواكب وبروجها ونظامها، والرياح والبحار والنبات والحيوان والجماد، وما فيها من الحكم والآيات، وكلامه في ذلك كله يؤيد بعضه بعضا لا شيء فيه، ولا اختلاف بين معانيه.
د. ولعدم استطاعته واستطاعة غيره أن يأتي بمثله في بيان سنن الاجتماع، ونواميس العمران، وطبائع الملل والأقوام، وإيراد الشواهد وضروب الأمثال، وتكرار القصة الواحدة، بالعبارات البليغة المتشابهة، تنويعا للعبرة، وتلوينا للموعظة، مع تجاوب ذلك كله على الحق، وتواطئه على الصدق، وبراءته من الاختلاف والتناقض، وتعاليه عن التفاوت والتباين.
هـ. وفوق ذلك كله ما فيه من العلم الإلهي والخبر عن عالم الغيب والدار الآخرة وما فيها من الحساب على الأعمال، والجزاء الوفاق، وكون ذلك موافقا لفطرة الإنسان، وجاريا على سنة الله تعالى في تأثير الأعمال الاختيارية في الأرواح، فالاتفاق والالتئام بين الآيات الكثيرة في هذا الباب، هو غاية الغايات عند من أوتي الحكمة وفصل الخطاب.
و. كان هذا القرآن ينزل منجما بحسب الوقائع والأحوال فيأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عند نزول الآية أو الطائفة من الآيات أن توضع في محلها من سورة كذا وهو لا يقرأ في الصحف ما كتب أولا ولا ما كتب آخرا، وإنما يحفظه حفظا، ولم تجر العادة بأن الذي يأتي من عند نفسه بالكلام الكثير في المناسبات والوقائع المختلفة يتذكر عند كل قول جميع ما سبق له في السنين الخالية ويستحضره ليجعل الآخر موافقا للأول، وإذا تذكرت أن بعض الآيات كان ينزل في أيام الحرب وشدة الكرب، وبعضها كان ينزل عند الخصام، وتنازع الأفراد أو الأقوام، جزمت بأن من المحال عادة أن يتذكر الإنسان في هذه الأحوال جميع ما كان قاله من قبل ليأتي بكلام يتفق معه ولا يختلف، وكان إذا تلا عليهم الآيات يحفظونها عنه في صدورهم ويكتبونها في صحفهم، فلم يكن ثم مجال للتنقيح والتحرير لو فرض، وإن تعجب فعجب أن تمر السنون والأحقاب، وتكر القرون والأجيال، وتتسع دوائر العلوم والمعارف، وتتغير أحوال العمران، ولا تنقض كلمة من كلمات القرآن، لا في أحكام الشرع، ولا في أحوال الناس وشؤون الكون، ولا في غير ذلك من فنون القول.
3. كتب ابن خلدون مقدمته في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والعمران فكانت أفضل الكتب وأحكامها في عصر مؤلفها وبعد عصره بعدة عصور، ثم ارتقت العلوم وتغيرت أصول العمران فظهر الاختلاف والخطأ في كثير مما فيها، بل نرى العالم النابغ في علم معين من علماء هذا العصر يؤلف الكتاب فيه ويستعين عليه بمعارف أقرانه من العلماء الباحثين ثم يطيل التأمل فيه وينقحه ويطبعه فلا تمر سنوات قليلة إلا ويظهر له الخطأ والاختلاف فيه فلا يعيد طبعه إلا بعد أن يغير منه ويصحح ما شاء، فما بالك بما يظهر للإنسان من الاختلاف والتفاوت في الكتب التي يؤلفها غيره من أول وهلة لا بعد مرور السنين، واتساع دائرة العلوم، وقد ظهر هذا القرآن في أمة أمية لا مدارس فيها ولا كتب، على لسان أمي لم يتعلم قراءة ولا كتابة، فكيف يمر عليه ثلاثة عشر قرنا يتغير فيها العمران البشري كما قلنا ولا يظهر فيه اختلاف ولا تفاوت حقيقي يعتد به، ويصلح أن يكون مطعنا فيه، أليس هذا برهانا ناصعا على كونه من عند الله أوحاه إلى عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟.
4. هذا ما جرى به القلم جريا في تفسير هذه الآية بدون استعانة ولا اقتباس من كلام أحد من المفسرين لأنه هو المتبادر عندي، وسلكت فيه طريق الاختصار الذي يدل على التفصيل، وتركت مسألة الفصاحة والبلاغة واتفاق أسلوبه فيهما إلى مراجعة كلامهم فيها، ثم راجعت بعض التفاسير:
أ. فإذا أنا بابن جرير يختصر القول في الآية فيقول: أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله فيعلموا حجة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم لاتساق معانيه وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه وأبان بعضه عن فساد بعض.
ب. وبين الرازي أن هذه الآية احتجاج بالقرآن على المنافقين تثبت لهم ما كانوا يمترون فيه من نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذكر أن العلماء قالوا: إن دلالة القران على صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من ثلاثة أوجه: فصاحته واشتماله على أخبار الغيوب وسلامته عن الاختلاف، (قال): وهذا هو المذكور في هذه الآية، وذكر فيه أي الأخير ثلاثة أوجه:
• الأول: قول أبي بكر الأصم وحاصله: إن المنافقين كانوا يتواطؤن سرا على أنواع من المكر والكيد فيبينها الله في القرآن، ولما كان كل ما حكاه الله عنهم صدقا على خفائه علم أنه لو كان من غيره لم يطرد فيه هذا الصدق.
• الثاني: قول أكثر المتكلمين: إن المراد منه أن القرآن كتاب كبير مشتمل على كثير من العلوم فلو كان من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك.
• الثالث: قول أبي مسلم: إن المراد الاختلاف في مرتبة الفصاحة حتى لا يكون في جملة ما يعد في الكلام الركيك بل بقية الفصاحة فيه من أوله إلى آخره على نهج واحد، ومن المعلوم أن الإنسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة إذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكثيرة فلا بد وأن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قويا متينا وبعضه سخيفا نازلا ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه المعجز من عند الله تعالى.
ج. نقل الرازي ما نقل في هذا المقام عن مفسري المعتزلة وهم الذين بينوا من بلاغة القرآن ومزاياه العجب العجاب، وقد سبق إلى تحقيق القول في هذه المسألة وتفصيله القاضي أبو بكر الباقلاني إمام الأشعرية ورافع لوائهم المتوفى 403 فإنه بين في كتابه: (إعجاز القرآن) وجه إعجازه بإخباره عن المغيبات وباشتماله على العلوم والأخبار التي لا تعرف إلا بالتلقي والتعليم مع كون من جاء به أميا ثم قال: والوجه الثالث: أنه بديع النظم عجيب التأليف متناه إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة، ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل ونكشف الجملة التي أطلقوها، فالذي يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه:
• منها: ما يرجع إلى الجملة وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد، وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالا فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل ولا يتصنع له، وقد علمنا أن القرآن مخالف لهذه الوجوه ومباين لهذه الطرق، ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع ولا فيه شيء منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع، ومنهم من يدعي أن فيه شعرا كثيرا، والكلام يذكر بعد هذا الموضع، فهذا إذا تأمله المتأمل تبين بخروجه عن أصناف كلامهم، وأساليب خطابهم، أنه خارج عن العادة وأنه معجز، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميز حاصل في جمعه.
• ومنها: أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول وعلى هذا القدر، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة، وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويقع فيها ما نبديه من التعمل والتكلف، والتجوز والتعسف، وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسبا في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به فقال عز من قائل: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 23] ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82] فأخبر أن كلام الآدمي إذا امتد وقع فيه التفاوت، وبان عليه الاختلاف، وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره، فتأمله تعرف الفضل.
• وفي ذلك معنى ثالث هو أن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها من ذكر قصص ومواعظ، واحتجاج، وحكم وأحكام، وأعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف وتعليم، وأخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها، ونجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور، فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو، ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح، ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين، ومنهم يجود في التأبين دون التقريظ، ومنهم من يقرب في وصف الإبل أو الخيل، أو سير الليل، أو وصف الحرب، أو وصف الروض، أو وصف الخمر، أو الغزل، أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتداوله الكلام، ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وبزهير إذا رغب، ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام، ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى فإذا جاء إلى غيره قصر عنه، ووقف دونه، وبان الاختلاف على شعره، ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم لأنه لا خلاف في تقدمهم في صنعة الشعر، ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم، فإذا كان الاختلاف بينا في شعرهم لاختلاف ما يتصرفون فيه استغنينا عن ذكر من هو دونهم، وكذلك عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها، ثم نجد في الشعراء من يجود في الرجز ولا يمكنه نظم القصيد أصلا، ومنهم من ينظم القصيد ولكن يقصر فيه مهما تكلفه وتعمله، ومن الناس من يجود في الكلام المرسل فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصانا عجيبا، ومنهم من يوجد بضد ذلك، وقد تأملنا نظم القران فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف لا تفاوت ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفال فيه إلى الرتبة الدنيا، وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف، وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة، فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت، بل هو على نهاية البلاغة، وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر، لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير عند التكرار وعند تباين الوجوه واختلاف الأسباب التي يتضمن.
• ومعنى رابع وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بينا في الفصل والوصل والعلو والنزول والتقريب والتبعيد وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع، ألا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه، حتى أن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع جودة نظمه، وحسن وصفه في الخروج من النسيب إلى المديح، وأطبقوا على أنه لا يحسنه ولا يأتي فيه بشيء، وإنما اتفق له في مواضع معدودة خروج يرتضى، وتنقل يستحسن، وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء، والتحول من باب إلى باب، ونحن نفصل بعد هذا ونفسر هذه الجملة ونبين أن القرآن على اختلاف ما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة، والطرق المختلفة، يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد، إلى حد الآحاد، وهذا أمر عجيب تتبين فيه الفصاحة، وتظهر فيه البلاغة، ويخرج به الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العرف.
• ذكر هنا معنى خامسا هو أن نظم القرآن وقع موقعا في البلاغة يخرج عن عادة الإنس والجن فهم يعجزون عن مثله، وذكر أن المراد بكلام الجن ما كانت تعتقده العرب وتحكيه من سماع كلام الجن وزجلها وعزيفها، وليس هذا مما نحن فيه من نفي الخلاف والتفاوت.
• ومعنى سادس وهو أن الذي ينقسم عليه الخطاب من البسط والاقتصار، والجمع والتفريق، والاستعارة والتصريح، والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم موجود في القرآن، وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم في الفصاحة والإبداع والبلاغة وقد ضمنا بيان ذلك بعد لأن الوجه هنا ذكر المقدمات دون البسط والتفصيل (يعني أنه في كل ذلك على نسق واحد لا اختلاف فيه.
• ومعنى سابع: وهو أن المعاني التي تتضمن في أصل وضع الشريعة والأحكام والاحتجاجات في أصل الدين، والرد على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضا في اللطف والبراعة، مما يتعذر على البشر، ويمنع ذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس، أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، وأسباب مؤسسة مستحدثة، فلو أبرع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر، والأمر المتقرر المتصور، ثم إن انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدئ تأسيسه، ويراد تحقيقه، بأن التفاضل في البراعة والفصاحة، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى والمعاني وفقها لا يفضل أحدهما على الآخر، فالبراعة أظهر والفصاحة أتم، حاصل هذا الوجه أن كلام الفصحاء في المعاني المألوفة المبتذلة لا يخلو من الاختلاف والتفاوت، فانتفاء الاختلاف من القرآن البتة على تصرفه في ضروب المعاني العلمية العالية التي لم يسبق للعرب التصرف فيها أبلغ في الإعجاز، وأظهر في الدلالة على كونه من عند الله عز وجل.
• ثم ذكر معنى ثامنا بين فيه وقوع الكلمة من القرآن في كلام البلغاء من شعر أو نثر موضع اليتيمة من واسطة العقد فتأخذه لأجلها الأسماع، وتتشوف إليه النفوس، وأجاد في هذا كل الإجادة وليس من موضوع نفي الاختلاف الذي نحن فيه.
• وكذلك المعنى التاسع فقد بين فيه أسرار الحروف المقطعة في أوائل السور.
• وأما المعنى العاشر فهو على ما يتضمنه من نفي الاختلاف والتباين يفيدنا إيضاح وجوب تدبر القرآن وكونه مما يسره الله لكل عارف بهذه اللغة قال: (ومعنى عاشر: وهو أنه سهل سبيله، فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر، وعن الصنعة المتكلفة، وجعله قريبا إلى الأفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس، وهو مع ذلك ممتنع المطلب، عسير المتناول، غير مطمع مع قربه في نفسه، ولا موهم مع دنوه في موقعه،أن يقدر عليه، أو يظفر به، فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل، والقول المسفسف، فليس يصح أن تقع فيه فصاحةأو بلاغة فيطلب فيه التمنع، أو يوضع فيه الإعجاز، ولكن لو وضع في وحشي مستكره، أو غمر بوجوه الصنعة، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف، لكان لقائل أن يقول فيه، ويعتذر ويعيب ويقرع، ولكنه أوضح مناره، وقرب منهاجه، وسهل سبيله، وجعله في ذلك متشابها متماثلا، وبين مع ذلك إعجازهم فيه، وقد علمت أن كلام فصحائهم، وشعر بلغائهم، لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر، أو وحشي مستكره، ومعان مستبعدة، ثم عدولهم إلى كلام متبذل وضيع لا يوجد دونه في الرتبة، ثم تحولهم إلى كلام معتدل بين الأمرين، متصرف بين المنزلتين، فمن شاء أن يتحقق هذا في قصيدة امرئ القيس: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)، ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ما يتصرف إليه هذه القصيدة ونظائرها ومنزلتها من البلاغة ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها على وجه يؤخذ باليد ويتناول من كثب ويتصور في النفس كتصور الأشكال ليبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن.
5. حاصل معنى الآية الكريمة:
أ. أن تدبر القرآن وتأمل ما يهدي إليه بأسلوبه الذي امتاز به هو طريق الهداية القويم، وصراط الحق المستقيم، فإنه يهدي صاحبه إلى كونه من عند الله وإلى وجوب الاهتداء به لكونه من عند الله الرحيم بعباده، العليم بما يصلح به أمرهم، مع كون ما يهدي إليه معقولا في نفسه لموافقته للفطرة، وملاءمته للمصلحة.
ب. وفيه أن تدبر القرآن على كل مكلف، لا خاص بنفر يسمون المجتهدين يشترط فيهم شروط ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما الشرط الذي لا بد منه، ولا غنى عنه، وهو معرفة لغة القرآن مفرداتها وأساليبها، فهي التي يجب على من دخل في الإسلام ومن نشأ فيه أن يتقنها بقدر استطاعته بمزاولة كلام بلغاء أهلها ومحاكاتهم في القول والكتابة حتى تصير ملكة وذوقا، لا بمجرد النظر في قوانين النحو والبيان التي وضعت لضبطها، وليس تعلم هذه اللغة ولا غيرها من اللغات بالأمر العسير، فقد كان الأعاجم في القرون الأولى يحذقونها في زمن قريب حتى يزاحموا الخلص من أهلها في بلاغتها، وإنما يراه أهل هذه الأعصار عسيرا لأنهم شغلوا عن اللغة نفسها بتلك القوانين وفلسفتها، فمثلهم كمثل من يتعلم علم النبات من غير أن يعرف النبات نفسه بالمشاهدة فلا يكون حظه منه إلا حفظ القواعد والمسائل فيعرف أن الفصيلة الفلانية تشتمل على كذا وكذا، وإذا رأى ذلك لا يعرفه.
ج. وفيه أيضا وجوب الاستقلال في فهم القرآن لأن التدبر لا يتم إلا بذلك، ويلزم من ذلك بطلان التقليد، قال الرازي: (دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال وعلى القول بفساد التقليد لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته وإذا كان لا بد في صحة نبوته من استدلال فبأن يحتاج في معرفته ذات الله وصفاته إلى الاستدلال كان أولى)
6. الأمر كما قال الرازي وأكبر مما قال: التقليد منع من الاستدلال والاستدلال واجب، التقليد منع من تدبر القرآن للاهتداء به وتدبره واجب، إن الله تعالى هو الذي أمرنا بتدبر كتابه، وبالاستدلال به، فلا يملك أحد من خلقه أن يحرم علينا ما أوجبه، الأئمة المجتهدون أجمعوا على وجوب الاهتداء بالقرآن وعلى المنع من التقليد الذي يصد عنه ويقتضي هجره، ولم يجعلوا أنفسهم شارعين يطاعون، وإنما كانوا أدلاء للناس لعلهم يهتدون، ما قال بوجوب التقليد وتحريم الاستقلال إلا بعض المقلدين الذين يعترفون بأنه ليس لهم قول يتبع ولا أمر يطاع، وكان ذلك دسيسة من الملوك والأمراء المستبدين، ليذللوا الناس ويستعبدوهم باسم الدين، وكذلك كان، وقد علمت أن قبول الاستبداد واتباع القرآن، ضدان لا يجتمعان، وما نبغ عالم من العلماء الذين نشئوا على التقليد إلا وحاربه بعد نبوغه كالإمام الرازي الذي نقلنا قوله آنفا وله أقوال في ذلك أعم وأشمل نقلنا بعضها من قبل، وغيره كثيرون.
7. لسنا نعني ببطلان التقليد أن كل مسلم يمكن أن يكون كمالك والشافعي في استنباط الأحكام الاجتهادية في أبواب الفقه كلها فينبغي له ذلك وإنما نعني أنه يجب على كل مسلم أن يتدبر القرآن ويهتدي به بحسب طاقته وأنه لا يجوز لمسلم قط أن يهجره ويعرض عنه، ولا أن يؤثر على ما يفهمه من هدايته كلام أحد من الناس لا مجتهدين ولا مقلدين، فإنه لا حياة للمسلم في دينه إلا بالقرآن، ولا يوجد كتاب لإمام مجتهد، ولا لمصنف مقلد، يغني عن تدبر كتاب الله في إشعار القلوب عظمة الله تعالى وخشيته وحبه والرجاء في رحمته والخوف من عقابه، ولا في تهذيب الأخلاق وتزكية الأنفس وتنزيهها عن الشرور والمفاسد، وتشويقها إلى الخيرات والمصالح، ورفعها عن سفساف الأمور إلى معاليها، ولا في الاعتبار بآيات الله في الآفاق، وسننه في سير الاجتماع البشري وطبائع المخلوقات، ولا في غير ذلك من ضروب الهداية التي امتاز بها على سائر الكتب الإلهية، فكيف تغني عنه فيها المصنفات البشرية.
8. أما وسر القرآن لو أن المسلمين استقاموا على تدبر القرآن والاهتداء به في كل زمان، لما فسدت أخلاقهم وآدابهم، ولما ظلم واستبد حكامهم، ولما زال ملكهم وسلطانهم، ولما صاروا عالة في معايشهم وأسبابها على سواهم.
9. هذا التدبر والتذكر الذي نطالب به المسلمين آنا بعد آن، كما هي سنة القرآن، لا يمنع أن يختص أولو الأمر منهم باستنباط الأحكام العامة في السياسة والقضاء والإدارة العامة، وأن يتبعهم سائر الأمة فيها، فإن الله سبحانه بعد أن أنكر على أولئك الفريق من الناس ترك تدبر القرآن، أنكر عليهم أيضا إذاعتهم بالأمور العامة المتعلقة بالأمن والخوف، وهداهم إلى ردها إلى أولي الأمر الذين هم أعلم بما ينبغي أن يعمل، وأقدر على استنباط ما يجب أن يتبع، فقال: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾
__________
(1) تفسير المنار: 5/288.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي: (1)
1. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ أصل التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها، ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه، وتدبر الكلام هو النظر والتفكر في غاياته ومقاصده التي يرمى إليها، وعاقبة من يعمل به ومن يخالفه، أي أجهل هؤلاء القوم حقيقة الرسالة وكنه هذه الهداية فلا يتدبرون القرآن الذي يدل على حقيقتها؟ ولو تدبروه لعرفوا أنه الحق من ربهم وأن ما وعد به المتقين الصادقين وما أنذر به الكافرين والمنافقين واقع لا محالة، فهو إذ صدق في الإخبار عما يبيتون في أنفسهم من القول يصدق كذلك فيما أخبر عن سوء مصيرهم والوبال والنكال في عاقبتهم.
2. ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ أي ولو كان من عندك لا من عند الله الذي أرسله به لوجدوا فيه اختلافا كثيرا لأسباب كثيرة:
أ. أن أي مخلوق لا يستطيع تصوير الحقائق كما صورها القرآن بلا اختلاف ولا تفاوت في شيء منها.
ب. أنه حكى عن الماضي الذي لم يشاهده محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يقف على تاريخه، وعن الآتي فوقع كما أنبأ به، وعن الحاضر فأخبر عن خبايا الأنفس ومكنونات الضمائر كما أخبر عما بيتته هذه الطائفة مخالفا لما تقول للرسول أو ما يقوله لها فتقبله في حضرته وترفضه في غيبته.
ج. أن أحدا لا يستطيع أن يأتي بمثله في بيان أصول العقائد وقواعد الشرائع وسياسة الشعوب والقبائل مع عدم الاختلاف والتفاوت في شيء من ذلك.
د. أن أحدا لا يستطيع أن يأتي بمثله في سنن الاجتماع ونواميس العمران وطبائع الملل والأقوام مع إيراد الشواهد وضرب الأمثال وتكرار القصة الواحدة بالعبارات البليغة تنويعا للعبرة وتلوينا للموعظة، واتفاق كل ذلك وتواطؤه على الصدق، وبراءته من الاختلاف والتناقض.
هـ. أن أحدا لا يستطيع أن يأتي بمثله فيما جاء به من فنون القول وألوان العبر في أنواع المخلوقات في الأرض أو في السماوات، فقد تكلم على الخلق والتكوين ووصف جميع الكائنات كالكواكب ونظامها والرياح والبحار والحيوان والنبات وما فيها من الحكم والآيات، وكان في كل ذلك يؤيد بعضه بعضا لا تفاوت فيه، ولا اختلاف بين معانيه.
و. أنه أخبر عن عالم الغيب والدار الآخرة وما فيها من الحساب على الأعمال والجزاء العادل، وكان في كل ذلك جاريا على سنة الله تعالى في تأثير الأعمال الاختيارية في الأرواح، مع الالتئام بين الآيات الكثيرة، وهو غاية الغايات في ذلك عند من أوتى الحكمة وفصل الخطاب.
3. هذا إلى أنه نزل منجما بحسب الوقائع والأحوال، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عند نزول الآية أو الآيات يأمر بأن توضع في محلها من سورة كذا، وهو يحفظه حفظا، وقد جرت العادة بأن من يأتي بكلام من عنده في مناسبات مختلفة لا يتذكر جميع ما سبق له في السنين الطوال ولا يستحضره حتى يجعل الآخر موافقا للأول مع أن بعض الآيات كان ينزل في أيام المحن والكروب، وبعضها عند تنازع الأقوام حين الخصام، إلى أنّ كر الغداة ومر العشى لا يزيده إلا جدّة، ولا يزيد أحكامه إلا ثباتا ورسوخا، وكلما اتسعت دائرة العلوم والمعارف ونمت أحوال العمران زاد إيمان الناس به، إذ تتوثق روابط الصلة بين الدين والعلم وتتظاهر أحكامه مع نواميس الاجتماع وشئون الكون.
4. والخلاصة ـ إن تدبر القرآن وتأمل ما امتاز به هو طريق الهداية القويم، وصراط الحق المستقيم، فإنه يرشد إلى كونه من عند الله، وإلى وجوب الاهتداء به، وإلى أنه معقول في نفسه موافق للفطرة ملائم للمصلحة، وفيه سعادة الخلق في الدنيا والآخرة، ولو تدبر المسلمون القرآن واهتدوا به في كل زمان لما فسدت أخلاقهم وآدابهم، ولما ظلم واستبد حكامهم، ولما زال ملكهم وسلطانهم، ولما صاروا عالة في معايشهم على سواهم، وهذا التدبر لا يمنع أن يستنبط أولو الأمر الأحكام العامة في السياسة والقضاء والإدارة، وتتبعهم فيها سائر الأمة.
__________
(1) تفسير المراغى: 5/103.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هنا يعرض عليهم القرآن خطة، هي غاية ما يبلغه المنهج الرباني من تكريم الإنسان والعقل الإنساني، واحترام هذا الكائن البشري وإدراكه، الذي وهبه له الخالق المنان، يعرض عليهم الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبر عقولهم.. ويعين لهم منهج النظر الصحيح؛ كما يعين لهم الظاهرة التي لا تخطئ إذا اتبعها ذلك المنهج، وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة؛ ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى.. ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾
2. في هذا العرض، وهذا التوجيه، منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته ـ كما قلنا ـ كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها، وهي في الوقت ذاته ذات دلالة ـ كما أسلفنا ـ لا تمارى! والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبدا.. ومستوياتها ومجالاتها، مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها، ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها ـ بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه ـ ما يملك إدراكه، في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى.
3. ومن ثم فإن كل أحد، وكل جيل، مخاطب بهذه الآية، ومستطيع ـ عند التدبر وفق منهج مستقيم ـ أن يدرك من هذه الظاهرة ـ ظاهرة عدم الاختلاف، أو ظاهرة التناسق ـ ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه، وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه، وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة.
4. تتجلى هذه الظاهرة، ظاهرة عدم الاختلاف.. أو ظاهرة التناسق.. ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية.. ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح؛ التوفيق والتعثر، القوة والضعف، التحليق والهبوط، الرفرفة والثقلة، الإشراق والانطفاء.. إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر، وأخصها سمة (التغير) والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال، يبدو ذلك في كلام البشر، واضحا عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد، أو المفكر الواحد، أو الفنان الواحد، أو السياسي الواحد، أو القائد العسكري الواحد.. أو أيّ كان في صناعته؛ التي يبدو فيها الوسم البشري واضحا.. وهو: التغير، والاختلاف.
5. هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو: الثبات، والتناسق، هو الظاهرة الملحوظة في القرآن ـ ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي ـ فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز ـ تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها ـ ولكن يتحد مستواه وأفقه، والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى.. كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان.. إنه يحمل طابع الصنعة الإلهية؛ ويدل على الصانع، يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال، ولا تتوالى عليه الأحوال!
6. وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف.. والتناسق المطلق الشامل الكامل.. بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحمله العبارات، ويؤديه الأداء.. منهج التربية للنفس البشرية والمجتمعات البشرية ـ ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة.
7. وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبر ـ حين يتدبر ـ يكل الله تلك الطائفة، كما يكل كل أحد، وكل جماعة، وكل جيل، وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن؛ وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله، ولا يمكن أن يكون من عند غير الله.
8. ويحسن أن نقف هنا وقفة قصيرة، لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدين كله، فلا يكون هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان بهذا التحكيم، سبيلا إلى الغرور، وتجاوز الحد المأمون؛ والانطلاق من السياج الحافظ من المضي في التيه بلا دليل!
9. إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها، وإدراك مداها، فيذهب بها جماعة من المفكرين الإسلاميين ـ قديما وحديثا ـ إلى إعطاء الإدراك البشري سلطة الحكم النهائية في أمر الدين كله، ويجعلون منه ندا لشرع الله، بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله! الأمر ليس كذلك.. الأمر أن هذه الأداة العظيمة ـ أداة الإدراك البشري ـ هي بلا شك موضع التكريم من الله ـ ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى: حقيقة أن هذا الدين من عند الله، لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها؛ وهي كافية بذاتها للدلالة ـ دلالة هذا الإدراك البشري ذاته ـ على أن هذا الدين من عند الله.. ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلما بها، أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم ـ بعد ذلك ـ تلقائيا بكل ما ورد في هذا الدين ـ لا يهم عندئذ أن يدرك حكمته الخفية أو لا يدركها، فالحكمة متحققة حتما ما دام من عند الله، ولا يهم عندئذ أن يرى (المصلحة) متحققة فيه في اللحظة الحاضرة، فالمصلحة متحققة حتما ما دام من عند الله.. والعقل البشري ليس ندا لشريعة الله ـ فضلا على أن يكون الحاكم عليها ـ لأنه لا يدرك إلا إدراكا ناقصا في المدى المحدود؛ ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا وإلى جميع المصالح ـ لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله ـ بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة؛ فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها، أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولا إلى الإدراك البشري.. وأقصى ما يتطلب من الإدراك البشري أن يتحرى إدراك دلالة النص وانطباقه؛ لا أن يتحرى المصلحة أو عدم المصلحة فيه! فالمصلحة متحققة أصلا بوجود النص من قبل الله تعالى.. إنما يكون هذا فيما لا نص فيه، مما يجدّ من الأقضية؛ وهذا سبق بيان المنهج فيه، وهو رده إلى الله والرسول.. وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي، إلى جانب الاجتهاد في فهم النص، والوقوف عنده، لا تحكيم العقل البشري في أن مدلوله يحمل المصلحة أو لا يحملها!
10. إن مجال العقل البشري الأكبر في معرفة نواميس الكون والإبداع في عالم المادة.. وهو ملك عريض! يجب أن نحترم الإدراك البشري بالقدر الذي أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يحسنه ـ ثم لا نتجاوز به هذا المجال، كيلا نمضي في التيه بلا دليل، إلا دليلا يهجم على ما لا يعرف من مجاهل الطريق.. وهو عندئذ أخطر من المضي بلا دليل!
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/722.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ إلفات لجماعات المنافقين والضالين إلى ما فاتهم من خير عظيم، حين لم يقفوا عند آيات الله، ولم يتدبّروها، ويصححوا موقفهم منها، وذلك بالنظر فيها، نظرا يرتاد مواقع الخير، وينشد مطالع الهدى.
2. إنهم لو فعلوا ذلك، وأخلوا أنفسهم من تلك المشاعر الخبيثة المستولية عليهم، لرأوا وجه الحق سافرا في آيات الله وكلماته، ولأخذوا طريقهم إلى الله مستقيما، فآمنوا بالله، وبرسوله، وبهذا الكتاب الذي أنزل على رسوله، فإن نظرة مخلصة إلى كتاب الله، تصل العقول به، وتفتح القلوب له، لما في كل آية وكل كلمة منه، من أمارات مشرقة، تحدّث بأن هذا الكلام هو كلام الله، وأن هذا الكتاب هو كتاب الله! وأقرب تلك الأمارات وأظهرها أن هذا الكتاب قائم على أسلوب واحد، ومنهج واحد، ومستوى واحد.
3. ذلك أنه على امتداده، وسعته، وتشعّب الموضوعات التي تناولها، والقضايا التي عرضها، والأحكام التي أصدرها ـ هو في ذلك كلّه على درجة واحدة من البلاغة والبيان، وعلى كلمة سواء فيما يأمر به وينهى عنه.. ولو كان هذا القرآن من عند غير الله، لاختلف أسلوبه، وتناقضت أحكامه، وتضاربت قضاياه.. شأن كل عمل بشرىّ، لا يسلم أبدا من مواطن القوة والضعف فيه.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/846.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ الفاء تفريع على الكلام السابق المتعلّق بهؤلاء المنافقين أو الكفرة الصرحاء وبتولّيهم المعرض بهم في شأنه بقوله: ﴿وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80]، وبقولهم ﴿طَاعَةٌ﴾ [النساء: 81]، ثم تدبير العصيان فيما وعدوا بالطاعة في شأنه، ولمّا كان ذلك كلّه أثرا من آثار استبطان الكفر، أو الشكّ، أو اختيار ما هو في نظرهم أولى ممّا أمروا به، وكان استمرارهم على ذلك، مع ظهور دلائل الدّين، منبئا بقلّة تفهّمهم القرآن، وضعف استفادتهم، كان المقام لتفريع الاستفهام عن قلّة تفهمهم، فالاستفهام إنكاري للتوبيخ والتعجيب منهم في استمرار جهلهم مع توفّر أسباب التدبير لديهم.
2. تحدّى الله تعالى هؤلاء بمعاني القرآن، كما تحدّاهم بألفاظه، لبلاغته إذ كان المنافقون قد شكّوا في أنّ القرآن من عند الله، فلذلك يظهرون الطاعة بما يأمرهم به، فإذا خرجوا من مجلس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خالفوا ما أمرهم به لعدم ثقتهم، ويشكّكون ويشكّون إذا بدا لهم شيء من التعارض، فأمرهم الله تعالى بتدبير القرآن كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: 7] الآية.
3. والتدبّر مشتقّ من الدّبر، أي الظّهر، اشتقّوا من الدّبر فعلا، فقالوا: تدبّر إذا نظر في دبر الأمر، أي في غائبه أو في عاقبته، فهو من الأفعال التي اشتقّت من الأسماء الجامدة، والتدبّر يتعدّى إلى المتأمّل فيه بنفسه، يقال: تدبّر الأمر، فمعنى ﴿يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ يتأمّلون دلالته، وذلك يحتمل معنيين:
أ. أحدهما أن يتأمّلوا دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين، أي تدبّر تفاصيله.
ب. وثانيهما أن يتأمّلوا دلالة جملة القرآن ببلاغته على أنّه من عند الله، وأنّ الذي جاء به صادق، وسياق هذه الآيات يرجّح حمل التدبّر هنا على المعنى الأول، أي لو تأمّلوا وتدبّروا هدي القرآن لحصل لهم خير عظيم، ولما بقوا على فتنتهم التي هي سبب إضمارهم الكفر مع إظهارهم الإسلام، وكلا المعنيين صالح بحالهم، إلّا أنّ المعنى الأول أشدّ ارتباطا بما حكي عنهم من أحوالهم.
4. قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ﴾:
أ. يجوز أن يكون عطفا على الجملة الاستفهامية فيكونوا أمروا بالتدبّر في تفاصيله، وأعلموا بما يدلّ على أنّه من عند الله، وذلك انتفاء الاختلاف منه، فيكون الأمر بالتدبّر عامّا، وهذا جزئيّ من جزئيات التدبّر ذكر هنا انتهازا لفرصة المناسبة لغمرهم بالاستدلال على صدق الرسول، فيكون زائدا على الإنكار المسوق له الكلام، تعرّض له لأنّه من المهمّ بالنسبة إليهم إذ كانوا في شكّ من أمرهم، وهذا الإعراب أليق بالمعنى الأول من معنيي التدبّر هنا.
ب. ويجوز أن تكون الجملة حالا من (القرآن)، ويكون قيدا للتدبّر، أي ألا يتدبّرون انتفاء الاختلاف منه فيعلمون أنّه من عند الله، وهذا أليق بالمعنى الثاني من معنيي التدبّر.
5. ممّا يستأنس به للإعراب الأوّل عدم ذكر هذه الزيادة في الآية المماثلة لهذه من سورة القتال، وهي قوله: ﴿فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ﴾ إلى قوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 20 ـ 24] وهذه دقائق من تفسير الآية أهملها جميع المفسّرين.
6. الاختلاف يظهر أنّه أريد به اختلاف بعضه مع بعض، أي اضطرابه، ويحتمل أنّه اختلافه مع أحوالهم: أي لوجدوا فيه اختلافا بين ما يذكره من أحوالهم وبين الواقع فليكتفوا بذلك في العلم بأنّه من عند الله، إذ كان يصف ما في قلوبهم وصف المطّلع على الغيوب، وهذا استدلال وجيز وعجيب قصد منه قطع معذرتهم في استمرار كفرهم.
7. وصف الاختلاف بالكثير في الطرف الممتنع وقوعه بمدلول (لو)، ليعلم المتدبّر أنّ انتفاء الاختلاف من أصله أكبر دليل على أنّه من عند الله، وهذا القيد غير معتبر في الطرف المقابل لجواب (لو)، فلا يقدّر ذلك الطرف مقيّدا بقوله: ﴿كَثِيرًا﴾ بل يقدر هكذا: لكنّه من عند الله فلا اختلاف فيه أصلا.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/200.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآيات السابقة بين الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أحوال المنافقين، وما هم عليه من لؤم الطبع والمكر والخداع، ثم أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم بالإعراض عنهم، فهم لن يضروه شيئا مهما كان لؤمهم وخداعهم، وما عليه إلا أن يتوكل على الله، فهو حسبه، وسيكفيه شرهم، ولن يبلغوا منه شيئا، وفي هذه الآيات لا يزال الكلام عن المنافقين متصلا، فالله سبحانه وتعالى يعيب عليهم حالهم في عدم تدبر القرآن الكريم والتفكر في معانيه؛ لأن التدبر في القرآن يجعلهم يفكرون في عاقبة أمرهم، ويستيقظون من سباتهم الذي يملك عليهم نفوسهم، ويتجسد أمام بصائرهم ما سوف ينالهم من جزاء يوم القيامة، وهم لو تدبروا القرآن لرأوا فيه العجب العجاب، ولتبين لهم أن هذا الكتاب منزل من الله رب العالمين، وأن محمدا عبد الله ورسوله.
2. فالقرآن الكريم يحمل بين جنباته دلائل صدقه، وبراهين أنه من لدن حكيم حميد، إذ لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه تناقضا في القضايا، واختلافا في الألفاظ، وتضاربا في المعاني ولضربت الآيات بعضها بعضا؛ لأن الإنسان من البشر إذا تكلم بكلام كثير، لا بد أن يوجد في كلامه اختلاف، لاختلاف مزاجه بين الحين والحين، ولما يعتوره من الصحة والمرض، ولاختلاف مواقفه في الزمان والمكان، فيظهر ذلك كله في صورة تناقض في اللفظ أو الوصف، أو في المعاني أو الصدق والكذب إلى غير ذلك من صور الاختلاف.
3. ولكن القرآن الكريم بين أيديهم، فليتدبروه حق التدبر، فلن يجدوا فيه اختلافا في وصف، ولا ردا في معنى، ولا تناقضا في قضاياه، ولا كذبا فيما يخبر به من أمور الغيب، ولكنهم بإعراضهم عن التدبر، يظلون كالأنعام بل هم أضل، قد أغلقوا قلوبهم عن الهدى، وأصموا آذانهم عن صوت البشير النذير، فما لهم لا يعقلون، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد] فهم لا يفقهون.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1781.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ عند تفسير الآية 23 ـ 25 من سورة البقرة،) تعرضنا لسر الاعجاز في القرآن على سبيل الإجمال، لأن التفصيل يستغرق كتابا في حجم هذا المجلد.. وبعد ان مضينا في التفسير اكتشفنا أسرارا لإعجاز القرآن لم يتنبه اليها من سبق من علماء المسلمين، حتى الذين ألفّوا كتبا خاصة في اعجاز القرآن، وما كان هذا عن قصور أو تقصير منهم.. حاشا، ولكن كتاب الله لا تنقضي أسراره وعجائبه: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾، وقد أصاب من هذه الكلمات كل بقدر ما أسعفه عصره ومواهبه، فان الزمان عنصر فعال في الكشف عن معاني القرآن وأسراره، قال ابن عباس: (في القرآن معان سوف يفسرها الزمان)، ومن هذه المعاني ما أومأت اليه الآية 53 من هذه السورة: ﴿أَمْ لَهُمْ﴾ ـ أي لليهود ـ ﴿نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾، وذكرنا عند تفسيرها وتفسير الآية 46 من السورة نفسها تنبؤ القرآن بفظائع اليهود وجرائمهم إذا ملكوا، وبعد نيف وثلاثة عشر قرنا تحقق هذا التنبؤ، وهذا دليل قاطع على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصدق رسالته.. وهذا هو الاعجاز الذي أردناه من قولنا: لم يتنبه اليه العلماء والمفسرون، لأن اليهود كانوا آنذاك أذلاء محكومين، لا نصيب لهم من الملك في فلسطين ولا في غيرها.
2. من جملة الأدلة على ان القرآن وحي من الله قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ من هذا الاختلاف عدم التناسق والتناسب في أقوال البشر أسلوبا وتفكيرا.. فما من عالم أو أديب أو أي انسان إلا ويختلف قوة وضعفا في تعبيره وتفكيره، أما القرآن فهو على مستوى واحد في بلاغة أسلوبه، وعظمة معانيه، والسر ان للإنسان ظروفا وحالات تختلف وتتغير من حين الى حين، بل من لحظة الى لحظة، وهو تابع لها يتقلب بحسبها، ولا ينفك تغيره عن تغيرها بحال.
3. في قوله تعالى: ﴿كَثِيرًا﴾ اشارة الى ان تقلّب الإنسان مع ظروفه لا يبلغه الحصر، وهذا الاختلاف يفسر لنا التفاوت في أسلوب الإنسان وتفكيره، أما الذات القدسية فإنها هي هي متوحدة في كل شيء أزلا وأبدا، لا تتبدل بالأحوال، ولا تتغير بالظروف: (وكيف يجري على الله ما هو أجراه، ويعود فيه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه؟، اذن، لتفاوتت ذاته، وتجزأ كنهه)، كما قال الإمام علي عليه السلام، وهذا وحده يفسر لنا التناسق والتناسب في كتاب الله أداء ومضمونا من ألفه الى يائه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/390.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ الآية تحضيض في صورة الاستفهام، والتدبر هو أخذ الشيء بعد الشيء وهو في مورد الآية التأمل في الآية عقيب الآية أو التأمل بعد التأمل في الآية لكن لما كان الغرض بيان أن القرآن لا اختلاف فيه وذلك إنما يكون بين أزيد من آية واحدة كان المعنى الأول أعني التأمل في الآية عقيب الآية هو العمدة وإن كان ذلك لا ينفي المعنى الثاني أيضا.
2. فالمراد ترغيبهم أن يتدبروا في الآيات القرآنية ويراجعوا في كل حكم نازل أو حكمة مبينة أو قصة أو عظة أو غير ذلك جميع الآيات المرتبطة به مما نزلت مكيتها ومدينتها ومحكمها ومتشابهها ويضموا البعض إلى البعض حتى يظهر لهم أنه لا اختلاف بينها فالآيات يصدق قديمها حديثها ويشهد بعضها على بعض من غير أن يكون بينها أي اختلاف مفروض لا اختلاف التناقض بأن ينفي بعضها بعضا أو يتدافعا ولا اختلاف التفاوت بأن يتفاوت الآيتان من حيث تشابه البيان أو متانة المعاني والمقاصد بكون البعض أحكم بيانا وأشد ركنا من بعض كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود.
3. فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنه كتاب منزل من الله وليس من عند غيره إذ لو كان من عند غيره لم يسلم من كثرة الاختلاف وذلك أن غيره تعالى من هذه الموجودات الكونية ولا سيما الإنسان الذي يرتاب أهل الريب أنه من كلامه كلها موضوعة بحسب الكينونة الوجودية وطبيعة الكون على التحرك والتغير والتكامل فما من واحد منها إلا أن امتداد زمان وجوده مختلف الأطراف متفاوت الحالات.
4. ما من إنسان إلا وهو يرى كل يوم أنه أعقل من أمس وأن ما ينشئه من عمل أو صنعة أو ما أشبه ذلك أو يدبره من رأي أو نظر أو نحوهما أخيرا أحكم وأمتن مما أتى به أولا حتى العمل الواحد الذي فيه شيء من الامتداد الوجودي كالكتاب يكتبه الكاتب والشعر يقوله الشاعر والخطبة يخطبها الخطيب وهكذا يوجد عند الإمعان آخره خيرا من أوله وبعضه أفضل من بعض.
5. فالواحد من الإنسان لا يسلم في نفسه وما يأتي به من العمل من الاختلاف، وليس هو بالواحد والاثنين من التفاوت والتناقض بل الاختلاف الكثير، وهذا ناموس كلي جار في الإنسان وما دونه من الكائنات الواقعة تحت سيطرة التحول والتكامل العامين لا ترى واحدا من هذه الموجودات يبقى آنين متواليين على حال واحد بل لا يزال يختلف ذاته وأحواله.
6. ومن هنا يظهر وجه التقييد بالكثير في قوله: ﴿اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ فالوصف وصف توضيحي لا احترازي، والمعنى: لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا وكان ذلك الاختلاف كثيرا على حد الاختلاف الكثير الذي في كل ما هو من عند غير الله، وليس المعنى أن المرفوع من القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير.
7. وبالجملة لا يلبث المتدبرون أن يشاهد أن القرآن كتاب يداخل جميع الشؤون المرتبطة بالإنسانية من معارف المبدأ والمعاد والخلق والإيجاد، ثم الفضائل العامة الإنسانية، ثم القوانين الاجتماعية والفردية الحاكمة في النوع حكومة لا يشذ منها دقيق ولا جليل، ثم القصص والعبر والمواعظ ببيان دعا إلى مثلها أهل الدنيا، وبآيات نازلة نجوما في مدة تعدل ثلاثا وعشرين سنة على اختلاف الأحوال من ليل ونهار، ومن حضر وسفر، ومن حرب وسلم، ومن ضراء وسراء، ومن شدة ورخاء، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة المعجزة، ولا في معارفه العالية وحكمه السامية، ولا في قوانينه الاجتماعية والفردية، بل ينعطف آخره إلى ما قر عليه أوله، وترجع تفاصيله وفروعه إلى ما ثبت فيه أعراقه وأصوله، يعود تفاصيل شرائعه وحكمه بالتحليل إلى حاق التوحيد الخالص، وينقلب توحيده الخالص بالتركيب إلى أعيان ما أفاده من التفاصيل، هذا شأن القرآن.
8. والإنسان المتدبر فيه هذا التدبر يقضي بشعوره الحي، وقضائه الجبلي أن المتكلم بهذا الكلام ليس ممن يحكم فيه مرور الأيام والتحول والتكامل العاملان في الأكوان بل هو الله الواحد القهار.
9. وقد تبين من الآية:
أ. أولا: أن القرآن مما يناله الفهم العادي.
ب. ثانيا: أن الآيات القرآنية يفسر بعضها بعضا.
ج. ثالثا: أن القرآن كتاب لا يقبل نسخا ولا إبطالا ولا تكميلا ولا تهذيبا، ولا أي حاكم يحكم عليه أبدا، وذلك أن ما يقبل شيئا منها لا مناص من كونه يقبل نوعا من التحول والتغير بالضرورة، وإذ كان القرآن لا يقبل الاختلاف فليس يقبل التحول والتغير فليس يقبل نسخا ولا إبطالا ولا غير ذلك، ولازم ذلك أن الشريعة الإسلامية مستمرة إلى يوم القيامة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/20.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ لَمَّا كانت معاصيهم سببُها مرضٌ في قلوبهم دلهم على القرآن ﴿شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ [يونس: 57] فإنهم إذا تدبروه بإنصاف وطلب للحق وجدوه ناصحاً أميناً يهدي إلى طريق مستقيم، بما فيه من الوعد والوعيد، والتذكير بالله، والتحذير من الشيطان ومن الاغترار بالدنيا نفَعهم إذا آمنوا به وأيقنوا أنه من الله أصدق القائلين، فلينظروا ليعلموا أنه من الله.
2. ﴿وَ﴾ من الدليل على أنه من الله أنه: ﴿لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ لأن المخلوق ضعيف تختلف حالته في النشاط وحضور الفكر والكسل والغفلة والقوة والضعف ونحو ذلك، فيختلف كلامه تبعاً لاختلاف حالاته، فيحسن نظمه تارة ويغيره تارة أخرى، فلذلك ترى قصائد الشاعر الواحد تختلف في الحسن والإتقان وتتفاوت، بل القصيدة الواحدة تختلف في إحكام الكلام؛ لأن بعض المعاني تتجه إليه فكرته لرغبته فيه وقوة الباعث عليه من حب وشوق أو حزن أو غيظ وغضب أو طمع أو بغض أو غير ذلك، والبعض الآخر يتكلفه فالذي يسهل يكون أقدر على إتقان نظمه والذي يتكلفه يضعف عن إتقانه وهذا واضح، أما كلام الله ـ جلَّ جلاله ـ فلا يختلف؛ لأنه ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42] ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 20] و﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 29] وقد علم العرب هذا فلم يستضعفوا شيئاً من نظمه ولا انتقدوا شيئاً من تركيبه، ولو كان فيه اختلاف لسارعوا إلى نقده لكراهتهم للإيمان به ورغبتهم في إبطاله، وتدبر القرآن: تفهُّم معانيه وما يستفاد منها وتؤدي إليه.
3. ﴿يَتَدَبَّرُونَ﴾ قال في (الكشاف): (تدبر الأمر: تأمله، والنظر في أدباره وما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استعمل في كل تأمل، فمعنى تدبر القرآن: تأمل معانيه وتبصُّر ما فيه)
4. قال في (المصابيح) حاكياً: (وفي الآية دلالة على بطلان قول من يزعم أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو حجة الله تعالى؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن لدعاء المكلفين إلى التدبر في القرآن، وتوبيخهم على ترك الاستدلال به معنى) وقد بسطت في هذا المعنى في (تحرير الأفكار) جواباً عمن قال: (السنة حاكمة على القرآن) وهم يحتجون بقول الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]، قالوا: والمراد لتبين بالسنة، والجواب: لا نسلم أن المراد بالسنة، فهي دعوى لا دليل عليها؛ لأنه المبلغ للقرآن إلى الناس، فالمعنى: لتبينه بتبليغه تبليغاً بيناً بتبيين حروفه في تلاوته عليهم، ورفع صوتك به بحيث يسمعونه بتمامه؛ لأنه لو أغمض بعض الحروف بحيث تلتبس على السامع وخفض صوته به عند تلاوته عليهم فلم يسمعوه تماماً، لصح أن يقال: إنه لم يبينه لهم، وقد روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يرتل القرآن حتى لو أراد أحد أن يعد الحروف لعدها أو كما قيل، وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 17] أي قراءته لك، ثم للناس بتبليغك إليهم ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ لك ثم للناس في تبليغك من الملك وتبليغك للناس، وقوله: ﴿ثُمَّ﴾ ليس معناه تراخي البيان؛ لأنه ليس المعطوف بـ (ثم) وإنما هي للترقي من درجة إلى درجة، كقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ [هود: 1] وكقول الشاعر:
çإن من ساد ثم ساد أبوه... ثم قد ساد قبل ذلك جدهé
ولو سلم أن (ثم) لتراخي وجوب البيان على الله عن وجوب قراءة القرآن، فلا يستلزم ذلك تراخي البيان؛ لأنه يمكن أنه سبحانه كتب على نفسه أن ينزل القرآن ويُقرأ على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم على الناس، ثم كتب على نفسه أن يجعله بيناً للرسول وللناس؛ لتقوم به الحجة، ويتبين به قصد السبيل؛ لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ [النحل: 9]، وهذا على سبيل الفرض والتقدير، ولا يلزم منه تراخي البيان عن قراءة القرآن، فلا يلزم التغاير بين القرآن وبيانه، وقد وصف الله آيات القرآن بأنها (بينات) كقوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَآيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: 49] فدل ذلك على أن بيان القرآن صفة له لازمة لا مفارق له مغاير.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/118.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَتَدَبَّرُونَ﴾: يتفكرون ويتأملون معانيه، ويتبصرون ما فيه، والتدبّر هو أخذ الشيء والنظر في عواقب الأمور، والفرق بين التدبّر والتفكر هو أن التدبر تصرّف القلب بالنظر في العواقب، والتفكر تصرّف القلب بالنظر في الدلائل.
2. اخْتِلافاً: تناقضا في معانيه وتفاوتا في بيانه ومتانة أسلوبه، والاختلاف والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله، قال الطبرسي: الاختلاف هو امتناع أحد الشيئين أن يسدّ مسدّ الآخر فيما يرجع إلى ذاته كالسواد الذي لا يسد مسدّ البياض، وكذلك الذهاب في الجهات المختلفة.
3. عدم الاختلاف في القرآن دليل على صدوره من الله تعالى، وهذا دليل على أن القرآن من عند الله وليس من كلام البشر، لأن غير الله يخضع في كلامه لحالات مختلفة، في حياته المادية والمعنوية؛ وقد يترك ذلك اختلافا كثيرا في ما يصدر عنه، فقد يكون له في هذا اليوم فكر يختلف عن فكره في اليوم الآخر، وقد يكون له موقف في بعض الحالات الطارئة يختلف عن الموقف في حالة أخرى.. أما الله سبحانه فإنه الذي يحيط بالأشياء من جميع جوانبها، فلا يختلف أمره في حال عن حال، ولا تشتبه عليه الأمور، لأنه خالق كل شيء، ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَاللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، ولذلك فلا يمكن لكلامه أن يكون موضعا للاختلاف والتنافر والتنافي، بل هو الذي يصدق بعضه بعضا، ويفسّر بعضه بعضا، ويبين أوله آخره، وآخره أوله.
4. وبهذا ينبغي لنا أن ندرس القرآن ونتدبّره، فنلاحظ أنه نزل في حالات متباينة وأوضاع مختلفة، في السفر والحضر والسلم والحرب.. وتعرّض لأكثر من موضوع وقضية، بل ربما يتحدث عن القضية الواحدة أكثر من مرة، في أكثر من مناسبة، وامتدت عملية التنزيل إلى مدى ثلاث وعشرين سنة، هي عمر النبي الرسالي، فلم تختلف فيه آية عن أخرى، ولا مفهوم عن آخر، مما يدلنا أنه كلام الله الواحد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن لا بد من التدبر فيه والتعمق في مداليله، لئلا يتوهم القارئ الاختلاف في ما ليس فيه اختلاف، كما يحدث للإنسان الذي يقرأ بعض الآيات التي ظاهرها الجبر، في مقابل بعض الآيات التي يظهر منها حرية الاختيار؛ أو الذي يقرأ الآيات التي يستفاد من ظاهرها التجسيم، بإزاء الآيات التي يظهر منها عدمه.. وهكذا في ما اختلفت فيه أساليب التعبير؛ فقد يطلق اللفظ الظاهر في معنى بحسب أصل الوضع، ويراد منه المعنى الآخر على سبيل الكناية والمجاز بسبب بعض القرائن الصارفة للفظ عن معناه الحقيقي، فيخيل للقارئ الساذج غير المتدبّر أن المراد به المعنى الحقيقي، وذلك كما في الآيات التي تتحدث عن وجه الله ويده، التي هي كناية عن ذاته وقدرته أو نعمته، فيتوهم البعض أنها تعبير عن العضو الجسدي الخاص، فيذهب إلى التجسيم؛ ونحو ذلك مما سنتعرض له في موضعه من التفسير، لأن للفظ العربي قواعد معينة مضبوطة في طريقته في التعبير عن المعنى، فلا يجوز إغفالها في ما نريده من فهم الكلام القرآني، لئلا نقع في الخطأ الناشئ عن عدم التدبر.
5. قد يكون من المناسب أن نذكر ما حدث للفيلسوف إسحاق الكندي ـ فيلسوف العراق ـ الذي قيل إنه كتب كتابا في إثبات تناقض القرآن في آياته، وشغل نفسه به، وتفرد به في منزله؛ وعرف الإمام الحسن بن علي العسكري ـ الإمام الحادي عشر من أئمة الشيعة الإمامية الاثنى عشر ـ بذلك، وإن بعض تلامذته دخل على الإمام العسكري عليه السّلام، فقال له: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا وفي غيره؟ فقال له أبو محمد (وهي كنية الإمام العسكري عليه السّلام): أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم، قال: فصر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله؛ فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي منك ذلك، فقل له: إن هذا المتكلم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم به غير المعاني التي قد ظننت أنك ذهبت إليها؛ فإنه سيقول لك: إنه من الجائز، لأنه رجل يفهم، فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فتكون واضعا لغير معانيه؟ فصار الرجل إلى الكندي، وتلطّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له: أعد عليّ، ففكر في نفسه، ورأى ذلك محتملا في اللغة وسائغا في النظر، فقال: أقسمت عليك إلّا أخبرتني من أين لك هذا، فقال: إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلا ما مثلك من اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا، فقال: أمرني به أبو محمد، فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت، ثم إنه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه.
6. في ضوء ذلك، لا بد للإنسان الواعي من التدقيق في كل الأبحاث المنحرفة التي تحاول أن تؤكد على وجود التنافي بين آيات القرآن، ليعرف ـ من خلال التدقيق ـ أن تلك الأبحاث لم ترتكز على أساس دقيق من قواعد اللغة، وحركة العقل السليم.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/369.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية تخاطب المنافقين وسائر الذين يرتابون من حقيقة القرآن المجيد، وتطلب منهم ـ بصيغة السؤال ـ أن يحققوا في خصائص القرآن ليعرفوا بأنفسهم أنّ القرآن وحي منزل، ولو لم يكن كذلك لكثر فيه التناقض والاختلاف، وإذا تحقق لديهم عدم وجود الاختلاف، فعليهم أن يذعنوا أنّه وحي من الله تعالى.
2. التّدبر من مادة (دبر) وهو مؤخر الشيء وعاقبته (والتدبر) المطلوب في هذه الآية هو البحث عن نتائج آثار الشيء، والفرق بين التدبر والتفكر هو أنّ الأخير يعني التحقيق في علل وخصائص الموجود، أمّا التدبر فهو التحقيق في نتائجه وآثاره.
3. نستدل من هذه الآية على عدّة أمور:
أ. إنّ الناس مكلّفون بالبحث والتحقيق في أصول الدين والمسائل المشابهة لها، مثل صدق دعوى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحقانية القرآن، وأن يتجنّبوا التقليد والمحاكاة في مثل هذه الحالات.
ب. إنّ القرآن ـ خلافا لما يظن البعض ـ قابل للفهم والإدراك للجميع، ولو كان على غير هذه الصورة لما أمر الله بالتدبر فيه.
ج. أحد الأدلة التي تثبت أنّ القرآن حقّ، وأنّه منزل من الله الحكيم العليم خلوه المطلق من كل تناقض أو اختلاف.
4. ولتوضيح هذه الحقيقة نقول: الجوانب الروحية للإنسان تتغير باستمرار، (قانون التكامل) ـ في الظروف العادية الخالية من الأوضاع الاستثنائية ـ يستوعب الإنسان وجوانبه الروحية وأفكاره، وبمرور الأيّام يتغير بموجب هذا القانون كلام الإنسان وفكره وأحاديثه، ولو أمعنا النظر فيما يكتبه الكتاب، لما وجدنا مؤلفات الكاتب الواحد على نمط واحد، بل أن بداية كل كتاب تختلف أيضا عن نهايته.
5. هذا التغيير يزداد سرعة حين يعيش الإنسان في خضم أحداث كبرى كالتي تصاحب إرساء قواعد ثورة فكرية واجتماعية وعقائدية شاملة، الشخص الذي يعيش مثل هذه التحولات الاجتماعية الكبرى لا يستطيع أن يسيطر على وحدة كلامه، ولا يمكنه أن يوجد انسجاما كاملا في أقواله، خاصّة إذا كان هذا الشخص غير متعلم، وكان ناشئا في بيئة اجتماعية متخلفة.
6. والقرآن كتاب نزل خلال مدّة عاما بحسب ما يحتاجه الناس من تربية وتوجيه في الظروف المختلفة، وموضوعات القرآن متنوعة، فهو لا يشبه كتابا عاديا متخصصا في بحث اجتماعي أو سياسي أو فلسفي أو حقوقي أو تاريخي، بل هو يتحدث تارة عن التوحيد وأسرار الخليقة، وتارة يطرح القوانين والأحكام والآداب والسنن، وتارة يقص علينا أخبار الأمم السابقة، وتارة يتناول المواعظ والنصائح والعبادات وارتباط العبد بخالقه، وكما يقول (غوستاف لوبون): القرآن ـ كتاب المسلمين السماوي ـ لا يقتصر على التعاليم الدينية، بل يتناول ـ أيضا ـ الأحكام السياسية والاجتماعية للمسلمين.
7. مثل هذا الكتاب ـ بهذه الخصائص ـ لا يمكن أن يكون ـ عادة ـ خاليا من التناقض والتضاد والاختلاف والتأرجح، أمّا حين نرى هذا الكتابـ مع كل ذلك ـ متناسقا متوازنا في آياته خاليا من كل تضاد واختلاف نستطيع أن نفهم ـ بوضوح ـ أنّ هذا الكتاب ليس وليد فكر بشري، بل هو من قبل الله تعالى، كما تذكر الآية الكريمة أعلاه.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/346.
78. الإذاعة وأولي الأمر
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈78⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾، يقول: أفشوه، وسعوا به(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾، هذا في الإخبار، إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها، فقالوا: أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو يخبرهم به، قال ابن جريج: قال ابن عباس: ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾: أعلنوه وأفشوه(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ﴾ حتى يكون هو الذي يخبرهم به، ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ أولي الفقه في الدين والعقل(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، يقول: لعلمه الذين يتحسسونه منهم(3).
5. روي أنّه قال: ﴿فَضْلِ اللهِ﴾ الدين، ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ ورحمته أن جعلكم من أهل القرآن(4).
6. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ قال فانقطع الكلام، وقوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ فهو في أول الآية يخبر عن المنافقين، قال وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا، يعني بالقليل: المؤمنين(5).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٥٣.
(2) ابن جرير ٧/٢٥٦.
(3) ابن جرير ٧/٢٥٨.
(4) ابن أبي حاتم ٣/١٠١٦.
(5) ابن جرير ٧/٢٦٣.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، الذين يتتبعونه ويتحسسونه(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٥٧.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾، يقول: أفشوه، وسعوا به، وهم أهل النفاق(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، يتتبعونه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، هم أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كانوا حدثوا أنفسهم بأمر من أمور الشيطان إلا طائفة منهم(3).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٥٤.
(2) ابن جرير ٧/٢٥٨.
(3) ابن جرير ٧/٢٦٤.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، الذين يسألون عنه، ويتحسسونه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، قولهم: ماذا كان؟، وماذا سمعتم؟(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٥٧.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ أي: يحرصون عليه، ويسألون عنه(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٣٥١.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ هم الأئمة(1).
__________
(1) الكافي 1/234.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إنما هو ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ الذين يفحصون عنه، ويهمهم ذلك إلا قليلا منهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾، فضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ يقول: لاتبعتم الشيطان كلكم، وأما قوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ فهو لقوله: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ إلا قليلا(3).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٥٦.
(2) ابن المنذر ٢/٨٠٨.
(3) عبد الرزاق ١/١٦٦.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾: معناه يستخرجونه منهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ معناه أفشوه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾، الرد إلينا ومنا، ونحن والكتاب الثقلان(3).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 121.
(2) تفسير الإمام زيد، ص 122.
(3) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/247.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾، يقول: إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوهم، أو أنهم خائفون منه؛ أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوهم أمرهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ يقول: إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوهم، أو أنهم خائفون منه؛ أذاعوا بالحديث، حتى يبلغ عدوهم أمرهم، ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ﴾ يقول: ولو سكتوا وردوا الحديث إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ يقول: إلى أميرهم حتى يتكلم هو به(1).
3. روي أنّه قال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ على الأخبار، وهم الذين ينقرون عن الأخبار(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٥٣.
(2) ابن جرير ٧/٢٥٦.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ يقول: لاتبعتم الشيطان كلكم، وأما قوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ فهو لقوله: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ إلا قليلا(1).
__________
(1) ابن المنذر ٢/٨٠٨.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قال الله عز وجل: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ وقال عز وجل: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ فرد الأمر، أمر الناس، إلى اولي الأمر منهم الذين أمر بطاعتهم وبالرد إليهم(1).
2. روي أنّه قال: إنما مثل علي ابن أبي طالب عليه السلام ومثلنا من بعده في هذه الامة كمثل موسى النبي والعالم (عليهما السلام) حيث لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصه الله لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابه، وذلك أن الله قال لموسى عليه السلام: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾، ثم قال: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، وقد كان عند العالم علم لم يكتبه لموسى عليه السلام في الألواح، وكان موسى عليه السلام يظن أن جميع الأشياء التي يحتاج إليها في نبوته، وجميع العلم قد كتب له في الألواح، كما يظن هؤلاء الذين يدعون أنهم علماء وفقهاء، وأنهم قد أتقنوا جميع الفقه والعلم في الدين مما تحتاج هذه الامة إليه، وصح لهم ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلموه وحفظوه، وليس كل علم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علموه، ولا صار إليهم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا عرفوه، وذلك أن الشيء من الحلال والحرام والأحكام قد يرد عليهم فيسألون عنه، فلا يكون عندهم فيه أثر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيستحيون أن ينسبهم الناس إلى الجهل، ويكرهون أن يسألوا فلا يجيبون، فطلب الناس العلم من غير معدنه، فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين الله، وتركوا الآثار، ودانوا الله بالبدع، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كل بدعة ضلالة، فلو أنهم إذا سئلوا عن شيء من دين الله فلم يكن عندهم فيه أثر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطون العلم من آل محمد عليهم السلام، والذي يمنعهم من طلب العلم منا العداوة لنا والحسد، ولا والله ما حسد موسى العالم عليهما السلام، وموسى عليه السلام نبي يوحى إليه، حيث لقيه واستنطقه وعرفه بالعلم، بل أقر له بعلمه، ولم يحسده كما حسدتنا هذه الامة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علمنا وما ورثنا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يرغبوا إلينا في علمنا كما رغب موسى إلى العالم وسأله الصحبة ليتعلم منه العلم ويرشده، فلما أن سأل العالم ذلك، علم العالم أن موسى عليه السلام لا يستطيع صحبته، ولا يحتمل علمه، ولا يصبر معه، فعند ذلك قال له العالم: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾، فقال له موسى عليه السلام: ولم لا أصبر، فقال له العالم: ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ فقال له موسى عليه السلام وهو خاضع له يستعطفه على نفسه كي يقبله: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ وقد كان العالم يعلم أن موسى لا يصبر على علمه، وكذلك والله ـ يا إسحاق ـ حال قضاة هؤلاء وفقهاؤهم وجماعتهم اليوم، لا يحتملون والله علمنا، ولا يقبلونه، ولا يطيقونه، ولا يأخذون به، ولا يصبرون عليه كما لم يصبر موسى صلى الله عليه على علم العالم حين صحبه ورأى ما رأى من علمه، وكان ذلك عند موسى مكروها، وكان عند الله رضا وهو الحق، وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه لا يؤخذ به، وهو عند الله الحق(2).
__________
(1) تفسير القمّي 1/145.
(2) الاختصاص: 258.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ﴾ يعني: المنافقين ﴿أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ﴾ يعني: شيئا من الأمر يسر المؤمنين من الفتح والخير، قصروا عما جاءهم من الخير، ثم قال سبحانه: ﴿أَوِ الْخَوْفِ﴾ يعني: فإن جاءهم بلاء أو شدة نزلت بالمؤمنين ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ يعني: أفشوه، فإذا سمع ذلك المسلمون كاد أن يدخلهم الشك(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ﴾ حتى يخبر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بما كان من الأمر، أو ردوه إلى أولي الأمر منهم، يقول: أمراء السرايا، فيكونون هم الذين يخبرون ويكتبون به(1).
3. روي أنّه قال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، يعني: الذين يتبينونه منهم، يعني: الخير على وجهه، ويحبوا أن يعلموا ذلك فيعلمونه(1).
4. روي أنّه قال: ثم قال سبحانه: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ يعني: ونعمته، فعصمكم من قول المنافقين؛ ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، نزلت في أناس كانوا يحدثون أنفسهم بالشرك(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٣.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾، هذا في الأخبار، إذا غزت سرية من المسلمين تخبر الناس بينهم، فقالوا: أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي أخبرهم به(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٥٣.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾، نشروه، والذين أذاعوا به قوم؛ إما منافقون، وإما آخرون ضعفاء(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ حتى بلغ: ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾، الولاة الذين يكونون في الحرب عليهم، الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر، أصدق أم كذب؟ باطل فيبطلونه، أو حق فيحقونه؟ الولاة الذين يستنبطونه على القوم من الحرب، قال وهذا في الحرب وقد أذاعوا به، ولو فعلوا غير هذا وردوه إلى الله و﴿إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ الآية(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٥٤.
(2) ابن جرير ٧/٢٥٨.
ابن سلام:
روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) أنّه قال: قوله: ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ فيه تقديم وتأخير، يقول: لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين ١/٣٩١.
الرضا:
روي عن عبد الله بن جندب، قال كتب إلي أبو الحسن الإمام الرضا (ت 203 هـ): (ذكرت ـ رحمك الله ـ هؤلاء القوم الذين وصفت أنهم كانوا بالأمس لكم إخوانا، والذي صاروا إليه من الخلاف لكم، والعداوة لكم والبراءة منكم، والذي تأفكوا به من حياة أبي (صلوات الله عليه ورحمته) وذكر في آخر الكتاب: (أن هؤلاء القوم سنح لهم شيطان اغترهم بالشبهة، ولبس عليهم أمر دينهم، وذلك لما ظهرت فريتهم، واتفقت كلمتهم، وكذبوا على عالمهم، وأرادوا الهدى من تلقاء أنفسهم، فقالوا: لم ومن وكيف؟ فأتاهم الهلاك من مأمن احتياطهم، وذلك بما كسبت أيديهم، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ولم يكن ذلك لهم ولا عليهم، بل كان الفرض عليهم والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحير، ورد ما جهلوه من ذلك إلى عالمه ومستنبطه، لأن الله يقول في محكم كتابه: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ يعني آل محمد، وهم الذين يستنبطون من القرآن، ويعرفون الحلال والحرام، وهم الحجة لله على خلقه(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/260.
الرسّي:
ذكر الإمام محمد بن القاسم الرسي (ت 284 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، فهم: الذين علموا علم الكتاب والسنة، وعرفوا مواقع حجج الله على خلقه، في سماواته وأرضه، وكلما اختلف فيه خلقه؛ فأورثهم العلم بذلك غائص الفهم، وكلما نزلت نازلة من خبر شبهة، وإحداث بدعة ـ رجعوا إلى كتاب الله، وسنة نبيه، والحجج القائمة؛ فغاصوا بالفهم، فوجدوا ذلك كذلك باستنباط غوصهم؛ وليس ذلك لغيرهم من أهل الجهل، الذين يضلون بغير علم ولا كتاب مبين؛ فإذا كانوا كذلك، وقاموا في درجة الفهم عن الله ـ ثبت الله قلوبهم بتأييده، وأمدهم بمعونته، وعصمهم من الزيغ والشبهة بعصمته.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/248.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ أخبر سبحانه: أنهم لو ردوا ما يجهلون علمه، ولا ينالون فهمه إلى الله، بالتسليم له في حكمه، وإلى الرسول في معلوم علمه، وإلى الأئمة من عترته فيما التبس من ملتبسه، واشتبه على الأمة من متشابهه ـ لوجدوه عند الله في كتابه مثبتا، وفي سنة رسوله التي جاء بها عن الله مبينا، وعند الأئمة من عترته صلى الله عليه نيرا بينا.
2. ثم أخبر سبحانه: أنه لولا فضل الله على الخلق، بإظهار من أظهر لهم من خيرته، وتولية من ولى عليهم من صفوته ـ إذا لاتبعوا الشيطان في إغوائه، ولشاركوه في غيه وضلاله؛ فامتن عليهم سبحانه بأئمة هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، صفوة الله من العالمين، وخيرته من المخلوقين، نور الأمة، وسراج الظلم المدلهمة، ورعاء البرية، وضياء الحكمة، ومعدن العصمة، وموضع الحكمة، وثبات الحجة، ومختلف الملائكة؛ اختارهم الله على علمه، وقدمهم على جميع خلقه؛ علما منه سبحانه بفضلهم، وتقديسا لهم على غيرهم.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/248.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:
(1):
قوله عز وجل: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾، وفي حرف ابن مسعود: (وإذا جاءهم نبأ من خوف أو أمن أذاعوه) وكذلك في حرف حفصة، قال الكسائي: هما لغتان، أذعت به وأذعته: إذا أفشيته، وقيل: سمعوا به وأفشوه، وقيل: أفشوه وأشاعوه.
1. ثم اختلف فيمن نزلت:
أ. قال الحسن: نزلت في المؤمنين؛ وذلك أنهم إذا سمعوا خبرًا من أخبار السرايا والعساكر ـ مما يسرون ويفرحون ـ أفشوه في الناس؛ فرحًا منهم، وإذا سمعوا ما يحزنهم ويهمهم أظهروه في الناس؛ حزنا وغما، ثم استثنى إلا قليلا منهم لا يذيعون ولا يفشون بالخبر، فلو سكتوا وردوا الخبر إلى رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى يخبر النبي ما كان من الأمر، أو ردوه إلى أولي الأمر حتى يكونوا هم الذين يخبرون به ـ كان أولى، وهو على التقديم والتأخير.
ب. وقال أبو بكر الكسائي: نزلت الآية في المنافقين؛ وذلك أن المنافقين إذا سمعوا رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم يخبر عن نصر المسلمين أذاعوا إلى الأعداء بذلك ليستعدوا على ذلك، وإذا سمعوا أن الأعداء قد اجتمعوا وأعدوا للحرب أخبروا بذلك ضعفة أصحاب رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ليمتنعوا عن الخروج إليهم؛ فقال اللَّه عز وجل: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ﴾ حتى كان هو مخبرهم عن ذلك، أو ردوا إلى أولي الأمر منهم؛ ليخبروا بذلك.
2. ثم اختلف في ﴿إِلَى أُولِي الْأَمْرِ﴾:
أ. قيل: هم أمراء السرايا.
ب. وقيل: هم العلماء الفقهاء.
ج. وقيل: ﴿أُولِي الْأَمْرِ﴾ ـ هاهنا ـ مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان.
د. وقيل: ﴿أُولِي الْأَمْرِ﴾ ولاة الأمر الذين يستنبطونه.
3. ﴿الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، الذين يطلبون علمه بقوله.
4. ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ أي: يستخرجونه من كتاب اللَّه تعالى.
5. والذين أذاعوا به: قوم إما منافقون وإما مؤمنون، على ما ذكرنا، إنما هو: أذاعوا به إلا قليلا منهم ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ الآية على قول بعض.
6. قوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ اختلف فيه:
أ. قيل: ﴿فَضْلِ اللَّهِ﴾: رسولنا، مُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ورحمته: القرآن؛ تأويله: لولا مُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن لاتبعوا الشيطان إلا قليلا منهم لم يتبعوه، ولكن آمنوا بالعقل.
ب. وقيل: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ في الأمر والنهي عن الإذاعة والإفشاء، وإلا لأذاعوه واتبعوا الشيطان في إذاعتهم به.
7. ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ منهم فإنهم لا يذيعون به:
أ. عن الضحاك قال: هم أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان إلا طائفة منهم لم يحدثوا بها أنفسهم.
ب. وقال آخرون: هم المنافقون، كانوا إذا بلغهم أن اللَّه تعالى أظهر المسلمين على المشركين وفتح عليهم ـ صغروه وحقروه، وإذا بلغهم أن المسلمين نُكِبُوا نكبة ـ شنعوه وعظموه.
ج. وعن ابن عَبَّاسٍ: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ يقول: لعلموا الأمر الذي يريدون، والخبر كله، ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ يقول: لم يخف عليهم إلا قليلا من ذلك الأمر؛ ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ﴾ الآية.
د. وعن الحسن قال: هم الذين استثنى اللَّه عز وجل حين قال إبليس ـ لعنه اللَّه ـ ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾، وحيث قال: ﴿وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾
هـ. وقال غيرهم ما ذكرنا على التقديم والتأخير: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا منهم، واللَّه أعلم بذلك.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٢٧٦
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ أي أظهروه ونشروه، والذائع: هو الأمر المنشور الظاهر الشايع.
2. معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، هذا يرجع إلى قوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾، ثم أدخل خبراً آخر فقال: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾، ثم رجع إلى ذكر القرآن وما يتوهم فيه الملحدون من الاختلاف والنقصان، جهلاً بعجائب حكمة الواحد الرحمن، فقال: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾، يعني بقوله أولي الأمر: أمير المؤمنين، وذريته من الأئمة الطاهرين، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.. يريد عز وجل أنهم لو ردوا علم التأويل والتفسير إلى أهل هذا البيت الذين اصطفاهم الله، وجعلهم أولى بالأمر من غيرهم.
3. ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، أي لعلم تأويله الذين يستخرجونه.. والاستنباط: هو الكشف والبحث والاستخراج لبواطن الأمور، بحسن النظر وثبات العقول ولطف التدبير، الذي هو بأسباب الله اللطيف الخبير.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/246.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ المراد به المنافقون وضعفة المسلمين ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ وأولوا الأمر هم الأئمة من عترة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم القائمون مقامه الحاكمون بأحكامه.
2. ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ أي من الأئمة ومعنى يستنبطونه أي يستخرجونه مأخوذ من من استنباط الماء ومنه سمي النبط لاستنباطهم العيون.
3. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ في فضل الله ورحمته ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته الذين افترضت طاعتهم.
ب. الثاني: القرآن.
ج. الثالث: اللطف ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/188.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:(1):
1. في المعني بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: المنافقون، وهو قول ابن زيد والضحاك.
ب. والثاني: أنهم ضعفة المسلمين، وهو قول الحسن، والزجاج.
2. في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنهم الأمراء، وهذا قول ابن زيد، والسدي.
ب. والثاني: هم أمراء السرايا.
ج. والثالث: هم أهل العلم والفقه، وهذا قول الحسن، وقتادة، وابن جريج، وابن نجيح، والزجاج.
3. في قوله تعالى: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم أولو الأمر.
ب. والثاني: أنهم المنافقون أو ضعفة المسلمين المقصودون بأول الآية.
4. معنى يستنبطونه: أي يستخرجونه، مأخوذ من استنباط الماء، ومنه سُمِّي النبط لاستنباطهم العيون.
5. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ في فضل الله ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. والثاني: القرآن. والثالث: اللطف والتوفيق.
6. في قوله تعالى: ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أربعة أقاويل:
أ. أحدها: يعني لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم فإنه لم يكن يتبع الشيطان.
ب. الثاني: لعلمه الذين يستنبطون إلا قليلاً منكم وهذا قول الحسن وقتادة.
ج. الثالث: أذاعوا به إلا قليلاً، وهذا قول ابن عباس، وابن زيد.
د. الرابع: لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً مع الاتباع.
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥١٢)
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخبر اللَّه تعالى عن المنافقين، الذين تقدم وصفهم بأنهم إذا جاءهم ﴿أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ وهو ما كان يرجف به من الاخبار في المدينة: اما من قبل عدو يقصدهم أو يظهر المؤمنين على عدوهم، أو هلاك بعض أعدائهم وهو الامن، والاول: الخوف.
2. ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾، وتحدثوا به من غير أن يعلموا صحته، فكره تعالى ذلك، لأن من فعل هذا لا يخلو كلامه من الكذب. ولما يدخل على المؤمنين به من الخوف، ومعنى أذاعوا به: أعلنوه، وأفشوه في قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، وابن جريج وأصله اشاعة الخبر في الجماعة، يقال: اذاعه اذاعة وأذاعوا به قال الشاعر:
çأذاع به في الناس حتى كأنه...بعلياء نار أو قدت بثقوبé
وأصله الاذاعة التفريق، قال تبع: لما ورد المدينة:
çولقد شربت على براجم شربة...كادت بباقية الحياة تذيعé
أي تفرق، وبراجم: ماء بالمدينة كان يشرب منه، فنشبت بحلقه علقة، وذاع الخبر ذيعاً، ورجل مذياع: لا يستطيع كتمان خبر، وأذاع الناس بما في الحوض: إذا شربوه، وكذلك أذاعوا بالمتاع: إذا ذهبوا به، واذاعة السر: إظهاره، والاذاعة، والاشاعة، والإفشاء، والإعلان، والاظهار، نظائر وضده الكتمان، والاسرار، والإخفاء.
3. ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ﴾ بمعنى لو ردوه إلى سنته ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾:
أ. قال أبو جعفر عليه السلام: هم الأئمة المعصومون.. وهو أقوى، فأنه تعالى بين أنهم متى ردوه إلى أولي العلم علموه، والرد إلى من ليس بمعصوم، لا يوجب العلم لجواز الخطأ عليه بلا خلاف سواء كانوا أمراء السرايا، أو العلماء.
ب. وقال ابن زيد، والسدي، وأبو علي: هم أمراء السرايا، والولاة وكانوا يسمعون باخبار السرايا ولا يتحققونه فيشيعونه ولا يسألون أولي الامر.
ج. وقال الحسن، وقتادة، وابن جريج، وابن أبي نجيح، والزجاج: هم أهل العلم، والفقه الملازمين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنهم لو سألوهم عن حقيقة ما أرجفوا به، لعلموا به، قال الجبائي: هذا لا يجوز، لأن أولي الامر من لهم الامر على الناس بولاية.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾:
أ. قال ابن عباس، وأبو العالية: معناه يتحسسونه.
ب. وقال الزجاج: يستخرجونه.
5. الاستنباط: الاستخراج، والاستدلال، والاستعلام، ونظائر، وأصل الاستنباط الاستخراج، يقال لكل ما استخرج حتى تقع عليه رؤية العين، أو معرفة القلب: قد استنبط، والنبط الماء الذي يخرج من البئر أول ما يحفر، وانبط فلان أي استنبط الماء من طين حر، ومنه اشتقاق النبط، لاستنباطهم العيون.
6. الضمير في قوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ يحتمل أن يعود إلى أحد أمرين:
أ. أحدهما ـ وهو الأظهر انه عائد إلى أولي الامر.
ب. والآخر ـ إلى الفرقة المذكورة من المنافقين، أو الضعفة.
7. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ معناه لو لا اتصال مواد الالطاف من جهة اللَّه، ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ وقيل فيما وقع الاستثناء منه أربعة أقوال:
أ. أحدها ـ ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ منكم، فانه لم يكن يتبع الشيطان، ويكون الفضل هاهنا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والقرآن ـ في قول الضحاك ـ، وهو اختيار الجبائي.
ب. الثاني ـ لاتبعتم الشيطان إلا قليلا من الاتباع. ويكون الفضل على جملة اللطف، لأن ذلك لم يكن يزكوا به أحد منهم.
ج. الثالث ـ قال الحسن، وقتادة. وذكره الفراء، لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا.
د. الرابع ـ قال ابن عباس، وابن زيد: أذاعوا به إلا قليلا وهو اختيار الكسائي والفراء والمبرد والبلخي والطبري. وتقديره يستنبطونه منهم إلا قليلا.
هـ. قال المبرد: لأن العلم بالاستنباط في الناس أقل. وليس كذلك الاذاعة. وغلط الزجاج النحويين في ذلك. وقال: كل هذه الأقوال جائزة.
و. وقال قوم حكاه الطبري: ان مخرجه الاستثناء، وهو دليل الجمع، والاحاطة، والمعنى انه لو لا فضل اللَّه لم ينج أحد من الضلالة، فجعل قوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ دليل على الاحاطة كما قال الطرماح يمدح بزيد بن المهلب:
çقليل المثالب والقادحة...والمعنى انه لا مثالبé
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/273
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الإذاعة والإشاعة والإفشاء والإعلان نظائر، ونقيضها الكتمان والإسرار والإخفاء، أذاع إذاعة، وذاع الخبر ذيعًا، ورجل مذياع لا يستطيع كتمان خبر، وإذاعة السر إظهاره.
ب. الاستنباط: الاستخراج، يقال لكل ما استخرج حتى تقع عليه رؤية العين أو معرفة القلب: قد استنبط، والنبط الماء الذي يخرج من البئر أول ما يحفر، ومنه:
çإذا قال قولاً أنبط... الماء في الثرىé
ويقال: أنبط الماء استنبط، ومنه سمي النّبطَ قومٌ لاستنباطهم العيون.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي عن عمر بن الخطاب أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما اعتزل نساءه دخلتُ المسجد، فإذا الناس يقولون: طلق رسول الله نساءه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: لم أطلقهن، فقلت: يا نبي الله إنهم قد أذاعوا أنك طلقتهن، أفأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: لو شئت فعلت، فقمت على باب المسجد، فقلت: ألا إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يطلق نساءه، فأنزل الله تعالى في شأنهم وشأني ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ قال عمر: وأنا الذي استنبطت منه قوله.
ب. وروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يبعث السرايا فإذا غلبوا أو غلبوا بادر المنافقون بالاستخبار عن حال السرايا فيفشونه، ويتحدثون به قبل أن يتحدث به رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
ج. وروى جويبر عن ابن عباس أنها في المنافقين كانوا إذا أمروا بالقتال لم يطيعوا، وإذا نهاهم عن محاربة لم ينتهوا، وإن أفضى الرسول إليهم سرًا أذاعوه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
3. عاد الكلام إلى ذكر المنافقين وقد تقدم ذكرهم وبيان حالهم، فقال سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ﴾ أتاهم:
أ. يعني الطائفة المنافقة.
ب. وقيل: الضعفة.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾:
أ. قيل: من الغنيمة والفتح، أو الهزيمة والقتل.
ب. وقيل: إذا جاءهم أراجيف بقصد عدو أتاهم، أو ظفر المؤمنين عليهم، فقيل: هو ما يخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ووعده ووعيده، وما ينزل عليه من الوحي يبلغون الأعداء ليتحرزوا.
5. ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ أي أعلنوه وأظهروه، يعني هَؤُلَاءِ المنافقين أو الضعفة من غير علم منهم بالضرر ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾:
أ. قيل: يعني لو ردوا ذلك الأمر إلى الرسول.
ب. وقيل: لو وكلوا الأمر إليه.
ج. وقيل: لو أظهروا له الخبر واتكلوا على رأيه.
6. ﴿إِلَى الرَّسُولِ﴾ يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾:
أ. قيل: الولاة عن السدي وابن زيد وابن جريج وأبي علي.
ب. وقيل: أمراء السرايا.
ج. وقيل: أهل العلم والفقه عن الحسن وقتادة وابن جريج والزجاج وهو اختيار القاضي، وأنكر أبو علي هذا الوجه، وقال: أولو الأمر مَن له أمر على الناس.
د. وقيل: ذوو الرأي من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
7. ﴿لَعَلِمَهُ﴾ يعني لعلم حقيقة ذلك، الخبر ﴿الَّذِينَ يَسْتَتْبِطُونَهُ مِنهُمْ﴾:
أ. قيل: يتحسسونه عن ابن عباس وأبي العالية.
ب. وقيل: يستخرجونه عن الزجاج وأبي عبيدة والقتبي.
ج. وقيل: يتبعونه عن الضحاك.
د. وقيل: يسألون عنه عن عكرمة، فاستنباطهم: سؤالهم الرسول عنه.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ﴾:
أ. قيل: الفرقة المنافقة.
ب. وقيل: الضعفة.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾:
أ. قيل: النبي والقرآن.
ب. وقيل: ألطافه وهدايته.
ج. وقيل: فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن عن ابن عباس.
د. وقيل: فضله ورحمته نصرته في الوقت بعد الوقت عن أبي مسلم.
10. هذا خطاب للمؤمنين، فكأنه لما حكى من أحوال المنافقين ما حكى قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لأنه جري ذكرهم عند قوله: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ وغيره من المواضع.
11. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ كما فعل هَؤُلَاءِ المنافقون فبفضله ولطفه أنجاكم مما فيه هَؤُلَاءِ ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾:
أ. قيل: الاستثناء مما يليه أي لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم، فإنهم لمِ يكونوا تبعا، عن الضحاك وأبي علي والقاضي.
ب. وقيل: لاتبعتم الشيطان إلا قليلاَ من الاتباع.
ج. وقيل: لعلمه الَّذِينَ يستنبطونه منهم إلا قليلاً لم يعلموه عن الحسن وقتادة.
د. وقيل: لعلمه إلا قليلاً من العلم لم يدركه.
هـ. وقيل: أذاعوا به إلا قليلاً لم يذع، عن ابن عباس وابن زيد والأصم والكسائي والفراء.
و. وقيل: أذاعوا إلا قليلاً من الإذاعة، فقيل: يستنبطونه منهم إلا قليلاً، قال أبو العباس: لأن العلم بالاستنباط في الناس أقل، وليس كذلك الإذاعة، واختلف المفسرون في المستثنى وهو القليل مَن هم فقيل: المؤمنون.
ز. وقيل: الطائفة الَّذِينَ قالوا على ما حكى الله عنهم ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾
ح. وقيل: هم قوم لم يهموا بما هَمَّ به الآخرون.
12. تدل الآية الكريمة على:
أ. وجوب كتمان ما يضر إظهاره بالمسلمين وقبح إذاعته.
ب. أن الخبر إذا لم يعلم صحته يجب أن يُتفحص عنه، وإيراده على أهله ليعلم، وكذلك إذاعته يجب أن تورد عليه ليتبين ما يجوز أن يدفع وما لا يجوز.
ج. وجوب الرجوع إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في عصره وإلى سنته بعده.
د. وجوب الرجوع إلى العلماء في الفتيا.
هـ. صحة الاجتهاد والقياس؛ لأنه استنباط المعنى على الأصول بالتدبر والنظر.
و. أنه تعالى يلطف بعباده في ترك اتباع الشيطان، ولولا لطفه لوقع الاتباع.
ز. أن اللطف من باب الفضل والرحمة، وأنه نعمة على العبد، وإن وجب عليه تعالى من حيث كلف، والتكليف نعمة، والتمكين نعمة، والهداية نعمة، واللطف نعمة.
13. مسائل لغوية ونحوية:
أ. الضمير في قوله: ﴿جَاءَهُمْ﴾ يعود على الطائفة في قوله: ﴿بَيَّتَ طَائِفَةٌ﴾ على أنها من صفات المنافقين عن ابن زيد والضحاك وأبي علي وأبي القاسم، وقيل: على ضَعَفَةِ المسلمين عن الحسن والزجاج.
ب. الضمير في قوله: ﴿لَعَلِمَهُ﴾ فيه قولان: قيل: يعود على أولي الأمر، وقيل: على الفرقة المذكورة من المنافقين أو الضعفة، فالهاء في ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ و﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ يعود على الأمر، والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ يعود إلى قوله: ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ وقيل: يعود على قوله: ﴿لَعَلِمَهُ﴾ وقيل: يعود على قوله: ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ وأجاز الزجاج الوجوه كلها، والأقرب الأول؛ لأنه إذا لم يرجع إلى جميع ما تقدم فالذي يليه وأقرب إليه أولى.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/723
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عاد الله تعالى إلى ذكر حالتهم فقال: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ﴾:
أ. يعني هؤلاء الذين سبق ذكرهم من المنافقين.
ب. وقيل: هم الذين ذكرهم من ضعفة المسلمين.
2. ﴿أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ يريد ما كان يرجف به من الاخبار في المدينة: إما من قبل عدو يقصدهم، وهو الخوف، أو من ظهور المؤمنين على عدوهم، وهو الأمن ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾: أي تحدثوا به، وأفشوه من غير أن يعلموا صحته، كره الله ذلك، لان من فعل هذا، فلا يخلو كلامه من كذب، ولما يدخل على المؤمنين به من الخوف.
3. ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ﴾ ولو سكتوا إلى أن يظهره الرسول ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾:
أ. قال أبو جعفر عليه السلام: هم الأئمة المعصومون.
ب. وقال السدي، وابن زيد، وأبو علي، والجبائي: هم أمراء السرايا والولاة.
ج. وقال الحسن، وقتادة، وغيرهم: إنهم أهل العلم والفقه، الملازمون للنبي، لأنهم لو سألوه عن حقيقة ما أرجفوا به، لعلموه، واختاره الزجاج، وأنكر أبو علي الجبائي هذا الوجه، وقال: إنما يطلق أولو الامر على من له الامر على الناس.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾:
أ. قيل: أي لعلم ذلك الخبر الذين يستخرجونه، عن الزجاج.
ب. وقيل: يتحسسونه، عن ابن عباس، وأبي العالية.
ج. وقيل: يبتغونه ويطلبون علم ذلك، عن الضحاك.
د. وقيل: يسألون عنه، عن عكرمة.
هـ. قال: استنباطهم: سؤالهم الرسول عنه.
و. وجميع هذه الأقوال متقاربة المعنى.
5. اختلف في الضمير في ﴿مِنْهُمْ﴾:
أ. قيل: يعود إلى ﴿أُولِي الْأَمْرِ﴾ وهو الأظهر.
ب. وقيل: يعود إلى الفرقة المذكورة من المنافقين، أو الضعفة.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾:
أ. قيل: أي لولا إيصال مواد الألطاف من جهة الله.
ب. وقيل: فضل الله: الاسلام، ورحمته: القرآن، عن ابن عباس.
ج. وقيل: فضل الله: النبي، ورحمته: القرآن، عن الضحاك، والسدي، وهو اختيار الجبائي.
د. وروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام: فضل الله ورحمته، النبي وعلي.
7. في قوله تعالى: ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أقوال:
أ. أحدها: إن في الكلام تقديما وتأخيرا، والاستثناء من قوله: ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾، عن ابن عباس، فيكون معناه: أذاعوا به إلا قليلا، وهو اختيار المبرد، والكسائي، والفراء، والبلخي، والطبري، قالوا: وهذا أولى لان الإذاعة أكثر من الاستنباط.
ب. وثانيها: إن الاستثناء من قوله: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ إلا قليلا ويكون تقديره ولو ردوه إلى الرسول، وإلى أولي الامر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلا، عن أكثر أهل اللغة.
ج. وثالثها: إن المراد ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ منكم على الظاهر، من غير تقديم ولا تأخير، وهذا كما اتبع الشيطان من كان قبل بعثة النبي، إلا قليلا منهم لم يتبعوه، واهتدوا بعقولهم، لترك عبادة الأوثان، بغير رسول، ولا كتاب، وآمنوا بالله ووحدوه، مثل قس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، والبراء الشني، وأبي ذر الغفاري، وطلاب الدين، وبه قال الأنباري.
د. ورابعها: إن معناه: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بالنصرة والفتح، مرة بعد أخرى.
8. ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ فيما يلقي إليكم من الوساوس والخواطر الفاسدة المؤدية إلى الجبن، والفشل، الموجبة لضعف النية والبصيرة، إلا قليلا من أفاضل أصحاب رسول الله، الذين هم أهل البصائر النافذة، والعزائم الثابتة، والنيات الخالصة، لا ييأسون من رحمة الله، ولا يشكون في نصرته، وإنجاز وعده، وإن أبطأ بعض الإبطاء.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/125.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لما اعتزل نساءه، دخل عمر المسجد، فسمع الناس يقولون: طلّق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نساءه، فدخل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فسأله: أطلّقت نساءك؟ قال: (لا)، فخرج فنادى: ألا إنّ رسول الله لم يطلّق نساءه، فنزلت هذه الآية، فكان هو الذي استنبط الأمر، انفرد بإخراجه مسلم، من حديث ابن عباس، عن عمر.
ب. الثاني: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا بعث سريّة من السّرايا فغلبت أو غلبت، تحدّثوا بذلك، وأفشوه، ولم يصبروا حتى يكون النبيّ هو المتحدّث به، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
2. في المشار إليهم بهذه الآية قولان:
أ. أحدهما: أنهم المنافقون، قاله ابن عباس، والجمهور.
ب. الثاني: أهل النّفاق، وضعفة المسلمين، ذكره الزجّاج.
3. في المراد بالأمن أربعة أقوال:
أ. أحدها: فوز السّريّة بالظّفر والغنيمة، وهو قول الأكثرين.
ب. الثاني: أنه الخبر يأتي إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه ظاهر على قوم، فيأمن منهم، قاله الزجّاج.
ج. الثالث: أنه ما يعزم عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الموادعة والأمان لقوم، ذكره الماورديّ.
د. الرابع: أنه الأمن يأتي من المأمن وهو المدينة، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ مخرّجا من حديث عمر.
4. في ﴿الْخَوْفُ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه النّكبة التي تصيب السّريّة، ذكره جماعة من المفسّرين.
ب. الثاني: أنه الخبر يأتي أنّ قوما يجمعون للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيخاف منهم، قاله الزجّاج.
ج. الثالث: ما يعزم عليه النبيّ من الحرب والقتال، ذكره الماورديّ.
5. ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ قال ابن قتيبة: أشاعوه، وقال ابن جرير: والهاء عائدة على الأمر، قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾ يعني: الأمر ﴿إِلَى الرَّسُولِ﴾ حتى يكون هو المخبر به.
6. في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنهم مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: أنهم أبو بكر، وعمر، قاله عكرمة.
ج. الثالث: العلماء، قاله الحسن، وقتادة، وابن جريج.
د. الرابع: أمراء السّرايا، قاله ابن زيد، ومقاتل.
7. في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم الذين يتتبّعونه من المذيعين له، قاله مجاهد.
ب. الثاني: أنّهم أولو الأمر، قاله ابن زيد.
8. الاستنباط: في اللغة: الاستخراج، قال الزجّاج: أصله من النّبط، وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر، يقال من ذلك: قد أنبط فلان في غضراء، أي: استنبط الماء من طين حرّ، والنّبط: سمّوا نبطا، لاستنباطهم ما يخرج من الأرض.
9. قال ابن جرير: ومعنى الآية: وإذا جاءهم خبر عن سريّة للمسلمين بخير أو بشر أفشوه، ولو سكتوا حتى يكون الرسول وذوو الأمر يتولّون الخبر عن ذلك، فيصحّحوه إن كان صحيحا، أو يبطلوه إن كان باطلا، لعلم حقيقة ذلك من يبحث عنه من أولي الأمر.
10. في المراد بالفضل في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه رسول الله.
ب. الثاني: الإسلام.
ج. الثالث: القرآن.
د. الرابع: أولو الأمر.
11. في الرّحمة أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنها الوحي.
ب. الثاني: اللّطف.
ج. الثالث: النّعمة.
د. الرابع: التّوفيق.
12. في معنى الاستثناء في قوله تعالى: ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه راجع إلى الإذاعة، فتقديره: أذاعوا به إلا قليلا، وهذا قول ابن عباس وابن زيد، واختاره القرّاء وابن جرير.
ب. الثاني: أنه راجع إلى المستنبطين، فتقديره: لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا، وهذا قول الحسن وقتادة، واختاره ابن قتيبة، فعلى هذين القولين في الآية تقديم وتأخير.
ج. الثالث: أنه راجع إلى اتّباع الشّيطان، فتقديره: لاتّبعتم الشيطان إلا قليلا منكم، وهذا قول الضّحّاك، واختاره الزجّاج، وقال بعض العلماء: المعنى: لو لا فضل الله بإرسال النبيّ إليكم، لضللتم إلا قليلا منكم كانوا يستدركون بعقولهم معرفة الله، ويعرفون ضلال من يعبد غيره، كقسّ بن ساعدة.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/439
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. حكى الله تعالى عن المنافقين في هذه الآية نوعا آخر من الأعمال الفاسدة، وهو أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف أذاعوه وأفشوه، وكان ذلك سبب الضرر من وجوه:
أ. الأول: أن مثل هذه الارجافات لا تنفك عن الكذب الكثير.
ب. الثاني: أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة، فإذا لم توجد تلك الزيادات أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن المنافقين كانوا يروون تلك الارجافات عن الرسول، وإن كان ذلك في جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب، فكانت تلك الارجافات سببا للفتنة من هذا الوجه.
ج. الثالث: وهو أن الإرجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام، وذلك سبب لظهور الأسرار، وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة.
د. الرابع: أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين وبين الكفار، وكان كل واحد من الفريقين في إعداد آلات الحرب وفي انتهاز الفرصة فيه، فكل ما كان آمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني، فان وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم أرجف المنافقون بذلك فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار، فأخذوا في التحصن من المسلمين، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم، وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك، وزادوا فيه وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين، فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشأ للفتن والآفات من كل الوجوه، ولما كان الأمر كذلك ذم اللَّه تلك الإذاعة وذلك التشهير، ومنعهم منه.
2. في قوله تعالى: ﴿أُولِي الْأَمْرِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إلى ذوي العلم والرأي منهم.
ب. الثاني: إلى أمراء السرايا، وهؤلاء رجحوا هذا القول على الأول، قالوا لأن أولي الأمر الذين لهم أمر على الناس، وأهل العلم ليسوا كذلك، إنما الأمراء هم الموصوفون بأن لهم أمرا على الناس، وأجيب عنه: بأن العلماء إذا كانوا عالمين بأوامر اللَّه ونواهيه، وكان يجب على غيرهم قبول قولهم لم يبعد أن يسموا أولي الأمر من هذا الوجه، والذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122] فأوجب الحذر بانذارهم وألزم المنذرين قبول قولهم، فجاز لهذا المعنى إطلاق اسم أولي الأمر عليهم.
3. الاستنباط في اللغة الاستخراج؛ يقال: استنبط الفقيه إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمه، وأصله من النبط وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر، والنبط إنما سموا نبطا لا لاستنباطهم الماء من الأرض.
4. في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ قولان:
أ. الأول: أنهم هم أولئك المنافقون المذيعون، والتقدير: ولو أن هؤلاء المنافقين المذيعين ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولي الأمر، وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، وهم هؤلاء المنافقون المذيعون منهم، أي من جانب الرسول ومن جانب أولي الأمر.
ب. الثاني: أنهم طائفة من أولي الأمر، والتقدير: ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر، وذلك لأن أولي الأمر فريقان، بعضهم من يكون مستنبطا، وبعضهم من لا يكون كذلك، فقوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر.
5. سؤال وإشكال: إذا كان الذين أمرهم اللَّه برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله: ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾؟ والجواب: إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر، لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: 72] وقوله: ﴿مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 66]
6. دلت هذه الآية على أن القياس حجة في الشرع، وذلك لأن قوله: ﴿الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ صفة لأولي الأمر، وقد أوجب اللَّه تعالى على الذين يجيئهم أمر من الأمن أو الخوف أن يرجعوا في معرفته إليهم، ولا يخلو إما أن يرجعوا إليهم في معرفة هذه الوقائع مع حصول النص فيها، أو لا مع حصول النص فيها، والأول باطل، لأن على هذا التقدير لا يبقى الاستنباط لأن من روى النص في واقعة لا يقال: إنه استنبط الحكم، فثبت أن اللَّه أمر المكلف برد الواقعة إلى من يستنبط الحكم فيها، ولولا أن الاستنباط حجة لما أمر المكلف بذلك، فثبت أن الاستنباط حجة، والقياس إما استنباط أو داخل فيه، فوجب أن يكون حجة.
7. الآية الكريمة دالة على أمور:
أ. أحدها: أن في أحكام الحوادث ما لا يعرف بالنص بل بالاستنباط.
ب. ثانيها: أن الاستنباط حجة.
ج. ثالثها: أن العامي يجب عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث.
د. رابعها: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مكلفا باستنباط الأحكام لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر.
8. ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ لم يخصص أولي الأمر بذلك دون الرسول وذلك يوجب أن الرسول وأولي الأمر كلهم مكلفون بالاستنباط.
9. سؤال وإشكال: لا نسلم أن المراد بقوله: ﴿الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ هم أولوا الأمر، بل المراد منهم المنافقون المذيعون على ما رويتم هذا القول في تفسير الآية، سلمنا أن المراد بالذين يستنبطونه منهم أولو الأمر لكن هذه الآية إنما نزلت في شأن الوقائع المتعلقة بالحروب والجهاد، فهب أن الرجوع إلى الاستنباط جائز فيها، فلم قلتم إنه يلزم جوازه في الوقائع الشرعية؟ فان قيس أحد البابين على الآخر كان ذلك إثباتا للقياس الشرعي بالقياس الشرعي وإنه لا يجوز، سلمنا أن الاستنباط في الأحكام الشرعية داخل تحت الآية فلم قلتم: إنه يلزم أن يكون القياس حجة؟ بيانه أنه يمكن أن يكون المراد من الاستنباط استخراج الأحكام من النصوص الخفية أو من تركيبات النصوص، أو المراد من استخراج الأحكام من البراءة الاصلية، أو مما ثبت بحكم العقل كما يقول الأكثرون: ان الأصل في المنافع الاباحة، وفي المضار الحرمة، سلمنا أن القياس من الشرعي داخل في الآية، لكن بشرط أن يكون ذلك القياس مفيدا للعلم بدليل قوله تعالى: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ فأخبر تعالى في هذه الآية أنه يحصل العلم من هذا الاستنباط، ولا نزاع في مثل هذا القياس، انما النزاع في أن القياس الذي يفيد الظن هل هو حجة في الشرع أم لا؟
10. الجواب:
أ. أما في السؤال الأول، فمدفوع لأنه لو كان المراد بالذين يستنبطونه المنافقين لكان الأولى أن يقال: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلموه، لأن عطف المظهر على المضمر، وهو قوله: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾ قبيح مستكره.
ب. أما السؤال الثاني، فمدفوع لوجهين:
• الأول: أن قوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ عام في كل ما يتعلق بالحروب وفيما يتعلق بسائر الوقائع الشرعية، لأن الأمن والخوف حاصل في كل ما يتعلق بباب التكليف، فثبت انه ليس في الآية ما يوجب تخصيصها بأمر الحروب.
• الثاني: هب أن الأمر كما ذكرتم لكن تعرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي، ولما ثبت جوازه وجب أن يجوز التمسك بالقياس الشرعي في سائر الوقائع لأنه لا قائل بالفرق، ألا ترى أن من قال: القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت اليه، فكذا هاهنا.
ج. أما السؤال الثالث: وهو حمل الاستنباط: على النصوص الخفية أو على تركيبات النصوص فجوابه: أن كل ذلك لا يخرج عن كونه منصوصا، والتمسك بالنص لا يسمى استنباطا، قوله: لم لا يجوز حمله على التمسك بالبراءة الاصلية؟ قلنا ليس هذا استنباطا بل هو إبقاء لما كان على ما كان، ومثل هذا لا يسمى استنباطا ألبتة.
د. أما السؤال الرابع: وهو قوله ان هذا الاستنباط إنما يجوز عند حصول العلم، والقياس الشرعي لا يفيد العلم، فالجواب عنه من وجهين:
أ. الأول: ان القياس الشرعي عندنا يفيد العلم، وذلك لا ن بعد ثبوت أن القياس حجة نقطع بانه مهما غلب على الظن أن حكم اللَّه في الأصل معلل بكذا، ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع، فههنا يحصل ظن أن حكم اللَّه في الفرع مساو لحكمه في الأصل، وعند هذا الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن، فالحاصل أن الظن واقع في طريق الحكم، وأما الحكم فمقطوع به، وهو يجري مجرى ما إذا قال اللَّه: مهما غلب على ظنك كذا فاعلم ان في الواقعة الفلانية حكمي كذا فإذا حصل الظن قطعنا بثبوت ذلك الحكم.
ب. الثاني: وهو ان العلم قد يطلق ويراد به الظن، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا علمت مثل الشمس فاشهد)، شرط العلم في جواز الشهادة، وأجمعنا على أن عند الظن تجوز الشهادة، فثبت أن الظن قد يسمى بالعلم.
11. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ظاهر هذا الاستنثاء يوهم أن ذلك القليل وقع لا بفضل اللَّه ولا برحمته ومعلوم ان ذلك محال، فعند هذا اختلف المفسرون وذكروا وجوها:
أ. قال بعضهم: هذا الاستثناء راجع إلى قوله: ﴿أَذَاعُوا﴾
ب. وقال قوم: راجع إلى قوله: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾
ج. وقال آخرون: إنه راجع إلى قوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾
12. الوجوه لا يمكن أن تزيد على هذه الثلاثة لأن الآية متضمنة للاخبار عن هذه الأحكام الثلاثة، ويصح صرف الاستثناء إلى كل واحد منها، فثبت أن كل واحد من هذه الأقوال محتمل:
أ. أما القول الأول: فالتقدير: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا، فأخرج تعالى بعض المنافقين عن هذه الإذاعة كما أخرجهم في قوله: ﴿بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾ [النساء: 81]
ب. والقول الثاني: الاستثناء عائد إلى قوله: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا القليل: قال الفراء والمبرد: القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه، والأكثر يجهله، وصرف الاستثناء إلى ما ذكره يقتضي ضد ذلك، قال الزجاج: هذا غلط لأنه ليس المراد من هذا الاستثناء شيئا يستخرجه بنظر دقيق وفكر غامض، إنما هو استنباط خبر، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه، إنما البالغ في البلادة والجهالة هو الذي لا يعرفه ويمكن أن يقال: كلام الزجاج إنما يصح لو حملنا الاستنباط على مجرد تعرف الاخبار والأراجيف، أما إذا حملناه على الاستنباط في جميع الأحكام كما صححنا ذلك بالدليل كان الحق كما ذكره الفراء والمبرد.
ج. القول الثالث: انه متعلق بقوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ ومعلوم أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه، وهذا القول لا يتمشى الا إذا فسرنا الفضل والرحمة بشيء خاص، وفيه وجهان:
• الأول: وهو قول جماعة من المفسرين، أن المراد بفضل اللَّه وبرحمته في هذه الآية إنزال القرآن وبعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتقدير: ولو لا بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنزال القرآن لا تبعتم الشيطان وكفرتم باللَّه الا قليلا منكم، فان ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعدم إنزال القرآن ما كان يتبع الشيطان، وما كان يكفر باللَّه، وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وهم الذين كانوا مؤمنين باللَّه قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
• الثاني: ما ذكره أبو مسلم، وهو أن المراد بفضل اللَّه وبرحمته في هذه الآية هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم: ﴿فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 73] فبين تعالى أنه لولا حصول النصر والظفر على سبيل التتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين الا القليل منكم، وهم أهل البصائر الناقدة والنيات القوية والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا، فلأجل تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا، ولأجل تواتر الانهزام والانكسار يدل على كونه باطلا، بل الأمر في كونه حقا وباطلا على الدليل، وهذا أصح الوجوه وأقربها إلى التحقيق.
13. دلت الآية على أن الذين اتبعوا الشيطان فقد منعهم اللَّه فضله ورحمته، والا ما كان يتبع، وهذا يدل على فساد قول المعتزلة في أنه يجب على اللَّه رعاية الأصلح في الدين، وأجاب الكعبي عنه بأن فضل اللَّه ورحمته عامان في حق الكل، لكن المؤمنين انتفعوا به، والكافرين لم ينتفعوا به، فصح على سبيل المجاز أنه لم يحصل للكافر من اللَّه فضل ورحمة في الدين، والجواب: أن حمل اللفظ على المجاز خلاف الأصل.
__________
(1) التفسير الكبير: 10/154
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ﴾ في ﴿إِذَا﴾ معنى الشرط ولا يجازى بها وإن زيدت عليها ﴿مَا﴾ وهي قليلة الاستعمال، قال سيبويه، والجيد ما قال كعب بن زهير:
çوإذا ما تشاء تبعث منها...مغرب الشمس ناشطا مذعوراé
يعني أن الجيد لا يجزم بإذا ما كما لم يجزم في هذا البيت، وقد تقدم في أول البقرة، والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم.
2. ﴿أَوِ الْخَوْفِ﴾ وهو ضد هذا ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ أي أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته، فقيل: كان هذا من ضعفة المسلمين، عن الحسن، لأنهم كانوا يفشون أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويظنون أنهم لا شي عليهم في ذلك، وقال الضحاك وابن زيد: هو في المنافقين فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف.
3. ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي يحدث به ويفشيه، أو أولو الأمر: وهم أهل العلم والفقه، عن الحسن وقتادة وغيرهما، السدي وابن زيد: الولاة، وقيل: أمراء السرايا.
4. ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ أي يستخرجونه، أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه وما ينبغي أن يكتم، والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته، والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر، وسمي النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما في الأرض، والاستنباط في اللغة الاستخراج، وهو يدل على الاجتهاد إذا عدم النص والإجماع كما تقدم.
5. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ رفع بالابتداء عند سيبويه، ولا يجوز أن يظهر الخبر عنده، والكوفيون يقولون: رفع بلولا، ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ في هذه الآية ثلاثة أقوال، قال ابن عباس وغيره: المعنى أذاعوا به إلا قليلا منهم لم يذع ولم يفش، وقاله جماعة من النحويين: الكسائي والأخفش وأبو عبيد وأبو حاتم والطبري، وقيل: المعنى لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم، عن الحسن وغيره، واختاره الزجاج قال: لأن هذا الاستنباط الأكثر يعرفه، لأنه استعلام خبر، واختار الأول الفراء قال: لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة تكون في بعض دون بعض، قال الكلبي عنه: فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة، قال النحاس: فهذان قولان على المجاز، يريد أن في الكلام تقديما وتأخيرا، وقول ثالث بغير مجاز: يكون المعنى ولولا فضل الله عليكم ورحمته بأن بعث فيكم رسولا أقام فيكم الحجة لكفرتم وأشركتم إلا قليلا منكم فإنه كان يوحد، وفيه قول رابع ـ قال الضحاك: المعنى لاتبعتم الشيطان إلا قليلا، أي إن أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حدثوا أنفسهم بأمر من الشيطان إلا قليلا، يعني الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، وعلى هذا القول يكون قوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ مستثنى من قوله: ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾، قال المهدوي: وأنكر هذا القول أكثر العلماء، إذ لولا فضل الله ورحمته لاتبع الناس كلهم الشيطان.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/291.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أذاع الشيء وأذاع به: إذا أفشاه وأظهره، وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئا من أمر المسلمين فيه أمن ـ نحو ظفر المسلمين وقتل عدوّهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم ـ أفشوه، وهم يظنون: أنه لا شيء عليهم في ذلك.
2. ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم، أو هم الولاة عليهم.
3. ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ أي: يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم، والمعنى: أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي يذيعها، أو يكون أولو الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك، لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى وما ينبغي أن يكتم، والاستنباط: مأخوذ من استنبطت الماء: إذا استخرجته، والنبط: الماء المستنبط أوّل ما يخرج من ماء البئر عند حفرها؛ وقيل: إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها فتحصل بذلك المفسدة.
4. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي: لولا ما تفضل الله به عليكم من إرسال رسوله، وإنزال كتابه، لا تبعتم الشيطان فبقيتم على كفركم إلا قليلا منكم، أو: إلا اتباعا قليلا منكم؛ وقيل: المعنى: أذاعوا به إلا قليلا منهم، فإنه لم يذع ولم يفش، قاله الكسائي، والأخفش، والفراء، وأبو عبيدة، وأبو حاتم، وابن جرير، وقيل: المعنى: لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلا منهم، قاله الزجاج.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/568.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا جَآءَهُم﴾ أي: المنافقين وضعفاء المؤمنين ﴿أَمْرٌ﴾ عن سرايا النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿مِنَ الَامْنِ﴾ بالنصر والغنيمة أو الفتح ﴿أَوِ الْخَوْفِ﴾ بالهزيمة ﴿أَذَاعُواْ بِهِ﴾ بالأمر، أو بأحد من الأمن أو الخوف شهَّروه، فإن كان الخير قصَدَ المنافقُون بإذاعته مُراءاةً للمسلمين، والتملُّقَ إليهم بإظهار أنَّهم أحبُّوا لهم الخير، وإن كان الشرُّ قصدوا بإذاعته تقوية قلوب المشركين وأصحابهم، وقد وافق ما في قلوبهم من حبِّ الشرِّ للمسلمين، ويضعف أن يقال: إنَّهم يذيعون الخير ليجدِّد المشركون أمرهم فيكونوا غالبين بعد أن كانوا مغلوبين، وفي إذاعة الشرِّ كسر قلوب المؤمنين وتقوية قلوب المشركين، ويجوز عودُ هاءِ (به) إلى الخوف، فهم يذيعون أمر الخوف ولو جاء الأمن كذبًا منهم وتوغُّلاً في الشرِّ، وأمَّا ضعفاء المؤمنين فلا يقصدون بإذاعته سوءًا بل شوقًا للخير، وتحذُّرًا من الشرِّ، كما كان هؤلاء الضعفاء يذيعون ما أخبرهم به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من وعد الله له بالظَّفَر تخويفًا للمؤمنين من الكفرة، وإيذاءً لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين، ولو لم يكن ذلك قصدا لهم، وكان هؤلاء الضعفاء يذيعون ما سمعوا من المنافقين على جند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وفي ذلك كلِّه مفسدة، وفي مسلم عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (كفى بالمرء كذبا أن يحدِّث بِكُلِّ ما سمع)
2. ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾ أي: ذلك الأمر وسكتوا عنه، وقالوا: نسكت حتَّى نعلم أهو مِمَّا يذاع، ﴿إِلَى الرَّسُولِ﴾ أي: رأيه ﴿وَإِلَى أَوْلِي الَامْرِ مِنْهُمْ﴾ أي: رأيهم وهم كبار الصحابة الباصرون بالأمر، كأبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ والعباس وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام، حتَّى يسمعوه من الرَّسول وأولي الأمر، أو هم الأمراء على القتال والولاة ﴿لَعَلِمَهُ﴾ هل هو مِمَّا يذاع ﴿الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ أي: يستنبطونه من الرَّسول وأولي الأمر، أي: يحصل لهم علمه منهم، أو لَعلِمه من النبيِّ وأولي الأمر هؤلاء الذين يستنبطونه، أو لَعلِمه من النبيِّ وأولي الأمر هؤلاء الضُّعفاءُ والمنافقون حال كونهم من جملة المؤمنين، تحقيقًا في الضعفاء وبحسب الظاهر في المنافقين.
3. أصل الاستنباط: إخراج النبط، وهو أوَّل ماء البئر، وسمِّي قوم في البطائح بين العراقين (نبطًا) لأنَّهم يستخرجون المياه من الأرض، و(مِنْ) للابتداء أو للبيان، ويجوز أن تكون للتبعيض أو للتجريد، كقولك: رأيت من زيد أسدًا، وهي راجعة إلى الابتداء.
4. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ بإرسال الرَّسول وإنزال القرآن، أو فضله بالإسلام ورحمته بالقرآن، أو فضله بإرسال الرَّسول والقرآن ورحمته بالتوفيق، أو فضله: نصره، ورحمته: معونته، واختاره أبو مسلم، والخطاب لضعفاء المؤمنين، أو للمؤمنين، أو للناس والمراد المجموع؛ لأنَّ ذلك ليس رحمة وفضلاً للشقيِّ إِلَّا أن يعتبر أنَّ ذلك رحمة وفضل له فضيَّعه.
5. ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ فإنَّ القليل لم يتَّبعه، ولو لم يكن القرآن والرسول، وهم من كان على دين عيسى ولم يغيِّره، كقس بن ساعدة مِمَّن آمن قبل البعثة، ومنهم ـ قيل ـ البراء وأبو ذر، واختلفوا في ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو، وأميَّة بن أبي الصلت، أو المراد: إِلَّا اتِّباعًا قليلاً، أو المراد: من لم يبلغ، فالاستثناء منقطع؛ لأنَّه لم يدخل في الخطاب، أو استثناء من واو (أَذَاعُوا، أو فاعل (عَلِمَ)، أو واو (وَجَدُوا)، أو الخطاب للناس كلِّهم والقليل أمَّة محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/236.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر الله تعالى عن المنافقين نوعا آخر من مفاسدهم، وهو إظهارهم أسرار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومبادرتهم بأخبار السرايا وإذاعتها، بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ أي: أفشوه، فتعود إذاعتهم مفسدة من وجوه:
أ. الأول ـ أن هذه الإرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير.
ب. الثاني ـ أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن، زادوا فيه زيادات كثيرة، فإذا لم توجد تلك الزيادات، أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن المنافقين كانوا يروون تلك الإرجافات عن الرسول، وإن كان ذلك في جانب الخوف، تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب، فكانت تلك الإرجافات سببا للفتنة من هذا الوجه.
ج. الثالث ـ أن الإرجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام، وذلك سبب لظهور الأسرار، وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة.
د. الرابع ـ أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار، فكل ما كان أمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني، فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم، أرجف المنافقون بذلك، فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار، فأخذوا في التحصن من المسلمين، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم، وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه، وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين، فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشئا للفتن والآفات من كل الوجوه، ولما كان الأمر كذلك ذم الله تعالى تلك الإذاعة وذلك التشهير، ومنعهم منه، أفاده الرازيّ.
2. ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾ أي ذلك الأمر الذي جاءهم ﴿إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ وهم كبراء الصحابة البصراء في الأمور، أو الذين يؤمّرون منهم وكانوا كأن لم يسمعوا ﴿لَعَلِمَهُ﴾ أي: الأمر ﴿الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ أي يستعلمونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون ﴿مِنْهُمْ﴾ أي من الرسول وأولي الأمر، يعني لو أنهم قالوا: نسكت حتى نسمعه من جهة الرسول ومن ذكر معه، ونعرف الحال فيه من جهتهم، لعلموا صحته وأنه هل هو مما يذاع أو لا؟ وإنما وضع الموصول موضع الضمير، يعني لم يقل (لعلموه) لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام، أو لذمهم أو للتنبيه على خطئهم في الفحص عن استخراج وإظهار خفيّ ذلك الأمر.
3. قال الناصر في (الانتصاف): في هذه الآية تأديب لكل من يحدث بكل ما يسمع، وكفى به كذبا، وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدوّ، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم، خيرا أو غيره.. وقد روى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما يسمع) عند أبي داود والحاكم عنه: كفى بالمرء إثما، ورواه الحاكم أيضا عن أبي أمامة.
4. هذا، ونقل الرازيّ وجها آخر في الموصول، وهو أن المعنيّ به طائفة من أولي الأمر، قال: والتقدير: ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر، وذلك لأن أولي الأمر فريقان: بعضهم من يكون مستنبطا وبعضهم من لا يكون كذلك، فقوله (منهم) يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر، فإن قيل: إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾؟ قلنا: إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر، لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: 72]، وقوله: ﴿مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾
5. على هذا الوجه يحمل قول السيوطيّ في (الإكليل): قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾.. الآية، هذا أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد، وقول المهايميّ: فلو وجدوا في القرآن ما يوهم الاختلاف، لوجب عليهم استفسار الرسول والعلماء الذين هم أولو الأمر، ليعلمهم منهم المجتهدون في استنباط وجوه التوفيق، وقال بعض الإمامية: ثمرة الآية أنه يجب كتم ما يضر إظهاره المسلمين، وأن إذاعته قبيحة، وأنه لا يخبر بما لم يعرف صحته، وتدل على تحريم الإرجاف على المسلمين، وعلى أنه يلزم الرجوع إلى العلماء في الفتيا، وتدل على صحة القياس والاجتهاد، لأنه استنباط.
6. ما نقله الزمخشريّ وتبعه البيضاويّ وأبو السعود وغيرهم، من أن قوله تعالى ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ﴾ عنى به طائفة من ضعفة المسلمين ـ فإن أرادوا بالضعفة المنافقين، فصحيح، وإلا فبعيد غاية البعد كما يعلم من سباق الآية وسياقها، وكذا ما نوعوه من الأقوال في معناه، فكله لم يصب المرمى، والذي يعطيه الذوق السليم في الآية هو الوجه الأول، ولها إشعار بالوجه الثاني لا تأباه، فتبصر ولا تكن أسير التقليد.
7. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ بإرسال الرسول وإنزال الكتاب ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ بالكفر والضلال ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي: إلا قليلا منكم ممن تفضل الله عليه بعقل صائب فاهتدى به إلى الحق والصواب، وعصمه عن متابعة الشيطان، كمن اهتدى إلى الحق في زمن الفترة، كقس بن ساعدة وأضرابه، وهم عشرة، وقد أوضحت شأنهم في كتابي (إيضاح الفطرة في أهل الفترة) في (الفصل الرابع عشر) فانظره، ونقل الرازيّ عن أبي مسلم الأصفهانيّ، أن المراد بفضل الله ورحمته، هنا، هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم: فأفوز فوزا عظيما، أي: لو لا تتابع النصرة والظفر لاتبعتم الشيطان وتوليتم إلا القليل منكم من المؤمنين من أهل البصيرة الذين يعلمون أنه ليس مدار الحقية على النصر في كل حين، واستحسن هذا الوجه الرازيّ وقال: هو الأقرب إلى التحقيق، قال الخفاجيّ: لارتباطه بما بعده، هذا، وزعم بعضهم أن قوله تعالى: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ مستثنى من قوله (أذاعوه) أو (لعلمه) واستدل به على أن الاستثناء لا يتعين صرفه لما قبله، قال: لأنه لو كان مستثنى من جملة (اتبعتم) فسد المعنى لأنه يصير عدم اتباع القليل للشيطان ليس بفضل الله، وهو لا يستقيم، وبيان لزومه أن (لو لا) حرف امتناع لوجود، وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان، فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى، ضرورة، وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان بأنفسهم، ألا تراك إذا قلت (لمن تذكره بحقك عليه): لو لا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا، كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب، وإنما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله، لا في كله، ومن المحال أن يعتقد مسلم أنه عصم في شيء من اتباع الشيطان، إلا بفضله تعالى عليه، هذا ملخص ما قرره صاحب الانتصاف، وهوّل فيه، ولا يخفى أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به لتبادره فيه، أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه، واللازم ممنوع، لأن المراد بالفضل والرحمة معنى مخصوص، وهو ما بيناه، فإن عدم الاتباع، إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص، لا ينافي أن يكون بفضل آخر.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/235.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قيل إن هذه الآية في المنافقين وهم الذين كانوا يذيعون بمسائل الأمن والخوف ونحوها مما ينبغي أن يترك لأهله، وقيل هم ضعفاء المؤمنين، وهما قولان فيمن سبق الحديث عنهم في الآيات التي قبلها، وصرح ابن جرير بأنها في الطائفة التي كانت تبيت غير ما يقول لها الرسول أو تقول له، أقول ويجوز أن يكون الكلام في جمهور المسلمين من غير تعيين لعموم العبرة، ومن خبر أحوال الناس يعلم أن الإذاعة بمثل أحوال الأمن والخوف لا تكون من دأب المنافقين خاصة، بل هي مما يلغط به أكثر الناس، وإنما تختلف النيات فالمنافق قد يذيع ما يذيعه لأجل الضرر، وضعيف الإيمان قد يذيع ما يرى فيه الشبهة، استشفاء مما في صدره من الحكمة، وأما غيرهما من عامة الناس فكثيرا ما يولعون بهذه الأمور لمحض الرغبة في ابتلاء أخبارها، وكشف أسرارها، أو لما عساه ينالهم منها، فخوض العامة في السياسة وأمور الحرب والسلم، والأمن والخوف، أمر معتاد وهو ضار جدا إذا شغلوا به عن عملهم، ويكون ضرره أشد إذا وقفوا على أسرار ذلك وأذاعوا به، وهم لا يستطيعون كتمان ما يعلمون، ولا يعرفون كنه ضرر ما يقولون، وأضره علم جواسيس العدو بأسرار أمتهم، وما يكون وراء ذلك، ومثل أمر الخوف والأمن سائر الأمور السياسية والشؤون العامة، التي تختص بالخاصة دون العامة.
2. ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ أي إذا بلغهم خبر من أخبار سرية غازية أمنت من الأعداء بالظفر والغلبة أو خيف عليها منهم بظهورهم عليها بالفعل أو بالقوة، أو إذا جاءهم أمر من أمور الأمن والخوف مطلقا سواء كان من ناحية السرايا التي تخرج إلى الحرب أو من ناحية المركز العام للسلطة، أذاعوا به أي بثوه في الناس وأشاعوه بينهم، يقال أذاع الشيء وأذاع به، قال أبو الأسود:
çأذاع به في الناس حتى كأنه...بعلياء نار أوقدت بثقوبé
أي حتى صار مشهورا يعرفه كل أحد كالنار في المكان العالي أو كأنه نار في رأس علم، والثقوب والثقاب العيدان التي تورى بها النار، ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة، وهو أبلغ من أذاعوه كما قال الزمخشري، وقال محمد عبده أي أنهم من الطيش والخفة بحيث يستفزهم كل خبر عن العدو يصل إليهم فيطلق ألسنتهم بالكلام فيه وإذاعته بين الناس، وما كان ينبغي أن تشيع في العامة أخبار الحرب وأسرارها ولا أن تخوض العامة في السياسة فإن ذلك يشغلها بما يضر ولا ينفع يضرهم أنفسهم بما يشغلهم عن شؤونهم الخاصة، ويضر الأمة والدولة بما يفسد عليها من أمر المصلحة العامة، ا ه وهو مبني على رأيه في كون هذه الآيات في ضعفاء المسلمين.
3. ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ رد الشيء صرفه وإرجاعه وإعادته، وفي الرد هنا وفي قوله السابق: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59] معنى التفويض، أي ولو أرجعوا ذلك الأمر العام الذي خاضوا فيه وأذاعوا به وفوضوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أي أهل الرأي والمعرفة بمثله من الأمور العامة والقدرة على الفصل فيها وهم أهل الحل والعقد منهم الذين تثق بهم الأمة في سياستها وإدارة أمورها.
4. ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ أي لعلم ذلك الأمر الذين يستخرجونه ويظهرون مخبأه منهم، الاستنباط استخراج ما كان مستترا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب (كما قال ابن جرير) وأصله استخراج النبط من البئر وهو الماء أول ما يخرج، وفي المستنبطين وجهان:
أ. أحدهما: أنهم الرسول وبعض أولي الأمر، فالمعنى: لو أن أولئك المذيعين ردّوا ذلك الأمر إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عنده وعند بعض أولي الأمر وهم الذين يستنبطون مثله ويستخرجون خفاياه بدقة نظرهم، فهو إذا من الأمور التي لا يكتنه سرها كل فرد من أفراد أولي الأمر، وإنما يدرك غوره بعضهم لأن لكل طائفة منهم استعدادا للإحاطة ببعض المسائل الحربية، وهذا يرجح رأيه في المسائل المالية، وهذا يرجح رأيه في المسائل القضائية، وكل المسائل تكون شورى بينهم، فإذا كان مثل هذا لا يستنبطه إلا بعض أولي الأمر دون بعض فكيف يصح أن يجعل شرعا بين العامة يذيعون به؟.
ب. الثاني: أن المستنبطين هم بعض الذين يردون الأمر إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أي: لو ردوا ذلك الأمر إليهم وطلبوا العلم به من ناحيتهم لعلمه من يقدر أن يستفيد العلم به من الرسول ومن أولي الأمر منهم، فإن الرسول وأولي الأمر هم العارفون به، وما كل من يرجح إليهم فيه يقدر أن يستنبط من معرفتهم ما يحب أن يعرف، بل ذلك مما يقدر عليه بعض الناس دون بعض.
5. والمختار الوجه الأول، فالواجب على الجميع تفويض ذلك إلى الرسول وإلى أولي الأمر في زمنه صلّى الله عليه وآله وسلّم وإليهم دون غيرهم من بعده لأن جميع المصالح العامة توكل إليهم ومن أمكنه أن يعلم بهذا التفويض شيئا يستنبطه منهم فليقف عنده ولا يتعداه، فإن مثل هذا من حقهم، والناس فيه تبع لهم، ولذلك وجبت فيه طاعتهم، ولا غضاضة في هذا على فرد من أفراد المسلمين، ولا خدشا لحريته واستقلاله، ولا نيلا من عزة نفسه، فحسبه أنه حر مستقل في خويصة نفسه، لم يكلف أن يقلد أحدا في عقيدته ولا في عبادته، ولا غير ذلك من شؤونه الخاصة به، وليس من الحكمة ولا من العدل ولا المصلحة أن يسمح له بالتصرف في شؤون الأمة ومصالحها، وأن يفتات عليها في أمورها العامة، وإنما الحكمة والعدل في أن تكون الأمة في مجموعها حرة مستقلة في شؤونها كالأفراد في خاصة أنفسهم، فلا يتصرف في هذه الشؤون العامة إلا من تثق بهم من أهل الحل والعقد، المعبر عنهم في كتاب الله بأولي الأمر، لأن تصرفهم وقد وثقت بهم الأمة هو عين تصرفها، وذلك منتهى ما يمكن أن تكون به سلطتها من نفسها.
6. زعم الرازي وغيره أن في هذه الآية دليلا على حجية القياس الأصولي قال محمد عبده: وإنما تعلق الأصوليون في هذا بكلمة) يستنبطونه) وهي من مصطلحاتهم الفنية ولم تستعمل في القرآن بهذا المعنى فقولهم مردود، أقول وقد فرع الرازي على هذه المسألة أربعة فروع:
أ. أن في أحكام الحوادث ما لا يعرف بالنص.
ب. أن الاستنباط حجة.
ج. أن العامي يجب عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث.
د. أن النبي كان مكلفا باستنباط الأحكام كأولي الأمر.
7. أورد الرازي على ما قاله بعض الاعتراضات وأجاب عنها كعادته، ولما كانت المسألة التي أخذ منها هذه الفروع وبنى عليها هذه المجادلة خارجة عن معنى الآية لا تدخل في معناها من باب الحقيقة ولا من باب المجاز ولا من باب الكناية كان جميع ما أورده لغوا أو عبثا، وهذا شاهد من أفصح الشواهد على ما بيناه قبل من سبب غلط المفسرين، وبعدهم عن فهم الكثير من آيات الكتاب المبين، بتفسيره بالاصطلاحات المستحدثة، فأهل الأصول والفقه اصطلحوا على معنى خاص لكلمة الاستنباط فلما ورد هذا اللفظ في هذه الآية حمل مثل الرازي على فطنته أن يخرج بها عن طريقها ويسير بها في طريق آخر ذي شعاب كثير يضل فيها السائر حتى لا مطمع في رجوعه إلى الطريق السوي.
8. معنى الآية واضح جلي وهو أن بعض المسلمين من الضعفاء أو المنافقين أو العامة مطلقا يخوضون في أمر الأمن والخوف ويذيعون ما يصل إليهم منه على ما في الإذاعة به من الضرر، والواجب تفويض مثل هذه الأمور العامة إلى الرسول وهو الإمام الأعظم والقائد العام في الحرب وإلى أولي الأمر من أهل الحل والعقد ورجال الشورى لأنهم هم الذين يستخرجون خفايا هذه الأمور ويعرفون مصلحة الأمة فيها وما ينبغي إذاعته وما لا ينبغي، فأين هذا من مسائل النص في الكتاب على بعض الأحكام والسكوت عن بعض ووجوب استنباط ما سكت عنه مما نص عليه على الرسول وعلى أولي الأمر، ووجوب اتباع العامة للعلماء فيما يستنبطونه مطلقا؟ ليس هذا من ذاك في شيء.
9. على أن الرازي كان أبطل قول من قال إن أولي الأمر هم العلماء وقول من قال إنهم الأمراء، وأثبت أنهم أهل الحل والعقد أي جماعتهم، فكيف يبطل ههنا ما حققه في آية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ بقوله بوجوب تقليد العلماء كما أبطل به ما حققه في تفسير آيات كثيرة من بطلان التقليد؟
10. قد علمت أيها القارئ الذي أنعم الله عليه بنعمة الاستقلال في الفهم أن الآية التي قبل هذه الآية قد أوجبت تدبر القرآن والاهتداء به على كل مسلم فكانت من الآيات الكثيرة الدالة على منع التقليد في أصول الدين وفاقا للرازي الذي صرح بذلك في تفسير الآية نفسها وكذا في الفروع العملية الشخصية كالعبادات والحلال والحرام لأن أكثرها معلوم من الدين بالضرورة، والنصوص فيها أوضح وأقرب إلى الفهم من مسائل أصول الدين، وفي حديث الصحيحين (الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) الحديث، وهو قد أوجب في الأمور المشتبه فيها أن تترك لئلا تجر إلى الحرام، ولم يوجب على المشتبه في شيء أن يرجع إلى ما يعتقده غيره ويقلده فيه، وأما المسائل العامة كالحرب والسياسة والإدارة فهي التي تفوضها العامة إلى أولي الأمر منهم وتتبعهم فيها، هذا ما تهدي إليه الآية وفاقا لغيرها من الآيات، ولا اختلاف في القرآن.
11. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي لولا فضل الله عليكم ورحمته بكم أيها المسلمون بما هداكم إليه من طاعة الله ورسوله ظاهرا وباطنا وتدبر القرآن ورد الأمور العامة إلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم لاتبعتم وسوسة الشيطان كما اتبعته تلك الطائفة التي تقول للرسول: طاعة لك، وتبيت غير ذلك، والتي تذيع بأمر الأمن والخوف وتفسد على الأمة سياستها به، إلا قليلا من الاتباع أي لاتبعتم الشيطان في أكثر أعمالكم بجعلها من الباطل والشر لا فيها كلها، أو إلا قليلا منكم أوتوا من صفاء الفطرة وسلامتها ما يكفي لإيثارهم الحق والخير كأبي بكر وعلي، فهي كقوله تعالى: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا﴾ [النور: 21]
12. وفسر بعض المفسرين الفضل والرحمة بالقرآن وبعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (لا عناية الله بهدايتهم بهما كما قلنا) والقليل المستثنى بمثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل الذين كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال نحوه محمد عبده فهو اختيار منه له، وقال أبو مسلم الأصفهاني: أن المراد بفضل الله ورحمته هنا النصر والظفر والمعونة التي أشار إليها في قوله في الآيات السابقة من هذا السياق ﴿ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينهم مودة يا ليتني كنت معهم﴾ [النساء: 73] أي لولا النصر والظفر المتتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين إلا القليل منكم وهم أصحاب البصائر النافذة والنيات القوية والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا، فلأجل تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا، ولأجل تواتر الانهزام يدل على كونه باطلا، بل الأمر في كونه حقا وباطلا على الدليل، وهذا أصح الوجوه وأقربها إلى التحقيق، اه من التفسير الكبير للرازي، وهو الذي صحح قول أبي مسلم ورجحه، وقوله بعدم التلازم بين كونه حقا وباطلا وبين الظفر وضده لا يسلم مطلقا وإنما يسلم بالنسبة إلى بعض الوقائع، فإن العاقبة للمتقين، وقد بينا ذلك مرارا.
13. وقيل إن الاستثناء من قوله أذاعوا به وقيل من الذين يستنبطونه، وكلاهما بعيد، على أنه مروي عن بعض مفسري السلف، قال ابن جرير بعض رواية القولين: وقال آخرون معنى ذلك ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا، قالوا وقوله إلا قليلا خرج مخرج الاستثناء في اللفظ وهو دليل على الجمع والإحاطة، فالاستثناء دليل الإحاطة، أقول: أو كما يقول الأصوليون معيار العموم، أي فهو لتأكيد ما قبله كقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأعلى: 7،6] وهذا الاستعمال وإن كان صحيحا لا يظهر هنا، وقد بينا من قبل أن من دقة القرآن وتحريه للحقائق عدم حكمه بالضلال العام المستغرق على جميع أفراد الأمة، ومثل هذا الاحتراس متعدد فيه ولا يكاد يتحراه الناس.
__________
(1) تفسير المنار: 5/242.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
قال ابن جرير: (إن هذه الآية نزلت في الطائفة التي كانت تبيّت غير ما يقول لها الرسول أو تقول له)، ولا يبعد أن تكون في جمهور المسلمين بلا تعيين، لأن المشاهد في أحوال الناس أن الإذاعة بمثل أخبار الأمن والخوف لا تكون من دأب المنافقين خاصة، بل هي مما يلهج به الناس في مختلف البيئات بحسب المناسبات وإن كانت تختلف نياتهم، فالمنافق قد يذيع ما يذيعه لأجل الضرر، وضعيف الإيمان قد يذيع استشفاء مما في صدره من الإحن والبغضاء، وغيرهما قد يذيع رغبة في كشف الأسرار وابتلاء الأخبار، وهذا أمر معتاد بين الناس وهو كثير الضرر إذا شغلوا به عن أعمالهم، وضرره أكثر إذا أذاعوه وعلمه جواسيس العدوّ، لما يكون لذلك من العواقب الوخيمة على الأمة، ومثل ذلك سائر الأمور السياسية والشئون العامة التي لا ينبغي أن تعدو الخاصة وتصل إلى العامة.
1. ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ أي إن هؤلاء الضعفة من المسلمين الذين لا خبرة لهم بالشئون العامة قد بلغ من طيشهم وخفة أحلامهم أن كل خير يصل إليهم يستفزهم ويطلق ألسنتهم بالكلام فيه وإذاعته بين الناس، سواء أكان من ناحية الجيش الذي يغزو ويقاتل العدو، أو من ناحية المركز العام للسلطة، ولا ينبغي أن تشيع العامة أخبار الحرب وأسرارها، ولا أن تخوض في السياسة العامة للدولة، لأن ذلك مضرّة لها ومفسدة لشئونها ومرافقها العامة وعلاقاتها مع غيرها من الأمم إلى أن في ذلك مشغلة لهم عن شئونهم الخاصة وضياع زمن كانوا فيه أحوج إلى العمل بما يفيدهم ويفيد الأمة، وهذا بيان لجناية ضعفاء الإيمان إثر بيان جناية المنافقين.
2. ثم بين ما ينبغي أن يفعل في مثل هذه الحال فقال: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ أي ولو أن أولئك المذيعين فوضوا الكلام في الأمور العامة إلى الرسول وهو الإمام الأعظم والقائد العام في الحرب، وإلى أولى الأمر من أهل الحل والعقد ورجال الشّورى، لوجدوا علم ذلك عندهم، لأنهم هم الذين يستنبطون مثله، ويستخرجون خفاياه بدقة نظرهم، إذ لكل طائفة منهم استعداد للإحاطة ببعض المسائل المتعلقة بسياسة الأمة دون بعض فهذا أخصائي في المسائل المالية، وذاك في الأمور القضائية، وذاك في بناء القناطر والجسور ورابع في شئون الحرب، وكل هذه المسائل يدرسها رجال الشورى [مجلس الوزراء بالاصطلاح العصرى] ويستنبطون منها ما يكون فيه المصلحة للدولة وينفذونه، ولا ينبغي أن تذيعه العامة لما في ذلك من الضرر بها من سائر الوجوه والاعتبارات.
3. ثم امتنّ سبحانه على صادقى الإيمان من عباده فقال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم، إذ هداكم لطاعته وطاعة رسوله ظاهرا وباطنا، ورد الأمور العامة إلى الرسول وإلى أولى الأمر منكم، لاتبعتم وسوسة الشيطان كما اتبعته تلك الطائفة التي تقول للرسول: طاعة لك وتبيت غير ذلك، والتي تذيع أمر الأمن والخوف وتفسد على الأمة سياستها، ولأخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وما تذرون، ولم تهتدوا إلى الصواب، إلا قليلا منكم ممن استنارت عقولهم بنور الإيمان وعرفوا الأحكام بالاقتباس من مشكاة النبوة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلى، فهي كقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾
__________
(1) تفسير المراغي 5/105.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يمضي السياق يصور حال طائفة أخرى، أو يصف فعلة أخرى لطائفة في المجتمع المسلم: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾..
2. الصورة التي يرسمها هذا النص، هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي، لم تألف نفوسهم النظام؛ ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر؛ وفي النتائج التي تترتب عليها، وقد تكون قاصمة؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث؛ ولم يدركوا جدية الموقف؛ وأن كلمة عابرة وفلتة لسان، قد تجر من العواقب على الشخص ذاته، وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال؛ وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال! أو ـ ربما ـ لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر؛ وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك، وإذاعتها، حين يتلقاها لسان عن لسان، سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف.
3. كلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة:
أ. فإن إشاعة أمر الأمن مثلا في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو.. إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعا من التراخي ـ مهما تكن الأوامر باليقظة ـ لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر! وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية!..
ب. كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة، وقد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكا، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف.. وقد تكون كذلك القاضية! وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه؛ أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته، أو هما معا.
4. ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك؛ باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان ومختلفة المستويات في الإدراك، ومختلفة المستويات في الولاء.. وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني.
5. والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إن كان معهم، أو إلى أمرائهم المؤمنين، لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة؛ واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة، والملابسات المتراكمة، فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم، الذي يقوده أمير مؤمن ـ بشرط الإيمان ذاك وحدّه ـ حين يبلغ إلى أذنيه خبر، أن يسارع فيخبر به نبيه أو أميره، لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه؛ أو بين من لا شأن لهم به، لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر ـ حتى بعد ثبوته ـ أو عدم إذاعته..
6. وهكذا كان القرآن يربي.. فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة؛ ويعلم نظام الجندية في آية واحدة.. بل بعض آية.. فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ الأمن أو الخوف، فيحمله ويجري متنقلا، مذيعا له، من غير تثبت، ومن غير تمحيص، ومن غير رجعة إلى القيادة.. ووسطها يعلم ذلك التعليم.. وآخرها يربط القلوب بالله في هذا، ويذكرها بفضله، ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل، ويحذرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد؛ الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾..
7. آية واحدة تحمل هذه الشحنة كلها؛ وتتناول القضية من أطرافها؛ وتتعمق السريرة والضمير؛ وهي تضع التوجيه والتعليم! ذلك أنه من عند الله.. ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾..
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/724.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ هو جانب من جوانب الصورة التي عرض الله فيها هؤلاء المنافقين، وإنهم لأصحاب ثرثرة ولغو، كلما وقعت لآذانهم كلمة طاروا بها، وألقوا بها إلى كل أذن، دون أن يتبينوا ما يسمعون، أو يعرفوا وجهه.. إن اللغو وتقليب وجوه الكلام هو تجارتهم الرابحة، وبضاعتهم الرابحة.. لا يتكلفون له جهدا، ولا يخشون من ورائه سوءا.. فما هو إلا أحاديث تروى، وأخبار تتناقل، لا يدرى أحد مصدرها، ولا يعرف من هو صاحبها.. وعلى هذا الغذاء الخبيث يعيش المنافقون، ومن هذا الجوّ المغبّر يتنفسون.. فهم يثرثرون بكل ما يسمعون من خير أو شر: ﴿إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ﴾ أي نطقوا به، وصحبوه معهم إلى كل مكان.. فليس يرضيهم أن يذيعوا هذه الأحاديث في الناس، وإنما هم وراء هذه الأحاديث المذاعة يدفعونها بين أيديهم، ويشهدون آثارها في الناس.. وهذه ما يشير إليه النظم في قوله تعالى: ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ وهو غير ما يراد بالفعل (أذاعوه) الذي يضيف إليهم إذاعة الأحاديث وتنقلها بعد أن يدفعوا بها الدفعة الأولى.. أما قوله تعالى: ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ فإنه يجعلهم يدورون مع هذه الأحاديث حيثما دارت.
2. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ هو توبيخ لهم على هذه الخفّة وذلك الطيش اللذين يحملانهم على هذا الجري اللاهث بكل كلمة يسمعونها، أو وراء كل كلمة أو شائعة، تقال هنا أو هناك.. إنهم لو عقلوا، أو كانوا على بصيرة من أمرهم، لراجعوا أنفسهم عند كل خبر يلقى إليهم، وعند كل شائعة ترد على أسماعهم، فإن التبس عليهم شىء، أو اختلط عليهم أمر، ردّوه إلى الرسول، فكشف لهم وجه الحق منه، ووقف بهم على موارده الصحيحة، وأراهم الطريق القويم الذي يلقونه فيه.. فإن لم يكن لهم إلى الرسول سبيل، كان في أولى الأمر منهم، وفي القادة والراشدين بينهم، من يضبط موارد هذه الأخبار ومصادرها، ويعزل غثّها عن ثمينها، وباطلها عن حقها ـ إنهم لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم وأقوم، ولأراحوا أنفسهم وأراحوا الناس من هذا الهرج والمرج، الذي يثيرونه فيهم بهذه الأخبار المشوشة المضطربة! وهذا لا شك دستور قويم لاستقرار المجتمع، وضمان أمنه وسلامته، من كلمات السوء التي تتدسس إليه من أفواه ثرثارة، ترمى بالكلام بلا حساب ولا تقدير..
3. 4. إن الكلمة ليست مجرد لفظة يلفظها الإنسان من فمه، ولكنها أشباح متنقلة في الناس.. تتجسد، وتتشكل، وتظهر في صور مختلفة، من تصورات الناس وأعمالهم، وخاصة في أوقات الشدائد والأزمات التي تمر بالمجتمع، حيث الهياج والقلق والاضطراب، الذي يغشى الناس، ويطلع عليهم في يقظتهم ونومهم على السواء.
5. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ تنبيه للمسلمين إلى الخطر الذي يتهددهم من وراء هذه الوسوسات التي تندسّ إليهم، من مفتريات الأحاديث وأباطيلها، وأن ذلك جميعه من واردات الشيطان، الذي يسوّل لتلك النفوس المريضة باللغو، ويغريها بالثرثرة، ويركب بها مركب السوء، فتذيع في الناس، البلبلة والاضطراب، وتفتح لهم أبواب الفتنة والضلال.. ولو لا فضل الله وما يحرس به المؤمنين من عظاته، وتنبيهاته لهم، وتحذيرهم من المزالق والعثرات، لضلّوا وغووا، إلا قليلا منهم، ممن استعصم بعقله، واحتكم إلى رأيه، واستصفى لنفسه المورد الطيب الذي يرده.. فهؤلاء القليلون هم الأمناء على أنفسهم، وهم أوتاد المجتمع، والحراس على فطرة الإنسان وكرامته.
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/846.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ عطف على جملة ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ [النساء: 81] فضمير الجمع راجع إلى الضمائر قبله، العائدة إلى المنافقين، وهو الملائم للسياق، ولا يعكّر عليه إلّا قوله: ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾، وسنعلم تأويله، وقيل: الضمير هذا راجع إلى فريق من ضعفة المؤمنين ممّن قلّت تجربته وضعف جلده، وهو المناسب لقوله: ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ بحسب الظاهر، فيكون معاد الضمير محذوفا من الكلام اعتمادا على قرينة حال النزول، كما في قوله: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ [ص: 32]، والكلام مسوق مساق التوبيخ للمنافقين واللوم لمن يقبل مثل تلك الإذاعة، من المسلمين الأغرار.
2. معنى ﴿جَاءَهُمْ أَمْرٌ﴾ أي أخبروا به، قال امرؤ القيس: (وذلك من نبإ جاءني) فالمجيء مجاز عرفي في سماع الأخبار، مثل نظائره، وهي: بلغ، وانتهى إليه وأتاه، قال النابغة: (أتاني ـ أبيت اللعن ـ أنّك لمتني)، والأمر هنا بمعنى الشيء وهو هنا الخبر، بقرينة قوله: ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾
3. معنى ﴿أَذَاعُوا﴾ أفشوا، ويتعدّى إلى الخبر بنفسه، وبالباء، يقال: أذاعه وأذاع به، فالباء لتوكيد اللصوق كما في ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ [المائدة: 6]، والمعنى إذا سمعوا خبرا عن سرايا المسلمين من الأمن، أي الظّفر الذي يوجب أمن المسلمين أو الخوف وهو ما يوجب خوف المسلمين، أي اشتداد العدوّ عليهم، بادروا بإذاعته، أو إذا سمعوا خبرا عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وعن أصحابه، في تدبير أحوال المسلمين من أحوال الأمن أو الخوف، تحدّثوا بتلك الأخبار في الحالين، وأرجفوها بين الناس لقصد التثبيط عن الاستعداد، إذا جاءت أخبار أمن حتّى يؤخذ المؤمنون وهم غارّون، وقصد التجبين إذا جاءت أخبار الخوف، واختلاف المعاذير للتهيئة للتخلّف عن الغزو إذا استنفروا إليه، فحذّر الله المؤمنين من مكائد هؤلاء، ونبّه هؤلاء على دخيلتهم، وقطع معذرتهم في كيدهم بقوله: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ﴾ إلخ، أي لولا أنّهم يقصدون السوء لاستثبتوا الخبر من الرسول ومن أهل الرأي.
4. على القول بأنّ الضمير راجع إلى المؤمنين فالآية عتاب للمؤمنين في هذا التسرّع بالإذاعة، وأمرهم بإنهاء الأخبار إلى الرسول وقادة الصحابة ليضعوه مواضعه ويعلّموهم محامله، وقيل: كان المنافقون يختلقون الأخبار من الأمن أو الخوف، وهي مخالفة للواقع، ليظنّ المسلمون الأمن حين الخوف فلا يأخذوا حذرهم، أو الخوف حين الأمن فتضطرب أمورهم وتختلّ أحوال اجتماعهم، فكان دهماء المسلمين إذا سمعوا ذلك من المنافقين راج عندهم فأذاعوا به، فتمّ للمنافقين الدست، وتمشّت المكيدة، فلامهم الله وعلّمهم أن ينهوا الأمر إلى الرسول وجلّة أصحابه قبل إشاعته ليعلموا كنه الخبر وحاله من الصدق أو الكذب، ويأخذوا لكلّ حالة حيطتها، فيسلم المؤمنون من مكر المنافقين الذي قصدوه، وهذا بعيد من قوله: ﴿جَاءَهُمْ﴾ وعلى هذا فقوله: ﴿لَعَلِمَهُ﴾ هو دليل جواب (لو) وعلّته، فجعل عوضه وحذف المعلول، إذ المقصود لعلمه الذين يستنبطونه من أولي الأمر فلبيّنوه لهم على وجهه.
5. ويجوز أن يكون المعنى: ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلم ذلك المنافقون الذين اختلقوا الخبر فلخابوا إذ يوقنون بأنّ حيلتهم لم تتمشّ على المسلمين، فيكون الموصول صادقا على المختلقين بدلالة المقام، ويكون ضمير ﴿مِنْهُمْ﴾ الثاني عائدا على المنافقين بقرينة المقام.
6. والردّ حقيقته إرجاع شيء إلى ما كان فيه من مكان أو يد، واستعمل هنا مجازا في إبلاغ الخبر إلى أولى الناس بعلمه، وأولو الأمر هم كبراء المسلمين وأهل الرأي منهم، فإن كان المتحدّث عنهم المنافقين فوصف أولي الأمر بأنّهم منهم جار على ظاهر الأمر وإرخاء العنان، أي أولو الأمر الذين يجعلون أنفسهم بعضهم؛ وإن كان المتحدّث عنهم المؤمنين، فالتبعيض ظاهر.
7. الاستنباط: حقيقته طلب النّبط ـ بالتحريك ـ وهو أول الماء الذي يخرج من البئر عند الحفر؛ وهو هنا مجاز في العلم بحقيقة الشيء ومعرفة عواقبه، وأصله مكنية: شبّه الخبر الحادث بحفير يطلب منه الماء، وذكر الاستنباط تخييل، وشاعت هذه الاستعارة حتّى صارت حقيقة عرفية، فصار الاستنباط بمعنى التفسير والتبيين، وتعدية الفعل إلى ضمير الأمر على اعتبار المعنى العرفي، ولولا ذلك لقيل: يستنبطون منه، كما هو ظاهر، أو هو على نزع الخافض.
8. وإذا جريت على احتمال كون (يستنبطون) بمعنى يختلقون كما تقدّم كانت ﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ تبعية، بأن شبّه الخبر المختلق بالماء المحفور عنه، وأطلق يستنبطون بمعنى يختلقون، وتعدّى الفعل إلى ضمير الخبر لأنّه المستخرج، والعرب يكثرون الاستعارة من أحوال المياه كقولهم: يصدر ويورد، وقولهم ضرب أخماسا لأسداس، وقولهم: ينزع إلى كذا، وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ﴾ [الذاريات: 59]، وقال عبدة بن الطبيب: (فحقّ لشأس من نداك ذنوب)، ومنه قولهم: تساجل القوم، أصله من السّجل، وهو الدلو، وقال قيس بن الخطيم:
çإذا ما اصطبحت أربعا خطّ مئزري...وأتبعت دلوي في السماح رشاءهاé
فذكر الدلو والرشاء، وقال النابغة:
çخطاطيف حجن في حبال متينة...تمدّ بها أيد إليك نوازع é
وقال:
çولو لا أبو الشقراء ما زال ماتح...يعالج خطّافا بإحدى الجرائرé
وقالوا أيضا: (انتهز الفرصة)، والفرصة نوبة الشرب، وقالوا: صدر ألوم عن رأي فلان ووردوا على رأيه.
9. ﴿مِنْهُمْ﴾ وصف للذين يستنبطونه، وهم خاصّة أولي الأمر من المسلمين، أي يردّونه إلى جماعة أولي الأمر فيفهمه الفاهمون من أولي الأمر، وإذا فهمه جميعهم فأجدر.
10. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ امتنان بإرشادهم إلى أنواع المصالح، والتحذير من المكائد ومن حبائل الشيطان وأنصاره.
11. استثناء ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ من عموم الأحوال المؤذن بها ﴿لَاتَّبَعْتُمُ﴾، أي إلّا في أحوال قليلة، فإن كان المراد من فضل الله ورحمته ما يشمل البعثة فما بعدها، فالمراد بالقليل الأحوال التي تنساق إليها النفوس في بعض الأحوال بالوازع العقلي أو العادي، وإن أريد بالفضل والرحمة النصائح والإرشاد فالمراد بالقليل ما هو معلوم من قواعد الإسلام، ولك أن تجعله استثناء من ضمير ﴿لَاتَّبَعْتُمُ﴾ أي إلّا قليلا منكم، فالمراد من الاتّباع اتّباع مثل هذه المكائد التي لا تروج على أهل الرأي من المؤمنين.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/202.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عجبا لأمر هؤلاء المنافقين، إنهم يسارعون في الفتنة، ويتحينون الفرص ليزرعوا الشكوك والظنون في صدور المؤمنين، ويشيعون الأخبار على غير حقيقتها، فإذا سمعوا خبرا عن أمن المسلمين أو انتصارهم، أو عن الخوف عليهم والإشفاق من تحركاتهم، أسرع هؤلاء المنافقون لإذاعة الشائعات، وأظهروها وتحدثوا بها قبل أن يقفوا على حقيقتها، وقد يكون في ذلك ضرر بالإسلام والمسلمين، ولكنهم لا يبالون، بل ربما كان ذلك هو ما يبتغون.
2. قال بعض المفسرين إن ضعاف المسلمين كانوا يفعلون ذلك أيضا، فقد كان بعضهم يفشى أمر النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم، دون إذن في ذلك، ويحسبون أنهم لا يخطئون فيما يفعلون، ويسيئون ويحسبون أنهم يحسنون.
3. سواء أكان ذلك من المنافقين أم من ضعاف المسلمين فهو خطأ لا يجوز أن يحدث؛ لذلك يجىء الأمر من الله تعالى بألا يسرع المسلم في الحديث بأخبار لم يتحقق منها، ولم يتبين له صدقها من كذبها، ولم يميز من أمرها بين النفع والضرر، بل يجب على هؤلاء وأولئك أن يردوا الأمر إلى النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم، وينتظروا حتى يكون صلّى الله عليه وآله وسلّم، هو الذى يتحدث به ويكشف عن صدقه، ويبين نفعه للمسلمين أو ضرره، وهذا الحكم ماض في كل زمان ومكان، فإذا كان النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، فإنه قد ورث العلم لطائفة من أمته هم أولو العلم وأولو الأمر، وأهل الفقه في الدين، فيجب على المسلمين أن يردوا مثل هذه الأمور إليهم؛ لأنهم إذا ردوا الأمر إليهم ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ أى يستخرجون معناه، ويبينون فحواه، فإذا الأمر معلوم، والحق واضح لا شبهة فيه، ولا غموض.
4. الاستنباط هو استخراج الماء من البئر، فشبهت الأفكار التى تدور في خلد الإنسان بالماء الذى في البئر، والعلماء يستخرجون هذه الأفكار ويكشفون عن معناها، فيعلمون ما ينبغى أن يقال وما يجب أن يستر ويكتم فلا يشيع بين الناس.
5. فى تلك الجملة دليل على جواز اجتهاد العلماء في الأمور الفقهية عن طريق القياس، والحكم بما يبينه ذلك القياس، ما لم يكن هناك نص من القرآن أو السنة، وما لم يكن هناك إجماع.
6. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ لقد أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، وبين طريق الحق من الباطل، والهدى من الضلالة، والرشاد من الغواية، وهذا فضل من الله ورحمة، ولولا هدايتكم للعمل بما جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، لا تبعتم الشيطان، ولبقيتم على الكفر سائرين في طريق الضلال، إلا قليلا منكم كانوا هم المهتدين، أو لا تبعتم الشيطان في غالب أعمالكم، وكان اتباعكم للرسول وللكتاب اتباعا قليلا، ولغلبت سيئاتكم حسناتكم، وفى ذلك ما فيه من الخسران، والعياذ بالله تعالى.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1782.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾، كان في صحابة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كما يكون في أي حزب ومعسكر ـ المخلص والمنافق، والشجاع والجبان، والقوي والضعيف في إيمانه، والعاقل المجرب الذي يرتفع إلى مستوى الأحداث، والجاهل الذي لا يتدبر الأمور ولا يقدر العواقب، وقد تحدث القرآن عن كل هؤلاء تصريحا تارة، وتلويحا أخرى.
2. اتفق المفسرون على أن هذه الآية نزلت فيمن كانوا يسمعون أخبار الأمن والخوف التي كانت تتعلق بقوة المسلمين العسكرية، فيذيعونها بين الناس، ثم اختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المذيعين: هل هم المنافقون، أو البسطاء السذج من ضعفاء المؤمنين؟ فقال كل فريق بما ترجّح عنده.. أما نحن فلم يترجح لدينا ارادة المنافقين، دون الضعفاء، ولا الضعفاء، دون المنافقين، لأن كل ما أفاده ظاهر الآية ان جماعة من الذين كانوا حول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا وصل اليهم خبر من أخبار السلام والأمان، أو الحرب والعدوان تكلموا به، وأفشوه بين الناس.. ولا شيء أضر على الأمن الداخلي والخارجي من افشاء الأسرار العسكرية، بخاصة مع عدم تثبت المذيعين من صدق الخبر، فإن الكثير من أنباء الحرب يختلقها ويروجها العدو بقصد الاستفادة منها، واشاعة الفتن والقلاقل في صفوف المسلمين.
3. ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، ضمير أولي الأمر منهم يعود على المسلمين، ومن للتبعيض، أي ان أولي الأمر هم بعض المسلمين، أما ضمير منهم في يستنبطونه منهم فقد اختلف فيه المفسرون، فمن قائل: انه يعود على الذين أذاعوا خبر الأمن أو الخوف، وقائل: انه يعود على أولي الأمر، وهو الأظهر، ومن للبيان، لا للتبعيض، والمراد بأولي الأمر من يثق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بكفاءتهم الدينية والعلمية، والذين عناهم الله بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 63]
4. والمعنى كان الأولى بالذين أذاعوا ما سمعوه من أخبار الحرب ان يمسكوا عن الخوض فيما بلغهم، ويعرضوه على الرسول والأكفاء من أصحابه فهم وحدهم الذين يعرفون أخبار الحرب ومكائدها، ويستخرجون الأشياء من مصادرها، ويردونها إلى أصولها، فقوله تعالى: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ معناه ان الأكفاء يعرفون حقيقة الخبر المذاع، والقصد منه، لأنهم هم الذين يستخرجون الخفايا والحقائق من منبعها
الأول، ويفعلون ما توجبه الحكمة والمصلحة.
5. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، المراد بفضل الله ورحمته انزال القرآن، وبعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمعنى لو لا كتاب الله وسنة نبيه لبقيتم على الكفر والضلال الا قليلا منكم، مثل قس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو، ومن اليهم ممن آمن بالله وحده بوحي من فطرته الصافية قبل أن يبعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا النوع من المؤمنين يسمون الحنيفية، والحنيف عند العرب من كان على دين ابراهيم عليه السلام.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/391.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ الإذاعة هي النشر والإشاعة، وفي الآية نوع ذم وتعيير لهم في شأن هذه الإذاعة، وفي قوله في ذيل الآية ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ﴾ دلالة على أن المؤمنين كانوا على خطر الضلال من جهة هذه الإذاعة، وليس إلا خطر مخالفة الرسول فإن الكلام في هذه الآيات موضوع في ذلك، ويؤيد ذلك ما في الآية التالية من أمر الرسول بالقتال ولو بقي وحده بلا ناصر.
2. ويظهر به أن الأمر الذي جاءهم من الأمن أو الخوف كان بعض الأراجيف التي كانت تأتي بها أيدي الكفار ورسلهم المبعوثون لإيجاد النفاق والخلاف بين المؤمنين فكان الضعفاء من المؤمنين يذيعونه من غير تدبر وتبصر فيوجب ذلك وهنا في عزيمة المؤمنين، غير أن الله سبحانه وقاهم من اتباع هؤلاء الشياطين الجائين بتلك الأخبار لإخزاء المؤمنين.
3. فتنطبق الآية على قصة بدر الصغرى، وقد تقدم الكلام فيها في سورة آل عمران، والآيات هاهنا تشابه الآيات هناك مضمونا كما يظهر للمتدبر فيها، قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175] الآيات كما ترى تذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يدعو الناس بعد ما أصابهم القرح ـ وهو محنة ـ أحد ـ إلى الخروج إلى الكفار، وأن أناسا كانوا يخزلون الناس ويخذلونهم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويخوفونهم جمع المشركين، ثم تذكر أن ذلك كله تخويفات من الشيطان يتكلم بها من أفواه أوليائه، وتعزم على المؤمنين أن لا يخافوهم ويخافوا الله أن كانوا مؤمنين.
4. والمتدبر فيها وفي الآيات المبحوث عنها أعني قوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ لا يرتاب في أن الله سبحانه في هذه الآية يذكر قصة بدر ـ الصغرى ويعدها في جملة ما يعد من الخلال التي يلوم هؤلاء الضعفاء عليها كقوله: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾، وقوله: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ﴾ الآية وقوله: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ ثم يجري على هذا المجرى قوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾
5. ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ لم يذكر هاهنا الرد إلى الله كما ذكر في قوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ لأن الرد المذكور هناك هو رد الحكم الشرعي المتنازع فيه، ولا صنع فيه لغير الله ورسوله، وأما الرد المذكور هاهنا فهو رد الخبر الشائع بين الناس من أمن أو خوف، ولا معنى لرده إلى الله وكتابه، بل الصنع فيه للرسول ولأولي الأمر منهم، لو رد إليهم أمكنهم أن يستنبطوه ويذكروا للرادين صحته أو سقمه وصدقه أو كذبه.
6. فالمراد بالعلم التمييز تمييز الحق من الباطل، والصدق من الكذب على حد قوله تعالى ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ [المائدة: 94]، وقوله ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ [العنكبوت: 11]
7. والاستنباط استخراج القول من حال الإبهام إلى مرحلة التمييز والمعرفة، وأصله من النبط (محركة)، وهو أول ما يخرج من ماء البئر، وعلى هذا يمكن أن يكون الاستنباط وصفا للرسول وأولي الأمر بمعنى أنهم يحققون الأمر فيحصلون على الحق والصدق وأن يكون وصفا لهؤلاء الرادين لو ردوا فإنهم يعلمون حق الأمر وصدقه بإنباء الرسول وأولي الأمر لهم.
8. فيعود معنى الآية إن كان المراد بالذين يستنبطونه منهم الرسول وأولي الأمر كما هو الظاهر من الآية: لعلمه من أراد الاستنباط من الرسول وأولي الأمر أي إذا استصوبه المسئولون ورأوه موافقا للصلاح، وإن كان المراد بهم الرادين: لعلمه الذين يستفسرونه ويبالغون في الحصول على أصل الخبر من هؤلاء الرادين.
9. وأما أولوا الأمر في قوله: ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ فالمراد بهم هو المراد بأولي الأمر في قوله: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59] على ما تقدم من اختلاف المفسرين في تفسيره وقد تقدم أن أصول الأقوال في ذلك ترجع إلى خمسة غير أن الذي استفدناه من المعنى أظهر في هذه الآية:
أ. أما القول بأن أولي الأمر هم أمراء السرايا فإن هؤلاء لم يكن لهم شأن إلا الإمارة على سرية في واقعة خاصة لا تتجاوزها خبرتهم ودائرة عملهم، وأما أمثال ما هو مورد الآية وهو الإخلال في الأمن وإيجاد الخوف والوحشة العامة التي كان يتوسل إليها المشركون ببعث العيون وإرسال الرسل السرية الذين يذيعون من الأخبار ما يخزلون به المؤمنين فلا شأن لأمراء السرايا في ذلك حتى يمكنهم أن يبينوا وجه الحق فيه للناس إذا سألوهم عن أمثال تلك الأخبار.
ب. وأما القول بأن أولي الأمر هم العلماء فعدم مناسبته للآية أظهر، إذ العلماء وهم يومئذ المحدثون والفقهاء والقراء والمتكلمون في أصول الدين ـ إنما خبرتهم في الفقه والحديث ونحو ذلك، ومورد قوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾، هي الأخبار التي لها أعراق سياسية ترتبط بأطراف شتى ربما أفضى قبولها أو ردها أو الإهمال فيها من المفاسد الحيوية والمضار الاجتماعية إلى ما يمكن أن لا يستصلح بأي مصلح آخر، أو يبطل مساعي أمة في طريق سعادتها، أو يذهب بسؤددهم ويضرب بالذل والمسكنة والقتل والأسر عليهم، وأي خبرة للعلماء من حيث إنهم محدثون أو فقهاء أو قراء أو نحوهم في هذه القضايا حتى يأمر الله سبحانه بإرجاعها وردها إليهم؟ وأي رجاء في حل أمثال هذه المشكلات بأيديهم؟
ج. وأما القول بأن أولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا فمع كونه لا دليل عليه من كتاب أو سنة قطعية، يرد عليه أن حكم الآية إما مختص بزمان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو عام يشمله وما بعده، وعلى الأول كان من اللازم أن يكونوا معروفين بهذا الشأن بما أنهم هؤلاء الأربعة من بين الناس ومن بين الصحابة خاصة، والحديث والتاريخ لا يضبطان لهم بخصوصهم شأنا من هذا القبيل، وعلى الثاني كان لازمه انقطاع حكم الآية بانقطاع زمان حياتهم، وكان لازمه أن تتصدى الآية لبيان ذلك كما في جميع الأحكام الخاصة بشطر من الزمان المذكورة في القرآن كالأحكام الخاصة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا أثر في الآية من ذلك.
د. وأما القول بأن المراد بأولي الأمر أهل الحل والعقد، وهذا القائل لما رأى أنه لم يكن في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جماعة مشخصة هم أهل الحل والعقد على حد ما يوجد بين الأمم المتمدنة ذوات المجتمعات المتشكلة كهيئة الوزراء، وجمعية المبعوثين إلى المنتدى وغير ذلك فإن الأمة لم يكن يجري فيها إلا حكم الله ورسوله، اضطر إلى تفسيره بأهل الشورى من الصحابة وخاصة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم، وكيف كان، يرد عليه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يجمع في مشاورته المؤمنين والمنافقين كعبد الله بن أبي وأصحابه، وحديث مشاورته يوم أحد معروف، وكيف يمكن أن يأمر الله سبحانه بالرد إلى أمثاله، على أن ممن لا كلام في كونه ذا هذا الشأن عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعده عبد الرحمن بن عوف، وهذه الآيات المسرودة في ذم ضعفاء المؤمنين وتعييرهم على ما وقع منهم إنما ابتدأت به وبأصحابه أعني قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا﴾ الآيات، فقد ورد في الصحيح أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف وأصحاب له، رواه النسائي في صحيحة ورواه الحاكم في مستدركه وصححه ورواه الطبري وغيره في تفاسيرهم، وقد مرت الرواية في البحث الروائي السابق، وإذا كان الأمر على هذه الوتيرة فكيف يمكن أن يؤمر في الآية بإرجاع الأمر ورده إلى مثل هؤلاء؟
هـ. فالمتعين هو الذي رجحناه في قوله تعالى ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾
10. ﴿وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ قد تقدم أن الأظهر كون الآيات مشيرة إلى قصة بدر الصغرى، وبعث أبي سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي إلى المدينة لبسط الخوف والوحشة بين الناس وإخزائهم في الخروج إلى بدر فالمراد باتباع الشيطان التصديق بما جاء به من النبإ، واتباعه في التخلف عن الخروج إلى بدر.
11. وبذلك يظهر استقامة معنى الاستثناء من غير حاجة إلى تكلف أو تمحل فإن نعيما كان يخبرهم أن أبا سفيان جمع الجموع وجهز الجيوش فاخشوهم ولا تلقوا بأنفسكم إلى حياض القتل الذريع، وقد أثر ذلك في قلوب الناس فتعللوا عن الخروج إلى موعدهم ببدر، ولم يسلم من ذلك إلا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعض خاصته وهو المراد بقوله تعالى ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾، فقد كان الناس تزلزلوا إلا القليل منهم ثم لحقوا بذلك القليل وساروا.
12. وهذا الذي استظهرناه من معنى الاستثناء هو الذي يؤيده ما مر ذكره من القرائن، على ما فيه من الاستقامة، وللمفسرين في أمر هذا الاستثناء مذاهب شتى لا يخلو شيء منها من فساد أو تكلف:
أ. فقد قيل: المراد بالفضل والرحمة ما هداهم الله إليه من إيجاب طاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر منهم، والمراد بالمستثنى هم المؤمنون أولو الفطرة السليمة والقلوب الطاهرة، ومعنى الآية: ولولا هذا الذي هداكم الله إليه من وجوب الطاعة، وإرجاع الأمر إلى الرسول وإلى أولي الأمر لاتبعتم الشيطان جميعا بالوقوع في الضلال إلا قليلا منكم من أهل الفطرة السليمة فإنهم لا يزيغون عن الحق والصلاح، وفيه أنه تخصيص الفضل والرحمة بحكم خاص من غير دليل يدل عليه، وهو بعيد من البيان القرآني، مع أن ظاهر الآية أنه امتنان في أمر ماض منقض.
ب. وقيل: إن الآية على ظاهرها، والمؤمنون غير المخلصين يحتاجون إلى فضل ورحمة زائدين وإن كان المخلصون أيضا لا يستغنون عن العناية الإلهية، وفيه أن الذي يوهمه الظاهر حينئذ مما يجب في بلاغة القرآن دفعه ولم يدفع في الآية، وقد قال تعالى: ﴿وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾ [النور: 21]، وقال مخاطبا لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو خير الناس: ﴿وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ﴾ [الإسراء: 75]
ج. وقيل: إن المراد بالفضل والرحمة القرآن والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
د. وقيل: المراد بهما الفتح والظفر، فيستقيم الاستثناء لأن الأكثرين إنما يثبتون على الحق بما يستطاب به قلوبهم من فتح وظفر وما أشبههما من العنايات الظاهرية الإلهية، ولا يصبر على مر الحق إلا القليل من المؤمنين الذين هم على بصيرة من أمرهم.
هـ. وقيل: الاستثناء إنما هو من قوله: ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾
و. وقيل: الاستثناء من قوله: ﴿الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾
ز. وقيل: إن الاستثناء إنما هو في اللفظ وهو دليل على الجمع والإحاطة فمعنى الآية: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأعلى: 7] فاستثناء المشية يفيد عموم الحكم بنفي النسيان، وجميع هذه الوجوه لا تخلو من تكلف ظاهر.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/22.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ قال في (الكشاف): (هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال، ولا استبطان للأمور، كانوا إذا جاءهم خبر عن سرايا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أمن وسلامة أو خوف وخلل أذاعوا به، وكانت إذاعتهم مفسدة، ولو ردوا ذلك الخبر إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلى أولي الأمر منهم، وهم كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون ﴿لَعَلِمَهُ﴾ لعلم تدبير ما أخبروا به ﴿الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ الذين يستخرجون تدبيره بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها)، وفيه نظر من وجوه:
أ. الأول: أنه قال: (هم ناس من ضعفة المسلمين)، مع أن السياق، والعطف يفيد أنهم المذكورون في الآيات قبلها من قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ وقد دلّت على فسادهم، وأنهم مظنة النفاق فمسارعتهم إلى إذاعة ما سمعوه إما لفساد نياتهم، وإما لعدم مبالاتهم بما تؤدي إليه الإذاعة.
ب. الثاني: أنه قال: (كانوا إذا جاءهم خبر عن سرايا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم) والآية الكريمة لا تدل على قصر الذي جاء من الأمن أو الخوف على ذلك بل ولا عليه نفسه، ومن الجائز: أن الأمن أي سبب الأمن، مثل خبر يفيد أن العدو اختلفوا مثلاً فأضربوا عن ملاقاة المسلمين في معركة متوقعة يجب على المسلمين الاستعداد لها، فيؤدي الخبر إلى ترك الاستعداد للجهاد، مع أن الخبر كذب والاستعداد ضروري، ومن الجائز: أن الخوف مثل خبر عن كثرة العدو المهاجم وكثرة عدته من الخيل وغيرها، ليرجف على المسلمين ليثبط ضعفاء الإيمان، ليتخلفوا عن الجهاد مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فلعل هؤلاء من الذين قال الله فيهم: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ [الأحزاب:60]
ج. الثالث: أنه قال: (وهم كبراء الصحابة) وقدمه قبل قوله: أو الذين كانوا يؤمرون، مع أن أولي الأمر في الحقيقة في هذه الآية هم الذين أَمَّرَهُم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتسمية من لم يؤمر ولي أمر مجاز، ولعل فائدة ذكرهم لوقت غيابهم حيث يرسلهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإذا أذاع المفسدون خبراً تضر إذاعته فعليهم أن يسألوا أميرهم عن حقيقة ذلك الخبر؛ لأن الأمراء أهل رأي وذكاء وشجاعة، وإرجاع الخبر إليهم يفيد: إما تكذيب الخبر، وإما الاستعداد بحيلة أو قوة تعارض الخبر أو نحو ذلك، وأمير المؤمنين علي عليه السلام مقدم فيهم ويلحق سائر أئمة الهدى بالقياس؛ لأن الآية في حوادث مضت، بدليل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ﴾ وفي أولئك الذين كانوا في وقت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن (الواو) في أول الآية عطف على الكلام فيهم، والضمير في ﴿جَاءَهُمْ﴾ عائد عليهم، و(جاء) فعل ماض، و﴿أَذَاعُوا﴾ فعل ماض، و﴿أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ أناسٌ مضوا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يؤمرهم.
2. وأما قول بعضهم: إن قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ راجعٌ إلى قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ وأن المعنى: ولو ردوا القرآن إلى أولي الأمر منهم، لعلم معناه الذين يستنبطونه، أي يستنبطون معنى القرآن منهم فهو مشكل؛ لأن الظاهر: عود الضمير إلى أقرب ملفوظ؛ ولأن التوصل إلى ذلك قد يؤدي إلى جعل فهم القرآن من خصائص الأئمة، وهو مذهب بعض الإمامية ليتوصلوا به إلى اشتراط أن يكون الإمام معصوماً، وبالتالي منصوصاً عليه، وهو أيضاً مذهب الباطنية، وقد رد عليهم قول الله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ كما مر في تفسيرها، وقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24] فعلى قول الباطنية على القلوب كلها أقفالها، إلا قلوب الأئمة، وبالله التوفيق، وقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة:213] فكيف يحكم بين الناس وهم لا يفهمونه، وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت:44] فكيف يهتدون بما لا يفهمونه، وقال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ [المائدة:15 ـ 16] فقال: ﴿جَاءَكُمُ﴾ أفاد: أنهم مخاطبون به، فكيف يتعذر فهمهم له وهو خطاب لهم، فهل خاطبهم الله بما لا يفهمونه؟ ثم قال: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ فعم كل مؤمن، وقال: ﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ فلو كان رموزاً لا يفهمها إلا الإمام لما كان مبيناً.
3. قال الشرفي في (المصابيح): (قوله تعالى: ﴿أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ عام في كل ما يتعلق بالحروب، وفيما يتعلق بسائر الأحكام الشرعية؛ لأن الأمن والخوف حاصل بكل ما يتعلق بباب التكليف، فثبت أنه ليس في الآية ما يوجب تخصيصها بأمر الحرب)، الكلام حكاية فعل، فهو خاص بما جاء المذكورين ﴿الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ وجاء فيهم ما ذكره الله في الآيات الماضية، وليس يعم ما أنزل الله من الوعد والوعيد وما يتعلقان به من الطاعة والمعصية؛ لأن إذاعة الوعد بالجنة والوعيد بالنار غير مذمومة، وليس يتبادر من قوله تعالى: ﴿مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ إلا الأمن من المخلوقين أو الخوف منهم، فظهر: أنه فيما يرجع إلى الأمن من أعداء الإسلام أو الخوف منهم، ولو سلمنا أنه عام للأمن من المخلوقين والأمن من الخالق والخوف من المخلوقين والخوف من الخالق فالوعد والوعيد لا يجوز كتمانه ولا يعاب إذاعته فهو مخصوص من العموم لو سلمناه، وكيف تعاب إذاعة سبب الأمن، وقد ذكره الله في الكتاب العزيز، فقال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:82]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ:37] وإذاعة هذا غير مذمومة، وكذلك في القرآن كثير من أسباب الخوف، مثل: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ إلى آخر السورة [الهُمَزة] ومثل: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾ [الجاثية:7 ـ 8] وإذاعة هذا غير مذمومة.
4. وفي هذه الآية دلالة على أن المذكورين فيها يفهمون آيات الله ولو كان فهمها خاصاً بالإمام لم يقل فيهم: ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾ [الجاثية:8] لأن من لا يفهمها يكون كأن لم يسمعها، فلا يعاب عليه أن يسمعها ثم يصير غير متأثرٍ بها ولا متعظ بها ولا مهتد، بل هو ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾ وهذا واضح، ومن الدليل قوله تعالى في القرآن: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء:193 ـ 195] واللسان العربي يفهمه العربي ولا يختص الإمام بفهمه، وقد وصفه بأنه مبين فدل على سهولة فهمه لكل من يفهم اللسان العربي فلا يختص بالأئمة.
5. ولا إشكال أنه ينبغي الإستعانة بتفسيرهم لأجل ما لهم من زيادة الفهم، فأما حجر القرآن عن غيرهم فهو فساد كبير مخالف لما علم من الدين ضرورة، وأئمة الهدى يدعون الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله، لأنهم مخاطبون بهما، ويحتجون عليهم بالآيات والأحاديث بناء على أنهم بفهمونهما:
أ. وقال قائلُ الأئمة عليهم السلام: (أطيعوني ما أطعتُ الله فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) فكيف يعلمون أنه عصى الله لولا أن عليهم أن يتمسكوا بكتاب الله، وأنهم يفهمون الكتاب والسنة فيعرفون الطاعة والمعصية، وكيف يتمسك بالكتاب من لا يفهمه!؟
ب. وفي حديث الثقلين: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي) فقدم الكتاب، وفي بعض روايات الحديث: (كتاب الله حبل طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به لا تزلوا ولا تضلوا) فكيف يتركه فيهم لينجوا من الضلال ويحثهم على التمسك به، وهم لا يستطيعون فهمه بل فهمه خاص بالإمام!؟ وفي (وصية أمير المؤمنين علي عليه السلام) رواها أبو طالب عليه السلام في (أماليه) وهي في (الباب الرابع): (أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه كتابي هذا) إلى قوله عليه السلام: (واللهَ الله في القرآن لا يسبقنكم إلى العمل به غيركم)، وهذه الوصية رواها الكليني في (الكافي) [7/ 51 ـ 52] وهي في (نهج البلاغة رقم 47) في (باب المختار من كتبه عليه السلام)
ج. وفي (النهج) غيرُها من الحث على العمل بكتاب الله كما في (عهده عليه السلام للأشتر) ومن خطبة له عليه السلام (رقم 175) في قسم (الخطب) يقول فيه: (واعلموا أنه ليس لأحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإن فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال) إلى قوله عليه السلام: (فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستغِشُّوا فيه أهواءكم)
د. وفي (الكافي) للكليني [ج 2] من الأصول [ص 598 ـ 599]: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكونيّ، عن أبي عبد الله، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أيها الناس إنكم في دار هدنة) إلى قوله.. فقام المقداد فقال: يا رسول الله وما دار الهدنة؟ قال: (دار بلاغ وانقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع، وماحلٌ مصدَّق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل) الحديث، وهو في (أمالي أبي طالب عليه السلام) في (الباب الثالث عشر) وفي (مجموع الإمام زيد بن علي عليه السلام) في (باب طاعة الإمام) بسنده عن علي عليه السلام قال: (حقٌ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يعدل في الرعيّة، فإذا فعل ذلك فحقٌ عليهم أن يسمعوا وأن يطيعوا، وأن يجيبوا إذا دعوا، وأيما إمام لم يحكم بما أنزل الله فلا طاعة له)
هـ. وقال الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام في كتاب (مديح القرآن الكبير) بعد أن أورد آيات من القرآن في فضل القرآن وما فيه من الهدى ما لفظه: (ومن لم يهتد في أمره بكتاب الله لم يهتد بغيره للحق أبداً) إلى قوله عليه السلام: (فالويل كل الويل لمن لم يكتف في أموره وأمور غيره بتنزيل رب العالمين، كيف عظم ضلاله وغيّه، وضلت أعماله وسعيه) ثم قال عليه السلام: (فمن اعتصم بنور كتاب الله وبرهانه، واتبع ما فيه من أموره وتبيانه، أدخله الله كما قال سبحانه: ﴿مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ وهداه به كما وعد صراطاً مستقيماً، ومن أبصر به واهتدى لم يعم بعده أبداً)، وقال عليه السلام في كتاب (الدليل الصغير): (الحمد لله الذي جعل الهدى فيما نزل من كتابه مكملاً، ونزّل برحمته للعباد منه بياناً مفصلاً، فيه لمن استغنى به أغنى الغنى، ولمن اجتنى ثمرات هداه أكرم مجتنى) إلى قوله عليه السلام: (فاتخذوه هادياً ودليلاً)، وقال الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام): (يجب على الإمام أن يكتب إلى الباغين كتاباً قبل مسيره إليهم يدعوهم فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقال عليه السلام فيها في (باب القول في معاونة الظالمين) في الكلام في أعداء أهل البيت الذين يُحمِّلون البريء ذنب المذنب منهم: (وَيْح من فعل ذلك من هذه الأمة، أما يسمع قول الله سبحانه حين يقول في ذلك وفيمن كان من الخلق كذلك: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام:164]) إلى قوله عليه السلام: (بل قد سمعوه ووعوه، ولكن عاندوا في ذلك الحق) إلى قوله: (كأن لم يسمعوا الله سبحانه كيف أمر نبيه أمراً بأن يفرض على الأمة مودتهم فرضاً فقال: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى:23] بلى قد سمعوا ذلك بآذانهم، وفهموا فرض الله فيهم بقلوبهم، ثم رفضوا من بعد ذلك رفضاً)
و. وفي (أمالي أبي طالب عليه السلام) في (قصة عن بعض أعداء الناصر الحسن بن علي الأطروش عليه السلام) أنه قال في الناصر نكرهه؛ لأنه يحسن مثل هذه الحجة؛ ولأنه يرد متقلداً مصحفه وسيفه، ويقول: قال أبي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) فهذا هو كتاب الله أكبر الثقلين، وأنا عترة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أحد الثقلين.
6. فهذه الجملة تفيد: أن أئمة أهل البيت عليهم السلام وخيارهم يدعون إلى كتاب الله، ويحتجون على الأمة به، ومعنى هذا: أن فهمه ممكن للأمة، وإلا لما كان لدعوتهم إليه معنى، ولا ينافي هذا أن الخاصة قد يفهمون من القرآن معاني ما يرتقي إليها فهم العامة في جوانب معينة، ولهذا أمر الله بسؤال أهل الذكر في قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ [الأنبياء 7] وقد طال الكلام ومعناه أمر مفروغ منه في هذا العصر في بلادنا، ولكن لا يبعد تغير الحال عن قريب والله المستعان.
7. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ الخطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه الذين هداهم الله وعصمهم عن أن يكونوا مثل المذكورين في الآيات من قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ إلى هذه الآية، فبَيَّن للمؤمنين أن ذلك للمؤمنين كان بفضل الله ورحمته وتوفيقه وهدايته، فعليهم: أن يشكروا نعمته بما أنزل من الإنذار، ولا يعجبوا بأنفسهم فإنها قريبة التحول إذا لم يكن لها من لطف الله عاصم ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي منكم، ولعله: رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلي عليه السلام، وأبو ذر ونحوه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/120.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ تتابع السورة التخطيط لإلزام المجتمع بالقواعد الأساسية للسلامة العامة، من خلال الحديث عن بعض النماذج القلقة التي انحرفت عن ذلك، وكيف أراد القرآن لها أن تصحّح مواقفها العملية في هذا الاتجاه؛ فقد كان بعض الناس في مجتمع الرسول في المدينة مولعين بنشر كل ما يسمعونه وإذاعته، من دون التدقيق في صدقه وكذبه، أو في نفعه وضرره، فيؤدي ذلك إلى إحداث حالة ارتباك في حياة المجتمع، فقد يكون الخبر متعلقا بالأمن من بعض الجوانب، من خلال ما كان يعيشه المسلمون من التحديات العسكرية أمام الأعداء، في الوقت الذي تحتاج فيه الساحة إلى الحذر واليقظة والتوتر الانفعالي والشعور بالخطر، وقد يكون متعلقا بالخوف من بعض الأوضاع، في الوقت الذي يؤدي ذلك إلى سقوط الساحة تحت وطأة الرعب، وانهيار الروح المعنوية تحت تأثير التهاويل التي تثيرها الإشاعة.
2. وربما تكون قضايا الأمن والخوف متصلة ببعض القضايا التي تمس جانب السلامة للإسلام والمسلمين، عند ما تتعلق بالأسرار العسكرية في الداخل والخارج، مما يكون للحديث عنها تأثير سلبي على سلامة المجتمع في حالتي السلم والحرب، وقد وجّه القرآن المسلمين إلى التحفظ في ذلك من موقع المسؤولية، لأن الكثيرين منهم لا يحيطون بجوانب الأمور كلها، فقد يلتفتون إلى جانب منها فيحدث لهم نوع من الإثارة، ويغفلون عن الجوانب الأخرى التي يمكن أن تعطل مفعول الإثارة في النفس، لأنها تمثل عنصرا من عناصر التهدئة والشعور بالسلام، وقد تكون المسألة ذات أبعاد بعيدة عن الأجواء الذاتية التي يعيشها الناس، فلا يعرفون قيمتها السلبية والإيجابية على طبيعة الأحداث العامة في حياة الناس؛ ولهذا توجه القرآن إلى المسلمين بإرجاع ذلك إلى الرسول الذي يعرف من شؤون الساحة ما لا يعلمه الآخرون، في ما يضر وما ينفع؛ وذلك من خلال وحي الله في ما يحتاج إلى نزول الوحي، ومن خلال الإحاطة الواقعية في نطاق الرؤية والتجربة.
3. ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ فيمكن أن يعرّفهم من ذلك ما لا يعرفون، ويبصّرهم ما لا يبصرون، أو يرجعهم إلى أهل الخبرة الذين أعدّهم للمسؤولية في حماية المجتمع وإدارته بقيادته؛ وفي حالة غياب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن عليهم إرجاعه إلى أولى الأمر الذين يملكون زمام الموقف وشرعيته من خلال مواقعهم التي وضعهم الله فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، وانطلاقا من الخطة الإسلامية الموضوعة لتحديد المسؤوليات العملية في الأمة.
4. ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ فإنهم يدرسون ذلك من جميع جوانبه، ويقارنون ـ في دراستهم له ـ بين جميع الأمور المتعلقة بالموضوع، ويستنبطون منهما الفكرة الصحيحة السليمة التي تضع الأمور في نصابها الصحيح، فيوحون بإذاعة الأخبار التي لا ضرر على الموقف منها، ويوصون بالامتناع عما يحدث الضرر للناس، ويقودون المجتمع إلى الانضباط في ما يصلح أمره أو يفسده.
5. وتلك هي قضية الالتزام بالإسلام في حياة الإنسان المسلّم، فليس هو مزاجا يتقلب حسب تقلب الظروف، وليس شهوة يستسلم لها، بل هو التزام بمصلحة الفرد والمجموع معا، وانضباط عند حدود الله في ما يأمر به وما ينهى عنه، وإطاعة للقيادة الشرعية في توجيهها وتخطيطها وقيادتها للأمة، فلا مجال للتحرك الذاتي إلّا بالمقدار الذي لا يسيء إلى مصلحة حركة المجموع، ولا مجال للذاتية في تقييم الأوضاع في علاقتها بالخطة، بل لا بد من الرجوع إلى أولي الأمر، لأنهم يملكون من النظرة والإحاطة والعمق ما لا يملكه الفرد أو الأفراد البعيدون عن ساحة المسؤولية، وهذا ما يمكن أن تقصده الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ في هدايتكم لدينه، وتسديد خطاكم بوحيه، من خلال ما رسمه لكم من خط للحياة في أمورها الصغيرة والكبيرة.
6. ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ الذي يقودكم إلى اتباع هوى أنفسكم والاستسلام لنوازعكم الذاتية التي لا تراقب في الأشياء إلا ظواهرها السطحية، أو نتائجها الجزئية، لأن دوره هو أن يبعدكم عن الله في حركة الفكر في الذات وفي حركتها في التطبيق على صعيد الواقع ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ منكم ممن يتوقفون ليفكروا وليتأملوا وليهتدوا، فيرجعوا إلى الخط المستقيم قبل أن تنحرف بهم الأهواء ذات اليمين وذات الشمال.
7. قد نستوحي من هذه الآية، أن على العاملين في سبيل الله الذين يتحركون في عملهم في نطاق الخطة الشاملة، أن يتحركوا من مواقع مسئولياتهم، لا من مواقعهم الذاتية، فيحترمون أسرار العمل في كل شيء، وينضبطون في أحاديثهم بالتدقيق في كل كلمة من كلماتهم، لئلا تتحرك الكلمات في غير مصلحة الإسلام من دون وعي وتدبّر، ولا سيما في الظروف الصعبة التي يملك فيها أعداء الإسلام الأجهزة المعقّدة من المخابرات التي تحاول الاطلاع على كل شيء في الساحة، لتحوّله إلى وسيلة ضغط على الإسلام والمسلمين، كما تملك أجهزة الاعلام التي تصنع الأخبار الكاذبة وتثير الإشاعات المغرضة في قضايا الأمن والخوف ونحوهما، من أجل أن تربك الساحة، وتبلبل الذهنية المسلمة، وتؤدي بالموقف إلى حالة ضياع وارتباك.
8. قد لا يقتصر الأمر على المسائل المتصلة بالعمل الإسلامي، بل يمتد إلى المسائل المتصلة بكل قضايا المسلمين في العالم سواء منها الذي يتحرك في نطاق إسلامي، أو الذي يتحرك في نطاق عام، ولكنه ـ في نهاية المطاف ـ يرتبط بمصلحة الأمة في حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، لأن من واجب المسلم أن يهتم بأمور المسلمين على كل صعيد، فيحفظها من كل عدو، ويصونها من كل ألوان الخطر والضياع.
9. وإذا كان الإسلام يرفض من المسلمين التجاوب مع الإشاعات التي يطلقها الآخرون في قضايا الأمن والخوف، فإنه يريد ـ من خلال ذلك ـ الإيحاء بخطورة الإشاعة في الأوضاع الاجتماعية والسياسية من حيث تأثيرها على الذهنية العامة في التصورات الخاطئة المضادة للحقيقة، مما يجعلها تضغط على الواقع بالطريقة التي تربك فيها حركته في الاتجاه الصحيح وتعطل خطط القيادة الصالحة عن تنفيذ ما تريده وتخطط له من أجل المصلحة العامة.
10. لعلّ من الطبيعي ـ في هذا الاتجاه ـ أن نقف ـ بحزم ـ ضد الذين يثيرون الإشاعات من أجل فضح أكاذيبهم وتعطيل مخططاتهم في الإخلال باستقرار المجتمع، لأننا إذا أهملنا هذا الأمر ووقفنا منه موقف اللامبالاة فإن ذلك سيتحول إلى خطر على المجتمع وعلى الوضع العام كله.
11. إذا كانت الإشاعات سلاحا بيد الأعداء، فقد تقتضي الحاجة، من خلال المصلحة الإسلامية العليا، العمل على إلحاق الاهتزاز النفسي والسياسي في داخل مجتمعاتهم لإسقاط أوضاعهم العامة والخاصة بذلك، تفاديا للمعركة الأكثر خطورة وللمشكلة الأكبر تعقيدا، ولكن ذلك يحتاج إلى المزيد من الدقة ودراسة التوازنات في المصالح والمفاسد الكامنة في طبيعة الواقع لأن التسرع في مثل هذه الأوضاع يؤدي بها إلى النتائج السلبية التي ليست في مصلحة الجميع.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/374
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تشير هذه الآية إلى حركة منحرفة أخرى من حركات المنافقين أو ضعاف الإيمان، تتمثل في سعيهم إلى تلقف أي نبأ عن انتصار المسلمين أو هزيمتهم، وبثّه بين الناس في كل مكان، دون التحقيق والتدقيق في أصل هذا النبأ أو التأكد من مصدره، وكان الكثير من هذه الأنباء لا يتعدى إشاعة عمد أعداء المسلمين إلى بثّها لتحقيق أهدافهم الدنيئة وليسيئوا إلى معنويات المسلمين ويضروا بهم، ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ بينما كان من واجب هؤلاء أن يوصلوا هذه الأخبار إلى قادتهم كي يستفيدوا من معلومات هؤلاء القادة وفكرهم ولكي يتجنبوا دفع المسلمين إلى حالة من الغرور حيال انتصارات خيالية وهمية، أو إلى إضعاف معنوياتهم بإشاعة أنباء عن هزيمة لا حقيقة لها.
2. ﴿ولَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ (يستنبطونه) من مادة (نبط) التي تعني أوّل ما يستخرج من ماء البئر أو الينبوع، والاستنباط استخراج الحقيقة من الأدلة والشواهد والوثائق، سواء كانت العملية في الفقه أو الفلسفة أو السياسة أو سائر العلوم.
3. ﴿أُولِي الْأَمْرِ﴾ في الآية هم المحيطون بالأمور القادرون على أن يوضحوا للناس ما كان حقيقيا منها وما كان إشاعة فارغة، وهم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وخلفاؤه من أئمّة أهل البيت عليهم السّلام بالدّرجة الأولى، ويأتي من بعدهم العلماء المتخصصون في هذه المسائل، روي عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السّلام في تفسير أُولِي الْأَمْرِ في هذه الآية قال: (هم الأئمّة) كما في تفسير نور الثقلين، وهناك روايات أخرى أيضا في هذا المجال بنفس المضمون.
4. سؤال وإشكال: لعل هناك من يعترض على هذه الرّوايات قائلا: إنّ الأئمّة من أهل البيت عليهم السّلام لم يكونوا موجودين في زمن نزول هذه الآية، ولم يتعين أحد منهم في ذلك الوقت بمنصب الإمامة أو الولاية، فكيف يمكن القول بأنّهم هم المعنيون بهذه الآية؟ والجواب: على هذا الاعتراض: هو أنّ هذه الآية مثل سائر الآيات القرآنية الاخرى لا تقتصر على زمن الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقط، بل تحمل حكما عاما يشمل كل الأزمنة والقرون التالية لمواجهة الإشاعات التي يبثّها الأعداء أو البسطاء من المسلمين بين الأمّة.
5. أضرار اختلاق الإشاعة ونشرها(2):
أ. لقد ابتليت المجتمعات البشرية وعانت الكثير من المصائب والنكبات الرهبية، بسبب بروز ظاهرة اختلاق الإشاعة ونشرها بين الأفراد حيث كانت تؤثر تأثيرا سلبيا كبيرا على معنويات أفراد المجتمع، وتضعف فيهم الروح الاجتماعية وروح التفاهم والتعاون بين أبناء المجتمع الواحد.
ب. وتبدأ الإشاعة بأن يختلق منافق كذبة، ثمّ ينشرها بين أفراد مغرضين أو بسطاء، ليقوموا بدورهم بالترويج لها بين أبناء المجتمع دون التحقيق فيها، بل يهولونها ويفرعونها ممّا يؤدي إلى استنزاف مقدار كبير من طاقات الناس وأفكارهم وأوقاتهم، وإلى إثارة القلق والاضطراب بينهم، وكثيرا ما تؤدي الإشاعة إلى زعزعة الثقة بين أفراد المجتمع، وتؤدي إلى خلق حالة من اللامبالاة والتردد في أداء المسؤوليات.
ج. ومع أنّ بعض المجتمعات التي تعاني من الكبت والإرهاب تعمد إلى الإشاعة كأسلوب من الكفاح السلبي، انتقاما من الحكومات الطاغية الجائرة، فالإشاعة بحدّ ذاتها تعتبر خطرا كبيرا على المجتمعات السليمة، فإذا اتجهت الإشاعة إلى الأفراد الكفوئين من المفكرين والخبراء والعاملين في المرافق الهامّة للمجتمع، فإنّها ستؤدي إلى حالة من البرود في نشاطات هؤلاء، وقد تصادر مكانتهم الاجتماعية، وتحرم المجتمع من خدماتهم.
د. من هنا كافح الإسلام بشدة (اختلاق الإشاعات) والافتراء والكذب والتهمة، مثل ما حارب نشر الإشاعات كما في هذه الآية.
6. تؤكد الآية في ختامها على أنّ الله قد صان المسلمين بفضله ولطفه وكرمه من آثار إشاعات المنافقين والمغرضين وضعاف الإيمان، وأنقذهم من نتائجها وعواقبها الوخيمة، ولولا الإنقاذ الإلهي ما نجى من الانزلاق في خط الشيطان إلّا قليلا: ولَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا أي أنّ النّبي وأصحاب الرأي والعلماء المدققين هم وحدهم القادرون على أن يكونوا مصونين من وساوس الشائعات ومشيعيها، أمّا أكثرية المجتمع فلا بدّ لها من القيادة السليمة لتسلم من عواقب اختلاق الشائعات ونشرها.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/349
(2) تقسيم الفروع هنا ليس منهجيا، وإنما من باب التبسيط فقط
79. القتال والتكليف
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈79⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ [النساء: 84]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿عَسَى﴾، قال عسى من الله واجب(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠١٨.
البراء:
روي عن البراء بن عازب (ت 72 هـ) أنه قيل له: الرجل يحمل على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا؛ إن الله بعث رسوله وقال: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾، إنما ذلك في النفقة(1).
__________
(1) أحمد ٣٠/٤٢٧.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: إن لكل كلبا يبغي الشر فاجتنبوه، يكفكم الله بغيركم، إن الله يقول: ﴿وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ لا تعلموا بالشر(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/262.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾، عقوبة(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٦٨.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ معناه حضّض(1).
2. روي أنّه قال: ﴿عَسَى اللهُ﴾ معناه إيجاب(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 122.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن الله كلف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما لم يكلف به أحدا من خلقه، كلفه أن يخرج على الناس كلهم وحده بنفسه، وإن لم يجد فئة تقاتل معه، ولم يكلف هذا أحدا من خلقه قبله ولا بعده، ثم تلا هذه الآية: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ ثم قال: ـ وجعل الله له أن يأخذ ما أخذ لنفسه، فقال عز وجل: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ وجعل الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعشر حسنات(1).
2. روي أنه قيل له: قول الناس للإمام علي: إن كان له حق فما منعه أن يقوم به؟ فقال: إن الله لا يكلف هذا إلا إنسانا واحدا: رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فليس هذا إلا للرسول، وقال لغيره: ﴿إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾ فلم يكن يومئذ فئة يعينونه على أمره(2).
3. روي أنّه قال: ما سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئا قط فقال: لا، إن كان عنده أعطاه، وإن لم يكن عنده قال يكون إن شاء الله، ولا كافأ بالسيئة قط، وما لقي سرية مذ نزلت عليه ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ إلا ولي بنفسه(2).
4. روي أنّه قال: لما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ كان أشجع الناس من لاذ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).
5. روي أنّه قال: رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كلف ـ ما لم يكلف به أحد ـ أن يقاتل في سبيل الله وحده، وقال: ﴿حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ وقال ـ إنما كلفتم اليسير من الأمر، أن تذكروا الله(3).
__________
(1) الكافي 8/274.
(2) تفسير العيّاشي 1/261.
(3) تفسير العيّاشي 1/262.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم قال عز وجل: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ فأمره أن يقاتل بنفسه، ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ يعني: ليس عليك ذنب غيرك(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، يعني: وحرض على القتال، يعني: على قتال العدو(2).
3. روي أنّه قال: ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ﴾ يعني: قتال ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا﴾ يعني: أخذا، ﴿وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ يعني: نكالا، يعني: عقوبة من الكفار، ولو لم يطع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أحدا من الكفار لكفاه الله عز وجل(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٤.
(2) [مقاتل] مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) ١/٣٩٤.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أي: ليس عليك حسابهم ولا جزاء تخلفهم، إنما حساب ذلك عليهم؛ كقوله عز وجل: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾، وكقوله عز وجل: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾
ب. والثاني: ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ أي: تكلف أنت بالقتال والجهاد، وإن تخلف هَؤُلَاءِ عن الخروج معك؛ يؤيد ذلك ما روي عن ابن عَبَّاسٍ قال: هذا حين استنفر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه بوعد أبي سفيان بدرا الصغرى، فخذله الناس؛ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية؛ فقال رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لَأخْرُجَن إِلَى بَدْرٍ وَإِنْ لَم يتبِعْنِي أَحَدٌ مِنْكُم) فاتبعه أقل الصحابة وقالوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل.
2. في الآية الكريمة دليل وعد النصر له والفتح، والنكبة على الأعداء؛ لأنه تكلف الخروج وحده؛ فلو لم يكن وعد النصر له ـ لم يؤمر بالخروج؛ ألا ترى أنه قال اللَّه عز وجل: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، و(عسى) من اللَّه تعالى واجب، وفي قوله تعالى: ﴿عَسَى اللَّهُ﴾ وعد نصره وإن خرج وحده؛ إذ الـ (عسى) هو من اللَّه واجب.
3. قوله عز وجل: ﴿حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يحتمل وجوهًا:
أ. يحتمل: حرض المؤمنين بالثواب لهم وكريم المآب على ذلك.
ب. ويحتمل قوله تعالى: و﴿حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ لما في القتال معهم إظهار دين اللَّه ـ الإسلام ـ وفي ترك المجاهدة والقتال معهم نصر العدو عليهم، وإظهار دينهم، أمر عز وجل رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليرغبهم في مجاهدة أعدائهم.
ج. والثالث: وحرض المؤمنين على المجاهدة والقتال معهم؛ وعدًا بالنصر لهم، والفتح، والغنيمة.
4. قوله عز وجل: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، والـ (عسى) من اللَّه واجب؛ وعد اللَّه نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يكف عنهم بأس الذين كفروا.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾:
أ. قيل: قوله: ﴿أَشَدُّ بَأْسًا﴾؛ لما يدفع بأس المشركين عنكم، ولا يقدرون هم دفع بأس اللَّه عن أنفسهم؛ فبأس اللَّه أشد، وقوله ـ سبحانه ـ: ﴿وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾، قيل: التنكيل: هو العذاب الذي يكون للآخر فيه زجر ومنع.
ب. وقيل: حين قال له: ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾؛ ولو لم يتبعك أحد من الناس ـ لكف الله عنك بأس المشركين.
ج. وقيل: البأس: هو عذاب الدنيا، والتنكيل والنكال: هو عذاب الآخرة؛ كأنه يخوفهم ببأسه؛ لتخلفهم عن العدو ومخافة بأسهم وعذابهم؛ فأخبر اللَّه عز وجل، أن بأس اللَّه وعذابه أشد من بأس الأعداء.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٢٧9
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ على القتال، أي حثهم وأمرهم ونشطهم على قتال الفاسقين، وحرضهم على قتال أعداء الله المشركين.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/247.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة أمره اللَّه أن يقاتل في سبيل اللَّه وحده بنفسه، وقوله: ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ معناه لا تكلف إلا فعل نفسك، لأنه لا ضرر عليك في فعل غيرك فلا تهتم بتخلف المنافقين عن الجهاد فعليهم ضرر ذلك، وليس المراد لا يأمر أحداً بالجهاد، وانما أراد ما قلناه ألا ترى أنه قال ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ على القتال يعني حثهم على الجهاد، وفي ذلك دلالة على أنه لا يجوز أن يؤاخذ اللَّه الأطفال بكفر آبائهم ويؤيده قوله: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ لأن مفهوم هذا الكلام أنه لا يجوز أن تؤخذ بذنب غيرك.
2. الفاء في قوله: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قيل في معناه قولان:
أ. أحدهما ـ أن يكون جواباً لقوله: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ هكذا ذكره الزجاج، لأنه محمول على المعنى من حيث دل على معنى إن أردت الفوز، فقاتل.
ب. الثاني ـ أن يكون متصلا بقوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فقال في سبيل اللَّه، كذا ذكره الزجاج ووجهه لاحظ لك في ترك القتال فتتركه، ثم وضع فقاتل موضع فتتركه.
3. ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ معناه حثهم ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ﴾ قال الحسن، والبلخي، والزجاج: إن (عسى) من اللَّه واجب ووجه ذلك ان اطماع الكريم انجاز وانما الاطماع تقوية أحد الامرين على الآخر دون قيام الدليل على التكافؤ في الجواز.
4. خرج (عسى) في هذا من معنى الشك كخروجها في قول القائل: أطع ربك في كل ما أمرك به، ونهاك عنه عسى ان تفلح بطاعتك.
5. معنى ﴿أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ان يمنع شدة الكفار، ثم قال: ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ فالبأس: الشدة في كل شيء، ومعنى التنكيل:
أ. قال الحسن، وقتادة: هو العقوبة.
ب. وقال أبو علي الجبائي: هو الشدة بالأمور الفاضحة ونكل به، وشوه به، وندد به نظائر.
6. أصله النكول: وهو الامتناع للخوف. نكل عن اليمين، وغيرها ينكل نكولا. والنكال: ما يمتنع به من الفساد خوفا من مثله من العذاب. والنكل القيد.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/276
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. حَرَّضَ من التحريض وهو الحث.
ب. البأس: الشدة، وهو حث الناس بالشدة في الحرب، ورجل ذو بأس، وقد بأس بأسًا.
ج. أصل التنكيل النكول وهو الامتناع للخوف، ونكل عن اليمين ينكل نكولاً، والنكال: العقوبة سمي بذلك؛ لأنه به يمتنع من الفساد خوفًا منه، والنِّكل: القيد، ونكل به وشَرِّد به من النظائر.
2. قيل: لما نزلت هذه الآية حرضهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على الجهاد فتثاقلوا، فخرج في سبعين راكبًا حتى أتى موسما ببدر فكفاهم الله بأس العدو ولم يوافهم أبو سفيان للميعاد، ولم يكن قتالٌ فانصرفوا.
3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: إنه يتصل بقوله: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾، وبقوله: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ﴾ لما أمر بالقتال وحث عليه بين تثاقل المنافقين ووصفهم ثم عاد إلى ذكر الجهاد، فقال: فقاتل أنت إن لم يقاتلوا، وحرض المؤمنين إن كان المنافقون تثاقلوا.
ب. وقيل: إنه يتصل بقوله: ومن يطع الرسول)؛ لأنه كأنه قيل: فإن لم يطعك أحد فقاتل أنت وحرصْ المؤمنين.
ج. وقيل: إنه ابتدأ بخطاب المنافقين وذمهم ثم خاطب المؤمنين، ثم عاد الخطاب إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمره بالقتال غير مستوحش من قعود من قعد؛ لأن عليه أن يطيع ويدعو، وليس عليه بعد البلاغ شيء عن أبي مسلم.
4. ﴿فَقَاتِلْ﴾ يا محمد يعني جاهد ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ وطاعته ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾:
أ. وقيل: لا تؤاخذ إلا بكسبك دون كسب غيرك، فإذا أديت فرضك لا تكلف فرض غيرك.
ب. وقيل: إذا أديت فرضك لا يضرك تخلف غيرك.
5. ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي حثهم على جهاد الأعداء ﴿عَسَى اللهُ﴾:
أ. قيل ﴿عَسَى﴾ من الله: واجب عن الحسن وأبي القاسم والزجاج.
ب. وقيل: حرضهم متعرضين راجين أن يكف الله أمرهم.
6. ﴿أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾:
أ. أي يكفي صولة الكفار وقتالهم.
ب. وقيل: هو الشدة والكره عن أبي مسلم.
7. ﴿وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا﴾ يعني نكاية في الأعداء منكم، ﴿وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾:
أ. قيل: عقوبة عن الحسن وقتادة.
ب. وقيل: التنكيل: الشهرة بالأمور الفاضحة عن القاضي عن أبي علي.
ج. وقيل: هو ما ينالهم عن أيدي المسلمين من الإذلال والسبي والقتل، وتخريب الديار.
د. وقيل: أشد انتقامًا وإهلاكًا عن الأصم.
8. سؤال وإشكال: سأل بعض الملحدة بأن عندكم ﴿عَسَى﴾ من الله واجب فقد وعد رد بأس الكفار، ونحن لا نرى الكفار في بأس وشدة؟ والجواب: من وجوه:
أ. أولها وأصحها: أنه أراد قاتل أنت فما تقاتل أحدًا إلا نصرك الله، ورد بأس الكفار، فيجري الكلام على ظاهره.
ب. ثانيها: قيل: إنه عموم والمراد أنه الخصوص في موضع رد بأسهم، كما فعل ببدر وحنين وخيبر ونحوها.
ج. ثالثها: أنه في بني نضير ألقى الله الرعب في قلوبهم فخرجوا من ديارهم من غير قتال.
د. رابعها: أنه أراد به اليهود والنصارى الَّذِينَ قبلوا الجزية.
هـ. خامسها: أراد أنه يرد بأسهم حتى لا يَغلبوا على دار الإسلام، فوجد كما وعد.
9. تدل الآية الكريمة على:
أ. أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم مكلف بالجهاد ولو كان وحده، وأنه في حقه من فروض الأعيان.
ب. أنه على ثقة من النصرة لقوله: ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ﴾ ولا خلاف أن الجهاد في غير حق الرسول من فروض الكفاية، فما لم يغلب على ظنه أنه يؤثر لا يجب بخلاف الرسول، فإنه على ثقة من النصر والظفر فلزمه الجهاد وإن كان وحدَهُ، ذكره القاضي، وذكر الأصم أن أبا بكر قال لأصحابه في أمر الردة: لو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي، والواحد إذا جاهد لإعزاز الدين حتى قُتل كان له الثواب العظيم.
ج. أن أحدًا لا يؤخذ بذنب غيره.
د. أن الجهاد فرض على المؤمنين، ولذلك قال: ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
10. الفاء في قوله: ﴿فَقَاتِلْ﴾ فيه قولان:
أ. أوله: أنه جواب لقوله: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ عن الزجاج، ووجه ذلك: أنه محمول على المعنى؛ لأنه قد دل على معنى إن أردت الفوز فقاتل.
ب. ثانيها: أن يكون سَبِيلًا بقوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ﴾ ﴿فَقَاتِلْ﴾ عن الزجاج، ووجه ذلك: لا حظ لكم في ترك القتال فيتركه، ثم يوضع ﴿فَقَاتِلْ﴾ موضع فيتركه.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/727
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. نكل به، وندد به، وشرد به، نظائر، وأصله، النكول: وهو الامتناع للخوف، يقال نكل عن اليمين وغيرها، والنكال: ما يمتنع به من الفساد خوفا من مثله من العذاب، والنكل: القيد.
2. عاد تعالى إلى الامر بالقتال، فقال: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قيل في الفاء قولان:
أ. أحدهما: إنه جواب لقوله: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فيكون المعنى: إن أردت الأجر العظيم، فقاتل في سبيل الله.
ب. والآخر: أن يكون متصلا بقوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عن الزجاج، ووجهه أنه لاحظ لك في ترك القتال فتتركه، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، أمره الله أن يقاتل في سبيل الله وحده، بنفسه.
3. ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ معناه: لا تكلف إلا فعل نفسك، فإنه لا ضرر عليك في فعل غيرك، فلا تهتم بتخلف المنافقين عن الجهاد، فإن ضرر ذلك عليهم.
4. ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ على القتال: أي حثهم عليه ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: أي يمنع شدة الكفار، قال الحسن: عسى من الله واجب، ووجه ذلك أن أطماع الكريم إنجاز، وإنما الأطماع تقوية أحد الأمرين على الآخر، دون قيام الدليل على التكافؤ في الجواز، وخروج ﴿عَسَى﴾ في هذا من معنى الشك، كخروجها في قول القائل: (أطع ربك في كل ما أمرك به ونهاك عنه عسى أن تفلح بطاعتك)
5. ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا﴾: أي أشد نكاية في الأعداء منكم ﴿وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾:
أ. قيل: أي عقوبة، عن الحسن، وقتادة.
ب. وقيل: التنكيل الشهرة بالأمور الفاضحة، عن أبي علي الجبائي.
ج. وقيل: هو ما ينالهم على أيدي المسلمين من الإذلال، والسبي، والقتل، وتخريب الديار.
د. وقيل: هو الانتقام والإهلاك.
6. قال الكلبي: إن أبا سفيان لما رجع إلى مكة، يوم أحد، واعد رسول الله موسم بدر الصغرى، وهو سوق تقوم في ذي القعدة، فلما بلغ النبي الميعاد، قال للناس: أخرجوا إلى الميعاد فتثاقلوا وكرهوا ذلك كراهة شديدة، أو بعضهم، فأنزل الله هذه الآية، فحرض النبي المؤمنين، فتثاقلوا عنه، ولم يخرجوا، فخرج رسول الله في سبعين راكبا، حتى أتى موسم بدر، فكفاهم الله بأس العدو، ولم يوافهم أبو سفيان، ولم يكن قتال يومئذ، وانصرف رسول الله بمن معه سالمين.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/126.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سبب نزول قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لما ندب النّاس لموعد أبي سفيان ببدر الصّغرى بعد أحد، كره بعضهم ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
2. في (فاء) ﴿فَقَاتِلْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه جواب قوله ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ﴾
ب. الثاني: أنها متّصلة بقوله ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ذكرهما ابن السّريّ، والمراد بسبيل الله: الجهاد.
3. ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ أي: إلا المجاهدة بنفسك، و﴿حَرِّضِ﴾: بمعنى حضّض، قال الزجّاج: ومعنى ﴿عَسَى﴾ في اللغة: معنى الطّمع والإشفاق، والإطماع من الله واجب، و(البأس): الشّدّة، وقال ابن عباس: والله أشدّ عذابا، قال قتادة: و(التّنكيل): العقوبة.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/441
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أمر الله تعالى بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب في الآيات المتقدمة، وذكر في المنافقين قلة رغبتهم في الجهاد، بل ذكر عنهم شدة سعيهم في تثبيط المسلمين عن الجهاد، عاد في هذه الآية إلى الأمر بالجهاد فقال: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾
2. في تعلق الفاء في قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ﴾ وجوه:
أ. الأول: أنها جواب لقوله: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ﴾ [النساء: 74] من طريق المعنى لأنه يدل على معنى ان أردت الفوز فقاتل
ب. الثاني: أن يكون متصلا بقوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء: 75] ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء: 84]
ج. الثالث: أن يكون متصلا بمعنى ما ذكر من قصص المنافقين، والمعنى أن من أخلاق هؤلاء المنافقين كذا وكذا، فلا تعتد بهم ولا تلتفت إلى أفعالهم، بل قاتل.
3. دلت الآية على أن اللَّه تعالى أمره بالجهاد ولو وحده قبل دعاء الناس في بدر الصغرى إلى الخروج، وكان أبو سفيان واعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا، فنزلت هذه الآية، فخرج وما معه الا سبعون رجلا ولم يلتفت إلى أحد، ولو لم يتبعوه لخرج وحده.
4. دلت الآية على أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم موصوف بهذه الصفات، ولقد اقتدى به أبو بكر حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة، ومن علم ان الأمر كله بيد اللَّه وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء اللَّه سهل ذلك عليه.
5. ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ قال صاحب (الكشاف): قرئ لا تكلف بالجزم على النهي، ولا نكلف بالنون وكسر اللام، أي لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها، قال الواحدي انتصاب قوله: ﴿نَفْسَكَ﴾ على مفعول ما لم يسم فاعله.
6. دلت الآية على أنه لو لم يساعده على القتال غيره لم يجز له التخلف عن الجهاد البتة، والمعنى لا تؤاخذ إلا بفعلك دون فعل غيرك، فإذا أديت فعلك لا تكلف بفرض غيرك.
7. الجهاد في حق غير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من فروض الكفايات، فما لم يغلب على الظن أنه يفيد لم يجب، بخلاف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فانه على ثقة من النصر والظفر بدليل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67] وبدليل قوله هاهنا: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ و(عسى) من اللَّه جزم، فلزمه الجهاد وان كان وحده.
8. ثم قال تعالى: ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والمعنى ان الواجب على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما هو الجهاد وتحريض الناس في الجهاد، فان أتى بهذين الأمرين فقد خرج عن عهدة التكليف وليس عليه من كون غيره تاركا للجهاد شيء.
9. ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ﴿عَسَى﴾ حرف من حروف المقاربة وفيه ترج وطمع، وذلك على اللَّه تعالى محال، والجواب عنه ان (عسى) معناها الأطماع، وليس في الأطماع أنه شك أو يقين، وقال بعضهم: إطماع الكريم إيجاب.
10. ﴿أَنْ يَكُفَّ﴾ الكف المنع، والبأس أصله المكروه، يقال ما عليك من هذا الأمر بأس أي مكروه، ويقال بئس الشيء هذا إذا وصف بالرداءة، وقوله: ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعراف: 165] أي مكروه، والعذاب قد يسمى بأسا لكونه مكروها، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ﴾ [غافر: 29] ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا﴾ [الأنبياء: 12] ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: 84] قال المفسرون: عسى اللَّه أن يكف بأس الذين كفروا، وقد كف بأسهم، فقد بدا لأبي سفيان وقال: هذا عام مجدب وما كان معهم زاد إلا السويق، فترك الذهاب إلى محاربة رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
11. ثم قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ يقال: نكلت فلانا إذا عاقبته عقوبة تنكل غيره عن ارتكاب مثله، من قولهم: نكل الرجل عن الشيء إذا جبن عنه وامتنع منه، قال تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة: 66]، وقال في السرقة: ﴿بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ﴾ [المائدة: 38] ويقال: نكل فلان عن اليمين إذا خافه ولم يقدم عليه.
12. الآية دالة على أن عذاب اللَّه وتنكيله أشد من عذاب غيره ومن تنكيله، وأقبل الوجوه في بيان هذا التفاوت أن عذاب غير اللَّه لا يكون دائما، وعذاب اللَّه دائم في الآخرة، وعذاب غير اللَّه قد يخلص اللَّه منه، وعذاب اللَّه لا يقدر أحد على التخلص منه، وأيضا عذاب غير اللَّه لا يكون إلا من وجه واحد، وعذاب اللَّه قد يصل إلى جميع الأجزاء والأبعاض والروح والبدن.
__________
(1) التفسير الكبير: 10/158
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ هذه الفاء متعلقة بقوله ﴿ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما، فقاتل في سبيل الله﴾ أي من أجل هذا فقاتل، وقيل: هي متعلقة بقوله: ﴿وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، فقاتل﴾، كأن هذا المعنى: لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك، لأنه وعده بالنصر، قال الزجاج: أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالجهاد وإن قاتل وحده، لأنه قد ضمن له النصرة، قال ابن عطية: هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة مدة ما، فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له، ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والله لا قاتلنهم حتى تنفرد سالفتي)
2. قيل: إن هذه الآية نزلت في موسم بدر الصغرى، فإن أبا سفيان لما انصرف من أحد واعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم موسم بدر الصغرى، فلما جاء الميعاد خرج إليها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سبعين راكبا فلم يحضر أبو سفيان ولم يتفق قتال، وهذا على معنى ما قاله مجاهد كما تقدم في آل عمران، ووجه النظم على هذا والاتصال بما قبل أنه وصف المنافقين بالتخليط وإيقاع الأراجيف، ثم أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالإعراض عنهم وبالجد في القتال في سبيل الله وإن لم يساعده أحد على ذلك.
3. ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ ﴿تُكَلَّفُ﴾ مرفوع لأنه مستقبل، ولم يجزم لأنه ليس علة للأول، وزعم الأخفش أنه يجوز جزمه، ﴿إِلَّا نَفْسَكَ﴾ خبر ما لم يسم فاعله، والمعنى لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به.
4. ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾أي حضهم على الجهاد والقتال، يقال: حرضت فلانا على كذا إذا أمرته به، وحارض فلان على الامر وأكب وواظب بمعنى واحد.
5. ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إطماع، والإطماع من الله تعالى واجب، على أن الطمع قد جاء في كلام العرب على الوجوب، ومنه قوله تعالى: والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، وقال ابن مقبل:
çظني بهم كعسى وهم بتنوفة...يتنازعون جوائز الأمثالé
6. ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا﴾ أي صولة وأعظم سلطانا وأقدر بأسا على ما يريده، ﴿وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ أي عقوبة، عن الحسن وغيره، قال ابن دريد: رماه الله بنكلة، أي رماه بما ينكله، قال: ونكلت بالرجل تنكيلا من النكال، والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان، قال: وارم على أقفائهم بمنكل.
7. سؤال وإشكال: نحن نرى الكفار في بأس وشدة، وقلتم: إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد؟ والجواب: قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد، فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال وكفى الله المؤمنين القتال وبالحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة، ففطن بهم المسلمون فخرجوا فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ على ما يأتي، وقد ألقى الله في قلوب الأحزاب الرعب وانصرفوا من غير قتل ولا قتال، كما قال تعالى ﴿وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾، وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم، فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين، مع أنه قد دخل من اليهود والنصارى العدد الكثير والجم الغفير تحت الجزية صاغرين وتركوا المحاربة داخرين، فكف الله بأسهم عن المؤمنين، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/292.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الفاء في قوله: ﴿فَقَاتِلْ﴾ قيل: هي متعلقة بقوله: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلخ، أي: من أجل هذا فقاتل؛ وقيل: متعلقة بقوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فقاتل؛ وقيل: هي جواب شرط محذوف يدل عليه السياق، تقديره: إذا كان الأمر ما ذكر من عدم طاعة المنافقين فقاتل، أو إذا أفردوك وتركوك فقاتل، قال الزجاج: أمر الله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالجهاد وإن قاتل وحده، لأنه قد ضمن له النصر، قال ابن عطية: هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجيء في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة، فالمعنى والله أعلم: أنه خطاب له في اللفظ، وفي المعنى له ولأمته، أي: أنت يا محمد وكل واحد من أمتك يقال له: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ أي: لا تكلف غير نفسك ولا تلزم فعل غيرك، وهو استئناف مقرّر لما قبله، لأن اختصاص تكليفه بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده، وقرئ: ﴿لَا تُكَلَّفُ﴾ بالجزم على النهي، وقرئ: بالنون.
2. ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: حضهم على القتال والجهاد، يقال: حرّضت فلانا على كذا: إذا أمرته به، وحارض فلان على الأمر، وأكبّ عليه، وواظب عليه، بمعنى واحد.
3. ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فيه إطماع للمؤمنين بكفّ بأس الذين كفروا عنهم، والإطماع من الله عزّ وجلّ واجب، فهو وعد منه سبحانه، ووعده كائن لا محالة ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا﴾ أي: أشدّ صولة، وأعظم سلطانا ﴿وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ أي: عقوبة، يقال: نكلت بالرجل تنكيلا: من النكال، وهو العذاب، والمنكل: الشيء الذي ينكل بالإنسان.
__________
(1) فتح القدير: 1/569.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ أعداء الله أداءً للفرض الواجب عليك وقصد الثواب، قيل: الآية متعلِّقة بقوله: ﴿وَمَنْ يُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ [الآية: 74]، وقيل: بقوله تعالى : ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ﴾ إلخ [الآية: 75]، قال الصديق: (أقاتل أهل الردَّة وحدي ولو خالفتني يميني لقاتلتها بشمالي)، ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ إِلَّا فعل نفسك، لا يضرُّك مخالفتُهم بتركهم الجهاد، فالله ناصرك.
2. نزلت في شأن بدر الصغرى الموعود من يوم أحد إلى ذي القعدة من قابل، إذ دعا الصحابةَ إليها، فما ذهب معه ـ قيل ـ إِلَّا سبعون رجلا، وصل بدرًا فربحوا في سوق ولم يجئ أبو سفيان فعيب، فأنشأ غزوة الأحزاب من قابل، وهي آخر غزو المشركين إليه، وتقدَّم أنَّ الراجح أنَّه خرج في ألف وخمسمائة من أصحابه وعشرة أفراس، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وأقاموا ثمان ليال ببدر ينتظرون أبا سفيان.
3. ﴿وَحَرِّضِ الْمُومِنِينَ﴾ أزل حَرَضَهم، وهو ما لا خير فيه، والمراد الحثُّ، أي: عليك تحريضهم على القتال لا إثم مخالفتهم.
4. ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَّكُفَّ﴾ عنهم ﴿بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أبي سفيان وغيره من المشركين، وقد رجعوا عن بدر الصغرى بعد بدء الخروج إليها، وذلك كفُّهم، وأسلم أبو سفيان عند الفتح، ﴿وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنِكيلاً﴾ تعذيبًا من قريش، والبأس أَعَمُّ من العذاب، أو البأس: الصولة أو الشدَّة والقوَّة، وفي ذلك تهديد لمن لم يتبعه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/238.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ تلوين للخطاب، وتوجيه له إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بطريق الالتفات، وهو جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم، أي: إذا كان الأمر، كما حكى من عدم طاعة المنافقين وكيدهم، فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا، قاله أبو السعود، ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ أي: إلا فعل نفسك، بالتقدم إلى الجهاد، فإن الله هو ناصرك، لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك، كما ينصرك وحولك الألوف، أي: ومن نكل، فلا عليك منه ولا تؤاخذ به.
2. روى ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال: سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدوّ فيقاتل، فيكون ممن قال الله فيه: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾؟ قال: قد قال الله تعالى لنبيه: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾، ورواه الإمام أحمد أيضا عنه قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا، إن الله بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾، إنما ذلك في النفقة، ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي على الخروج معك وعلى القتال، ورغبهم فيه وشجعهم عليه، كما قال لهم صلّى الله عليه وآله وسلّم، يوم بدر، وهو يسوي الصفوف: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك، منها: ما رواه البخاريّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض)
3. ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ﴾ أي: يمنع ﴿بَأْسٌ﴾ أي: قتال ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهم كفار مكة، أي: بتحريضك إياهم على القتال، تبعث هممهم على مناجزة الأعداء ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم.
4. قال أبو السعود: وقوله تعالى: ﴿عَسَى﴾ إلخ عدة منه سبحانه وتعالى محققة الإنجاز بكف شدة الكفرة ومكروههم، فإن ما صدر ب (لعل وعسى) مقرر الوقوع من جهته عز وجل، وقد كان كذلك، حيث روي في السيرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واعد أبا سفيان، بعد حرب أحد، موسم بدر الصغرى في ذي القعدة، فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج، وخرج في شعبان سنة أربع في سبعين راكبا، ووافوا الموعد وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب، فرجعوا من مرّ الظهران، وقال في ذلك عبد الله بن رواحة (وقيل كعب بن مالك):
çوعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد...لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا...لأبت ذميما، وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه...وعمرا، أبا جهل، تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله، أفّ لدينكم...وأمركم السّيئ، الذي كان غاويا
فإني، وإن عنفتموني، لقائل...فدى لرسول الله أهلي وماليا
أطعناه، لم نعدله فينا بغيره...شهابا لنا في ظلمة الليل هادياé
5. ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا﴾ أي: شدة وقوة من قريش ﴿وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ أي تعذيبا وعقوبة، قال ابن كثير: أي: هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: 4]، قال الخفاجيّ: والقصد التهديد أو التشجيع.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/238
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قال الرازي في وجه التناسب والاتصال: اعلم أنه تعالى لما أمر بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب في الآيات المتقدمة، وذكر في المنافقين قلة رغبتهم في الجهاد بل ذكر عنهم شدة سعيهم في تثبيط المسلمين عن الجهاد عاد في هذه الآية إلى الأمر بالجهاد.
ب. وقال محمد عبده: تقدم أن الآيات في وصف أولئك الضعفاء، ولما قال إن الرسول ليس حفيظا عليهم وإنما هو مبلغ عن الله تعالى أيد هذا وأوضحه بقوله: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي إنك أنت المكلف أن تقاتل في سبيل الله (وتقدم تفسيرها) والرقيب على نفسك فقم بما يجب عليك بالعمل وحرض المؤمنين على القتال معك لأن التحريض من التبليغ الذي منه الأمر والنهي.
2. ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عسى هنا تدل على الإعداد والتهيئة لأن الترجي الحقيقي محال على العالم بكل شيء فهي بمعنى الخبر والوعد وخبره تعالى حق لأنه لا يخلف الميعاد، والبأس القوة، وكان بأس الكافرين، موجها إلى إذلال المؤمنين، لأجل الإيمان لا لذواتهم وأشخاصهم، فتأييد الإيمان متوقف على كف بأسهم، وكفه متوقف على تصدي المؤمنين للجهاد.
3. سبق غير مرة تفسير محمد عبده لكلمة عسى بمثل هذا وحاصل المعنى أن تحريض النبي للمؤمنين على القتال معه هو الذي يحملهم بباعث الإيمان والإذعان النفسي دون الإلزام والسيطرة على الاستعداد له وتوطين النفس عليه، وذلك هو الذي يوطن نفوس الكافرين على كف بأسهم عن المؤمنين ويعدهم لترك الاعتداء عليهم، لأنه لا شيء أدعى إلى ترك القتال من الاستعداد للقتال، وعلى هذه القاعدة جرى عمل دول أوروبة في هذا العصر وبه يصرحون، تبذل كل دولة منتهى ما في وسعها من اتخاذ آلات القتال في البر والبحر وتنظيم الجيوش لتكون القوى الحربية بينهن متوازنة فلا تطمع القوية في الضعيفة فيغريها ضعفها بالإقدام على محاربتها، وجعل عسى للترجي لا يقتضي أن يكون المترجي هو الله عز وجل وإنما يكون المعنى أن ما دخلت عليه مرجو في نفسه، بحسب سنة الله في خلقه.
4. ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ أي لا يخيفنكم أيها المؤمنون بأس هؤلاء الكافرين وشدتهم ولا تصدنكم عن طاعة الرسول والعمل بتحريضه مذعنين مختارين فإن الله تعالى الذي وعده بالنصر أشد بأسا منهم وأشد تنكيلا لهم مما يحاولون أن ينكلوا بكم، ولكن سنته سبقت بأن تكون العاقبة لأهل الحق إذا اتقوا أسباب الخذلان، واتخذوا أسباب الدفاع مع الصبر والثبات، لا أنه ينصرهم وهم قاعدون أو مقصرون في الجري على سنته التي لا تبديل لها ولا تحويل، والتنكيل أن تعاقب المجرم بما يكون عبرة ونكالا لغيره يمنعه أن يجرم مثل إجرامه، وهو من النكول بمعنى الامتناع.
5. يؤخذ من الآية أن الله تعالى كلف نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقاتل الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم وإن كان وحده وهي تدل على أنه أعطاه من الشجاعة ما لم يعط أحدا من العالمين، وسيرته صلّى الله عليه وآله وسلّم تدل على ذلك فهو قد تصدى لمقاومة الناس كلهم بدعوتهم إلى ترك ما هم عليه من الضلال، وإتباع النور الذي أنزل معه، ولما قاتلوه قاتلهم وقد انهزم أصحابه عنه مرة فبقي ثابتا كالجبل لا يتزلزل، وقد علم مما تقدم أن الفاء في قوله: ﴿فَقَاتِلْ﴾ للتفريع بترتيب ما بعدها على ما قبلها، وقيل إنها جواب لشرط مقدر وهو إن أردت الفوز فقاتل، وكان الأقرب أن يقال إن التقدير: وإذ كنت مبلغا عن الله عز وجل لا وكيلا ولا جبارا على الناس فقاتل أنت امتثالا لأمر الله لك، وحرض غيرك من المؤمنين على طاعة الله تعالى بذلك تحريضا، لا إلزام سلطة ولا إجبار قوة، والتحريض الحث على الشيء بتزيينه وتسهيل الخطب فيه كما قال الراغب.
6. ومعنى لا تكلف إلا نفسك لا تكلف أنت إلا أفعال نفسك دون أفعال الناس فلا يضرك إعراض الذين قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال والذين يقولون لك طاعة ويبيتون غير ذلك، فإن طاعتهم لك إنما تجب لأنك مبلغ عن الله فهي طاعة الله ومن أطاع الله لا يضره عصيان من عصاه.
__________
(1) تفسير المنار: 5/246.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:
1. بعد أن أمر سبحانه بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب، وذكر قلة رغبة المنافقين فيه، وسعيهم في تثبيط المسلمين عنه، عاد هنا إلى الأمر به مرة أخرى.
2. ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي وإذا أردت الفوز والظفر على الأعداء فقاتل في سبيل الله امتثالا لأمره، وأنت لا تكلف إلا أفعال نفسك دون أفعال الذين قالوا: لم كتبت علينا القتال؟ والذين يقولون: لك طاعة ويبيتون غير ذلك، فمن أطاع الله لا يضيره عصيان من عصاه، وعليك أن تحث غيرك على القتال وتحرضه عليه، لا أن تلزمه ذلك بالقهر والجبروت.
3. فى الآية إيماء إلى أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كلّف قتال الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم وإن كان وحده، كما أنها تدل على أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطى من الشجاعة ما لم يعط أحد من العالمين، وفى سيرته الشريفة أصدق الأدلة على ذلك، فقد تصدى لمقاومة الناس جميعا بدعوتهم إلى ترك ما هم عليه من الضلال، وحين قاتلوه قاتلهم، وقد انهزم عنه أصحابه في أحد فبقى ثابتا كالجبل لا يتزلزل.
4. ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عسى هنا للتهيئة والإعداد فهي بمعنى الخبر والوعد، وخبره تعالى حق فإنه لا يخلف الميعاد، والمعنى ـ إن تحريض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للمؤمنين على القتال معه هو الذي يحملهم بباعث الإيمان والإذعان النفسي على الاستعداد له وتوطين النفس عليه، بينما هو يعدّ الكافرين لترك الاعتداء على المؤمنين وكف بأسهم عنهم، إذ لا شيء أدعى إلى ترك القتال من الاستعداد للقتال كما قال أبو تمام:
çوأخافكم كي تغمدوا أسيافكم...إن الدم المغبر يحرسه الدمé
5. على هذا النحو جرى عمل الممالك الكبيرة في هذا العصر، فكل دولة منها تبذل منتهى ما في وسعها من اتخاذ العدّة والعتاد في البر والبحر وتنظيم الجيوش لتكون القوى بينها متوازنة ولا تطمع القوية في الضعيفة، إذ يغريها ضعفها بالإقدام على حربها.
6. ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ أي لا تخافوا بأس هؤلاء الكافرين وشدتهم ولا يصدنكم ذلك عن طاعة الرسول والعمل بتحريضه، فإن الله الذي وعد الرسول بالنصر أشد منهم بأسا وأشد منهم تنكيلا، وقد جرت سنته أن تكون العاقبة للمتقين ما استمسكوا بأوامره وتركوا نواهيه وأعدوا العدّة مع الصبر والثبات والتباعد عن أسباب الخذلان والفشل.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. حين يصل السياق إلى هذا الحد من تقويم عيوب الصف؛ التي تؤثر في موقفه في الجهاد وفي الحياة ـ ومنذ أول الدرس وهذا التقويم مطرد لهذه العيوب ـ عندئذ ينتهي إلى قمة التحضيض على القتال الذي جاء ذكره في ثنايا الدرس، قمة التكليف الشخصي، الذي لا يقعد الفرد عنه تبطئة ولا تخذيل، ولا خلل في الصف، ولا وعورة في الطريق، حيث يوجه الخطاب إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يقاتل ـ ولو كان وحيدا ـ فإنه لا يحمل في الجهاد إلا تبعة شخصه صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي الوقت ذاته يحرض المؤمنين على القتال.. وكذلك يوحي إلى النفوس بالطمأنينة ورجاء النصر: فالله هو الذي يتولى المعركة، والله أشد بأسا وأشد تنكيلا: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾..
من خلال هذه الآية ـ بالإضافة إلى ما قبلها ـ تبرز لنا ملامح كثيرة في الجماعة المسلمة يومذاك، كما تبرز لنا ملامح كثيرة في النفس البشرية في كل حين:
أ. يبرز لنا مدى الخلخلة في الصف المسلم؛ وعمق آثار التبطئة والتعويق والتثبيط فيه؛ حتى لتكون وسيلة الاستنهاض والاستجاشة، هي تكليف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقاتل في سبيل الله ـ ولو كان وحده ـ ليس عليه إلا نفسه؛ مع تحريض المؤمنين، غير متوقف مضيه في الجهاد على استجابتهم أو عدم استجابتهم! ولو أن عدم استجابتهم ـ جملة ـ أمر لا يكون، ولكن وضع المسألة هذا الوضع يدل على ضرورة إبراز هذا التكليف على هذا النحو؛ واستجاشة النفوس له هذه الاستجاشة، فوق ما يحمله النص ـ طبعا ـ من حقيقة أساسية ثابتة في التصور الإسلامي، وهي أن كل فرد لا يكلف إلا نفسه..
ب. كما يبرز لنا مدى المخاوف والمتاعب في التعرض لقتال المشركين يومذاك.. حتى ليكون أقصى ما يعلق الله به رجاء المؤمنين: أن يتولى هو سبحانه كف بأس الذين كفروا؛ فيكون المسلمون ستارا لقدرته في كف بأسهم عن المسلمين.. مع إبراز قوة الله ـ سبحانه ـ وأنه أشد بأسا وأشد تنكيلا.. وإيحاء هذه الكلمات واضح عن قوة بأس الذين كفروا يومذاك؛ والمخاوف المبثوثة في الصف المسلم.. وربما كان هذا بين أحد والخندق، فهذه أخرج الأوقات التي مرت بها الجماعة المسلمة في المدينة؛ بين المنافقين، وكيد اليهود، وتحفز المشركين! وعدم اكتمال التصور الإسلامي ووضوحه وتناسقه بين المسلمين!
ج. كذلك تبرز لنا حاجة النفس البشرية؛ وهي تدفع إلى التكاليف التي تشق عليها، إلى شدة الارتباط بالله؛ وشدة الطمأنينة إليه؛ وشدة الاستعانة به؛ وشدة الثقة بقدرته وقوته.. فكل وسائل التقوية غير هذه لا تجدي حين يبلغ الخطر قمته، وهذه كلها حقائق يستخدمها المنهج الرباني؛ والله هو الذي خلق هذه النفوس، وهو الذي يعلم كيف تربى وكيف تقوّى وكيف تستجاش وكيف تستجيب.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/725.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إنه ليس بعد هذا التنديد بالمنافقين، والمرجفين بالناس، وتحذير المؤمنين منهم، وإجلاء هذا الدخان المنعقد في سماء المجتمع من شائعات السوء ـ إلا أن يأخذ النبي طريقه الذي هو سائر فيه، بعد تلك الوقفة، التي نظّم فيها صفوفه، وعزل عنها هذا المرض المندس بينها، من المنافقين والمثبطين..
2. ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ فهذا هو طريق النبىّ.. القتال في سبيل الله؛ والاتجاه إليه بكل قوته، والعمل فيه جهد طاقته.. ولا عليه أن يتخاذل المتخاذلون، ويبطّئ المبطّئون.. إنه لا يكلّف إلا ما يملك، وهو لا يملك إلّا نفسه.
3. وقوله تعالى: ﴿حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ هو استدعاء سماوىّ للمؤمنين الذين صدقوا إيمانهم أن يكونوا مع النبىّ، وأن يأخذوا طريقه الذي أخذه.. وفي هذا ما فيه من تكريم لهم، ورفع لقدرهم.
4. وقوله سبحانه: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هو رجاء يتعلق به النبىّ والمجاهدون معه.. فالنبىّ والمؤمنون الذين يجاهدون معه على رجاء من عون الله لهم، ونصرهم على أعدائهم.. وأن هؤلاء الأعداء إن كانوا أولى قوة وأولى بأس شديد، فالنبىّ والمسلمون يشدّون رجاءهم إلى قوة فوق هذه القوة، وإلى بأس أعظم من هذا البأس.. قوة الله، وبأس الله.. ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/849.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ تفريع على ما تقدّم من الأمر بالقتال، ومن وصف المثبطين عنه، والمتذمّرين منه، والذين يفتنون المؤمنين في شأنه، لأنّ جميع ذلك قد أفاد الاهتمام بأمر القتال، والتحريض عليه، فتهيّأالكلام لتفريع الأمر به، ولك أن تجعل الفاء فصيحة بعد تلك الجمل الكثيرة، أي: إذا كان كما علمت فقاتل في سبيل الله، وهذا عود إلى ما مضى من التحريض على الجهاد، وما بينهما اعتراض.
2. فالآية أوجبت على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم القتال، وأوجبت عليه تبليغ المؤمنين الأمر بالقتال وتحريضهم عليه، فعبّر عنه بقوله: ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 84] وهذا الأسلوب طريق من طرق الحثّ والتحريض لغير المخاطب، لأنّه إيجاب القتال على الرسول، وقد علم إيجابه على جميع المؤمنين بقوله: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ [النساء: 74] فهو أمر للقدوة بما يجب اقتداء الناس به فيه، وبيّن لهم علّة الأمر وهي رجاء كفّ بأس المشركين، ف (عسى) هنا مستعارة للوعد، والمراد بهم هنا كفّار مكة، فالآيات تهيئة لفتح مكة.
3. وجملة ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ تذييل لتحقيق الرجاء أو الوعد، والمعنى أنه أشدّ بأسا إذا شاء إظهار ذلك، ومن دلائل المشيئة امتثال أوامره التي منها الاستعداد وترقّب المسببات من أسبابها، والتنكيل عقاب يرتدع به رائيه فضلا عن الذي عوقب به.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/205.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ حتى ولو تركوك وحدك منفردا لا أحد معك، فإن معية الله خير وأبقى، فهو الذى أمرك بالقتال، وهو الذى تكفل بنصرك ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر]
2. في الآية أمر من الله تعالى لرسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، بألا يترك جهاد العدو، حتى ولو كان وحده، لأن الله ضمن له النصر، وهناك من يقولون أن الخطاب للأمة كلها، إذ قال ابن عطية في تفسيره: (هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال قد فرض عليه وحده دون الأمة مدة ما، فالمعنى، والله أعلم، أنه خطاب له في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أى أنت يا محمد، وكل واحد من أمتك، هذا الخطاب موجه إليه، وكل إنسان ليس مكلفا إلا عن نفسه، فإن تقدم نفسك للجهاد فإن الله هو ناصرك، وليس الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف من الجند، فالنصر أولا وأخيرا من عند الله، وقيل إن النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا الناس إلى الخروج للقاء المشركين في معركة بدر الصغرى، وكان أبو سفيان قد واعد الرسول على أن يتلاقوا فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا، فنزلت الآية، وخرج النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم وليس معه إلا سبعون، ولو لم يخرج معه أحد لخرج وحده، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول له: يا محمد، إنك لا تكلف إلا نفسك وحدها، فاخرج ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إذ ليس عليك بالنسبة لهم إلا التحريض، وأمرهم دون تعنيف ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
3. وقد كان، فكف الله بأس الذين كفروا، وهم قريش، الذين تواعدوا مع النبى على اللقاء، فقد غير أبو سفيان رأيه، وخشى عاقبة المعركة، فقال لقومه: إن هذا عام مجدب، لن تقدروا فيه على لقاء محمد وأصحابه، فانتظروا عاما مخصبا، كما تعودتم، لتلاقوا فيه محمدا ومن معه، ووقتها سيكون بأسكم شديدا، وتنكيلكم بمحمد وأصحابه شديدا، ألم يعلموا أن العزة لله جميعا ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا﴾ من قريش ﴿وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ من كل أعدائكم، و﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج] فهو أعظم سلطانا، وأقدر على ما يريد.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1784.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، بعد أن ذكر سبحانه في الآية 77 الذين خافوا من القتال، ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ﴾، وذكر في الآية 81 الذين أظهروا الطاعة، وأضمروا العصيان، وقالوا طاعة، وبيتوا غير الذي قالوا، وذكر في الآية 83 الذين أذاعوا ما سمعوا من أخبار الحرب وأسرارها بعد هذا كله أمر الله نبيه بالقتال والجهاد، دفاعا عن الحق، وان يحرض المسلمين، ويحثهم على الجهاد معه، ويحارب بمن يستجيب له، ويعرض عمن أعرض منهم، فانه غير مسؤول، ولا مكلف بأعمال غيره، وانما هو مكلف بأعمال نفسه فقط، وهذا معنى قوله: ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ وليس معناه قاتل وحدك ان لم يقاتل أحد معك، كما قيل، لأن الله قد نهى النبي والمسلمين عن القتال في بدء الدعوة، وأمرهم بالصبر على إيذاء المشركين لهم حين كانوا بمكة، لأن القتال كان آنذاك أشبه بالعمليات الانتحارية منه بالجهاد في سبيل الله.. ولم يأمرهم بالجهاد إلا بعد أن هاجروا إلى المدينة، وأصبح بمقدورهم الوقوف في وجه الأعداء، فكيف يأمر النبي بالقتال منفردا؟
2. ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، عسى هنا واجبة التحقق، لأنها من كلام الله، والله لا يخلف الميعاد، والمراد بالذين كفروا صناديد قريش الذين أخرجوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة، وجيشوا الجيوش لحربه مرات.. وقد أنجز الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب المشركة وحده.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/393.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، التكليف من الكلفة بمعنى المشقة لما فيه من تحميل المشقة على المكلف، والتنكيل من النكال، وهو على ما في المجمع: ما يمتنع به من الفساد خوفا من مثله من العذاب فهو عقاب المتخلف لئلا يعود إلى مثله وليعتبر به غيره من المكلفين.
2. الفاء في قوله: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ للتفريع والأمر بالقتال متفرع على المتحصل من مضامين الآيات السابقة، وهو تثاقل القوم في الخروج إلى العدو وتبطئتهم في ذلك، ويدل عليه ما يتلوه من الجمل أعني قوله: ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ فإن المعنى: فإذا كانوا يتثاقلون في أمر الجهاد ويكرهون القتال فقاتل أنت يا رسول الله بنفسك، ولا يشق عليك تثاقلهم ومخالفتهم لأمر الله سبحانه فإن تكليف غيرك لا يتوجه إليك، وإنما يتوجه إليك تكليف نفسك لا تكليفهم، وإنما عليك في غيرك أن تحرضهم فقاتل، ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
3. ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ أي لا تكلف أنت شيئا إلا عمل نفسك فالاستثناء بتقدير مضاف، وقوله: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ﴾ قد تقدم أن (عسى) تدل على الرجاء أعم من أن يكون ذلك الرجاء قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بمقام التخاطب فلا حاجة إلى ما ذكروه من أن (عسى) من الله حتم.
4. وفي الآية دلالة على زيادة تعيير من الله سبحانه للمتثاقلين من الناس حيث أدى تثاقلهم إلى أن أمر الله نبيه بالقيام بالقتال بنفسه، وأن يعرض عن المتثاقلين ولا يلح عليهم بالإجابة ويخليهم وشأنهم، ولا يضيق بذلك صدره فليس عليه إلا تكليف نفسه وتحريض المؤمنين أطاع من أطاع، وعصى من عصى.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/27.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَقَاتِلْ﴾ يا محمد ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا﴾ أن تبذل ﴿نَفْسُكَ﴾ لله وتجعلها في الجهاد في سبيله، وليس عليك أن يقاتل من معك من المؤمنين، إنما عليك أن تحرضهم على القتال، قال في (الصحاح): (والتحريض على القتال: الحث والإحماء عليه ـ ثم قال ـ: والْحَرَّاضُ: الذي يُوقِدُ على الحُرُض ليتخذ منه نورة أو جصاً)، قوله: والإحماء، معناه: إثارة الحمية والغضب على العدو؛ ولعل ذلك هو سبب اختيار التحريض مكان الحض.
2. ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بجهادكم في سبيل الله، فالمعنى قاتل ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ على القتال رجاء أن ينصركم الله على الذين كفروا فيكف عنكم بأسهم بنصركم عليهم ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا﴾؛ لأنه القاهر فوق عباده وبطشه شديد فالعاجل منه قد كان في القرون الماضين كقوم عاد وثمود، والآجل عذاب النار ﴿وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ قال الراغب في (مفرداته): (ونكّلت به، إذا فعلت به ما ينكل غيره واسم ذلك الفعل نكال)، فالمعنى: تعذيباً زاجراً عن فعل سبب ذلك التعذيب.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/128.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جاء في مجمع البيان، قال الكلبي: إن أبا سفيان لما رجع إلى مكة يوم أحد وأعد رسول الله موسم بدر الصغرى، وهو سوق تقوم في ذي القعدة، فلما بلغ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الميعاد قال للناس: اخرجوا إلى الميعاد، فتثاقلوا وكرهوا ذلك كراهة شديدة، أو بعضهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فحرّض النبي المؤمنين، فتثاقلوا عنه ولم يخرجوا، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سبعين راكبا حتى أتى موسم بدر، فكفاهم الله بأس العدو ولم يوافهم أبو سفيان ولم يكن قتال يومئذ، وانصراف رسول الله بمن معه سالمين.
2. إنها دعوة من الله إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يتحمل مسئولية القتال في سبيل اللَّه، لأن دوره ليس دور الرسول الذي يبلّغ رسالات اللَّه، ثم يصبر على الأذى، ثم يتراجع عن الساحة ويستسلم لمخططات الأعداء، ويضعف أمام تعاظم قوتهم، ويستكين أمام شدّة بأسهم، بل إن دوره العظيم أن يغير الحياة على أساس رسالة اللَّه، فينسف كل قواعد الواقع الفاسد، ويحطم قوة الذين كفروا، ويضعف من بأسهم، بكل الوسائل التي يملكها ليحركها في خط المواجهة.
3. ولا بد له في هذا المجال أن يتقدم الصفوف ليقاتل في سبيل اللَّه، ليكون النبي المقاتل كما كان الرسول الداعية المبلّغ، لأن شخصية الرسول هي النموذج الذي ينبغي للمؤمنين أن يصوغوا شخصيتهم على صورته، فتتكامل لهم الشخصية المتوازنة التي تجمع في داخلها كل ما تحتاجه الحياة من عناصر الشخصية الفاعلة المؤثرة، التي تقود الحياة من موقع المعاناة إلى أهدافها الكبيرة التي يريدها الله لها في مسيرتها إليه، وإذا كان الله قد كلف الرسول بالقتال في سبيله، فإنه لم يحمّله في هذا الجانب إلا مسئولية نفسه، تماما كأيّ مسلم يتحمل مسئولية عمله، دون أن يحمل مسئولية غيره في ما يقوم به، إلا بالمقدار الذي يتصل بمسؤوليته في إعداد المقدمات وتهيئة الأجواء؛ ولكن الله أراد للرسول ـ في مسئوليته القيادية ـ أن يحرض المؤمنين على القتال، بكل الأساليب التي تدفعهم إلى الإقبال عليه، ليقفوا في مواجهة العدو صفا واحدا كالبنيان المرصوص، لأن قوة الكافرين لا تضعف ولا تتحطم إلا إذا وقف المؤمنون كقوة مسلّحة في مواجهتهم، فذلك هو الذي يحقق للساحة توازنها وقوتها، تبعا لما أراده الله من جريان الأمور بأسبابها الطبيعية، لأنه لم يشأ أن تتحرك قضايا النصر والهزيمة بطريقة المعجزة، ليتحول الناس إلى عناصر تجلس في الظل في استرخاء، وتتطلع إلى العدو ـ وهو يتقدم ـ ببلاهة، لتنتظر المعجزة من السماء أن ترسل على العدو نارا تحرق كل أفراده وأسلحته.. إن وجود القوة المستعدة للمجابهة بكفاءة، هي التي يمكن أن يرد الله من خلالها بأس الكافرين، ومهما بلغ بأسهم، فإن الله أشد بأسا وأشد تنكيلا، فلا ينبغي للمؤمنين أن يأخذهم الرعب والخوف والهلع ما دامت قوتهم مستندة إلى قوة الله سبحانه.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/377
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ورد في بعض التفاسير مثل (مجمع البيان) و(القرطبي) و(روح المعاني) في سبب نزول هذه الآية أنّه حين عاد أبو سفيان ومعه جيش قريش منتصرين في واقعة أحد توعدوا المسلمين بالمواجهة مرّة أخرى في موسم (بدر الصغرى) أي وقت إقامة السوق التّجارية في شهر ذي القعدة الحرام في منطقة بدر، وحين حان موعد المواجهة دعا النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المسلمين للاستعداد والتوجه إلى المنطقة المذكورة، إلّا أنّ نفرا من المسلمين ـ الذين كانوا إلى ذلك الحين ما زالوا يعانون من مرارة الهزيمة في واقعة أحد ـ رفضوا التحرك مع النّبي، فنزلت هذه الآية، فجدد النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الدّعوة إلى المسلمين بالتحرك، فما تبعه غير سبعين رجلا منهم الذين حضروا موقع المواجهة، ولكن أبا سفيان الذي كان قد تملكه الرعب من مواجهة المسلمين جبن ولم يحضر إلى المكان الموعود وعاد الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أصحابه سالما إلى المدينة.
2. بعد ما تقدم من الآيات الكريمة حول الجهاد، تأتي هذه الآية لتعطي أمرا جديدا وخطيرا إلى الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنّه مكلّف بمواجهة الأعداء وجهادهم حتى لو بقي وحيدا ولم يرافقه أحد من المسلمين إلى ميدان القتال، لأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم مسئول عن أداء واجبه هو، وليس عليه مسئولية بالنسبة للآخرين سوى التشويق والتحريض والدعوة الى الجهاد: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
3. الآية تشتمل على حكم اجتماعي مهم يخصّ القادة، ويدعوهم إلى التزام الرأي الحازم والعمل الجاد في طريقهم ومسيرتهم نحو الهدف المقدس الذي يعملون ويدعون من أجله، حتى لو لم يجدوا من يستجيب لدعوتهم، لأنّ استمرار الدعوة غير مشروط باستجابة الآخرين لها، وأي قائد لا يتوفر فيه هذا الحزم فهو بلا ريب عاجز عن النهوض بمهام القيادة، فلا يستطيع أن يواصل الطريق نحو تحقيق الأهداف المرجوة خاصّة القادة الإلهيون الذين يعتمدون على الله.. مصدر كل قدرة وقوّة في عالم الوجود، وهو سبحانه أقوى من كل ما يدبّره الأعداء من دسائس ومكائد بوجه الدّعوة، لذلك تقول الآية: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ التنكيل من نكل في الشيء، أي ضعف وعجز، والنكل: قيد الدابة وحديدة اللجام لكونهما مانعين، والتنكيل: أداء عمل يردع مشاهده عن الذنب وهو العقاب الذي ينزل بالظالمين فيردعهم ويردع من يتعض بمصيرهم.
4. سؤال وإشكال: في كلمة (عسى) طمع وترج، وفي كلمة (لعل) طمع وإشفاق، هنا يتبادر إلى الذهن سؤال هو: لو كان التمني والترجي جائزين بالنسبة للإنسان لعدم علمه بالغيب ولمحدودية قدرته وعجزه عن فعل وإنجاز كل ما يريد، فكيف يجوز استخدامهما من قبل الله العالم بالغيب والشهادة والقادر على كل شيء!؟ والطمع والترجي يكونان في جاهل عاجز والله منزّه عن ذلك؟ والجواب:
أ. ذهب كثير من العلماء إلى تأويل معنى كلمتي (عسى) و(لعل) الواردتين في كلام الله فقالوا: بأنّهما إذا وردتا في كلامه سبحانه عزّ وجل فإنّهما تفقدان معانيهما الحقيقية الأصلية وتكتسبان معاني جديدة، وقالوا: إن كلمة (عسى) إذا أتت في كلام الله جاءت بمعنى (الوعد) وإن كلمة (لعل) تأتي في كلامه ـ عزّ من قائل ـ بمعنى (الطلب)
ب. والحق أنّ هاتين الكلمتين لا يتغير معناهما إذا وردتا في كلام الله، ولا يستلزمان الجهل أو العجز، لكن استخدامهما يأتي في مواضع يكون الوصول فيها إلى الهدف بحاجة إلى مقدمات عديدة، فإن لم تتوفر إحدى هذه المقدمات أو بعضها لم يمكن القطع بتحقق ذلك الهدف، بل تأتي مسألة تحقق الهدف على شكل احتمال، ويكون الحكم في هذا المجال احتماليا، على سبيل المثال يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ ولا يعني هنا أنّ رحمة الله تشمل كل من يستمع أو ينصت إلى القرآن أثناء قراءته، بل أنّ الاستماع والإنصات يكونان مقدمة من مقدمات نيل رحمة الله، وهناك مقدمات أخرى مثل فهم القرآن وتدبر آياته والعمل بأحكامه، ويتّضح من هذا أنّ تحقيق مقدمة واحدة لا يكفي لحصول النتيجة المطلوبة ولا يمكن الجزم أو القطع بحتمية تحقق النتيجة، بل كل ما يمكن الحكم به هو احتمال حدوثها، والحقيقة إن مثل هذه الكلمات حين تأتي في كلام الله، يكون الهدف منها تنبيه السامع إلى وجود مقدمات وشروط أخرى يجب تحقيقها للوصول إلى الهدف بالإضافة إلى الشرط أو المقدمة المذكورة المصرح بها في الكلام، وقد تبيّن لنا أنّ نيل رحمة الله لا يتحقق فقط بالاستماع والإنصات إلى القرآن فقط، بل يجب لنيل هذه الرحمة توفير المقدمات الاخرى لذلك، من هنا فإنّ هذه الآية التي نبحث فيها تقول إن قدرة الكفار وقوتهم لا تزول ولا تضمحل بمجرّد دعوة المؤمنين إلى الجهاد وترغيبهم فيه، بل يجب هنا ـ أيضا ـ أن يسعى المؤمنون لتوفير المقدمات الاخرى للقضاء على قدرة الكفار، منها إعداد وسائل القتال والالتزام بالخطة التي يضعها النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والسير عليها من أجل الوصول إلى الهدف النهائي، وهكذا يتبيّن لنا أنّ لا ضرورة لصرف كلمتي (عسى) و(لعل) وأشباههما عن معانيها الحقيقية متى ما وردت في كلام الله تعالى.
ج. يذكر الراغب في(المفردات) احتمالا آخر في تفسير(عسى) و(لعل) هو أنّ الله تعالى إذا ذكر ذلك يذكره ليكون الإنسان منه راجيا، لا لأن يكون الله هو الذي يرجو، أي انه يقول للإنسان كن أنت راجيا لا انا الذي أرجو.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/352
80. الشفاعة الحسنة والسيئة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈80⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ [النساء: 85]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن رواحة:
روي عن عبد الله بن رواحة (ت 8 هـ) أنه سأله رجل عن قول الله: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾، قال: يقيت(1)، كل إنسان بقدر عمله(2).
__________
(1) يُقِيت، أي: يحفظ.
(2) ابن المنذر (٢٠٦٧.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الشفاعة الحسنة: هي الإصلاح بين الناس، والشفاعة السيئة: هي المشي بالنميمة بين الناس(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾، الدعاء للميت(2).
3. روي أنّه قال: الكفل: الوزر، والإثم(3).
4. روي أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله: ﴿مُقِيتًا﴾، قال قادرا مقتدرا، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أحيحة بن الأنصاري(4):
çوذي ضغن كففت النفس عنه... وكنت على مساءته مقيتاé
5. روي أنّه قال: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾، حفيظا(5).
__________
(1) تفسير البغوي ٢/٢٥٦.
(2) الطبراني في الدعاء ٣/١٣٨٥.
(3) تفسير الثعلبي ٣/٣٥٣.
(4) أبو بكر ابن الأنباري في الوقف والابتداء ـ كما في الإتقان ٢/٨٥.
(5) ابن جرير ٧/٢٧١.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿مُقِيتًا﴾، قادرا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٢٠.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: المقيت: الرزاق(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٢٠.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ الآية، شفاعة بعض الناس لبعض(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مُقِيتًا﴾، شهيدا(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾، حسيبا(3).
4. روي أنّه قال: ﴿مُقِيتًا﴾، شهيدا، حسيبا، حفيظا(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٦٩.
(2) ابن جرير ٧/٢٧١.
(3) ابن أبي حاتم ٣/١٠٢٠.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: من يشفع شفاعة حسنة كان له أجرها وإن لم يشفع؛ لأن الله يقول: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾، ولم يقل: يشفع(1).
2. روي أنّه قال: من يشفع شفاعة حسنة كتب له أجره ما جرت منفعتها(1).
3. روي أنّه قال: والشفاعة الحسنة: ما يجوز في الدين أن يشفع فيه، والشفاعة السيئة: ما يحرم في الدين أن يشفع فيه(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٦٩.
(2) تفسير ابن أبي زمنين ١/٣٩٢.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ حظ منها، ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ والكفل هو الإثم(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٧٠.
ابن كثير:
روي عن عبد الله بن كثير (ت 120 هـ) أنّه قال: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾، المقيت: الواصب(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٧٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ معناه نصيب(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ معناه مقتدر.. ويقال حافظ محيط شهيد(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 122.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: المقيت: القدير(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٧٢.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿كِفْلٌ مِنْهَا﴾، الحظ منها، فبئس الحظ(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٧٠.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾، هو المقتدر بلغة قريش(1).
__________
(1) ابن المنذر ٢/٨١٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: وقوله سبحانه: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ لأخيه المسلم بخير ﴿يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ يعني: حظا من الأجر من أجل شفاعته، ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً﴾ وهو الرجل يذكر أخاه بسوء عند رجل، فيصيبه عنت منه، فيأثم المبلغ، فذلك قوله سبحانه: ﴿يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ من الحيوان، عليه قوت كل دابة لمدة رزقها(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٤.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ الشفاعة الصالحة التي شفع فيها وعمل بها، هي بينك وبينه، هما فيها شريكان، ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ هما شريكان فيها كما كان هذان شريكين(1).
2. روي أنّه قال: الكفل والنصيب واحد، وقرأ: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد: ٨](1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾، على كل شيء قديرا، أالمقيت: القدير(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٧٠.
(2) ابن جرير ٧/٢٧٢.
عيينة:
روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾، من سن سنة سيئة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠١٩.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: سألت عن ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ الآية، فقلت: ما معنى الشفاعة؟.. والجواب: فمعنى ذلك: أنه من عمل عملا، أو شفع شفاعة، بقول رضي، وعند الله سبحانه مقبول زكي ـ كان له من ذلك نصيب، ومعنى النصيب: أي حظ وأجر وثواب، وعطاء على فعله، ومجازاة على المرضي من عمله؛ لأن الله لا يضيع أجر المحسنين.
2. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ معنى مقيتا هو: مقتدرا؛ وذلك في لغة العرب فموجود: أن المقيت هو المقتدر؛ ألا تسمع إلى كيف يقول الشاعر:
çوذو حنق كففت النفس عنه... وكنت على سوءاته مقيتاé
يقول: مقتدرا.. وقد قال بعض المفسرين: إن معنى مقيتا هو: شهيدا.. وليس عندي بصواب، والقول الأول أوضح للحق، وأبعد من الشك.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/249.
الناصر:
ذكر الإمام الناصر بن الإمام الهادي (ت 325 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: وسألت عن قول الله عز وجل: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾، فقلت: ما معنى مقيتا؟ والجواب: المقيت في لغة العرب برفعة الميم: القادر على الشيء، والمقيت بفتح الميم هو: البغيض؛ قال قيس بن الأسلت الأنصاري يذكر الاقتدار على الشيء ومعناه، فقال:
çوذي ضغن كففت النفس عنه... وكنت على إساءته مقيتاé
يعني: قديرا.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/250.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
وقوله عز وجل: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ لم يذكر ما تلك الشفاعة التي يشفع:
أ. فيحتمل الشفاعة الحسنة: هي الدعاء له بالمغفرة والرحمة، وهو لذلك مستوجب؛ فيكون له بذلك نصيب، والشفاعة السيئة: هي الدعاء عليه باللعن والمقت، وهو لذلك غير مستوجب؛ فيكون له بذلك نصيب.
ب. وقيل: هو كقول العرب: (الدالّ على الخير كفاعله)، من دل آخر على الخير؛ فله في ذلك نصيب، وكذلك من دل آخر على الشر.
ج. ويحتمل: الشفاعة الحسنة: في مظلمة، يسعى في دفع مظلمة عن أخيه المسلم، وهي شفاعة حسنة؛ فله في ذلك نصيب.
د. ويحتمل: الشفاعة السيئة: هي أن يسعى في فساد أمر يلحقه من ذلك نقمة ومظلمة؛ فله في ذلك إثم.
هـ. وقيل: الشفاعة الحسنة: هي التي ينتفع بها وعمل بها، هي بينك وبينه، هما فيها شريكان، والشفاعة السيئة، هي التي تضر به، هما فيها شريكان.
و. ويحتمل: أن تكون الشفاعة الحسنة: كل صانع معروف، وكل آمر به، والشفاعة السيئة: كل صانع منكر، وآمر به؛ فهما شريكان في ذلك: الآمر والفاعل جميعًا.
ز. ويحتمل ما روي عن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (كُل مَعْروفٍ صَدَقَة، وَالدَّال عَلَى الْخَيرِ كَفَاعِلِهِ، وَاللهُ يُحِبُّ إِغَاثَةَ اللَهْفَانِ)، وعن الحسن قال: قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لَا صَدَقَةَ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ اللسَانِ)؛ قيل: وما صدقة اللسان يا رسول اللَّه؟ قال: (الشفَاعَةُ تُجْرِيهَا إِلَى أَخِيكَ، وترفع عنه ثقل الكريهة وتحقن بها الدم)
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كِفْلٌ﴾:
أ. قيل: الكفل والنصيب واحد.
ب. وقيل: الكفل: الجزاء، وهو واحد.
ج. وقيل: الكفل: الإثم، ولكن ليس إثمه خاصة؛ ألا ترى أنه قال: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾
2. الشفاعة من أعظم ما احتيج إليها؛ إذ قد جاء القرآن بها، والآثار ممن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم والشفاعة في المعهود من الأمر تكون عند زلات يُستَوجَبُ بها المقت والعقوبة؛ فيعفى عن مرتكبها بشفاعة الأخيار وأهل الرضا بهم، ثم كانت الصغائر منا لا يجوز التعذيب عليها عند القائلين بالخلود بالكبائر، والكبائر مما يعفى عنها بالشفاعة؛ فإذن يبطل عظيم ما جاء من القرآن والآثار في الامتنان، ويسقط ما جبل عليه أهل العلم باللَّه وبرحمته، ويبطل رجاء المسلمين بشفاعة الرسل عليهم السلام ولا قوة إلا باللَّه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشفاعة تخرج على وجهين:
أ. الأول: على ذكر محاسن أحد عند آخر؛ ليقرر له عنده المنزلة والرتبة.
ب. والثاني: أن يدعو له.
3. فالأول هو الذي يحتمل توجيه الشفاعة إليه، والثاني قد بين بقوله: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ إلى قوله: ﴿الْعَظِيمِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾
4. والخوف يدل على وجهين: الشفاعة؛ لأن المرتضى هو ذو منزلة وقدْر، وهو ممن تضمنته آية شفاعة الملائكة؛ فيقال: الوجه الأول في الآخرة لا معنى له؛ لوجهين:
أ. أحدهما: أنه في تقرير الأمر عند من يجهله، واللَّه ـ جل ثناؤه ـ هو العليم بحقيقة ذلك، بل غيره مما يجوز عليهم خفاء الحقائق؛ كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا﴾ الآية، وقال عيسى عليه السلام: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ الآية؛ وكان في ذلك أن الحقائق في ذلك عند اللَّه، وهم تبرءوا عن العلم بذلك، وأقروا بأن اللَّه هو المنفرد بعلم ذلك.
ب. والثاني: أن ثمة كتبًا يقرأ فيها أعمال بني آدم وما سبق منهم من صغير وكبير؛ فهي الكافية في التقدير إن كان في حق الاحتجاج، وإن كان في حق الإعلام ـ فعلم اللَّه بهم مغنٍ عن ذلك، ولا قوة إلا باللَّه.
5. وأما الدعاء: فكذلك نقول بالدعاء لمن له ذلك الوصف، ويشفع له فيما كان في ذلك منه من المآثم والذنوب، لا أنه إذا كان كل أفعالهم ذلك، فيشفع لهم؛ لأنه لا يجوز في الحكمة تعذيبهم، على ما ذكر من الأفعال، بل لهم عليها أعظم الثواب، وأرفع المأوى.
6. وطلب الشفاعة والمغفرة لمثله يصح من وجوه:
أ. أحدها: أن ذلك لا يجوز في الحكمة؛ فكأنهم طلبوا منه ألا يجور ولا يسفه، وذلك لأفسق الخلق يخرج مخرج السفيه، فضلا عن أن يتضرع إلى اللَّه به، جل الكريم الحليم عن هذا الوصف.
ب. والثاني: أن يخلق في مثله؛ إذ هو مثاب غير معاقب، يلقى ذلك منه بالشكر والحمد، وفي الدعاء كتمان ذلك وكفرانه، ومحال الإذن في مثله.
ج. والثالث: أن ذلك في الموعود له بالجنة والمبشر بها؛ فطلب مثله يوجب الجهالة بذلك، لا أن يكون الوقت لم يبين، يكون ذلك في الاستعجال، وهو قولنا في أصحاب الكبائر: إنهم لو عُذبوا بقدر الذنوب ـ لكان ذلك في الحكمة عدلا؛ فيشفع لسائلهم بالفضل والإحسان دون العدل والاستيفاء، ولا قوة إلا باللَّه.
7. والأصل: أنها مقادير للعقوبات، وإنما يعرف من يعرف مقادير الأجرام، وليس مِنَ الخلائق مَنْ يحتمل تركيبه احتمال العلم بمقاديرها؛ إذ لا أحد يبلغ في معرفة تعظيم اللَّه كُنْه عظمته؛ ليعرفوا قدر الخلاف لأمره ـ جل وعلا ـ وما كان هذا سبيله ـ فحق القول الاتباع أن اللَّه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها.
8. ثم معلوم أن لا سيئة أعظم من الكفر، وجعل مثلها من الجزاء: الخلود في النار، ممن ألزم ذلك لما دونه وصف اللَّه تعالى أنه يجزي بالسيئة أكثر من مثلها، واللَّه عز وجل أخبرنا أنه لا يجزي ذلك.
9. وقوله عز وجل أيضًا: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾:
أ. يكون فيما بين المرء والرب: يشفع إليه بالمغفرة لأحد والتجاوز عن المذنب؛ ليكون له نصيب منها.
ب. ويحتمل: أن يكون اللَّه تعالى برحمته يرحمه على أخيه بالشفاعة إليه ـ بالتجاوز عنه والمغفرة.
ج. ويحتمل: أن يكون اللَّه تعالى إذا غفر له يجعل له في شفيعه شفاعة؛ يهبه له كما وهب الأول له، وفي السيئة فيما يلعنه، أو يدعو اللَّه عليه بالهلاك عن غير استحقاق، أو عليه في بقائه ضرر يكون له نصيب منها يلعن لآخر، أو أحدًا يلعنه ويدعو عليه به أن يعاقبه بإساءته إلى أخيه في طلب الهلاك له بلا معنى له.
10. قوله عز وجل أيضًا: ﴿مَنْ يَشْفَعْ﴾ الآية:
أ. يحتمل فيما بينه وبين ربه يشفع له: بخير إليه من عفو وتجاوز، أو يسوء إليه من لعنه أو هلاكه، والنصيب منها بوجهين:
• أحدهما: المغفرة في الأول هي برحمته أخاه وإشفاقه عليه، أو يعطي المشفوع له الشفاعة؛ فيكون ذلك له نصيبا منها.
• وفي الثاني: يجزيه بإساءته إلى من لعنه ودعا عليه بالهلاك بلا استحقاق نفس الأول، أو واحدًا بمثله فيه.
ب. ويحتمل: فيما بينه وبين الناس، ثم يكون ذلك بوجوه: أحدها: بما يشفع إلى من بين أخاه وآخر سواء في دفع ذلك وحلت التحية أو الألفة، أو إلى ضد ذلك يشفع في إقالة عثرة، أو ينم بينهما؛ لإلقاء عداوة، أو يشفع إليه بالدلالة على ملهوف في إغاثة، أو مظلوم في نكبة، أو يصنع معروفا أو نكبة، يبعث ذلك على خير أو شر، ولا قوة إلا باللَّه.
11. وقوله عز وجل: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾:
أ. قيل: هو الحافظ، وهو قول ابن عَبَّاسٍ.
ب. وقيل: ﴿مُقِيتًا﴾: حسيبًا.
ج. وقيل: شهيدًا.
د. وقيل: ﴿مُقِيتًا﴾ أي: مقتدرًا، مجازيًا بالحسنة والسيئة.. وروي عن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (مَنِ اسْتَأْكَلَ بِمُسْلِمٍ أكلَةً ـ أَطْعَمَهُ اللهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَامَ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِياءٍ ـ أَقَامَهُ اللهُ ـ تَعَالَى ـ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ، وَمَنْ تَتَبَّعَ عَوْرةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ـ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ ـ يَفْضَحْهُ فِي بَيتِهِ)
هـ. وعن الفَرَّاء والكسائي قالا: الْمُقِيت: المقتدر؛ من (أَقاتَ، يُقِيت إِقاتة)
و. وقيل: الْمُقِيت مشتقة من الْقُوتِ؛ يقول: رِزْق كل دابة على اللهَ تعالى ـ حتى تستوفي أكلها ورزقها.
ز. وقيل: مُقِيتًا: راحما يكلؤهم ويرزقهم.
ح. وقال أبو بكر الكسائي: وهو مأخوذ من الكتب السابقة، ليس هو بلساننا؛ فنحن لا نتأوله؛ فلعله على خلاف ما نتأوله.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٢80
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ والشفاعة مسألة الإنسان في صاحبه أن يناله خير بمسألته أو شر بمسألته وقيل الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمن ولكافة أولياء الله أجمعين، والشفاعة السيئة الدعاء عليهم لأن اليهود كانت تفعل ذلك فتوعدهم الله عز وجل، والكفل الوزر والإثم، وقيل الكفل النصيب كما قال: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد: 28]
2. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ أي مقتدراً.. الآية، وأصل المقيت من المقوت فسمي المقتدر به لأنه قادر على إعطاء القوت كما قال الشاعر:
çوذي طعن كففت الطعن عنه... وكنت على مسائته مقيتاé
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/188.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ في الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة قولان:
أ. أحدهما: أنه مسألة الإنسان في صاحبه أن يناله خير بمسألته أو شر بمسألته، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وابن زيد.
ب. والثاني: أن الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمنين، والشفاعة السيئة الدعاء عليهم، لأن اليهود كانت تفعل ذلك فتوعَّدَهُم الله عليه.
2. في الكِفْلِ تأويلان:
أ. أحدها: أنه الوِزر والإثم، وهو قول الحسن، وقتادة.
ب. والثاني: أنه النصيب، كما قال تعالى: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد: 28] وهو قول السدي، والربيع، وابن زيد.
3. في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ خمسة تأويلات:
أ. أحدها: يعني مقتدراً، وهو قول السدي، وابن زيد.
ب. والثاني: حفيظاً، وهو قول ابن عباس، والزجاج.
ج. والثالث: شهيداً، وهو قول مجاهد.
د. والرابع: حسيباً، وهو قول ابن الحجاج، ويحكى عن مجاهد أيضاً.
هـ. والخامس: مجازياً، وأصل المقيت القوت، فَسُمِّي به المقتدر لأنه قادر على إعطاء القوت، ثم صار اسماً في كل مقتدر على كل شيءٍ من قوت غيره، كما قال الزبير ابن عبد المطلب:
çوذي ضَغَنٍ كَففْتُ النَّفْسَ عنه … وكنتُ على مَسَاءَتِهِ مُقِيتاًé
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥١٣)
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وجه اتصال هذا الكلام بما تقدم، انه لما قيل ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ عقب ذلك بان لك مع هذا في دعاء المؤمنين إلى الحق ما للإنسان في شفاعة صاحبه بخير يصل إليه، لئلا يتوهم ان العبد من أجل انه لا يؤخذ بعمل غيره، لا يتزيد فعله بعمل غيره.
2. في معنى الشفاعة في قوله تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ قولان:
أ. أحدهما:
• قال أبو علي: الشفاعة الحسنة: الدعاء للمؤمنين. والشفاعة السيئة: الدعاء عليهم، لأن اليهود كانت تفعل ذلك فتوعدهم اللَّه تعالى عليه.
• وقال الحسن، ومجاهد، وابن زيد: الشفاعة هي مسألة الإنسان في صاحبه أن يناله خير بمسألته.
• وقال الازهري معنى ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ من يزد عملا إلى عمل، والشفع: الزيادة، سئل تغلب عن اشتقاق الشفعة، فقال: الزيادة وهو أن يشفعك في ما تطلبه حتى تضمنه إلى ما عندك، فتشفعه أي تزيده بها إن كان واحداً، فضممت إليه ما زاد صار شفعاً.
• وعندنا ان حقيقة الشفاعة هي المسألة في إسقاط الضرر، وانما تستعمل في مسألة المنافع مجازاً، لأن أحداً لا يقول: إنا نشفع في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا سألنا اللَّه أن نزيد في كراماته، ولو كان الامر على ما قاله الحسن، ومجاهد، لكنا شافعين فيه.
ب. الثاني ـ ان الشفاعة تصير الإنسان شفعاً لصاحبه في جهاد عدوه من الكفار.
3. اختلف في معنى الكفل:
أ. قال الحسن، وقتادة: هو الوزر، وهو قول أبي جعفر عليه السلام.
ب. وقال السدي، والربيع، وابن زيد: هو النصيب، ومنه قوله: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾
4. أصل الكفل: المركب الذي يهيأ كالسرج للبعير من كسا، أو خرق أو نحوه حول السنام. وانما قيل كفل، واكتفل البعير، لأنه لم يستعمل الظهر كله. وانما استعمل نصيب منه. وقال الازهري: الكفل الذي لا يحسن ركوب الفرس. وأصله الكفل: وهو ردف العجز. ومنه الكفالة بالنفس، وبالمال. والكفل المثل.
5. في معنى المقيت خمسة أقوال:
أ. قال السدي، وابن زيد، والكسائي: هو المقتدر.
ب. والثاني ـ قال ابن عباس، واختاره الزجاج: إنه الحفيظ.
ج. والثالث ـ قال مجاهد: هو الشهيد.
د. والرابع ـ المقيت: الحسيب عنه.
هـ. والخامس ـ قال الجبائي: هو المجازي كأنه قال: وكان اللَّه على كل شيء من الحسنات، والسيئات مجازياً.
أصل المقيت: القوت، قاته يقوته قوتاً: إذا أعطاه ما يمسك رمقه. والمقيت: المقتدر لاقتداره على ما يمسك رمقه. يقال منها قات الرجل يقيت اقاتة حكاه الكسائي وينشد للزبير بن عبد المطلب عم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم:
çوذي ضغن كففت النفس عنه...وكنت على مساءته مقيتاé
فهذه لغة قريش. وقال كثير:
çوما ذاك عنها عن نوال اناله...ولا انني منها مقيت على ودé
أي مقتدر فأما قول اليهودي:
çألي الفضل أم علي إذا حو...سبت اني على الحساب مقيتé
قيل: ومعناه موقوف، أي كما ان من يحتاج إلى القوت موقوف على سد خلته، ويحتمل معنى مقيت أي مقتدر على الحساب بتوجيهه إلى انه لي أو علي بحسب عملي، وقال ابن كثير: المقيت الواصب وهو القائم على كل شيء بالتدبير.
6. وأقوى الوجوه معنى المقتدر بدلالة البيت الذي للزبير بن عبد المطلب.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/277
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الشفع خلاف الوتر، تقول: كان فردًا فشفعته، والشفعة في الدار؛ لأنه يشفع ماله بها، والشفيع والشافع الطالب لغيره؛ لأن الطالب يصير به شفعًا.
ب. الكفل: أصله المركب التي يهيأ كالسرج للبعير من كساء وغيره، وقيل: هو كساء يدار حول سنام البعير، وقيل: هو كساء يعقد طرفاه على عجز البعير ليركبه الرديف، والكفل: النصيب؛ لأنه يهيأ لصاحبه كما يهيأ المركب للبعير، وأصل الباب الكفل ردف العجز.
ج. المقيت: أصله من قاته يقوته قَوتًا إذا أعطاه ما يسد به رمقه، والقوت: ما يمسك للرمق، والمقيت: المقتدر، وسمي بذلك لاقتداره على ما يمسك رمقه، ويقال: منه أقات الرجل يقيت إقاتة، حكاه الكسائي.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: أراد بالشفاعة الدعاء بالخير والشر، وروي أن اليهود والمنافقين كانوا يدعون على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين بالهلاك، وكانوا إذا دخلوا يقولون: السام عليكم، والسام هو الموت عن أبي علي.
ب. وروي أنه لما سمعتْ عائشة فقالت: وعليك السام واللعنة أتقول هذا لرسول الله!؟ فقال رسول الله: قد علمتُ ما قالوا فقلتُ: وعليكم)، وفيه نزلت الآية.
3. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجوه:
أ. منها: أنه تقدم ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ بين أن له في دعاء المؤمنين أعظم نصيب؛ لئلا يوهم أن العبد من أجل أنه لا يؤخذ بذنب غيره لا يكون له أجر في دعاء غيره عن علي بن عباس.
ب. ومنها: أنه لما تقدم قوله: ﴿فَقَاتِلْ﴾ ﴿وَحَرِّضِ﴾ اتصل به هذه الآية يعني إذا فعلت هذا فكل من كانت منه معونة في الخير أو في الشر فله نصيب منها في الدنيا والآخرة تنبيهًا أن من أعان على أمر كان له نصيب مما يستحق عليه عن أبي مسلم.
ج. وقيل: من شفع يطلب لغيره خيرًا، وأنت إذا حرضتهم فقد طلبت لهم الخير والثواب، فيكون ذلك منه نصيبا، قال القاضي: وأحسن ما قيل فيه أن كل من طلب لغيره خيرًا فوصل إليه، يحصل له نصيب من الخيرات، وأنت قد طلبت بهم الخير حيث دعوتهم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً﴾:
أ. قيل: هو مسألة الإنسان في صاحبه أن يناله خير بمسألته عن الحسن ومجاهد وابن زيد.
ب. وقيل: الشفاعة الحسنة: الدعاء للمؤمنين، والسيئة: الدعاء عليهم عن أبي علي.
ج. وقيل: الشفاعة: الإغاثة عن أبي مسلم.
د. وقيل: الإعانة والطلب عن الأصم.
5. ﴿يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ يعني خيرًا في الدنيا، وهو الظفر والغنيمة، وفي العقبى المثوبة والجنة ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾:
أ. قيل: الكفل: الوزر والإثم عن الحسن وقتادة.
ب. وقيل: النصيب كقوله: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ عن السدي والربيع وابن زيد، فكأنه قيل: نصيب من الشر.
6. ﴿وَكَانَ اللهُ﴾ يعني لم يزل ولا يزال على هذه الصفة ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ﴿مُقِيتًا﴾:
أ. قيل: المقيت: المقتدر عن السدي والكسائي وابن زيد.
ب. وقيل: هو الحفيظ عن ابن عباس والزجاج.
ج. وقيل: الشهيد عن مجاهد.
د. وقيل: الحسيب.
هـ. وقيل: المجازي كأنه قيل: على كل شيء من الحسنة والسيئة مجازيًا عن أبي علي.
و. وقيل: القادر على إعطاء كل واحد قوته عن الفراء.
7. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن الإعانة على الخير، وطلب الخير لغيره والدعاء يوجب له نصيبًا من الأجر كما لفاعله، وجرى في ذلك مجرى قوله: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها) الخبر.
ب. أنه تعالى يحفظ الأعمال ويجازي بها.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/730
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. أصل الشفاعة: من الشفع الذي هو ضد الوتر، فإن الرجل إذا شفع بصاحبه فقد شفعه: أي صار ثانيه، ومنه الشفيع في الملك، لأنه يضم ملك غيره إلى ملك نفسه، واختلفت الأمة في كيفية شفاعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم القيامة:
• فقالت المعتزلة ومن تابعهم: يشفع لأهل الجنة ليزيد الله درجاتهم.
• وقال غيرهم من فرق الأمة: بل يشفع لمذنبي الأمة ممن ارتضى الله دينهم، ليسقط عقابهم بشفاعته.
ب. الكفل في اللغة: النصيب، وأخذ من قولهم: اكتفلت البعير: إذا أدرت على سنامه كساء، وركبت عليه، وإنما يقال ذلك، لأنه لم يستعمل الظهر كله، وإنما استعمل نصيب من الظهر، وقال الأزهري: الكفل: الذي لا يحسن ركوب الفرس، وأصله الكفل، وهو ردف العجز، ومنه الكفالة بالنفس والمال، والكفل: المثل.
ج. المقيت: أصله من القوت، فإنه يقوته قوتا، إذا أعطاه ما يمسك به رمقه، والمقيت: المقتدر، لاقتداره على ذلك، وأقات، يقيت إقاتة، وينشد للزبير بن عبد المطلب: وذي ضغن كففت النفس عنه... وكنت على مساءته مقيتا فهذه لغة قريش.
2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: إنه سبحانه لما قال: ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ عقب ذلك بأن لك مع هذا في دعاء المؤمنين إلى الحق، ما للانسان في شفاعة صاحبه لخير يصل إلى المشفوع له، لئلا يتوهم ان العبد من أجل أنه لا يؤخذ بعمل غيره، لا يتزيد فعله بعمل غيره، عن علي بن عيسى.
ب. وقيل: الوجه فيه: إن كل من طلب لغيره خيرا، فوصل إليه حصل له نصيب منه، وأنت قد طلبت لهم الخير، حيث دعوتهم إلى الجهاد، وحرضتهم عليه، قال القاضي: هذا أحسن ما قيل فيه.
3. في قوله تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ أقوال:
أ. أحدها: إن معناه من يصلح بين اثنين ﴿يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ أي يكن له أجر منها ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً﴾ أي يمشي بالنميمة ﴿يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾: أي إثم منها، عن الكلبي، عن ابن عباس.
ب. وثانيها: إن الشفاعة الحسنة، والشفاعة السيئة، شفاعة الناس بعضهم لبعض، عن مجاهد، والحسن قال: ما يجوز في الدين أن يشفع فيه، فهو شفاعة حسنة، وما لا يجوز أن يشفع فيه فهو شفاعة سيئة، قال: ومن يشفع شفاعة حسنة، كان له فيها أجر وثواب، وإن لم يشفع لان الله قال: ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ﴾ ولم يقل: ومن يشفع، ويؤيد هذا قوله: (إشفعوا تؤجروا) وقوله: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في ملكه، ومن أعان على خصومه بغير علم، كان في سخط الله حتى ينزع)
ج. وثالثها: إن المراد بالشفاعة الحسنة: الدعاء للمؤمنين، وبالشفاعة السيئة: الدعاء عليهم، عن أبي علي الجبائي، قال: لأن اليهود كانت تفعل ذلك، فتوعدهم الله عليه.
د. ورابعها: ما قاله بعضهم: إن المراد بالشفاعة هنا أن يصير الانسان شفع صاحبه في جهاد عدوه، فيحصل له من هذه الشفاعة نصيب في العاجل من الغنيمة، والظفر، وفي الآجل من الثواب المنتظر، وان صار شفعا له في معصية، أو شر، حصل له نصيب من المذمة في العاجل، والعقوبة في الآجل.
4. ﴿يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ الكفل: الوزر، عن الحسن، وقتادة، وهو النصيب، والحظ، عن السدي، والربيع، وجميع أهل اللغة، فكأنه النصيب من الشر.
5. في معنى المقيت في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ أقوال:
أ. أحدها: إنه المقتدر، عن السدي، وابن زيد.
ب. وثانيها: الحفيظ الذي يعطي الشئ قدر الحاجة من الحفظ، عن ابن عباس.
ج. وثالثها: الشهيد عن مجاهد.
د. ورابعها: الحسيب، عنه أيضا.
هـ. وخامسها: المجازي عن أبي علي الجبائي: أي يجازي على كل شئ من الحسنات والسيئات.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/127.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في المراد بالشّفاعة في قوله تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنها شفاعة الإنسان للإنسان، ليجتلب له نفعا، أو يخلّصه من بلاء، وهذا قول الحسن ومجاهد وقتادة، وابن زيد.
ب. الثاني: أنها الإصلاح بين اثنين، قاله ابن السّائب.
ج. الثالث: أنه الدّعاء للمؤمنين والمؤمنات، ذكره الماورديّ.
د. الرابع: أن المعنى: من يصر شفعا لوتر أصحابك يا محمّد، فيشفعهم في جهاد عدوّهم وقتالهم في سبيل الله، قاله ابن جرير وأبو سليمان الدّمشقيّ.
2. في الشّفاعة السّيئة ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها السّعي بالنّميمة، قاله ابن السّائب، ومقاتل.
ب. الثاني: أنها الدّعاء على المؤمنين والمؤمنات، وكانت اليهود تفعله، ذكره الماورديّ.
ج. الثالث: أن المعنى: من يشفع وتر أهل الكفر، فيقاتل المؤمنين؛ قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي.
3. الكفل: قال الزجّاج: و(الكفل) في اللغة: النّصيب، وأخذ من قولهم: اكتفلت البعير: إذا أدرت على سنامه، أو على موضع من ظهره كساء، وركبت عليه، وإنما قيل له: كفل، لأنه لم يستعمل الظّهر كلّه، وإنما استعمل نصيبا منه.
4. في المقيت) سبعة أقوال:
أ. أحدها: أنه المقتدر، قال أحيحة بن الجلّاح:
çوذي ضغن كففت النّفس عنه...وكنت على مساءته مقيتاé
وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، وابن جرير، والسّدّيّ، وابن زيد، والفرّاء، وأبو عبيد، وابن قتيبة، والخطّابيّ.
ب. الثاني: أنه الحفيظ، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والزجّاج، وقال: هو بالحفيظ أشبه، لأنه مشتق من القوت، يقال: قتّ الرجل أقوته قوتا: إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته، والقوت: اسم الشيء الذي يحفظ نفسه، ولا فضل فيه على قدر الحفظ، فمعنى المقيت: الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ، قال الشاعر:
çألي الفضل أم عليّ إذا حو...سبت إنّي على الحساب مقيتé
ج. الثالث: أنه الشّهيد، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد، واختاره أبو سليمان الدّمشقيّ.
د. الرابع: أنه الحسيب، رواه خصيف عن مجاهد.
هـ. الخامس: الرّقيب، رواه أبو شيبة عن عطاء.
و. السادس: الدّائم، رواه ابن جريج عن عبد الله بن كثير.
ز. السابع: أنه معطي القوت، قاله مقاتل بن سليمان، وقال الخطّابيّ: المقيت يكون بمعنى معطي القوت، قال الفرّاء: يقال: قاته وأقاته.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/441
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها:
أ. الأول: أن اللَّه تعالى أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يحرض الأمة على الجهاد، والجهاد من الأعمال الحسنة والطاعات الشريفة، فكان تحريض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للأمة على الجهاد تحريضا منه لهم على الفعل الحسن والطاعة الحسنة، فبين تعالى في هذه الآية أن من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، والغرض/ منه بيان أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما حرضهم على الجهاد فقد استحق بذلك التحريض أجرا عظيما.
ب. الثاني: أنه تعالى لما أمره بتحريضهم على الجهاد ذكر أنهم لو لم يقبلوا أمره لم يرجع إليه من عصيانهم وتمردهم عيب، ثم بين في هذه الآية أنهم لما أطاعوا وقبلوا التكليف رجع إليهم من طاعتهم خير كثير، فكأنه تعالى قال للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: حرضهم على الجهاد، فان لم يقبلوا قولك لم يكن من عصيانهم عتاب لك، وإن أطاعوك حصل لك من طاعتهم أعظم الثواب، فكان هذا ترغيبا من اللَّه لرسوله في أن يجتهد في تحريض الأمة على الجهاد، والسبب في أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يرجع اليه عند طاعتهم أجر عظيم، وما كان يرجع اليه من معصيتهم شيء من الوزر، هو أنه عليه السلام بذل الجهد في ترغيبهم في الطاعة وما رغبهم ألبتة في المعصية، فلا جرم يرجع اليه من طاعتهم أجر ولا يرجع اليه من معصيتهم وزر.
ج. الثالث: يجوز أن يقال: إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما كان يرغبهم في القتال ويبالغ في تحريضهم عليه، فكان بعض المنافقين يشفع إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أن يأذن لبعضهم في التخلف عن الغزو، فنهى اللَّه عن مثل هذه الشفاعة وبين أن الشفاعة إنما تحسن إذا كانت وسيلة إلى إقامة طاعة اللَّه، فأما إذا كانت وسيلة إلى معصيته كانت محرمة منكرة.
د. الرابع: يجوز أن يكون بعض المؤمنين راغبا في الجهاد، إلا أنه لم يجد أهبة الجهاد، فصار غيره من المؤمنين شفيعا له إلى مؤمن آخر ليعينه على الجهاد، فكانت هذه الشفاعة سعيا في إقامة الطاعة، فرغب اللَّه تعالى في مثل هذه الشفاعة، وعلى جميع الوجوه فالآية حسنة الاتصال بما قبلها.
2. الشفاعة مأخوذة من الشفع، وهو أن يصير الإنسان نفسه شفعا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة فيها، وفي الشفاعة المذكورة في الآية وجوه:
أ. الأول: أن المراد منها تحريض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إياهم على الجهاد، وذلك لأنه إذا كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يأمرهم بالغزو فقد جعل نفسه شفعا لهم في تحصيل الأغراض المتعلقة بالجهاد، وأيضا فالتحريض على الشيء عبارة عن الأمر به لا على سبيل التهديد، بل على سبيل الرفق والتلطف، وذلك يجري مجرى الشفاعة.
ب. الثاني: أن المراد منه ما ذكرنا من أن بعض المنافقين كان يشفع لمنافق آخر في أن يأذن له الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في التخلف عن الجهاد، أو المراد به أن بعض المؤمنين كان يشفع لمؤمن آخر عند مؤمن ثالث في أن يحصل له ما يحتاج إليه من آلات الجهاد.
ج. الثالث: نقل الواحدي عن ابن عباس ما معناه أن الشفاعة الحسنة هاهنا هي أن يشفع إيمانه باللَّه بقتال الكفار، والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالمحبة للكفار وترك إيذائهم.
د. الرابع: قال مقاتل: الشفاعة إلى اللَّه إنما تكون بالدعاء، واحتج بما روى أبو الدرداء أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال الملك له ولك مثل ذلك)، فهذا هو النصيب، وأما الشفاعة السيئة فهي ما روي أن اليهود كانوا إذا دخلوا على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا: السام عليكم، والسام هو الموت، فسمعت عائشة فقالت عليكم السام واللعنة، أتقولون هذا للرسول! فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: قد علمت ما قالوا فقلت وعليكم، فنزلت هذه الآية.
هـ. الخامس: قال الحسن ومجاهد والكلبي وابن زيد: المراد هو الشفاعة التي بين الناس بعضهم لبعض، فما يجوز في الدين أن يشفع فيه فهو شفاعة حسنة، وما لا يجوز أن يشفع فيه فهو شفاعة سيئة، ثم قال الحسن: من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر، وإن لم يشفع، لأن اللَّه تعالى يقول: ﴿مَنْ يَشْفَعْ﴾ ولم يقل: ومن يشفع، ويتأيد هذا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اشفعوا تؤجروا)
3. هذه الشفاعة لا بد وأن يكون لها تعلق بالجهاد وإلا صارت الآية منقطعة عما قبلها، وذلك التعلق حاصل بالوجهين الأولين، فأما الوجوه الثلاثة الأخيرة فان كان المراد قصر الآية عليها فذلك باطل، وإلا صارت هذه الآية أجنبية عما قبلها، وإن كان المراد دخول هذه الثلاثة مع الوجهين الأولين في اللفظ فهذا جائز؛ لأن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ.
4. ﴿كِفْلٌ﴾ قال أهل اللغة: الكفل: هو الحظ، ومنه قوله تعالى: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد: 28] أي حظين وهو مأخوذ من قولهم: كفلت البعير واكتفلته إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه، وإنما قيل: كفلت البعير واكتفلته لأنه لم يستعمل كل الظهر، وإنما استعمل نصيبا من الظهر، قال ابن المظفر: لا يقال: هذا كفل فلان حتى تكون قد هيأت لغيره مثله، وكذا القول في النصيب، فان أفردت فلا تقل له كفل ولا نصيب.
5. سؤال وإشكال: لم قال في الشفاعة الحسنة: ﴿يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾، وقال في الشفاعة السيئة: ﴿يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ وهل لاختلاف هذين اللفظين فائدة؟ والجواب: الكفل اسم للنصيب الذي عليه يكون اعتماد الناس، وإنما يقال كفل البعير لأنك حميت ظهر البعير بذلك الكساء عن الآفة، وحمى الراكب بدنه بذلك الكساء عن ارتماس ظهر البعير فيتأذى به، ويقال للضامن: كفيل، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين) فثبت أن الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الإنسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه، إذا ثبت هذا فنقول: ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ أي يحصل له منها نصيب يكون ذلك النصيب ذخيرة له في معاشه ومعاده، والمقصود حصول ضد ذلك ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: 21] والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند اللَّه تعالى.
6. في المقيت في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ قولان:
أ. الأول: المقيت القادر على الشيء، وأنشدوا للزبير بن عبد المطلب.
çوذي ضغن كففت النفس عنه...وكنت على إساءته مقيتاé
وقال آخر:
çليت شعري وأشعرن إذا ما...قربوها منشورة ودعيت
إلي الفضل أم علي إذا حوسبت...اني على الحساب مقيتé
وأنشد النضر بن شميل:
çتجلد ولا تجزع وكن ذا حفيظة...فاني على ما ساءهم لمقيتé
ب. الثاني: المقيت مشتق من القوت، يقال: قت الرجل إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته، واسم ذلك الشيء هو القوت، وهو الذي لا فضل له على قدر الحفظ، فالمقيت هو الحفيظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة، ثم قال القفال: وأي المعنيين كان فالتأويل صحيح، وهو أنه تعالى قادر على إيصال النصيب والكفل من الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولا ينتقص بسبب ما يصل إلى الشافع شيء من جزاء المشفوع، وعلى الوجه الثاني أنه تعالى حافظ الأشياء شاهد عليها لا يخفى عليه شيء من أحوالنا، فهو عالم بأن الشافع يشفع في حق أو في باطل حفيظ عليه فيجازى كلا بما علم منه.
7. إنما قال: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ تنبيها على أن كونه تعالى قادرا على المقدورات صفة كانت ثابتة له من الأزل، وليست صفة محدثة، فقوله: ﴿كَانَ﴾ مطلقا من غير أن قيد ذلك بأنه كان من وقت كذا أو حال كذا، يدل على أنه كان حاصلا من الأزل إلى الأبد.
__________
(1) التفسير الكبير: 10/159
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَنْ يَشْفَعْ﴾ أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد، ومنه الشفيع، لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا، ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة، وناقة شفيع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها، والشفع ضم واحد إلى واحد، والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك، فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له.
2. اختلف المتأولون في هذه الآية:
أ. فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم، فمن يشفع لينفع فله نصيب، ومن يشفع ليضر فله كفل.
ب. وقيل: الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي، فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم، وهذا قريب من الأول.
ج. وقيل: يعني بالشفاعة الحسنة الدعاء للمسلمين، والسيئة الدعاء عليهم، وفي صحيح الخبر: (من دعا بظهر الغيب استجيب له وقال الملك آمين ولك بمثل)، هذا هو النصيب، وكذلك في الشر، بل يرجع شؤم دعائه عليه، وكانت اليهود تدعو على المسلمين.
د. وقيل: المعنى من يكن شفعا لصاحبه في الجهاد يكن له نصيبه من الأجر، ومن يكن شفعا لآخر في باطل يكن له نصيبه من الوزر، وعن الحسن أيضا: الحسنة ما يجوز في الدين، والسيئة ما لا يجوز فيه، وكأن هذا القول جامع.
3. ﴿كِفْلٌ﴾ الوزر والإثم، عن الحسن وقتادة، السدي وابن زيد هو النصيب، واشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط، يقال: اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه، ويقال له: اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيبا من الظهر، ويستعمل في النصيب من الخير والشر، وفي كتاب الله تعالى ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾
4. الشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يشفع، لأنه تعالى قال: ﴿مَنْ يَشْفَعْ﴾ ولم يقل يشفع، وفي صحيح مسلم (اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب)
5. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ ﴿مُقِيتًا﴾ معناه مقتدرا، ومنه قول الزبير بن عبد المطلب:
çوذي ضغن كففت النفس عنه...وكنت على مساءته مقيتاé
أي قديرا، فالمعنى إن الله تعالى يعطي كل إنسان قوته، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت)، على من رواه هكذا، أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره، ذكره ابن عطية، يقول منه: قته أقوته قوتا، وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت، وحكى الكسائي: أقات يقيت، وأما قول الشاعر: (إني على الحساب مقيت)، فقال فيه الطبري: إنه من غير هذا المعنى المتقدم، وإنه بمعنى الموقوف، وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ، وقال الكسائي: المقيت المقتدر، وقال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان، وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل رجل قوته، وجاء في الحديث: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) ويقيت) ذكره الثعلبي: وحكى ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر، والمقيت الحافظ والشاهد، وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/295.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ أصل الشفاعة والشفعة ونحوهما: من الشفع، وهو الزوج، ومنه: الشفيع، لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا، ومنه ناقة شفوع: إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة، وناقة شفيع: إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها، والشفع: ضمّ واحد إلى واحد، والشفعة: ضم ملك الشريك إلى ملكك، فالشفاعة: ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع، واتصال منفعة إلى المشفوع له، والشفاعة الحسنة: هي في البرّ والطاعة، والشفاعة السيئة: في المعاصي.
2. فمن شفع في الخير لينفع فله نصيب منها: أي من أجرها، ومن شفع في الشر ـ كمن يسعى بالنميمة والغيبة ـ كان له كفل منها، أي: نصيب من وزرها، والكفل: الوزر والإثم، واشتقاقه من الكساء الذي يجعله الراكب على سنام البعير لئلا يسقط؛ يقال: اكتفلت البعير: إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه، لأنه لم يستعمل الظهر كله، بل استعمل نصيبا منه، ويستعمل في النصيب من الخير والشرّ، ومن استعماله في الخير قوله تعالى: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾
3. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ أي: مقتدرا، قاله الكسائي، وقال الفراء: المقيت: الذي يعطي كل إنسان قوته، يقال: قتّه، أقوته، قوتا، وأقتّه، أقيته، إقاتة، فأنا قائت، ومقيت، وحكى الكسائي: أقات يقيت، وقال أبو عبيدة: المقيت: الحافظ، قال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى، لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه: مقدار ما يحفظ الإنسان، وقال ابن فارس في المجمل: المقيت: المقتدر، والمقيت: الحافظ والشاهد، وأما قول الشاعر:
çألي الفضل أم عليّ إذا حو...سبت إنّي على الحساب مقيتé
فقال ابن جرير الطبري: إنه من غير هذا المعنى.
__________
(1) فتح القدير: 1/570.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لَمَّا حرَّض صلّى الله عليه وآله وسلّم المؤمنين على الخروج إلى بدر الصغرى لم يجد بعضهم أهبة فيشفع له غيره إلى من يعينه، فهذه الشفاعة الحسنة، ووجد بعضهم أهبة فشفع له بعض المنافقين في التخلُّف، فهذه الشفاعة السيِّئة، فذلك قوله تعالى: ﴿مَّنْ يَّشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنهَا﴾ إلخ وهو ثواب الشفاعة الحسنة، والتسبُّب إلى الخير الواقع بها، من دفع ضرٍّ أو جلب نفع لوجه الله تعالى ، أو مقدار من الثواب بسببها.
2. التعبير بالنصيب في الحسنة وبالكفل في السيِّئة تفنُّن، والمعنى واحد، وقيل: الكفل غلب في الشرِّ، وقلَّ في الخير، كقوله تعالى: ﴿يُوتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ﴾ [الحديد: 28]، فخُصَّ بالسيِّئة هربًا من التكرير وللتطرية، وبهذا يجاب في ردِّ ابن هشام في المسائل السفريَّة على من قال: الكفل في الشرِّ، بأن يقال: مراد قائله الغلبة، وقيل: النصيب يشمل الزيادةَ، والكفلُ: المساوي، والشفع ضدُّ الوتر؛ فمن ذلك ضَمُّ الدافع أو الجالب نفسه إلى ذي الحاجة، ومنه ضمُّ الجار نفسه إلى المشتري في الشراء، (والجار أحقُّ بصقبه)، والنصيب في القليل والكثير، والكفل في المثل، فاختير في جانب السيِّئة ﴿مَن جَآءَ بِالسَّـيِّـئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾ [الأنعام: 160] ويعترض بقوله: ﴿يُوتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ﴾ [الحديد: 28]؛ لأنَّه فيه بمعنى الأكثر لا المساوي، فإنَّ الحسنة بعشر، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من دعا لأخيه المؤمن بظهر الغيب استجيب له، وقال الملك: آمين، ولك مثل ذلك)
3. ﴿وَمَنْ يَّشفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا﴾ مقدار من الذنب مساو لها، والمعين على الشيء والدالُّ عليه كفاعله، أو مقدار من الذنب بسببها، ودخل في الشفاعة الحسنةِ الدعاءُ للمسلم، فإنَّه شفاعة إلى الله، وفي الشفاعة السيِّئة الدعاء لمن لا يستحقُّ بالسوء، لأنَّه شفاعة إلى الشيطان، كما قيل: المراد بالشفاعة السيِّئة دعاء اليهود على المسلمين بالسوء، وقيل: إطلاق الشفاعة في السوء مشاكلةٌ وأصلها في الخير، وليس كذلك؛ لأنَّ الشفع ضدُّ الوتر، نعم كثر في الخير، وقيل: الشفاعة السيِّئة: النميمة، وقيل: من يشفع كفره بقتال المؤمنين [أي يضم ويجمع إلى كفره قتال المؤمنين] قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود الله تعالى فقد ضادَّ الله تعالى في مُلكه، ومن أعان على خصومةٍ بغير علم كان في سخط الله حتَّى ينزع)، وتجوز الشفاعة من الحدود إلى الدية.
4. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا﴾ قادرًا أو شهيدًا أو حافظًا، وأصله من القُوت لأنَّه يُقَوِّي البدن، وياؤه عن واو، وقيل: معناه المجازي.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/239.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أشار تعالى إلى أن التحريض على القتال شفاعة في تكفير الكبائر ورفع الدرجات فقال: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً﴾ أي يتوسط في أمر فيترتب عليه خير من دفع ضر، أو جلب نفع، ابتغاء لوجه الله تعالى، ومنه حمل المؤمنين على قتال الكفار.
2. ﴿يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً﴾ وهي ما كانت بخلاف الحسنة، بأن كانت في أمر غير مشروع ﴿يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ أي: نصيب من وزرها الذي ترتب على سعيه، مساو لها في المقدار من غير أن ينقص منه شيء.
3. قال السيوطيّ في (الإكليل): في الآية مدح الشفاعة وذم السعاية، وهي الشفاعة السيئة، وذكر الناس عند السلطان بالسوء، وهي معدودة من الكبائر، روي في فضل الشفاعة أحاديث كثيرة، منها:
أ. ما أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعريّ قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال: اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب.
ب. وعن ابن عباس في قصة بريرة وزوجها قال: قال لها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: لو راجعته! قالت: يا رسول الله! تأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه، رواه البخاريّ.
4. قال مجاهد والحسن والكلبيّ وابن زيد: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض، فما يجوز في الدين أن يشفع فيه، فهو شفاعة حسنة، وما لا يجوز أن يشفع فيه، فهو شفاعة سيئة، ثم قال الحسن: من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر، وإن لم يشفّع، لأن الله يقول: من يشفع، ولم يقل: من يشفّع، ويتأيد هذا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اشفعوا تؤجروا، نقله الرازيّ.
5. قال الزمخشريّ: (الشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حد من حدود الله، ولا في حق من الحقوق، يعني الواجبة عليه، والسيئة ما كان بخلاف ذلك):
أ. وعن مسروق: أنه شفع شفاعة، فأهدى إليه المشفوع جارية، فغضب وردها، وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك، ولا أتكلم فيما بقي منها.
ب. وروى أبو داود: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من شفع لأخيه بشفاعة، فأهدى له هدية عليها، فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الكبائر)
ج. وهذا الحديث أورده أيضا المنذريّ في (كتاب الترغيب والترهيب) في ترجمة (الترغيب في قضاء حوائج المسلمين وإدخال السرور عليهم، وما جاء فيمن شفع فأهدي إليه) ثم ساق حديث الشيخين وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كرب الدنيا يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)
د. وروى الطبرانيّ بإسناد جيد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه، ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرّم، فقد عرّض تلك النعمة للزوال)، وروي نحوه عن عائشة وابن عمر وابن عمرو.
هـ. وروى الطبرانيّ وابن حبان في (صحيحه) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ برّ أو تيسير عسير، أعانه الله إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام)، وفي رواية للطبرانيّ عن أبي الدرداء: رفعه الله في الدرجات العلا من الجنة.
و. وروى الطبرانيّ عن الحسن بن عليّ عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم)، ورواه عن عمر مرفوعا بلفظ: أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، ورواه بنحو ذلك أيضا عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم.
6. نكتة اختيار النصيب في (الحسنة) والكفل في (السيئة) ما أشرنا إليه، وذلك أن النصيب يشمل الزيادة، لأن جزاء الحسنات يضاعف، وأما الكفل فأصله المركب الصعب، ثم استعير للمثل المساوي، فلذا اختير، إشارة إلى لطفه بعباده، إذ لم يضاعف السيئات كالحسنات، ويقال: إنه وإن كان معناه المثل لكنه غلب في الشر وندر في غيره، كقوله تعالى: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد: 28]، فلذا خص به السيئة تطرية وهربا من التكرار، و(من) بيانية أو ابتدائية، أفاده الخفاجيّ.
7. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ أي: مقتدرا، من (أقات على الشيء) إذا اقتدر عليه كما قال:
çوذي ضغن كففت النفس عنه...وكنت على مساءته مقيتاé
أي رب ذي حقد عليّ كففت السوء عنه مع القدرة عليه، أو شهيدا حافظا، واشتقاقه من (القوت) فإنه يقوّي البدن ويحفظه.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/241
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الشفاعة من الشفع وهو مقابل الوتر أي الفرد، قال الراغب الشفع ضم الشيء إلى مثله، والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرا له سائلا عنه، والذي يناسب السياق واتصال الآية بما قبلها من الآيات أن معنى قوله تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ من يجعل نفسه شفعا لك وقد أمرت بالقتال وترا؛ وهي الشفاعة الحسنة لأنها نصر للحق وتأييد له ومثل ذلك كل من ينضم إلى أي محسن ويشفعه.
2. ﴿يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ أي من شفاعته هذه بما يناله من الفوز والشرف والغنيمة في الدنيا عندما ينتصر الحق على الباطل، وبما يكون له من الثواب في الآخرة سواء أدرك النصر في الدنيا أم لم يدركه، والنصيب الحظ المنصوب أي المعين كما قال الراغب.
3. ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً﴾ بأن ينضم إلى عدوك فيقاتل معه، أو يخذل المؤمنين عن قتاله وهذه هي الشفاعة السيئة، ومثلها كل إعانة على السيئات.
4. ﴿يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ أي نصيب من سوء عاقبتها وهو ما يناله من الخذلان في الدنيا والعقاب في الآخرة، فالكفل بمعنى النصيب المكفول للشافع لأنه أثر عمله، أو المحدود لأنه على قدره، أو الذي يجيء من الوراء، وهو على هذا مشتق من كفل البعير وهو عجزه، أو مستعار من المركب الذي يسمى كفلا (بالكسر) قال في لسان العرب: والكفل من مراكب الرجال وهو كساء يؤخذ فيعقد طرفاه ثم يلقى مقدمه على الكاهل ومؤخره مما يلي العجز (أي الكفل بفتح الكاف والفاء) وقيل هو شيء مستدير يتخذ من خرق أو غير ذلك ويوضع على سنام البعير، وفي حديث أبي رافع قال: (ذلك كفل الشيطان) يعني معقده، ثم قال والكفل ما يحفظ الراكب من خلفه والكفل النصيب مأخوذ من هذا اه كأنه أراد الانتفاع من ناحية الكفل والمؤخر، والراغب ذهب إلى القول الأول وفاقا لابن جرير، قال إنه مستعار من الكفل (بالكسر) وهو الشيء الرديء، واشتقاقه من الكفل، وهو أن الكفل لما كان مركبا ينبو براكبه صار متعارفا في كل شدة كالسيساء وهو العظم الناتئ من ظهر الحمار فيقال لأحملنك على الكفل وعلى السيساء، ثم قال: (ومعنى الآية من ينضم إلى غيره معينا له في فعلة حسنة يكون له منها نصيب، ومن ينضم إلى غيره معينا له في فعلة سيئة يناله منها شدة، وقيل الكفل الكفيل ونبه على أن من تحرى شرا فله من فعله كفيل يسأله، كما قيل من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه، تنبيها إلى أنه لا يمكنه التخلص من عقوبته)
5. وفسر الآية بنحو ما ذكرنا شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، ولكنه جعل الشفاعة لأصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ونحن جعلناها له صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنها أمر أولا بالقتال وحده فكان كل من يتصدى للقتال معه قد تصدى لأن يجعل نفسه معه شفيعا، واسم الشرط في ﴿مَنْ يَشْفَعْ﴾ يؤذن بالعموم ولكن يدخل فيه ما ذكرنا دخولا أوليا بقرينة السياق، قال ابن جرير: (وقد قيل إنه عنى بقوله: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ الآية شفاعة الناس بعضهم لبعض، وغير مستنكر أن تكون الآية نزلت فيما ذكرنا ثم عم بذلك كل شافع بخير أو شر، وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك لأنه في سياق الآية التي أمر الله نبيه فيما يحض المؤمنين على القتال، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والوعيد لمن أبى إجابته أشبه منه بالحث على شفاعة الناس بعضهم لبعض)، ثم ذكر أقوال من ذكروا أنها في شفاعة الناس بعضهم لبعض.
6. وقد ذكر الرازي لاتصال الآية بما قبلها وجوها:
أ. أولها وثانيها أنه جعل تحريض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على القتال بمعنى الشفاعة الحسنة له أجره وأنه ليس عليه ممن تمرد وعصى وزر ولا عيب.
ب. والثالث جواز أن بعض المنافقين كان يشفع إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أن يأذن لبعضهم في التخلف عن القتال فنهى الله تعالى عن هذه الشفاعة وبين أن الشفاعة إنما تحسن إذا كانت وسيلة إلى إقامة طاعة الله تعالى دون العكس، وهذا الوجه صحيح وكان واقعا وقد ذكر في سورة التوبة استئذانهم في التخلف، وقد يستأذن بعضهم بغيرهم ويشفع له كما يستأذن لنفسه.
ج. والرابع مما ذكره الرازي جواز أن يشفع بعض المؤمنين لبعض في إعانة من لا يجد أهبة القتال أن يعان عليها، وحاصل الوجهين أن الشفاعة ذكرت في هذا السياق لأن من شأنها أن تقع في الإعانة على القتال أو القعود عنه، وإن كان اللفظ عاما على سنة القرآن في الإتيان بالقواعد الكلية والمسائل العامة في سياق بيان بعض ما يدخل في ذلك العموم.
7. ثم ذكر الرازي في تفسير الشفاعة خمسة وجوه:
أ. أولها: أنها تحريض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إياهم على الجهاد لأنه بذلك يجعل نفسه شفعا لهم، وذكر علة ثانية لتسمية التحريض شفاعة وهي أن التحريض على الشيء عبارة عن الأمر به لا على سبيل التهديد بل على الرفق والتلطف وذلك يجري مجرى الشفاعة، وهذا التعليل أو التوجيه يؤيد الوجه الأول مما ذكر من وجوه الاتصال والمناسبة ويقر به.
ب. ثانيها: أنها شفاعة المنافقين بعضهم لبعض في التخلف أو شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض في الإعانة، وفاقا لما ذكره في الوجهين الثالث والرابع من وجوه الاتصال.
ج. ثالثها: قوله: (نقل الواحدي عن ابن عباس ما معناه أن الشفاعة الحسنة ههنا هي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار (أي يضمه إليه) والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالمحبة للكفار وترك إيذائهم)، وكان ينبغي أن يقول بإعانة الكفار على قتال أهل الحق وخذلانهم.
د. رابعها: قول مقاتل أن الشفاعة الحسنة الدعاء وأن نصيب الشافع منها يؤخذ من حديث (من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به آمين ولك بمثله) رواه مسلم وأبو داود عن أبي الدرداء وأورده الرازي بالمعنى وذكر أن الشفاعة السيئة ما كان من تحريف اليهود للسلام على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقولهم: (السام عليكم) أي الموت، أقول والحديث في هذا معروف ولا يظهر فيه معنى الشفاعة البتة.
هـ. خامسها: قول الحسن ومجاهد والكلبي وابن زيد أنها شفاعة الناس بعضهم لبعض فما يجوز في الدين أن يشفع فيه فهو شفاعة حسنة وما لا يجوز أن يشفع فيه فهو شفاعة سيئة، ثم جزم الرازي بأن هذه الشفاعة لا بد أن يكون لها تعلق بالجهاد فلا يجوز قصرها على الوجوه الثلاثة وإنما يجوز أن تكون داخلة في معناها بطريق العموم، الذي لا ينافيه خصوص السبب كما هو معلوم.
8. أنكر محمد عبده علي الجلال وغيره حمل الشفاعة على ما يكون بين الناس في شؤونهم الخاصة من المعايش وقال: إن هذا التخصيص يذهب بما في الآية من القوة والحرارة ويخرجها من السياق، والصواب أنها أعم، فالمقصود أولا وبالذات الشفاعة المتعلقة بالحرب وقد علمنا أن الآيات في المبطئين عن القتال والذين يبيتون ما لا يرضي الله تعالى من خلاف ما أمر به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن ذلك ضروب الاعتذار التي كانوا يعتذرون بها، وقد يكون هذا الاعتذار بواسطة بعض الناس الذين يرجى السماع لهم والقبول منهم، وهو عين الشفاعة.
9. العلماء متفقون على أن شفاعة الناس بعضهم لبعض تدخل في عموم الآية وأنها قسمان حسنة وسيئة فالحسنة أن يشفع الشافع لإزالة ضرر ورفع مظلمة عن مظلوم، أو جر منفعة إلى مستحق، ليس في جرها إليه ضرر ولا ضرار، والسيئة أن يشفع في إسقاط حد، أو هضم حق، أو إعطائه لغير مستحق، أو محاباة في عمل، بما يجر إلى الخلل والزلل، والضابط العام أن الشفاعة الحسنة هي ما كانت فيما استحسنه الشرع، والسيئة فيما كرهه أو حرمه.
10. من العبرة في الآية أن نتذكر بها الحاكم العادل لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإعلامه ما لم يكن يعلم من مظلمة المشفوع له أو استحقاقه لما يطلب له، ولا يقبل الشفاعة لأجل إرضاء الشافع فيما يخالف الحق والعدل وينافي المصلحة العامة، وأما الحاكم المستبد الظالم فهو الذي تروج عنده الشفاعات لأنه يحابي أعوانه المقربين منه ليكونوا شركاء له في استبداد فيثق بثباتهم على خدمته، وإخلاصهم له، وما الذئاب الضارية بأفتك في الغنم، من فتك الشفاعات في إفساد الحكومات والدول، فإن الحكومة التي تروج فيها الشفاعات يعتمد التابعون لها على الشفاعة في كل ما يطلبون منها لا على الحق والعدل، فتضيع فيها الحقوق، ويحل الظلم محل العدل، ويسري ذلك من الدولة إلى الأمة فيكون الفساد عاما.
11. وقد نشأنا في بلاد هذه حال أهلها وحال حكومتهم، يعتقد الجماهير أنه لا سبيل إلى قضاء مصلحة في الحكومة إلا بالشفاعة أو الرشوة، ولا يقوم عندنا دليل على صلاح حكومتنا إلا إذا زال هذا الاعتقاد، وصارت الشفاعة من الوسائل التي لا يلجأ إليها إلا أصحاب الحق بعد طلبه من أسبابه، والدخول عليه من بابه، وظهور الحاجة إلى شفيع يظهر للحاكم العادل ما لم يكن يعلمه من استحقاق المشفوع له لكذا، أو وقوع الظلم عليه في كذا، وأن يكون ما عدا هذا من النوادر التي لا تخلو حكومة منها، مهما ارتقت وصلح حالها.
12. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ أي مقتدرا أو حافظا أو شاهدا، وعبر بعضهم بالحفيظ والشهيد، أقوال: قال الراغب وحقيقته قائما عليه يحفظه ويقيته (يعني أنه مشتق من القوت وهو ما يمسك الرمق من الرزق وتحفظ به الحياة) يقال قاته يقوته إذا أطعمه قوته، وأقاته يقيته إذا جعل له ما يقوته اه، ومن جعل لك ما يقوتك دائما كان قائما عليك بالحفظ وشهيدا عليك لا يفوته أمرك ولا يغيب عنه، ويتضمن ذلك معنى القدرة أيضا باللزوم، ولكنهم أوردوا من الشواهد على كون المقيت بمعنى المقتدر ما يدل على أنه غير مشتق من القوت كقول الزبير بن عبد المطلب:
çوذي ضغن كففت النفس عنه...وكنت على إساءته مقيتاé
وقال النضر بن شميل:
çتجلد ولا تجزع وكن ذا حفيظة...فإني على ما ساءهم لمقيتé
ورجح ابن جرير هنا معنى المقتدر مستدلا ببيت الزبير لأنه من قريش، وفي لسان العرب أقات على الشيء اقتدر عليه وأنشد بيت الزبير وعزاه أولا إلى أبي قيس بن رفاعة ثم قال وقد روي أنه للزبير عمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال قبل ذلك في تفسير اللفظ في الآية: الفراء: المقيت المقتدر والمقدر كالذي يعطي كل شيء قوته، وقال الزجاج المقيت القدير وقيل الحفيظ قال وهو بالحفيظ أشبه لأنه مشتق من القوت يقال قتُّ الرجل أقوته إذا حفظت نفسه بما يقوته، والقوت اسم الشيء يحفظ نفسه ولا فضل فيه على قدر الحفظ، فمعنى المقيت الحفيظ الذي يعطي الشيء قدر الحاجة من الحفظ، وقال الفراء المقيت كالذي يعطي كل رجل قوته، ويقال المقيت الحافظ للشيء والشاهد له، وأنشد ثعلب للسموأل بن عادياء:
çرب شتم سمعته وتصامم...ت وعي تركته فكفيت
ليت شعري وأشعرن إذا ما...قربوها منشورة ودعيت
إلى الفضل أم علي إذا حو...سبت إني على الحساب مقيتé
أي أعرف ما علمت من السوء لأن الإنسان على نفسه بصيرة، حكى ابن برّي عن أبي سعيد السيرافي قال الصحيح رواية من روى: (ربي على الحساب مقيت) الخ، ما ذكره ومنه تفسير بعضهم للمقيت في بيت السموأل بالموقوف على الحساب.
13. حاصل معنى الجملة وكان الله ومازال على كل شيء مقيتا أي مقتدرا مقدرا فهو لا يعجزه أن يعطي الشافع نصيبا أو كفلا من شفاعته على قدرها في النفع والضر لأن سننه الحكيمة مضت بأن يكون هذا الجزاء مرتبطا بالعمل، أو شهيدا حفيظا على الشفعاء لا يخفى عليه أمر محسنهم ومسيئهم فهو يعطي الجزاء على قدر العمل.
__________
(1) تفسير المنار: 5/248.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أمر الله تعالى نبيه أن يحرض المؤمنين على الجهاد وذكر أنه ليس عليه وزر من تمرد وعصى ـ بين في هذه الآية أنهم حين أطاعوك ولبّوا دعوتك أصابهم من هذه الطاعة خير كثير، وأن لك من هذا الخير نصيبا تستحق عليه الأجر، لأنك قد بذلت الجهد في ترغيبهم فيه بجعل نفسك شفيعا ونصيرا لهم في الوصول إلى تحصيل هذه الأغراض الشريفة.
2. ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ أي من يجعل نفسه شفيعا لك ويناصرك في القتال ـ وقد أمرت به وحدك ـ يكن له من شفاعته نصيب بما يناله من الفوز والشرف والغنيمة في الدنيا عندما ينتصر الحق على الباطل، وبما يناله من الثواب في الآخرة في جميع الحالات، سواء أدرك النصر في الدنيا أم لم يدركه، ووصف الشفاعة بالحسنة لأنها تأييد ونصر للحق، ومثل هذا كل من يعاون فاعل الخير ويساعده.
3. ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ أي ومن ينضم إلى عدوك فيقاتل معه أو يخذل المؤمنين عن قتاله يكن له نصيب من سوء العاقبة بما يناله من الخذلان في الدنيا والعقاب في الآخرة، وهذه هي الشفاعة السيئة لأنها إعانة على السيئات، وسمى هذا النصيب كفلا، لأنه نصيب مكفول للشافع، إذ هو أثر عمله، أو محدود لأنه على قدره، والخلاصة ـ إن من ينضم إلى غيره معينا له في فعل حسن يكن له منه نصيب، ومن ينضم إلى غيره معينا له في فعل سيئ ينله منه سوء وشدة.
4. يدخل في الآية شفاعة الناس بعضهم لبعض، وهي قسمان: حسنة، وسيئة؛ فالحسنة أن يشفع الشافع لإزالة ضرر ورفع مظلمة عن مظلوم أو جر منفعة إلى مستحق ليس في جرها إليه ضرر ولا ضرار؛ والسيئة أن يشفع في إسقاط حد، أو هضم حق، أو إعطائه لغير مستحق، أو محاباة في عمل بما يوصل إلى الخلل والزلل، ولأجل هذا قال العلماء: الشفاعة الحسنة ما كانت فيما استحسنه الشرع، والسيئة: فيما كرهه أو حرّمه.
5. في الآية من العبرة لنا أن نتذكر أن الحاكم العادل لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإخباره بما لم يكن يعلم من مظلمة المشفوع له أو استحقاقه لما يطلب له، ولا يقبل الشفاعة لإرضاء الشافع فيما يخالف الحق والعدل ويخالف المصلحة العامة، أما الحاكم الظالم فتروج عنده الشفاعات، لأنه يحابى أعوانه المقربين منه ليكونوا شركاء له في استبداده ليثبتوا على خدمته وإخلاصهم له، والحكومات التي تروج فيها الشفاعات وتعتمد عليها الرعية في كل ما تطلب تضيع فيها الحقوق، ويحل الظلم محل العدل، ويسرى من الدولة إلى الأمة، فيعم فيها الفساد ويختل نظام الأعمال.
6. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ أي وكان الله مقتدرا على كل شيء فلا يعجزه أن يعطى الشافع نصيبا وكفلا من شفاعته على قدرها في النفع والضر، ويجازى كلّا بما يستحق، لأن سننه قد قضت بأن يربط الجزاء بالعمل.
__________
(1) تفسير المراغي 5/109.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بمناسبة تحريض الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم للمؤمنين على القتال الذي ورد الأمر به آخر الدرس، وذكر المبطئين المثبطين في أوله، يقرر قاعدة عامة في الشفاعة ـ وهي تشمل التوجيه والنصح والتعاون: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾..
2. فالذي يشجع ويحرض ويعاون على القتال في سبيل الله، يكون له نصيب من أجر هذه الدعوة وآثارها، والذي يبطئ ويثبط تكون له تبعة فيها وفي آثارها.. وكلمة (كفل) توحي بأنه متكفل بجرائرها.
3. والمبدأ عام في كل شفاعة خير، أو شفاعة سوء، وقد ذكر المبدأ العام بمناسبة الملابسة الخاصة، على طريقة المنهج القرآني، في إعطاء القاعدة الكلية من خلال الحادثة الجزئية، وربط الواقعة المفردة بالمبدإ العام كذلك.
4. وربط الأمر كله بالله، الذي يرزق بكل شيء أو الذي يمنح القدرة على كل شيء وهو ما يفسر كلمة (مقيت) في قوله تعالى في التعقيب: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/726.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآيات السابقة كان الحديث عن الجماعة الإسلامية، وعن أعراض النفاق التي تظهر في بعض منها، ممن دخلوا في الإسلام، واتخذوه جنّة لهم، وقد كشف الله مواقف هؤلاء المنافقين، ورصد حركاتهم، وأرى النبىّ والمسلمين ما كانوا يخفونه فيما بينهم، وفي هذه الآية يلتقى المؤمنون والمنافقون في موقف الحساب، حيث يواجه بعضهم بعضا، وحيث يذهب كل منهم بما استحق من جزاء.
2. وقوله تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ هو عرض لفريق المؤمنين، الذين سيسوّى حسابهم على حسب ما عملوا من خير، وما قدموا من إحسان، والتعبير عن العمل (بالشفاعة) هنا للدلالة على أنه عمل من نوع خاص، عمل يتصل بالإنسان وبما يقع بينه وبين غيره من الناس، من تصرفات، حسنة أو سيئة.. فلا يدخل في هذا العمل ما كان خاصا بذات الإنسان، وما يأخذ به نفسه من طاعات وعبادات، محسنا أو مقصّرا، أو بما بينه وبين الله من معتقد، صالحا أو فاسدا.. فالشفع في اللغة: الزوج من كل شىء، وفي كل شىء.. وهو يقابل الوتر الذي هو الفرد.. والشفاعة الحسنة، هى الإحسان إلى الغير، بالقول أو بالعمل.. والشفاعة السيئة، هى الإساءة إلى الغير بالقول أو بالعمل..
3. وصاحب الشفاعة الحسنة له ﴿نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ أي أنه حين يبذل من نفسه للغير، ما يبذل من خير وإحسان، فإنه له نصيبا من هذا الخير وذلك الإحسان.. فهو وإن يكن ما بذله قد خرج من سلطانه، وصار إلى غيره، فإنه سيعود إليه شىء منه، بصورة ما، من صور الخير والإحسان.. فقد يلقاه صاحبه الذي أحسن إليه بإحسان كإحسانه، وإن اختلف شكلا وقدرا.. فإن حرم المحسن العوض ممن أحسن إليه لم يحرم لذّة الإحسان، التي تشيع في نفسه الرضا، وفي قلبه الفرحة.. فإن حرم هذه اللذة ـ وهيهات ـ فإنه لن يحرم أبدا ثواب الله الذي أعدّه للمحسنين، إذ يقول سبحانه: ﴿وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 56]، من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والنّاس
4. كذلك صاحب الشفاعة السيئة، له ﴿كِفْلٌ مِنْهَا﴾ أي نصيب يعود إليه مما عمل من سوء.. يجىء إليه ممن أساء إليهم، أو من نخسة ضميره، في حال من أحوال صحوه ويقظته.. فإن لم يكن لضميره صحوة أو يقظة ـ وهيهات ـ فهناك القصاص العادل، يأخذه الله به، يوم الفصل بين العباد..
5. سؤال وإشكال: فرّق القرآن بين عائد الشفاعة الحسنة، وعائد الشفاعة السيئة.. فسمّى عائد الشفاعة الحسنة (نصيبا) وسمى عائد الشفاعة السيئة (كفلا)، فما السرّ في هذا؟ والجواب: إن عائد الشفاعة الحسنة هو خير وبركة، يصيب صاحبها، وأنه إذ يقدّمها إحسانا وبرّا، فإن له من هذا البرّ والإحسان نصيبا، وكذلك صاحب الشفاعة السيئة، إنه إذ يقدم الشرّ والسوء، سيجنى من ثمر ما زرع شرّا وسوءا! والتعبير عن عائد الخير بالنصيب هو التعبير المطلوب لغة وواقعا، لأن النصيب هنا، في اللغة: الحظ والقدر المتاح للإنسان من أي شىء، خيرا، كان أو شرا، وقد عدل القرآن عن استعمال كلمة (النصيب، في عائد الشفاعة السيئة هنا، إلى كلمة (كفل) التي تأتى بمعنى الضامن، والكفيل، الذي يضمن المدين الغارم، ويكفل الوفاء بالدّين، إذا عجز المدين عنه، فالشفاعة السيئة دين ثقيل، يستنفد كل ما يملك صاحب هذه الشفاعة من خير، وهو والحال كذلك في حاجة إلى ضامن أو كفيل.. ولا ضامن أو كفيل يجرؤ على كفالة هذا المفلس وضماته.. وإذ كان لا بد من ضامن أو كفيل، فكافله وضامنه، هو عائد هذا الشر الذي غرس.. فإذا طولب بقضاء دينه وهو مفلس عاجز عن قضائه، أخذ هذا العائد وفاء لبعض ما عليه، وإذا هو شر إلى شرّ، وبلاء إلى بلاء!
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/850.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ استئناف فيه معنى التذييل والتعليل لقوله: ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 84] وهو بشارة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن جهاد المجاهدين بدعوته يناله منه نصيب عظيم من الأجر، فإنّ تحريضه إيّاهم وساطة بهم في خيرات عظيمة، فجاءت هذه الآية بهذا الحكم العامّ على عادة القرآن في انتهاز فرص الإرشاد، ويعلم من عمومها أنّ التحريض على القتال في سبيل الله من الشفاعة الحسنة، وأنّ سعي المثبطين للناس من قبيل الشفاعة السيّئة، فجاءت هذه الآية إيذانا للفريقين بحالتهما، والمقصود مع ذلك الترغيب في التوسّط في الخير والترهيب من ضدّه.
2. والشفاعة: الوساطة في إيصال خير أو دفع شرّ، سواء كانت بطلب من المنتفع أم لا، وتقدّمت في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ في سورة البقرة [48]، وفي الحديث (اشفعوا فلتؤجروا)، ووصفها بالحسنة وصف كاشف؛ لأنّ الشفاعة لا تطلق إلّا على الوساطة في الخير، وأمّا إطلاق الشفاعة على السعي في جلب شرّ فهو مشاكلة، وقرينتها وصفها بسيّئة، إذ لا يقال: (شفع) للذي سعى بجلب سوء.
3. والنصيب: الحظّ من كلّ شيء خيرا كان أو شرا، وتقدّم في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ في سورة البقرة [202]، والكفل ـ بكسر الكاف وسكون الفاء ـ الحظ كذلك، ولم يتبيّن لي وجه اشتقاقه بوضوح، ويستعمل الكفل بمعنى المثل، فيؤخذ من التفسيرين أنّ الكفل هو الحظّ المماثل لحظّ آخر، وقال صاحب (اللسان): لا يقال هذا كفل فلان حتّى يكون قد هيّئ لغيره مثله، ولم يعز هذا، ونسبه الفخر إلى ابن المظفّر، ولم يذكر ذلك أحد غير هذين فيما علمت، ولعلّه لا يساعد عليه الاستعمال، وقد قال الله تعالى: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد: 28]، وهل يحتجّ بما قاله ابن المظفّر ـ وابن المظفّر هو محمد بن الحسن بن المظفّر الحاتمي الأديب معاصر المتنبي ـ، وفي مفردات الراغب أنّ الكفل هو الحظّ من الشرّ والشدّة، وأنّه مستعار من الكفل وهو الشيء الرديء فالجزاء في جانب الشفاعة الحسنة بأنّه نصيب إيماء إلى أنّه قد يكون له أجر أكثر من ثواب من شفع عنده.
4. جملة ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ تذييل لجملة ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ الآية، لإفادة أنّ الله يجازي على كلّ عمل بما يناسبه من حسن أو سوء، والمقيت الحافظ، والرقيب، والشاهد، والمقتدر، وأصله عند أبي عبيدة الحافظ، وهو اسم فاعل من أقات إذا أعطى القوت، فوزنه مفعل وعينه واو، واستعمل مجازا في معاني الحفظ والشهادة بعلاقة اللزوم، لأنّ من يقيت أحدا فقد حفظه من الخصاصة أو من الهلاك، وهو هنا مستعمل في معنى الاطلاع، أو مضمّن معناه، كما ينبئ عنه تعديته بحرف (على)، ومن أسماء الله تعالى المقيت، وفسّره الغزالي بموصل الأقوات، فيؤول إلى معنى الرازق، إلّا أنّه أخصّ، وبمعنى المستولي على الشيء القادر عليه، وعليه يدلّ قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ فيكون راجعا إلى القدرة والعلم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/206.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ أصل الشفاعة والشفعة ونحوها، من الشفع، وهو الزوج في العدد، ومنه الشفيع لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا، فالشفاعة إذن هى ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، للوصول إلى مصلحة ترغبانها، فهى على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع، وإيصال المنفعة إلى المشفوع له، والشفاعة الحسنة هى ما تكون في البر والطاعة، والشفاعة السيئة هى ما تكون في المعاصى، فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى في غير طاعة، فقد أثم واستوجب العقاب.
2. يقول الزمخشرى في (حقائق التنزيل): الشفاعة الحسنة هى التى روعى بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر، وابتغى بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، وليست في حد من حدود الله ولا في حق من الحقوق، ولكل منها نصيب من الأجر، بقدر ما فيه من طاعة أو معصية، وقد حث النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم على الشفاعة لقضاء الحوائج، والتعاون على البر والتقوى، إذ يقول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اشفعوا فلتؤجروا، وليقض الله على لسان نبيه ما أحب)
3. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ المقيت هو الحافظ المقتدر، الذى يعطى كل إنسان قوته وقوته، فهو يجازى كل إنسان بقدر ما حفظ له من عمل، وهو يقيت الجائع، ويعين من استعان به، فالرزق الذى هو القوت من عنده، والعافية التى هى القوة بسلطانه وبأمره، وكل شىء عنده بمقدار.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1785.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يدل سياق الكلام على أن المراد بالشفاعة الحسنة التحريض على القتال، وبالشفاعة السيئة تثبيط العزائم عنه.. ولكل من المشجع والمثبط جزاء دعوته وآثارها، فلمن يدعو إلى الجهاد نصيب من أجره، ولمن يدعو إلى التخاذل نصيب من وزره.. والمبدأ عام في كل شفاعة خير، وكل شفاعة سوء، وفي الحديث: (من سنّ سنة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة كان له مثل وزر من عمل بها)، فالإسلام يبارك كل خير، سواء أكان سنة يقتدي بها الغير، أو عملا صدر من ملحد، أو نية مجردة عن العمل، فالمهم أن يصدق عليه اسم خير أو فضيلة أو حسن أو طيب أو ما اليه.
2. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾، أي قادرا على أن يجازي كلا بما يستحق، فيثيب صاحب الشفاعة الحسنة، ويعاقب صاحب الشفاعة السيئة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/394.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ الآيات متصلة بما قبلها من حيث تتعرض جميعا (85 ـ 91) لما يرتبط بأمر القتال مع طائفة من المشركين وهم المنافقون منهم، ويظهر من التدبر فيها أنها نزلت في قوم من المشركين أظهروا الإيمان للمؤمنين ثم عادوا إلى مقرهم وشاركوا المشركين في شركهم فوقع الريب في قتالهم، واختلفت أنظار المسلمين في أمرهم، فمن قائل يرى قتالهم، وآخر يمنع منه ويشفع لهم لتظاهرهم بالإيمان، والله سبحانه يكتب عليهم إما المهاجرة أو القتال ويحذر المؤمنين الشفاعة في حقهم، ويلحق بهم قوم آخرون ثم آخرون يكتب عليهم إما إلقاء السلم أو القتال، ويستهل لما في الآيات من المقاصد في صدر الكلام ببيان حال الشفاعة في آية، وببيان حال التحية لمناسبتها إلقاء السلم في آية أخرى.
2. ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ النصيب والكفل بمعنى واحد، ولما كانت الشفاعة نوع توسط لترميم نقيصة أو لحيازة مزية ونحو ذلك كانت لها نوع سببية لإصلاح شأن فلها شيء من التبعة والمثوبة المتعلقتين بما لأجله الشفاعة، وهو مقصد الشفيع والمشفوع له فالشفيع ذو نصيب من الخير أو الشر المترتب على الشفاعة، وهو قوله تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً﴾
3. وفي ذكر هذه الحقيقة تذكرة للمؤمنين، وتنبيه لهم أن يتيقظوا عند الشفاعة لما يشفعون له، ويجتنبوها إن كان المشفوع لأجله مما فيه شر وفساد كالشفاعة للمنافقين من المشركين أن لا يقاتلوا، فإن في ترك الفساد القليل على حاله، وإمهاله في أن ينمو ويعظم فسادا معقبا لا يقوم له شيء، ويهلك به الحرث والنسل فالآية في معنى النهي عن الشفاعة السيئة وهي شفاعة أهل الظلم والطغيان والنفاق والشرك المفسدين في الأرض.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/29.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ (الشفاعة) أن تطلب للمحتاج حاجته إما نيل خير وإما سلامة من شر، وفي حديث في (صحيفة الإمام الرضا): (الشفيع جناح الطالب)، قال (صاحب الكشاف) ـ ونعم ما قال ـ: (الشفاعة الحسنة، هي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر، أو جُلب إليه خير، وابتغِي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز)، والأَولى أن يقال بدل حق مسلم، غرض صحيح ليشمل الحد ما فيه مصلحة، ولو كانت الشفاعة لذمي أو لأسير أو من يرجى إسلامه أو صلاحه بسبب العفو عنه أو ترك ظلمه.
2. ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ قال في (المصابيح): (والكفل: النصيب، ومنه قوله تعالى: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد:28] أي نصيبين)، والشفاعة السيئة: ما كانت معاونةً على الإثم والعدوان، أو موادّة لمن حاد الله ورسوله ليست لمصلحة دينية.
3. ومعنى ﴿نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ الثواب في الخير والعقاب في الشر، ولو أطلقت الشفاعة السيئة على المحْلِ بالمؤمن مثلاً، أي التبليغ بقوله الضار أو فعله الضار لصح المعنى، ولكنه مجاز مشاكلة لفظية والأصل الحقيقة.
4. قال في (الكشاف) ومثله في (المصابيح): وقيل الشفاعة الحسنة، هي الدعوة للمسلم؛ لأنها في معنى الشفاعة إلى الله، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له، وقال له الملك: ولك مثل ذلك) قال في (الكشاف): (فذلك النصيب والدعوة على المسلم بضد ذلك)، فأدخل (صاحب الكشاف) المحل في الشفاعة، والحديث أخرجه أحمد، ومسلم، عن أبي الدرداء بلفظ: (ولك بمثلٍ) وليس فيه كلمة (ذلك) وقوله: (ولك بمثلٍ) هو آخر الحديث، وفي (سنن ابن ماجة) في (المناسك) هذا الحديث وآخره: (ولك بمثله) وهو في (سنن أبي داود) وآخره: (ولك بمثلٍ) بدون (هاء) الضمير، ولم أجده بلفظ: (ولك مثل ذلك)
5. ﴿مُقِيتًا﴾ قال في (المصابيح) للشرفي: (في المقيت قولان: أحدهما ـ وهو قول المرتضى عليه السلام ـ: أن المقيت القادر على الشيء، وأنشدوا للزبير بن عبد المطلب:
çوذا ضغن كففت السوء عنه...وكنت على إساءته مقيتاé
أي قادراً قال عليه السلام: وقد قال بعض المفسرين: إن معنى مقيتاً: هو شهيداً، وليس هذا عندي بصواب)، قلت: وفي (لسان العرب): (الفراء: المقيت: المقتدر، والمقدر كالذي يعطي كل شيء قوته، وقال الزجاج: المقيت: القدير ـ ثم قال ـ وقال أبو إسحاق الزجاج: إن المقيت بمعنى الحافظ والحفيظ)
6. وعلى تفسيره بـ (المقتدر) يكون المعنى: إن الله ﴿كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ مقتدراً، فهو مقتدر على جزاء الشافع بالخير وبالشر، يجزي كلاً بمقدار ما يستحق، وأخذ التقدير في معناه مناسب؛ لاشتقاقه من القوت، قال في (المصابيح): (وقال إمامنا عليه السلام: دلَّ ذلك على حسن سعي من سَعى إلى الخير للغير، وعلى قبح ضده)
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/129.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن الله ـ سبحانه ـ قد جعل للعاملين أجرا في عملهم الصالح، وعقابا على عملهم السيّئ، كما أعدّ لمن يسعى في سبيل ذلك حصته من العمل؛ فمن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، والشفاعة مأخوذة من الشفع، وهو أن يصير الإنسان شفعا لصاحبه أي ناصرا له، لأنه كان أحد الأسباب في حصول هذا الشيء، وذلك لما سعى فيه من تشجيع العامل للخير على عمل الخير؛ ومن يشفع شفاعة سيئة، بأن يساعد الذين يعملون السيئات بتشجيعهم على ذلك، يكن له كفل منها، والكفل النصيب والحظ، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ أي مقتدرا.
2. وفي هذا الجو الذي توحيه الآية، يقف المؤمنون ليعملوا على الإرشاد والتشجيع والدعوة إلى الخير، بنفس الروح التي يتحركون ـ من خلالها ـ لعمل الخير نفسه، لأن الإنسان الذي يؤمن بالخير يحاول أن يملأ الحياة به من خلال عمله، ولأن الثواب الذي يستهدفه من عمله، يمكن أن يحصل على بعض منه، من خلال التشجيع عليه؛ وهكذا ينطلق في الاتجاه المعاكس، لنبذ الشر من نفسه ومحاربته في عمل الآخرين بإبعادهم عنه ما أمكنه ذلك؛ وهكذا تتحول الفكرة الخيّرة أو الشريرة، في وعي الإنسان المؤمن إلى موقف إيجابي أو سلبي يتمثل في خطين: خط الدعوة، وخط العمل، ليتحول المسلم إلى عامل في خط الدعوة وداعية في خط العمل.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/380
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد أشير في الآية السابقة إلى أنّ كل إنسان مسئول عن عمله وعمّا هو مكلّف بأدائه، ولا يسأل أي إنسان عن أفعال الآخرين، أمّا هذه الآية فقد جاءت لكي تسدّ الطريق أمام كل فهم خاطئ للآية السابقة، فبيّنت أنّ الإنسان إذا حرّض الغير على فعل الخير أو فعل الشر فينال نصيبا من ذلك الخير أو الشر: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾، وهذا بحدّ ذاته ـ حثّ على دعوة الآخرين إلى فعل الخير والتزام جانب الحق، ونهي الغير عن فعل الشر، كما تبيّن هذه الآية اهتمام القرآن بنشر الروح الاجتماعية لدى المسلمين، ودعوتهم إلى نبذ الأنانية أو الانطوائية، وإلى عدم تجاهل الآخرين، وذلك من خلال التواصي بالخير والحق والتحذير من الشرّ والباطل.
2. كلمة (الشّفاعة) الواردة في الآية من (الشّفع) وهو ضم الشيء إلى مثله، وقد يكون هذا الضم أحيانا في عمل الإرشاد والهداية، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكون الشفاعة السيئة أمرا بالمنكر ونهيا عن المعروف، وإذا حصلت الشفاعة للعاصين لإنقاذهم من نتائج أعمالهم السيئة، فهي بمعنى الإغاثة للعاصين اللائقين للشفاعة، بعبارة أخرى قد تحصل الشفاعة قبل القيام بممارسة الذنب، وفتعني الإرشاد والنصح، كما تحصل بعد ارتكاب الذنب أو الخطأ، وتعني ـ هنا ـ إنقاذ المذنب أو الخاطئ من عواقب ونتائج جريرته، وكلا الحالتين يصدق عليهما معنى ضم شيء إلى آخر.
3. مع أنّ مفهوم الآية عام شامل لكل دعوة إلى الخير أو الشر، ولكن ورود الآية ضمن آيات الدعوة إلى الجهاد يجعل معنى الشفاعة الحسنة دعوة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المسلمين إلى الجهاد، وحثّهم عليه، ويجعل معنى الشفاعة السيئة دعوة المنافقين المسلمين إلى ترك الجهاد وعدم المشاركة فيه، والآية تؤكد بأن كلا الشفيعين ينال نصيبا من شفاعته.
4. ثمّ إن ورود كلمة الشفاعة هنا ضمن الحديث عن القيادة (القيادة إلى الحسنات أو إلى السيئات) قد يكون إشارة إلى أن حديث القائد (قائد خير كان أم قائد شرّ) لا يدخل قلوب الآخرين إلّا إذا ألغوا كل امتياز يفرقهم عن هؤلاء الآخرين، فلا بدّ لهم أن يكونوا قرناء للناس ومنضمّين إليهم كي تكون لهم الكلمة النافذة، وهذه مسألة هامة في تحقيق الأهداف الاجتماعية.
5. وما ورد عبارة (أخوهم) أو (أخاهم) في الحديث عن الأنبياء والرسل، ضمن آيات سور الشعراء والأعراف وهود والنمل والعنكبوت، إلّا للإشارة إلى هذه المسألة، والشيء الآخر الذي تجدر الإشارة إليه هنا، هو أنّ القرآن أتى بعبارة (نصيب) لدى الحديث عن الشفاعة الحسنة، بينما استخدم عبارة (كفل) حين تحدث عن الشفاعة السيئة، والفرق بين التعبيرين هو أنّ الأولى تستخدم حين يكون الحديث عن حصّة من الربح والفائدة والخير، أمّا الثّانية فتستخدم إذا كان الكلام عن الخسارة والضرر والشرّ، فالنصيب تعبير عن نصيب الخير، والكفل تعبير عن حصّة الشرّ، والكفل هو عجز الحيوان ومؤخرته التي يصعب ركوبها ويشق، من هنا فكل ذنب وحصة رديئة كفل، والكفالة كل عمل ينطوي على تعب وعناء.
6. هذه الآية، تبيّن نظرة إسلامية أصيلة إلى المسائل الاجتماعية، وتصرّح أنّ الناس شركاء في مصائر ما يقوم به قسم منهم من أعمال عن طريق الشفاعة والتشجيع والتوجيه، من هنا فكل كلام أو عمل ـ بل كل سكوت ـ يؤدي إلى تشجيع الآخرين على الخير، فإنّ المشجع يناله سهم من نتائج ذلك العمل دون أن ينقص شيء من سهم الفاعل الأصلي.
7. في حديث عن الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو دل على خير أو أشار به، فهو شريك، ومن أمر بسوء أو دل عليه أو أشار به، فهو شريك)، ويبيّن هذا الحديث الشريف ثلاث مراحل لدعوة الأشخاص إلى الخير أو إلى الشر، والمرحلة الأولى: الأمر، وهي الأقوى، والثّانية: الدلالة وهي الوسطى، والثّالثة: الإشارة وهي المرحلة الضّعيفة، وعلى هذا الأساس فإن حثّ الآخرين أو تحريضهم على ممارسة فعل معين، سيجعل للمحرض نصيبا من نتيجة هذا الفعل يتناسب ومدى قوّة التحريض وفق المراحل الثلاث المذكورة.
8. وبناء على هذه النظرة الإسلامية، فإن مرتكبي الذنب ليسوا هم وحدهم مذنبين، بل يشترك في الذنب معهم كل الذين شجعوا المرتكبين على ذنبهم، عن طريق وسائل الإعلام المختلفة أو إعداد الأجواء المساعدة، بل حتى عن طريق إطلاق كلمة صغيرة مشجعة، وهكذا الذين يقومون بمثل هذه الأعمال على طريق الخيرات ينالون سهمهم من نتائجها.
9. يستشف من الأحاديث المروية في تفسير هذه الآية أنّ الشفاعة بكلا جانبيها تطلق ـ أيضا ـ على الدعاء بالخير أو بالشر للآخرين، وإنّ الدعاء للآخرين أو عليهم يعتبر نوعا من الشفاعة لدى الله تعالى، نقل عن الإمام الصادق عليه السّلام قال: (من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب أستجيب له وقال له الملك: فلك مثلاه، فذلك النصيب)، ولا ينافي هذا التّفسير ما تطرقنا إليه سابقا، بل يعتبر توسعا في معاني الشفاعة، فكل إنسان يقدم مساعدة لنظيره الإنسان، سواء كانت عن طريق الدعوة إلى فعل الخيرات أو الدعاء له أو عن أي طريق آخر، فسينال نصيبا من ثمار هذه المساعدة.
10. وبهذا الأسلوب من المشاطرة الفعلية الخيرة يخلق الإسلام لدى الإنسان روحا اجتماعية تخرجه من أنانيته وانطوائيته وتجعله يعتقد أن لن يصيبه ضرر إذا سعى في حاجة أخيه الإنسان أو ساعد على تحقيق مصالح غيره، بل سيناله الخير، وسيكون شريكا لأخيه فيما سعى إلى تحقيقه له من مصالح ومنافع.
11. والآية ـ هذه ـ تؤكد أيضا حقيقة ثابتة أخرى، وهي أنّ الله قادر على مراقبة الإنسان وتدوين ما يقوم به من أعمال، ثمّ محاسبته عليها، واثابته على خيرها، ومعاقبته على شرها ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾، وعبارة (مقيت) مشتقة من (القوت) وهو الغذاء الذي يساعد جسم الإنسان على البقاء وعلى هذا يكون (مقيت) اسم فاعل من باب افعال، وتعني هنا الشخص الذي يعطي الآخرين قوتهم وغذاءهم، وهو بهذه الوسيلة يكون حافظا لحياتهم ولهذا تأتي كلمة (مقيت) بمعنى (حافظ) والحافظ يمتلك القدرة على الحفظ، ومن هنا تكون كلمة (مقيت) بمعنى (المقتدر) أيضا، كما أن المقتدر يمتلك حساب من يعملون ضمن قدرته فتكون عندئذ كلمة (المقيت) بمعنى (الحسيب) أيضا، وقد يكون معنى الكلمة في الآية شاملا لكل هذه المعاني.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/356
81. التحية وردها
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈81⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء: 86]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن الإمام الباقر أنّه قال: مر الإمام علي بقوم فسلم عليهم فقالوا: عليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، فقال لهم الإمام علي: لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم عليه السلام إنما قالوا: رحمة وبركاته عليكم أهل البيت(1).
2. روي عن الإمام الصادق أنّه قال: حدثني أبي عن آبائه (عليهم السلام) عن الإمام علي: (إذا عطس أحدكم فسمتوه، قولوا: رحمكم الله، وهو يقول: يغفر الله لكم ويرحمكم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾(2).
3. عن الإمام الصادق أنّه قال: قال الإمام علي: يكره للرجل أن يقول: حياك الله، ثم يسكت حتى يتبعها بالسلام(1).
__________
(1) الكافي 2/472.
(2) تفسير القمّي 1/145.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه، وإن كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا؛ ذلك بأن الله يقول: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾(1).
2. روي أنّه قال: لو أن فرعون قال لي: بارك الله فيك، لقلت: وفيك بارك الله(2).
3. روي أنّه قال: إني لأرى جواب الكتاب حقا، كما أرى حق السلام(3).
__________
(1) ابن شيبة ٨/٤٤٣.
(2) البخاري في الأدب المفرد (١١١٣.
(3) البيهقي (٩٠٩٧.
جابر:
روي عن جابر بن عبد الله (ت 78 هـ) أنّه قال: ما رأيته إلا يوجبه قوله: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٧٨.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ عليهم كما قالوا لكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ يعني: من التحية وغيرها ﴿حَسِيبًا﴾ يعني: شهيدا(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٢١.
(2) ابن أبي حاتم ٣/١٠٢٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿حَسِيبًا﴾، حفيظا(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٧٨.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ تقول إذا سلم عليك أخوك المسلم فقال: السلام عليك، فقل: السلام عليكم ورحمة الله، ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ يقول: إن لم يقل لك: السلام عليك ورحمة الله، فرد عليه كما قال السلام عليكم، كما سلم، ولا تقل: وعليك(1).
2. روي أنّه قال: ﴿بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ للمسلمين، ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ على أهل الكتاب(2).
3. روي أنّه قال: السلام تطوع، والرد فريضة(3).
__________
(1) البيهقي (٩٠٩٤.
(2) ابن المنذر (٢٠٧٦.
(3) البخاري في الأدب المفرد (١٠٤٠.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن محمد ابن مسلم، قال: دخلت علي الإمام الباقر وهو في الصلاة، فقلت: السلام عليك، فقال: (السلام عليك)، قلت: كيف أصبحت؟ فسكت، فلما انصرف قلت له: أيرد السلام وهو في الصلاة؟ قال: نعم، مثل ما قيل له(1).
2. روي أنّه قال: لا تسلموا على اليهود، ولا على النصارى، ولا على المجوس، ولا على عبدة الأوثان، ولا على موائد شرب الخمر، ولا على صاحب الشطرنج والنرد، ولا على المخنث، ولا على الشاعر الذي يقذف المحصنات، ولا على المصلي، لأن المصلي لا يستطيع أن يرد السلام، لأن التسليم من المسلم تطوع، والرد عليه فريضة، ولا على آكل الربا، ولا على رجل جالس على غائط، ولا على الذي في الحمام، ولا على الفاسق المعلن بفسقه(2).
__________
(1) التهذيب 2/329.
(2) الخصال: 484/57.
عطاء:
روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾، قال ذلك كله في أهل الإسلام(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٧٤.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ للمسلمين، ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ على أهل الكتاب.. وقال: وقال الحسن [البصري: كل ذلك للمسلم(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٧٥.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ أي كافيا(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 123.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾، يقول: إذا سلم عليك أحد فقل أنت: وعليك السلام ورحمة الله، أو تقطع إلى: السلام عليك، كما قال لك(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٧٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: من بدأ بالكلام فلا تجيبوه، وقال: ابدأوا بالسلام قبل الكلام، فمن بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه(1).
2. روي أنّه قال: إن الله عز وجل قال: إن البخيل من يبخل بالسلام(1).
3. روي أنّه قال: إذا سلم أحدكم فليجهر بسلامه، ولا يقول: سلمت فلم يردوا علي، ولعله يكون قد سلم ولم يسمعهم، فإذا رد أحدكم فليجهر برده، ولا يقول المسلم: سلمت فلم يردوا علي، ثم قال: كان علي عليه السلام يقول: لا تغضبوا ولا تغضبوا، أفشوا السلام، وأطيبوا الكلام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام، ثم تلا عليه السلام عليهم قول الله عز وجل: ﴿السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ﴾(1).
4. روي أنّه قال: من قال السلام عليكم فهي عشر حسنات، ومن قال السلام عليكم ورحمة الله فهي عشرون حسنة، ومن قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فهي ثلاثون حسنة(1).
5. روي أنّه قال: ثلاثة ترد عليهم رد الجماعة وإن كان واحدا: عند العطاس، يقال: يرحمكم الله، وإن لم يكن معه غيره، والرجل يسلم على الرجل فيقول: السلام عليكم، والرجل يدعو للرجل فيقول: عافاكم الله، وإن كان واحدا فإن معه غيره(2).
6. روي أنّه قال: يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير(2).
7. روي أنّه قال: القليل يبدؤون الكثير بالسلام، والراكب يبدأ الماشي، وأصحاب البغال يبدؤون أصحاب الحمير، وأصحاب الخيل يبدؤون أصحاب البغال(2).
8. روي أنّه قال: يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، وإذا لقيت جماعة جماعة سلم الأقل على الأكثر، وإذا لقي واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة(3).
9. روي أنّه قال: إذا كان قوم في مجلس ثم سبق قوم فدخلوا، فعلى الداخل أخيرا ـ إذا دخل ـ أن يسلم عليهم(3).
10. روي أنّه قال: إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم، وإذا سلم على القوم وهم جماعة أجزأهم أن يرد واحد منهم(3).
11. روي أنّه قال: إن من تمام التحية للمقيم المصافحة، وتمام التسليم على المسافر المعانقة(2).
12. روي أنّه سئل عن الرجل يسلم عليه وهو في الصلاة، قال: يرد: سلام عليكم، ولا يقول: وعليكم السلام، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قائما يصلي، فمر به عمار بن ياسر فسلم عليه عمار، فرد عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هكذا(4).
13. روي أنّه قال: إذا سلم عليك الرجل وأنت تصلي ـ قال ـ ترد عليه خفيا كما قال(5).
14. روي أنّه سئل عن السلام على المصلي، فقال: إذا سلم عليك رجل من المسلمين وأنت في الصلاة، فرد عليه فيما بينك وبين نفسك، ولا ترفع صوتك(6).
15. روي أنّه قال: كنت أسمع أبي يقول: إذا دخلت المسجد والقوم يصلون فلا تسلم عليهم، وسلم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم أقبل على صلاتك، وإذا دخلت على قوم جلوس يتحدثون فسلم عليهم(7).
__________
(1) الكافي 2/471.
(2) الكافي 2/472.
(3) الكافي 2/473.
(4) الكافي 2/366.
(5) التهذيب 2/332.
(6) التهذيب 2/331.
(7) قرب الإسناد: 45.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ نزلت في نفر بخلوا بالسلام(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾، يقول: فردوا عليه أحسن مما قال: قال فيقول: وعليك ورحمة الله وبركاته، أو يرد عليه مثل ما سلم عليه(1).
3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من أمر التحية، إن رددت عليها أحسن منها أو مثلها ﴿حَسِيبًا﴾ يعني: شهيدا(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٤.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾، قال: قال أبي: حق على كل مسلم حيي بتحية أن يحيي بأحسن منها، وإذا حياه غير أهل الإسلام أن يرد عليه مثل ما قال(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٧٦.
عيينة:
روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾، ترون هذا في السلام وحده؟ هذا في كل شيء، من أحسن إليك فأحسن إليه وكافئه، فإن لم تجد فادع له، أو أثن عليه عند إخوانه(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٢١.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عز وجل: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ ذكر التحية، ولم يذكر ما تلك التحية، واسم التحية يقع على أشياء: من نحو ما جعل الصلاة لتحية المسجد، والطواف تحية البيت، وغير ذلك مما يكثر عددها، لكن أهل التأويل أجمعوا على صرف هذه التحية إلى السلام دون غيرها من التحية التي ذكرنا؛ ألا ترى أنه قال عز وجل: ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾!؟ ولو كان غيرها أراد ـ لم يقل: ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾؛ لأن غيرها من التحية لا يرد؛ إذ في الرد ترك القبول، ولم يؤمر بذلك؛ دل أنه أراد بالتحية: السلام، ويدل على ذلك آيات من كتاب اللَّه تعالى:
أ. قال اللَّه عز وجل: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾؛ فجعل تحية الملائكة للمؤمنين السلام؛ كقوله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ﴾
ب. وجعل تحية أهل الجنة السلام؛ كقوله تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا﴾، وكقوله تعالى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾
ج. وتحية الملائكة بعضهم على بعض: بالسلام؛ ألا ترى أنه قال اللَّه تعالى: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ الآية.
2. فعلى ذلك يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾: السلام، وجعل اللَّه عز وجل السلام علمًا وشعارًا فيما بين المسلمين، وأمانًا يؤمن بعضهم بعضًا من شره؛ ألا ترى أن أهل الريبة لا يسلِّمون ولا يردون السلام، وإن كانوا لا يعرفون تفسيره ولا معناه!؟ ولكن على الطبع جعل ذلك لهم.
3. والسلام: قيل: هو اسم من أسماء اللَّه تعالى فهو يحتمل وجوهًا:
أ. يحتمل: سلام مسَلَّم طاهر عن الأشباه والأشكال.
ب. وسلام عدل منزه عن العيوب كلها، والجور والظلم.
4. وقوله: (رحمة اللَّه)، أي: برحمته ينجو مَنْ نجا، وسعد من سعد: (وبركاته): به ينال كل خير، وهو اسم كل خير؛ ألا ترى أنه جعل التحليل من الصلاة بالسلام بقوله: (السلام عليكم ورحمة اللَّه)؛ على ما جعل تحريمها باسم اللَّه؛ فعلى ذلك جعل الافتتاح بما به جعل الختم.
5. ثم اختلف في قوله عز وجل: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾:
أ. فقيل: حيوا بأحسن منها للمسلمين، أو ردوها على أهل الكتاب، وعن أنس قال: نهينا أن نزيد على أهل الكتاب على: عليك، وعليكم، وعن ابن مسعود قال: السلام: اسم من أسماء اللَّه وصفاته في الأرض، فأفشوه بينكم؛ فإن الرجل إذا سلَّم كتبت له عشر حسنات، فإن هم ردوها عليه كتب لهم مثله.
ب. وقيل: قوله تعالى: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ بالزيادة، ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾: بمثلها، وروي عن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنه جاءه رجل فقال: السلام عليكم، يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (عَلَيكُم وَرَحْمَةُ اللَّهِ)، ثم جاءه آخر فقال: السلام عليكم، يا رسول اللَّه ورحمة اللَّه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (عَلَيكُم وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ)، ثم جاءه آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، فقال: (عَلَيكُم)؛ فقيل له: إنك زدت في الأول والثاني؟ فقال: (إِنَّ الْأَولَ وَالثانِي قَدْ أَبْقَيَا لي زِيادَةً، وَهَذَا لَم يُبقِ لي زيادةً)، وقيل: إنه روي أنه سلَّم عليه رجل فقال: السلام عليكم، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (عَشرٌ) يعني: عشر حسنات، وسلَّم عليه آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه؛ فقال: (عِشرُونَ)، وقال آخر: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته؛ فقال: (ثَلاثُونَ). ومنتهى السلام قوله: (وبركاته)، لا يزاد عليه؛ كقوله: ﴿رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾
6. سؤال وإشكال: فَإِنْ قِيلَ: يسلم في الصلاة على رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، ولا يقول في التحليل من الصلاة: وبركاته؟ والجواب: قيل: لوجهين:
أ. أحدهما: تفضيلا لرسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. والثاني: إبقاء لهم في الرد زيادة.
7. ويسلِّم الراكب على الماشي، والماشي على القائم، والقائم على القاعد:
أ. روي عن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يُسَلِّمُ الراكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالماشي عَلَى القَائِمِ، وَالْقَائِمُ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالصغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْقَليلُ عَلَى الكَثِيرِ)
ب. وروي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إِذَا انْتَهَى أَحَدُكم إِلَى المَجْلِسِ فَلْيُسَلم، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِس، وَإِنْ قَامَ وَالْقَوْمُ جُلُوسٌ فَلْيُسَلم؛ فَلَيسَتِ الْأُولَى بِأحَق مِنَ الْأُخْرَى)
ج. وعن جابر قال: قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم (مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيرِنَا فَلَيسَ مِنَّا)، وقال: (لَا تُسَلمُوا تَسليمَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ تَسليمَ النَّصَارَى بِالْأَكُفِّ، وَتَسليمَ الْيَهُودِ بِالإشارَةِ)
8. ويكره أن يبتدئ أهل الكتاب بالتسليم، ولكن إذا بدءوا هم ـ يردّ؛ وعلى ذلك جاءت الآثار:
أ. روي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لَا تَبدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالتَّسليمِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُم فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُم إِلَى أَضْيَقِهَا)
ب. وعن أبي نضرة الغفاري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لهم يومًا: (إِنى رَاكِبٌ إِلَى يَهُودَ؛ فَإِنْ سَلَمُوا عَلَيكُم فَقُولوُا: وَعَلَيكُم)
9. ثم قيل في تفسير: (السلام عليكم) بوجوه:
أ. قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: اللَّه شهيد عليكم.
ب. وقيل: اللَّه قائم عليكم، وهو كقول اللَّه تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ﴾ برًّا وفاجرًا، يرزقهم، ويحفظهم، ويستجيب لهم.
ج. وقيل: هو الدعاء لهم بالمغفرة والسلامة، وهو ما ذكرنا بدءًا.
10. وقوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾:
أ. قيل: شهيدا.
ب. وقيل: حفيطا.
ج. وقيل: كافيًا مقتدرًا؛ يقال: أَحْسَبَني هذا، أي: كفاني.
د. وقال الكسائي: مشتقة من الحساب؛ كقوله تعالى: ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ أي: حاسبًا؛ كالأمير والآمر، والقدير والقادر.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٢85
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ ومعنى التحية في هذا الموضع السلام والسلام تطوع مستحب ورده فرض ورد السلام خاص في المسلم دون الكافر.. بأحسن منها: تقديره الزيادة في الدعاء أو ردوها: يعني مثلها.. وروينا أن رجلاً سلم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: السلام عليكم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وعليكم السلام ورحمة الله) ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته) ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وعليكم) فقيل: يا رسول الله رددت الأول والثاني وقلت للثالث: وعليكم؛ فقال: (إن الأول سلم وأبقى من التحية شيئاً فرددت عليه أحسن مما جاء به وكذلك الثاني وإن الثالث جاء بالتحية كلها فرددت عليه مثل ذلك ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ يعني حفيظا ويجوز محاسباً على العمل والجزاء عليه.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/188.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ في المراد بالتحية ها هنا قولان:
أ. أحدهما: أنه الدعاء بطول الحياة.
ب. والثاني: السلام تطوع مستحب، ورده فرض، وفيه قولان:
أ. أحدهما: أن فرض رّدِّهِ عَامٌّ في المسلم والكافر، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، وابن زيد.
ب. والثاني: أنه خاص في المسلمين دون الكافر، وهذا قول عطاء.
1. ﴿بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ يعني الزيادة في الدعاء. ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ يعني بمثلها، وروى الحسن أن رجلاً سلَّم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: السلام عليكم فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وًبَرَكاَتُهُ) ثم جاء آخر فقال: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وَعَلَيْكُم)، فقيل: يا رسول الله رددت على الأول والثاني وقلت للثالث وعليكم، فقال: (إِنَّ الأَوَّلَ سَلّمَ وَأَبْقَى مِنَ التَّحِيَّةِ شَيئاً، فَرَدَدْتُ عَلَيهِ بِأَحْسَنَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، كَذَلِكَ الثَّانِي، وإنَّ الثَّالِثَ جَاءَ بِالتَّحِيَّةِ كُلِّهَا، فَرَدَدْتُ عَلَيهِ مِثْلَ ذَلِكَ)، وقد قال ابن عباس: ترد بأحسن منها على أهل الإِسلام، أو مثلها على أهل الكفر، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (لا تَبْدَأُواْ اليَهُودُ بِالسَّلَامِ فَإِنْ بَدَأُوكُم فَقُولُواْ: (عَلَيكُم)
2. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: يعني حفيظاً، وهو قول مجاهد.
ب. والثاني: محاسباً على العمل للجزاء عليه، وهو قول بعض المتكلمين.
ج. والثالث: كافياً، وهو قول البلخي.
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥١٤)
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا خطاب من اللَّه تعالى لجميع المكلفين، يأمرهم إذا دعى لهم انسان بطول الحياة، والبقاء والسلامة، ان يحيوهم بأحسن من ذلك أو يردوا عليهم مثله.
2. ﴿بِأَحْسَنَ﴾ قال النحويون. أحسن هاهنا صفة لا ينصرف، لأنه على وزن افعل وهو صفة لا تنصرف والمعنى حيوا بتحية أحسن منها.
3. التحية: مفعلة من حييت. ومعناها هاهنا السلام:
أ. قال السدي: وابن جريج وعطاء، وابراهيم: إنه إذا سلم عليك واحد من المسلمين، فسلم عليه بأحسن، مما سلم عليك، أو رد عليه مثل ما قال، وذلك إذا قال السلام عليك، فقل أنت وعليك السلام ورحمة اللَّه أو تقول كما قال لك.. وهو أقوى، لأنه روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، انه قال: إذا سلم عليكم أهل الكتاب، فقولوا وعليكم.
ب. وقال قتادة، وابن عباس، ووهب: فحيوا بأحسن منها أهل الإسلام، أو ردوها على أهل الكفر.
ج. وقال الحسن، وجماعة من متقدمي المفسرين: إن السلام تطوع، والرد فرض، لقوله: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ وذلك أمر يقتضي الإيجاب.
4. في معنى الحسيب في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ قولان:
أ. أحدهما ـ قال مجاهد: وابن أبي نجيح: معنى حسيب حفيظ.
ب. وقال قوم: معناه هاهنا من قولهم: احسبني الشيء يحسبني احساباً بمعنى كفاني، ومنه قولهم: حسبي كذا وكذا أي كفاني.
ج. وقال بعضهم: الحسيب في هذا الموضع فعيل من الحساب الذي هو بمعنى الإحصاء يقال منه: حاسبت فلاناً على كذا وكذا وهو حسيبه وذلك إذا كان صاحب حسابه، قال الزجاج: معناه يعطي كل شيء من العلم والحفظ والجزاء مقدار ما يحسبه أي يكفيه، ومنه قوله: ﴿عَطَاءً حِسَابًا﴾ أي كافياً، وسمي الحساب حساباً، لأنه يعلم به ما فيه الكفاية.
5. ذكر الحسن: انه دخل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رجل، فقال: السلام عليكم، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: وعليك السلام ورحمة اللَّه، ثم دخل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: وعليك السلام ورحمة اللَّه، وبركاته، ثم دخل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه، وبركاته، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته. قال بعضهم يا رسول اللَّه كيف هذا فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الأولان بقيا من التحية بقية فرددتها، وهذا لم يبق منها شيئاً فرددت عليه ما قال.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/279
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التحية في اللغة: السلام ومنه ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ قال الشاعر:
çإِنَّا مُحَيُّوكِ يا سَلمَى فَحَيِّينا... وإِن سَقَيتِ كِرَامَ النَّاسِ فَاسقِينَاé
وقال القطامي: (إِنَّا مُحَيُّوكَ فَاسلَم أَيُّهَا الطَّلَلُ)، والتحية: الثناء الحسن، والتحية: البقاء، والتحية: الملك، وقال الشاعر:
çمِن كُلِّ مَا نَالَ الفَتَى... قَد نِلتُهُ إَلَّا التَّحِيَّهé
يعني الملك، وسمي بذلك لأن الملك يحيا بالسلم، وكل ذلك يفسر به التحيات لله.
ب. الحسب مصدر حسبت الشيء أحسبه حسبًا وحسبانًا وحسابًا، والحسبان: الظن، والحسب: الكفاية، يقال: أحسبني الشيء كفاني، ومنه: حسبي، والقيامة سميت بذلك لأنهم يقومون من القبور إلى المحشر، وقيل: لأنهم يقومون للحساب وأصله من القيام.
2. نزلت الآية في الَّذِينَ تحلوا بالسلام، وقيل: إن رجلاً سلم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: السلام عليكم فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: وعليكم السلام ورحمة الله، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ثم جاء آخر وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَعَلَيْكُمْ﴾، فقيل: يا رسول الله رددت الأول والثاني ولم ترد الثالث، فقال: إن الأول أبقى من التحية شيئًا، فرددت عليه أحسن مما حيا به، وكذلك الثاني، وإن الثالث حيا بالتحية كلها، فرددت عليه مثل ذلك) فنزلت الآية.
3. في اتصال الآية بما قبلها وجهان:
أ. أحدهما: أن المراد بالتحية السلام والمسالمة التي هي ضد الحرب، ولا مدخل لغيرها في هذا الموضع، فلما أمر بقتال المشركين أمر بأن من مال إلى السلام وأعطى ذلك من نفسه وحيا المؤمنين بتحيتهم، فاقبلوا منه وردوا عليه مثل ذلك أو أحسن.
ب. الثاني: أنه لما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين اتصل به ذكر التحية، وأنه يرد على كل واحد مثل ما يحيي به.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾:
أ. قيل: من دعا لكم بخير فادعوا له بمثل ذلك وأحسن منه.
ب. وقيل: المراد بالتحية السلام فيجب رد التحية، فالسلام سنة والرد واجب عن جابر والحسن وأبي علي.
ج. وقيل: المراد به السلام، يعني من دخل في السلم فاقبلوا منه عن أبي مسلم.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾:
أ. قيل: الرد أن يحيية بمثل تحيته، والأحسن أن يزيد عليه كما ورد به الخبر، وهذا في أهل الإسلام خاصة عن عطاء.
ب. وقيل: هو عام عن ابن عباس وقتادة وابن زيد.
ج. وقيل: هو في أهل الإسلام تحية بأحسن، وفي غير أهل الإسلام يرد مثل تحيته عن الحسن قال: يقول: وعليكم ولا يقول: ورحمة الله وبركاته؛ لأنه لا يجوز الاستغفار للكفار، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا تبدؤوا يهوديا بالسلام، فإن بدؤوكم فقولوا وعليكم)
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾:
أ. قيل: حفيظًا عن مجاهد؛ لأنه يحصي العمل إحصاء الحافظ الذي لا يشذ شيء منه فيجازي بكله.
ب. وقيل: محاسبًا على العمل للجزاء عليه عن أبي علي.
ج. وقيل: كافيًا من قولك: أحسبني الشيء كفاني عن أبي القاسم.
7. تدل الآية الكريمة على:
أ. وجوب رد السلام وأكثر العلماء على أن رد السلام واجب، وإن كان أصل السلام سنة، ثم الرد ربما يكون من فروض الكفاية وربما يتعين بأن يخص بالتحية، أو لا أحد عنده، فيتعين الرد عليه.
ب. أن الآية في المؤمنين؛ لأن الكفار لا يحيون بالأفضل بل ربما لا يحيون أصلاً، سؤال وإشكال: كيف جاز أن يحيا به؟ والجواب: يجوز أن يحيا بالبقاء والملك، ولا يحيا بالرحمة والبركة وظاهر الآية في باب الدين، فلا يحيا به الكفار والفساق، فأما في المؤمن فيخير بين أن يرد مثلها أو أحسن منها.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/732
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التحية: السلام يقال حيى، يحيي، تحية إذا سلم، قال الشاعر:
çإنا محيوك يا سلمى فحيينا... وإن سقيت كرام الناس فاسقيناé
والتحية: البقا، قال:
çمن كل ما نال الفتى... قد نلته إلا التحيةé
يعني الملك، وإنما سمي بذلك لان الملك يحيا بالسلام والثناء الحسن.
ب. الحسيب: الحفيظ لكل شئ، حتى لا يشذ منه شئ، والحسيب: الفعيل من الحساب الذي هو الاحصاء، يقال: حاسب فلان فلانا على كذا، وهو حسيبه: إذا كان صاحب حسابه، ومن قال الحسيب: الكافي، فهو من قولهم أحسبني فلان الشئ إحسابا: إذا كفاني، وحسبي كذا: أي كفاني، وقال الزجاج: معنى الحسيب أنه يعطي كل شئ من العلم والحفظ والجزاء مقدار ما يحسبه: أي يكفيه، ومنه قوله: ﴿عَطَاءً حِسَابًا﴾ أي كافيا.
2. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها: إن المراد بالسلام: المسالمة التي هي ضد الحرب، فلما أمر سبحانه بقتال المشركين، عقبه بأن قال: من مال إلى السلم، وأعطى ذاك من نفسه، وحيى المؤمنين بتحية، فاقبلوا منه.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾:
أ. قيل: أمر الله المسلمين برد السلام على المسلم، بأحسن مما سلم، إن كان مؤمنا، وإلا فليقل وعليكم، ولا يزيد على ذلك، فقوله: ﴿بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ للمسلمين خاصة، وقوله: ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ لأهل الكتاب، عن ابن عباس، فإذا قال المسلم: السلام عليكم، فقل: وعليكم السلام، ورحمة الله، وإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله، فقل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فقد حييته بأحسن منها، وهذا منتهى السلام.
ب. وقيل: إن قوله: ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ للمسلمين خاصة، أيضا، عن السدي، وعطا، وإبراهيم، وابن جريج، قالوا: إذا سلم عليك المسلم، فرد عليه بأحسن مما سلم عليك، أو بمثل ما قال، وهذا أقوى لما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم) وذكر علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهم السلام: (إن المراد بالتحية في الآية: السلام وغيره من البر) وذكر الحسن أن رجلا دخل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: السلام عليك، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: وعليك السلام ورحمة الله، فجاءه آخر، فقال: السلام عليك ورحمة الله، فقال النبي: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فجاءه آخر فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقيل: يا رسول الله! زدت للأول والثاني في التحية، ولم تزد في الثالث، فقال: إنه لم يبق لي من التحية شيئا فرددت عليه مثله، وروى الواحدي بإسناده عن أبي أمامة، عن مالك بن التيهان، قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من قال السلام عليكم، كتب له عشر حسنات، ومن قال السلام عليكم ورحمة الله، كتب له عشرون حسنة، ومن قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كتب له ثلاثون حسنة)
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾:
أ. قيل: أي حفيظا، عن مجاهد.
ب. وقيل: كافيا.
ج. وقيل: مجازيا، عن ابن عباس.
5. في هذه الآية دلالة على وجوب رد السلام، لان ظاهر الامر يقتضي الوجوب، وقال الحسن، وجماعة من المفسرين: إن السلام تطوع، والرد فرض، ثم الرد ربما كان من فروض الكفاية، وقد يتعين بأن يخصه بالسلام، ولا أحد عنده، فيتعين عليه الرد.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/129.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في التّحيّة في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها السّلام، قاله ابن عباس والجمهور.
ب. الثاني: الدّعاء، ذكره ابن جرير والماورديّ.
2. ﴿بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ هو الزّيادة عليها، وردّها: قول مثلها، قال الحسن: إذا قال أخوك المسلم: السّلام عليكم، فردّ السلام، وزد: ورحمة الله، أو ردّ ما قال ولا تزد، وقال الضّحّاك: إذا قال: السّلام عليك، قلت: وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا قال: السلام عليك ورحمة الله، قلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وهذا منتهى السّلام، وقال قتادة: بأحسن منها للمسلم، أو ردّوها على أهل الكتاب.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/442
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجهان:
أ. الأول: أنه لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم ايضا بأن الأعداء لو رضوا بالمسألة فكونوا أنتم أيضا راضين بها، فقوله: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: 61]
ب. الثاني: ان الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه، فقد لا يلتفت إلى سلامه عليه ويقتله، وربما ظهر أنه كان مسلما، فمنع اللَّه المؤمنين عنه وأمرهم ان كل من يسلم عليهم ويكرمهم بنوع من الإكرام يقابلونه بمثل ذلك الإكرام أو أزيد، فانه ان كان كافرا لا يضر المسلم ان قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الإكرام، أما ان كان مسلما وقتله ففيه أعظم المضار والمفاسد.
2. ﴿حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا﴾ التحية تفعلة من حييت، وكان في الأصل تحيية، مثل التوصية والتسمية، والعرب تؤثر التفعلة على التفعيل في ذوات الاربعة، نحو قوله: ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ [الواقعة: 94] فثبت أن التحية أصلها التحيية ثم أدغموا الياء في الياء.
3. عادة العرب قبل الإسلام أنه إذا لقي بعضهم بعضا قالوا: حياك اللَّه واشتقاقه من الحياة كأنه يدعو له بالحياة، فكانت التحية عندهم عبارة عن قول بعضهم لبعض حياك اللَّه، فلما جاء الإسلام أبدل ذلك بالسلام، فجعلوا التحية اسما للسلام، قال تعالى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ﴾ [الأحزاب: 44] ومنه قول المصلى: التحيات للَّه، أي السلام من الآفات للَّه، والأشعار ناطقة بذلك، قال عنترة: (حييت من طلل تقادم عهده)، وقال آخر: (إنا محيوك يا سلمى فحيينا)
4. ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ قول القائل لغيره: السلام عليك أتم وأكمل من قوله: حياك اللَّه، وبيانه من وجوه:
أ. الأول: أن الحي إذا كان سليما كان حيا لا محالة، وليس إذا كان حيا كان سليما، فقد تكون حياته مقرونة بالآفات والبليات، فثبت أن قوله: السلام عليك أتم وأكمل من قوله: حياك اللَّه.
ب. الثاني: أن السلام اسم من أسماء اللَّه تعالى، فالابتداء بذكر اللَّه أو بصفة من صفاته الدالة على أنه يريد إبقاء السلامة على عباده أكمل من قوله: حياك اللَّه.
ج. الثالث: أن قول الإنسان لغيره: السلام عليك فيه بشارة بالسلامة، وقوله: حياك اللَّه لا يفيد ذلك، فكان هذا أكمل.
5. مما يدل على فضيلة السلام القرآن والأحاديث والمعقول، أما القرآن فمن وجوه:
أ. الأول: أن اللَّه تعالى سلم على المؤمنين في اثني عشر موضعا:
• أولها: أنه تعالى كأنه سلم عليك في الأزل، ألا ترى أنه قال في وصف ذاته: ﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ﴾ [الحشر: 23]
• ثانيها: أنه سلم على نوح وجعل لك من ذلك السلام نصيبا، فقال: ﴿قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ﴾ [هود: 48] والمراد منه أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
• ثالثها: سلم عليك على لسان جبريل عليه السلام، فقال: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: 5] قال المفسرون: إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فقال اللَّه: لا تهتم لذلك فاني وإن أخرجتك من الدنيا، إلا أني جعلت جبريل خليفة لك، ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني.
• رابعها: سلم عليك على لسان موسى عليه السلام حيث قال: ﴿وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى﴾ [طه: 47] فإذا كنت متبع الهدى وصل سلام موسى إليك.
• خامسها: سلم عليك على لسان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى﴾ [النمل: 59] وكل من هدى اللَّه إلى الايمان فقد اصطفاه، كما قال: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا﴾ [فاطر: 32]
• سادسها: أمر محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بالسلام على سبيل المشافهة، فقال: ﴿وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 54]
• سابعها: أمر أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتسليم عليك قال: ﴿وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها﴾
• ثامنها: سلم عليك على لسان ملك الموت فقال: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [النحل: 32] قيل: إن ملك الموت يقول في أذن المسلم: السلام يقرئك السلام، ويقول: أجبني فاني مشتاق إليك، واشتاقت الجنات والحور العين إليك، فإذا سمع المؤمن البشارة، يقول لملك الموت: للبشير مني هدية، ولا هدية أعز من روحي، فاقبض روحي هدية لك.
• تاسعها: السلام من الأرواح الطاهرة المطهرة، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ﴾ [الواقعة: 91]
• عاشرها: سلم اللَّه عليك على لسان رضوان خازن الجنة فقال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً﴾ إلى قوله: ﴿وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ﴾ [الزمر: 73]
• الحادي عشر: إذا دخلوا الجنة فالملائكة يزورونهم ويسلمون عليهم، قال تعالى: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 23، 24]
• الثاني عشر: السلام من اللَّه من غير واسطة وهو قوله: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ﴾ [الأحزاب: 44] وقوله: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: 58] وعند ذلك يتلاشى سلام الكل لأن المخلوق لا يبقى على تجلي نور الخالق.
ب. الثاني: من الدلائل القرآنية الدالة على فضيلة السلام أن أشد الأوقات حاجة إلى السلامة والكرامة ثلاثة أوقات: وقت الابتداء، ووقت الموت، ووقت البعث، واللَّه تعالى لما أكرم يحيى عليه السلام فإنما أكرمه بأن وعده السلام في هذه الأوقات الثلاثة فقال: ﴿وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 15] وعيسى عليه السلام ذكر أيضا ذلك فقال: ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 33]
ج. الثالث: أنه تعالى لما ذكر تعظيم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: 56] يروى في التفسير أن اليهود كانوا إذا دخلوا قالوا: السام عليك، فحزن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لهذا المعنى، فبعث اللَّه جبريل عليه السلام وقال: إن كان اليهود يقولون السام عليك، فأنا أقول من سرادقات الجلال: السلام عليك، وأنزل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ إلى قوله: وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾
6. أما ما يدل من الأخبار على فضيلة السلام فما روي أن عبد اللَّه بن سلام قال: لما سمعت بقدوم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم دخلت في غمار الناس، فأول ما سمعت منه: (يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)
7. أما ما يدل على فضل السلام من جهة المعقول فوجوه:
أ. الأول: قالوا: تحية النصارى وضع اليد على الفم، وتحية اليهود بعضهم لبعض الإشارة بالأصابع، وتحية المجوس الانحناء، وتحية العرب بعضهم لبعض أن يقولوا: حياك اللَّه، وللملوك أن يقولوا: أنعم صباحا، وتحية المسلمين بعضهم لبعض أن يقولوا: السلام عليك ورحمة اللَّه وبركاته، ولا شك أن هذه التحية أشرف التحيات وأكرمها.
ب. الثاني: أن السلام مشعر بالسلامة من الآفات والبليات، ولا شك أن السعي في تحصيل الصون عن الضرر أولى من السعي في تحصيل النفع.
ج. الثالث: أن الوعد بالنفع يقدر الإنسان على الوفاء به وقد لا يقدر، أما الوعد بترك الضرر فانه يكون قادرا عليه لا محالة، والسلام يدل عليه فثبت أن السلام أفضل أنواع التحية.
8. من الناس من قال: من دخل دارا وجب عليه أن يسلم على الحاضرين، واحتج عليه بوجوه:
أ. الأول: قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها﴾ [النور: 27]، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفشوا السلام) والأمر للوجوب.
ب. الثاني: أن من دخل على إنسان كان كالطالب له، ثم المدخول عليه لا يعلم أنه يطلبه لخير أو لشر، فإذا قال: السلام عليك فقد بشره بالسلامة وآمنه من الخوف، وإزالة الضرر عن المسلم واجبة قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه) فوجب أن يكون السلام واجبا.
ج. الثالث: أن السلام من شعائر أهل الإسلام، وإظهار شعائر الإسلام واجب، وأما المشهور فهو أن السلام سنة، وهو قول ابن عباس والنخعي.
9. أجمعوا على وجوب الجواب على السلام، ويدل عليه وجوه:
أ. الأول: قوله تعالى: ﴿وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها﴾
ب. الثاني: أن ترك الجواب إهانة، والاهانة ضرر والضرر حرام.
10. منتهى الأمر في السلام أن يقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، بدليل أن هذا القدر هو الوارد في التشهد.
11. ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها﴾ قال العلماء: الأحسن هو أن المسلم إذا قال السلام عليك زيد في جوابه الرحمة، وإن ذكر السلام والرحمة في الابتداء زيد في جوابه البركة، وإن ذكر الثلاثة في الابتداء أعادها في الجواب، روي أن رجلا قال للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: السلام عليك يا رسول اللَّه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته، وآخر قال: السلام عليك ورحمة اللَّه، فقال: وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته، وجاء ثالث فقال: السلام عليك ورحمة اللَّه وبركاته، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته، فقال الرجل: نقصتني، فأين قول اللَّه: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها﴾ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنك ما تركت لي فضلا فرددت عليك ما ذكرت.
12. المبتدئ يقول: السلام عليك والمجيب، يقول: وعليكم السلام، هذا هو الترتيب الحسن، والذي خطر ببالي فيه أنه إذا قال: السلام عليكم كان الابتداء واقعا بذكر اللَّه، فإذا قال المجيب: وعليكم السلام كان الاختتام واقعا بذكر اللَّه، وهذا يطابق قوله: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ [الحديد: 3] وأيضا لما وقع الابتداء والاختتام بذكر اللَّه فانه يرجى أن يكون ما وقع بينهما يصير مقبولا ببركته كما في قوله: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ﴾ [هود: 114] فلو خالف المبتدئ فقال: وعليكم السلام فقد خالف السنة، فالأولى للمجيب أن يقول: وعليكم السلام، لأن الأول لما ترك الافتتاح بذكر اللَّه، فهذا لا ينبغي أن يترك الاختتام بذكر اللَّه.
13. ان شاء قال: سلام عليكم، وان شاء قال: السلام عليكم:
أ. قال تعالى في حق نوح: ﴿يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا﴾ [هود: 48]، وقال عن الخليل: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم: 47]، وقال في قصة لوط: ﴿قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾ [هود: 69]، وقال عن يحيى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ﴾، وقال عن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ﴾ [النمل: 59]، وقال عن الملائكة: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرعد: 23، 24]، وقال عن رب العزة: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: 58] وقال: ﴿فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾
ب. وأما بالألف واللام فقوله عن موسى عليه السلام: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ [طه: 47]، وقال عن عيسى عليه السلام: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ [مريم: 33]
14. فثبت أن الكل جائز، وأما في التحليل من الصلاة فلا بد من الألف واللام بالاتفاق، واختلفوا في سائر المواضع أن التنكير أفضل أم التعريف؟ فقيل التنكير أفضل، ويدل عليه وجوه:
أ. الأول: أن لفظ السلام على سبيل التنكير كثير في القرآن فكان أفضل.
ب. الثاني: ان كل ما ورد من اللَّه والملائكة والمؤمنين فقد ورد بلفظ التنكير على ما عددناه في الآيات، وأما بالألف واللام فإنما ورد في تسليم الإنسان على نفسه قال موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ [طه: 47]، وقال عيسى صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ﴾ [مريم: 33]
ج. الثالث: وهو المعنى المعقول ان لفظ السلام بالألف واللام يدل على أصل الماهية، والتنكير يدل على أصل الماهية مع وصف الكمال، فكان هذا أولى.
15. قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (السنة أن يسلم الراكب على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والأقل على الأكثر، والقائم على القاعد)، أما الأول (أن يسلم الراكب على الماشي) فلوجهين:
أ. أحدهما: ان الراكب أكثر هيبة فسلامه يفيد زوال الخوف
ب. الثاني: أن التكبر به أليق، فأمر بالابتداء بالتسليم كسرا لذلك التكبر، وأما أن القائم يسلم على القاعد فلأنه هو الذي وصل اليه، فلا بد وأن يفتتح هذا الواصل الموصول بالخير.
16. السنة في السلام:
أ. الجهر لأنه أقوى في إدخال السرور في القلب.
ب. الإفشاء والتعميم لأن في التخصيص إيحاشا.
ج. المصافحة عند السلام عادة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا تصافح المسلمان تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر)
د. قال أبو يوسف: من قال لآخر: أقرئ فلانا عني السلام وجب عليه أن يفعل.
هـ. إذا استقبلك رجل واحد فقل سلام عليكم، واقصد الرجل والملكين فإنك إذا سلمت عليهما ردا السلام عليك، ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب اللَّه.
و. إذا دخلت بيتا خاليا فسلم، وفيه وجوه:
• الأول: انك تسلم من اللَّه على نفسك.
• الثاني: انك تسلم على من فيه من مؤمني الجن.
• الثالث: أنك تطلب السلامة ببركة السلام ممن في البيت من الشياطين والمؤذيات.
ز. السنة أن يكون المبتدئ بالسلام على الطهارة، وكذا المجيب، روي أن واحدا سلم على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو كان في قضاء الحاجة، فقام وتيمم ثم رد السلام.
ح. السنة إذا التقى إنسانان أن يبتدرا بالسلام إظهارا للتواضع.
17. المواضع التي لا يسلم فيها، ثمانية:
أ. الأول: روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لا يبدأ اليهودي بالسلام، وعن أبي حنيفة أنه قال: لا يبدأ بالسلام في كتاب ولا في غيره، وعن أبي يوسف: لا تسلم عليهم ولا تصافحهم، وإذا دخلت فقل: السلام على من اتبع الهدى، ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة، وأما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء: ينبغي أن يقال وعليك، والأصل فيه أنهم كانوا يقولون عند الدخول على الرسول: السام عليك، فكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول وعليكم، فجرت السنة بذلك، ثم هاهنا تفريع وهو أنا إذا قلنا لهم: وعليكم السلام، فهل يجوز ذكر الرحمة فيه؟ قال الحسن يجوز أن يقال للكافر: وعليكم السلام، لكن لا يقال ورحمة اللَّه لأنها استغفار، وعن الشعبي انه قال لنصراني: وعليكم السلام ورحمة اللَّه فقيل له فيه، فقال: أليس في رحمة اللَّه يعيش.
ب. الثاني: إذا دخل يوم الجمعة والامام يخطب، فلا ينبغي أن يسلم لاشتغال الناس بالاجتماع، فان سلم فرد بعضهم فلا بأس، ولو اقتصروا على الإشارة كان أحسن.
ج. الثالث: إذا دخل الحمام فرأى الناس متزرين يسلم عليهم، وإن لم يكونوا متزرين لم يسلم عليهم.
د. الرابع: الأولى ترك السلام على القارئ، لأنه إذا اشتغل بالجواب يقطع عليه التلاوة وكذلك القول فيمن كان مشتغلا برواية الحديث ومذاكرة العلم.
هـ. الخامس: لا يسلم على المشتغل بالأذان والاقامة للعلة التي ذكرناها.
و. السادس: قال أبو يوسف، لا يسلم على لاعب النرد، ولا على المغني، ومطير الحمام، وفي معناه كل من كان مشتغلا بنوع معصية.
ز. السابع: لا يسلم على من كان مشتغلا بقضاء الحاجة، مر على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم رجل وهو يقضي حاجته، فسلم عليه، فقام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الجدار فتيمم ثم رد الجواب، وقال: (لولا أني خشيت أن تقول سلمت عليه فلم يرد الجواب لما أجبتك إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي فإنك إن سلمت علي لم أرد عليك)
ح. الثامن: إذا دخل الرجل بيته سلم على امرأته، فان حضرت أجنبية هناك لم يسلم عليهما.
18. أحكام الجواب ثمانية:
أ. الأول: رد الجواب واجب لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ ولأن ترك الجواب إهانة وضرر وحرام، وعن ابن عباس: ما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة.
ب. الثاني: رد الجواب فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، والأولى للكل أن يذكروا الجواب إظهارا للإكرام ومبالغة فيه.
ج. الثالث: أنه واجب على الفور، فان أخر حتى انقضى الوقت فان أجاب بعد فوت الوقت كان ذلك ابتداء سلام ولا يكون جوابا.
د. الرابع: إذا ورد عليه سلام في كتاب فجوابه بالكتبة أيضا واجب، لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾
هـ. الخامس: إذا قال السلام عليكم، فالواجب أن يقول: وعليكم السلام، إلا أن السنة أن يزيد فيه الرحمة والبركة ليدخل تحت قوله (فحيوا بأحسن منها) أما إذا قال: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، فظاهر الآية يقتضي أنه لا يجوز الاقتصار على قوله وعليكم السلام.
و. السادس: روي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يجهر بالرد يعني الجهر الكثير.
ز. السابع: إن سلمت المرأة الأجنبية عليه وكان يخاف في رد الجواب عليها تهمة أو فتنة لم يجب الرد، بل الأولى أن لا يفعل.
ح. الثامن: حيث قلنا انه لا يسلم، فلو سلم لم يجب عليها الرد، لأنه أتى بفعل منهى عنه فكان وجوده كعدمه.
19. لفظ التحية على ما بيناه صار كناية عن الإكرام، فجميع أنواع الإكرام يدخل تحت لفظ التحية.
20. قال أبو حنيفة: من وهب لغير ذي رحم محرم فله الرجوع فيها ما لم يثب منها، فإذا أثيب منها فلا رجوع فيها، وقال الشافعي: له الرجوع في حق الولد، وليس له الرجوع في حق الأجنبي، احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على صحة قول أبي حنيفة فان قوله: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ يدخل فيه التسليم، ويدخل فيه الهبة، ومقتضاه وجوب الرد إذا لم يصر مقابلا بالأحسن، فإذا لم يثبت الوجوب فلا أقل من الجواز، وقال الشافعي: هذا الأمر محمول على الندب، بدليل أنه لو أثيب بما هو أقل منه سقطت منكة الرد بالإجماع، مع أن ظاهر الآية يقتضي أن يأتي بالأحسن، ثم احتج الشافعي على قوله بما روى ابن عباس وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) وهذا نص في أن هبة الأجنبي يحرم الرجوع فيها، وهبة الولد يجوز الرجوع فيها.
21. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ في الحسيب قولان:
أ. الأول: أنه بمعنى المحاسب على العمل، كالأكيل والشريب والجليس بمعنى المؤاكل والمشارب والمجالس.
ب. الثاني: أنه بمعنى الكافي في قولهم: حسبي كذا؛ أي كافي، ومنه قوله تعالى: ﴿حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ [التوبة: 129، الزمر: 38]
22. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ المقصود منه الوعيد، فانا بينا أن الواحد منهم قد كان يسلم على الرجل المسلم، ثم إن ذلك المسلم ما كان يتفحص عن حاله، بل ربما قتله طمعا في سلبه، فاللَّه تعالى زجر عن ذلك فقال: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ وإياكم أن تتعرضوا له بالقتل، ثم قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ أي هو محاسبكم على أعمالكم وكافي في إيصال جزاء أعمالكم إليكم فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف، وهذا يدل على شدة العناية بحفظ الدماء والمنع من إهدارها.
__________
(1) التفسير الكبير: 10/165
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾ التحية تفعلة من حييت، الأصل تحيية مثل ترضية وتسمية، فأدغموا الياء في الياء، والتحية السلام، وأصل التحية الدعاء بالحياة، والتحيات لله، أي السلام من الآفات، وقيل: الملك، قال عبد الله بن صالح العجلي: سألت الكسائي عن قوله (التحيات لله) ما معناه؟ فقال: التحيات مثل البركات، فقلت: ما معنى البركات؟ فقال: ما سمعت فيها شيئا، وسألت عنها محمد بن الحسن فقال: هو شي تعبد الله به عباده، فقدمت الكوفة فلقيت عبد الله بن إدريس فقلت: إني سألت الكسائي ومحمدا عن قول (التحيات لله) فأجاباني بكذا وكذا، فقال عبد الله بن إدريس: إنهما لا علم لهما بالشعر وبهذه الأشياء!؟ التحية الملك، وأنشد:
çأؤم بها أبا قابوس حتى...وأنيخ على تحيته بجنديé
وأنشد ابن خويز منداد:
çأسير به إلى النعمان حتى...أنيخ على تحيته بجنديé
يريد على ملكه، وقال آخر:
çولكل ما نال الفتى...قد نلته إلا التحيةé
وقال القتبي: إنما قال (التحيات لله) على الجمع، لأنه كان في الأرض ملوك يحيون بتحيات مختلفات، فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ولبعضهم: اسلم وانعم، ولبعضهم: عش ألف سنة، فقيل لنا: قولوا التحيات لله، أي الألفاظ التي تدل على الملك، ويكنى بها عنه لله تعالى.
2. وجه النظم بما قبل أنه قال: إذا خرجتم للجهاد كما سبق به الأمر فحييتم في سفركم بتحية الإسلام، فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، بل ردوا جواب السلام، فإن أحكام الإسلام تجري عليهم.
3. اختلف العلماء في معنى الآية وتأويلها:
أ. فروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أن هذه الآية في تشميت العاطس والرد على المشمت، وهذا ضعيف، إذ ليس في الكلام دلالة على ذلك، أما الرد على المشمت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك عنه.
ب. وقال ابن خويز منداد: (وقد يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب، فمن وهب له هبة على الثواب فهو بالخيار إن شاء ردها وإن شاء قبلها وأثاب عليها قيمتها)، ونحو هذا قال أصحاب أبي حنيفة، قالوا: التحية هنا الهدية، لقوله تعالى: ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ ولا يمكن رد الإسلام بعينه، وظاهر الكلام يقتضي أداء التحية بعينها وهي الهدية، فأمر بالتعويض إن قبل أو الرد بعينه، وهذا لا يمكن في السلام.
ج. والصحيح أن التحية هاهنا السلام، لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ﴾، وقال النابغة الذبياني:
çتحييهم بيض الولائد بينهم...وأكسية الإضريج فوق المشاجبé
أراد: ويسلم عليهم، وعلى هذا جماعة المفسرين.
4. إذا ثبت هذا وتقرر ففقه الآية أن يقال: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، ورده فريضة، لقوله تعالى: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾، واختلفوا إذا رد واحد من جماعة هل يجزئ أو لا، فذهب مالك والشافعي إلى الإجزاء، وأن المسلم قد رد عليه مثل قوله، وذهب الكوفيون إلى أن رد السلام من الفروض المتعينة، قالوا: والسلام خلاف الرد، لأن الابتداء به تطوع ورده فريضة، ولو رد غير المسلم عليهم لم يسقط ذلك عنهم فرض الرد، فدل على أن رد السلام يلزم كل إنسان بعينه، حتى قال قتادة والحسن: إن المصلي يرد السلام كلاما إذا سلم عليه ولا يقطع ذلك عليه صلاته، لأنه فعل ما أمر به، والناس على خلافه، احتج الأولون بما رواه أبو داوود عن علي بن أبي طالب عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يجزئ من الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم)، وهذا نص في موضع الخلاف، قال أبو عمر: وهو حديث حسن لا معارض له، وفي إسناده سعيد بن خالد، وهو سعيد بن خالد الخزاعي مدني ليس به بأس عند بعضهم، وقد ضعفه بعضهم منهم أبو زرعة وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وجعلوا حديثه هذا منكرا، لأنه انفرد فيه بهذا الإسناد، على أن عبد الله ابن الفضل لم يسمع من عبيد الله بن أبي رافع، بينهما الأعرج في غير ما حديث، والله أعلم، واحتجوا أيضا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يسلم القليل على الكثير)، ولما أجمعوا على أن الواحد يسلم على الجماعة ولا يحتاج إلى تكريره على عداد الجماعة، كذلك يرد الواحد عن الجماعة وينوب عن الباقين كفروض الكفاية، وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم)، قال علماؤنا: وهذا يدل على أن الواحد يكفي في الرد، لأنه لا يقال أجزأ عنهم إلا فيما قد وجب، والله أعلم قلت: هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد، وفيه قلق.
5. ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ رد الأحسن أن يزيد فيقول: عليك السلام ورحمة الله، لمن قال: سلام عليك، فإن قال: سلام عليك ورحمة الله، زدت في ردك: وبركاته، وهذا النهاية فلا مزيد، قال الله تعالى مخبرا عن البيت الكريم ﴿رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ﴾ على مأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فإن انتهى بالسلام غايته، زدت في ردك الواو في أول كلامك فقلت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، والرد بالمثل أن تقول لمن قال السلام عليك: عليك السلام، إلا أنه ينبغي أن يكون السلام كله بلفظ الجماعة، وإن كان المسلم عليه واحدا، روى الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: إذا سلمت على الواحد فقل: السلام عليكم، فإن معه الملائكة، وكذلك الجواب يكون بلفظ الجمع، قال ابن أبي زيد: يقول المسلم السلام عليكم، ويقول الراد وعليكم السلام، أو يقول السلام عليكم كما قيل له، وهو معنى قوله: ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ ولا تقل في ردك: سلام عليك.
6. الاختيار في التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق، قال الله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ﴾، وقال في قصة إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾، وقال مخبرا عن إبراهيم: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾، وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خلق الله تعالى آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك ـ قال ـ فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله ـ قال ـ فزادوه ورحمة الله ـ قال ـ فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن)، فقد جمع هذا الحديث مع صحته فوائد سبع:
أ. الأولى: الإخبار عن صفة خلق آدم.
ب. الثانية: أنا ندخل الجنة عليها بفضله.
ج. الثالثة: تسليم القليل على الكثير.
د. الرابعة: تقديم اسم الله تعالى.
هـ. الخامسة: الرد بالمثل لقولهم: السلام عليكم.
و. السادسة: الزيادة في الرد.
ز. السابعة: إجابة الجميع بالرد كما يقول الكوفيون.
7. فإن رد فقدم اسم المسلم عليه لم يأت محرما ولا مكروها، لثبوته عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث قال للرجل الذي لم يحسن الصلاة وقد سلم عليه: (وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصل)، وقالت عائشة: (وعليه السلام ورحمة الله)، حين أخبرها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن جبريل يقرأ، أخرجه البخاري، وفي حديث عائشة من الفقه أن الرجل إذا أرسل إلى رجل بسلامه فعليه أن يرد كما يرد عليه إذا شافهه، وجاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (إن أبي يقرئك السلام، فقال: عليك وعلى أبيك السلام)، وقد روى النسائي وأبو داوود من حديث جابر بن سليم قال: لقيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقلت: عليك السلام يا رسول الله، فقال: (لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ولكن قل السلام عليك)، وهذا الحديث لا يثبت، إلا أنه لما جرت عادة العرب بتقديم اسم المدعو عليه في الشر كقولهم: عليه لعنة الله وغضب الله، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾، وكان ذلك أيضا دأب الشعراء وعادتهم في تحية الموتى، كقولهم:
çعليك سلام الله قيس بن عاصم...ورحمته ما شاء أن يترحماé
وقال آخر وهو الشماخ:
çعليك سلام من أمير وباركت...يد الله في ذاك الأديم الممزقé
نهاه عن ذلك، لا أن ذاك هو اللفظ المشروع في حق الموتى، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ثبت عنه أنه سلم على الموتى كما سلم على الأحياء فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، فقالت عائشة: قلت يا رسول الله، كيف أقول إذا دخلت المقابر؟ قال: (قولي السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين) الحديث.. وقد يحتمل أن يكون حديث عائشة وغيره في السلام على أهل القبور جميعهم إذا دخلها وأشرف عليها، وحديث جابر بن سليم خاص بالسلام على المرور المقصود بالزيارة.
8. من السنة تسليم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والقليل على الكثير، هكذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يسلم الراكب) فذكره فبدأ بالراكب لعلو مرتبته، ولأن ذلك أبعد له من الزهو، وكذلك قيل في الماشي مثله، وقيل: لما كان القاعد على حال وقار وثبوت وسكون فله مزية بذلك على الماشي، لأن حاله على العكس من ذلك، وأما تسليم القليل على الكثير فمراعاة لشرفية جمع المسلمين وأكثريتهم.
9. وقد زاد البخاري في هذا الحديث (ويسلم الصغير على الكبير)، وأما تسليم الكبير على الصغير فروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى التسليم على الصبيان، قال: لأن الرد فرض والصبي لا يلزمه الرد فلا ينبغي أن يسلم عليهم، وروي عن ابن سيرين أنه كان يسلم على الصبيان ولكن لا يسمعهم، وقال أكثر العلماء: التسليم عليهم أفضل من تركه، وقد جاء في الصحيحين عن سيار قال: كنت أمشي مع ثابت فمر بصبيان فسلم عليهم، وذكر أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم، وحدث أنه كان يمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فمر بصبيان فسلم عليهم، لفظ مسلم، وهذا من خلقه العظيم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفيه تدريب للصغير وحض على تعليم السنن ورياضة لهم على آداب الشريعة فيه، فلتقتد.
10. وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين، وأما المتجالات والعجز فحسن للأمن فيما ذكرناه، هذا قول عطاء وقتادة، وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء، ومنعه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن رد السلام فلا يسلم عليهن، والصحيح الأول لما خرجه البخاري عن سهل بن سعد قال: كنا نفرح بيوم الجمعة، قلت ولم؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلي بضاعة ـ قال ابن مسلمة: نخل بالمدينة ـ فتأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله: وما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة تكركر أي تطحن، قاله القتبي.
11. السنة في السلام والجواب الجهر، ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي، وعندنا(2) تكفي إذا كان على بعد، روى ابن وهب عن ابن مسعود قال: السلام اسم من أسماء الله تعالى وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم، فإن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب، وروى الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث قال: إذا سلم الرجل على القوم كان له فضل درجة، فإن لم يردوا عليه ردت عليه الملائكة ولعنتهم، فإذا رد المسلم عليه أسمع جوابه، لأنه إذا لم يسمع المسلم لم يكن جوابا له، ألا ترى أن المسلم إذا سلم بسلام لم يسمعه المسلم عليه لم يكن ذلك منه سلاما، فكذلك إذا أجاب بجواب لم يسمع منه فليس بجواب، وروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إذا سلمتم فأسمعوا وإذا رددتم فأسمعوا وإذا قعدتم فاقعدوا بالأمانة ولا يرفعن بعضكم حديث بعض)، قال ابن وهب: وأخبرني أسامة بن زيد عن نافع قال: كنت أساير رجلا من فقهاء الشام يقال له عبد الله بن زكريا فحبستني دابتي تبول، ثم أدركته ولم أسلم عليه، فقال: ألا تسلم؟ فقلت: إنما كنت معك آنفا، فقال: وإن صح، لقد كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتسايرون فيفرق بينهم الشجر فإذا التقوا سلم بعضهم على بعض.
12. أما الكافر فحكم الرد عليه أن يقال له: وعليكم، قال ابن عباس وغيره، المراد بالآية: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾ فإذا كانت من مؤمن ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ وإن كانت من كافر فردوا على ما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقال لهم: ﴿وَعَلَيْكُمْ﴾، وقال عطاء: الآية في المؤمنين خاصة، ومن سلم من غيرهم قيل له: عليك، كما جاء في الحديث، قلت: فقد جاء إثبات الواو وإسقاطها في صحيح مسلم ﴿عَلَيْكَ﴾ بغير واو وهي الرواية الواضحة المعنى، وأما مع إثبات الواو ففيها إشكال، لأن الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سآمة ديننا، فاختلف المتأولون لذلك على أقوال:
أ. أولاها أن يقال: إن الواو على بابها من العطف، غير أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: هي زائدة.
ج. وقيل: للاستئناف.
د. والأولى أولى، ورواية حذف الواو أحسن معنى وإثباتها أصح رواية وأشهر، وعليها من العلماء الأكثر.
13. اختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين، وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة تمسكا بعموم الآية وبالأمر بالرد عليهم في صحيح السنة، وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب، فإن رددت فقل: عليك، واختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام، أي ارتفع عنك، واختار بعض علمائنا السلام (بكسر السين) يعني به الحجارة، وقول مالك وغيره في ذلك كاف شاف كما جاء في الحديث، وسيأتي في سورة مَرْيَمَ القول في ابتدائهم بالسلام عند قوله تعالى إخبارا عن إبراهيم في قوله لأبيه ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شي إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)، وهذا يقتضي إفشاءه بين المسلمين دون المشركين.
14. لا يسلم على المصلي فإن سلم عليه فهو بالخيار إن شاء رد بالإشارة بإصبعه وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يرد، ولا ينبغي أن يسلم على من يقضي حاجته فإن فعل لم يلزمه أن يرد عليه، دخل رجل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في مثل هذه الحال فقال له: (إذا وجدتني أو رأيتني على هذه الحال فلا تسلم علي فإنك إن سلمت علي لم أرد عليك)، ولا يسلم على من يقرأ القرآن فيقطع عليه قراءته، وهو بالخيار إن شاء رد وإن شاء أمسك حتى يفرغ ثم يرد، ولا يسلم على من دخل الحمام وهو كاشف العورة، أو كان مشغولا بما له دخل بالحمام، ومن كان بخلاف ذلك سلم عليه.
15. ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ معناه حفيظا، وقيل: كافيا، من قولهم: أحسبني كذا أي كفاني، ومثله حسبك الله، وقال قتادة: محاسبا كما يقال: أكيل بمعنى مواكل، وقيل: هو فعيل من الحساب، وحسنت هذه الصفة هنا، لأن معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجئ به.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/297.
(2) يقصد هنا المالكية خصوصا
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ التحية: تفعلة من حييت، والأصل تحيية، مثل: ترضية وتسمية، فأدغموا الياء في الياء، وأصلها: الدعاء بالحياة، والتحية: السلام، وهذا المعنى هو المراد هنا، ومثله قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ﴾ وإلى هذا ذهب جماعة المفسرين، وروي عن مالك: أن المراد بالتحية هنا: تشميت العاطس، وقال أصحاب أبي حنيفة، التحية هنا: الهدية، لقوله: ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ ولا يمكن ردّ السلام بعينه، وهذا فاسد لا ينبغي الالتفات إليه.
2. المراد بقوله: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾: أن يزيد في الجواب على ما قاله المبتدئ بالتحية، فإذا قال المبتدئ: السلام عليكم، قال المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا زاد المبتدئ لفظا، زاد المجيب على جملة ما جاء به المبتدئ لفظا أو ألفاظا نحو: وبركاته ومرضاته وتحياته، قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، وردّه فريضة، لقوله: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزئ أولا؟ فذهب مالك والشافعي إلى الإجزاء، وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجزئ عن غيره، ويردّ عليهم حديث عليّ عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (يجزئ عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يردّ أحدهم) أخرجه أبو داوود وفي إسناده سعيد بن خالد الخزاعي المدني وليس به بأس، وقد ضعفه بعضهم، وقد حسن الحديث ابن عبد البرّ.
3. معنى قوله: ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ الاقتصار على مثل اللفظ الذي جاء به المبتدئ، فإذا قال السلام عليكم، قال المجيب: وعليك السلام، وقد ورد في السنة المطهرة في تعيين من يبتدئ بالسلام، ومن يستحق التحية، ومن لا يستحقها: ما يغني عن البسط هاهنا.
4. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ يحاسبكم على كل شيء وقيل: معناه: حفيظا؛ وقيل: كافيا، من قولهم: أحسبني كذا، أي: كفاني، ومثله: (حسبك الله)
__________
(1) فتح القدير: 1/570.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ﴾ جائزة شرعًا، سلام أو غيره، واختار النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : (السلام عليكم)، وجعله سنَّة مؤكَّدة عند الملاقاة، وقيل: واجبة، وأمَّا عند دخول بيوت غيركم فالسلام واجب بنصِّ القرآن، وقال الجمهور: المراد إذا حييتم بلفظ من ألفاظ السَّلام، مثل: (السَّلام عليكم)، و(سلام عليكم)، و(عليكم السَّلام)، و(عليكم سلام)، و(عليك) و(عليكما)، و(عليكنَّ)، لجواز الجمع والتذكير ولو مع المفرد المؤنَّث لقصد الملائكة، و(السلام عليكم ورحمة الله)، وينبغي الجمع في الفرد والاثنين ليعمَّ الملائكةَ بقصده، فيجيبوا، ودعاؤهم لا يردُّ.
2. والتحيَّة تَفْعِلَةٌ، أصله: (تَحْيِـيَة) بإسكان الحاء، وكسر الياء الأولى وفتح الثانية، نقلت كسرتها للحاء وأدغمت في الثانية، وأصل هذا (تحيـيـيٌ) بوزن تعليم وتقديس، حذفت الياء الثانية وبقيت الأولى الثالثة، وعوِّضت التاء عنها، وأصل معناه: دعاء ببقاء الحياة، ثمَّ جعل دعاءً بالخير، وكلُّ خير معه حياة، وقيل: المراد العطيَّة، وهو قول قديم الشافعيِّ ـ وما لَه ببغداد هو قديم، أو بمصر فجديد ـ فيكافِئُ بأفضل أو بالمثل، ويقال: تحيَّة النصارى: وضع اليد على الفم، وبعض منهم بالكفِّ، واليهود: الإشارة بالأصابع، والمجوس: الانحناء، والعرب: (عِمْ صَباحًا) و(حيَّاك الله)، وبعد الإسلام: (السلام عليكم)
3. ﴿فَحَيُّواْ﴾ مَنْ حَيَّاكم، ويكفي ردُّ الصبيِّ والمرأةِ والعبدِ، وقيل في الشابة المشتهاة: إنَّه لا يجزي ردُّها، ولا يجزي ردُّ المشرك، وقيل: يجزي.
4. ﴿بِأَحْسَنَ مِنْهَآ﴾ إن كان من سلَّم عليكم مؤمنًا، وقال البخاري في الأدب وابن أبي شيبة: مطلقًا، ويعنِي للمشرك أمرَ الدُّنيا، كما قال الشعبيُّ، ﴿أَوْ رُدُّوهَآ﴾ ردُّوا مثلها، فأحسن منها: (وعليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته)، وردُّ مثلها: (وعليك السَّلام)، قال رجل لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم : (السلام عليك)، فقال: (وعليك السَّلام ورحمة الله وبركاته)، وقال آخر: (السلام عليك ورحمة الله)، فقال: (وعليك السَّلام ورحمة الله وبركاته)، وقال آخر: (السَّلام عليك ورحمة الله وبركاته)، فقال: (وعليك)، فقال: (نقصتني، فأين ما قال الله تعالى)؟ وَتلا الآية، فقال: (إنَّك لم تترك لي فضلاً، فرددت عليك مثله)، والرجل توهَّم أنَّ الزيادة لا نهاية لها ولم يدر أنَّها انتهت في البركات، كما روي أنَّ أحدًا زاد لابن عبَّاس على البركات فقال ابن عبَّاس: (السَّلام انتهى في البركات)، وذلك لحصول أقسام المطالب: السلامة من الآفات وحوز المنافع وثباتها، وقيل: السَّلام من السِّلم ضدّ الحرب، وقيل: اسم الله، بمعنى: رحمة الله بتقدير مضاف، وقال معاذ بزيادة: (ومغفرته)، كما روى أبو داود والبيهقي وزاد ابن عمر لسالم مولاه إذ سلَّم عليه: (وطيِّب صلواته) رواه البخاري في الأدب، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (السَّلام عليكم بعشر حسنات، والسلام عليكم ورحمة الله بعشرين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته بثلاثين)
5. وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم)، أي: وعليكم ما قلتم، لأنَّهم يقولون: (السام عليكم)، والمراد اليهود لأنَّهم الغاشون، وأنَّهم المعتادون المجاورون في المدينة وأعمالها، ويدلُّ له ما روي: (لا تبتدئ اليهوديَّ بالسلام، وإن بدأك فقل: وعليك)، وربَّما لم يرد سوءًا، فلا يضرُّنا أن يكون عليه ما قال، وهو سلامة البدن والمال مثلاً.
6. زعم أبو يوسف أنَّه إن قيل لك: (أقرئ فلانًا منِّي السَّلام وجب عليك أن تبلِّغه)، وليس كذلك، إِلَّا إن أنعمت له، قيل: أو سكتَّ، ولعلَّه أراد هذا، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ يحاسبكم على التحيَّة والردِّ وغيرهما.
7. ولا يُسلَّم على مشتغل بالخطبة أو القراءة أو الحساب أو غير ذلك، ولا من في الحمَّام، وقيل: إن كان بلا إزار، وفي قضاء حاجة الإنسان، أو في معصية، والسنَّة السَّلام في المسجد، كما ذكر الربيع والبخاري أنَّ الناس سلَّموا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المسجد ولم ينههم، ويَردُّ عليهم السَّلام، وكثر ذلك، والحمد لله، أمَّا من رأيته يصلِّي أو يقرأ أو يذكر الله في المسجد فذلك لا يسلَّم عليه لأجل اشتغاله، ومن لم تر منه ذلك فسلِّم عليه ولو احتمل أنَّه في ذكر أو قراءة، كما يسلِّم الصحابة على النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كان وحده أو مع الناس.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/241.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾ أي إذا سلم عليكم فدعى لسلامة حياتكم وصفاتكم التي بها كمال الحياة بتحية، فقيل: السلام عليكم ﴿فَحَيُّوا﴾ أي: أداء لحق المسلّم عليكم ﴿بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ أي: بتحية أحسن منها، بأن تقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله، ولو قالها المسلم، زيد: وبركاته، قال الراغب: أصل التحية الدعاء بالحياة وطولها، ثم استعملت في كل دعاء، وكانت العرب، إذا لقي بعضهم بعضا، يقول: حيّاك الله، ثم استعملها الشرع في السلام، وهي تحية الإسلام، قال الله تعالى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ [إبراهيم: 23]، وقال: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾ [الأحزاب: 44]، وقال: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [النور: 61]
2. قالوا: في السلام مزية على (حياك) لما أنه دعاء بالسلامة عن الآفات الدينية والدنيوية، وهي مستلزمة لطول الحياة، وليس في الدعاء بطول الحياة ذلك، ولأن السلام من أسمائه تعالى، فالبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته.
3. ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ أي: أجيبوها بمثلها، ورد السلام ورجعه: جوابه بمثله، لأن المجيب يرد قول المسلّم ويكرره ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ أي: فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم التي من جملتها ما أمرتم به من التحية، فحافظوا على مراعاتها حسبما أمرتم به.
4. نكتة نظمها مع آيات الجهاد هو التمهيد لمنع المؤمنين من قتل من ألقى إليهم السلام في الحرب الآتي قريبا، ببيان أن لكل مسلّم حقا يؤدى إليه، وذلك لأن السلام نوع من الإكرام، والمكرم يقابل بمثل إكرامه أو أزيد، قال الرازيّ: إن الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه، فقد لا يلتفت إلى سلامه عليه ويقتله، وربما ظهر أنه كان مسلما، فمنع الله المؤمنين عنه، وأمرهم أن كل من يسلّم عليهم ويكرمهم بنوع من الإكرام يقابلونه بمثل ذلك الإكرام أو أزيد، فإنه إن كان كافرا لا يضر المسلم، إن قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الإكرام، أما إن كان مسلما، وقتله، ففيه أعظم المضار والمفاسد، ولذا قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾، أي هو محاسبكم على كل أعمالكم، وكاف في إيصال جزاء أعمالكم إليكم، فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف، فهذا يدل على شدة العناية بحفظ الدماء، والمنع من إهدارها، وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه، وإن كان مجوسيّا، ذلك بأن الله يقول: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾، وقال قتادة: فحيوا بأحسن منها، يعني للمسلمين، أو ردوها، يعني لأهل الذمة، ومن هنا حكى الماورديّ وجها: إنه يقول في الرد على أهل الذمة، إذا ابتدءوا: وعليكم السلام، ولا يقول: ورحمة الله، نقله عنه النوويّ، وروى الزمخشريّ عن الحسن أنه يجوز أن يقال للكافر: وعليك السلام، ولا تقل: ورحمة الله، فإنها استغفار، وعن الشعبيّ أنه قال لنصرانيّ سلم عليه: وعليك السلام ورحمة الله، فقيل له في ذلك، فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ انتهى، والظاهر أنه لحظ الأخبار بذلك ولم يرد مضمون التحية، ومع هذا فالثابت في الصحيحين عن أنس مرفوعا: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم، كما يأتي، قال السيوطيّ في (الإكليل): في هذه الآية مشروعية السلام ووجوب رده، واستدل بها الجمهور على رد السلام على كل مسلّم، مسلما كان أو كافرا، لكن مختلفان في صيغة الرد.
5. ورد في إفشاء السلام أحاديث كثيرة، منها:
أ. قول البراء بن عازب: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بسبع، منها: وإفشاء السلام، رواه الشيخان.
ب. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، رواه مسلم.
ج. وعن عبد الله بن سلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)
6. في كيفية السلام، قال الرازيّ: إن شاء قال: سلام عليكم، وإن شاء قال: السلام عليكم، قال تعالى في حق نوح: ﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا﴾ [هود: 48]، وقال عن الخليل: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم: 47]، وقال في قصة لوط: ﴿قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾ [هود: 69]، وقال عن يحيى ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ﴾ [مريم: 15]، وقال عن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل: 59]، وقال عن الملائكة: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرعد: 23 ـ 24]، وقال عن نفسه المقدسة: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: 58]، وقال ﴿فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 54]، وأما بالألف واللام فقوله عن موسى عليه السلام: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ [طه: 47]، وقال عن عيسى عليه السلام: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 33]، فثبت أن الكل جائز، قال أبو الحسن الواحديّ: أنت في تعريف السلام وتنكيره بالخيار.. ولكثرة ورود التنكير في القرآن، على ما بيناه، فضله بعضهم على التعريف.
7. في فضله:
أ. روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذيّ والدارميّ عن عمران بن الحصين قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: السلام عليكم، فرد عليه ثم جلس، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: عشر، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه فجلس فقال: عشرون، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه فجلس فقال: ثلاثون، قال الترمذيّ حديث حسن.
ب. وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حنيف، وقال البزار: قد روي هذا عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من وجوه، هذا أحسنها إسنادا، وفي رواية لأبي داود، من رواية معاذ ابن أنس زيادة على هذا، قال: ثم أتى آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: أربعون، وقال: هكذا تكون الفضائل، وفيه رد على من زعم أنه لا يزاد على (وبركاته)، لا يقال رواية (ومغفرته) عند أبي داود، هي من طريق أبي مرحوم واسمه عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ عن أبيه، وأبو مرحوم ضعفه يحيى، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به ـ لأنا نقول: قد حسّن الترمذيّ روايته عن سهل بن معاذ، وصححها أيضا هو وابن خزيمة والحاكم وغيرهم، قال النسائيّ لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه.
ج. روى الطبراني عن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من قال: السلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن قال: السلام عليكم ورحمة الله، كتبت عشرون حسنة، ومن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة)
د. وروى ابن حيان في صحيحه عن أبي هريرة أن رجلا مرّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في مجلس فقال: سلام عليكم، فقال: عشر حسنات، ثم مرّ آخر فقال: سلام عليكم ورحمة الله فقال: عشرون حسنة، ثم مرّ آخر فقال: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال: ثلاثون حسنة، فقام رجل من المجلس ولم يسلّم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما أوشك ما نسي صاحبكم، إذا جاء أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، وإن قام فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة.
هـ. وروى الطبرانيّ بإسناد جيد عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أبخل الناس من بخل بالسلام، ورواه أيضا عن أبي هريرة، ولأحمد والبزار نحوه عن جابر.
و. وروى الطبراني عن حذيفة بن اليمان عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده تناثرت خطاياهما كما تتناثر ورق الشجر، قال المنذريّ: ورواته لا أعلم فيهم مجروحا.
ز. وروى البزار عن عمر بن الخطاب قال: (قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إذا التقى الرجلان المسلمان فسلم أحدهما على صاحبه، فإنّ أحبهما إلى الله أحسنهما بشرا لصاحبه، فإذا تصافحا نزلت عليهما مائة رحمة: للبادئ منهما تسعون، وللمصافح عشرة)
ح. وروى أبو داود عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام.
8. في بعض أحكامه المأثورة:
أ. روى أبو داود عن عليّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم)
ب. وفي الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم، قال النوويّ: هذا مرسل صحيح الإسناد.
ج. وفي الصحيحينعن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام، قالت قلت: وعليه السلام ورحمة الله، ترى ما لا نرى (تريد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال النوويّ: ووقع في بعض روايات الصحيحين (وبركاته)، ولم يقع في بعضها، وزيادة الثقة مقبولة.
د. وفي سنن أبي داودعن غالب القطان عن رجل قال: حدثني أبي عن جدي قال: بعثني أبي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ائته فأقرئه السلام، فأتيته فقلت: إن أبي يقرئك السلام، فقال: عليك وعلى أبيك السلام، قال النوويّ: هذا وإن كان رواية عن مجهول، فأحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم، فيستفاد منه الرد على المبلّغ كالمسلّم.
هـ. وروى أبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه، ففيه أن من سلم عليه إنسان، ثم لقيه على قرب، ندب التسليم عليه ثانيا وثالثا.
و. وروى الشيخان عن أبي هريرة أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير.
ز. وروى الشيخان عن أنس: أنه مر على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يفعله.
ح. ولفظ أبي داود أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على غلمان يلعبون فسلم عليهم، وعند ابن السنيّ فيه، فقال: السلام عليكم يا صبيان.
ط. وروى أبو داود عن أسماء بنت يزيد قالت: مرّ علينا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في نسوة فسلم علينا، وروى الترمذيّ نحوه.
ي. وروى الشيخان عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إذا سلم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم.
ك. ورويا عن أسامة أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مرّ على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فسلم عليهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ل. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه، قال النوويّ: روينا في موطأ مالك أنه سئل عمن سلم على اليهوديّ أو النصرانيّ هل يستقيله ذلك؟ فقال: لا، قال أبو سعد المتولي الشافعيّ: لو أراد تحية ذميّ، فعلها بغير السلام، بأن يقول: هداك الله أو أنعم الله صباحك، قال النوويّ، هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به، إذا احتاج إليه فيقول: صبحت بالخير أو بالسعادة أو بالعافية، أو صبحك الله بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرة أو ما أشبه ذلك.
9. قال الحسن البصريّ: السلام تطوع والرد فريضة، قال ابن كثير: وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة: أن الرد واجب على من سلّم عليه، فيأثم إن لم يفعل لأنه خالف أمر الله في قوله: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾، انتهى، وفي ترك الرد إهانة وازدراء وهو حرام، ولذا ندب للجمع المسلم عليهم أن يجيبوا كلهم إظهارا للإكرام ومبالغة فيه، وإن كان الفرض يسقط ببعضهم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/244
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال محمد عبده بعد أن علم الله المؤمنين طريقة الشفاعة الحسنة والسيئة وهي من أسباب التواصل بين الناس علّمهم سنة التحية بينهم وبين إخوانهم الضعفاء والأقوياء في الإيمان وحسن الأدب بينهم وبين من يلقونه في أسفارهم فقال: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾، وهذا ما يراه الأستاذ في وجه الاتصال والمناسبة بين الآية والتي قبلها، وذكر الرازي في النظم وجهين:
أ. الأول: أنه لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضا بأن يرضوا بالمسالمة إذا رضي الأعداء بها فهذه الآية عنده كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: 61]
ب. الثاني: أن الرجل كان يلقى الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه فقد لا يلتفت إلى سلامه ويقتله فمنع الله المؤمنين من ذلك وأمرهم بأن يقابلوا كل من يسلم عليهم أو يكرمهم بنوع من الإكرام بمثل ما قابلهم به أو بأحسن منه.
2. هذا ملخص قوله، وفي الأول: أنه جعل التحية بمعنى السلام والسلم، وفي الثاني: من التوسع في التحية ما فيه وسيأتي في هذه السورة: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: 94] وقد ذكر هنا أدب التحية كما ذكر ما ينبغي وما لا ينبغي في الشفاعة لأن لكل من التحية والشفاعة شأنا عظيما في حال القتال، يكون به نفعهما أو ضررهما أقوى منه في سائر الأحوال، ويدل على ذلك في التحية اشتقاقها من الحياة.
3. التحية مصدر حياة إذا قال له حيّاك الله، هذا هو الأصل ثم صارت التحية اسما لكل ما يقوله المرء لمن يلاقيه أو يقبل هو عليه من نحو دعاء أو ثناء كقولهم أنعم صباحا وأنعم مساء، وقالوا عم صباحا ومساء، وجعلت تحية المسلمين السلام للإشعار بأن دينهم دين السلام والأمان وأنهم أهل السلم ومحبو السلامة، ومن التحيات الشائعة في بلادنا إلى هذا اليوم: أسعد الله صباحكم، أسعد الله مساءكم وهذا بمعنى قول العرب القدماء أنعم صباحا ومساء ونهارك سعيد، وليلتك سعيدة وهذا مترجم عن الإفرنجية.
4. وقد أوجب الله تعالى علينا في هذه الآية أن نجيب من حيانا بأحسن من تحيته أو بمثلها أو عينها كأن نقول له الكلمة التي يقولها وهذا هو ردها، وفسروه بأن تقول لمن قال السلام عليكم، بقولك وعليكم السلام، والأحسن أي تقول وعليكم السلام ورحمة الله، فإذا قال هذا في تحيته فالأحسن أن تقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وهكذا يزيد المجيب على المبتدئ كلمة أو أكثر، وقد يكون أحسن الجواب بمعناه أو كيفية أدائه وإن كان بمثل لفظ المبتدئ بالتحية أو مساويه في الألفاظ أو ما هو أخصر منه، فمن قال لك أسعد الله صباحكم ومساءكم، فقلت له أسعد الله جميع أوقاتكم كانت تحيتك أحسن من تحيته، ومن قال لك السلام عليكم بصوت خافت يشعر بقلة العناية فقلت له وعليكم السلام بصوت أرفع وإقبال يشعر بالعناية وزيادة الإقبال والتكريم كنت قد حييته بتحية أحسن من تحيته في صفتها، وإن كانت مثلها في لفظها، والناس يفرقون في القيام للزائرين بين من يقوم بحركة خفيفة وهمة تشعر بزيادة العناية ومن يقوم متثاقلا، ومن أهل دمشق من يشترطون في العناية بالقيام إظهار الاندهاش فيقولون قام له باندهاش أو قام بغير اندهاش.
5. علم من الآية أن الجواب عن التحية له مرتبتان أدناهما ردها بعينها وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها، فالمجيب مخير وله أن يجعل الأحسن لكرام الناس كالعلماء والفضلاء، ورد عين التحية لمن دونهم، وروي عن قتادة وابن زيد أن جواب التحية بأحسن منها للمسلمين وردها بعينها لأهل الكتاب، وقيل للكفار عامة، ولا دليل على هذه التفرقة من لفظ الآية ولا من السنة، وقد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال من سلم عليك من خلق الله فردد عليه وإن كان مجوسيا فإن الله يقول: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ وقد نزلت هذه الآية في سياق أحكام الحرب ومعاملة المحاربين والمنافقين ومن قال لخصمه (السلام عليكم) فقد أمنه على نفسه وكانت العرب تقصد هذا المعنى والوفاء من أخلاقهم الراسخة، ولذلك عدّ محمد عبده ذكر التحية مناسبا للسياق بكونها من وسائل السلام، ولما صار لفظ السلام تحية المسلمين صارت التحية به عنوانا على الإسلام كما يأتي في قوله تعالى من هذه السورة ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: 94]
6. مما ينبغي بيانه هنا أن بعض المسلمين يكرهون أن يحييهم غيرهم بلفظ السلام ويرون أنه لا ينبغي رد السلام على غير المسلم، أي يرون أنه لا ينبغي لغير المسلم أن يتأدب بشيء من آداب الإسلام، وفاتهم أن الآداب الإسلامية إذا سرت في قوم يألفون المسلمين ويعرفون فضل دينهم وربما كان ذلك أجذب لهم إلى الإسلام، ومن صفات المؤمن أنه يألف ويؤلف.
7. سؤال وإشكال: سئلت عن هذه الآية وآية النور: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾ [النور: 27] هل السلام فيهما على إطلاقه وعمومه فيشمل المسلمين أم هو خاص بالمسلمين؟ والجواب:
أ. إن الإسلام دين عام ومن مقاصده نشر آدابه وفضائله في الناس ولو بالتدريج وجذب بعضهم إلى بعض ليكون البشر كلهم إخوة، ومن آداب الإسلام التي كانت فاشية في عهد النبوة إفشاء السلام إلا مع المحاربين لأن من سلم على أحد فقد أمنه فإذا فتك به بعد ذلك كان خائنا ناكثا للعهد، وكان اليهود يسلمون على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيرد عليهم السلام حتى كان من بعض سفهائهم تحريف السلام بلفظ (السام) أي الموت فكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يجيبهم بقوله: (وعليكم) وسمعت عائشة واحدا منهم يقول له: السام عليك، فقالت له: وعليك السام واللعنة، فانتهرها صلّى الله عليه وآله وسلّم مبينا لها أن المسلم لا يكون فاحشا ولا سبابا وأن الموت علينا وعليهم، وروي عن بعض الصحابة كابن عباس أنهم كانوا يقولون للذمي: السلام عليك، وعن الشعبي من أئمة السلف أنه قال لنصراني سلم عليه: عليك السلام ورحمة الله تعالى، قيل له في ذلك فقال (أليس في رحمة الله يعيش) وفي حديث البخاري الأمر بالسلام على من تعرف ومن لا تعرف، وروى ابن المنذر عن الحسن أنه قال: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ للمسلمين ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ لأهل الكتاب وعليه يقال للكتابي في رد السلام عين ما يقوله وإن كان فيه ذكر الرحمة.
ب. هذه لمحة مما روي عن السلف ثم جاء الخلف فاختلفوا في السلام على غير المسلم فقال كثيرون إنهم لا يُبدؤون بالسلام لحديث ورد في ذلك وحملوا ما روي عن ابن عباس ما على الحاجة أي لا يسلم عليهم ابتداء إلا لحاجة، وأما الرد فقال بعض الفقهاء إنه واجب كرد سلام المسلم وقال بعضهم أنه سنة وفي الخانية من كتب الحنفية: ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالرد، وهذا يدل على أنه مباح عند هذا القائل لا واجب ولا مسنون مع أن السنة وردت به في الصحيح.
ج. أما ما ورد من حق المسلم على المسلم فلا ينافي حق غيره، فالسلام حق عام، ويراد به أمران: مطلق التحية وتأمين من تسلم عليه من الغدر والإيذاء وكل ما يسئ، وقد روى الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة: (أن الله تعالى جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا) وأكثر الأحاديث التي وردت في السلام عامة وذكر في بعضها المسلم كما ذكر في بعضها غيره كحديث الطبراني المذكور آنفا.
د. أما جعل تحية الإسلام عامة فعندي أن ذلك مطلوب وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن اليهود كانوا يسلمون على المسلمين فيردون عليهم فكان من تحريفهم ما كان سببا لأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والسلم بأمر المسلمين أن يردوا عليهم بلفظ (وعليكم) حتى لا يكونوا مخدوعين للمحرفين، ومن مقتضى القواعد أن الشيء يزول بزوال سببه، ولم يرد أن أحدا من الصحابة نهى اليهود عن السلام، لأنهم لم يكونوا ليحظروا على الناس آداب الإسلام، ولكن خلف من بعدهم خلف أرادوا أن يمنعوا غير المسلم من كل شيء يعمله المسلم حتى من النظر في القرآن وقراءة الكتب المشتملة على آياته وظنوا أن هذا تعظيم للدين، وصون له عن المخالفين، وكلما زادوا بعدا عن حقيقة الإسلام زادوا إيغالا في هذا الضرب من التعظيم، وإنهم ليشاهدون النصارى في هذا العصر يجتهدون بنشر دينهم ويوزعون كثيرا من كتبه على الناس مجانا ويعلمون أولاد المخالفين لهم في مدارسهم ليقربوهم من دينهم ويجتهدون في تحويل الناس إلى عاداتهم وشعائرهم ليقربوا من دينهم حتى أن الأوروبيين فرحوا فرحا شديدا عندما وافقهم خديو مصر (إسماعيل باشا) على استبدال التاريخ المسيحي بالتاريخ الهجري وعدّوا هذا من آيات الفتح، ونرى القوم الآن يسعون في جعل يوم الأحد عيدا أسبوعيا للمسلمين يشاركون فيه النصارى بالبطالة، ومع هذا كله نرى المسلمين لا يزالون يحبون منع غيرهم من الأخذ بآدابهم وعاداتهم ويزعمون أن هذا تعظيم للدين، وكأن هذا التعظيم لا نهاية له إلا حجب هذا الدين عن العالمين، إن هذا لهو البلاء المبين، وسيرجعون عنه بعد حين)
8. هذا ما أفتينا به منذ بضع سنين وحديث عائشة المشار إليه في الفتوى رواه الشيخان في صحيحيهما، والرد على أهل الكتاب بلفظ (وعليكم) رواه الشيخان أيضا عن أنس، ورويا عن أبي هريرة عدم ابتدائنا إياهم بالسلام ولعل ذلك كان لأسباب خاصة اقتضاها ما كان بينهم وبين المسلمين من الحروب وكانوا هم المعتدين فيها، روى أحمد عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إني راكب غدا إلى اليهود فلا تبدؤوهم بالسلام وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم) فيظهر هنا أنه نهاهم أن يبدءوهم لأن السلام تأمين وما كان يحب أن يؤمنهم وهو غير أمين منهم لما تكرر من غدرهم ونكثهم للعهد معه فكان ترك السلام عليهم تخويفا لهم ليكونوا أقرب إلى المواتاة، وقد نقل النووي في شرح مسلم جواز ابتدائهم بالسلام عن ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز قال: وهو وجه لأصحابنا، وعندي أن الحاجة إلى معرفة سبب الأحاديث لأجل فهم المراد منها أشد من الحاجة إلى معرفة سبب نزول القرآن، لأن القرآن كله هداية عامة للناس يجب تبليغها، وفي الأحاديث ما ليس فيه من الأمور الخاصة والرأي الذي لم يقصد به أن يكون دينا ولا هداية عامة ولا أن يبلغ للناس، فتوقف فهمها على معرفة أسبابها أظهر.
9. والذي عليه جماهير المسلمين في البلاد التي نعرفها أنهم يبدؤون أهل الكتاب بغير السلام من أنواع التحية المعروفة، بعد كتابة هذا راجعت (زاد المعاد) فإذا هو يقول في حديث النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام: (قيل إن هذا كان في قضية خاصة لما ساروا إلى بني قريظة) وتردد في كونه حكما عاما لأهل الذمة أو خاصا بمن كانت حاله مثل حالهم وذكر خلاف السلف في المسألة بعد حديث مسلم المطلق في النهي عن الابتداء.
10. هذا وإن ابتداء السلام سنة مؤكدة عند الجمهور وقيل واجب، وأما رده فالجمهور على وجوبه، وظاهر الآية أن رد كل تحية واجب وليس الوجوب خاصا بتحية السلام، ويكفي أن يسلم بعض الجماعة وأن يرد بعض من يلقى عليهم السلام لأن الجماعة لتضامنها واتحادها، يقوم فيها الواحد مقام الجميع، والسنة أن يسلم القادم على من يقدم عليهم وإذا تلاقى الرجلان فالسنة أن يبدأ الكبير في السن أو القدر بالسلام.
11. ومن آداب السلام ما ثبت في الصحيحين أنه (يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير) وروى البخاري سلام الصغير على الكبير، ومسلم أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم مرّ بصبيان فسلم عليهم، والترمذي أنه مرّ بنسوة فأومأ بيده بالتسليم، وقال بعض العلماء المستحب أن يسلم الرجال على النساء المحارم مطلقا والعجائز الأجنبيات دون غيرهن، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يسلم على القوم عند المجيء وعند الانصراف، ذكره ابن القيم في الهدي وقال: وكان يسلم بنفسه على من يواجهه ويحمل السلام لمن يريد السلام عليه من الغائبين عنه ويتحمل السلام لمن يبلغه إليه، وإذا بلغه أحد السلام عن غيره يرد عليه وعلى المبلغ به وكان يبدأ من لقيه بالسلام، وإذا سلم عليه أحد رد عليه مثل تحيته أو أفضل منها على الفور من غير تأخير إلا لعذر مثل حالة الصلاة وحالة قضاء الحاجة، وكان يسمع المسلم عليه رده، ولم يكن يرد بيده ولا رأسه ولا إصبعه إلا في الصلاة فإنه كان يرد إشارة، ثبت عنه ذلك في عدة أحاديث ولم يجيء عنه ما يعارضها إلا بشيء باطل لا يصح عنه (وذكر الحديث الذي يرويه أبو عطفان عن أبي هريرة في إعادة صلاة من أشار إشارة تفهم وأبو عطفان مجهول)
12. وورد في صفات المسلمين في حديث الصحيحين إفشاء السلام وكونه سبب الحب بينهم، ومنها حديث (أن أفضل الإسلام وخيره إطعام الطعام وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) وصح (أفشوا السلام بينكم تحابوا) رواه الحاكم عن أبي موسى و(أفشوا السلام تسلموا) رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى وابن حبان عن البراء، وفي صحيح البخاري قال عمّار: ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان (الإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار) فهذا من أدب الإسلام العالي الذي لا يكاد يجمعه غيره.
13. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ الحسيب المحاسب على العمل كالجليس بمعنى المجالس قال الراغب ويطلق على المكافئ وقال بعضهم معناه الكافي من حسبك كذا إذا كان يكفيك، قال محمد عبده المعنى أنه رقيب عليكم في مراعاة هذه الصلة بينكم بالتحية وفيه تأكيد لأمر هذه الصلة بين الناس وأقوال إن فيها أيضا إشعارا بحظر ترك إجابة من يسلم علينا ويحيينا وأنه تعالى يحاسبنا على ذلك.
__________
(1) تفسير المنار: 5/253.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن علّم سبحانه المؤمنين طريق الشفاعة الحسنة والسيئة وهي من أسباب التواصل بين الناس، علّمهم سنة التحية بينهم وبين إخوانهم ليؤدبهم بأدب دينه ويزكيهم ويطهر نفوسهم من الغل والحسد فقال: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ أي وإذا حياكم أحد بتحية فردوها بتحية مثلها، أو بتحية أحسن منها، فقولوا لمن قال السلام عليكم ـ وعليكم السلام، أو وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا قال هذا في تحيته فالأحسن أن تقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وهكذا يزيد المجيب على المبتدئ كلمة أو أكثر.
2. وقد يكون حسن الجواب بمعناه أو كيفية أدائه وإن كان بمثل لفظ المبتدئ بالتحية أو مساويه في الألفاظ أو أخصر منه، فمن قال لك: السلام عليكم بصوت خافت يشعر بقلة العناية، فقلت له: وعليكم السلام بصوت أرفع وبإقبال يشعر بالعناية وزيادة الإقبال والتكريم كنت قد حييته بتحية أحسن من تحيته في صفتها، وإن كانت مثلها في لفظها.
3. والخلاصة ـ إن الجواب عن التحية له مرتبتان: أدناهما ردها بعينها، وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها، والمجيب مخير بينهما، وقد روى ابن جرير عن ابن عباس عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا فإن الله يقول: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾)، ومن قال لخصمه السلام عليكم فقد أمنه على نفسه، وكانت العرب تقصد هذا المعنى والوفاء من شيمتها، وبعض المسلمين الآن يكره أن يحييهم غيرهم بلفظ السلام، كما يكرهون رد السلام على غير المسلم، وكأنهم غفلوا عن أن الآداب الإسلامية إذا ألفت عرفوا فضل الإسلام وجذبهم ذلك إليه.
4. السنة أن يسلم القادم على من يقدم عليه، وإذا تلاقى الرجلان يبدأ الكبير في السن أو القدر بالسلام، وقد جاء في الصحيحين أنه (يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير) وروى (أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مر بصبيان فسلم عليهم) وروى الترمذي (أنه مر بنسوة فأومأ بيده بالتسليم) وقد ورد في الصحيحين قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (إن أفضل الإسلام وخيره إطعام الطعام وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) وروى الحاكم قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (أفشوا السلام تسلموا): ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ أي إنه تعالى رقيب عليكم في مراعاة هذه الصلة بينكم بالتحية ويحاسبكم على ذلك، وفى هذا إشارة إلى تأكيد أمر هذه الصلة بين الناس، ووجوب رد التحية على من بسلم علينا ويحيينا.
__________
(1) تفسير المراغي 5/111.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. استطرد السياق بعد ذكر الشفاعة إلى الأمر برد التحية بخير منها أو بمثلها، والتحية في المجتمع علاقة من العلاقات التي تدور بها عجلة الحياة في يسر، إذا اتبع الأدب الواجب فيها.. والمناسبة قريبة بينها ـ في جو المجتمع ـ وبين الشفاعة التي سبق التوجيه فيها: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾..
2. وقد جاء الإسلام بتحيته الخاصة، التي تميز المجتمع المسلم؛ وتجعل كل سمة فيه ـ حتى السمات اليومية العادية ـ متفردة متميزة؛ لا تندغم ولا تضيع في سمات المجتمعات الأخرى ومعالمها.. جعل الإسلام تحيته: (السلام عليكم) أو (السلام عليكم ورحمة الله) أو (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته).. والرد عليها بأحسن منها بالزيادة على كل منها ـ ما عدا الثالثة فلم تبق زيادة لمستزيد ـ فالرد على الأولى (وعليكم السلام ورحمة الله) والرد على الثانية (وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته)، والرد على الثالثة (وعليكم..) إذا أنها استوفت كل الزيادات، فترد بمثلها.. وهكذا روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم..
3. ونقف أمام اللمسات الكامنة في آية التحية هذه:
أ. إنها ـ أولا ـ تلك السمة المتفردة، التي يحرص المنهج الإسلامي على أن يطبع بها المجتمع المسلم بحيث تكون له ملامحه الخاصة، وتقاليده الخاصة ـ كما أن له شرائعه الخاصة ونظامه الخاص ـ وقد سبق أن تحدثنا عن هذه الخاصية بالتفصيل عند الكلام عن تحويل القبلة، وتميز الجماعة المسلمة بقبلتها، كتميزها بعقيدتها .
ب. وهي ـ ثانيا ـ المحاولة الدائمة لتوثيق علاقات المودة والقربى بين أفراد الجماعة المسلمة.. وإفشاء السلام، والرد على التحية بأحسن منها، من خير الوسائل لإنشاء هذه العلاقات وتوثيقها، وقد سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أي العمل خير؟ قال: (تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف).. هذا في إفشاء السلام بين الجماعة المسلمة ابتداء، وهو سنة، أما الرد عليها فهو فريضة بهذه الآية.. والعناية بهذا الأمر تبدو قيمتها عند الملاحظة الواقعية لآثار هذا التقليد في إصفاء القلوب، وتعارف غير المتعارفين؛ وتوثيق الصلة بين المتصلين.. وهي ظاهرة يدركها كل من يلاحظ آثار مثل هذا التقليد في المجتمعات، ويتدبر نتائجها العجيبة!
ج. وهي ـ ثالثا ـ نسمة رخية في وسط آيات القتال قبلها وبعدها.. لعل المراد منها أن يشار إلى قاعدة الإسلام الأساسية.. السلام.. فالإسلام دين السلام، وهو لا يقاتل إلا لإقرار السلام في الأرض، بمعناه الواسع الشامل، السلام الناشئ من استقامة الفطرة على منهج الله.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/726.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. التحيّة التي يتبادلها الناس فيما بينهم، هى مفتاح يفتح مغالق القلوب فيهم، وأشعة دافئة تذيب الثلج وتدفع الضباب الذي بينهم.. ولهذا كانت عرفا ملتزما في مختلف الأمم، والشعوب، على مدى الأزمان.. وهى في الإسلام، خير يتهاداه الناس، وبرّ يلقى به بعضهم بعضا.. من قبض يده عن بذله، أو كفّها عن أخذه، فقد فاته حظه من هذا الخير، وحرم نصيبه من هذا البرّ.. وقد أخذ الإسلام المسلمين بهذا الأدب الإنسانى، وجعله شعيرة من شعائر الإسلام، وأوجب على من بدأه أحد بتحية، أن يتقبلها بقبول حسن، وأن يردّها بتحية مثلها، أو خير منها.. إذ كان الذي بدأ بالتحية، قد بدأ بفضل وإحسان، ورد التحية بمثلها قضاء لقرض حسن، فلا حمد لمن أدّى ما اقترض.. والحق يقتضيه أن يشكر لمقرضه، ويثنى عليه.. ومن حق البادئ بالتحية أن يردّ عليه بأحسن مما بدأ به.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.. ومقابلة الإحسان بالإحسان ليست جزاء له، وإنما هى وفاء له، والجزاء يكون بمقابلة الإحسان بما هو أحسن من هذا الإحسان..
2. والتحية الطيبة بين المسلمين هى من الشفاعة الحسنة التي أشارت إليها الآية السابقة.. وهى وجه من وجوه تلك الشفاعة.. وتحية الإسلام، هى كلمة: (السّلام) مشتقة من الإسلام، يلقى بها الإنسان أخاه قائلا: (السلام عليكم) فيلقاه أخوه بها قائلا: (وعليكم السلام ورحمة الله).. وفي هذا الجوّ الذي تتردد في جنباته كلمات السلام، تفيء النفوس إلى السّلم، وتهفو إلى العافية، وتستروح روح المودة والإخاء..
3. وإذ يأخذ المسلمون أنفسهم بهذا الأدب الإسلامى، وإذ تشيع بينهم هذه الكلمة الطيبة الرائعة، وإذ ينطق بها من نطق عن وعى ويقظة، وإذ يتلقاها من تلقّى عن إدراك وفهم، فإنك لن تجد في مجتمع يتخذ هذه الكلمة شعارا ودثارا ـ قلبا يحمل بغضة، أو صدرا ينطوى على عداوة، وإنه لا شىء إلا المودة والحب والسلام..
4. وإذا كان الإسلام قد آثر كلمة (السّلام) لما يشعّ منها من المعاني الكريمة الطيبة، التي تقتل جراثيم العداوة والبغضة، فإنه ـ مع هذا ـ يتقبل أية تحية طيبة يتبادلها الناس، ويتوسمون فيها سمات الخير والإحسان.. ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ غير مقيد التحية بقيد مخصوص، ولا واقف بها على صورة خاصة، ليتيح للناس من التحايا ما يغذى عواطف الأخوة والمودة بينهم، سواء أكانت تلك التحية لفظة ملفوظة، أو حركة معبّرة، أو إشارة دالة، أو إماءة موحية.. إذ لا يعنى الإسلام من هذا إلا الأثر المترتب عليه، ولا يعنيه شىء ممّا يظهر فيه من صور وأشكال، وإن كانت كلمة السلام هى تحية الإسلام، وشارة المسلمين.
5. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ إشارة إلى أن هذه التحية حق من الحقوق الواجب بذلها، كما أنها حق من الحقوق الواجب أداؤها إلى أصحابها.. وأداؤها يكون بقبولها، وردّها بأحسن منها! وأن الله سبحانه حسيب على كل شىء.. يضبطه، ويجازى عليه! ومع أن التحية مجرد كلمات قليلة متبادلة بين الناس والناس، لا يتكلف لها الناس جهدا، ولا ينفقون في سبيلها مالا إلّا أن كثيرا من الناس يضنّون بها، ويمسكون ألسنتهم عنها، ولا يعدّونها معاملة كريمة يتعاملون مع الناس بها، أخذا أو إعطاء! وذلك لا يكون إلا عن نفس مريضة، وطبع لئيم.. إذ أنه ليس في باب الإحسان مثل التحيّة، في خفّة محملها، وقلة مئونتها، مع كثرة محصولها، وطيب ثمرها.. وليس في الناس أخسر صفقة، وأنكد حظّا ممن لا يحصّل هذا الخير الكثير، الذي يجىء إليه صفوا عفوا.. من غير ثمن!
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/852.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ عطف على جملة ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ [النساء: 85] باعتبار ما قصد من الجملة المعطوفة عليها، وهو الترغيب في الشفاعة الحسنة والتحذير من الشفاعة السيّئة، وذلك يتضمّن الترغيب في قبول الشفاعة الحسنة وردّ الشفاعة السيّئة، وإذ قد كان من شأن الشفيع أن يدخل على المستشفع إليه بالسلام استئناسا له لقبول الشفاعة، فالمناسبة في هذا العطف هي أنّ الشفاعة تقتضي حضور الشفيع عند المشفوع إليه، وأنّ صفة تلقّي المشفوع إليه للشفيع تؤذن بمقدار استعداده لقبول الشفاعة، وأنّ أول بوادر اللقاء هو السلام وردّه، فعلّم الله المسلمين أدب القبول واللقاء في الشفاعة وغيرها ـ وقد كان للشفاعات عندهم شأن عظيم، وفي الحديث: مرّ رجل فقال رسول الله: ماذا تقولون فيه؟ قالوا: هذا جدير إن شفع أن يشفّع.. الحديث ـ حتى إذا قبل المستشفع إليه الشفاعة كان قد طيّب خاطر الشفيع، وإذا لم يقبل كان في حسن التحية مرضاة له على الجملة، وهذا دأب القرآن في انتهاز فرص الإرشاد والتأديب، بهذا البيان تنجلي عنك الحيرة التي عرضت في توجيه انتظام هذه الآية مع سابقتها، وتستغني عن الالتجاء إلى المناسبات الضعيفة التي صاروا إليها.
2. دلّ قوله: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ على الأمر بردّ السلام، ووجوب الردّ لأنّ أصل صيغة الأمر أن يكون للوجوب على مقتضى مذهب الجمهور في محمل صيغة الأمر، ولذلك اتّفق الفقهاء على وجوب ردّ السلام، ثم اختلفوا إذا كان المسلّم عليهم جماعة هل يجب الردّ على كلّ واحد منهم:
أ. فقال مالك: هو واجب على الجماعة وجوب الكفاية فإذا رد واحد من الجماعة أجزأ عنهم، وورد في ذلك حديث صحيح؛ على أنّه إذا كانت الجماعة كثيرة يصير ردّ الجميع غوغاء.
ب. وقال أبو حنيفة: الردّ فرض على كلّ شخص من الجماعة بعينه، ولعلّ دليله في ذلك القياس.
3. دلّ قوله: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾ على أنّ ابتداء السلام شيء معروف بينهم، ودليله قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾ وسيأتي في سورة النور [27]، وأفاد قوله: ﴿بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ التخيير بين الحالين، ويعلم من تقديم قوله: ﴿بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ أنّ ذلك أفضل.
4. حييّ أصله في اللغة دعا له بالحياة، ولعلّه من قبيل النحت من قول القائل: حيّاك الله، أي وهب لك طول الحياة، فيقال للملك: حياك الله، ولذلك جاء في دعاء التشهّد (التحيّات للّه) أي هو مستحقّها لا ملوك الناس، وقال النابغة: (يحيّون بالرّيحان يوم السّباسب) أي يحيون مع تقديم الريحان في يوم عيد الشعانين ـ وكانت التحيّة خاصّة بالملوك بدعاء (حيّاك الله) غالبا، فلذلك أطلقوا التحية على الملك في قول زهير بن جنّات الكلبي: (ولكلّ ما نال الفتى قد نلته إلّا التحيّة)، يريد أنّه بلغ غاية المجد سوى الملك، وهو الذي عناه المعريّ بقوله:
çتحية كسرى في الثناء وتبّع... لربعك لا أرضى تحيّة أربعé
5. هذه الآية من آداب الإسلام: علّم الله بها أن يردّوا على المسلّم بأحسن من سلامه أو بما يماثله، ليبطل ما كان بين الجاهلية من تفاوت السادة والدهماء، وتكون التحيّة أحسن بزيادة المعنى، فلذلك قالوا في قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾ [الذاريات: 25]: أنّ تحية إبراهيم كانت أحسن إذ عبّر عنها بما هو أقوى في كلام العرب وهو رفع المصدر للدلالة على الثبات وتناسي الحدوث المؤذن به نصب المصدر، وليس في لغة إبراهيم مثل ذلك ولكنّه من بديع الترجمة، ولذلك جاء في تحيّة الإسلام: السلام عليكم، وفي ردّها وعليكم السلام لأنّ تقديم الظرف فيه للاهتمام بضمير المخاطب، وقال بعض الناس: إنّ الواو في ردّ السلام تفيد معنى الزيادة فلو كان المسلّم بلغ غاية التحية أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإذا قال الرادّ: (وعليكم السلام) إلخ، كان قد ردّها بأحسن منها بزيادة الواو، وهذا وهم.
6. معنى ﴿رُدُّوهَا﴾ ردّوا مثلها، وهذا كقولهم: عندي درهم ونصفه، لظهور تعذّر ردّ ذات التحيّة، وقوله تعالى: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ [النساء: 176] فعاد ضمير (وهو) وهاء (يرثها) إلى اللفظين لا إلى الذاتين، ودلّ الأمر على وجوب ردّ السلام، ولا دلالة في الآية على حكم الابتداء بالسلام، فذلك ثابت بالسنّة للترغيب فيه، وقد ذكروا أنّ العرب كانوا لا يقدّمون اسم المسلّم عليه المجرور بعلى في ابتداء السلام إلّا في الرثاء، في مثل قول عبدة بن الطيب:
çعليك السلام الله قيس بن عاصم... ورحمته ما شاء أن يترحّماé
وفي قول الشمّاخ:
çعليك سلام من أمير وباركت... يد الله في ذاك الأديم الممزّقé
روى أبو داوود أنّ جابر بن سليم سلّم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: عليك السلام يا رسول الله، فقال له: (إنّ عليك السلام تحية الموتى، قل، السلام عليك)
7. التذييل بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ لقصد الامتنان بهذه التعليمات النافعة، والحسيب: العليم وهو صفة مشبّهة: من حسب ـ بكسر السين ـ الذي هو من أفعال القلب، فحوّل إلى فعل ـ بضمّ عينه ـ لمّا أريد به أنّ العلم وصف ذاتي له، وبذلك نقصت تعديته فاقتصر على مفعول واحد، ثمّ ضمّن معنى المحصي فعدي إليه بعلى، ويجوز كونه من أمثلة المبالغة، قيل: الحسيب هنا بمعنى المحاسب، كالأكيل والشريب، فعلى كلامهم يكون التذييل وعدا بالجزاء على قدر فضل ردّ السلام، أو بالجزاء السّيّئ على ترك الردّ من أصله، وقد أكّد وصف الله بحسيب بمؤكّدين: حرف (إنّ) وفعل (كان) الدالّ على أنّ ذلك وصف مقرّر أزلي.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/207.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ التحية هى السلام، وأصل التحية الدعاء بالحياة، والتحيات لله هى السلام من الآفات، وإنما يقال (التحيات لله) بصيغة الجمع، ولم يقل (التحية) بصيغة الإفراد، لأنه كان في الأرض ملوك تؤدى لهم تحيات مختلفات، فيقال لبعضهم: (أبيت اللعن)، ويقال لبعضهم: (اسلم وانعم) فقيل لنا نحن المسلمين، قولوا: (التحيات لله) أى كل الألفاظ التى تدل على تحيات الملوك وتؤدى معانيها، هى الله.
2. العلاقة بين هذه الآية وما قبلها أن الله تعالى يقول، إذا خرجتم للجهاد، كما سبق الأمر، فحياكم إنسان بتحية الإسلام، فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، بل ردوا جواب السلام، فإن الأحكام تجرى عليهم، وقد أجمع الفقهاء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، ورده فريضة، لقوله تعالى: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ أو قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾، فقد قال المفسرون عن ذلك، إن هذه الصفة (الحسيب) حسنت هنا، لأن معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص، أو يوفى قدر ما يجىء به، والله سبحانه وتعالى يجازى الإنسان بقدر ما فعله، حتى في لفظ التحية والسلام.
3. روى النسائي عن عمران بن حصين قال: كنا عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجاء رجل فسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال: عشر، ثم جلس، ثم جاء آخر فسلم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله. فرد عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال (عشرون)، ثم جلس، وجاء آخر فقال: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) فرد عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال: (ثلاثون)، وهذا الخبر يعطى تفسيرا بأن من قال لأخيه المسلم (السلام عليكم) كتب له عشر حسنات، فإن قال: (السلام عليكم ورحمة الله) كتبت له عشرون حسنة، فإن قال: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) كتبت له ثلاثون حسنة، وكذلك من رد التحية له مثل ذلك الأجر.
4. للتحية وردها آداب يجب أن يتعلمها المسلم، ويتخذها منهجا وسلوكا، فمنها أن يسلم الراكب على الماشى، والقائم على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير، وفى المسألة مسائل فقهية متشعبة، على المسلم أن يتعرف عليها من مظانها، ولا يغفل عنها؛ لأن التحية وإفشاء السلام من الأسباب التى تصل القلوب بعضها ببعض، فتأتلف الأرواح، وتتحاب النفوس، تصديقا لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم)
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1786.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾، اتخذ الإسلام كلمة التوحيد شعارا لعقيدته، وجعل السلام تحيته المختصة به للاشارة إلى أن منهاجه في الحياة هو نشر السلام، ومقاومة العدوان.. بالاضافة إلى أن معنى الإسلام التسليم للعدل والإحسان، والخير والأمان، وفوق ذلك كله فإن السلام من أسماء الله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر: 23]
2. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾، يحاسب على عدم رد التحية، وغيره من ترك المحرمات، وفعل الواجبات.
3. استدل الفقهاء بهذه الآية على وجوب رد السلام، اما بالمثل، أي أن تعيد تحية من حياك بالحرف دون زيادة أو نقصان، واما ان تزيد عليها: ورحمة الله، وأمثالها، والرد فرض على سبيل العين إذا وجهت التحية إلى شخص معين، وكفاية إذا وجهت إلى جماعة، ان قام به البعض سقط عن الباقين، والا فالكل ملومون ومؤاخذون.. وفي الحديث: التحية تطوع، والرد فرض، وقال أصحاب أبي حنيفة: المراد بالتحية في الآية الكرامة بالمال، فمن أهدى اليك شيئا فعليك أن تهديه بمقدار ما أهدى اليك، أو تزيد.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/396.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ أمر بالتحية قبال التحية بما يزيد عليها أو يماثلها، وهو حكم عام لكل تحية حيي بها، غير أن مورد الآيات هو تحية السلم والصلح التي تلقى إلى المسلمين على ما يظهر من الآيات التالية.
2. كلام في معنى التحية:
أ. الأمم والأقوام على اختلافها في الحضارة والتوحش والتقدم والتأخر لا تخلو في مجتمعاتهم من تحية يتعارفونها عند الملاقاة ملاقاة البعض البعض على أقسامها وأنواعها من الإشارة بالرأس واليد ورفع القلانس وغير ذلك، وهي مختلفة باختلاف العوامل المختلفة العاملة في مجتمعاتهم.
ب. وأنت إذا تأملت هذه التحيات الدائرة بين الأمم على اختلافها وعلى اختلافهم وجدتها حاكية مشيرة إلى نوع من الخضوع والهوان والتذلل يبديه الداني للعالي، والوضيع للشريف، والمطيع لمطاعه، والعبد لمولاه، وبالجملة تكشف عن رسم الاستعباد الذي لم يزل رائجا بين الأمم في أعصار الهمجية فما دونها، وإن اختلفت ألوانه، ولذلك ما نرى أن هذه التحية تبدأ من المطيع وتنتهي إلى المطاع، وتشرع من الداني الوضيع وتختتم في العالي الشريف، فهي من ثمرات الوثنية التي ترتضع من ثدي الاستعباد.
ج. والإسلام ـ كما تعلم ـ أكبر همه إمحاء الوثنية وكل رسم من الرسوم ينتهي إليها، ويتولد، منها ولذلك أخذ لهذا الشأن طريقة سوية وسنة مقابلة لسنة الوثنية ورسم الاستعباد، وهو إلقاء السلام الذي هو بنحو أمن المسلم عليه من التعدي عليه، ودحض حريته الفطرية الإنسانية الموهوبة له فإن أول ما يحتاج إليه الاجتماع التعاوني بين الأفراد هو أن يأمن بعضهم بعضا في نفسه وعرضه وماله، وكل أمر يئول إلى أحد هذه الثلاثة.
د. وهذا هو السلام الذي سن الله تعالى إلقاؤه عند كل تلاق من متلاقيين قال تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور: 61]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور: 27] وقد أدب الله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتسليم للمؤمنين وهو سيدهم فقال: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54] وأمره بالتسليم لغيرهم في قوله: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: 89]
هـ. والتحية بإلقاء السلام كانت معمولا بها عند عرب الجاهلية على ما يشهد به المأثور عنهم من شعر ونحوه، وفي لسان العرب: وكانت العرب في الجاهلية يحيون بأن يقول أحدهم لصاحبه: أنعم صباحا، وأبيت اللعن، ويقولون سلام عليكم فكأنه علامة المسالمة، وأنه لا حرب هنالك، ثم جاء الله بالإسلام فقصروا على السلام، وأمروا بإفشائه، إلا أن الله سبحانه يحكيه في قصص إبراهيم عنه عليه السلام كثيرا، ولا يخلو ذلك من شهادة على أنه كان من بقايا دين إبراهيم الحنيف عند العرب كالحج ونحوه قال تعالى حكاية عنه فيما يحاور أباه: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم: 47]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾ [هود: 69] والقصة واقعة في غير مورد من القرآن الكريم.
و. ولقد أخذه الله سبحانه تحية لنفسه، واستعمله في موارد من كلامه، قال تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: 79]، وقال: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات: 109]، وقال: ﴿سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الصافات: 120]، وقال ﴿سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ﴾ [الصافات: 130]، وقال: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى﴾ ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: 181]، وذكر تعالى أنه تحية ملائكته المكرمين قال: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ﴾ [النحل: 32]، وقال: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرعد: 24] وذكر أيضا أنه تحية أهل الجنة قال: ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ [يونس: 10]، وقال تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا﴾ [الواقعة: 26]
3. في الفقيه، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام قال: (لا تسلموا على اليهود، ولا على النصارى، ولا على المجوس، ولا على عبدة الأوثان، ولا على موائد شراب الخمر، ولا على صاحب الشطرنج والنرد، ولا على المخنث، ولا على الشاعر الذي يقذف المحصنات، ولا على المصلي لأن المصلي لا يستطيع أن يرد السلام، لأن التسليم من المسلم تطوع والرد فريضة، ولا على آكل الربا، ولا على رجل جالس على غائط ـ ولا على الذي في الحمام، ولا على الفاسق المعلن بفسقه)
4. الروايات في معنى ما تقدم كثيرة، والإحاطة بما تقدم من البيان توضح معنى الروايات فالسلام تحية مؤذنة ببسط السلم، ونشر الأمن بين المتلاقين على أساس المساواة والتعادل من استعلاء وإدحاض، وما في الروايات من ابتداء الصغير بالتسليم للكبير، والقليل للكثير، والواحد للجمع لا ينافي مسألة المساواة وإنما هو مبني على وجوب رعاية الحقوق فإن الإسلام لم يأمر أهله بإلغاء الحقوق، وإهمال أمر الفضائل والمزايا بل أمر غير صاحب الفضل أن يراعي فضل ذي الفضل، وحق صاحب الحق، وإنما نهى صاحب الفضل أن يعجب بفضله، ويتكبر على غيره فيبغي على الناس بغير حق فيبطل بذلك التوازن بين أطراف المجتمع الإنساني.
5. وأما النهي الوارد عن التسليم على بعض الأفراد فإنما هو متفرع على النهي عن توليهم والركون إليهم كما قال تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: 51]، وقال: ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1]، وقال: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [هود: 113] إلى غير ذلك من الآيات.
6. نعم ربما اقتضت مصلحة التقرب من الظالمين لتبليغ الدين أو إسماعهم كلمة الحق التسليم عليهم ليحصل به تمام الأنس وتمتزج النفوس كما أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك في قوله: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ﴾ [الزخرف: 89] وكما في قوله يصف المؤمنين ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63]
7. عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن رجلا قال له: السلام عليك، فقال: وعليك السلام ورحمة الله، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك، فقال الرجل: نقصتني فأين ما قال الله ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنك لم تترك فضلا ورددت عليك مثله) وروي مثله في الدر المنثور، عن أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن سلمان الفارسي، وفي الكافي، عن الباقر عليه السلام قال: مر أمير المؤمنين عليه السلام بقوم فسلم عليهم فقالوا: عليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: (لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم، قالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت)، وفيه إشارة إلى أن السنة في التسليم التام، وهو قول المسلم (السلام عليك ورحمة الله وبركاته) مأخوذة من حنيفية إبراهيم، عليه السلام وتأييد لما تقدم أن التحية بالسلام من الدين الحنيف.
8. وفيه، عن الصادق عليه السلام: أن من تمام التحية للمقيم المصافحة، وتمام التسليم على المسافر المعانقة، وفي الخصال، عن أمير المؤمنين عليه السلام: إذا عطس أحدكم قولوا يرحمكم الله، وهو يقول: يغفر الله لكم ويرحمكم، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾، وفي المناقب: جاءت جارية للحسن عليه السلام بطاق ريحان، فقال لها: أنت حرة لوجه الله، فقيل له في ذلك، فقال عليه السلام: أدبنا الله تعالى فقال: ﴿إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها﴾ (الآية) وكان أحسن منها إعتاقها.. والروايات كما ترى تعمم معنى التحية في الآية.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/30.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ قال في (مفردات الراغب): (فالتحية أن يقال: حياك الله، قال: وأصل التحية من الحياة، ثم جعل ذلك دعاء تحية لكون جميعه غير خارج عن الحياة أو سبب حياة)، فالتحية تصدق على الألفاظ المختلفة وأحسنها السلام، وظاهر الآية العموم فتعم قولهم: عم صباحاً، وقولهم: صباح الخير ونحوه، وقد ورد في المنافقين: (تحيتهم لعنة) ومعناه: إذا لقي بعضهم بعضاً لعنه مكان التحية، فهي مشاكلة تقديرية، ولا يدخل في التحية قولهم: كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ وكيف الحال؟ مما ليس دعاء.
2. ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ أجيبوا مَن حياكم بأحسن من تحيته فإذا قال: السلام عليكم، فقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ حَيُّوه بتحيته أي بمثلها، فإذا قال: (السلام عليكم) فالرد لها: (وعليكم السلام)
3. قوله تعالى: ﴿أَوْ﴾ يصلح للتخيير حيث صلح الأمران، وللترديد بين حالة صلاحية أفضل، وحالة أن لا يصلح إلا الرد، ومنه إجابة الذمي بقول المجيب: وعليكم، ولا مانع من ذلك؛ لأنه من الإقساط إليهم، وقد قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ الآية [الممتحنة:8] مع أن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ﴾ عام لتحية المسلم والذمي والذكر والأنثى، بل وظاهره عموم تحية الكافر الحربي، فإن ثبت مخصص لتحيته عمل بالمخصص وإلا عمل بهذا العموم؛ لأن الرد ليس من الموالاة ولا الموادّة، بل هو من شأن المسلم الإنصاف والإحسان، وقد قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة:83] فعم الناس.
4. سؤال وإشكال: إن معنى السلام الأمان، ولا ينبغي تأمين الحربي؟ والجواب: لا مانع من تأمينه وقتاً قصيراً لينظر ما يقول بعد السلام، ثم إذا لم يرد الاستجارة ولا طلب الأمان لغرض صحيح أعلن له بالبراءة من أمانه إن لم يسلم ثم قتل حيث لا أمان له، ولا مانع آخر من قتله.
5. ظاهر الآية: وجوب الرد أو الأحسن، ولو سلم واحد على جماعة وجب على كل واحد الرد أو الأحسن، ولكن لعله يجزي جواب الواحد عن الجماعة إذا وكلوه فكان جوابه عنه وعنهم، وعليه يحمل الحديث إن صح عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يجزي عن الجماعة إذا مرت أن يسلم أحدهم، ويجزي عن القعود أن يردّ أحدهم) رواه الإمام أبو طالب عليه السلام في (أماليه) وهو في (الباب السابع والثلاثين) [ص: 344] وهو في (سنن أبي داود) في (باب ما جاء في رد الواحد عن الجماعة) [4/ 354] ورقم الحديث [5210]، والظاهر: أن السند واحد من سعيد بن خالد، وسعيد هذا ليس بالمشهور، وقد ضعفه عدد من القوم، والعمدة: أنه ليس لنا معرفة بحاله، فالراجح: أن الرد فرض عين أو الأحسن، ولا يبعد أنهم لو وكلوا واحداً منهم فأجاب عن نفسه وعنهم معلنا للإضافة إليهم فقال: وعليكم السلام عني وعمن عندي أن يجزي ذلك، وأن ذلك لا يعني أنه فرض كفاية، ولكن الأحوط: أن يجيب كل واحد ـ والله أعلم.
6. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ يحاسب على الصغير الذي يتهاون به الناس وغيره ولا يترك.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/131.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن الله يريد للإنسان المسلّم أن يعبر عن تجاوبه وتفاعله مع كل المبادرات الروحية والعاطفية؛ فإذا حيّاه إنسان بتحية، فعليه أن يردها بتحية مماثلة أو أحسن منها، لأن التحية بادرة محبة وعاطفة، ولا سيما إذا كانت التحية تحية الإسلام، وهي كلمة (السّلام عليكم)، لأن هذه الكلمة توحي بكل الأحاسيس والأفكار والأجواء التي تحملها كلمة السّلام، في ما توحيه من المبادرة التي يقدمها الإنسان لأخيه، ليعبر له فيها بأن علاقته به هي العلاقة التي توحي بالأمن والطمأنينة وعدم الاعتداء، ويطلب منه أن يبادله بها، سلاما بسلام، ومحبة بمحبة، والله لا يريد من الإنسان أن يتنكر لهذه الدعوة ولهذه العاطفة، ولذا اعتبر ردّ السّلام واجبا عند الفقهاء، انطلاقا من هذه الآية، وقد يكون ذلك أحد الوسائل الإسلامية التي يستهدف الإسلام منها توثيق الروابط بين الناس وبين المؤمنين بشكل خاص، وللتأكيد على أن يكون الإنسان إيجابيا في هذا المجال، فيمد اليد ـ بكل محبة ـ لليد التي تمتد إليه لتصافحه أو لتصالحه أو لتعاهده، في حدود العلاقات الإنسانية التي لا تتنكر للمبادئ والقيم.
2. قد يظهر من الآية أنّ التحية، إذا استوحينا منها المعنى العام، كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمامين الباقر والصادق عليه السّلام أن المراد بالتحية في الآية السّلام وغيره من البرّ ـ تشمل كل مبادرة صادرة من الإنسان تجاه الإنسان الآخر، كالرسالة المعبرة عن الحب، وبطاقات المعايدة والهدية والزيارة، مما يصدق عليه كلمة التحية عرفا، قال أنس: حيث جارية للحسن بن علي عليه السّلام بطاقة ريحان، فقال لها: أنت حرة لوجه اللَّه، فقلت له في ذلك، فقال: أدّبنا الله تعالى فقال: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾
3. لعلنا نفهم ذلك من التركيز على نقطة حيوية، وهي أن التحية ـ بمعنى السّلام ـ لا خصوصية لها في المعاني الإنسانية، لأن القضية هي أن التحية تمثل مبادرة إنسانية تعبّر عن انفتاح الإنسان على الإنسان الآخر بعنوان المحبّة، مما يفرض ـ بحسب التخطيط الإسلامي للعلاقات الاجتماعية الإنسانية في الخط الأخلاقي ـ أن يرد عليها بمثلها أو بأفضل منها، في كل ما يطلب فيه الردّ، لأن عدم التفاعل مع هذه المبادرة يوحي بالتنكر للمعنى الإنساني الكامن في داخلها، مما قد يؤدي إلى بعض السلبيات الاجتماعية التي تمثل انحرافا عن الخط الإسلامي في ربط الناس ببعضهم البعض في القيمة الأخلاقية الإنسانية، وقد تترتب على هذا الاستيحاء القرآني بعض النتائج الفقهية في وجوب الردّ على كل مبادرة تمثل معنى التحية مما يطلب فيه الردّ بحسب العرف العام.
4. أما بالنسبة إلى تحية (السّلام) التي جعلها الإسلام عنوان التحية التي يبادر بها المسلمون بعضهم بعضا أو غيرهم ممن يعيشون روح السّلام مع المسلمين أو لا يعيشون روح الحرب ضدهم، أمّا هذه التحية، فقد حدثنا القرآن أن السّلام هو التحية التي تنطلق من الله في وعي المسلّم الذي يبادر بها الآخر وذلك هو قوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [سورة النور: 61]، مما يوحي بأن أصل عبارة (سلام الله عليكم) أي ليمنحك الله السّلام أو أنني أقدم لك السّلام من خلال تحية الله لعباده المؤمنين التي يلقيها عليهم يوم القيامة: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: 58]، ويعيش معها المؤمن في غرفة الجنة: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾ [الفرقان: 75]، ويحيّي أهل الجنة بعضهم بعضا بها ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ [إبراهيم: 23]، وهكذا نرى أن الملائكة حيّوا إبراهيم بها ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ [الذاريات: 25]، وقد أراد الله للناس أن يجعلوها كلمتهم الأولى قبل الكلام الذي يفيضون فيه، فقد جاء عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (من بدأ بالكلام قبل السّلام، فلا تجيبوه)، وجاء عن الإمام محمد الباقر عليه السّلام (إن الله يحب إطعام الطعام وإفشاء السّلام)، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام (البخيل من بخل بالسلام)، وقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خيركم من أطعم الطعام، وأفشى السّلام، وصلّى والناس نيام)، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يبادر الآخرين ـ حتى الأطفال الصغار ـ بالسلام، لأنه رسول المحبة إلى الناس، ولذلك فلا معنى له مع الفاسقين والمرابين والمنافقين الذين يرفض الإسلام احترامهم والإيحاء لهم بعلاقة السّلام معهم، لأن المعركة بين الخير والشر مفتوحة معهم باعتبار تجسيدهم للشر المتمثل في عقولهم وقلوبهم وسلوكهم المنحرف، وربما كان ختام الآية بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ موحيا بأن القضية تخضع لحساب اللَّه، ليتحرك الإنسان فيها من موقع المسؤولية.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/382
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. رغم أنّ بعض المفسّرين يرون أنّ العلاقة بين هذه الآية والآيات السابقة ناشئة عن كون الآيات تلك تناولت موضوع الجهاد والحرب، والآية الأخيرة تدعو المسلمين إلى أن يواجهوا كل بادرة سليمة من قبل العدو بموقف يناسبها، ولكن هذه الصلة لا تمنع أن تكون الآية الأخيرة حكما عاما يشمل كل أقسام تبادل المشاعر الخيرة النّبيلة بين مختلف الأطراف والأفراد، وهذه الآية تأمر المسلمين بمقابلة مشاعر الحبّ بما هو أحسن منها، أو على الأقل بما يساويها أو يكون مثلها، فتقول الآية: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾
2. (التّحية) مشتقة من (الحياة) وتعني الدعاء لدوام حياة الآخرين، سواء كانت التحية بصيغة (السّلام عليكم) أو (حياك الله) أو ما شاكلهما من صيغ التحية والسلام، ومهما تنوعت صيغ التحية بين مختلف الأقوام تكون صيغة (السلام) المصداق الأوضح من كل تلك الأنواع، ولكن بعض الروايات والتفاسير تفيد أنّ مفهوم التحية يشمل ـ أيضا ـ التعامل الودي العملي بين الناس، وفي تفسير علي بن إبراهيم عن الباقر والصّادق عليهما السّلام أن: (المراد بالتّحية في الآية السلام وغيره من البر)، وفي (المناقب) أنّ جارية أهدت إلى الإمام الحسن عليه السّلام باقة من الورد فأعتقها، وحين سئل عن ذلك استشهد بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾
3. وهكذا يتّضح لنا أنّ الآية هي حكم عام يشمل الردّ على كل أنواع مشاعر الودّ والمحبّة سواء كانت بالقول أو بالعمل ـ وتبيّن الآية في آخرها أنّ الله يعلم كل شيء، حتى أنواع التحية والسلام والردّ المناسب لها، وأنّه لا يخفى عليه شيء أبدا، حيث تقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾
4. السّلام، تحية الإسلام الكبرى (2):
أ. لا يخفى أنّ لكل جماعة إنسانية تقاليد خاصّة في التحية لدى التلاقي فيما بينهم، بها يتبادلون مشاعر الحبّ والصفاء، والمودة، والتحية كما هي صيغة لفظية يمكن أن تكون ـ أيضا ـ حركة عملية يستدل منها على مشاعر الحبّ والودّ المتبادلة.
ب. وقد جاء الإسلام بكلمة (السّلام) مصطلحا للتحية بين المسلمين، والآية موضوع البحث مع كونها عامة شاملة لأنواع التحية، لكن المصداق الأوضح والأظهر لها يتجسد في كلمة (السّلام)
ج. وبناء على ذلك فإنّ المسلمين مكلّفون بردّ السّلام بأحسن منه، أو على الأقل بما يماثله، وفي آية أخرى إشارة واضحة إلى أنّ السّلام هو التحية حيث تقول: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ ويمكن الاستدلال من هذه الآية على أن عبارة (السلام عليكم) هي في الأصل (سلام الله عليكم) أي ليهبك الله السلامة والأمن، وهكذا يتّضح لنا أنّ السلام يعتبر دلالة على الحبّ والود المتبادل، كما هو دلالة على نبذ الحرب والنزاع والخصام.
د. وقد دلت آيات قرآنية أخرى على أنّ السّلام هو تحية أهل الجنّة، حيث يقول سبحانه: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾، ويقول تعالى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾، كما أنّ آيات قرآنية أخرى دلت على أنّ السلام أو أي صيغة أخرى تعادله، كان سائدا بين الأقوام التي سبقت الإسلام، وهذا هو ما تشير إليه الآية من سورة الذاريات في قصة إبراهيم مع الملائكة حيث تقول: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾
هـ. والشعر الجاهلي فيه دلائل تثبت أن السلام كان ـ أيضا ـ تحية أهل الجاهلية، روي أن(نوبة) وهو من شعراء الجاهلية قال:
çولو أن ليلى الأخيلية سلمت...علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا...إليها صدى من جانب القبر صائحé
و. إنّ تحية الإسلام تبرز أهميتها وقيمتها العظيمة، لدى مقارنتها بما لها من نظائر لدى الأمم والأقوام الاخرى، والنصوص الإسلامية تؤكد كثيرا على السّلام والتّحية، حيث يروى عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من بدأ بالكلام قبل السّلام فلا تجيبوه)، كما يروى عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّ الله يقول: (البخيل من يبخل بالسّلام)، وعن الإمام الباقر عليه السّلام: (إنّ الله يحبّ إفشاء السلام)، وقد ورد في الروايات والأحاديث آداب كثيرة للتحية والسلام، منها أنّ السلام يجب أن يشيع بين جميع أبناء المجتمع وأن لا ينحصر في إطار الأصدقاء والأقارب، فقد روي عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه سئل: أي العمل خير: فأجاب صلّى الله عليه وآله وسلّم: (تطعم الطّعام وتقرأ السّلام على من عرفت ومن لم تعرف)، كما ورد في الأحاديث أن من آداب التحية أن يسلم الراكب على الراجل، والراكب على دابة غالية الثمن يسلم على من يركب دابة أقل ثمنا، وقد يكون الأمر حثّا على التزام التواضع، ونهيا عن التكبر أو محاربة له، فالتكبر غالبا ما يستولي على أهل المال والجاه وهذا عكس ما نشاهده في عصرنا حيث يتحتم على الطبقات الدانية من المجتمع أن تبادر الطبقات العليا بالسّلام، وبذلك يضفون على هذا الأمر طابعا استعباديا وثنيا، بينما كان النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو أوّل من يبادر الآخرين بالسلام، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يبتدئ بالسلام حتى على الصبية الصغار، وبديهي أنّ هذا الأمر لا ينافي ما ورد في الروايات من حثّ صغار السن على مبادرة كبارهم بالسلام والتحية والاحترام، لأنّ هذا السلوك يعتبر نوعا من الآداب الإنسانية الحميدة، ولا ارتباط له بالتمييز الطبقي.
ز. ومن جانب آخر نجد روايات تأمر بعدم السّلام على المرابين والفاسقين وأمثالهم، ويعتبر هذا الأمر سلاحا لمحاربة الفساد والربا، أمّا إذا كان السلام يؤدي إلى التأثير على المفسد والمنحرف، ويجعله يرتد عن غيه ويترك الفساد والانحراف، فلا مانع منه ولا بأس به.
ح. ولا يفوتنا هنا أن نوضح أنّ المراد من رد التحية بالأحسن هو أن نعقب السلام بعبارات مثل (ورحمة الله) أو (ورحمة الله وبركاته)، ورد في تفسير (الدّر المنثور) أنّ شخصا أتى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: السّلام عليكم، فإجابة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: وعليك السّلام ورحمة الله، ثمّ جاءه آخر وقال: السّلام عليكم ورحمة الله، فأجابه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته، فجاءه ثالث وقال: السّلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وعليك) ـ وعند ما سئل عن علّة هذا الجواب القصير، قال: إنّ القرآن يقول: إذا حيّيتم بتحية فحيوا بأحسن منها، ولكنك لم تبق شيئا)، وفي الحقيقة أنّ الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قد ردّ التحية بأحسن منها في الموردين السابقين، أمّا في المورد الثّالث ردّها بالمساوي كلمة (وعليك) تعني أنّ كل ما قلته لي مردود عليك.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/361
(2) تقسيم الفروع هنا ليس منهجيا، وإنما من باب التبسيط فقط
82. التوحيد والبعث
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈82⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا﴾ [النساء: 87]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنه كان يقول: إن أحسن القصص هذا القرآن(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٢٢.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ نزلت في قوم شكوا في البعث، فأقسم الله عز وجل بنفسه ليبعثهم إلى يوم القيامة، ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ يعني: لا شك في البعث، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا﴾ يقول: فلا أحد أصدق من الله حديثا إذا حدث، يعني: في أمر البعث(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٤.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ هذا لما ألزم اللَّه، وأجرى على ألسنتهم أنه اللَّه، وأنه خالق السماوات والأرض، وأنه خالقهم؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾: أخبر أن الذي سميتموه (اللَّه) وقلتم: إنه خالق السماوات والأرض ـ هو واحد، لا إله غيره، ولا رب سواه، هو واحد، لا شريك معه ولا نِد، وأن الأصنام التي تعبدونها دون اللَّه قد تعلمون أنها لا تنفعكم إن عبدتموها، ولا تضركم إن تركتم عبادتها.
2. قوله تعالى: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ قيل فيه بوجهين:
أ. قيل: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾؛ كقوله: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾
ب. وقيل: ليجمعنكم في القبور إلى يوم القيامة ثم يبعثكم.
3. وقوله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ معناه: أنكم تقبلون الحديث بعضكم من بعض، وإن حديثكم يكون صدقًا ويكون كذبا؛ فكيف لا تقبلون حديث اللَّه وخبره في البعث وما أخبر في القرآن، وحديثه لا يحتمل الكذب!؟ هذا تأويله.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٢89
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ وسميت القيامة لقيام الناس من قبورهم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/189.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في تسمية القيامة في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: لأن الناس يقومون فيه من قبورهم.
ب. والثاني: لأنهم يقومون فيه للحساب.
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥١٤)
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قد بينا فيما تقدم معنى اللَّه، وهو الذي تحق له العبادة، وانه من كان قادراً على خلق اصول النعم التي يستحق بها العبادة، وليس هو عبارة عمن يستحق العبادة، لأنه لو كان كذلك، لما كان تعالى إلهاً فيما لم يزل، وإذا ثبت انه موصوف به فيما لم يزل، دل على ان المراد ما قلناه، وإذا ثبت ذلك، فقد بين تعالى بهذه الآية انه لا يستحق العبادة سواه.
2. ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ اللام في ليجمعنكم لام القسم كقولك: واللَّه ليجمعنكم، وقيل في معناه قولان:
أ. أحدهما ـ ليبعثنكم من بعد مماتكم، ويحشرنكم جميعاً إلى موقف الحساب الذي يجازي فيه كلا بعمله، ويقضي فيه بين أهل طاعته، ومعصيته.
ب. الثاني ـ قال الزجاج: معناه ليجمعنكم في الموت وفي قبوركم.
3. ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ معناه لا شك فيما أخبركم به، من قوله: اني جامعكم يوم القيامة، وقيل في تسمية ذلك اليوم بالقيامة قولان:
أ. أحدهما ـ لأن الناس يقومون من قبورهم.
ب. الثاني ـ انهم يقومون للحساب، قال اللَّه تعالى ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
4. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ تقرير في صورة الاستفهام ومعناه لا أحد أصدق من اللَّه في الخبر الذي يخبر به من حيث لا يجوز عليه الكذب في شيء من الأشياء، لأنه لا يكذب إلا محتاج يجتلب به نفعاً، أو يدفع به ضرراً، وهما يستحيلان عليه تعالى، فإذاً يستحيل عليه الكذب، وانما يجوز ذلك على من سواه، فلذلك كان تعالى أصدق القائلين، ونصب حديثاً على التمييز كما تقول: من أحسن من زيد فهما أو خلقا؟
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/280
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. نزلت الآية في الَّذِينَ أنكروا البعث ونافقوا.
2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: إنه لما أمر ونهى وبين أن لا إله إلا هو، فمن سواه من أجل ذلك ينبغي أن يطاع، وأنه هو المجازي، فاعملوا حسب ما يوجبه حالكم ذلك، وبين وقت الجزاء.
ب. وقيل: يتصل بقوله: ﴿حَسْبُنَا﴾ يعني الله الحسيب وهو الذي لا إله غيره.
3. ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ يعني القادر على اختراع الأشياء لا يقدر عليه غيره ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ ولم يقل: في يوم القيامة:
أ. قيل: معناه ليجمعنكم بعد الموت إلى يوم القيامة، فتدل على المنتهى.
ب. وقيل: من القبور إلى المحشر يوم القيامة.
4. ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شك في الجمع والحشر يوم القيامة، وهو وعيد من الله تعالى وإخبار بأنه وإن خلى بينهم وبين ما يفعلونه من الكفر والنفاق، فهو يجمعهم ويجازيهم بذلك ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا﴾ أي لا أحد أصدق منه؛ لأنه تعالى لا يجوز عليه الكذب.
5. تدل الآية الكريمة على:
أ. التوحيد وإثبات المعاد.
ب. أنه لا يجوز الخلف في وعده ووعيده، ولا الكذب في شيء من أخباره.
6. قرأ ﴿أَصْدَقُ﴾ وكل صاد ساكنة بعدها دال بإشمام الزاي حمزة والكسائي، والباقون بالصاد خالصة، وهو الاختيار.
7. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ﴾ لفظه استفهام، والمراد به النفي أي لا أحد أصدق منه، وإنما جاز اللفظ بلفظة الاستفهام؛ لأن جوابه على معنى النفي فيما تقتضيه حجة العقل، فجاء على المظاهرة، يرد الإنسان فيه إلى حجة عقله، وكان ذلك أبلغ من إخباره به.
ب. اللام في قوله: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ لام القسم، كأنه قيل: والله ليجمعنكم.
ج. ﴿حَدِيثًا﴾ نصب على التفسير.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/735
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: لما أمر تعالى ونهى فيما قبل، بين بعده أنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه أي: فاعملوا على حسب ما أوجبه عليكم، فإنه يجازيكم به، ثم بين وقت الجزاء.
ب. وقيل: إنما اتصل بقوله: ﴿حَسِيبًا﴾ أي إنما الحسيب هو الله.
2. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ قد مر تفسيره ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾:
أ. قيل: أي ليبعثنكم من بعد مماتكم، ويحشرنكم جميعا إلى موقف الحساب، الذي يقضي فيه بين أهل الطاعة والمعصية.
ب. وقال الزجاج، معناه: ليجمعنكم في الموت وفي قبوركم.
3. ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾: أي لا شك في هذا القول، وإنما سمي يوم القيامة، لان الناس يقومون فيه من قبورهم، وفي التنزيل ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾:
أ. قيل: أي موعدا لا خلف لوعده.
ب. وقيل معناه: لا أحد أصدق من الله في الخبر الذي يخبر به.
5. مسائل لغوية ونحوية:
أ. اللام في ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾: لام القسم.
ب. ﴿حَدِيثًا﴾: نصب على التمييز كما تقول: من أحسن من زيد فهما، فهو استفهام في اللفظ، وتقرير في المعنى.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/131.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ قال مقاتل: نزلت في الذين شكّوا في البعث، قال الزجّاج: واللام في ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ لام القسم، كقولك: والله ليجمعنّكم، قال: وجائز أن تكون سمّيت القيامة، لقيام الناس من قبورهم، وجائز أن تكون، لقيامهم للحساب.
2. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ إنما وصف نفسه بهذا، لأنّ جميع الخلق يجوز عليهم الكذب، ويستحيل في حقّه.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/443
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجهان:
أ. الأول: أنا بينا أن المقصود من قوله: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ أن لا يصير الرجل المسلم مقتولا، ثم إنه تعالى أكد ذلك بالوعيد في قوله: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾، ثم بالغ في تأكيد ذلك الوعيد بهذه الآية، فبين في هذه الآية أن التوحيد والعدل متلازمان، فقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ إشارة إلى التوحيد، وقوله: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ إشارة إلى العدل، وهو كقوله: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18] وكقوله في طه: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14] وهو إشارة إلى التوحيد ثم قال: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ [طه: 15] وهو إشارة إلى العدل، فكذا في هذه الآية بين أنه يجب في حكمه وحكمته أن يجمع الأولين والآخرين في عرصة القيامة فينتصف للمظلومين من الظالمين، ولا شك أنه تهديد شديد.
ب. الثاني: كأنه تعالى يقول: من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر، فان البواطن إنما يعرفها اللَّه الذي لا إله إلا هو، إنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة.
2. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ قال صاحب (الكشاف): قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ إما خبر للمبتدأ، وإما اعتراض والخبر ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ واللام لا من القسم، والتقدير: واللَّه ليجمعنكم.
3. سؤال وإشكال: لم لم يقل: ليجمعنكم في يوم القيامة؟ والجواب: من وجهين:
أ. الأول: المراد ليجمعنكم في الموت أو القبور إلى يوم القيامة.
ب. الثاني: التقدير: ليضمنكم إلى ذلك اليوم ويجمع بينكم وبينه بأن يجمعكم فيه، قال الزجاج: يجوز أن يقال سميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون من قبورهم، ويجوز أيضا أن يقال: سميت بهذا الاسم لأن الناس يقومون للحساب قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6] قال صاحب (الكشاف): القيام القيامة، كالطلاب والطلابة.
4. ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أثبت أن القيامة ستوجد لا محالة، وجعل الدليل على ذلك مجرد إخبار اللَّه تعالى عنه، وهذا حق، وذلك لأن المسائل الأصولية على قسمين منها ما العلم بصحة النبوة يكون محتاجا إلى العلم بصحته، ومنها ما لا يكون كذلك.
أ. الأول مثل علمنا بافتقار العالم إلى صانع عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات، فانا ما لم نعلم ذلك لا يمكننا العلم بصدق الأنبياء، فكل مسألة هذا شأنها فانه يمتنع إثباتها بالقرآن واخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والا وقع الدور.
ب. الثاني: وهو جملة المسائل التي لا يتوقف العلم بصحة النبوة على العلم بصحتها فكل ذلك مما يمكن إثباته بكلام اللَّه واخباره ومعلوم أن قيام القيامة كذلك، فلا جرم أمكن إثباته بالقرآن وبكلام اللَّه، فثبت أن الاستدلال على قيام القيامة باخبار اللَّه عنه استدلال صحيح.
5. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ استفهام على سبيل الإنكار، والمقصود منه بيان أنه يجب كونه تعالى صادقا وأن الكذب والخلف في قوله محال:
أ. أما المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ فقد بنوا ذلك على أصلهم، وهو أنه تعالى عالم بكون الكذب قبيحا، وعالم بكونه غنيا عنه، وكل من كان كذلك استحال أن يكذب، إنما قلنا: انه عالم بقبح الكذب، وعالم بكونه غنيا عنه لأن الكذب قبيح لكونه كذبا، واللَّه تعالى غير محتاج إلى شيء أصلا، وثبت أنه عالم بجميع المعلومات فوجب القطع بكونه عالما بهذين الأمرين، وأما أن كل من كان كذلك استحال يكذب فهو ظاهر لأن الكذب جهة صرف لا جهة دعاء، فإذا خلا عن معارض الحاجة بقي ضارا محضا فيمتنع صدور الكذب عنه.
ب. وأما أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ فدليلهم أنه لو كان كاذبا لكان كذبه قديما، ولو كان كذبه قديما لامتنع زوال كذبه لامتناع العدم على القديم، ولو امتنع زوال كذبه قديما لامتنع كونه صادقا، لأن وجود أحد الضدين يمنع وجود الضد الآخر، فلو كان كاذبا لامتنع أن يصدق لكنه غير ممتنع، لا نا نعلم بالضرورة أن كل من علم شيئا فانه لا يمتنع عليه أن يحكم عليه بحكم مطابق للمحكوم عليه، والعلم بهذه الصحة ضروري، فإذا كان إمكان الصدق قائما كان امتناع الكذب حاصلا لا محالة، فثبت أنه لا بد من القطع بكونه تعالى صادقا.
6. استدل المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أن كلام اللَّه تعالى محدث، قالوا لأنه تعالى وصفه بكونه حديثا في هذه الآية وفي قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ [الزمر: 23] والحديث هو الحادث أو المحدث، وجواب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ عنه: انكم إنما تحكمون بحدوث الكلام الذي هو الحرف والصوت ونحن لا ننازع في حدوثه، إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر غير هذه الحروف والأصوات، والآية لا تدل على حدوث ذلك الشيء ألبتة بالاتفاق منا ومنكم، فأما منا فظاهر، وأما منكم فإنكم تنكرون وجود كلام سوى هذه الحروف والأصوات، فكيف يمكنكم أن تقولوا بدلالة هذه الآية على حدوثه.
__________
(1) التفسير الكبير: 10/168
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ ابتداء وخبر، واللام في قوله: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ لام القسم، نزلت في الذين شكوا في البعث فأقسم الله تعالى بنفسه، وكل لام بعدها نون مشددة فهو لام القسم، ومعناه في الموت وتحت الأرض ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، وقال بعضهم: ﴿إِلَى﴾ صلة في الكلام، معناه ليجمعنكم يوم القيامة، وسميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين تعالى، قال الله تعالى: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وقيل: سمي يوم القيامة لأن الناس يقومون من قبورهم إليها، قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا﴾ وأصل القيامة الواو.
2. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا﴾ نصب على البيان، والمعنى لا أحد أصدق من الله، وقرا حمزة والكسائي ومن أزدق) بالزاي، الباقون: بالصاد، وأصله الصاد إلا أن لقرب مخرجها جعل مكانها زاي.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/305.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ مبتدأ وخبر، واللام في قوله: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ جواب قسم محذوف، أي: والله ليجمعنكم الله بالحشر إلى يوم القيامة، أي: إلى حساب يوم القيامة؛ وقيل: إلى: بمعنى في؛ وقيل: إنها زائدة، والمعنى: ليجمعنكم يوم القيامة.
2. ﴿يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾: يوم القيام من القبور ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي: في يوم القيامة، أو: في الجمع، أي: جمعا لا ريب فيه ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ إنكار لأن يكون أحد أصدق منه سبحانه، وقرأ حمزة، والكسائي: ومن (أزدق) بالزاي، وقرأ الباقون: بالصاد، والصاد الأصل، وقد تبدّل زايا لقرب مخرجها منها.
__________
(1) فتح القدير: 1/571.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اللهُ لَآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ نزلت الآية في منكري البعث، أي: لَيجمعنَّكم بالموت، لا يزال يجمعكم به إلى يوم القيامة، والبرزخ: مِنْ يومِها، ويومُ قيامةِ كلِّ أحد: يوم موته، وأمَّا أن يجعل يوم القيامة غاية للجمع من القبور فلا يصحُّ؛ لأنَّ الزمان والمكان لا يكون أحدهما مبدأ للآخر والآخر غاية له، بل غاية الزمان ومبدؤه الزمان، وغاية المكان ومبدؤه المكان، أو (إِلَى) بمعنى في، أي: لَيجمعنَّكم من قبوركم في يوم القيامة.
2. القيامة: قيام الناس من قبورهم، أو قيامهم في الموقف للحساب، وعدَّى الجمع بـ (إِلَى) تضمينًا له معنى الحشر، والحشر فيه معنى السَّوْق والاضطرار وليس هذا المعنى ملحوظًا في الجمع.
3. ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي: في يوم القيامة، أو في الجمع المفهوم من (لَيَجْمَعَنَّكُم)، ﴿وَمَنَ اَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا﴾ لا أصدق منه ولا مساوي، ومثل هذه العبارة تستعمل في نفي المساواة مع نفي الزيادة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/244.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أي: ليبعثنكم من قبوركم ويحشرنكم إلى حساب يوم القيامة في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله، قال الزمخشريّ: القيامة والقيام كالطلابة والطلاب، وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب، قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6]، ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي لا شك في يوم القيامة أو في الجمع.
2. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ إنكار لأن يكون أحد أصدق منه تعالى في حديثه وخبره ووعده ووعيده، وبيان لاستحالته، لأنه نقص وقبيح، إذ من كذب، لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يجر منفعة بكذبه أو يدفع مضرة، أو هو جاهل بقبحه، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في أخباره، ولا يبالي بأيهما نطق، فظهر استحالة الكذب عليه جل شأنه، والغير، وإن دلت الدلائل على صدقه، فكذبه ممكن إذا لم ينظر إليها.
3. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ إما خبر للمبتدأ و(ليجمعنكم إلخ)، جواب قسم محذوف، والجملة القسمية مستأنفة لا محل لها، أو خبر ثان، وإما اعتراض، والجملة القسمية خبر.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/250
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء في الدار الآخرة هما الركنان الأولان للدين وإنما الرسل يبلغون الناس ما يجب من إقامتهما ودعمهما بالأعمال الصالحة، فلا غرو أن يصرح القرآن بهما معا تارة وبالأول منهما تارة أخرى في أثناء سرد الأحكام فإن ذكرهما هو العون الأكبر والباعث الأقوى على العمل بتلك الأحكام، وناهيك بأحكام القتال التي يبذل المؤمن فيها نفسه وماله للدفاع عن الحق والحقيقة وحرية الدين الإلهي ونشر هدايته وتأمين دعاته وأهله، وهل يبذل العاقل نفسه إلا في مرضاة من يجزيه على ذلك ما هو أفضل من هذه الحياة الدنيا وكل ما فيها.
2. فالمعنى: الله لا إله إلا هو لا يعبد غيره فلا تقصروا في طاعته والخضوع لأمره فإن في طاعته شرفكم وسعادتكم، وارتقاء أرواحكم وعقولكم، إذ حرركم بذلك من الرق والعبودية والخضوع لأمثالكم من البشر، بَلهَ الخضوع والذل لما دون البشر من المعبودات التي ذل لها المشركون، وسيجعل لكم بهذا الدين ملكا عظيما ويجعلكم الوارثين، وهل هذا كل ما عنده من الجزاء للمحسنين؟ كلا إنه والله ليجمعنكم ويحشرنكم إلى يوم القيامة، لا ريب في ذلك اليوم ولا فيما يكون فيه من الجزاء الأوفى على الأعمال.
3. فقد أكد الله تعالى خبره بالقسم وهو أقوى المؤكدات: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ أي لا أحد أصدق منه عز وجل فيرجح خبره على خبره، فكلام غيره يحتمل الصدق والكذب عن عمد وعلم أو عن جهل أو سهو، وأما كلامه تعالى فهو عن العلم المحيط بكل شيء ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: 52] فلا يحتمل أن يكون خبره غير صادق لنقص في العلم، كما لا يجوز أن يكون كذلك لغرض أو حاجة لأنه تعالى غني عن العالمين، وقد دل إعجاز القرآن على كونه كلام الله تعالى فلم يبق عذر لمن قام عليه الدليل، إذا آثر على قوله تعالى أقوال المخلوقين، كما هو دأب المقلدين الضالين.
__________
(1) تفسير المنار: 5/258.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن حث الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم على الجهاد وأمر المسلمين بمشاركته فيه، وأمرهم بإظهار المودة وقت السلم، بين أنهم مجزيون على كل هذا في يوم لا ريب فيه فقال: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ جمعت هذه الآية التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء في الدار الآخرة، وهما الركنان الأساسيان للدين، وقد أرسل الرسل جميعا لتبليغ الناس ما يجب عليهم من إقامتهما وتأييدهما بصالح الأعمال، والقرآن قد يصرح بهما تارة معا، وبالأول منهما تارة أخرى أثناء ذكر الأحكام، إذ هما العون الأكبر والباعث الأقوى على العمل بها ولا سيما أحكام القتال الذي يبذل المرء فيه نفسه ونفيسه للدفاع عن حرية الدين ونشر هدايته وتأمين دعاته وأهله.
2. والمعنى ـ الله لا إله إلا هو، فلا تقصّروا في عبادته والخضوع لأمره ونهيه، فإن في ذلك سعادتكم وارتقاء أرواحكم وعقولكم وتحريركم من رق العبودية لأمثالكم من البشر، بل من دونهم من المعبودات التي ذل لها المشركون، وهو سبحانه سيجمعكم ويحشركم إلى يوم القيامة، وهو يوم لا ريب فيه ولا فيما يكون فيه من الجزاء على الأعمال.
3. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ أي لا أحد أصدق منه عزّ وجل، إذ كلامه تعالى عن علم محيط بسائر الكائنات كما قال تعالى: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ فلا يمكن أن يكون خبره غير صادق بسبب النقص في العلم أو الغرض أو الحاجة، لأنه تعالى غنىّ عن العالمين، أما كلام غيره فهو محتمل للصدق والكذب عن عمد وعلم أو عن سهو وجهل، وقد دل الدليل على أن القرآن كلام الله، فلم يبق عذر لمن قام عليه الدليل إذا آثر على قوله أقوال المخلوقين كما هو دأب الضالين.
__________
(1) تفسير المراغي 5/113.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يبدأ هذا الدرس بقاعدة التصور الإسلامي الأساسية.. التوحيد وإفراد الله ـ سبحانه ـ بالألوهية؛ ثم يبني على هذه القاعدة أحكاما شتى في معاملة المجتمع المسلم مع المعسكرات المختلفة؛ بعد التنديد بانقسام الصف المسلم إلى فئتين ورأيين، في معاملة المنافقين ـ ويبدو أنها جماعة خاصة من المنافقين من غير سكان المدينة ـ فتقوم هذه الأحكام ـ وهذا التنديد أيضا ـ على قاعدتها الأصيلة، التي يقوم عليها بناء النظام الإسلامي كله.. والتي يتكرر ذكرها كلما اتجه المنهج الرباني إلى تشريع أو توجيه، هذه الأحكام في معاملة المعسكرات المختلفة، هي طرف من القواعد التي أنشأها الإسلام ـ لأول مرة في تاريخ البشرية ـ لتنظيم المعاملات الدولية؛ واتخاذ قواعد أخرى لهذه المعاملات، غير تحكيم السيف، ومنطق القوة، وشريعة الغاب.
إن أوربا بقانونها الدولي ـ وكل ما تفرع عنه من المنظمات الدولية ـ لم تبدأ في هذا الاتجاه إلا في القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري)، ولم يزل هذا القانون ـ في جملته ـ حبرا على ورق؛ ولم تزل هذه المنظمات ـ في جملتها ـ أدوات تختفي وراءها الأطماع الدولية؛ ومنابر للحرب الباردة! وليست أداة لإحقاق حق؛ ولا لتحقيق عدل! وقد دعت إليها منازعات بين دول متكافئة القوى، ولكن كلما اختل هذا التكافؤ لم يعد للقوانين الدولية قيمة، ولا للمنظمات الدولية عمل ذو قيمة! أما الإسلام ـ المنهج الرباني للبشر ـ فقد وضع أسس المعاملات الدولية في القرن السابع الميلادي (الأول الهجري)، ووضعها من عند نفسه؛ دون أن تضطره إلى ذلك ملابسات القوى المتكافئة، فهو كان يضعها ليستخدمها هو، وليقيم المجتمع المسلم علاقاته مع المعسكرات الأخرى على أساسها، ليرفع للبشرية راية العدالة، وليقيم لها معالم الطريق، ولو كانت المعسكرات الأخرى ـ الجاهلية ـ لا تعامل المجتمع المسلم بتلك المبادئ من جانبها.. فلقد كان الإسلام ينشئ هذه المبادئ إنشاء وللمرة الأولى.. وهذه القواعد للمعاملات الدولية متفرقة في مواضعها ومناسباتها من سور القرآن، وهي تؤلف في مجموعها قانونا كاملا للتعامل الدولي، يضم حكما لكل حالة من الحالات التي تعرض بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات الأخرى: محاربة، ومهادنة، ومحالفة، ومحايدة، ومرتبطة مع محارب، أو مهادن، أو محالف، أو محايد..
2. وليس بنا هنا أن نستعرض هذه المبادئ والأحكام (فهي جديرة ببحث مستقل يتولاه متخصص في القانون الدولي)، ولكننا نستعرض ما جاء في هذه المجموعة من الآيات في هذا الدرس.. وهي تتعلق بالتعامل مع الطوائف التالية:
أ. المنافقين غير المقيمين في المدينة.
ب. الذين يرتبطون بقوم بينهم وبين المسلمين ميثاق..
ج. المحايدين الذين تضيق صدورهم بحرب المسلمين أو حرب قومهم كذلك، وهم على دينهم.
د. المتلاعبين بالعقيدة الذين يظهرون الإسلام إذا قدموا المدينة ويظهرون الكفر إذا عادوا إلى مكة.
هـ. حالات القتل الخطأ بين المسلمين والقتل العمد على اختلاف المواطن والأقوام..
3. وسنجد أحكاما صريحة واضحة في جميع هذه الحالات؛ التي تكوّن جانبا من مبادئ التعامل في المحيط الدولي، شأنها شأن بقية الأحكام، التي تتناول شتى العلاقات الأخرى، ونبدأ من حيث بدأ السياق القرآني بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها بناء الإسلام كله، وبناء النظام الإسلامي في شتى جوانبه: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ إنه من توحيد الله ـ سبحانه ـ وإفراده بالألوهية تبدأ خطوات المنهج الرباني ـ سواء في تربية النفوس أم في إقامة المجتمع، ووضع شرائعه وتنظيمه؛ وسواء كانت هذه الشرائع متعلقة بالنظام الداخلي للمجتمع المسلم، أم بالنظام الدولي، الذي يتعامل هذا المجتمع على أساسه مع المجتمعات الأخرى، ومن ثم نجد هذا الافتتاح لمجموعة الآيات المتضمنة لطائفة من قواعد التعامل الخارجية والداخلية أيضا.
4. كذلك من الاعتقاد في الآخرة، وجمع الله الواحد لعباده، ليحاسبهم هناك على ما أتاح لهم في الدنيا من فرص العمل والابتلاء، تبدأ خطوات هذا المنهج في تربية النفوس، وإثارة الحساسية فيها تجاه التشريعات والتوجيهات؛ وتجاه كل حركة من حركاتها في الحياة.. فهو الابتلاء في الصغيرة والكبيرة في الدنيا؛ والحساب على الصغيرة والكبيرة في الآخرة.. وهذا هو الضمان الأوثق لنفاذ الشرائع والأنظمة؛ لأنه كامن هناك في أعماق النفس، حارس عليها، سهران حيث يغفو الرقباء ويغفل السلطان!
5. هذا حديث الله ـ سبحانه ـ وهذا وعده: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/727.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ هو تعقيب على تلك الدعوة الكريمة التي دعا الله المسلمين إليها، وهى تبادل الإحسان والمعروف بينهم، ولو بالكلمة الطيبة، وهى التحية..
2. وفي هذا التعقيب، يتجلّى الله سبحانه وتعالى متفردا بألوهيته، لا يملك أحد مع الله شىء.. وهو بهذا التفرد قائم على عباده، يجمعهم إليه يوم القيامة، ليجزى كل نفس بما كسبت.. ذلك أمر لا شك فيه، قد أخبرنا الله به في كتبه، وعلى لسان أنبيائه.. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/855.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ استئناف ابتدائي، جمع تمجيد الله، وتهديدا، وتحذيرا من مخالف أمره، وتقريرا للإيمان بيوم البعث، وردّا لإشراك بعض المنافقين وإنكارهم البعث، فاسم الجلالة مبتدأ، وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ معترضة بين المبتدأ وخبره لتمجيد الله.
2. جملة ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ جواب قسم محذوف واقع جميعه موقع الخبر عن اسم الجلالة، وأكّد هذا الخبر: بلام القسم، ونون التوكيد، وبتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، لتقوية تحقيق هذا الخبر، إبطالا لإنكار الذين أنكروا البعث.
3. معنى ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ نفي أن يتطرّقه جنس الريب والشكّ أي في مجيئه، والمقصود لا ريب حقيقيا فيه، أو أنّ ارتياب المرتابين لوهنه نزّل منزلة الجنس المعدوم، والاستفهام عن أن يكون أحد أصدق من الله هو استفهام إنكاري، و(حديثا) تمييز لنسبة فعل التفضيل.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/209.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عليكم أن تتذكروا في كل شئونكم أنه جل ذكره: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ وقد نزلت هذه الآية في شأن هؤلاء المكذبين الذين يشكون في البعث والحساب، فأقسم الله تعالى لهم بنفسه، والدليل على ذلك القسم هو وجود اللام المتصلة بكلمة ليجمعنكم، ثم نون التوكيد المشددة بعدها، يقول النحاة أن اللام واقعة في جواب قسم، والتقدير، والله أعلم، أن الله يقسم ليجمعنكم، فهو قسم، يلقيه إلينا رب العزة، بأنه سيجمع الناس وهم أموات تحت الأرض، فكل من يموت سيجمع إلى من سبقوه تحت التراب، وسيظل جمعهم هذا إلى يوم القيامة ثم يبعثون.
2. وفى رأى آخر أن حرف الجر (إلى) صلة في الكلام، معناه: ليجمعنكم يوم القيامة، وسميت القيامة قيامة؛ لأن الناس يقومون في هذا اليوم لله رب العالمين، قال جل شأنه: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين]
3. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾، استفهام تقريرى، هل هناك من هو أصدق من الله؟ فيكون الجواب تقريرا للحقيقة التى لا يشك فيها مؤمن: لا، لا أحد أصدق من الله، فهو سبحانه، يخاطبنا بما كان، وما سيكون، وكل ما جاء من عنده صدق لا ريب فيه، فهو جل شأنه لا يجوز عليه الكذب، لأن الكذب إخبار عن الشىء بغير ما هو عليه، والكاذب لا يكذب إلا أنه في حاجة للكذب، لكى يستفيد منفعة، أو يدفع مضرة، والله سبحانه وتعالى حكيم غنى لا يجوز عليه الاحتياج، فهو عالم بكل معلوم، منزه عن الكذب، كما هو منزه عن سائر النقائص والقبائح، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1787.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اهتم الإسلام اهتماما بالغا بالدعائم الأولى للإسلام، وإثباتها بشتى الأساليب، وهذه الدعائم هي: الايمان بالله، والرسول، واليوم الآخر.. ومن تتبع آي الذكر الحكيم الواردة في البعث والحشر يجدها على أنواع، منها:
أ. مجرد اخبار عن وقوع يوم القيامة: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [ابراهيم: 48]
ب. الإخبار مع تأكيد الوقوع بالقسم ونفي الريب، كهذه الآية: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، أي والله ليجمعنكم.
ج. الاستدلال على إمكان المعاد بخلق السموات والأرض.. ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأحقاف: 33]، وأوضح تفسير لهذه الآية قول من قال: (ومن ركب البحر استقل السواقيا)
د. الاستدلال بخلق النبات: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ [فاطر: 9]
هـ. الاستدلال بخلق النشأة الأولى للإنسان: ﴿فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الاسراء: 51]
و. الاستدلال بالمشاهدة والعيان، من ذلك ان الله سبحانه أمات جماعة من بني إسرائيل ثم أحياهم: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 56]، وأحيا الرجل الاسرائيلي بعد قتله: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 73]، وأيضا أحيا عزيرا بعد موته: ﴿فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ [البقرة: 259]، وأيضا أحيا طيور ابراهيم الأربعة بعد أن قطعها أجزاء: ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾ [البقرة: 260]، وأحيا أهل الكهف بعد أن أماتهم 309 سنوات: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ﴾ [الكهف: 19]
2. صدق الله العظيم: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الزمر: 27]، وهل يتذكر جاهل يقيس من لا يعجزه شيء على من لا يقدر على شيء؟
3. وكيف يؤمن المنافق بيوم يعز الصادقين، ويذل المنافقين؟ ولا أدري أي ضرر على المجتمع أو الأفراد من الايمان بيوم يميز الله فيه الخبيث من الطيب، وبمحكمة يتساوى فيها الجميع أمام الحق والعدالة؟
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/397.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ معنى الآية ظاهر، وهي بمنزلة التعليل لما تشتمل عليه الآيتان السابقتان من المضمون كأنه قيل: خذوا بما كلفكم الله في أمر الشفاعة الحسنة والسيئة، ولا تبطلوا تحية من يحييكم بالإعراض والرد فإن أمامكم يوما يجمعكم الله فيه ويجازيكم على إجابة ما دعاكم إليه ورده.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/31.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ هذه أصول الدين تدل على أهمية طاعة الرسول والنصح له لدعوته إلى هذه الأصول حين كان أكثر الناس مشركين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا بكتابه، واعتبر يوم القيامة فاصلاً بين العباد مجازياً لكل عامل بعمله، فالناس يجمعهم الله إلى هذا اليوم الذي يقسمون فيه فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير، وجمعهم إليه جمعهم فيه له، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ [التغابن:9]
2. ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شك فيه، وأصل الريب قلق النفس من الشك، كما قال الشاعر:
çلقد رابني من عامر أن عامراً...بعين الرضى يرنو إلى من جفانياé
3. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ لا أصدق من الله حديثاً، خرج النفي مخرج السؤال؛ لأنه لا يدعي أحد انه أصدق ولا يدعَى لأحد أنه أصدق من الله، فوعده بجمع الناس ليوم القيامة صدق، وكلما في كتابه صدق وحق؛ لأنه غنى كريم لا يحتاج إلى الكذب ولا يريده؛ لأن إرادته إرادة حكمة لا إرادة شهوة وهوى، وهو عالم أنه غني عن الكذب والباطل، وأن ذلك قبيح لا يصدر من غني حكيم كريم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/133.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. انطلقت الآية الكريمة لتملأ وجدان الإنسان وضميره بعظمة اللَّه، كأسلوب من أساليب تربية الشخصية الإيمانية على الشعور الدائم بحضور الله في داخل النفس، بالمستوى الذي يتلاشى فيه كل حضور آخر لأي شيء آخر معه، في اتجاه حركة المسؤولية في وعي الإنسان لذاته ولدوره.
2. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ فهو وحده الإله، وكل ما هناك ومن هناك خاضع لألوهيته، ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ فانظروا كيف تواجهون الموقف، في لحظات الحساب الحاسمة على أعمالكم، واعرفوا كيف تجادلون عن أنفسكم ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [النحل: 111]، حيث لا مجال للشك في هذه الحقيقة، ولا موقع للريب، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ عند ما ينذر ويخبر ويتوعّد، وماذا بعد ذلك؛ إنها الحقيقة العارية التي لا تترك أمامها أيّ ضباب أو ظلمة.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/387
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جاءت هذه الآية مكملة لما سبقتها ومقدمة لما تليها من آيات، فالآية السابقة بعد أن أمرت بردّ التحية قالت: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾، والآية موضوع البحث تشير إلى قضية غيبية مهمّة هي قضية يوم البعث والحساب، حيث محكمة العدل الإلهية العامّة للبشر أجمعين، وتقرنها بمسألة التوحيد الذي هو ركن آخر من أركان الإيمان ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾
2. عبارة ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ تدلّ على الشمولية لكل البشر من أوّلهم حتى آخرهم، حيث سيجمعون (كلّهم) في يوم واحد هو يوم الحشر والقيامة، وفي موضع آخر من القرآن (الآيتان 93 و94 من سورة مريم) أشير أيضا إلى هذه الحقيقة.. حقيقة بعث جميع عباد الله ـ من سكن منهم على هذه الكرة الأرضية أو على كرات أخرى ـ في يوم واحد.
3. وعبارة ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ الواردة في الآية وفي آيات أخرى، إنّما هي إشارة إلى الأدلة القطعية البديهية على وقوع يوم القيامة، مثل دليل (قانون التكامل) و(حكمة الخلق) و(قانون العدل الإلهي)، المذكورة بالتفصيل في مبحث المعاد.
4. تؤكد الآية في نهايتها على حقيقة أنّ الله هو أصدق الصادقين:﴿مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً﴾ من هنا لا يجوز أن يساور أحد الشك فيما يعد به الله من بعث ونشور وغيره من الوعود، فالكذب لا يصدر إلّا عن جهل أو ضعف وحاجة، والله أعلم العالمين، وإليه سبحانه يحتاج العباد دون أن يحتاج هو إلى أحد مطلقا، فهو منزّه عن صفات الجهل والضعف والعجز، ولذلك فهو أصدق الصادقين، بل إن الكذب بالنسبة إلى الله تعالى لا مفهوم له إطلاقا.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/366
83. المنافقون والارتكاس
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈83⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النساء: 88]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عوف:
روي عن عبد الرحمن بن عوف (ت 32 هـ) أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة، فأسلموا، وأصابهم وباء المدينة ـ حماها ـ، فأركسوا، خرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من الصحابة، فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فقالوا: ما لكم في رسول الله أسوة حسنة!؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، إنهم مسلمون، فأنزل الله: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ الآية(1).
__________
(1) أحمد ٣/٢٠٣.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا فيهم بأس، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء، فاقتلوهم؛ فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله! أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به، من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم!؟ فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحد من الفريقين عن شيء؛ فنزلت: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ إلى قوله: ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾، يقول: حتى يصنعوا كما صنعتم، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ قال عن الهجرة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ﴾، يقول: أوقعهم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿أَرْكَسَهُمْ﴾، قال ردهم(2).
4. روي أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قول: ﴿أَرْكَسَهُمْ﴾، قال حبسهم في جهنم بما عملوا، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول أمية(3).:
çأركسوا في جهنم أنهم كانوا عتاة... يقولوا مينا وكذبا وزوراé
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٨٣.
(2) ابن جرير ٧/٢٨٨.
(3) الطستي في مسائله ـ كما في الإتقان ٢/٩١.
أبو سلمة:
روي عن أبي سلمة (ت 94 هـ)، عن عبد الرحمن أن نفرا من طوائف العرب هاجروا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمكثوا معه ما شاء الله أن يمكثوا، ثم ارتكسوا، فرجعوا إلى قومهم، فلقوا سرية من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فعرفوهم، فسألوهم: ما ردكم؟ فاعتلوا لهم، فقال بعض القوم لهم: نافقتم، فلم يزل بعض ذلك حتى فشا فيهم القول؛ فنزلت هذه الآية: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٢٤.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: هم ناس تخلفوا عن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأقاموا بمكة، وأعلنوا الإيمان، ولم يهاجروا، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتبرأ من ولايتهم آخرون، وقالوا: تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يهاجروا، فسماهم الله منافقين، وبرأ المؤمنين من ولايتهم، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾، فرقتين(2).
__________
(1) ابن جرير ٣/٢٨٤.
(2) ابن المنذر ٢/٨٢١.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾، قوم خرجوا من مكة حتى جاؤوا المدينة، يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المؤمنون؛ فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتلهم، فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي، وبينه وبين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حلف، وهو الذي حصر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه، فدفع عنهم بأنهم يؤمون هلالا وبينه وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عهد(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٨٢.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال في الآية: أخذ ناس من المسلمين أموالا من المشركين، فانطلقوا بها تجارا إلى اليمامة، فاختلف المسلمون فيهم، فقالت طائفة: لو لقيناهم قتلناهم، وأخذنا ما في أيديهم، وقال بعض: لا يصلح لكم ذلك، إخوانكم انطلقوا تجارا، فنزلت هذه الآية: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٢٤.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾، ذكر لنا: أنهما كانا رجلين من قريش، كانا مع المشركين بمكة، وكانا قد تكلما بالإسلام، ولم يهاجرا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلقيهما ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهما مقبلان إلى مكة، فقال بعضهم: إن دماءهما وأموالهما حلال، وقال بعضهم: لا يحل ذلك لكم، فتشاجروا فيهما؛ فأنزل الله: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ حتى بلغ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾، أهلكهم بما عملوا(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٨٤.
(2) عبد الرزاق ١/١٦٧.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ معناه نكّسهم وردّهم فيه ويقال: أهلكهم(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 123.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿أَرْكَسَهُمْ﴾، أضلهم(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٨٩.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) عن ابن لسعد بن معاذ الأنصاري: أن هذه الآية أنزلت فينا: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾، خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس، فقال: (من لي بمن يؤذيني ويجمع لي في بيته من يؤذيني؟)، فقام سعد بن معاذ، فقال: إن كان منا يا رسول الله قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا فأطعناك، فقام سعد بن عبادة، فقال: ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكن عرفت ما هو منك، فقام أسيد بن حضير: فقال: إنك يا ابن عبادة منافق تحب المنافقين، فقام محمد بن مسلمة، فقال: اسكتوا، أيها الناس، فإن فينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو يأمرنا فننفذ لأمره، فأنزل الله: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ الآية(1).
__________
(1) سعيد بن منصور في التفسير من سننه ٤/١٣١٣.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: قال الله عز وجل: ﴿فَمَا لَكُمْ﴾ صرتم ﴿فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ تختصمون، ﴿وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ يعني: أضلهم فردهم إلى الكفر ﴿بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ﴾ عن الهدى ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٤.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ﴾ هو: ما لكم فيهم حزبين تتحاجون، وفي أمرهم تتحاورون، وهذا القول فكان من المؤمنين في أهل النفاق، والكفر والشقاق؛ فأخبر عز وجل: أنه أركسهم بما كسبوا، أي: خذلهم وتركهم من التوفيق؛ لشراراتهم وبعدهم من طاعة ربهم، فهلكوا بذلك، وصاروا من المعذبين، وعند الله من المقبوحين؛ وذلك أن هؤلاء القوم الذين ذكر الله اختلاف المؤمنين فيهم ـ رجعوا إلى مكة من بعد إيمانهم، فقال قوم: هم مؤمنون، وقال آخرون: هم منافقون، قد ارتدوا عن الإسلام؛ وذلك أنهم عند خروجهم إلى مكة كتبوا من طريقهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنا على عهدك، والتصديق بدينك، إلا أنا نزعنا إلى وطننا، فوهموا بذلك على المؤمنين، فبين الله نفاقهم، وما كان في ضميرهم، من الرجوع عن الدين، وأوضح أمرهم لجميع المؤمنين.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/250.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عز وجل: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ اختلف في قصة الآية:
أ. قيل: إن ناسًا من أهل مكة قدموا على رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينةَ، فأسلموا، وأقاموا بها ما شاء اللَّه أن يقيموا، ثم ندموا على الهجرة والإقامة فيها، وأرادوا الرجعة إلى مكة واجتووا المدنية؛ فخرجوا يتحولون مَنْقَلَةً مَنْقَلَةً، حتى تباعدوا من المدينة، فلحقوا بمكة، فكتبوا كتابًا، ثم بعثوا به مع رسول من قبلهم إلى رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقدم به الرسول عليه بالمدينة، فإذا فيه: (إنا على الذي فارقناك عليه من التصديق باللَّه وبرسوله، اشتقنا إلى أرضنا، واجتوينا المدينة). ثم إنهم خرجوا من مكة متوجهين إلى الشام للتجارة، فبلغ ذلك المسلمين وهم عند رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فقَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: فما يمنعنا أن نخرج إلى هَؤُلَاءِ الذين رغبوا عن ديننا، وتركوا هجرتنا، فنقتلهم ونأخذ ما معهم!؟ فقال فريق منهم: كيف تقتلون قومًا على دينكم!؟ ورسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ساكت لا ينهى واحدًا من الفريقين؛ حتى نزل قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾: يبين اللَّه عز وجل لرسوله أمرهم وما صاروا إليه.
ب. وقيل: تخلَّف رجال عن أُحُدٍ، فكان أصحاب رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم فئتين: فرقة تقول: اعف عنهم، وفرقة تقول: نقتلهم؛ فنزلت الآية: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾
ج. وقيل: إن قومًا كانوا يتحدثون، فاختصموا في أهل مكة: فقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كفار، وقال آخرون: إنهم قد أكلوا ذبائحكم، وصلوا صلاتكم، وأجابوا دعوتكم؛ فهم معكم، وقال غيرهم: تركوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتخلفوا عنه. فأكثروا في ذلك؛ فنزل قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ الآية.
2. لا ندري كيف كانت القصة، ولكن فيه النهي عن الاختلاف والتنازع بينهم؛ كأنه قال: كيف تختلفون في قوم ظهر نفاقهم؟ وكيف لا تسألون رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم عن حالهم وهو بين أظهركم!؟ كقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ الآية، وظهور نفاقهم يحتمل الخبر منه نصًّا أنهم منافقون، ويحتمل الظهور بالاستدلال على أفعالهم، وقد يوقف على حال المرء بفعله أنه كافر أو مؤمن.
3. وقوله عز وجل: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ قال الكسائي: فيه لغتان؛ يقال: أركسته في أمر كذا وكذا وركسته، وارتكس الرجل: إذا وقع فيه ورجع إليه، وقيل في حرف ابن مسعود وحفصة: (واللَّه ركسهم بما كسبوا)، ثم قيل: أركسهم: أي ردهم، وعن ابن عَبَّاسٍ: ﴿أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ قال: أوقعهم.
4. ثم يحتمل قوله تعالى: ﴿أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ وجهين:
أ. ما أظهروا بما كان في قلوبهم من النفاق والخلاف لرسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ كقوله تعالى: ﴿بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾
ب. ويحتمل: ابتداء كسب كسبوا بعد ما أسلموا، أي: كفروا وارتدوا عن الإسلام بعد ما صح إسلامهم.
5. في إضافة ارتكاسهم إلى اللَّه دلالة خلق فعلهم وحرمان أمر يملكه، واللَّه أعلم بما كسبوا من إحداث شرك، أو بكسبهم بالقلوب وقت إظهارهم الإيمان في أن ظهر عليهم بلحوقهم إخوانهم من الكفرة، أو لما جعل اللَّه من أعلام النفاق التي ظهرت بغرض الجهاد والعبادات.
6. وقوله عز وجل: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾
أ. تأويله: أتريدون أن تهدوا وقد أراد اللَّه أن يضلُّوا؛ لما علم اللَّه منهم أنهم لا يهتدون؛ باختيارهم الكفر.
ب. ويحتمل: إنكم لا تقدرون على هداهم إذا لم يهدهم اللَّه؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾،
7. وفي قوله ـ أيضًا ـ: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا﴾:
أ. قيل: أن يُسَمَّوْا مهتدين، وقد أظهر اللَّه تعالى ضلالهم؛ صلة لقوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ وحذرهم عن الاختلاف في التسمية بعد البيان.
ب. وقيل: أن تجعلوهم مهتدين، وقد جعلهم ضالين على نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ الآية، أَيَّدَنَا تَمَامُ الآية، وأوضح الأول قوله: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ يقول: من أضله اللَّه عن الهدى فلن تجد له سبيلا يهتدي به، وقيل: دينا، وقيل: مخرجا، وهو واحد.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٢89
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾، أي ما بالكم وما شأنكم في المنافقين جماعتين مختلفتين، منكم من يقول هم مؤمنون، ومنكم من يقول هم منافقون، بل الواجب أن تجمعوا ولا تنازعوا في أمرهم، وتعتقدوا عداوتهم، فهم منافقون في الكلام الذي أعجبكم من قولهم، ولا تختلفوا ولا تشكوا في نفاقهم.
2. ومعنى قوله: ﴿وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ﴾، قيل: نجاهم من النار ونكسهم، وقيل: حشرهم وضمّهم معاً وجمعهم، قال الشاعر:
çوأركسوا في جهنم إنهم... كانوا عتاة يقولون الكذب والزوراءé
وقيل: معنى أركسهم: أي جمعهم في النار معاً، وضمهم في العذاب.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/247.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد وقالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وقيل: إنها نزلت في قوم قدموا المدينة وأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا الشرك.
2. ﴿وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ أي ردهم وأوقعهم وقيل معناه أهلكهم وكبتهم ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ﴾ أي تسموهم بالهدى وقد سماهم الله ضلالاً.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/189.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف فيمن نزلت هذه الآية بسببه على خمسة أقاويل:
أ. أحدها: أنها نزلت في الذين تخلَّفُواْ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، وقالواْ: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وهذا قول زيد بن ثابت.
ب. والثاني: أنها نزلت في قوم قَدِمُواْ المدينة فأظهروا الإسلام، ثم رجعواْ إلى مكة فأظهروا الشرك، وهذا قول الحسن، ومجاهد.
ج. والثالث: أنها نزلت في قوم أظهرواْ الإِسلام بمكة وكانواْ يعينون المشركين على المسلمين، وهذا قول ابن عباس، وقتادة.
د. والرابع: أنها نزلت في قوم من أهل المدينة أرادوا الخروج عنها نفاقاً، وهذا قول السدي.
هـ. والخامس: أنها نزلت في قوم من أهل الإفك، وهذا قول ابن زيد.
2. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ خمسة تأويلات:
أ. أحدها: معناه ردهم، وهذا قول ابن عباس.
ب. والثاني: أوقعهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.
ج. والثالث: أهلكهم، وهذا قول قتادة.
د. والرابع: أَضَلَّهم، وهذا قول السدي.
هـ. والخامس: نكسهم، وهذا قول الزجاج.
3. في قوله تعالى: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن تُسَمُّوهم بالهُدى وقد سمّاهم الله بالضلال عقوبة لهم.
ب. والثاني: تهدوهم إلى الثواب بمدحهم والله قد أَضَلَّهم بذمهم.
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥١٤)
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. خاطب اللَّه تعالى بهذه الآية المؤمنين، فقال: ما شأنكم أيها المؤمنون في أهل النفاق فرقتين مختلفتين ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ يعني بذلك واللَّه ردهم إلى أحكام أهل الشرك في اباحة دمائهم، وسبي ذراريهم ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ يعني بما كذبوا اللَّه ورسوله، وكفروا بعد إسلامهم، والإركاس والرد، ومنه قوله أمية بن أبي الصلت:
çفاركسوا في حميم النار انهم...كانوا عصاة وقالوا الافك والزورé
قال الفراء: يقال منه أركسهم، وركسهم وقد ذكر أنا في قراءة عبد اللَّه وأبي ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ بغير الف.
2. فيمن نزلت هذه الآية خمسة أقوال:
أ. أحدها ـ قال قوم نزلت في اختلاف أصحاب رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم في الذين تخلفوا عن رسول اللَّه يوم أحد، وانصرفوا إلى المدينة، وقالوا لرسول اللَّه وأصحابه لو نعلم قتالا لاتبعناكم، ذكر ذلك زيد بن ثابت.
ب. والثاني ـ قال مجاهد، وأبو جعفر عليه السلام، والفراء: إنها نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة، وأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون، ثم رجعوا إلى مكة، لأنهم استوخموا المدينة، وأظهروا لهم الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة، فأراد المسلمون أن يأخذوهم وما معهم فاختلفوا، وقال قوم: لا نفعل ذلك لأنهم مؤمنون، وقال آخرون: هم مرتدون، فأنزل اللَّه فيهم الآية.
ج. الثالث ـ قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك: بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين، فقال قوم: دماؤهم، وأموالهم حلال وقال آخرون: لا بل هو حرام.
د. الرابع ـ قال السدي نزلت في قوم كانوا بالمدينة أرادوا الخروج عنهم نفاقا، وقالوا للمؤمنين أصابنا جدب وخصاصة نخرج إلى الظهر حتى نتمايل، ونرجع، فقال قوم: هم منافقون، وقال آخرون: هم مؤمنون.
هـ. والخامس ـ قال ابن زيد: بل نزلت في اختلاف أصحاب رسول اللَّه في قصة أهل الافك عبد اللَّه بن أبي، وأصحابه، لما تكلموا في عائشة.
3. قوله تعالى: ﴿فِئَتَيْنِ﴾ يحتمل نصبه أمرين:
أ. أحدهما ـ قال بعض البصريين هو نصب على الحال كقولك: مالك قائماً، ومعناه مالك في حال القيام.
ب. وقال الفراء: هو نصب على فعل ما لكم ولا ينافي كان المنصوب في مالك: معرفة، أو نكرة، ويجوز أن تقول مالك السائر معنا، لأنه كالفعل الذي ينصب بكان، وأظن، وما أشبههما قال: وكل موضع صلحت فيه فعل ويفعل من المنصوب، جاز نصب المعرفة، والنكرة، كما تنصب كان وأظن، لأنهما نواقص في المعنى، وان ظننت انهن تامات.
4. اختلفوا في معنى اركسهم، فقال ابن عباس: معناه ردهم، وفي رواية أخرى عنه: أوقعهم، وقال قتادة: اهلكهم، وقال السدي: معناه أضلهم بما كسبوا، ومعناه أيضاً اهلكهم.
5. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ معناه أتريدون أيها المؤمنون أن تهدوا إلى الإسلام من أضله اللَّه، ويحتمل معنيين:
أ. أحدهما ـ أن من وجده اللَّه ضالا، وسماه بأنه ضال، وحكم به من حيث ضل بسوء اختياره.
ب. والثاني ـ أضله اللَّه بمعنى خذله، ولم يوفقه كما وفق المؤمنين، لأنهم لما عصوا وخالفوا استحقوا هذا الخذلان عقوبة لهم على معصيتهم، فيريدون الدفاع عن قتالهم مع ما حكم اللَّه بضلالهم وخذلانهم، وقال الجبائي: المعنى ومن يعاقبه اللَّه على معاصيه، فلا تجد له طريقاً إلى الجنة، وطعن على الأول من قول البغداديين ان المراد به التسمية، والحكم بأن قال: لو أراد ذلك، لقال: ومن ضلل اللَّه وهذا ليس بشيء، لأنهم يقولون: أكفرته وكفرته، وأكرمته وكرمته: إذا سميته بالكفر أو الكرم قال الكميت:
çفطائفة قد أكفروني بحبكم...وطائفة قالوا مسيئ ومذنبé
ج. ويحتمل أن يكون المراد وجدهم ضلالا، كما قال الشاعر: (هبوني امرأ منكم أضل بعيره) أي وجده ضالا، ثم قال لهم أليس اللَّه قال: ﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ أترى أراد ان الشيطان يخلق فيهم الضلالة؟ بل انما أراد يدعوهم إليها ولا خلاف أن اللَّه تعالى لا يدعو إلى الضلالة.
6. يقوي قول من قال: المراد به التسمية، قوله: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ وانما أراد ان تسموهم مهتدين لأنهم كانوا يزعمون أنهم مؤمنون فحينئذ رد اللَّه عليهم، فقال: لا تختلفوا في هؤلاء، وقولوا بأجمعكم: إنهم منافقون، ولم يكونوا يدعونهم إلى الايمان، فخالفهم أصحابهم، فعلم ان الصحيح ما قلناه.
7. ثم أخبر اللَّه تعالى فقال: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ يعني من خذله ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ يا محمد ولا طريقاً.
8. من قال من المجبرة: إن قوله: ﴿أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ يدل على أنه أوقعهم في النفاق، فقولهم باطل، لأنه قال: بما كسبوا، فبين انه فعل بهم ذلك على وجه الاستحقاق، وذلك لا يليق إلا بما قدمناه، لأنه لو أوقعهم في النفاق لمعصية تقدمت، لكان يجب أن يكون أوقعهم فيها لمعصية أخرى، وذلك يؤدي إلى ما لا يتناهي أو ينتهي إلى معصية ابتدأهم بها وذلك ينافي قوله: ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾
9. الفئة الفرقة من الناس، مأخوذ من فأيت رأسه إذا شققته والفأو: الشعب من شعاب الجبل، والركس: الرد إلى الحالة الاولى، ومنه قيل للعذرة، والروث: ركس.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/281
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الفئة: الفرقة، والفئتان: الفرقتان.
ب. الركس: قلب الشيء على رأسه ورد أوله إلى آخره، وارتكس فلان في أمر كان فيه أي نجا منه قال الكسائي: أركسهم وركسهم بمعنى ردهم، وإذا نسبت الفعل إلى الراجع قلت: ارتكس.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في قوم بمكة قدموا المدينة، وأظهروا الإسلام نفاقًا، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا الترك، ثم خرجوا نحو الشام لتجارة، فاختلف المسلمون في قتالهم فنزلت الآية وما بعدها عن الحسن ومجاهد.
ب. وقيل: نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين، فاختلف ناس من المؤمنين فيهم، وتشاجروا، فنزلت الآية عن ابن عباس وقتادة.
ج. وقيل: نزلت في الَّذِينَ تخلفوا يوم أحد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقالوا ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ الآية، فاختلف أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا نقتلهم فنزلت الآية عن زيد بن ثابت.
د. وقيل: نزلت في ناس صلوا وأخذوا أموال المسلمين وانطلقوا بها إلى اليمامة، فاختلف المسلمون فيهم فنزلت الآية عن عكرمة.
هـ. وقيل: نزلت في قوم هاجروا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، ثم ارتدوا واستأذنوا الرجوع إلى مكة لبضائع لهم بها، فاختلف المسلمون فيهم، ومنهم من قال: هم منافقون، ومنهم من قال: هم مؤمنون فنزلت الآية عن مجاهد.
و. وقيل: نزلت في قوم أسلموا بمكة فلما هاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يهاجروا، فاختلف المسلمون فيهم، فنزلت الآية.. وقيل: الدليل على أنهم من أهل مكة قوله تعالى: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
ز. وقيل: نزلت في قوم من أهل المدينة أرادوا الخروج عنها نفاقًا عن السدي.
ح. وقيل: نزلت في قوم من أهل الإفك عن ابن زيد.
3. عاد الكلام إلى حديث المنافقين، وقد تقدم ذكرهم فقال تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ﴾:
أ. قيل: معناه ليس لكم أن تفترقوا في أمرهم.
ب. وقيل: لا تكونوا مختلفين في أمرهم.
4. ﴿فِي الْمُنَافِقِينَ﴾ في أمرهم وحكمهم، وسماهم منافقين وإن أظهروا الكفر؛ لأنهم نسبوا إلى ما كانوا عليه من قبل عن الحسن ﴿فِئَتَيْنِ﴾ أي فرقتين مختلفتين:
أ. قيل: لأن فرقة منهم كانت تميل إليهم، وتذب عنهم وتواليهم، وفرقة تباينهم وتعاديهم فنهوا عن ذلك، وأمروا بأن يكونوا على أمر واحد في تباينهم والتبري منهم.
ب. وقيل: فرقة حكمت بإيمانهم بحكم الظاهر، وفرقة تكفرهم.
ج. وقيل: مُحِلّ منكم ومُحَرِّمٌ.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾:
أ. قيل: أهلكهم بكفرهم عن قتادة.
ب. وقيل: نكسهم عن أبي علي والزجاج، قال أبو علي: أي جعلهم أذلاء أخساء بكفرهم، والمعنى يردهم في حكم الكفر من الصغار والذل.
ج. وقيل: خذلهم فأقاموا على كفرهم وترددوا فيه، فأخبر عن خذلانه إياهم بأنه أركسهم عن أبي مسلم.
د. وقيل: ردهم إلى حكم الكفار بما أظهروا من الكفر فيه، وأجرى عليهم أحكام الكفار من السبي والقتل؛ لأنهم أظهروا الارتداد بعدما كانوا على النفاق.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ﴾:
أ. قيل: أتريدون أن تحكموا بهداية من حكم الله بضلالته.
ب. وقيل: وجده الله ضالا.
ج. وقيل: أتريدون أن تهدوا إلى طريق الجنة والثواب بتسميتكم إياه مهتديا مَن حَرَمَه الله ذلك عقوبة.
د. وقيل: أتريدون أن تدخلوا الجنة من حكم الله له بالنار والعقاب عن أبي علي وأبي مسلم.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾:
أ. قيل: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ﴾ يحكم بضلاله ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ أي لا ينفع حكم أحد بهدايته كقولهم: من يفسقه الحاكم لا ينفعه تعديل المزكي.
ب. وقيل: من يهلكه الله فلن تجد أحدا ينجيه من الهلاك، قيل: من يضله عن الثواب والجنة لا تجد طريقًا إليه.
ج. وقيل: سبيلا طريقا ينجيه.
د. وقيل: مخرجًا وحجة.
8. تدل الآية الكريمة على:
أ. النهي عن الاختلاف في أمر المنافقين.
ب. النهي عن الاختلاف في أمر الدين، وهو أصل التوحيد والعدل؛ لأن الحق فيه واحد، فأما في الشرائع فيجوز؛ لأن كل مجتهد فيها مصيب، وكذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خلاف متي رحمة)
ج. أن الإيمان ليس هو مجرد القول.
د. أن الهدى يطلق ويراد به الوصف والمدح به، وأن الضلال يكون بمعنى العقاب؛ لأن إضلال المنافقين هو إهلاكهم وعقوبتهم.
9. قراءة العامة ﴿أَرْكَسَهُمْ﴾، وعن أُبَيٍّ بن كعب وابن مسعود ركسهم) وهما لغتان أَركَسَتُ الشيء ورَكَستُهُ نكسته ورددته.
10. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿فَمَا لَكُمْ﴾ استفهام، والمراد الإنكار ألا يكونوا كذلك.
ب. ﴿فِئَتَيْنِ﴾ نصب على الحال كقوله: ما لك قائمًا، أي ما لك في حال القيام عن سيبويه، وقيل: نصب على خبر ﴿كَانَ﴾ عن الفراء كأنه قيل: لم كنت قائمًا؟
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/736
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الإركاس: الرد، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
çفأركسوا في حميم النار إنهم... كانوا عصاة وقالوا الإفك والزوراé
قال الفراء: يقال أركسهم وركسهم، وقد ذكر أن عبد الله، وأبي بن كعب قرآ: (ركسهم) بغير ألف.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة، فأظهروا للمسلمين الاسلام، ثم رجعوا إلى مكة، لأنهم استوخموا المدينة، فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة، فأراد المسلمون أن يغزوهم، فاختلفوا، فقال بعضهم: لا نفعل فإنهم مؤمنون.
ب. وقال آخرون: إنهم مشركون، فأنزل الله فيهم الآية، عن مجاهد، والحسن، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
ج. وقيل: نزلت في الذين تخلفوا عن أحد، وقالوا: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ الآية، فاختلف أصحاب رسول الله، فقال فريق منهم: نقتلهم، وقال آخرون: لا نقتلهم، فنزلت الآية، عن زيد بن ثابت.
3. عاد الكلام إلى ذكر المنافقين فقال تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون صرتم ﴿فِي﴾ أمر هؤلاء ﴿الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾: أي فرقتين مختلفتين، فمنكم من يكفرهم، ومنكم من لا يكفرهم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾:
أ. قيل: أي ردهم إلى حكم الكفار، بما أظهروا من الكفر، عن ابن عباس.
ب. وقيل: معناه أهلكهم بكفرهم، عن قتادة.
ج. وقيل: خذلهم فأقاموا على كفرهم، وترددوا فيه، فأخبر عن خذلانه إياهم بأنه أركسهم، عن أبي مسلم.
5. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا﴾: أي تحكموا بهداية ﴿مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾:
أ. قيل: أي حكم الله بضلاله، وسماه ضالا.
ب. وقيل: معنى أضله الله: خذله ولم يوفقه، كما وفق المؤمنين، لأنهم لما عصوا وخالفوا، استحقوا هذا الخذلان، عقوبة لهم على معصيتهم: أي أتريدون الدفاع عن قتالهم، مع أن الله حكم بضلالهم، وخذلهم، ووكلهم إلى أنفسهم.
ج. وقال أبو علي الجبائي، معناه: أتريدون أن تهدوا إلى طريق الجنة من أضله تعالى عن طريق الجنة والثواب، وطعن على القول الأول بأنه لو أراد التسمية والحكم، لقال من ضلل الله، وهذا لا يصح، لان العرب تقول أكفرته وكفرته، قال الكميت:
çوطائفة قد أكفروني بحبكم... وطائفة قالوا مسئ ومذنبé
وأيضا فإنه تعالى، إنما وصف بهدايتهم، بأن سماهم مهتدين، لأنهم كانوا يقولون إنهم مؤمنون، فقال تعالى: لا تختلفوا فيهم وقولوا بأجمعكم إنهم منافقون.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾:
أ. قيل: معناه: ومن نسبه الله إلى الضلالة، فلن ينفعه أن يحكم غيره بهدايته، كما يقال: من جرحه الحاكم، فلا ينفعه تعديل غيره.
ب. وقيل: معناه من يجعله الله في حكمه ضالا، فلن تجد له في ضلالته حجة، عن جعفر بن حرث قال: ويدل على أنهم هم الذين اكتسبوا ما صاروا إليه من الكفر، دون أن يكون الله تعالى اضطرهم إليه قوله على أثر ذلك: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا﴾ فأضاف الكفر إليهم.
7. ﴿فِئَتَيْنِ﴾: نصب على الحال، كما تقول مالك قائما؟ والعامل في الحال معنى الفعل الذي في الظرف، أعني قوله لك.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/131.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ سبعة أقوال:
أ. أحدها: أنّ قوما أسلموا، فأصابهم وباء بالمدينة وحماها، فخرجوا فاستقبلهم نفر من المسلمين، فقالوا: ما لكم خرجتم؟ قالوا: أصابنا وباء بالمدينة، واجتويناها، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه.
ب. الثاني: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا خرج إلى أحد، رجع ناس ممّن خرج معه، فافترق فيهم أصحاب رسول الله، ففرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا نقتلهم، فنزلت هذه الآية، هذا في (الصّحيحين) من قول زيد بن ثابت.
ج. الثالث: أنّ قوما كانوا بمكّة تكلّموا بالإسلام وكانوا يعاونون المشركين، فخرجوا من مكّة لحاجة لهم، فقال قوم من المسلمين: اخرجوا إليهم فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عدوّكم، وقال قوم: كيف نقتلهم وقد تكلّموا بمثل ما تكلّمنا به؟ فنزلت هذه الآية، رواه عطيّة عن ابن عباس.
د. الرابع: أنّ قوما قدموا المدينة، فأظهروا الإسلام، ثم رجعوا إلى مكّة، فأظهروا الشّرك، فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، ومجاهد.
هـ. الخامس: أن قوما أعلنوا الإيمان بمكّة وامتنعوا من الهجرة، فاختلف المؤمنون فيهم، فنزلت هذه الآية، وهذا قول الضّحّاك.
و. السادس: أن قوما من المنافقين أرادوا الخروج من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إنه قد أصابتنا أوجاع في المدينة، فلعلّنا نخرج فنتماثل، فإنّا كنّا أصحاب بادية، فانطلقوا، واختلف فيهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول السّدّيّ.
ز. السابع: أنها نزلت في شأن ابن أبيّ حين تكلّم في عائشة بما تكلّم، وهذا قول ابن زيد.
2. ﴿فَمَا لَكُمْ﴾ خطاب للمؤمنين، والمعنى: أيّ شيء لكم في الاختلاف في أمرهم؟ و(الفئة): الفرقة.
3. في معنى (أركسهم) أربعة أقوال:
أ. أحدها: ردّهم، رواه عطاء، عن ابن عباس، قال ابن قتيبة: ركست الشيء، وأركسته: لغتان، أي: نكسهم وردّهم في كفرهم، وهذا قول الفرّاء، والزجّاج.
ب. الثاني: أوقعهم، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس.
ج. الثالث: أهلكهم، قاله قتادة.
د. الرابع: أضلّهم، قاله السّدّيّ.
4. ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ هو كفرهم، وارتدادهم، قال أبو سليمان، إنما قال: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ﴾، لأن قوما من المؤمنين قالوا: إخواننا، وتكلّموا بكلمتنا.
5. في قوله تعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)﴾ قولان:
أ. أحدهما: إلى الحجّة، قاله الزجّاج.
ب. الثاني: إلى الهدى، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/443
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ هذا نوع آخر من أحوال المنافقين ذكره اللَّه تعالى، وذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها:
أ. الأول: أنها نزلت في قوم قدموا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وآله مسلمين فأقاموا بالمدينة ما شاء اللَّه، ثم قالوا يا رسول اللَّه: نريد أن نخرج إلى الصحراء فائذن لنا فيه، فأذن لهم، فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين فتكلم المؤمنون فيهم، فقال بعضهم: لو كانوا مسلمين مثلنا لبقوا معنا وصبروا كما صبرنا وقال قوم: هم مسلمون، وليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر إلى أن يظهر أمرهم، فبين اللَّه تعالى نفاقهم في هذه الآية.
ب. الثاني: نزلت الآية في قوم أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين فاختلف المسلمون فيهم وتشاجروا، فنزلت الآية وهو قول ابن عباس وقتادة.
ج. الثالث: نزلت الآية في الذين تخلفوا يوم أحد عن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالوا: لو نعلم قتالا لا تبعناكم، فاختلف أصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم، فمنهم فرقة يقولون كفروا، وآخرون قالوا: لم يكفروا، فنزلت هذه الآية وهو قول زيد بن ثابت، ومنهم من طعن في هذا الوجه وقال: في/ نسق الآية ما يقدح فيه، وإنهم من أهل مكة، وهو قوله تعالى: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء: 89]
د. الرابع: نزلت الآية في قوم ضلوا وأخذوا أموال المسلمين وانطلقوا بها إلى اليمامة فاختلف المسلمون فيهم، فنزلت الآية وهو قول عكرمة.
هـ. الخامس: هم العرنيون الذين أغاروا وقتلوا يسارا مولى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
و. السادس: قال ابن زيد: نزلت في أهل الإفك.
2. في معنى الآية وجهان:
أ. الأول: أن ﴿فِئَتَيْنِ﴾ نصب على الحال كقولك: مالك قائما، أي مالك في حال القيام، وهذا قول سيبويه.
ب. الثاني: أنه نصب على خبر كان، والتقدير: مالكم صرتم في المنافقين فئتين، وهو استفهام على سبيل الإنكار، اي لم تختلفون في كفرهم مع أن دلائل كفرهم ونفاقهم ظاهرة جلية، فليس لكم أن تختلفوا فيه بل يجب أن تقطعوا بكفرهم.
3. إنما سماهم منافقين وان أظهروا الكفر لأنهم وصفوا بالصفة التي كانوا عليها من قبل، والمراد بقوله: ﴿فِئَتَيْنِ﴾ ما بينا ان فرقة منهم كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم، وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم، فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبري والتكفير.
4. ثم قال تعالى مخبرا عن كفرهم: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ الركس: رد الشيء من آخره إلى أوله، فالركس والنكس والمركوس والمنكوس واحد، ومنه يقال للروث الركس لأنه رد إلى حالة خسيسة، وهي حالة النجاسة، ويسمى رجيعا لهذا المعنى أيضا، وفيه لغتان: ركسهم وأركسهم فارتكسوا، أي ارتدوا، وقال أمية.
çفأركسوا في حميم النار إنهم...كانوا عصاة وقالوا الإفك والزوراé
5. ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ معنى الآية أنه ردهم إلى أحكام الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل بما كسبوا، أي بما أظهروا من الارتداد بعد ما كانوا على النفاق، وذلك أن المنافق ما دام يكون متمسكا في الظاهر بالشهادتين لم يكن لنا سبيل إلى قتله، فإذا أظهر الكفر فحينئذ يجري اللَّه تعالى عليه أحكام الكفار.
6. ثم قال تعالى: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾:
أ. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ المراد من قوله: ﴿أَضَلَّ اللَّهُ﴾ ليس أنه هو خلق الضلال فيه للوجوه المشهورة، ولأنه تعالى قال قبل هذه الآية: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ فبين تعالى انه إنما ردهم وطردهم بسبب كسبهم وفعلهم، وذلك ينفي القول بأن إضلالهم حصل بخلق اللَّه وعند هذا حملوا قوله: ﴿مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ على وجوه:
• الأول: المراد منه ان اللَّه تعالى حكم بضلالهم وكفرهم كما يقال فلان يكفر فلانا ويضله: بمعنى أنه حكم به وأخبر عنه:
• الثاني: أن المعنى أتريدون أن تهدوا إلى الجنة من أضله اللَّه عن طريق الجنة، وذلك لأنه تعالى يضل الكفار يوم القيامة عن الاهتداء إلى طريق الجنة.
• الثالث: أن يكون هذا الإضلال مفسرا بمنع الألطاف.
ب. ذكر أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ ضعف هذه الوجوه، وهب أنها صحيحة، ولكنه تعالى لما أخبر عن كفرهم وضلالهم، وانهم لا يدخلون الجنة فقد توجه الأشكال لأن انقلاب علم اللَّه تعالى جهلا محال، والمفضي إلى المحال محال، ومما يدل على أن المراد من الآية أن اللَّه تعالى أضلهم عن الدين قوله: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)﴾ فالمؤمنون في الدنيا انما كانوا يريدون من المنافقين الايمان ويحتالون في إدخالهم فيه.
7. ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ فوجب أن يكون معناه أنه تعالى لما أضلهم عن الايمان امتنع أن يجد المخلوق سبيلا إلى إدخاله في الايمان، وهذا ظاهر.
__________
(1) التفسير الكبير: 10/169
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ ﴿فِئَتَيْنِ﴾ أي فرقتين مختلفتين، روى مسلم عن زيد بن ثابت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم فرقتين، فقال بعضهم: نقتلهم، وقال بعضهم: لا، فنزلت ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾، وأخرجه الترمذي فزاد: وقال: (إنها طيبة) وقال: (إنها تنفي الخبيث كما تنفي النار خبث الحديد) قال: حديث حسن صحيح، وقال البخاري: (إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة، والمعني بالمنافقين هنا عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا، كما تقدم في آل عمران)، وقال ابن عباس: : هم قوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة، قال الضحاك: وقالوا إن ظهر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد عرفنا، وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا، فصار المسلمون فيهم فئتين قوم يتولونهم وقوم يتبرءون منهم، فقال الله تعالى ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾، وذكر أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أنها نزلت في قوم جاءوا إلى المدينة وأظهروا الإسلام، فأصابهم وباء المدينة وحماها، فأركسوا فخرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: ما لكم رجعتم؟ فقالوا: أصابنا وباء المدينة فاجتويناها، فقالوا: ما لكم في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، هم مسلمون، فأنزل الله تعالى ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ الآية، حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون، فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم.
2. هذان القولان يعضدهما سياق آخر الآية من قوله تعالى: ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾، والأول أصح نقلا، وهو اختيار البخاري ومسلم والترمذي، و﴿فِئَتَيْنِ﴾ نصب على الحال، كما يقال: مالك قائما؟ عن الأخفش، وقال الكوفيون: هو خبر ﴿فَمَا لَكُمْ﴾ كخبر كان وظننت، وأجازوا إدخال الألف واللام فيه وحكى الفراء: (أركسهم، وركسهم) أي ردهم إلى الكفر ونكسهم، وقاله النضر بن شميل والكسائي: والركس والنكس قلب الشيء على رأسه، أو رد أوله على آخره، والمركوس المنكوس، وفي قراءة عبد الله وأبي (والله ركسهم)، وقال ابن رواحة:
çأركسوا في فتنة مظلمة...كسواد الليل يتلوها فتنé
أي نكسوا، وارتكس فلان في أمر كان نجا منه، والركوسية قوم بين النصارى والصابئين، والراكس الثور وسط البيدر والثيران حواليه حين الدياس.
﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ﴾ أي ترشدوه إلى الثواب بأن يحكم لهم بحكم المؤمنين، ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ أي طريقا إلى الهدى والرشد وطلب الحجة، وفي هذا رد على القدرية وغيرهم القائلين بخلق هداهم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/306.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الاستفهام في قوله: ﴿فَمَا لَكُمْ﴾ للإنكار، واسم الاستفهام: مبتدأ، وما بعده: خبره، والمعنى: أي شيء كائن لكم ﴿فِي الْمُنَافِقِينَ﴾؟ أي: في أمرهم، وشأنهم حال كونكم ﴿فِئَتَيْنِ﴾ في ذلك، وحاصله: الإنكار على المخاطبين أن يكون لهم شيء يوجب اختلافهم في شأن المنافقين، وقد اختلف النحويون في انتصاب فئتين، فقال الأخفش والبصريون: على الحال كقولك: مالك قائما، وقال الكوفيون: انتصابه على أنه خبر لكان، وهي مضمرة، والتقدير: فما لكم في المنافقين كنتم فئتين، وسبب نزول الآية ما سيأتي، وبه يتضح المعنى.
2. ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ معناه: ردّهم إلى الكفر ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ وحكى الفراء، والنضر بن شميل، والكسائي: أركسهم وركسهم، أي: ردّهم إلى الكفر ونكسهم، فالركس والنكس: قلب الشيء على رأسه، أو ردّ أوله إلى آخره، والمنكوس: المركوس، وفي قراءة عبد الله بن مسعود وأبيّ: والله ركسهم ومنه قول عبد الله بن رواحة:
çأركسوا في فتنة مظلمة...كسواد اللّيل يتلوها فتنé
3. الباء في قوله: ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾: سببية، أي: أركسهم بسبب كسبهم، وهو لحوقهم بدار الكفر، والاستفهام في قوله: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ للتقريع والتوبيخ، وفيه دليل: على أن من أضله الله لا تنجع فيه هداية البشر ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾
4. ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ أي: طريقا إلى الهداية.
__________
(1) فتح القدير: 1/572.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لَمَّا رجع عبد الله بن أُبَيٍّ وأصحابُه الذين خرجوا إلى أُحُد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنه، خذلانًا له وغضبًا من عدم قبوله رأيه في عدم الخروج إلى أُحد، اختلف المسلمون فقال فريق: (اقتلهم يا رسول الله فما رجعوا إِلَّا لكفرهم)، وفريق: (لا تقتلهم لنطقهم بالشهادتين)، والعتاب لهذا الفريق، وآمن قوم ولم يهاجروا، وآمن آخرون وهاجروا من محلِّهم، ثمَّ رجعوا شوقًا إليه وكراهة للمدينة، وهاجر آخرون فاستأذنوه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يخرجوا للبدو، فارتحلوا مرحلة بعد مرحلة حتَّى التحقوا بالمشركين، وهاجر قوم ثمَّ ارتدُّوا وزعموا أنَّهم يرجعون إلى مكَّة ليرجعوا بأموالهم وبضائعهم، فقتلهم، فنزل في ذلك كلِّه قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ طائفتين، حال ولو جامدًا؛ لأنَّ معناه متفرِّقين، وصاحب الحال الكاف، وناصبه (لَكُمْ)، أو متعلَّقه.
2. ليس المراد بالمنافقين العُرَنيِّـين الذين أغاروا على السرح، ومثَّلوا براعيه (يسار)، قطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك في لسانه وفي عينيه؛ لأنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قتلهم وفعل بهم ما فعلوا، ولا خلاف للمؤمنين فيهم، ولا أمر المؤمنون بمعاملتهم.
3. ﴿وَاللهُ أَرْكَسَهُم﴾ قَلَبَهُم كما يُقلَب عليٌّ لسافلٍ، وكما يُقلب الطعام رجيعًا، عن القتال معك وعن الخير، وإلى إظهار أمارة كفرهم بعد اجتهادهم في كتمها، لا إلى القتل والسبي؛ لأنَّهم لم يُفعلا بهم، والجملة حال من كاف (لَكُمْ) أو من (الْمُنَافِقِينَ) ﴿بِمَا كَسَبُواْ﴾ من المعاصي، أو بكسبهم.
4. ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنَ اَضَلَّ اللهُ﴾ توبيخ لهم، وإنكار عليهم على إرادتهم توفيق من أضلَّه الله، أو على عدِّه من المهتدين، والمراد بِـ (مَن) المعهودون، أو العموم، فيدخل المعهودون بالأَوْلى، وهو حسن لا باطل كما قيل، ﴿وَمَنْ يُّضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ إلى الهدى، هذا يُضعف ما مَرَّ من تفسير الهدى بالعدِّ من المهتدين.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/245.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ﴾ أي: فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين ﴿فِئَتَيْنِ﴾ أي: فرقتين ولم تتفقوا على التبرؤ منهم، والاستفهام للإنكار، والنفي والخطاب لجميع المؤمنين، لكن ما فيه من معنى التوبيخ متوجه إلى بعضهم، وذلك أن فرقة من المؤمنين كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم، وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم، فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبرؤ منهم، لأن دلائل نفاقهم وكفرهم ظاهرة جلية، فليس لكم أن تختلفوا في شأنهم، وقد قيل: إن المراد بهم هنا عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلع4م يوم أحد، ورجعوا بعسكرهم، بعد أن خرجوا، كما تقدم في آل عمران، كما أوضحه الشيخان والإمام أحمد والترمذيّ عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، هم المؤمنون، فأنزل الله: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد، هذا لفظ أحمد.
2. ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ أي نكّسهم وردهم إلى الكفر ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ أي: بسبب ما كسبوه من لحوقهم بالكفار ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ أي: تعدّوهم من جملة المهتدين، قال أبو السعود: تجريد للخطاب وتخصيص له بالقائلين بإيمانهم من الفئتين، وتوبيخ لهم على زعمهم ذلك، وإشعار بأنه يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم، وهم بمعزل عن ذلك، سعي في هدايتهم وإرادة لها، ووضع الموصول موضع ضمير المنافقين لتشديد الإنكار وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيّز الصلة، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة لا إلى متعلقها، بأن يقال: أتهدون إلخ للمبالغة في إنكاره بيان أنه مما لا يمكن إرادته، فضلا عن إمكان نفسه ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ عن دينه ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ أي: طريقا إلى الهدى.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/251
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ابتدأ هذه الآيات بالفاء لوصلها بما سبقها إذ السياق لا يزال جاريا في مجراه من أحكام القتال وذكر شؤون المنافقين والضعفاء فيه، ومن المنافقين من كان ينافق بإظهار الإسلام فتخونه أعماله كما تقدم، ومنهم من كان ينافق بإظهار الولاء للمؤمنين والنصر لهم وهم بعض المشركين (وكذا بعض أهل الكتاب) وهذه الآيات في المنافقين في إبان الحرب بإظهار الولاء والمودة أو بالإيمان في غير دار الهجرة.
2. ورد في أسباب نزولها روايات متعارضة: روى الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج إلى أحد فرجع ناس كانوا خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم فرقتين: فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا فأنزل الله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ قال خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس فقال: (من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني) فقال سعد بن معاذ: إن كان من أوس قتلناه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك، فقام سعد بن عبادة فقال ما لك يا ابن معاذ طاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولقد عرفت ما هو منك، فقام أسيد بن حضير فقال إنك يا ابن عبادة منافق وتحب المنافقين، فقام محمد بن سلمة فقال: اسكتوا أيها الناس فإن فينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يأمرنا فننفذ أمره، فأنزل الله ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ الآية، وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحمّاها فأركسوا وخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم ما لكم رجعتم؟ قالوا أصابنا وباء المدينة قالوا: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة؟، فقال بعضهم نافقوا وقال بعضهم لم ينافقوا، فأنزل الله الآية، وفي إسناده تدليس وانقطاع.. والمراد بالذي يؤذي النبي في حديث سعد بن معاذ هو عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين، وما كان منه في قصة الإفك، وروي عن ابن عباس وقتادة أنها نزلت في قوم بمكة كانوا يظهرون الإسلام ويعينون المشركين على المسلمين، ورجحها بعضهم حتى على رواية الشيخين بذكر المهاجرة في الآية الثانية.
3. روى ابن جرير في التفسير عن ابن عباس بعد ذكر سنده من طريق محمد بن سعد: قوله: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فليس علينا منهم بأس وأن المؤمنين لما أخبروا خرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم قالت طائفة من المؤمنين اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين سبحان الله أو كما قالوا تقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم، تستحل دماؤهم وأموالهم لذلك؟ فكانوا كذلك فئتين والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء فنزلت، وذكر الآية، وهذا لا يدل على أن أولئك القوم قد أسلموا بالفعل كما توهمه عبارة بعض الناقلين، وروى ابن جرير عن معمر بن راشد قال بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنهم قد أسلموا وكان ذلك منهم كذبا، فلقوهم فاختلف فيهم المسلمون فقالت طائفة دماؤهم حلال، وقالت طائفة دماؤهم حرام، فأنزل الله الآية، وروي أيضا عن الضحاك قال هم ناس تخلفوا عن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتولاهم ناس وتبرأ من ولايتهم آخرون، وقالوا تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يهاجر فسماهم الله منافقين وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا.
4. ثم ذكر ابن جرير روايات من قال إنها نزلت في منافقين كانوا في المدينة وأرادوا الخروج منها معتذرين بالمرض والتخمة، ومن قال إنها نزلت في أهل الأفك ثم رجح قول من قالوا أنها نزلت في قوم من مكة ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم لذكر الهجرة في الآية.
5. من المعهود أنهم يجمعون بين الروايات في مثل هذا بتعدد الوقائع ونزول الآية عقبها، ولا يمنعهم من هذا أن يكون بين الوقائع تراخ وزمن طويل، وأقرب من ذلك أن يحملها كلٌّ على واقعة يرى أنها تنطبق عليها من باب التفسير لا التاريخ، ولكن من الروايات ما يكون نصا أو ظاهرا في التاريخ وتعيين الواقعة، إلا أن تكون الرواية منقولة بالمعنى كما هو الغالب وحينئذ تكون الرواية في سبب النزول ليست أكثر من فهم للمروي عنه في الآية ورأي في تفسيرها يخطئ فيه ويصيب، ولا يلزم أحدا أن يتبعه فيه، بل لمن ظهر له خطؤه أن يرده عليه ولا سيما إذا كان ما يتبادر من معنى الآيات يأباه، وقد رأيت أن بعضهم رد رواية الصحيحين في جعل المراد بالمنافقين هنا فئة عبد الله بن أبيّ ابن سلول الذين رجعوا عن القتال في أحد واستدلوا بما رأيت من ذكر المهاجرة في الآية الثانية، ويمكن تأويل هذا اللفظ بما تراه، وأقوى منه في رد هذه الرواية وما دونها في قوة السند من سائر الروايات (أي التي جعلت الآية في منافقي المدينة) إن الأحكام التي ذكرت في هذه الآيات لم يعمل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بها في أحد ممن قالوا إنها نزلت فيهم وهو قتلهم حيثما وجدوا بشرطه، وهذه آية من آيات صد بعض الروايات الصحيحة السند عن الفهم الصحيح الذي يتبادر من الآيات بلا تكلف.
6. رجح ابن جرير وغيره رواية ابن عباس في نزول هذه الآية في أناس كانوا بمكة يظهرون الإسلام خداعا للمسلمين وينصرون المشركين.
7. وقال محمد عبده: إنها نزلت في المنافقين في الولاء والمحالفة وهذه عبارته في الدرس: الفاء في قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ تشعر بارتباط الآية بما قبلها، وزعم بعضهم أن الفاء للاستئناف وهذا لا معنى له وإنما يخترع الجاهل تعليلات ومعاني لما لا يفهمه (وقد يخترع الروايات كما صرح به في غير موضع) فالآية مرتبطة بما قبلها أشد الارتباط إذ الكلام السابق كان في أحكام القتال حتى ما ورد في الشفاعة الحسنة والسيئة، وقد ختمه بقوله: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أي لا إله غيره يخشى ويخاف أو يرجى فتترك تلك الأحكام لأجله، ثم جاء بهذه الآيات موصولة بما قبلها بالفاء وهي تفيد تفريع الاستفهام الإنكاري فيها على ما قبله، أي إذا كان الله تعالى قد أمركم بالقتال في سبيله وتوعد المبطئين عنه والذين تمنوا تأخير كتابته عليهم، وإذا كان لا إله غيره فيترك أمره وطاعته لأجله فما لكم تترددون في أمر المنافقين وتنقسمون فيهم إلى فئتين؟
8. قال: والمنافقون هنا غير من نزلت فيهم آيات البقرة وسورة المنافقين وأمثالهن من الآيات، المراد بالمنافقين هنا فريق من المشركين كانوا يظهرون المودة للمسلمين والولاء لهم وهم كاذبون فيما يظهرون، ضلعهم مع أمثالهم من المشركين، ويحتاطون في إظهار الولاء للمسلمين إذا رأوا منهم قوة، فإذا ظهر لهم ضعفهم انقلبوا عليهم وأظهروا لهم العداوة، فكان المؤمنون فيهم على قسمين منهم من يرى أن يعدوا من الأولياء ويستعان بهم على سائر المشركين المحاذين لهم جهرا، ومنهم من يرى أن يعاملوا كما يعامل غيرهم من المجاهرين بالعداوة (وعبارته ممن لا ينافق) فأنكر الله عليهم ذلك وقال: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ أي كيف تتفرقون في شأنهم والحال أن الله تعالى أركسهم وصرفهم عن الحق الذي أنتم عليه بما كسبوا من أعمال الشرك والمعاصي حتى أنهم لا ينظرون فيه نظر إنصاف وإنما ينظرون إليكم وما أنتم عليه نظر الأعداء المبطلين ويتربصون بكم الدوائر اه ما نقلناه عن الدرس وليس عندنا عنه هنا شيء آخر.
9. الركس بفتح الراء مصدر ركس الشيء يركسه (بوزن نصر) إذا قلبه على رأسه أو رد آخره على أوله، يقال ركسه وأركسه فارتكس، قال في اللسان بعد معنى ما ذكر: وقال شمر بلغني عن ابن الأعرابي أنه قال المنكوس والمركوس المدبر عن حاله والركس ردّ الشيء مقلوبا اه ويظهر أنه مأخوذ من الركس (بكسر الراء) وهو كما في اللسان شبيه بالرجيع، وأطلق في الحديث على الروث، والحاصل أن الركس والأركس شر ضروب التحول والارتداد وهو أن يرجع الشيء منكوسا على رأسه إن كان له رأس أو مقلوبا أو متحولا عن حاله إلى أردأ منها كتحول الطعام والعلف إلى الرجيع والروث، والمراد هنا تحولهم إلى الغدر والقتال أو إلى الشرك، وقد استعمل هنا في التحول والانقلاب المعنوي أي من إظهار الولاء والتحيز إلى المسلمين إلى إظهار التحيز إلى المشركين، وهو شر التحول والارتداد المعنوي كأن صاحبه قد نكس على رأسه وصار يمشي على وجهه: ﴿أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم﴾ [الملك: 22] ومن كانت هذه حاله في ظهور ضلالته في أقبح مظاهرها فلا ينبغي أن يرجو أحد من المؤمنين نصر الحق من قبله، ولا أن يقع الخلاف بينهم وبين سائر إخوانهم في شأنه.
10. وقد أسند الله تعالى فعل هذا الإركاس إليه وقرنه بسببه وهو كسب أولئك المركسين للسيئات والدنايا من قبل حتى فسدت فطرتهم وأحاطت بهم خطيئتهم فأوغلوا في الضلال وبعدوا عن الحق حتى لم يعد يخطر على بالهم ولا يجول في أذهانهم إلا الثبات على ما هم فيه ومقاومة ما عداه، مقاومة ظاهرة عند القدرة، وخفية عند العجز، هذا هو أثر كسبهم للسيئات في نفوسهم وهو أثر طبيعي، وإنما أسنده الله تعالى إليه لأنه ما كان سببا إلا بسنته في تأثير الأعمال الاختيارية في نفوس العاملين، أو معنى أركسهم أظهر ركسهم بما بينه من أمرهم وهذا هو معنى قوله: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ وهو استفهام إنكاري معناه ليس في استطاعتكم أن تغيروا سنن الله في نفوس الناس، فتنالوا منها ضد ما يقتضيه ما انطبع فيها من الأخلاق والصفات، بتأثير ما كسبته طول عمرها من الأعمال.
11. ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ أي من تقضي سنته تعالى في خلقه بأن يكون ضالا عن طريق الحق: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ يصل بسلوكها إليه فإن للحق سبيلا واحدة وهي صراط الفطرة المستقيم، وللباطل سبلا كثيرة عن يمين سبيل الحق وشمالها كل من سلك سبيلا منها بعد عن سبيل الحق بقدر إيغاله في السبيل التي سلكها: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153] ولما تلا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الآية وضح معناها بالخطوط الحسية فخط في الأرض خطا جعله مثالا لسبيل الله وخط على جانبيه خطوطا لسبل الشيطان، ومن المحسوس الذي لا يحتاج إلى ترتيب الأقيسة للاستدلال أن غاية أي خط من تلك الخطوط لا تلتقي بغاية الخط الأول.
12. سبيل الحق هي صراط الفطرة، وبيان هذا أن مقتضى الفطرة أن يستعمل الإنسان عقله في كل ما يعرض له في حياته ويتبع فيه ما يظهر له بعد النظر والبحث أنه الحق الذي باتباعه خيره ومنفعته العاجلة والآجلة وكماله الإنساني، على قدر علمه بالحق والخير والكمال، ومن مقتضى الفطرة أن يبحث الإنسان دائما ويطلب زيادة العلم بهذه الأمور، ولا يصده عن هذا الصراط المستقيم شيء كالتقليد والغرور بما هو عليه وظنه أنه ليس وراءه خير له منه وأنفع وأكمل، أولئك الذين يقطعون على نفسهم طريق العقل والنظر، والتمييز بين الخير والشر، والنفع والضر، والحق والباطل، فيكونون أتباع كل ناعق، ويسلكون ما لا يحصى من السبل وإن ادعى كل منهم الانتساب إلى زعيم واحد، وشبهتهم على ترك صراط الفطرة أن عقولهم قاصرة عن التمييز بين الحق والباطل والخير والشر، وأنهم اتبعوا من بلغهم من آبائهم ومعاشريهم أنهم كانوا أقدر منهم على معرفة ذلك وبيانه، والحق الواقع أنهم لا يعلمون حقيقة ما كان عليه أولئك الزعماء ولا شيئا يعتد به من علمهم، وإنما يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم من الثقة بزعماء عصرهم ولو كان آباؤهم وزعماؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، ومن قطع على نفسه طريق النظر، وكفر نعمة العقل، لا يمكن إقامة الحجة عليه، ولذلك قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النساء: 88] فإن ﴿سَبِيلًا﴾ نكرة في سياق النفي تفيد العموم كأنه قال من ترك سبيل الله وهي اتباع الفطرة باستعمال العقل كان من سنة الله أن يكون ضالا طول حياته إذ لا تجد له سبيلا أخرى يسلكها فيهتدي بها إلى الحق.
__________
(1) تفسير المنار: 5/260.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ذكر سبحانه أحكام القتال وختمها ببيان أنه لا إله غيره يخشى ضره، أو يرجى خيره فتترك هذه الأحكام لأجله ـ ذكر هنا أنه لا ينبغي التردد في أمر المنافقين وتقسيمهم فئتين، مع أن دلائل كفرهم ظاهرة جلية، فيجب أن تقطعوا بكفرهم وتقاتلوهم حيثما وجدوا، روى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين، فاختلف المسلمون في شأنهم وتشاجروا فنزلت الآية.
2. ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ أي فما لكم صرتم في المنافقين فئتين واختلفتم في كفرهم مع تظاهر الأدلة عليه، فليس لكم أن تختلفوا في شأنهم، بل عليكم أن تقطعوا بثبوته، وهؤلاء فريق من المشركين كانوا يظهرون المودة للمسلمين والولاء لهم وهم كاذبون فيما يظهرون فضلهم، مع أمثالهم من المشركين، لكنهم يحتاطون ويظهرون الولاء للمسلمين إذا رأوا منهم القوة، فإذا ما ظهر لهم منهم ضعف انقلبوا عليهم وأظهروا لهم العداوة، وكان المؤمنون في أمرهم فرقتين، فرقة ترى أنهم يعدّون من الأولياء ويستعان بهم على سائر المشركين المجاهرين لهم بالعداوة، وفرقة ترى أن يعاملوا كما يعامل غيرهم من المشركين المعلنين العداوة.
3. ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ أي كيف تفترقون في شأنهم والله قد صرفهم عن الحق الذي أنتم عليه بما كسبوا من أعمال الشرك واجترحوا من المعاصي، حتى إنهم لا ينظرون إليكم نظرة المودة والإخاء، بل نظرة العداوة والبغضاء، ويتربصون بكم الدوائر.
4. وقد جعلهم الله مركسين كأنهم قد نكسوا على رءوسهم وصاروا يمشون على وجوههم كما قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ لأنهم قد فسدت فطرتهم وأحاطت بهم خطيئاتهم، فأوغلوا في الضلال، وبعدوا عن الحق، حتى لم يعد يجول في أذهانهم إلا الثبات على ما هم فيه ومقاومة ما عداه، وقد نسبه الله تعالى إليه لأنه ما كان سببا إلا بسنته في تأثير الأعمال الاختيارية في نفوس العالمين.
5. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ أي إنه ليس في استطاعتكم أن تبدلوا سنن الله في نفوس الناس فتريدوا أن تحصلوا على مقاصد وغايات ضد ما انطبع فيها من الأخلاق والصفات، بتأثير ما كسبته طوال عمرها من الأعمال.
6. ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ أي ومن تقضى سننه في خلقه أن يكون ضالا عن طريق الحق فلن تجد له سبيلا يصل بسلوكها إليه، فإن للحق سبيلا واحدة هي صراط الفطرة المستقيم، وللباطل سبلا كثيرة عن يمين سبيل الحق وعن شمالها، كل من سلك منها سبيلا بعد عن سبيل الحق بقدر إيغاله في السبيل التي سلكها كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ وقد أوضح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معنى الآية بالخطوط الحسية، فخط في الأرض خطا وجعله مثالا لسبيل الله، وخط على جانبيه خطوطا لسبل الشيطان، وهذه الخطوط المستقيمة لا تلتقى مع الخط الأول بحال، وسبيل الفطرة تقتضى أن يعرض الإنسان جميع أعماله على سنن العقل ويتّبع ما يظهر له أنه الحق الذي فيه منفعته عاجلا وآجلا، وفيه كماله الإنساني وأكثر ما يصده عن هذه السبيل التقليد والغرور وظنه أنه ليس هناك ما هو أكمل مما هو فيه، وبهذا يقطع على نفسه طريق العقل والنظر في النفع والضر والحق والباطل، وشبهته في ترك صراط الفطرة أن عقله قاصر عن التمييز بين الحق والباطل والخير والشر، فعليه أن يتبع ما وجد عليه الآباء والأجداد من زعماء عصره ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.
__________
(1) تفسير المراغي 5/113.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد هذه اللمسة للقلوب، وهي اللمسة الدالة على طريقة هذا المنهج في التربية، كما هي دالة على أساس التصور الاعتقادي العملي في حياة الجماعة المسلمة.. بعد هذه اللمسة يبدأ في استنكار حالة من التميع في مواجهة النفاق والمنافقين؛ وقلة الحسم في موضع الحسم في معاملة الجماعة المسلمة لهم؛ وانقسام هذه الجماعة فئتين في أمر طائفة من المنافقين ـ من خارج المدينة كما سنبين ـ حيث يشي هذا الاستنكار بما كان في المجتمع المسلم يومئذ من عدم التناسق؛ كما يشي بتشدد الإسلام في ضرورة تحديد الأمور وحسمها، وكراهة التميع في التعامل مع المنافقين والنظرة إليهم؛ والارتكان إلى ظاهرهم.. ما لم يكن ذلك عن خطة مقررة هادفة: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾..
2. وقد وردت في شأن هؤلاء المنافقين روايات(2).. ومع أن الرواية الأولى أوثق من ناحية السند والإخراج إلا أننا نرجح مضمون الرواية الثانية، بالاستناد إلى الواقع التاريخي؛ فالثابت أن منافقي المدينة لم يرد أمر بقتالهم؛ ولم يقاتلهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو يقتلهم، إنما كانت هناك خطة أخرى مقررة في التعامل معهم، هي خطة الإغضاء عنهم، وترك المجتمع نفسه ينبذهم، وتقطيع الأسناد من حولهم بطرد اليهود ـ وهم الذين يغرونهم ويملون لهم ـ من المدينة أولا، ثم من الجزيرة العربية كلها أخيرا.. أما هنا فنحن نجد أمرا جازما بأخذهم أسرى، وقتلهم حيث وجدوا: مما يقطع بأنهم مجموعة أخرى غير مجموعة المنافقين في المدينة.
3. قد يقال: إن الأمر بأخذهم أسرى وقتلهم مشروط بقوله تعالى: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾.. فهو تهديد ليقلعوا عما هم فيه.. وقد يكونون أقلعوا فلم ينفذ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا الأمر فيهم.. ولكن كلمة (يهاجروا) تقطع ـ في هذه الفترة ـ بأنهم ليسوا من أهل المدينة، وأن المقصود هو أن يهاجروا إلى المدينة؛ فقد كان هذا قبل الفتح، ومعنى الهجرة ـ قبل الفتح ـ كان محددا بأنه الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام؛ والانضمام للجماعة المسلمة؛ والخضوع لنظامها، وإلا فهو الكفر أو النفاق.. وسيجيء في سياق السورة ـ في الدرس التالي ـ تنديد شديد بموقف الذين بقوا ـ بغير عذر من الضعف ـ من المسلمين في مكة؛ دار الكفر والحرب بالنسبة لهم ـ ولو كانوا من أهلها ومواطنين فيها! ـ وكل هذا يؤيد ترجيح الرواية الثانية، وأن هؤلاء المنافقين كانوا جماعة من مكة ـ أو ممن حولها ـ يقولون كلمة الإسلام بأفواههم، ويظاهرون عدو المسلمين بأعمالهم.
4. ونعود إلى النص القرآني.. إننا نجد في النصوص استنكارا لانقسام المؤمنين فئتين في أمر المنافقين؛ وتعجبا من اتخاذهم هذا الموقف؛ وشدة وحسما في التوجيه إلى تصور الموقف على حقيقته، وفي التعامل مع أولئك المنافقين كذلك، وكل ذلك يشي بخطر التميع في الصف المسلم حينذاك ـ وفي كل موقف مماثل ـ التميع في النظرة إلى النفاق والمنافقين؛ لأن فيها تميعا كذلك في الشعور بحقيقة هذا الدين، ذلك أن قول جماعة من المؤمنين: (سبحان الله! ـ أو كما قالوا ـ أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم، نستحل دماءهم وأموالهم؟).. وتصورهم للأمر على هذا النحو، من أنه كلام مثل ما يتكلم المسلمون! مع أن شواهد الحال كلها وقول هؤلاء المنافقين: (إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس).. وشهادة الفئة الأخرى من المؤمنين وقولهم: (يظاهرون عدوكم).. تصورهم للأمر على هذا النحو فيه تمييع كبير لحقيقة الإيمان في ظروف تستدعي الوضوح الكامل، والحسم القاطع، فإن كلمة تقال باللسان؛ مع عمل واقعي في مساعدة عدو المسلمين الظاهرين، لا تكون إلا نفاقا، ولا موضع هنا للتسامح أو للإغضاء، لأنه تمييع للتصور ذاته.. وهذا هو الخطر الذي يواجهه النص القرآني بالعجب والاستنكار والتشديد البين.
5. ولم يكن الحال كذلك في الإغضاء عن منافقي المدينة، فقد كان التصور واضحا.. هؤلاء منافقون.. ولكن هناك خطة مقررة للتعامل معهم، هي أخذهم بظاهرهم والإغضاء إلى حين، وهذا أمر آخر غير أن ينافح جماعة من المسلمين عن المنافقين، لأنهم قالوا كلاما كالذي يقوله المسلمون، وأدّوا بألسنتهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بينما هم يظاهرون أعداء المسلمين! من أجل هذا التميع في فهم فئة من المسلمين، ومن أجل ذلك الاختلاف في شأن المنافقين في الصف المسلم.
6. كان هذا الاستنكار الشديد في مطلع الآية.. ثم تبعه الإيضاح الإلهي لحقيقة موقف هؤلاء المنافقين: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾.. ما لكم فئتين في شأن المنافقين، والله أوقعهم فيما هم فيه بسبب سوء نيتهم وسوء عملهم؟ وهي شهادة من الله حاسمة في أمرهم، بأنهم واقعون في السوء بما أضمروا وبما عملوا من سوء.
7. ثم استنكار آخر: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾.. ولعله كان في قول الفريق.. المتسامح!.. ما يشير إلى إعطائهم فرصة ليهتدوا، ويتركوا اللجلجة! فاستنكر الله هذا في شأن قوم استحقوا أن يوقعهم الله في شر أعمالهم وسوء مكاسبهم.
8. ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾.. فإنما يضل الله الضالين، أي يمد لهم في الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة، وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية؛ بما بعدوا عنها، وسلكوا غير طريقها؛ ونبذوا العون والهدى، وتنكروا لمعالم الطريق! ثم يخطو السياق خطوة أخرى في كشف موقف المنافقين.. إنهم لم يضلوا أنفسهم فحسب؛ ولم يستحقوا أن يوقعهم الله في الضلالة بسعيهم ونيتهم فحسب.. إنما هم كذلك يبتغون إضلال المؤمنين: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/730.
(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. النفاق أخبث نبتة وأشأمها، تنبت في كيان المجتمع، وتغتال أيّة رقعة من أرضه.. والمنافقون هم أخبث داء وأقتله، إذا تسلّطوا على مجتمع، وأوجدوا لأنفسهم مكانا فيه.. ولقد ابتلى المسلمون ـ شأنهم شأن كل مجتمع ـ بالنفاق وبالمنافقين، الذين كانوا عدوا خفيا، يظاهر العدوّ الظاهر، الذي يلقاه المسلمون في ميدان القتال! وإذا كانت سيوف المسلمين قد عرفت طريقها إلى رقاب المشركين والكافرين، وأخذت بحقّها منهم، فإن أمر المسلمين مع المنافقين كان على خلاف.. حيث يظهر فيهم المنافق بأكثر من وجه، فلا يدرون على أي وجه يتعاملون معه، ولا على أي وجه يأخذونه.. فهو مسلم في ظاهره.. مشرك، أو كافر، في باطنه..!
2. وإذا أتيح للمسلمين أن يروا من المنافق هذا الظاهر الذي يعيش فيه معهم، فمن لهم بأن يروا منه هذا الباطن الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب؟ وهنا موطن الحدس، والتأويل، ومكمن الخطر والحرج! وفي عهد النبوة كشف الله سبحانه للنبى وللمسلمين عن كثير من المنافقين، وفضح لهم باطنهم، وعرضهم على الملأ عرضا فاضحا، بأعيانهم، وأسمائهم.. فلم يكن أمرهم بعد هذا خافيا على أحد.. ولكن مع هذا ظل بعض المسلمين مترددا في كثير منهم، لما يبدو على ظاهرهم من سراب خادع، من الصلاح الزائف، والتقوى، الكاذبة.. فجاء قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾؟ قاضيا على هذا التردد، قاطعا كل شك.. فلا ينبغى بعد هذا أن يكون المؤمنون على رأيين في المنافقين، وإنما هو رأى واحد لا خلاف عليه.. وهو أن هؤلاء المنافقين، منافقون، قولا واحدا، وأن على المسلمين جميعا أن يعاملوهم معاملة المشركين والكافرين، وأن يحذروهم حذر المنافقين والمشركين..
3. قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ هو استفهام إنكارى، أن يكون المسلمون فريقين في أمر المنافقين، فريقا يحذرهم ويتخذهم عدوا، وفريقا آخر يقف منهم موقف التردد والترقب، تمحيصا لما في قلوبهم، واختبارا لما في صدورهم.. وذلك ما ينكره الله سبحانه على هذا الفريق، الذي وقف من هؤلاء المنافقين هذا الموقف المتردد..
4. قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ هو توكيد قاطع لما حكم الله به هو على هؤلاء المنافقين، وأنهم أهل ضلال وفساد، لا يرجى لهم صلاح أبدا.. فقد أقامهم الله على هذا النفاق، ودمغهم به، بسبب ما كان منهم من مكر بآيات الله، والتواء على صراطه المستقيم، وتلاعب بشرعه القويم!
5. قوله تعالى: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ استفهام إنكارى أيضا، على تلك الفئة من المسلمين التي لا تزال تحت تأثير هذا الخداع الذي يلوح لهم من قبل المنافقين، ويتوقعون من جهتهم الخير والصلاح.. وكلا، فقد أضلّهم الله.. فهل في الناس من هو قادر على أن يهدى من أضله الله؟
6. ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾.. فإنه لا سبيل له غير هذا السبيل الذي سلكه، سبيل النفاق، الذي سيمضى فيه إلى غايته، التي تنتهى به إلى جهنم وبئس المهاد.
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/855.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدّمت، لأنّ ما وصف من أحوالهم لا يترك شكا عند المؤمنين في حيث طويتهم وكفرهم، أو هو تفريع عن قوله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء: 87]، وإذ قد حدّث الله عنهم بما وصف من سابق الآي، فلا يحقّ التردّد في سوء نواياهم وكفرهم، فموقع الفاء هنا نظير موقع الفاء في قوله: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في سورة النساء [84]
2. والاستفهام للتعجيب واللّوم، والتعريف في ﴿الْمُنافِقِينَ﴾ للعهد، و﴿فِئَتَيْنِ﴾ حال من الضمير المجرور باللام فهي قيد لعامله، الذي هو التوبيخ، فعلم أنّ محلّ التوبيخ هو الانقسام: ﴿فِي الْمُنافِقِينَ﴾ متعلّق بفئتين لتأويله بمعنى (منقسمين)، ومعناه: في شأن المنافقين، لأنّ الحكم لا يتعلّق بذوات المنافقين.
3. الفئة: الطائفة، وزنها فلة، مشتقّة من الفيء وهو الرجوع، لأنّهم يرجع بعضهم إلى بعض في شئونهم، وأصلها فيء فحذفوا الياء من وسطه لكثرة الاستعمال وعوّضوا عنها الهاء.
4. وقد علم أنّ الانقسام إلى فئتين ما هو إلّا انقسام في حالة من حالتين، والمقام للكلام في الإيمان والكفر، أي فما لكم بين مكفّر لهم ومبرّر، وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم، قيل: نزلت هذه الآية في المنخزلين يوم أحد: عبد الله بن أبيّ وأتباعه، اختلف المسلمون في وصفهم بالإيمان أو الكفر بسبب فعلتهم تلك، وفي (صحيح البخاري) عن زيد بن ثابت قال رجع ناس من أصحاب النبي من أحد، وكان الناس فيهم فريقين، فريق يقول: اقتلهم، وفريق يقول: لا، فنزلت ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾، وقال: (إنّها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضّة) أي ولم يقتلهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جريا على ظاهر حالهم من إظهار الإسلام، فتكون الآية لبيان أنّه ما كان ينبغي التردّد في أمرهم (2).
5. وأحسب أنّ هؤلاء الفرق كلّهم كانوا معروفين وقت نزول الآية، فكانوا مثلا لعمومها وهي عامّة فيهم وفي غيرهم من كلّ من عرف بالنفاق يومئذ من أهل المدينة ومن أهل مكة، والظاهر أنّ الآية نزلت بعد أن فات وقت قتالهم، لقصد عدم التعرّض لهم وقت خروجهم استدراجا لهم إلى يوم فتح مكة.
6. وعلى جميع الاحتمالات فموقع الملام هو الخطأ في الاجتهاد لضعف دليل المخطئين لأنّ دلائل كفر المتحدّث عنهم كانت ترجح على دليل إسلامهم الذي هو مجرّد النطق بكلمة الإسلام، مع التجرّد عن إظهار موالاة المسلمين، وهذه الآية دليل على أنّ المجتهد إذا استند إلى دليل ضعيف ما كان من شأنه أن يستدلّ به العالم لا يكون بعيدا عن الملام ـ في الدنيا ـ على أن أخطأ فيما لا يخطئ أهل العلم في مثله.
7. جملة ﴿واللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا﴾ حالية، أي إن كنتم اختلفتم فيهم فالله قد ردّهم إلى حالهم السوأى، لأنّ معنى أركس رد إلى الرّكس، والركس قريب من الرجس، وفي حديث الصحيح في الروث (إنّ هذا ركس) وقيل: معنى أركس نكس، أي ردّ ردّا شنيعا، وهو مقارب للأول، وقد جعل الله ردّهم إلى الكفر جزاء لسوء اعتقادهم وقلّة إخلاصهم مع رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنّ الأعمال تتوالد من جنسها، فالعمل الصالح يأتي بزيادة الصالحات، والعمل السيّئ يأتي بمنتهى المعاصي، ولهذا تكرّر في القرآن الإخبار عن كون العمل سببا في بلوغ الغايات من جنسه.
8. وقوله: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ استئناف بياني نشأ عن اللوم والتعجيب الذي في قوله: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾، لأن السامعين يترقبون بيان وجه اللوم، ويتساءلون عما ذا يتخذون نحو هؤلاء المنافقين. وقد دل الاستفهام الإنكاري المشوب باللوم على جملة محذوفة هي محل الاستئناف البياني، وتقديرها: إنهم قد أضلهم الله، أتريدون أن تهدوا من أضل الله، بناء على أنّ قوله: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ ليس المراد منه أنّه أضلّهم، بل المراد منه أساء حالهم، وسوء الحال أمر مجمل يفتقر إلى البيان، فيكون فصل الجملة فصل الاستئناف.
9. وإن جعلت معنى ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ أنّه ردّهم إلى الكفر، كانت جملة ﴿أَتُرِيدُونَ﴾ استئناف ابتدائيا، ووجه الفصل أنّه إقبال على اللوم والإنكار، بعد جملة ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ التي هي خبرية، فالفصل لكمال الانقطاع لاختلاف الغرضين.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/212.
(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان المنافقون في الحروب عنصر فتنة مستمرة، وكانوا في السلم مثيرى النزاع والخصام، فهم في الحرب إن رأوا ضعفا استغلوه، وإن لم يجدوا ضعفا ظاهرا أثاروه، ولم يكن النفاق في داخل المدينة فقط، بل كان يمتد كلما قوى المؤمنون في البلاد، ففى أول إقامة الدولة الإسلامية بالمدينة، وانتصار المؤمنين في بدر، ظهر النفاق فيها خوفا من قوة المؤمنين، وأخذ ينفث سمومه في قوتهم! وكلما عم سلطان الدولة الإسلامية واتسع، ظهر منافقون، فظهر في الأعراب نفاق كما قال تعالى: ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة] وظهر نفاق بين مشركى مكة، فكان ناس إذا أرادوا تجارة، وأرادوا أن يأمنوا غارات المؤمنين في الطريق عليهم، أعلنوا أنهم يصدقون بما جاء به محمد، وناقلوه بين الركب وبين الناس، فكان المؤمنون يختلفون في شأنهم، فمنهم من يراهم مؤمنين لا يقاتلون ولا يغار عليهم، ومنهم من يراهم كفارا منافقين يريدون أن ينجوا بأموالهم، فنزل قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ إذا كان المنافقون على ما ترون، من أنهم ينطقون باللسان خشية القوة، وابتغاء الفتنة، ولا يريدون إلا دفع الأذى عن أنفسهم، وإنزاله بكم، فما الذى يسوغ لكم أن تختلفوا في شأنهم فئتين أى طائفتين، إحداهما ترجو الخير فيهم، والثانية ترى الشر يستحكم في قلوبهم، ويبدو في لحن أقوالهم؟ وأنتم ترون أيها المختلفون ضلالهم، ووقوعهم في الفساد، وأنهم لا يبدو من أعمالهم ما يدل على إيمانهم، بل هم يعملون بالكفر، وينطقون بالإسلام.
2. الإركاس معناه قلب الشىء على رأسه، ورد مقدمه إلى مؤخره، جاء في مفردات الراغب الأصفهانى: (الركس قلب الشىء على رأسه، ورد أوله إلى آخره، يقال أركسته فركس وارتكس في أمره)، والمعنى على هذا أن الله سبحانه وتعالى أوقعهم في الضلال فقلب مداركهم، ورد الأول على الآخر في تفكيرهم، بحيث صاروا لا يستطيعون ترتيب المقدمات الفكرية ونتائجها، وذلك بما كسبوا من الإيغال في الشر بعد ابتغائه وطلبه، فلما ساروا فيه خطوة امتد بهم السير خطوات حتى أوغلوا فيه، وأصبحوا لا يستطيعون الحكم في قول.
3. سؤال وإشكال: من هم أولئك المنافقون الذين أركسهم الله تعالى ذلك الإركاس؟ والجواب:
أ. قيل: هم منافقو المدينة، أتباع عبد الله بن أبى، ومن معه.
ب. وقيل: قوم أقاموا بالمدينة مؤمنين، ثم خرجوا منها منحرفين في اعتقادهم، وأظهروا أن جوها لم يطب لهم! وقيل، كما روى عن ابن عباس: إنهم قوم آمنوا بمكة، وقالوا إن ظهر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد عرفنا، وإن ظهر قومنا، فهو أحب إلينا.
ج. وعندى أن المنافقين هنا تشمل من اتصفوا بذلك، وتخص الأعراب ومن على شاكلتهم من الذين كانوا يسلمون في قبائلهم، ويعلنون ذلك من غير أن يهاجروا إلى المدينة مناصرين للمؤمنين، ولم يكن من أعمالهم ما يدل على انتمائهم للدولة الإسلامية، وإعلان ولايتها عليهم، والحقيقة أن هؤلاء كانوا يتذرعون بكلمة الإسلام، لكيلا يحكم السيف الإسلامى فيهم، ولذلك ذكرت الآية أن الأمارة القاطعة الدالة على إيمانهم هى أن يهاجروا.
4. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ أيها المؤمنون المختلفون أتريدون أن تحملوا على الإيمان من أضله الله، أى من كتب عليه الضلالة، بسبب أنه سار في طريقها، وانحرف عن جادة الحق وسبيل المؤمنين، فإن من يسير في طريق لا بد أن ينتهى إلى نهايته، ما دام لم يرجع ولم يعد، ومن يضلل الله، أى من يكتب عليه في لوحه المحفوظ، وقدره المحتوم، أن يكون ضالا، فلن يجد أحد سبيلا إلى هدايته؛ لأن قدر الله تعالى لا يتغير، وقضاءه لا يتبدل، وحكمه لا يتخلف، فمن حاول هداية المنافقين الذين حكم عليهم بالضلال، فكأنما يحارب قدر الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1788.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾، نزلت هذه الآيات في خصوص المنافقين الذين بقوا في دار الكفر، ولم يهاجروا إلى المدينة بدليل قوله تعالى: ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ لأن الهجرة انما تكون من دار الكفر إلى دار الإسلام، وقبل فتح مكة كانت المدينة هي الدار الوحيدة للإسلام.. وظاهر هذه الآيات صريح في أن حكم من نافق، وبقي في دار الكفر غير حكم من نافق وهو مقيم في دار الإسلام، لأن الله سبحانه أمر بقتل أولئك وأسرهم، دون هؤلاء.. وقبل أن ينزل هذا الأمر من السماء اختلف الصحابة، وانقسموا فئتين في حكم المنافقين الذين بقوا في دار الكفر: فئة ترى مقاطعتهم وعدم الاستعانة بهم في شيء، بل وإعلان الحرب عليهم، تماما كمن جاهر بالشرك وعداء المسلمين، وفئة ترى التساهل والتسامح، وان يعاملوا معاملة المسلمين.
2. يظهر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سكت عن هذا الخلاف، حتى حسمه الله بقوله: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ أي لا ينبغي أن تختلفوا في أمرهم، بل عليكم أن تجمعوا قولا واحدا على عدم التساهل معهم بحال، وبيّن سبحانه السبب الموجب بقوله: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ أي رد حكمهم إلى حكم الكفار المحاربين من جواز قتلهم وسبيهم، لأنهم كالكافر المحارب، أو أشد ضررا بسبب بقائهم في دار الشرك الذي لا يستفيد منه إلا عدو الإسلام والمسلمين.
3. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾، هذا يشعر بأن الفئة المتسامحة من المسلمين كانت تأمل أن يعود هؤلاء المنافقون إلى الهداية، فقطع الله أملهم بقوله: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾
4. سؤال وإشكال: لقد أخبر أولا، عظمت كلمته، انه أركس أولئك المنافقين بسبب كسبهم وسوء اختيارهم للبقاء في دار الكفر.. ثم قال سبحانه: انه هو الذي أضلهم.. فأضاف اضلالهم اليه بعد أن أضافه اليهم، فما هو وجه الجمع؟ والجواب: ليس المراد بمن أضل الله ويضلل الله خلق الإضلال فيهم.. كلا، وانما المراد ان من حاد عن طريق الحق والهداية بإرادته، وسلك طريق الباطل والضلال باختياره فإن الله يعرض عنه، ويدعه وشأنه.. وليس من شك ان من أوكله الله إلى نفسه لا يجد سبيلا الا الضلال، والجور عن القصد، وهذا المعنى ينسجم مع قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ كل الانسجام، وبتعبير أوضح: كل من سلك طريق الحق فإن الله يشمله بعنايته، ويرعاه بتوفيقه: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 28]، وهذه العناية من الله بالمتقين تسمى هداية وتوفيقا وولاية ووكالة من الله، وما إلى ذلك..
5. كل من سلك طريق الباطل فإن الله يعرض عنه، ولا يرده إلى الهداية قسرا، ويلجئه اليها إلجاء، وهذا الإعراض منه تعالى يسمى إضلالا وخذلانا واركاسا، وما اليه.. وبكلمة واحدة ان الإضلال من الله معناه سلبي، لا ايجابي، ومعنى الهداية منه ايجابي بنحو من اللطف والتدبير، ولا بد من التنبيه إلى أن حكمة الله سبحانه تستدعي ان يلطف بعبده، ولا يتخلى عنه، تماما كما لا تتخلى الوالدة عن وليدها إلا إذا كان العبد هو السبب الموجب لتخلي الله عنه لولوجه في العصيان والتمرد كما تتخلى الأم عن ابنها الذي أوغل في العقوق.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/398.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ الفئة الطائفة، والإركاس الرد.
2. والآية بما لها من المضمون كأنها متفرعة على ما تقدم من التوطئة والتمهيد أعني قوله: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً﴾، والمعنى: فإذا كانت الشفاعة السيئة تعطي لصاحبها كفلا من مساءتها فما لكم أيها المؤمنون تفرقتم في أمر المنافقين فئتين، وتحزبتهم حزبين: فئة ترى قتالهم، وفئة تشفع لهم وتحرض على ترك قتالهم، والإغماض عن شجرة الفساد التي تنمو بنمائهم، وتثمر برشدهم، والله ردهم إلى الضلال بعد خروجهم منه جزاء بما كسبوا من سيئات الأعمال، أتريدون بشفاعتكم أن تهدوا هؤلاء الذين أضلهم الله؟ ومن يضلل الله فما له من سبيل إلى الهدى.
3. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إشارة إلى أن من يشفع لهم من المؤمنين لا يتفهم حقيقة هذا الكلام حق التفهم، ولو فقهه لم يشفع في حقهم فأعرض عن مخاطبتهم به وألقى إلى من هو بين واضح عنده وهو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/31.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ ﴿فَمَا لَكُمْ﴾ تفريع على ما تبين من أهمية طاعة الرسول واتباعه والنصح له، قال في (الكشاف): (﴿فِئَتَيْنِ﴾ نصب على الحال، كقولك: مالك قائماً)، وهو سؤال استنكار لاختلافهم في المنافقين وتنازعهم بحيث صاروا فئتين، قال الراغب في (مفرداته): (والفئة: الجماعة المتظاهرة، التي يرجع بعضهم إلى بعض في التعاضد)
2. قال الشرفي في (المصابيح): (روي أنها نزلت في قوم قدموا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مسلمين، فأقاموا بالمدينة ما شاء الله، ثم قالوا: يا رسول الله نريد أن نخرج إلى الصحراء فأْذَن لنا فيه، فأَذِن لهم فلما خرجوا لم يزالوا يرحلوا [كذا] مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، فتكلم المؤمنون فيهم، فقال بعضهم: لو كانوا مؤمنين مثلنا لبقوا مثلنا وصبروا كما صبرنا، وقال قوم: هم مسلمون وليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر حتى يظهر أمرهم)
3. لعل استنكار التنازع راجع إلى أنهم لم يسارعوا إلى ردّ أمرهم إلى الله والرسول كما أمر سبحانه، فالإنكار لثباتهم على التنازع بحيث أنهم فئتان، أو أنهم تنازعوا فيهم مع وضوح حالهم في عدم الإيمان، أو الخروج من الإيمان لأنهم تعربوا بعد الهجرة، وهذا أظهر؛ لأن الإنكار جاء مقيَّداً بالحال الذي هو قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ فلم يكن ينبغي التنازع فيهم، بل كان ينبغي أن تتخلوا عن أمرهم، وتجعلوا أمرهم إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ليرى فيهم رأيه أو يحكم الله فيهم؛ لأنهم بترك الهجرة قد خرجوا من ولايتكم لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال:72]
4. وقد ظهر نفاقهم لأنه لازم لرجوعهم إلى قومهم؛ لأنه لا يتهيأ لهم إلا بإظهار المودة لقومهم وأنهم معهم، ولولا ذلك لطردهم قومهم عند وصولهم لاختلاف الملة فكيف تنازع فيهم المسلمون وصاروا فئتين وقد تبين نفاقهم وأن الله ﴿أَرْكَسَهُمْ﴾ أي ردهم في الركس، والركس: النجس ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ بمعاصيهم السابقة التي سهلت لهم النفاق والرجوع عن الهجرة، قال في (المصابيح): (وقال المرتضى عليه السلام: معناه: خذلهم وتركهم من التوفيق لشرارتهم وبعدهم من طاعة ربهم، فهلكوا بذلك وصاروا من المعذبين، وعند الله من المقبوحين)، الآية من المتشابه، ولا إشكال أن ليس المراد: أن الله أرجعهم في الرجس جبراً، وإنما هو: التسبيب له بالخذلان، وترك الشياطين تؤزهم، فنسب إلى الله على طريقة المجاز، ليدل على أنه غني عنهم لا يبالي بهم، وأن خذلانه لهم عقوبة من الله على ما كسبوا من قبل، وهذا كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5] ولو كانوا مجبورين على الزيغ لكان زيغهم مترتباً على إزاغته لهم، فكان سبحانه وتعالى إذا أخبر بذلك قال: (فلما أزاغ الله قلوبهم زاغوا) بدلاً من أن يقول: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ لكن الزيغ منهم باختيارهم كان سبباً لعقوبتهم بالإزاغة، التي هي التسبيب لزيغ أقبح من الزيغ الأول، بإهمالهم وخذلانهم، مع استعدادهم لذلك بعصيانهم الماضي.
5. ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ سؤال إنكار على من يجادل عنهم ويعتبرهم مسلمين، كأنه يريد أن يحكم لهم بالهدى، وقد حكم الله بضلالهم فهذا هو الذي ينكر عليهم، فأما محاولة هداية الكفار والمنافقين بالترغيب في الدين والتألف للكفار، فلا يعاب على من فعله، وقد أرسل الله رسوله إلى الناس جميعاً يدعوهم إلى الإيمان والهدى، قال الشرفي في (المصابيح): فالآية دالة على تحريم الحكم بالهدى لمن ضل ذكره، قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ لأنه قد عدل عن سبيل الله ولا يوجد سبيل غيرها يؤدي إلى بلوغ الخير والسلامة في الآخرة، وقد شبهوا بمن ضل في متاهة ولن توجد لهم طريق أبداً فهم هالكون لا محالة.
6. ويحتمل قوله تعالى: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ أنه إنكار على من يرى تألفهم إلى الدين والرفق بهم فشبه بمن يريد أن يهدي من يعلم أن الله قد أضله بحيث لا يرجع إلى الهدى أبداً، فالكلام تسجيل عليهم بالضلال الدائم لا إنكار على من يحاول هدايتهم، لأنه سؤال لتشبيههم بمن يريد ذلك وهذا أنسب لآخر الآية.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/135.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. نلاحظ على هذه الروايات(2) أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن من طريقته قتل المنافقين، مما يوحي بأن الآية تتحدث عن مرتدين كما تدل عليه الرواية الأخيرة، كما أن ظاهر الآية أنهم أظهروا الكفر فأصبح حكمهم حكم الكافرين، مع ملاحظة أخرى، وهي اختلاف الروايات الذي يوحى باختلاف الأشخاص والمواقع، مما يضعف اعتماد إحداها كتفسير لنزول الآية لتكون بمثابة اجتهاد استيحائي من قبل المفسرين الرواة.
2. كان المسلمون يختلفون في بعض المواقف التي لم ينزل الله فيها آية ولم يعط النبي رأيه بها، وكان الوحي ينزل بعد ذلك ليعطي المسألة حقها من الوضوح، وليوجّه المسلمين إلى النهج الذي يجب أن ينهجوه في فهمهم للأشياء ومواجهتهم للجوانب القلقة فيها، وقد كان من بين هذه الأمور، الموقف من المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام في مكة في بداية عهد الدعوة، ولكنهم يبطنون الكفر؛ ولم يهاجروا مع المسلمين عند ما هاجروا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، في الوقت الذي كانت الهجرة فريضة لازمة عليهم؛ فقد اختلف المسلمون في أمرهم بين فئتين: فئة ترى أن يعاملوا معاملة المشركين في قتالهم ونهب أموالهم، لأنهم كافرون مثلهم، فليس لهم ميزة إيمانية تخرجهم عن حكم الكفار؛ وفئة ترى أن يعاملوا معاملة المسلمين، كما هو الحال في المنافقين الذين هاجروا، أو الذين أسلموا في المدينة وعاشوا مع خط النفاق، فلا يجوز قتلهم واستباحة أموالهم، ولم يدل النبي برأي في هذا الخلاف، وترك إعطاء الرأي فيه بانتظار الوحي، وجاءت هذه الآيات لتحسم الخلاف وتحدد ملامح الموضوع بوضوح، من خلال ما وجهته للمؤمنين من الخطاب.
3. ﴿فَمَا لَكُمْ﴾ أي شيء لكم أيها المؤمنون، لتختلفوا ﴿فِي﴾ أمر ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾ وتنقسموا ﴿فِئَتَيْنِ﴾ انطلاقا من المشاعر والأفكار الذاتية التي لا ترتكز على دراسة الموضوع من جميع جوانبه، ممّا يبعدكم عن الرؤية الواضحة ويدخلكم في أبواب النزاع والخلاف.
4. ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾، والإركاس الانتكاس، وهو تحوّل الشيء من حال إلى حال أردأ منه، وقد يكون المراد من هذه الحالة، إلحاقهم بحكم الكافرين بعد أن كانوا بحكم المسلمين في التعامل معهم، وذلك لما يترتّب على وجودهم من الضرر بالمستوى الذي قد يزيد على ضرر الكفار على المسلمين، لنفاقهم وتمردهم على الأمر بالهجرة.
5. ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾، فإن الله لا يؤاخذ الناس في الدنيا والآخرة، إلا بسبب انحرافهم وتمرّدهم وممارستهم للأعمال الشريرة، فينبغي للمؤمنين أن ينطلقوا في إعطاء الرأي من هذا الموقع الذي يمثل القاعدة الإسلامية للحكم على الأشخاص، في ما أعطاه الله من الميزان الذي يزن الأشخاص بمستوى العمل، ويحاسبهم على هذا الأساس.
6. ثم ينطلق القرآن في معالجة بعض الأفكار التي كانت تطوف في أذهان المسلمين الذين كانوا يرون ضرورة مجاملة المنافقين والتعامل معهم معاملة المسلمين، فقد كان يخيل إليهم إمكانية الدخول في تجربة هداية هؤلاء، بالأسلوب الطيب والمعاملة الحسنة، فربما كان ذلك سببا في انفتاحهم على الإسلام وابتعادهم عن الكفر والضلال، لأن الأجواء الطيبة قد تثير الأفكار والمشاعر الطيبة في حياة الإنسان الذي قد يتأثر ـ إيجابا أو سلبا ـ بالكلمة واللفتة واللمسة وغير ذلك مما يلامس مشاعره بخير، أو يتحداها بشر، ولكن الله يعرّفهم أن ذلك مما لا سبيل إليه، لأن هؤلاء قد عاشوا مثل هذه الأجواء الخيرة المتسامحة الحميمة بأروع ما يمكن أن يعيشه إنسان، وذلك بما كانوا يعيشونه من خلق النبي العظيم ورعايته لمن حوله، وإعراضه عن كثير من الهفوات التي كانت تصدر منهم؛ مما حدّثه الله عنه من سلوكهم وتسامحه معهم، رغم معرفته من إضمارهم الكفر وإظهارهم الإسلام نفاقا، فلم يخاطبهم بذلك، ولم يعرض لهم بسوء بشكل مباشر من قبله، أو بشكل غير مباشر من قبل أصحابه، ثم أراد منهم الهجرة كما أرادها من المسلمين الآخرين الصادقين، للإيحاء لهم بأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، ولكنهم لم يستجيبوا لذلك، وآثروا البقاء في ديار الشرك، ليكيدوا للإسلام من ذلك الموقع، وبذلك استنفدت كل التجارب معهم، فلم يبق هناك تجربة جديدة يمكن أن يقوم بها المسلمون في طريق هدايتهم، فكان لا بد من حسم أمرهم بالمواجهة الحازمة لهم، بمعاملتهم معاملة الكفار، لأنهم كفار في واقع أمرهم، متمردون في ظاهره، وعلى ضوء ذلك، جاءت الآية لتخاطب المسلمين حول هذا الموضوع بأسلوب الاستنكار، ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾، وهذا أسلوب معبّر يوحي بالحسم في مواجهة المسألة؛ فإذا كان الله قد أضلّهم، فما ذا يستطيع العبد أن يقوم به في هدايتهم، وهل يستطيع الإنسان أن يتمرّد على إرادة الله في الناس وفي الأشياء؟
7. سؤال وإشكال: قد يوجه سؤال: ما معنى إضلال الله لهم، وهل يعني هذا إلغاء إرادتهم في قضية الهدى والضلال؟ وما معنى العذاب على ما لا اختيار للإنسان فيه؟ والجواب: أشرنا أكثر من مرة في هذا التفسير إلى الأسلوب القرآني الذي ينسب كل الظواهر في الكون إلى اللَّه، سواء كانت الظواهر كونية أو إنسانية، وذلك من خلال علاقتها بالله في ما ترتبط به من قانون السببية الذي أودعه في مخلوقاته، فللضلال أسبابه كما للهدى أسبابه، وقد جعل الله من أسباب الضلال، إرادة الإنسان السير في هذا السبيل، بعد قيام الحجة عليه من الله من جميع الجهات، مما يجعل من اختياره للضلال أمرا لا مبرر له؛ وبذلك يكون الضلال حتميا بوجود السبب الداخلي، وهو الإرادة المنحرفة، أما علاقة الموضوع باللَّه، فتتمثل في هذا الربط الذي جعله الله بين الإرادة وحصول المراد، كأيّة نتيجة وسبب، ولكن ذلك لا يمنع من أن يكون طرف القضية بيد الإنسان، هذا من جهة، وأما من جهة أخرى، فلأن الله يرفع عن الإنسان رعايته وعنايته التي يمنحها للسائرين في طريق الهدى، ويكل أمره إلى نفسه؛ وإذا فقد الإنسان رعاية اللَّه، كان الضلال أمامه في طريق الحياة، وفي كلا الحالين، فإن النسبة لا تمنع من الاختيار، ولا تمنع بالتالي من المسؤولية التي تستتبع العقاب، ولكنها تحسم الموقف في اتجاه الحتميّة التي لا تترك مجالا للتجربة.
8. ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾، لأن عملية الإضلال تتمثل في إغلاق الإنسان على نفسه كل السبل التي فتحها الله له ليسير فيها باختياره، فليس هناك وضع أو رعاية إلهية غير عادية لفرض الهدى من موقع المعجزة.
9. قد نستوحي من هذه الآية الكريمة أن يتعمق العاملون في دراسة النماذج البشرية الموجودة في الساحة من الفئات المنافقة، ولا يستسلموا للأجواء الحميمة وتقديم التنازلات، لمجرد أن هناك هدفا لهداية الناس ينبغي للمسلم أن يستهدفه، بل لا بد من دراسة تاريخ هؤلاء في سلوكهم العملي، والتعرف على حركتهم في الحاضر، لنعرف ـ من خلال ذلك ـ ما هي الفرص التي قدّمت إليهم في هذا السبيل، وما هي الظروف التي منعت من إقبالهم على انتهازها، وما هي الإمكانات الحاضرة والمستقبلة التي يمكننا من خلالها خلق ظروف جديدة لهدايتهم؟ إننا نؤكّد على ذلك، ليخرج العمل الإسلامي من أجواء السذاجة المنطلقة من حالة الطهارة الروحية البريئة التي يعيشها العاملون، فيتحركون في الفراغ، ويبذلون الجهد الضائع، وربما يستغل أولئك المنافقون هذا الإلحاح الإيماني على هدايتهم، فيوحون للعاملين بأنهم سائرون في هذا الاتجاه، مما يفتح لهم أبواب المجتمع المؤمن من موقع الثقة، فيعبثون فيه كما يشاءون، ثم ينقلبون إلى جماعاتهم من دون أن يحصل المؤمنون على ما يريدونه منهم.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/388
(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. نقل جمع من المفسّرين عن ابن عباس أن نفرا من أهل مكّة من الذين كانوا قد أظهروا الإسلام امتنعوا عن ترك مجاورة ومداهنة المنافقين، وأحجموا لذلك عن الهجرة إلى المدينة، وكان هؤلاء في الحقيقة يساندون ويدعمون عبدة الأوثان المشركين، إلّا أنّهم اضطروا في النهاية إلى الخروج من مكّة (وساروا مع المسلمين حتى وصلوا إلى مشارف المدينة، ولعلّهم فعلوا ذلك لدرء الفضيحة عن أنفسهم أو بهدف التجسس على المسلمين المهاجرين) وكانوا يظهرون الفرح لانطواء حيلتهم على المسلمين، كما حسبوا أن دخولهم إلى المدينة سوف لا تعترضه أي مشاكل من قبل الآخرين ـ لكن المسلمين انتبهوا الى حقيقة هؤلاء، غير أنّهم انقسموا إلى فئتين، فئة منهم رأت ضرورة طرد أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في الحقيقة يدافعون عن المشركين أعداء الإسلام، والفئة الثانية من المسلمين الذين كانوا لسذاجتهم يرون ظاهر الأمور دون باطنها، وخالفوا طرد المنافقين واعترضوا بزعمهم أنّه لا يمكن محاربة أو طرد من يشهد لله بالوحدانية ولمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنّبوة، وقالوا: أنّه لا يمكن استباحة دماء هؤلاء لمجرّد عدم هجرتهم مع المسلمين: فنزلت هذه الآية الكريمة وهي تلوم الفئة الأخيرة على خطئها، وترشدها إلى طريق الحقّ الصواب.
2. ذكرت أسباب أخرى لنزول هذه الآية والآيات التي تليها، وقيل أنّها نزلت في واقعة أحد بينما الآيات التالية تتحدث عن الهجرة ولا تنسجم مع هذا القول، بل تنسجم مع سبب النزول الذي ذكرناه.
3. استنادا إلى سبب النزول الذي ذكرناه، تتّضح لنا الصّلة الوثيقة بين هذه الآية والآيات التي تليها، وكذلك الآيات السابقة التي تناولت مواضيع وقضايا عن المنافقين، فهذه الآية تخاطب في البداية المسلمين وتلومهم على انقسامهم إلى فئتين، كل فئة تحكم بما يحلو لها بشأن المنافقين، حيث تقول: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ وتنهي المسلمين عن الاختلاف في أمر نفر أبوا أن يهاجروا معهم، وتعاونوا مع المشركين، وأحجموا عن مشاركة المجاهدين، فظهر بذلك نفاقهم، ودلت على ذلك أعمالهم، فلا يجوز للمسلمين أنّ ينخدعوا بتظاهر هؤلاء بالتوحيد والإيمان، كما لا يجوز لهم أن يشفعوا في هؤلاء، وقد أكّدت الآية السابقة أن: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها﴾
4. تبيّن الآية بعد ذلك: أنّ الله قد سلب من هؤلاء المنافقين كل فرصة للنجاح، وحرمهم من لطفه وعنايته بسبب ما اقترفوه وإنّ الله قد قلب تصورات هؤلاء بصورة تامّة فأصبحوا كمن يقف على رأسه بدل رجليه: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾، وأركسهم): من ركس وهو قلب الشيء على رأسه، وتأتي أيضا بمعنى ردّ أوّل الشيء إلى آخره.
5. تدل عبارة ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ على أنّ كل ارتداد أو خروج عن جادة الحقّ وطريق الهداية والسعادة والنجاة، إنّما يتمّ بعمل الإنسان وفعله، وحين ينسب الإضلال إلى الله سبحانه عزّ وجلّ، فذلك معناه أنّ الله القدير الحكيم يجازي كل إنسان بما كسبت يداه ويثيبه بقدر ما يستحق من ثواب.
6. في الختام تخاطب الآية أولئك البسطاء من المسلمين الذين انقسموا على أنفسهم وأصبحوا يدافعون لسذاجتهم عن المنافقين، فتؤكد لهم أنّ هداية من حرمه الله من لطفه ورحمته بسبب أفعاله الخبيثة الشنيعة أمر لا يمكن تحقيقه، لأنّ الله قد كتب على هؤلاء المنافقين ما يستحقونه من عذاب وضلال وحرمان من الهداية والنجاة ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾، إذ أنّ عمل كل شخص لا ينفصل عنه.. وهذه سنة إلهية.. فكيف يؤمل في هداية أفراد امتلأت أفكارهم وقلوبهم بالنفاق، واتجهت أعمالهم إلى حماية أعداء الله!؟ إنّه أمل لا يقوم على دليل.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/368
84. البراءة من المنافقين ومواجهتهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈84⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء: 89]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾، يقول: حتى يصنعوا كما صنعتم، يعني: الهجرة، يقول: حتى يهاجروا في سبيل الله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ﴾، قال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن الهجرة ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٩٠.
(2) ابن جرير ٧/٢٩١.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، نسخت ما كان قبلها من من أو فداء(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة في مصنفه ١٨/٦٠.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾، حتى يهاجروا هجرة أخرى(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٢٦.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ [المائدة: ٢]، نسختها: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾(1).
__________
(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن ٣/٨٥.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾، يقول: ود الذين كفروا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٢٥.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد: ٤]، نسختها: ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٩٢.
(2) ابن المنذر ٢/٨٢٢.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم أخبر عن التسعة، فقال سبحانه: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ أنتم وهم على الكفر(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾: فإن أبوا الهجرة ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ يعني: فأسروهم، ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ﴾ يعني: أين ﴿وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ من الأرض في الحل والحرم، ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ يعني: ولا ناصرا(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٥.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: عن عطاء بن أبي رباح قال: كان يكره قتل أهل الشرك صبرا، ويتلو: ﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد: ٤]، قال ابن جريج: وأقول: ثم نسختها ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، ونزلت ـ زعموا ـ في العرب خاصة، وقتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عقبة بن أبي معيط يوم بدر صبرا(1).
__________
(1) عبد الرزاق في مصنفه ٥/٢٠٤.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عز وجل: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾:
أ. قيل: ود الذين تركوا، الهجرة، فرجعوا إلى أهلهم ومنازلهم، الذين لهم قال اللَّه: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ ـ أن تكفروا كما كفروا، أي: تتركون الهجرة وترجعون كما رجعوا منهم؛ فتكونون أنتم وهم سواء؛ شرعًا في الكفر، فسماهم اللَّه كفارًا، وأمرهم بالبراءة منهم؛ فقال: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ بالهجرة الأولى؛ كقوله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾، وقال اللَّه تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾، وكقوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾، نهاهم أن يتخذوا أولياء حتى يهاجروا هجرة ثانية إلى المدينة، ويثبتون على ذلك، هذا على قول من قال: إنهم كانوا هاجروا ثم لحقوا بمكة.
ب. وأما في قول من قال: إنهم كانوا في أهلهم تكلموا بالإسلام فيها ولم يهاجروا ـ فمعنى هذا: لا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا كما هاجر غيرهم، وقيل: المهاجرون على طبقات:
• منهم: من هاجر، وأقام، وسمع، وأطاع، وثبت على ذلك.
• ومنهم: من هاجر، ثم خرج من غير إذن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم فلحق بأهله وأبطل هجرته التي هاجر، وإيمانَهُ الذي آمن.
• ومنهم: من تكلم بالإسلام، وأقام بأهله، ولم يهاجر، وبه قوة على الهجرة؛ كان كذلك.
• ومنهم: من تكلم بالإسلام ولم يكن له قوة على الهجرة؛ كانوا مستضعفين، وهو ما قال اللَّه: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ﴾ الآية. وروي عن ابن عَبَّاسٍ قال: (كنت أنا وأمي من المستضعفين)، والذين آمنوا ولم يهاجروا ولهم قوة الهجرة ما قال اللَّه ـ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾
2. قوله تعالى: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾:
أ. يحتمل: من أظهر الموافقة من المنافقين للكفرة، ولحق بهم.
ب. ويحتمل: من قد آمن ولم يهاجر؛ فيكون الأول على ولاية الدِّين، والثاني: على ولاية الميراث؛ كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾
3. من يتأول الآية على إظهار الكفر دون الخروج من المدينة ـ فمهاجرته تخرج على وجهين:
أ. أحدهما: أن يكون قد انضم فيها إلى معاني الكفرة فيما يترك صحبتهم.
ب. والثاني: أن يهاجر الأعلام المجعولة لأهل النفاق، مما يظهر ذلك فيما امتحنوا به من الأفعال؛ فيظهر خلاف ذلك؛ كقوله: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾.
4. وقوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأبوا الهجرة، ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ لأنهم صاروا حربًا لنا؛ حيث تركوا الهجرة وأبطلوا إيمانهم الذي تكلموا به ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ لما ذكرنا.
5. وقوله: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ يخرج على وجهين:
أ. أحدهما: في لحوق قوم من مظهري الإيمان أنهم لو لحقوا بمن لا ميثاق بينكم وبينهم ولا عهد؛ فاقتلوهم حتى يتوبوا ويهاجروا، ولو لحقوا بأهل الميثاق ـ لا تدعوا الولاية التي كانت بينكم وبينهم.
ب. والثاني: أن تكون الآية في قوم من الأعداء وأهل الحرب: لو انضموا إلى أهل الميثاق وأهل العهد فلا تقاتلوهم؛ فيكون الأمر عقيب موادعة تجري بين رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين قوم في دورهم، على أن لا تمانع بينهم لأهل الاتصال في الزيادة والاجتماع إلى المدة المجعولة للعهد، ممن إذا خيف منهم: ينبذ إليهم العهد، ويوفي إليهم المدة إذا وفوا ـ والله أعلم ـ كقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ﴾، وقوله عز وجل: ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٢92
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخبر اللَّه تعالى في هذه الآية عن هؤلاء المنافقين أنهم يوّدون ويتمنون أن تكفروا أي تجحدوا وحدانية اللَّه تعالى وتصديق نبيكم كما جحدوا، هم ﴿فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ يعني مثلهم كفاراً تستوون أنتم، وهم في الكفر باللَّه، ثم نهاهم أن يتخذوا منهم أولياء، ويستنصحوهم، بل ينبغي أن يتهموهم، ولا ينتصحوهم، ولا يستنصروهم، ولا يتخذوا منهم ولياً ناصراً، ولا خليلا مصافياً.
2. ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ومعناه حتى يخرجوا من دار الشرك، ويفارقوا أهلها المشركين ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني في ابتغاء دين اللَّه، وهو سبيله، فيصيروا عند ذلك مثلكم، لهم مالكم، وعليهم ما عليكم ـ وهو قول ابن عباس ـ
3. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ يعني هؤلاء المنافقين عن الإقرار باللَّه، ورسوله، وعن الهجرة من دار الشرك، ومفارقة أهله ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ أي أصبتموهم من أرض اللَّه.
4. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ يعني ولا تتخذوا منهم خليلا ولا ولا ناصرا ينصركم على أعدائكم ـ وهو قول ابن عباس والسدي ـ.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/285
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المودة والإرادة والمحبة من النظائر، ويقال: ودِدتُه: أحببته، ووددت كذا: تمنيته، وفلان وديد فلان: إذا كانا يتوادان، ووَدّ بفتح الواو وضمها اسم صنم، ومنه: ﴿وَلَا نَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا﴾
ب. الوَلْيُ: القُربُ يقال: تباعد بعد وَلْي، وكل من ولي أمرًا من أحد فهو وليه، والولي: الناصر، والولاية: النصرة.
2. بَيَّنَ تعالى من أحوال المنافقين وعداوتهم للمؤمنين ما يوجب البراءة منهم، وترك الاغترار بقولهم، فقال تعالى: ﴿وَدُّوا﴾ يعني هَؤُلَاءِ المنافقين الَّذِينَ اختلفتم في أمرهم تمنوا:
أ. قيل: ﴿لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ أنتم بِاللهِ ورسوله ﴿كَمَا كَفَرُوا﴾ هم حتى تكونوا مثلهم.
ب. وقيل: تمنوا لأجل عداوتهم إياكم أن تكفروا، فتصيروا إلى النار كما كفروا وصاروا إلى النار لتكونوا مثلهم في الكفر.
3. ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿مِنْهُمْ﴾ يعني من المنافقين ﴿أَوْلِيَاءُ﴾:
أ. قيل: معينًا وناصرًا، فلا تستعينوا بهم في الأمور.
ب. وقيل: خليلاً ومواليًا.
4. في قوله تعالى: ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. الأول: المراد به الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ثم اختلفوا فقيل: إنها نسخت بقوله: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ وقيل: هذا بعد انقضاء الهجرة.
ب. الثاني: حتى يهاجروا: يخالفوا الكافرين والمنافقين في الدخول في الإسلام والإخلاص في نصرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أبي مسلم، وقال عكرمة: الهجرة ثلاثة، الأول: هجرة المؤمنين في أول الإسلام، والثاني: هجرة المنافقين، وهو الخروج مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الجهاد، والثالث: هجرة سائر المؤمنين، وهو الهجرة مما نهى الله عنه.
ج. وقيل: حتى يهاجروا ما هم فيه من النفاق ويسلكون سبيل الله، وهو الإسلام.
5. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أعرضوا:
أ. قيل: عن الهجرة في سبيل الله، عن ابن عباس.
ب. وقيل: عن الدين؛ لأن سبيل الله هو الطريق الذي أمر بسلوكه، وهو العمل بطاعته.
ج. وقيل: عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأوامره ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ من أرض الله.
د. وقيل: خذوهم بالأسر واقتلوهم بالردة.
6. ﴿حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ من الحل والحرم ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا﴾ خليلاً ومواليًا ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ معينًا على أمور دينكم.
7. تدل الآية الكريمة على:
أ. المنع من اتخاذ الكفار أولياء.
ب. أن المنع إلى غاية وهو الهجرة، وإذا هاجر حسن اتخاذه وليًا، وقد بينا ما قيل في الهجرة.
ج. وجوب الهجرة، ولا خلاف أن الهجرة كانت واجبة قبل الفتح.
د. أن من تولى عن دين الإسلام فالواجب الإيقاع به، وقطع الموالاة، سؤال وإشكال: أليس إذا قبل الجزية لا يقتل؟ والجواب:
• لأنه غير معترض إذا دخل في ذمتنا.
• وقيل: إن أصحاب الجزية منسخون من الآية أو مخصوصون على حسب اختلاف العلماء، ويحتمل أنه كان في الوقت الذي تجب الهجرة فيه.
8. رفع بالفاء بعد التمني في قوله: ﴿فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾، ونصب في ﴿فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا﴾ لأن النصب بالفاء إذا كان جوابًا على معنى ﴿أَنْ﴾ والثاني رُفِعَ من أجل الأول إذا لم يكن جوابًا، وكانت الفاء عاطفة على فعل مرفوع، فإنما تعطف بالرفع، وتقديره ههنا، ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ وودوا لو تكونون سواء، ونظيره ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ و﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ﴾ أي ودوا أن يميلوا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/5
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين تعالى أحوال هؤلاء المنافقين فقال: ﴿وَدُّوا﴾: أي ود هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم في أمرهم، يعني تمنوا ﴿لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ أنتم بالله ورسوله ﴿كَمَا كَفَرُوا﴾ هم ﴿فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾: أي فتستوون أنتم وهم، وتكونون مثلهم كفارا.
2. ثم نهى الله تعالى المؤمنين أن يوادوهم، فقال: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾: أي فلا تستنصروهم، ولا تستنصحوهم، ولا تستعينوا بهم في الأمور ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾: أي حتى يخرجوا من دار الشرك، ويفارقوا أهلها المشركين بالله.
3. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: أي في ابتغاء دينه، وهو سبيله، فيصيروا عند ذلك مثلكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، وهذا قول ابن عباس، وإنما سمي الدين سبيلا وطريقا، لان من يسلكه أداه إلى النعمة، وساقه إلى الجنة.
4. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾: أي أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله، عن ابن عباس ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾: أي أين أصبتموهم من أرض الله من الحل والحرم.
5. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا﴾: أي خليلا ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾: أي ناصرا ينصركم على أعدائكم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/133.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا﴾ أخبر الله عزّ وجلّ المؤمنين بما في ضمائر تلك الطّائفة، لئلّا يحسنوا الظنّ بهم، ولا يجادلوا عنهم، وليعتقدوا عداوتهم.
2. ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ أي: لا توالوهم فإنهم أعداء لكم ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ أي: يرجعوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال ابن عباس: فإن تولّوا عن الهجرة والتّوحيد، ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ أي: ائسروهم، واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحلّ والحرم، قال القاضي أبو يعلى: كانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكّة، وقال الحسن: فرض الهجرة باق، واعلم أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أ. أحدها: من تجب عليه، وهو الذي لا يقدر على إظهار الإسلام في دار الحرب، خوفا على نفسه، وهو قادر على الهجرة، فتجب عليه لقوله ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾
ب. الثاني: من لا تجب عليه بل تستحب له، وهو من كان قادرا على إظهار دينه في دار الحرب.
ج. الثالث: من لا تستحب له وهو الضّعيف الذي لا يقدر على إظهار دينه، ولا على الحركة كالشّيخ الفاني، والزّمن، فلم تستحب له للحوق المشقّة.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/445
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما قال الله تعالى قبل هذه الآية: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ [النساء: 88] وكان ذلك استفهاما على سبيل الإنكار قرر ذلك الاستبعاد بأن قال: انهم بلغوا في الكفر إلى أنهم يتمنون أن تصيروا أيها المسلمون كفارا، فلما بلغوا في تعصبهم في الكفر إلى هذا الحد فكيف تطمعون في ايمانهم.
2. ﴿فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ رفع بالنسق على ﴿تَكْفُرُونَ﴾ والمعنى: ودوا لو تكونون، والفاء عاطفة ولا يجوز أن يجعل ذلك جواب التمني، ولو أراد ذلك على تأويل إذا كفروا استووا لكان نصبا، ومثله قوله: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: 9] ولو قيل: (فيدهنوا) على الجواب لكان ذلك جائزا في الاعراب، ومثله قوله: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: 102]
3. معنى قوله: ﴿فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ أي في الكفر، والمراد فتكونون أنتم وهم سواء الا أنه اكتفى بذكر المخاطبين عن ذكر غيرهم لوضوح المعنى بسبب تقدم ذكرهم.
4. ثم إنه تعالى لما شرح للمؤمنين كفرهم وشدة غلوهم في ذلك الكفر، فبعد ذلك شرح للمؤمنين كيفية المخالطة معهم فقال: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾
5. دلت الآية الكريمة على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد، وهذا متأكد بعموم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين، لأن ذلك هو الأمر الذي به يتقرب إلى اللَّه تعالى، ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة، وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة، وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه.
6. ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ قال أبو بكر الرازي: التقدير حتى يسلموا ويهاجروا، لأن الهجرة في سبيل اللَّه لا تكون إلا بعد الإسلام، فقد دلت الآية على إيجاب الهجرة بعد الإسلام، وانهم وإن أسلموا لم يكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة، ونظيره قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: 72]، وهذا التكليف:
أ. إنما كان لازما حال ما كانت الهجرة مفروضة قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك) فكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة، ثم نسخ فرض الهجرة، عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم فتح مكة (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)
ب. وروي عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما.
7. الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الايمان، وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المهاجر من هجر ما نهى اللَّه عنه) وقال المحققون: الهجرة في سبيل اللَّه عبارة عن الهجرة عن ترك مأموراته وفعل منهياته، ولما كان كل هذه الأمور معتبرا لا جرم ذكر اللَّه تعالى لفظ عاما يتناول الكل فقال: ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فانه تعالى لم يقل: حتى يهاجروا عن الكفر، بل قال: ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وذلك يدخل فيه مهاجرة دار الكفر ومهاجرة شعار الكفر، ثم لم يقتصر تعالى على ذكر الهجرة، بل قيده بكونه في سبيل اللَّه، فانه ربما كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن شعار الكفر إلى شعار الإسلام لغرض من أغراض الدنيا، إنما المعتبر وقوع تلك الهجرة لأجل أمر اللَّه تعالى.
8. ثم قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء: 89]، والمعنى فإن أعرضوا عن الهجرة ولزموا مواضعهم خارجا عن المدينة فخذوهم إذا قدرتم عليهم، واقتلوهم أينما وجدتموهم في الحل والحرم، ولا تتخذوا منهم في هذه الحالة وليا يتولى شيئا من مهماتكم ولا نصيرا ينصركم على أعدائكم.
__________
(1) التفسير الكبير: 10/170
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ أي تمنوا أن تكونوا كهم في الكفر والنفاق شرع سواء، فأمر الله تعالى بالبراءة منهم فقال: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾، كما قال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ والهجرة أنواع: منها الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكانت هذه واجبة أول الإسلام حتى قال: (لا هجرة بعد الفتح)، وكذلك هجرة المنافقين مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الغزوات، وهجرة من أسلم في دار الحرب فإنها واجبة، وهجرة المسلم ما حرم الله عليه، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه)، وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن، وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم فلا يكلمون ولا يخالطون حتى يتوبوا، كما فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع كعب وصاحبيه.
2. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ﴾ يقول: إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم، ﴿حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ عام في الأماكن من حل وحرم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/308.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ هذا كلام مستأنف، يتضمن بيان حال هؤلاء المنافقين، وإيضاح أنهم يودّون أن يكفر المؤمنون كما كفروا، ويتمنوا ذلك عنادا وغلوّا في الكفر، وتماديا في الضلال، فالكاف في قوله: ﴿كَمَا﴾: نعت مصدر محذوف، أي: كفرا مثل كفرهم، أو حال، كما روي عن سيبويه.
2. ﴿فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ عطف على قوله: ﴿تَكْفُرُونَ﴾ داخل في حكمه، أي: ودّوا كفركم ككفرهم، وودّوا مساواتكم لهم.
3. ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ جواب شرط محذوف، أي: إذا كان حالهم ما ذكر؛ فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا؛ ويحققوا إيمانهم بالهجرة، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن ذلك ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ إذا قدرتم عليهم ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ في الحلّ والحرم ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا﴾ توالونه ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ تستنصرون به.
__________
(1) فتح القدير: 1/573.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَدُّواْ لَوْ﴾ (لَوْ) مصدريَّة، ولا داعي إلى جعلها شرطيَّة وتقدير جوابها هكذا: لسرَّهم ذلك، ﴿تَكْفُرُونَ﴾ تمنَّوا كفرَكم، ﴿كَمَا كَفَرُواْ﴾ مثل كفرهم، ﴿فَتَكُونُونَ﴾ أنتم وهم ﴿سَوَآءً﴾ مستوين في حصول الضلال، ولو تفاوت كثرةً وقِلَّةً، وعِظمًا وصِغرًا ﴿فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمُ أوْلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ﴾ إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، إيمانًا ورغبة في نشر دين الله والجهاد ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ لا لغرض دنيويٍّ، كتزوُّج امرأة وطمع في مال أو جاه.
2. بعد فتح مكَّة نُسخ وجوبُ الهجرة، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونيَّةٌ)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (المهاجر من هجر ما نهى الله)، وهذه الهجرة لا يدخلها النسخ، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أنا بريء من كلِّ مسلم أقام بين ظهرانِيِّ المشركين)، وهذا أيضًا منسوخ بفتح مكَّة، إِلَّا أن يذهب إليهم ويقيم فيهم، أو كان بلدهم بلده ولم يصل إلى إقامة دينه معهم، وإن كان بلده ووصل إلى إقامة دينه لم يلزمه الخروج بعد فتحها، والهجرة ثلاث:
أ. الأولى مفارقة دار الشرك إلى دار الإسلام رغبة فيه.
ب. الثانية: ترك المنهيَّات.
ج. الثالثة: الخروج للقتال، وتحتمله الآية بأن يقال: نزلت فيمن رجع يوم أحد.
3. ﴿فَإِن تَوَلَّواْ﴾ أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله، ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ أسرى وأنتم مخيَّرون في الأسرى، ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ وقدَرتُم عليهم في الحلِّ والحرم، فإنَّه لا ينفعهم الإيمان مع البقاء في مكَّة أو غيرها، قبل نسخ الهجرة، فهم كسائر المشركين، بخلاف منافقي المدينة، ومن هاجر ونافق فإنَّه يكتفى منه بكلمة الشهادة الظاهرة منهم، ولو تبيَّن أنَّ هجرته لغرض دنيويٍّ، فهذا تحقيق المقام لا ما تجده في الكتب، وقيل: المراد هنا خصوص القتل، والأخذ مقدِّمةٌ له، وليس كذلك، فإِنَّ الأكثر القتل بلا قبض على المقتول.
4. ﴿وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا﴾ تحبُّونه ويلي أمرَكم وتَلُون أمرَه، ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ تنتصرون به على أعدائكم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/246.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا﴾ كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم، إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم، أي: تمنوا أن تكفروا ككفرهم بعد الإيمان.
2. ﴿فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ أي: في الكفر والضلال ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ في العون والنصرة لئلا يفضي إلى كفركم، وإن أظهروا لكم الإيمان طلبا لموالاتكم ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ من دار الكفر ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فتتحققوا إيمانهم.
3. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي عن الهجرة، فهم، وإن أظهروا لكم الإسلام مع قدرتهم على الهجرة، فافعلوا بهم ما تفعلون بالكفار، لأنه زال عنهم حكم النفاق بلحوق دار الكفر ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ أي: أسروهم ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ في الحل والحرم ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ أي: لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك.
4. يظهر لي أن الأقرب في سبب نزول هذه الآيات أعني قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ﴾، إلخ، رواية عبد الرحمن بن عوف، كما يدل عليه سبر هذه الآيات وتدبرها بصادق النظر والإمعان، وقد اهتدى إلى ذلك الفاضل المهايميّ في تفسيره، فاقتصر على هذا الوجه فقال: (وهم الذين استأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة، فلم يزالوا يرتحلون مرحلة بعد أخرى حتى لحقوا المشركين)، وقول السيوطيّ: في إسناد رواية عبد الرحمن بن عوف عند أحمد تدليس وانقطاع، لا يقدح في إصابتها كبد الحقيقة، لأنها وجدت فيها قرينة تلحقها بالمقبول وهو موافقتها لألفاظ الآية بلا تكلف، وحينئذ فقول زيد بن ثابت: فنزلت فيما تقدم بمعنى أنها تشمل ما وقع من المنخزلين عن أحد وما جرى من اختلاف المؤمنين في شأنهم، لا أنّ ما وقع كان سببا لنزولها، واستعمال النزول بذلك معروف كما بيناه في المقدمة، وإلا لأشكل قوله تعالى: ﴿إلا أن يهاجروا﴾، إذ لم تطلب المهاجرة إلا من النائين عن المدينة، وأولئك، أعني الذين انخزلوا عن المسلمين في أحد، كانوا بها، فيحتاج إلى جعل المهاجرة بمعنى خروجهم مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، صابرين محتسبين مخلصين، كما قاله بعض المفسرين، وهذا المعنى لم يشع في المهاجرة، ولأشكل أيضا قوله تعالى: ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، فإنه يفيد بأنهم ليسوا من منافقي أهل المدينة، وإنه يتوقع الظفر بهم، وإلا فمنافقوها بين ظهرانيهم ليلا ونهارا، فالظاهر في هذا المقام رواية ابن عوف، وفي آخر رواية زيد ما يشعر بها حيث قال: إنها طيبة وإنها تنفي الخبث، إشارة إلى أن المدينة نفت هؤلاء الذين نزحوا عنها بعد إسلامهم، والله أعلم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/253
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ أي أن هؤلاء المنافقين الذين ترجون نصرهم لكم وتطمعون في هدايتهم، ليسوا من الكفار القانعين بكفرهم، الغافلين غيرهم، بل هم يودون لو تكفرون ككفرهم وتكونون مثلهم سواء، ويقضي على الإسلام الذي أنتم عليه ويزول من الأرض.
2. ومن مباحث اللفظ في الآيات أن الفاء في قوله تعالى: ﴿فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ للعطف لا للجواب كقوله: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: 9]
3. ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي فلا تتخذوا منهم أنصارا لينصروكم على المشركين حتى يهاجروا إليكم ويتحدوا بكم، لأن المؤمن الصادق لا يدع النبي ومن معه من المؤمنين عرضة للخطر ولا يهاجر إليهم لينصرهم إلا للعجز، فترك الهجرة مع القدرة عليها دليل على نفاق أولئك المختلف فيهم، ومحمد عبده يقدر هنا (حتى يؤمنوا ويهاجروا) وكانت الهجرة لازمة للإيمان لزوما بينا مطردا فلذلك استغنى بذكرها عن ذكره إيجازا، ومن جعل الآيات في المنافقين في الدين من أهل المدينة وما حولها جعل المهاجرة هنا من باب حديث (والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) وهو بعيد جدا، ومعنى الحديث أن المهاجر الكامل من كان كذلك، ويرد ما قالوه كما سبق التنبيه إليه، قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي أعرضوا عن الإيمان والهجرة.
4. ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ ولا يجوز بحال أن يكون المراد أن الذين لا يهجرون ما نهى الله عنه يقتلون حيث وجدوا، وما سمعنا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قتل أحدا من المنافقين في الإيمان بذنبه، بل كان يهم الرجل من أصحابه بقتل المنافق فيمنعه وإن ظهر المقتضي لئلا يقال إن محمدا يقتل أصحابه، ولا يظهر هذا التعليل في أولئك المنافقين الذين كانوا بمكة ينصرون المشركين، وأما المنافقون في الولاء فالأمر بقتالهم أظهر فقد كانوا يعاهدون فَيَفِي لهم المسلمون وهم يغدرون، ويستقيم المسلمون على عهدهم وهم ينكثون، ولم يأمرهم الله تعالى بمعاملتهم بما يستحقون إلا بعد تكرار ذلك منهم، لأنه تعالى جعل الوفاء من صفات المؤمنين بمثل قوله: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ [الرعد: 22] وأكد حفظ ميثاقهم حتى أنه حرم نصر المؤمنين غير الذين مع رسوله عليهم بقوله: ﴿والذين آمنوا ولم يهاجروا وما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق﴾ [الأنفال: 72] وقد بين أحكامهم وأحكام أمثالهم مفصلة هنا، وفي أول سورة التوبة، وهي صريحة في علة الأمر بقتالهم وهي غدرهم وتصديهم لقتال المسلمين، وقد جعل هذه العلة من قبيل الضرورة تقدر بقدرها، ولذلك عقب نهيه عن اتخاذ ولي أو نصير منهم بقوله.
__________
(1) تفسير المنار: 5/264.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر سبحانه ما يجول في صدور أولئك المنافقين من أماني فقال: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ أي إن هؤلاء لا يقنعون بما هم عليه من الضلال والغواية، بل يطمعون أن تكونوا أمثالهم وتحذوا حذوهم حتى يقضى على الإسلام الذي أنتم عليه، وهذا منتهى ما يكون من الغلوّ والتمادي في الكفر، حيث لا يكتفون بضلالهم بل يرجون إضلال غيرهم.
2. ثم حذر المؤمنين من غوائل نفاقهم فقال: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي وإذا كانت هذه حالهم فلا تتخذوا منهم أنصارا يساعدونكم على المشركين حتى يؤمنوا ويهاجروا ويشاركوكم في سائر شئونكم، فإن الصادقين في إيمانهم لا يدعون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه عرضة للخطر، ولا يتركون الهجرة إلا إذا عجزوا عنها، وإذا فتركهم لها علامة على نفاقهم الذي اختلفتم فيه.
3. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ أي فإن أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله ولزموا مواضعهم في خارج المدينة فخذوهم إذا قدرتم عليهم واقتلوهم أينما وجدتموهم في الحلّ أو في الحرم، ولا تتخذوا منهم وليا يتولى شيئا من مهامّ أموركم ولا نصيرا ينصركم على أعدائكم.
__________
(1) تفسير المراغي 5/117.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ إنهم قد كفروا.. على الرغم من أنهم تكلموا بما تكلم به المسلمون، ونطقوا بالشهادتين نطقا يكذبه العمل في مظاهرة أعداء المسلمين.. وهم لا يريدون أن يقفوا عند هذا الحد، فالذي يكفر لا يستريح لوجود الإيمان في الأرض ووجود المؤمنين، ولا بد له من عمل وسعي، ولا بد له من جهد وكيد لرد المسلمين إلى الكفر، ليكونوا كلهم سواء، هذا هو الإيضاح الأول لحقيقة موقف أولئك المنافقين.. وهو يحمل البيان الذي يرفع التميع في تصور الإيمان ويقيمه على أساس واضح من القول والعمل متطابقين، وإلا فلا عبرة بكلمات اللسان، وحولها هذه القرائن التي تشهد بالكذب والنفاق.
2. والقرآن يلمس مشاعر المؤمنين لمسة قوية مفزعة لهم، وهو يقول لهم: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾، فقد كانوا حديثي عهد بتذوق حلاوة الإيمان بعد مرارة الكفر، وبالنقلة الضخمة التي يجدونها في أنفسهم، بين مشاعرهم ومستواهم ومجتمعهم في الجاهلية.. ثم في الإسلام، وكان الفرق واضحا بارزا في مشاعرهم وفي واقعهم، تكفي الإشارة إليه لاستثارة عداوتهم كلها لمن يريد أن يردهم إلى ذلك السفح الهابط ـ سفح الجاهلية ـ الذي التقطهم منه الإسلام؛ فسار بهم صعدا في المرتقى الصاعد، نحو القمة السامقة.
3. ومن ثم يتكئ المنهج القرآني على هذه الحقيقة؛ فيوجه إليهم الأمر في لحظة التوفز والتحفز والانتباه للخطر البشع الفظيع الذي يتهددهم من قبل هؤلاء: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾
4. ونحس من النهي عن اتخاذ أولياء منهم.. أنه كانت ما تزال للروابط والوشائج العائلية والقبلية بقايا في نفوس المسلمين في المدينة ـ وربما كان للمصالح الاقتصادية أيضا ـ وكان المنهج القرآني يعالج هذه الرواسب؛ ويقرر للأمة المسلمة قواعد ارتباطاتها، كما يقرر قواعد تصورها في الوقت ذاته، كان يعلمها أن الأمة لا تقوم على روابط العشيرة والقبيلة، أو روابط الدم والقرابة، أو روابط الحياة في أرض واحدة أو مدينة واحدة، أو روابط المصالح الاقتصادية في التجارة وغير التجارة.. إنما تقوم الأمة على العقيدة؛ وعلى النظام الاجتماعي المنبثق من هذه العقيدة، ومن ثم فلا ولاية بين المسلمين في دار الإسلام، وبين غيرهم ممن هم في دار الحرب.. ودار الحرب هي يومئذ مكة موطن المهاجرين الأول.. لا ولاية حتى يهاجر أولئك الذين يتكلمون بكلمة الإسلام؛ وينضموا إلى المجتمع المسلم ـ أي إلى الأمة المسلمة ـ حيث تكون هجرتهم لله وفي سبيل الله، من أجل عقيدتهم، لا من أجل أي هدف آخر؛ ولإقامة المجتمع المسلم الذي يعيش بالمنهج الإسلامي لا لأي غرض آخر.. بهذه النصاعة.
5. وبهذا الحسم، وبهذا التحديد الذي لا يقبل أن تختلط به شوائب أخرى، أو مصالح أخرى، أو أهداف أخرى.. فإن هم فعلوا، فتركوا أهلهم ووطنهم ومصالحهم.. في دار الحرب.. وهاجروا إلى دار الإسلام، ليعيشوا بالنظام الإسلامي، المنبثق من العقيدة الإسلامية، القائم على الشريعة الإسلامية.. إن هم فعلوا هذا فهم أعضاء في المجتمع المسلم، مواطنون في الأمة المسلمة، وإن لم يفعلوا وأبوا الهجرة، فلا عبرة بكلمات تقال فتكذبها الأفعال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ﴾ (أي أسرى) ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾
6. وهذا الحكم ـ كما قلنا ـ هو الذي يرجح عندنا، أنهم لم يكونوا هم منافقي المدينة، إذ قد اتبعت مع منافقي المدينة سياسة أخرى.
7. إن الإسلام يتسامح مع أصحاب العقائد المخالفة له؛ فلا يكرههم أبدا على اعتناق عقيدته، ولهم ـ حتى وهم يعيشون في ظل نظامه ودولته ـ أن يجهروا بمعتقداتهم المخالفة للإسلام، في غير ما دعوة للمسلمين ولا طعن في الدين، فقد ورد في القرآن من استنكار مثل هذا الطعن من أهل الكتاب ما لا يدع مجالا للشك في أن الإسلام لا يدع غير المعتنقين له ممن يعيشون في ظله يطعنون فيه ويموهون حقائقه ويلبسون الحق بالباطل كما تقول بعض الآراء المائعة في زماننا هذا! وحسب الإسلام أنه لا يكرههم على اعتناق عقيدته، وأنه يحافظ على حياتهم وأموالهم ودمائهم؛ وأنه يمتعهم بخير الوطن الإسلامي بلا تمييز بينهم وبين أهل الإسلام؛ وأنه يدعهم يتحاكمون إلى شريعتهم في غير ما يتعلق بمسائل النظام العام.
8. إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفيه جهارا نهارا في العقيدة.. ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون الإسلام كلمة باللسان تكذبها الأفعال، لا يتسامح مع من يقولون: إنهم يوحدون الله ويشهدون أن لا إله إلا الله، ثم يعترفون لغير الله بخاصية من خصائص الألوهية، كالحاكمية والتشريع للناس؛ فيضم أهل الكتاب بأنهم مشركون، لأنهم اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم.. لا لأنهم عبدوهم، ولكن لأنهم أحلوا لهم الحلال، وحرموا عليهم الحرام فاتبعوهم! ولا يتسامح هذا التسامح في وصف جماعة من المنافقين بأنهم مؤمنون، لأنهم شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ثم بقوا في دار الكفر، يناصرون أعداء المسلمين! ذلك أن التسامح هنا ليس تسامحا، إنما هو تميع، والإسلام عقيدة التسامح، ولكنه ليس عقيدة (التميع)، إنه تصور جاد، ونظام جاد، والجد لا ينافي التسامح، ولكنه ينافي التميع، وفي هذه اللفتات واللمسات من المنهج القرآني للجماعة المسلمة الأولى، بيان، وبلاغ.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/732.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يعيش المنافق في صحبة شعور مزعج، وهو أنه يحمل جريمة، يحاول إخفاءها عن الناس، ولكن عيون الناس تتبعه حيث كان، تبحث عن هذا الشيء الذي يخفيه، ويبالغ هو في ألا يراه أحد.. هكذا هو أبدا مع هذا الشعور المتسلط عليه.. وقد يكون الناس في غفلة عنه، وفي غير التفات إليه، ولا مراقبة له، ومع هذا فإن الجريمة التي يحملها معه، لا تدع له سبيلا إلى الاطمئنان والهدوء، بل تراه دائما على حذر، يرصد الناس، ويسترق النظر إليهم، بل يكاد يسألهم: عمّ يبحثون؟ وما ذا يريدون؟ وما هى الجريمة؟ ومن المجرم؟. وفيه يصدق المثل الذي يقول: (يكاد المريب يقول: خذونى)!
2. إن المنافق أشبه بمجرم في قفص الاتهام.. والمجتمع الذي يعيش فيه هو الذي يحاكمه، ويحاصره، ويأخذ عليه كل سبيل للإفلات من تلك النظرات المتهمة له، الفاضحة لجرمه، ومن هنا يقوم في كيان المنافق شعور آخر، يواجه به شعور الخوف والقلق الذي يستولى عليه، من إحساسه بمراقبة الناس له، واطلاعهم على خبيئة أمره، وفضحهم لخفىّ نفاقه ـ هذا الشعور الآخر، هو الرغبة في أن يرى الناس جميعا من حوله، صورة منه.. فلا يلقون أنظارهم إليه، ولا يلتفت هو إليهم، ولا يحاول أن يستر فعلته عنهم، إذ كانوا جميعا على شاكلته، فإن المجرم بين المجرمين، لا يستحى أن يكشف عن جرائمه، بل وربما بالغ فيها، ليرى أصحابه منه أنه عريق في الإجرام، يستأهل مكان الصدارة في المجرمين! ومن هنا كان المنافقون يسعون دائما إلى إفساد المؤمنين وإغوائهم، وتزيين النفاق لهم، وتحبيب الكفر إليهم، ليكونوا معهم في هذا البلاء، وليقتسموا المحنة التي يعيشون بين المجتمع فيها!
3. في قوله تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ ـ ما يكشف عن هذا الشعور الذي يحرك المنافقين إلى إفساد المؤمنين، ليؤنسوا وحشتهم، وليفكوا قيدهم الذي يمسك بهم في محيط محدود لا يتجاوزونه! حتى إذا امتلأت الأرض نفاقا، كان لهم أن يسرحوا ويمرحوا كيف يشاءون، وأن يظهروا ما ستره النفاق منهم، من كفر وإلحاد.. ولهذا جاء التعبير القرآنى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا﴾ بديلا مما يقضى به الظاهر وهو: (ودوا لو تنافقون كما نافقوا)، لأن النفاق يستر وراءه الكفر.. فجاء التعبير القرآنى فاضحا هذا الكفر المستتر وراء النفاق..
4. وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هو تحذير من الله للمؤمنين أن يوالوا هؤلاء المنافقين، وأن يأمنوا جانبهم، ما داموا في موقفهم الذي اتخذوه من المؤمنين.. فإن تحوّلوا عن هذا الموقف، وانحازوا إلى جماعة المؤمنين، وخالطوهم، وأخذوا مأخذهم في الحياة، واستقاموا على طريقهم، وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ـ إن هم فعلوا ذلك كان لهم ما للمؤمنين، وعليهم ما عليهم، وكان على المؤمنين ضمّهم إليهم، وجمعهم معهم.. فإن أبوا إلا أن يظلوا في هذا الموقع المنحرف بين المؤمنين والكافرين، وجب على المؤمنين أن يعاملوهم معاملة العدوّ الراصد.. إذا وقعوا لأيديهم في معركة كان جزاؤهم القتل، وإن لم تصل إليهم يد المؤمنين بالقتل، كان على المؤمنين أن يتجنبوهم، وأن يحذروهم، فلا يقبلوا منهم قولا، ولو جاء في صورة النصح، ولا يستنصروا بهم في حرب، ولو أحاط بهم العدوّ.
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/858.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ الأظهر أنّ ضمير (ودّوا) عائد إلى المنافقين في قوله: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ [النساء: 88]، فضح الله هذا الفريق فأعلم المسلمين بأنّهم مضمرون الكفر، وأنّهم يحاولون ردّ من يستطيعون ردّه من المسلمين إلى الكفر، وعليه فقوله: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إن حمل على ظاهر المهاجرة لا يناسب إلّا ما تقدّم في سبب النزول عن مجاهد وابن عباس، ولا يناسب ما في (الصحيح) عن زيد بن ثابت، فتعيّن تأويل المهاجرة بالجهاد في سبيل الله، فالله نهى المسلمين عن ولايتهم إلى أن يخرجوا في سبيل الله في غزوة تقع بعد نزول الآية لأنّ غزوة أحد، التي انخزل عنها عبد الله بن أبيّ وأصحابه، قد مضت قبل نزول هذه السورة.
2. ما أبلغ التعبير في جانب محاولة المؤمنين بالإرادة في قوله: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ [النساء: 88]، وفي جانب محاولة المنافقين بالودّ، لأنّ الإرادة ينشأ عنها الفعل، فالمؤمنون يستقربون حصول الإيمان من المنافقين، لأنّ الإيمان قريب من فطرة الناس، والمنافقون يعلمون أنّ المؤمنين لا يرتدّون عن دينهم، ويرون منهم محبّتهم إيّاه، فلم يكن طلبهم تكفير المؤمنين إلّا تمنيا، فعبّر عنه بالودّ المجرّد، وجملة ﴿فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ تفيد تأكيد مضمون قوله: ﴿كَمَا كَفَرُوا﴾ قصد منها تحذير المسلمين من الوقوع في حبالة المنافقين.
3. قوله: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أقام الله للمسلمين به علامة على كفر المتظاهرين بالإسلام، حتّى لا يعود بينهم الاختلاف في شأنهم، وهي علامة بيّنة، فلم يبق من النفاق شيء مستور إلّا نفاق منافقي المدينة، والمهاجرة في سبيل الله هي الخروج من مكة إلى المدينة بقصد مفارقة أهل مكة، ولذلك قال ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي لأجل الوصول إلى الله، أي إلى دينه الذي أراده.
4. قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي أعرضوا عن المهاجرة، وهذا إنذار لهم قبل مؤاخذتهم، إذ المعنى: فأبلغوهم هذا الحكم فإن أعرضوا عنه ولم يتقبّلوه فخذوهم واقتلوهم، وهذا يدلّ على أنّ من صدر منه شيء يحتمل الكفر لا يؤاخذ به حتّى يتقدّم له، ويعرّف بما صدر منه، ويعذر إليه، فإن التزمه يؤاخذ به، ثمّ يستتاب، وهو الذي أفتى به سحنون، والوليّ: الموالي الذي يضع عنده مولاه سرّه ومشورته، والنصير الذي يدافع عن وليّه ويعينه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/212.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن المؤمنين يحاولون هداية المنافقين، أو الحكم لهم بالإيمان، بينما المنافقون يودون للمؤمنين عكس ذلك، ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ وإن هؤلاء الذين تتمنون هدايتهم أو تحكمون بها عليهم، أو ترجونها لهم، يتمنون أن تكفروا كما كفروا، بحيث تكونون أنتم وهم على سواء؛ ومن تكون هذه حاله لا يعد مسلما، ولا يحكم عليه بأن نور الإسلام دخل قلبه، فهو لا يريد أن تجتمعوا معه على هدى، بل يريد أن تكونوا معه على ضلالة! فإذا كانوا يريدون الاتصال بكم اتصال مودة، فعلى أساس الكفر لا على أساس الإيمان، وإذا كانوا كذلك، فلا يصح أن تتخذوا منهم أنصارا، أو ترتبطوا معهم بمودة أو صلة.
2. ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الولى يطلق بمعنى المناصر، ويطلق بمعنى المحب الودود، والنهى منصب على الاثنين، فإنه لا يصح للمؤمنين أن يتخذوا أولياء من هؤلاء المنافقين، الذين يظهرون الإسلام وهم مقيمون في ديار الأعداء يناصرونهم، وقوتهم لهم على المسلمين، فكيف يكونون مع هذه الحال نصراء أهل الإيمان! وإذا كان لا يصح أن يتخذوا منهم نصراء، فإنه لا يصح أن يقال إنهم منتمون للدولة الإسلامية، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، ولا يجوز لهذا أن يضموا إليها.
3. وإنه لا يصح أن يربط بعض المؤمنين معهم مودة؛ لأنهم ببقائهم في ظل الكفر، وقوتهم له، يكونون في ضمن من يحادون الله ورسوله، والله تعالى يقول: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة]
4. وإن أمر القلوب بيد الله سبحانه وتعالى، فلا يصح أن تحكموا عليهم بالإيمان حتى تظهر أماراته، وتبدو معالمه، وإن مظهره الحقيقى في هذا النوع من الناس هو أن ينضموا إلى جماعة المؤمنين بالهجرة إليهم، لتكون قوتهم للمؤمنين لا عليهم، ولذا قيد سبحانه وتعالى ترك ولايتهم بغاية، وهى الهجرة، فقال: ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بأن يخرجوا في سبيل الله تعالى مجاهدين مع المؤمنين ومناصرين ومؤيدين لهم.
5. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ أى فإن أعرضوا عن الهجرة، وهى واجبة، فلا تعتبروا إسلامهم؛ لأنهم لا يزالون قوة عليكم، وخذوهم من نواصيهم بالأسر، والترصد لمتاجرهم وأموالهم، حتى لا يتخذوا من ذلك ذريعة لتقوية أقوامهم، واقتلوهم حيث وجدتموهم؛ لأنهم أعداء بمعاونتهم أعداء المؤمنين، وإذا كانوا يستطيعون الخروج بمتاجرتهم وغيرها، فإنهم يستطيعون الهجرة إليكم ليكونوا قوة لكم، والهجرة واجبة، وإذا كانوا معكم في حال قتال كمن ينتمون إليهم، فلا تقبلوهم في ولايتكم، ولا توادوهم، ولا تتخذوا منهم نصراء؛ لأن النصير هو الذى يعاونك ويكون معك على أعدائك، وليس هؤلاء منهم، فقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾، يدل على النهى عن أمور ثلاثة:
أ. أولها: ألا يعتبروهم منهم بالولاية والانتماء، لأنهم لم يعملوا على الانضمام لجماعة المؤمنين.
ب. ثانيها:ألا يوادوهم، لأنهم يحادونهم إذ يحادون الله ورسوله، وهم بهذا من حزب الشيطان، لا من حزب الله تعالى
ج. ثالثها: ألا يتخذوا منهم نصراء، لأنهم سيخادعون، ومن كانت هذه حالهم لا يؤتمنون، فنصرهم خذلان، والاستعانة بهم استعانة بغير أهل الإيمان.
6. السياق يدل على أن المنافقين الذين تتحدث عنهم الآية ـ وإن كان اللفظ عاما ـ هم من الذين يظهرون الإسلام في قبائلهم، ولا يخرجون إلى المسلمين ليكونوا معهم، فإن زمان إنشاء الدولة الإسلامية يحتاج إلى التجمع، ليكون المؤمنون قوة واحدة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف]
7. الخلاصة أن أولئك المنافقين يعاملون معاملة الذين ينتمون إلى دولة أخرى، فإذا كانت دولتهم تقاتل المؤمنين قوتلوا وقتلوا، وإن كانت دولتهم تسالم المؤمنين بميثاق، فلا يقاتلون احتراما للعهد والميثاق.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1791.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾، كل إنسان يود أن يكون جميع الناس على شاكلته، ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، بعد أن هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة أوجب سبحانه الهجرة إليها على كل من أسلم إلا إذا عجز عنها، أو أذن له الرسول لبقاء لمصلحة تعود على المسلمين.. ومن الآيات التي حث الله بها على الهجرة قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: 72]، والسر ـ كما يبدو لنا ـ أن المسلمين كانوا قلة قبل فتح مكة، فإذا تفرقوا هنا وهناك ضعفوا وطمع بهم العدو، وإذا اجتمعوا في مكان واحد حول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم قويت شوكتهم، وهابهم من يطمع بهم وهم متفرقون.. هذا إلى فوائد كثيرة تترتب على الاجتماع والانضمام.. وبقيت الهجرة إلى المدينة واجبة، حتى فتح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مكة، ونصره الله على أعدائه، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ولم يبق للهجرة من سبب.. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)
2. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، أي أن أولئك المنافقين إذا لم يتركوا دار الكفر ويهاجروا إلى المدينة، وينضموا إلى الرسول والمسلمين فخذوهم أي أأسروهم، واقتلوهم أينما ظفرتم بهم.
3. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾، المراد بالوالي هنا الحليف، والنصير معروف، والقصد أن يعرضوا عنهم إعراضا كليا، فلا يستنصحوهم ولا يستنصروهم ولا يستعينوا بهم في شيء.
4. سؤال وإشكال: إن الإسلام دين الحرية والتسامح مع جميع الطوائف وأهل الأديان، وشريعته تحافظ على حياة الناس، كل الناس، وحقوقهم المعنوية والمادية، بصرف النظر عن آرائهم ومعتقداتهم.. فما باله هنا يأمر بأسر المنافقين وقتلهم أينما وجدوا؟ والجواب: فرق بعيد بين الطوائف وأهل الأديان، بل والملحدين الذين أعلنوا عقائدهم وآراءهم على الملأ، ولم يضمروا العداء لإنسان، ولا غدروا ولا تآمروا ولا ناصروا مبطلا على محق، فرق بعيد بين هؤلاء الذين لزموا جانب الحياد، وبين المنافقين الذين أظهروا الإسلام، وتستروا بكلمته، وبقوا في دار الكفر بقصد الكيد للمسلمين، والتآمر عليهم، ومناصرة أعدائهم.. اذن: الأمر بأسر هؤلاء وقتلهم كان جزاء على عدائهم للإسلام في حين أنهم أظهروا الايمان به وأضمروا الكيد للنبي والمسلمين والغدر بهم، والتآمر عليهم.. أما تسامح الإسلام مع بقية الطوائف وأهل الأديان فهو انسجام مع مبدأه في حماية الحرية لكل فرد، وعدم الإكراه في الرأي والعقيدة حقا كانت أو باطلا، ما دام وزرها على صاحبها فحسب، والناس في أمن منها ومنه.
5. سؤال وإشكال: سؤال ثان: وشى به الجواب عن السؤال السابق، وهو ان الإسلام يتسامح مع المنافقين، تماما كما يتسامح من غيرهم من الطوائف وأهل الأديان بدليل ان الله أمر نبيه بتجاهلهم والاغضاء عنهم، كما سبق في الآية 63 من هذه السورة: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾؟ والجواب: ان هذه الآية أي 63 نزلت في المنافقين الذين كانوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة، ولم يكن في وسع هؤلاء أن يتعاونوا مع المشركين لبعدهم عنهم وقربهم من الرسول وقوة المسلمين، والآية التي نحن بصددها، أي 89 نزلت في المنافقين الذين أصروا على البقاء في دار الشرك للكيد والغدر بالمسلمين.. هذا، إلى أن الله أمر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالإغضاء عن المنافقين حين كان الإسلام ضعيفا قليل الأنصار، ثم أمره بقتلهم بعد أن أصبح قويا كثير الأنصار، تماما كما أمره بالصبر في مكة، والجهاد في المدينة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/401.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ هو بمنزلة البيان لقوله: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ والمعنى: أنهم كفروا وزادوا عليه أنهم ودوا وأحبوا أن تكفروا مثلهم فتستووا.
2. ثم نهاهم عن ولايتهم إلا أن يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فليس عليكم فيهم إلا أخذهم وقتلهم حيث وجدتموهم، والاجتناب عن ولايتهم ونصرتهم.
في قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ دلالة على أن على المؤمنين أن يكلفوهم بالمهاجرة فإن أجابوا فليوالوهم، وإن تولوا فيقتلوهم.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/31.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ هؤلاء الذين رجعوا إلى بلاد الكفر قد رجعوا إلى الكفر و﴿وَدُّوا﴾ أحبوا ورغبوا ﴿لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ في الكفر لرغبتهم في الكفر، وأن لا يبقى فيه مخالف، أو ليأمنوا جانبكم وهذا أظهر.
2. ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي حتى يؤمنوا ويهاجروا في سبيل الله، ولكونه لا يكفي إسلامهم في دار الكفر لوجوب الهجرة عليهم، فموالاتهم حرام حتى يهاجروا في سبيل الله، والهجرة في سبيل الله: هي الهجرة لنصر دين الله، ولطاعة الله في الدين كله.
3. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن الهجرة في سبيل الله مع الإيمان من جديد ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ خذوا منهم من شئتم واقتلوا من شئتم، وهذا تخيير بين الأخذ والقتل على التوزيع، مثل: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء:3]
4. قوله تعالى: ﴿حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ يحتمل في أي موضع من الأرض لتخويفهم في بلادهم وفي غيرها، وقيل حيث وجدتموهم ولو في الحرم، والأقرب أنه كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ﴾ [التوبة:5] وأن الحرم مخصوص بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة:191]
5. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا﴾ لوجوب معاداتهم ولو ادعوا أنهم باقون على الإسلام؛ لأن الله تعالى قد بيَّن أنهم قد كفروا ﴿وَلَا﴾ تتخذوا منهم ﴿نَصِيرًا﴾ في قتال غيرهم ينصركم لأن حكمهم حكم سائر المشركين.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/137.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يستمر القرآن في توضيح الواقع الداخلي الذي يعيش في ذواتهم ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ فهم يحملون الأماني الذاتية في أن يكفر المسلمون كما كفروا، مما يوحي بأن كل خططهم العملية في إظهارهم الإسلام وفي تقرّبهم من المسلمين تتحرك في هذا الاتجاه، فكيف يمكن أن يستسلم المسلمون لهم ويمحضوهم المودّة والإخلاص والموالاة، ويندمجوا معهم في مشاعر أخويه حميمة؛ في الوقت الذي يحملون فيه مثل هذه الأماني والأفكار؟
2. ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾، لأن ذلك يغريهم بالامتداد في خطتهم، ويجعلكم في متناول أيديهم، بما تفرضه الولاية من علاقات ومعاملات وأوضاع استرخائية يستسلم فيها الإنسان للجوّ الحميم ويفقد معها حذره.
3. ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لأن الهجرة تمثل لونا من ألوان الخضوع للسيطرة الإسلامية، مما يمكّن المسلمين من مراقبتهم وأخذ جانب الحيطة والحذر من جهتهم، ويوحي ـ ولو من بعض الجهات ـ باستعدادهم للانضباط الجزئي في داخل الحكم الإسلامي، وهذا هو الفرق بين المنافقين الذين هاجروا، وبين المنافقين الذين لم يهاجروا؛ فإن الإسلام قد يطمع في إصلاح حال المهاجرين منهم، لأنهم يعيشون في الأجواء الإسلامية الروحية والفكرية التي قد تنمّي لهم روحيتهم وأفكارهم على أساس الإسلام، وربما كان لوجودهم في نطاق السيطرة الإسلامية بعض الأثر في الوصول إلى هذا الهدف الإسلامي في هدايتهم إلى الحق؛ أما المنافقون الباقون في مكة، فليست هناك أية فرصة معقولة لخروجهم من ضلالهم وكفرهم، فلا مجال لإعطائهم حكم الإسلام من قريب أو من بعيد.
4. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ لأن هذا هو حكم الإسلام في المشركين في حالة الحرب ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾، لأنهم ليسوا من الإسلام والمسلمين في شيء، بل هم أعداؤه وأعداؤهم في كل المجالات؛ ولكنه استثنى فريقا منهم.
5. نستوحي من الفقرة الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ أن على المؤمنين أن يأخذوا الحذر في علاقتهم بالفئات التي تحمل هذا التفكير وتعمل لهذا الهدف، سواء كان ذلك على مستوى أحزاب الكفر والضلال، أو على مستوى الأفراد والجماعات المنافقة، فعليهم أن لا يتخذوا منهم أولياء؛ بل يعملوا على أن يعاملوهم معاملة الأعداء من حيث الحذر في الموقف والعلاقة والمعاملة، ليأمنوا شرّهم ويحفظوا الناس من الوقوع في حبائلهم.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/394
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد تحدثت الآية السابقة عن المنافقين الذين كانوا يحظون بحماية نفر من المسلمين البسطاء وشفاعتهم، وأوضحت أنّ هؤلاء المنافقين غرباء عن الإسلام، وهذه الآية تبيّن أنّ المنافقين لفرط انحرافهم وضلالتهم يعجبهم أن يجروا المسلمين إلى الكفر كي لا يظلوا وحدهم كافرين: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾
2. ولهذا السبب فإنّ المنافقين أسوأ من الكفار، لأنّ الكافر لا يحاول سلب معتقدات الآخرين، والمنافقون يفعلون هذا الشيء ويسعون دائما لإفساد المعتقدات، وهم بطبعهم هذا لا يليقون بصحبة المسلمين أبدا، تقول الآية الكريمة: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ إلّا إذا غيروا ما في أنفسهم من شرّ، وتخلوا عن كفرهم ونفاقهم وأعمالهم التخريبية.
3. ولكي يثبتوا حصول هذا التغيير، ويثبتوا صدقهم فيه، عليهم أن يبادروا إلى الهجرة من مركز الكفر والنفاق إلى دار الإسلام (أي يهاجروا من مكّة إلى المدينة) فتقول الآية: ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أمّا إذا رفضوا الهجرة فليعلم المسلمون بأن هؤلاء لا يرضون لأنفسهم الخروج من حالة الكفر والنفاق، وإن تظاهرهم بالإسلام ليس إلّا من أجل تمرير مصالحهم وأهدافهم الدنيئة ومن أجل أن يسهل عليهم التآمر والتجسس على المسلمين.
4. وفي هذه الحالة يستطيع المسلمون أن يأسروهم حيثما وجدوهم، وأن يقتلوهم إذا استلزم الأمر، تقول الآية الكريمة: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، وتكرر هذه الآية التأكيد على المسلمين أن يتجنّبوا مصاحبة هؤلاء المنافقين وأمثالهم فتقول:﴿لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا ولا نَصِيراً﴾
5. والقرآن في هذا الحكم يؤكّد حقيقة مصيرية للمجتمع، هي أنّ حياة أي مجتمع تمرّ بمرحلة إصلاحية لا يمكن أن تستمر بصورة سليمة ما لم يتخلص من جراثيم الفساد المتمثلة بهؤلاء المنافقين أو الأعداء الذين يتظاهرون بالإخلاص، وهم في الحقيقة عناصر مخربة هدامة تعمل في التآمر والتجسس على المجتمع ومصالحه العامّة.
6. والطريف هنا أنّ الإسلام ـ مع اهتمامه برعاية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم ومنعه الظلم والعدوان عنهم ـ نراه يشدد كثيرا في التحذير من خطر المنافقين، ويرى ضرورة التعامل معهم بعنف وقسوة، ورغم تظاهرهم بالإسلام يصرح القرآن بأسرهم، بل حتى بقتلهم إن استلزم الأمر، وما هذا التشديد إلّا لأنّ هؤلاء يستطيعون ضرب الإسلام تحت ستار الإسلام، وهذا ما يعجز عن أدائه أي عدو آخر.
7. سؤال وإشكال: قد يرى البعض أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يتحاشى قتل المنافقين كي لا يتهمه الأعداء بأنّه يقتل أصحابه، أو أنّه لم يقتلهم حتى لا يستغل الآخرون هذا الأمر فيقتلون كل من يعادونه بدعوى أنّه منافق، فكيف يتلاءم هذا الموقف مع الآية الشريفة؟ والجواب: الحقيقة أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اتّبع هذا الأسلوب مع منافقي المدينة الذين لم يظهروا العداء الصريح له أو للإسلام، بينما اتّبع مع منافقي مكّة الذين جهروا بعدائهم للمسلمين وساعدوا الكفار عليهم أسلوبا غير هذا.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/370
85. المسالمون وكيفية التعامل معهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈85⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ [النساء: 90]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك المدلجي، وفي بني جذيمة بن عامر بن عبد مناف(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾، يريدون ويلجؤون إلى قوم(2).
3. روي أنّه قال: أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق: بني بكر بن زيد بن مناة، كانوا في الصلح والهدنة(3).
4. روي أنّه قال: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾، عن هؤلاء، وعن هؤلاء(4).
5. روي أنّه قال: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾، ضاقت صدروهم(5).
6. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ﴾ الآية، نسختها براءة: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾(6).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٩٣.
(2) تفسير البغوي ٢/٢٦٠.
(3) تفسير الثعلبي ٣/٣٥٧.
(4) ابن أبي حاتم ٣/١٠٢٧.
(5) علَّقه ابن أبي حاتم ٣/١٠٢٨.
(6) أبو إسحاق الفزاري في سيره ٢٨٩.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾، يريدون: هلال بن عويمر، وهو الذي حصر صدره أن يقاتل المؤمنين، أو يقاتل قومه(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٢٨.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعشم، وجذيمة بن عامر بن عبد مناة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، وقال في الممتحنة: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ وقال فيها: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ إلى: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، فنسخ هؤلاء الآيات الأربعة في شأن المشركين، فقال: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾، فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض، وأبطل ما كان قبل ذلك، وقال في التي تليها: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾، ثم نسخ واستثنى، فقال: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ [التوبة: ٥، ٦](2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٩٣.
(2) ابن جرير ٧/٢٩٨.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّ سراقة بن مالك المدلجي حدثهم، قال: لما ظهر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته، فقلت: أنشدك النعمة، فقالوا: مه، فقال: (دعوه، ما تريد؟)، قلت: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم تخشن(1)، بقلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيد خالد، فقال: (اذهب معه، فافعل ما يريد)، فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم، فأنزل الله: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا﴾ حتى بلغ: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم(2).
__________
(1) خشَّن صدره: أوغره.
(2) ابن أبي شيبة ٧/٣٤٤.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: المراد بقوله تعالى: ﴿قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ هو هلال بن عويمر السلمي واثق عن قومه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال في موادعته: على أن لا تخيف ـ يا محمد ـ من أتانا، ولا نخيف من أتاك، فنهى الله سبحانه أن يتعرض لأحد منهم عهد إليهم(1).
__________
(1) مجمع البيان 3/135.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أنه قرأ: (حصرة صدورهم)، أي: كارهة صدورهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾ الآية، نسختها: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾(2).
3. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ إلى قوله: ﴿فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾: ثم نسخ ذلك بعد في براءة، وأمر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقاتل المشركين حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فقال: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾(3).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٩٦ من طريق أبان، وابن المنذر (٢٠٩٧.
(2) عبد الرزاق ١/١٦٧.
(3) ابن جرير ٧/٢٩٩.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: (﴿أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ معناه ضاقت صدورهم(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 123.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ إلى قوله: ﴿سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، وقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: ٨ ـ ٩]، وقال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [التوبة: ٧] وهم بنو ضمرة بن بكر، قد عاقد عليهم مخشي بن حويل: إنا نأمنكم وتأمنونا حتى ندبر وننظر في الأمر، نسخ هؤلاء الأربعة، فقال تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: ١ ـ ٢]، فجعل لهم أجلا أربعة أشهر يسيحون في الأرض، ﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم﴾ [التوبة: ٥]، وقال عز وجل: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ﴾ [التوبة: ٦](1).
__________
(1) الناسخ والمنسوخ للزهري ص ٢٤.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم، فإن أحد منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق فأجروا عليه مثل ما تجرون على أهل الذمة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾ يقول: رجعوا فدخلوا فيكم، ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ يقول: ضاقت صدورهم(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٩٢.
(2) ابن جرير ٧/٢٩٥.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾، الصلح(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٩٧.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في قول الله عز وجل: ﴿أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾: (نزلت في بني مدلج لأنهم جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد أنك رسول الله، فلسنا معك ولا مع قومنا عليك)، قيل: كيف صنع بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب، ثم يدعوهم، فإن أجابوا وإلا قاتلهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ قال: كان أبي يقول: نزلت في بني مدلج، اعتزلوا فلم يقاتلوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يكونوا مع قومهم، قيل: فما صنع بهم؟ قال: لم يقاتلهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، حتى فرغ من عدوه، ثم نبذ إليهم على سواء، قال: ﴿وحَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ هو الضيق(2).
__________
(1) الكافي 8/327.
(2) تفسير العيّاشي 1/262.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم استثنى، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ يعني: التسعة المرتدين ﴿إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ يعني: عهد؛ خزاعة، وبني خزيمة، وفيهم نزلت: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٤]، وإن وصل هؤلاء التسعة إلى أهل عهدكم ـ وهم خزاعة، منهم: هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعشم، وبنو مدلج، وبنو جذيمة، وهما حيان من كنانة ـ فلا تقتلوا التسعة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صالح هؤلاء على أن من يأتيهم من المسلمين فهو آمن، يقول: إن وصل هؤلاء وغيرهم إلى أهل عهدكم فإن لهم مثل الذي لحلفائهم(1).
2. روي أنّه قال: ثم قال عز وجل: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾ يعني: بني جذيمة، ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ يعني: ضيقة قلوبهم ﴿أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ يعني: ضاقت قلوبهم أن يقاتلوكم، ﴿أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ من التسعة، ثم قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾، يخوف المؤمنين(1).
3. روي أنّه قال: ثم قال: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ يعني: الصلح، يعني: هلالا وقومه خزاعة ﴿فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ في قتالهم(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، ثم صارت منسوخة(2).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٥.
(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٦.
ابن جريج:
روي عن عبد الملك بن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾، ما أمركم الله بقتالهم(1).
__________
(1) ابن المنذر ٢/٨٢٦.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، الذين يصلون إلى هؤلاء الذين بينكم وبينهم ميثاق من القوم، لهم من الأمان مثل ما لهؤلاء(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ الآية، نسخ هذا كله جميع، نسخه الجهاد، ضرب لهم أجل أربعة أشهر، إما أن يسلموا وإما أن يكون الجهاد(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٢٩٣.
(2) ابن جرير ٧/٣٠٠.
ابن سلام:
روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ وهؤلاء بنو مدلج كان بينهم وبين قريش عهد؛ فحرم الله من بني مدلج ما حرم من قريش(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، هذا منسوخ، نسخته الآية: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥](1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين ١/٣٩٤.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ نزلت هذه الآية في هلال بن عويمر، كان بينه وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عهد، فلم يكن نقض هلال ما بينه وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان مشركوا قريش يخرجون من مكة، فيأتون هلالا، وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يريدون قتل من يأتي هلالا من المشركين، فمنعهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بما ذكر من قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾
2. فلما أكمل الله سبحانه نعمته على المسلمين، وأعز بنصره خاتم النبيين ـ نسخ هاتين الآيتين، ونسخ كل عهد كان بينه وبين المشركين، فقال: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فأمر المسلمين بقتل المشركين حيث وجدوهم، وأن يقعدوا لهم كل مرصد، وأن لا يستبقوا من المشركين أحدا، إلا من تاب من خطيئته، ورجع إلى الله عن سيئته.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/251.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ومعنى ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ [النساء: 90]، فالحصر: هو الضيق والحرج.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/250.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عز وجل: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾
أ. قَالَ بَعْضُهُمْ: استثنى الذين خرجوا من دار الهجرة مرتدين إلى قومهم، وكان بينهم وبين المؤمنين عهد وميثاق، وقال: وفيهم نزل قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، كأنه قال: إن وصل هَؤُلَاءِ إلى أُولَئِكَ الذين بينكم وبينهم عهد وميثاق ـ فلا تقاتلوهم.
ب. وقيل: كان هذا في حي من العرب بينهم وبين رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أمان وعهد، وكانت الموادعة على أن من أتاهم من المسلمين فهو آمن، ومن جاء منهم إلى المؤمنين فهو آمن، يقول: إن وصل هَؤُلَاءِ أو غيرهم إلى أهل عهدهم ـ أو قال: عهدكم ـ فإن لهم مثل الذي لأُولَئِكَ من العهد وترك القتال.
ج. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: لما صد مشركو مكة نبي اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم عن البيت ـ جاء رجل ـ يقال كذا من بعض القبائل ـ لينظر ما أمر مُحَمَّد وقريش؛ فرآهم قد حالوا بين رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين البيت، فقال: يا معشر قريش، هلكتم؛ أتردون قومًا عمار ضفروا رءوسهم عن البيت، واللَّه لا نشرككم في هذا؛ فصالح رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ووادعه ألا يكونوا مع رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا يكونوا عليه، ومن لجأ إليه فهو آمن.
2. فلا ندري كيف كانت القصة في ذلك، غير أن فيه دليلا أن من اتصل بأهل العهد وكان على رأيهم ـ فهو بمنزلتهم، لا نقاتلهم، ومن قولنا (2): إن الإمام إذا وادع أهل بلدة من بلدان أهل الحرب، فمن دخل فيها أو اتصل بهم فهم آمنون مثلهم؛ لا يحل قتالهم، ولا أسرهم، حتى ينبذ إليهم عهدهم، وإذا أمَّن قومًا منهم في دار الإسلام ووادعهم، ثم انضم إليهم آخرون، فدخلوا معهم دار الإسلام ـ له قتالهم وأسوهم.
3. وقوله عز وجل: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾
أ. قيل: أي: ضيقة صدورهم، وهكذا قال الكسائي: كل من ضاق صدره عن فعل أو كلام؛ فقد حصر، فهذا ما ذكرنا: أن الموادعة ألا يعين بعضهم بعضًا في القتال، ولا يعينوا عليهم عدوهم، فنهاهم اللَّه عن قتالهم؛ لما أخبر أن قلوبهم تضيق على أن يقاتلوكم مع قومهم أو أن يقاتلوا قومهم معكم.
ب. وفي قوله تعالى أيضًا: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ يحتمل: أن يكون حكم هذا الحرف ما ضَمَّنه الحرف الأول؛ فيكون ذلك الشيء عمن ذكرت إذا كان هذا صفته أن يضيق صدره عن مقاتلة المؤمنين والكافرين جميعًا: إما بالطبع، أو بوفاء العهد، أو بالنظر في الأمر؛ ليتبين له الحق، وهو متردد في الأمر؛ بما يجد المعروفين بالكتب التي احتج بها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مختلفين فيه على ما عقولهم مرتقب بهم، أو تخلف عن الإحاطة بحق الحق إلا بعد طول النظر، واللَّه أعلم؛ فيكون معنى قوله: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾ بمعنى: وجاءوكم.
ج. ويحتمل: في قوم سوى ما ذكرت من الذين يصلون، لكن في أُولَئِكَ المعاهدين نفسه الذين أبت أنفسهم نقض العهد بينهم وبين المؤمنين، وعزموا على الوفاء به، وأبت أنفسهم ـ أيضًا ـ معونة المؤمنين على قومهم بالموافقة بالمذهب والدِّين، وعلى ذلك وصف جميع المعاهدين الذين عزموا على الوفاء بالعهد، وذلك في حق الآيات التي ذكرنا، ثم بين الذين يناقضون العهد، أو المنافقين الذين متى سئلوا عن الكون على رسول اللَّه والعون لأعدائه ـ الأمر فيهم؛ وذلك كقوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ﴾، إلى قوله: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا﴾، وتكون هذه الآية فيهم؛ كقوله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ﴾ الآية؛ فيكون في هذه الآية الإذن.
4. وقوله عز وجل: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ أي: نزع من قلوبهم الرعب والخوف؛ فقاتلوكم، ولم يطلبوا منكم الصلح والموادعة.
5. ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾:
أ. يعني: طلبوا الصلح، وهو قول ابن عَبَّاسٍ.
ب. وقيل: قالوا: إنا على دينكم، وأظهروا الإسلام.
6. ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾، أي: حجة وسلطان القتال، أمر اللَّه رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالكف عن هَؤُلَاءِ.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٢94
(2) يقصد الحنفية
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ أي ضاقت صدورهم، والحصر: هو الضيق.
2. معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ أي لو شاء لكثرهم عليكم، ولم يحل بينهم وبينكم، ولكنه عاقهم عن ذلك لرحمته لكم.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/247.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ أي يدخلون في قوم بينكم وبينهم أيمان فلهم منهم مثل ما لكم منهم وهذه الآية نزلت في هلال بن عنبر الأسلمي وسراقة بن مالك وخزامة بن عامر بن عبد مناف هؤلاء بنوا مدلج كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عقد فحرم الله من بني مدلج ما حرم من قريش.
2. ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ يعني حصرت ضاقت ومنه حصر العدو والتضييق عليه ومنه حصر القراءة إذا ضاقت على القارئ مذاهبه وهذا إخبار من الله عز وجل عنهم بأن صدورهم حصرت ويحتمل أن يكون دعاء عليهم بأن تحصر صدورهم.
3. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ وفي تسليطهم عليكم وجهان أحدهما تقوية قلوبهم، والثاني الإذن لهم ليدفعوا عن أنفسهم ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ أي الصلح ويحتمل أن يكون الإسلام ﴿فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ وهذه الآية منسوخة بقوله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5]
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/189.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ أي يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان فلهم منه مثل ما لكم، قال عكرمة: نزلت في الهلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جُعْثَم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف. قال الحسن: هؤلاء بنو مُدْلِج كان بينهم وبين قريش عهد، وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقريش عهد، فحرم الله من بني مُدْلِجِ ما حرّم من قريش.
2. ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ معنى حصرت أي ضاقت، ومنه حُصِرَ العدو وهو الضيق، ومنه حصر العداة لأنهم قد ضاقت عليهم مذاهبهم، ثم فيه قولان:
أ. أحدهما: أنه إخبارٌ من الله عنهم بأن صدورهم حَصِرتْ.
ب. والثاني: أنه دعاء من الله عليهم بأن تُحصَرَ صدورهم، وهذا قول أبي العباس.
3. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ في تسليطهم قولان:
أ. أحدهما: بتقوية قلوبهم.
ب. والثاني: بالإذن في القتال ليدافعواْ عن أنفسهم.
4. في قوله تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: الصلح، وهو قول الربيع.
ب. والثاني: الإِسلام، وهو قول الحسن.
5. ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ قال الحسن، وقتادة، وعكرمة: هي منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5]
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥١٤)
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أمر اللَّه تعالى المؤمنين بقتال الذين لا يهاجرون عن بلاد الشرك حيث وجدوهم، وألا يتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً استثنى من جملتهم من وصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم موادعة، وعهد وميثاق، فدخلوا فيهم وصاروا منهم، ورضوا بحكمهم فان لمن وصل إليهم ودخل فيهم راضياً بحكمهم حكمهم في حقن دمائهم بدخوله فيهم.
2. المعني بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ بنو مدلج، وكان سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد أحد، فقال له: أنشدك اللَّه والنعمة، وأخذ منه ألا يغزو قومه، فان أسلمت قريش أسلموا، لأنهم كانوا في عقد قريش، فحكم اللَّه فيهم ما حكم في قريش، وحرم منهم ما حرم منهم، ففيهم نزلت هذه الآية ـ على ما ذكره بن شبة ـ، وقال أبو جعفر عليه السلام قوله تعالى: ﴿إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ قال: هو هلال بن عويمر السلمي، واثق عن قومه ألا تخفيف يا محمد من أتاك ولا نخيف من أتانا، وبمثل هذا التأويل قال السدي، وابن زيد، وعكرمة.
3. ﴿يَصِلُونَ﴾ قال أبو عبيدة (يصلون) بمعنى ينتسبون إليهم، والعرب تقول قد اتصل الرجل: إذا انتمى إلى قوم وقال الأعشى يذكر امرأة انتسبت إلى قومها:
çإذا اتصلت قالت: أبكر بن وائل...وبكر سبتها والأنوف رواغمé
وقد ضعف هذا الجواب، لأن تعيين الانتساب لو أوجب أن يكون حكم المنتسب حكم من انتسب إليه ممن بينهم وبينهم ميثاق، لوجب ألا يقاتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قريشاً، لما بينهم وبين المؤمنين من الانتساب، وحرمة الايمان أعظم من حرمة الموادعة.
4. سؤال وإشكال: إن قيل: هذه الآية منسوخة والجواب: قيل: لعمري إنها منسوخة لكن لا خلاف أنها نسخت بقوله في سورة براءة: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ وبراءة نزلت بعد فتح مكة، فكان يجب ألا يقاتل قريشاً على دخول مكة وقد علمنا خلافه.
5. ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ قال عمر بن شبة: يعني به أشجع فإنهم قدموا المدينة في سبعمائة يقودهم مسعود بن دخيلة فأخرج إليهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أحمال التمر ضيافة، وقال: نعم الشيء الهدية أمام الحاجة، وقال لهم: ما جاءكم؟ قالوا: قربت دارنا منك، وكرهنا حربك، وحرب قومنا، يعنون بني ضمرة الذين بينهم وبينهم عهد لقلتنا فيهم، فنزلت الآية.
6. ﴿جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ معناه قد حصرت، لأنه في موضع الحال والماضي إذا كان المراد به الحال قدّر معه قد، كما يقولون: جاء فلان، وذهب عقله، والمعنى قد ذهب عقله، وسمع الكسائي من العرب من يقول: أصبحت نظرت إلى ذات التنانير بمعنى قد نظرت، وانما جاز ذلك، لأن قد تدني الفعل من الحال، وقرأ الحسن، ويعقوب (حصرة صدورهم) منصوباً على الحال، وأجاز يعقوب الوقف بالهاء، وهو صحيح في المعنى وقراءة القراء بخلافه، ومعنى ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ ضاقت عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم وكل من ضاقت نفسه عن شيء من فعل أو كلام يقال: قد حصر، ومنه الحصر في القراءة وما قلناه معنى قول السدي وغيره.
7. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ مثل قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ ومعناه الاخبار عن قدرته على ذلك لو شاء لكنه لا يشاء ذلك، بل يلقي في قلوبهم الرعب حتى يفزعوا، ويطلبوا الموادعة، والمسالمة، ويدخل بعضهم في حلف من بينكم وبينهم ميثاق وفي ذمتهم.
8. ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾ يعني هؤلاء الذين أمرنا بالكف عن قتالهم من المنافقين بدخولهم في أهل عهدكم أو بمصيرهم إليكم ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾، فلم يقاتلوكم ﴿وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ يعني صالحوكم، واستسلموا، كما يقول القائل: أعطيتك قيادي وألقيت إليك خطامي إذا استسلم له وانقاد لأمره، فكذلك قوله: ﴿وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ يريد به الصلح وقال أكثر المفسرين: البلخي والطبري والجبائي، وغيرهم: إن المراد به الإسلام، قال الطرماح:
çوذاك ان تميما غادرت سلما...للأسد كل حصان وعثة اللبدé
يعني استسلاماً.
9. ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ يعني إذا استسلموا لكم فلا طريق لكم على نفوسهم، وأموالهم، قال الربيع: السلم ها هنا الصلح، ثم نسخ ذلك بقوله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ الآية، وبه قال عكرمة والحسن قالا، نسخت هذه الآية إلى قوله: ﴿سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، وقوله: في الممتحنة: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ إلى قوله: (الظالمون) نسخت هذه الأربع آيات بقوله: في براءة الآية التي تلوناها، وبه قال قتادة وابن زيد:
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/286
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الوصل ضد الهجر، ومنه الواصلة التي تصل شعرها بشعر آخر، ومنه: الوصيلة، لما قيل: وصلت أخاها والميثاق: العهد المؤكد، وأصله مِوْثَاقٌ؛ لأنها من وثقت)، ولكن الواو انقلبت ياء للكسرة التي قبلها، كما قالوا: ميعاد، وميزان، وميراث، وأصله مِوْعَاد من الوعد، وموزان من الوزن، ومِوْرَاث من الوراثة.
ب. الحصر: الضيق، ومنه الحصر في القراءة؛ لأنه ضاق عليه مذاهب القراءة فلم يمكنه أن يقرأ، ومنه المحصور في حبس ونحوه، والحصور كالذي منع بالضيق، والحصر: اعتقال البطن، ومنه حصر وأحصر، والحصير لحصر بعضه مع بعض، وناقة حصورٌ: ضيقة الإحليل.
ج. السلاطة من التسلط، وهو القهر، والسلطان الحجة أيضًا؛ لأنه بها يتسلط.
د. العزل: أن يتنحى الرجل عن الأمر، يقال: هو بمعزل عن هذا، يقال: اعتزلت البيت وتعزلته، قال الأحوض:
يَا بَيتَ عَاتِكَةَ التي أَتَعزَّلُ... حَذَرَ العِدَا وَبِهِ الفُؤَادُ مُوَكَّلُ.
ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ﴾ وسميت المعتزلة لاعتزالهم عن البدع والأهواء، ولزومهم الحجة والسنة.
هـ. السّلم: الصلح، ويفتح أيضًا، ويذكر ويؤنث، والاستسلام: الانقياد، والسلم والسلام بمعنى، وهو المسالمة.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت الآية في بني مدلج كان بينهم وبين قريش عهد، فحرم الله من بني مدلج ما حرم من قريش، عن الحسن.
ب. وقال عكرمة: نزلت في هذال بن عويمر، وسراقة بن مالك بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف.
ج. وقيل: نزلت في الأسلميين، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وادع هلال بن عويمر الأسلمي على أن من لجأ إليهم فله من الجوار مثل الذي لهلال.
د. وقال الضحاك عن ابن عباس: أراد بالقوم الَّذِينَ بينه وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة كانوا في الصلح والهدنة.
3. استثنى الله تعالى من جملة من أمر بقتالهم وأخذهم فيما تقدم، فقال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾:
أ. يعني: لا تقتلوا الَّذِينَ يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق.
ب. وقيل: هم الَّذِينَ يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان، فللداخل من ذلك الأمان مثل ما لهم، عن الحسن والسدي وابن زيد وعكرمة.
ج. وقيل: ينتسبون إليهم كما قال الأعشى:
çإِذا اتصلتْ قالت أَبكرَ بنَ وَائِلٍ... وَبَكرٌ سَبتَها والأنُوفُ رَوَاغِمُé
عن أبي عبيد، وأنكره بعض الفقهاء بأن النسب لا يوجب حقن الدم، كما لا يُوجب لمن كان قريبًا من المسلمين.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾:
أ. قيل: أي ضاقت قلوبهم من أن يقاتلوكم عن الحسن والسدي، وفيه إضمار، أي: وقد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم يعني عن قتالكم وعن قتال قومهم، فلا عليكم ولا عليهم.
ب. وقيل ﴿أَوْ﴾ بمعنى الواو، وتقديره على تقدير: وجاؤوكم حصرت صدورهم لقتالكم وقتال قومهم.
5. أجمع هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذكرنا عنهم أن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يصلون حصرتْ صدورهم، وهم كفار غير مُؤمِنِينَ لكن للعهد نهى عن قتلهم، واختلفوا: منهم من يجعلهم فرقتين، ومنهم من يجعلهم فرقة واحدة:
أ. وأما شيخنا أبو علي فجعلهم فرقة واحدة، وقال: هم قوم مؤمنون بين قوم كفار لهم مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عهد، فَبَيَّنَ تعالى حالهم أنهم إن قاموا في قومهم، أو جاؤوكم وضاقت قلوبهم عن قتالكم وقتال قومهم، أما قتالكم فلأنهم مؤمنون، وأما قتال قومهم فللعهد والقربى والوصلة، فهَؤُلَاءِ المستثنى فرقة واحدة هذه صفتهم.
ب. فأما أبو مسلم محمد بن يحيى فيجعل المستثنى فرقتين من المؤمنين لهم عذر في ترك القتال، فقال: لما أوجب الله تعالى الهجرة على الجميع استثنى من له عذر، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ فهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة، فكان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقًا إليه، فصاروا إلى قوم بينكم وبينهم عهد، وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص، واستثنى بعدهم من يصير إليه، ويخبره أنه غير مقاتل له اتقاء الله وخشية منه، ولا يقاتل قومه، لما لم يأمنه منهم على نفسه وحرمه وماله، وهو مع ذلك مقيم على الإيمان يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة فإذا لقي هَؤُلَاءِ أهل الإسلام، فلا يحل قتلهم ومقاتلتهم.
6. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ يعني الفرقتين الَّذِينَ استثناهما، والفرقة الواحدة:
أ. قيل: لو شاء لسلطهم بتقوية قلوبهم.
ب. وقيل: بالإذن لهم في القتال ليدفعوا عن أنفسهم إن قاتلتموهم بعد هذا ظالمين، عن أبي علي.
ج. وقيل: إنه إخبار عن قدرته، وليس عما يشاء أن يفعله، عن أبي القاسم.
د. وقيل: لولا إيمانكم لسلطهم عليكم، وتلخيصه: لو لم يشأ الله لكم الإيمان لكانوا أعداء لكم وحربًا ومتسلطين عليكم، عن أبي مسلم.
7. ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾ أي فإن تنحى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أمرتكم بالكف عن قتالهم ﴿فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ وامتنعوا عن محاربتكم ﴿وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾:
أ. وقيل: السلم الاستسلام.
ب. وقيل: الصلح، عن الربيع.
ج. وقيل: الإسلام، عن الحسن وأبي علي وأبي مسلم، وكلاهما جائز، كأنه قيل: إذا استسلموا بالصلح أو الإسلام.
8. ﴿فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ أي على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم ﴿سَبِيلًا﴾:
أ. يعني طريقًا للسبي والقتل والاغتنام.
ب. وقيل: حجة في قتالهم وسفك دمائهم.
9. اختلف في نسخ الآية الكريمة:
أ. قيل: الآية منسوخة بآية السيف، وهو قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ عن الحسن وعكرمة وقتادة وابن زيد.
ب. قال الأصم: قد التبس على المفسرين من هذه الآية حتى قالوا بنسخها وليست بمنسوخة، وإذا حمل على ذوي العهد فلا نسخ فيه، فأما أبو علي وأبو مسلم فحملاها على المؤمنين، فلا نسخ فيه على ما قررنا.
10. تدل الآية الكريمة على:
أ. المنع من قتال من كان بينه وبين المسلمين عهد، وفيه اتفاق.
ب. أنه تعالى بألطافه قوى قلوب المسلمين، وألقى في قلوب الكفار الرعب وأنه لو شاء لأذهب الرعب عن قلوبهم ولكن بفضله ورحمته لم يرد إلا الخير والصلاح.
ج. أن الجهاد يسقط بالأعذار إذا حمل على ما قالا.
11. قراءة العامة ﴿حَصِرَتْ﴾ ساكنة التاء على فعل ماض، وقرأ يعقوب حَصِرَةً صُدُورُهُمْ) بنصب التاء والتنوين، فالأول على أنها فعل مضاف إلى الصدور، فأما النصب فهو صفة للصدور متقدمة، وإنما أراد صدورهم حصرت، فلما قَدَّمْتَ الصفة نَصبتهَا على الحال، والمعنى: جاؤوكم في حال حصر صدورهم.
12. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ موضعه من الإعراب فيه ثلاثة أقوال:
• قيل: نصب على الحال بإضمار ﴿قَدْ﴾
• الثاني أن يكون خبرًا بعد خبر، على تقدير البدل من الشيء، والمعنى مشتمل عليه.
• الثالث: أن يكون على طريقة الدعاء عليهم، كما قال: ﴿قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾
ب. ﴿سَبِيلًا﴾ نصب بـ ﴿جَعَلَ﴾
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/7
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحصر: الضيق، وكل من ضاقت نفسه عن شئ من فعل أو كلام يقال قد حصر، ومنه الحصر في القراءة، والحصر: اعتقال البطن.
ب. الاعتزال: أن يتنحى الرجل عن الشئ، يقال: اعتزلت البيت، وتعزلته، قال الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
وسميت المعتزلة معتزلة: لاعتزالهم مجلس الحسن البصري، بعد أن كانوا من أهله، وذلك أن واصل بن عطاء، لما أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين، وتابعه عمرو بن عبيد على التدين به، ووافقهم جماعة على هذا المذهب، فآل الامر بهم إلى الاعتزال للحسن البصري وأصحابه، فسماهم الناس معتزلة، وجرى عليهم ذلك الاسم.
2. لما أمر الله تعالى المؤمنين بقتال الذين لا يهاجرون عن بلاد الشرك، وإن لم يوالوهم، استثنى من جملتهم فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ معناه: إلا من وصل من هؤلاء إلى قوم بينكم وبينهم موادعة، وعهد، فدخلوا فيهم بالحلف أو الجوار، فحكمهم حكم أولئك في حقن دمائهم، واختلف في هؤلاء:
أ. فالمروي عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: المراد بقوله تعالى ﴿قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ هو هلال بن عويمر السلمي، واثق عن قومه رسول الله، فقال في موادعته: (على أن لا تحيف يا محمد من أتانا، ولا نحيف من أتاك)، فنهى الله أن يتعرض لأحد عهد إليهم، وبه قال السدي، وابن زيد.
ب. وقيل: هم بنو مدلج، وكان سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، جاء إلى النبي بعد أحد، فقال: أنشدك الله والنعمة، وأخذ منه ميثاقا أن لا يغزو قومه، فإن أسلم قريش أسلموا، لأنهم كانوا في عقد قريش، فحكم الله فيهم ما حكم في قريش، ففيهم نزل هذا، ذكره عمر بن شيبة، ثم استثنى لهم حالة أخرى، فقال: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾: أي ضاقت قلوبهم من ﴿أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ يعني من قتالكم، وقتال قومهم، فلا عليكم ولا عليهم، وإنما عني به أشجع، فإنهم قدموا المدينة في سبعمائة، يقودهم مسعود بن دخبلة، فأخرج إليهم النبي أحمال التمر ضيافة، وقال: (نعم الشئ الهدية أمام الحاجة) وقال لهم: (ما جاء بكم)؟ قالوا: (لقرب دارنا منك، وكرهنا حربك، وحرب قومنا) يعنون بني ضمرة الذين بينهم وبينهم عهد، لقلتنا فيهم، فجئنا لنوادعك، فقبل النبي ذلك منهم، ووادعهم، فرجعوا إلى بلادهم، ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره، فأمر الله تعالى المسلمين، أن لا يتعرضوا لهؤلاء ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ بتقوية قلوبهم، فيجترئون على قتالكم.
ج. وقيل: هذا إخبار عما في المقدور، وليس فيه أنه يفعل ذلك بأن يأمرهم به، أو يأذن لهم فيه، ومعناه أنه يقدر على ذلك لو شاء، لكنه لا يشاء ذلك، بل يلقي في قلوبهم الرعب، حتى يفزعوا، أو يطلبوا الموادعة، ويدخل بعضهم في حلف من بينكم وبينهم ميثاق.
3. ﴿فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾: أي لو فعل ذلك لقاتلوكم ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾ يعني: هؤلاء الذين أمر بالكف عن قتالهم، بدخولهم في عهدكم، أو بمصيرهم إليكم، حصرت صدورهم أن يقاتلوكم ﴿فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ يعني: صالحوكم، واستسلموا لكم، كما يقول القائل: ألقيت إليك قيادي، وألقيت إليك زمامي، إذا استسلم له، وانقاد لأمره، والسلم: الصلح، ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ يعني إذا سالموكم، فلا سبيل لكم إلى نفوسهم وأموالهم.
4. قال الحسن وعكرمة: نسخت هذه الآية والتي بعدها، والآيتان في سورة الممتحنة: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ إلى قوله: ﴿الظَّالِمُونَ﴾ الآيات الأربع بقوله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ الآية.
5. ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ في موضع نصب على الحال، وقد مضمرة معه لان الفعل الماضي لا يكون حالا، حتى يكون معه قد إما مضمرة، أو مظهرة، فإن قد تقرب الماضي من الحال، فتقديره: جاؤوكم قد حصرت صدورهم، كما قالوا: جاء فلان ذهب عقله: أي قد ذهب عقله، ويجوز أي يكون ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ منصوب الموضع، بأنه صفة لموصوف، هو حال على تقدير جاؤوكم قوم حصرت صدورهم، فحذف الموصوف المنصوب على الحال، وأقيم صفته مقامه، وإنما جاز أن يكون هذا حالا، لأنه بمنزلة قولك أو جاؤوكم موصوفين بحصر الصدور، أو معروفين بذلك.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/134.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ هذا الاستثناء راجع إلى القتل، لا إلى الموالاة وفي ﴿يَصِلُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه بمعنى يتّصلون ويلجئون، قال ابن عباس: كان هلال بن عويمر الأسلمي وادع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على أن لا يعينه ولا يعين عليه، فكان من وصل إلى هلال من قومه وغيرهم، فلهم من الجوار مثل ما لهلال.
ب. الثاني: أنه بمعنى ينتسبون، قاله ابن قتيبة، وأنشد.
çإذا اتّصلت قالت أبكر بن وائل...وبكر سبتها والأنوف رواغمé
يريد: إذا انتسبت، قالت: أبكرا، أي: يا آل بكر.
2. في القوم المذكورين أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنهم بنو بكر بن زيد مناة، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: أنهم هلال بن عويمر الأسلميّ، وسراقة بن مالك، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، قاله عكرمة.
ج. الثالث: أنهم بنو مدلج، قاله الحسن.
د. الرابع: خزاعة وبنو مدلج، قاله مقاتل.
قال ابن عباس: ﴿مِيثَاقٌ﴾: العهد.
3. في قوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن معناه: أو يصلون إلى قوم جاءوكم، قاله الزجّاج في جماعة.
ب. الثاني: أنه يعود إلى المطلوبين للقتل، فتقديره: أو رجعوا فدخلوا فيكم، وهو بمعنى قول السّدّيّ.
4. في قوله تعالى: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن فيه إضمار (قد)
ب. الثاني: أنه خبر بعد خبر، فقوله ﴿جَاءُوكُمْ﴾: خبر قد تمّ، وحصرت: خبر مستأنف، حكاهما الزجّاج.
5. قرأ الحسن ويعقوب والمفضّل، عن عاصم: (حصرة صدورهم) على الحال، و(حصرت): ضاقت، ومعنى الكلام: ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم، أو يقاتلوا قومهم، يعني قريشا، قال مجاهد: هلال بن عويمر هو الذي حصر صدره أن يقاتلكم، أو يقاتل قومه.
6. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ قال الزجّاج: أخبر أنه إنما كفّهم بالرعب الذي قذف في قلوبهم.
في ﴿السَّلْمِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه الإسلام، قاله الحسن.
ب. الثاني: الصّلح، قاله الرّبيع، ومقاتل.
7. قال جماعة من المفسّرين: معاهدة المشركين وموادعتهم المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية السّيف، قال القاضي أبو يعلى: لمّا أعزّ الله الإسلام أمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلّا الإسلام أو السّيف.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/446
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أمر الله تعالى بقتل هؤلاء الكفار استثنى منه موضعين:
أ. الأول: ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾
ب. الثاني: ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾
2. في قوله تعالى: ﴿يَصِلُونَ﴾ قولان:
أ. الأول: ينتهون إليهم ويتصلون بهم، والمعنى أن كل من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم، قال القفال: وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيتعذر عليهم ذلك المطلوب فيلجئوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد إلى أن يجدوا السبيل اليه.
ب. الثاني: أن قوله: ﴿يَصِلُونَ﴾ معناه ينتسبون، وهذا ضعيف لأن أهل مكة أكثرهم كانوا متصلين بالرسول من جهة النسب مع أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قد أباح دم الكفار منهم.
3. اختلفوا في أن القوم الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد من هم؟
أ. قال بعضهم: هم الأسلميون فانه كان بينهم وبين رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم عهد، فانه صلّى الله عليه وآله وسلّم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال ابن عويمر الأسلمي على أن لا يعصيه ولا يعين عليه، وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل ما لهلال.
ب. وقال ابن عباس: هم بنو بكر بن زيد مناة.
ج. وقال مقاتل: هم خزاعة وخزيمة بن عبد مناة.
4. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ يتضمن بشارة عظيمة لأهل الايمان، لأنه تعالى لما رفع السيف عمن التجأ إلى من التجأ إلى المسلمين، فبأن يرفع العذاب في الآخرة عمن التجأ إلى محبة اللَّه ومحبة رسوله كان أولى.
5. قوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل أن يكون عطفا على صلة ﴿الَّذِينَ﴾ والتقدير: إلا الذين يصلون بالمعاهدين أو الذين حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم.. وهو أولى لوجهين:
• أحدهما: قوله تعالى: ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [النساء: 89] وهذا يدل على ان السبب الموجب لترك التعرض لهم هو تركهم للقتال، وهذا انما يتمشى على الاحتمال الأوّل، وأما على الاحتمال الثاني فالسبب الموجب لترك التعرض لهم وهو الاتصال بمن ترك القتال.
• الثاني: أن جعل ترك القتال موجبا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض، لا ن على التقدير الأوّل يكون ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض، وعلى السبب الثاني يصير سببا بعيدا.
ب. ويحتمل أن يكون عطفا على صفة (قوم) والتقدير: إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم عهد، أو يصلون إلى قوم حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم.
6. ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ معناه ضاقت صدورهم عن المقاتلة فلا يريدون قتالكم لأنكم مسلمون، ولا يريدون قتالهم لا نهم أقاربهم، واختلفوا في موضع قوله: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾، وذكروا وجوها:
أ. الأول: أنه في موضع الحال بإضمار (قد) وذلك لان (قد) تقرب/ الماضي من الحال، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة، ويقال أتاني فلان ذهب عقله، أي أتاني فلان قد ذهب عقله: وتقدير الآية، أو جاؤكم حال ما قد حصرت صدورهم.
ب. الثاني: أنه خبر بعد خبر، كأنه قال: أو جاؤكم ثم أخبر بعده فقال: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ وعلى هذا التقدير يكون قوله: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ بدلا من ﴿جَاءُوكُمْ﴾
ج. الثالث: أن يكون التقدير: جاؤكم قوما حصرت صدورهم أو جاؤكم رجالا حصرت صدورهم، فعلى هذا التقدير قوله: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ نصب لأنه صفة لموصوف منصوب على الحال، الا انه حذف الموصوف المنتصب على الحال، وأقيمت صفته مقامه، وقوله: ﴿أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ معناه ضاقت قلوبهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فهم لا عليكم ولا لكم.
7. اختلفوا في أن الذين استثناهم اللَّه تعالى أهم من الكفار أو من المؤمنين؟
أ. قال الجمهور: هم من الكفار، والمعنى أنه تعالى أوجب قتل الكافر الا إذا كان معاهدا أو تاركا للقتال فانه لا يجوز قتلهم، وعلى هذا التقدير فالقول بالنسخ لا زم لأن الكافر وان ترك القتال فانه يجوز قتله.
ب. وقال أبو مسلم الاصفهاني: انه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة، الا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقا اليه خوفا من أولئك الكفار، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه، لأنه يخاف اللَّه تعالى فيه، ولا يقاتل الكفار أيضا لأنهم أقاربه، أو لأنه أبقى أولاده وأزواجه بينهم، فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه، فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم وان كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار.
8. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ التسليط في اللغة مأخوذ من السلاطة وهي الحدة، والمقصود منه أن اللَّه تعالى من على المسلمين بكف بأس المعاهدين، والمعنى: أن ضيق صدورهم عن قتالكم إنما هو لأن اللَّه قذف الرعب في قلوبهم، ولو أنه تعالى قوى قلوبهم على قتال المسلمين لتسلطوا عليهم:
أ. قال أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ: وهذا يدل على أنه لا يقبح من اللَّه تعالى تسليط الكفار على المؤمن وتقويته عليه.
ب. أما المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ فقد أجابوا عنه من وجهين:
• الأول: قال الجبائي قد بينا أن القوم الذين استثناهم اللَّه تعالى قوم مؤمنون لا كافرون، وعلى هذا فمعنى الآية: ولو شاء اللَّه لسلطهم عليكم بتقوية قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم أن أقدمتم على مقاتلتهم على سبيل الظلم.
• الثاني: قال الكلبي: انه تعالى أخبر أنه لو شاء لفعل، وهذا لا يفيد إلا أنه تعالى قادر على الظلم، وهذا مذهبنا إلا أنا نقول: إنه تعالى لا يفعل الظلم، وليس في الآية دلالة على أنه شاء ذلك وأراده.
9. اللام في قوله تعالى: ﴿فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ جواب (للو) على التكرير أو البدل، على تأويل ولو شاء اللَّه سلطهم عليكم ولو شاء اللَّه لقاتلوكم، قال صاحب (الكشاف): وقرئ فلقتلوكم بالتخفيف والتشديد.
10. ثم قال: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾ أي فان لم يتعرضوا لكم وألقوا إليكم السلم، أي الانقياد والاستسلام، وقرئ بسكون اللام مع فتح السين ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم، واختلف المفسّرون:
أ. فقال بعضهم: الآية منسوخة بآية السيف، وهي قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: 5]
ب. وقال قوم: انها غير منسوخة، أما الذين حملوا الاستثناء على المسلمين فذلك ظاهر على قولهم، وأما الذين حملوا الاستثناء على الكافرين فقال الأصم: إذا حملنا الآية على المعاهد فكيف يمكن أن يقال أنها منسوخة.
__________
(1) التفسير الكبير: 10/172
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم استثنى، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ أي يتصلون بهم ويدخلون فيما بينهم من الجوار والحلف، المعنى: فلا تقتلوا قوما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد فإنهم على عهدهم ثم انتسخت العهود فانتسخ هذا، هذا قول مجاهد وابن زيد وغيرهم، وهو أصح ما قيل في معنى الآية، قال أبو عبيد: يصلون ينتسبون، ومنه قول الأعشى:
çإذا اتصلت قالت لبكر بن وائل...وبكر سبتها والأنوف رواغمé
يريد إذا انتسبت، قال المهدوي: وأنكره العلماء، لأن النسب لا يمنع من قتال الكفار وقتلهم، وقال النحاس: (وهذا غلط عظيم، لأنه يذهب إلى أن الله تعالى حظر أن يقاتل أحد بينه وبين المسلمين نسب، والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الأولين أنساب، وأشد من هذا الجهل بأنه كان ثم نسخ، لأن أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له براءة وإنما نزلت براءة بعد الفتح وبعد أن انقطعت الحروب، وقال معناه الطبري)، وحمل بعض العلماء معنى ينتسبون على الأمان، أي إن المنتسب إلى أهل الأمان آمن إذا أمن الكل منهم، لا على معنى النسب الذي هو بمعنى القرابة.
2. اختلف في هؤلاء الذين كان بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ميثاق، فقيل: بنو مدلج، عن الحسن: كان بينهم وبين قريش عقد، وكان بين قريش وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عهد، وقال عكرمة: نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عهد، وقيل: خزاعة، وقال الضحاك عن ابن عباس: أنه أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة، كانوا في الصلح والهدنة
3. في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين، على ما يأتي بيانه في الأنفال وبراءة إن شاء الله تعالى.
4. ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ أي ضاقت، وقال لبيد:
çأسهلت وانتصبت كجذع منيفة...جرداء يحصر دونها جرامهاé
أي تضيق صدورهم من طول هذه النخلة، ومنه الحصر في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم، والحصر الكتوم للسر، قال جرير:
çولقد تسقطني الوشاة فصادفوا...حصرا بسرك يا أميم ضنيناé
ومعنى ﴿حَصِرَتْ﴾ قد حصرت فأضمرت قد، قال الفراء: وهو حال من المضمر المرفوع في ﴿جَاءُوكُمْ﴾ كما تقول: جاء فلان ذهب عقله، أي قد ذهب عقله، وقيل: هو خبر بعد خبر قال الزجاج، أي جاءوكم ثم أخبر فقال: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ فعلى هذا يكون ﴿حَصِرَتْ﴾ بدلا من ﴿جَاءُوكُمْ﴾ وقيل: ﴿حَصِرَتْ﴾ في موضع خفض على النعت لقوم، وفي حرف أبي إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم) ليس فيه ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾، وقيل: تقديره أو جاءوكم رجالا أو قوما حصرت صدورهم، فهي صفة موصوف منصوب على الحال، وقرأ الحسن (أو جاءوكم حصرة صدورهم) نصب على الحال، ويجوز رفعه على الابتداء والخبر، وحكى أو جاءوكم حصرات صدورهم)، ويجوز الرفع، وقال محمد بن يزيد: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ هو دعاء عليهم، كما تقول: لعن الله الكافر، وقاله المبرد، وضعفه بعض المفسرين وقال: هذا يقتضي ألا يقاتلوا قومهم، وذلك فاسد، لأنهم كفار وقومهم كفار، وأجيب بأن معناه صحيح، فيكون عدم القتال في حق المسلمين تعجيزا لهم، وفي حق قومهم تحقيرا لهم، وقيل: ﴿أَوْ﴾ بمعنى الواو، كأنه يقول: إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقة صدورهم عن قتالكم والقتال معكم فكرهوا قتال الفريقين، ويحتمل أن يكونوا معاهدين على ذلك فهو نوع من العهد، أو قالوا نسلم ولا نقاتل، فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للإسلام، والأول أظهر، ﴿أَوْ يُقَاتِلُوا﴾ في موضع نصب، أي عن أن يقاتلوكم.
5. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يقدرهم على ذلك ويقويهم إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، وإما ابتلاء واختبارا كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾، وإما تمحيصا للذنوب كما قال تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ولله أن يفعل ما يشاء ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء.
6. وجه النظم والاتصال بما قبل أي اقتلوا المنافقين الذين اختلفتم فيهم إلا أن يهاجروا، وإلا أن يتصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم، وإلا الذين جاءوكم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/309.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ هو مستثنى من ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ﴾ أي: إلا الذين يتصلون ويداخلون في قوم بينكم وبينهم ميثاق بالجوار والحلف؛ فلا تقتلوهم لما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد وميثاق؛ فإن العهد يشملهم، هذا أصلح ما قيل في الآية، وقيل: الاتصال هنا هو اتصال النسب، والمعنى: إلا الذين ينتسبون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، قاله أبو عبيدة، وقد أنكر ذلك أهل العلم عليه، لأن النسب لا يمنع من القتال بالإجماع، فقد كان بين المسلمين وبين المشركين أنساب ولم يمنع ذلك من القتال، وقد اختلف في هؤلاء القوم الذين كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ميثاق، فقيل: هم قريش، كان بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ميثاق ﴿الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ إلى قريش هم بنو مدلج؛ وقيل: نزلت في هلال بن عويمر، وسراقة بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، كان بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عهد؛ وقيل: خزاعة؛ وقيل: بنو بكر بن زيد.
2. ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ عطف على قوله: ﴿يَصِلُونَ﴾ داخل في حكم الاستثناء، أي: إلا الذين يصلون والذين جاءوكم، ويجوز أن يكون عطفا على صفة قوم، أي: إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، والذين يصلون إلى قوم جاءوكم حصرت صدورهم، أي: ضاقت صدورهم عن القتال فأمسكوا عنه، والحصر: الضيق والانقباض، قال الفراء: وهو أي: حصرت صدورهم، حال من المضمر المرفوع في جاءوكم كما تقول: جاء فلان ذهب عقله، أي: قد ذهب عقله، وقال الزجاج: هو خبر بعد خبر، أي: جاءوكم، ثم أخبر فقال: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ فعلى هذا: يكون حصرت: بدلا من جاءوكم؛ وقيل: حصرت في موضع خفض على النعت لقوم؛ وقيل: التقدير: أو جاءوكم أو قوم حصرت صدورهم، وقرأ الحسن: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ نصبا على الحال، وقرئ: حصرات وحاصرات، وقال محمد بن يزيد المبرّد: حصرت صدورهم: هو دعاء عليهم، كما تقول: لعن الله الكافر، وضعفه بعض المفسرين؛ وقيل: أو: بمعنى الواو.
3. ﴿أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ هو متعلق بقوله: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ أي: حصرت صدورهم عن قتالكم والقتال معكم لقومهم، فضاقت صدورهم عن قتال الطائفتين، وكرهوا ذلك.
4. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ ابتلاء منه لكم، واختبارا، كما قال سبحانه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾، أو تمحيصا لكم، أو عقوبة بذنوبكم، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك، واللام في قوله: ﴿فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ جواب لو، على تكرير الجواب، أي: لو شاء الله لسلطهم ولقاتلوكم، والفاء للتعقيب ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾ ولم يتعرضوا لقتالكم ﴿وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ أي: استسلموا لكم وانقادوا ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ أي: طريقا، فلا يحلّ لكم قتلهم، ولا أسرهم، ولا نهب أموالهم، فهذا الاستسلام يمنع من ذلك ويحرّمه.
__________
(1) فتح القدير: 1/573.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ يلجؤون ﴿إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ﴾ عهد فلا تقتلوهم، ولا تأسروهم كما لا تفعلون ذلك بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق، إذ هؤلاء مثلهم لالتجائهم إليهم، فهم في أمانكم بتوسُّط القوم، ولو التجؤوا إليهم بلا أمر لكم في شأنهم، ولا سيما إن كان بأمر، كما روي أنَّ القوم المذكورين هم الأَسلَميُّون، وأنَّه كان صلّى الله عليه وآله وسلّم وقت خروجه إلى مكَّة وادع هلال بن عويمر الأسلميَّ على أن لا يعينه، ولا يعين عليه، وعلى أنَّ من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار ما لِهلالٍ، وروي أنَّ سراقة طلب ذلك لقومه فأمر خالدًا أن يمشي مع سراقة إليهم بذلك، فكان لهم ذلك، وقيل: القوم بنو خديمة بن عامر، وقيل: القوم بنو بكر بن زيد، وقيل خزاعة؛ فيقال: هؤلاء كلُّهم.
2. ﴿اَوْ جَآءُوكُمْ﴾ (أَوْ) للتنويع، والعطف على (يَصِلُونَ)، لا على (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ)، لأنَّه ليس المراد: يصلون إلى قوم حصرت صدورهم، ﴿حَصِرَتْ﴾ انقبضت، الجملة حال من الواو، على تقدير (قد)، وأجيزت الحاليَّة بدون تقدير، ويدلُّ للحاليَّة قراءة: (حَصِرَةً) و(حَصِرَاتٍ) و(حَاصِرَاتٍ) بالنصب والتنوين، ﴿صُدُورُهُمُ أَنْ يُّقَاتِلُوكُمُ﴾ عن أن يقاتلوكم، لقذف الرعب فيهم، ولأنَّهم عاهدوكم أن لا يقاتلوكم ﴿أَوْ يُقَاتِلُواْ﴾ وعن أن يقاتلوا، أو لأنْ يقاتلوا أو كراهة أن يقاتلوا ﴿قَوْمَهُمْ﴾ لأنَّهم على دين قومهم، وهم بنو مذلج، عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن لا يقاتلوه وعاهدوا قريشًا أن لا يقاتلوهم.
3. ﴿وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ بأن يُقَوِّي قلوبهم عليكم فلا يهابوكم، ﴿فَلَقَاتَلُوكُم﴾ فلا تقاتلوهم، ونُسِخَ بآية السيف، واللَّام جوابيَّة للعطف على جواب (لَوْ)، وفيها تلويح بأنَّ مدخولها جواب مستقلٌّ.
4. ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُم﴾ لم يتعرَّضُوا لَكُم، ﴿فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوِاْ اِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ الصلحَ ﴿فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ بالقتل والسبي والغَنْم، وذلك منسوخ بآية السيف، سواء أطلبوا الصلح ولم يعقد لهم، أو طلبوه وعُقد لهم، فأولى لا يكون عليهم سبيلاً، وبعد النسخ يكون بأن يبطل عقد العهد لهم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/248.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. استثنى الله تعالى عن أسر المرتدين وقتلهم بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ يلجئون ﴿إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ أي: عهد بهدنة أو أمان فاجعلوا حكمهم كحكمهم لئلا يفضي إلى قتال من وصلوا إليهم فيفضي إلى نقض الميثاق ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾ عطف على الصلة أي: والذين جاءوكم ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ حال بإضمار (قد) أي: ضاقت وانقبضت نفوسهم ﴿أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ لإرادتهم المسالمة ﴿أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ أي: معكم من أجلكم لمكان القرابة منهم، فهم لا لكم ولا عليكم، قال أبو السعود: استثني من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان: أحدهما ـ من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين، والآخر: من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين.
2. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن، أن سراقة ابن مالك المدلجيّ حدثهم قال: لما ظهر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيد خالد فقال: اذهب معه فافعل ما يريد، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، وأنزل الله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم، وفي قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ إشعار بقوتهم في أنفسهم، وأن في التعرض لقتلهم إظهارا لقوتهم الخفية فهذه الجملة جارية مجرى التعليل لاستثنائهم من الأخذ والقتل ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾ أي تركوكم ﴿فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله عز وجل ﴿وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ أي الانقياد والاستسلام ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ أي طريقا بالأسر أو القتل، إذ لا ضرر منهم في الإسلام، وقتالهم يظهر كمال قوتهم.
3. قال الخفاجيّ (السلم) بفتحتين: الانقياد، وقرئ بسكون اللام مع فتح السين وكسرها، وكأن إلقاء السلم استعارة، لأنّ من سلّم شيئا ألقاه وطرحه عند المسلّم له، وعدم جعل السبيل مبالغة في عدم التعرض لهم، لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له؟
4. ظاهر النظم الكريم أن الفريقين المستثنيين من الكفار، وحاول أبو مسلم الأصفهانيّ كونهما من المسلمين حيث قال: إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم، استثنى من له عذر، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾، وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة، إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقا إليه خوفا من أولئك الكفار، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد، وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول، ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه، لأنه يخاف الله تعالى فيه، ولا يقاتل الكفار أيضا، لأنهم أقاربه، أو لأنه أبقى أولاده وأزواجه بينهم، فيخاف، لو قاتلهم، أن يقتلوا أولادهم وأصحابه، فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم، وإن كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/254
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ الخ ذهب أبو مسلم إلى أن هذا استثناء من المؤمنين الذين لم يهاجروا، قال كما نقل عنه الرازي: لما أوجب الله الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذرفقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة إلا أنه كان في طريقهم من الكفار من يخافونه، فصاروا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق، وأقاموا عندهم ينتهزون الفرصة لإمكان الهجرة، واستثنى أيضا من صاروا إلى الرسول والمؤمنين ولكن لا يقاتلون المسلمين ولا يقاتلون الكفارمعهم لأنهم أقاربهم أو لأنهم تركوا فيهم أولادهم وأزواجهم فيخافون أن يفتكوا بهم إذا هم قاتلوا مع المسلمين، وقد أبعد أبو مسلم في هذا إذ لا يظهر معنى لنفي قتال المسلمين للنبي ومن معه، ولا لامتنان الله تعالى عليهم بأنه لم يسلطهم عليهم.
2. وذهب الجمهور إلى أن الذين استثناهم الله تعالى هم من الكفار وكانوا كلهم حربا للمؤمنين يقتلون كل مسلم ظفروا به إذا لم يمنعه أحد فشرع الله للمؤمنين معاملتهم بمثل ذلك وأن يقتلوهم حيث وجدوهم إلا من استثنى، وهذا يؤيد رأي الأستاذ في نفاقهم.
3. ونقول إن الكلام في المنافقين الذين في دار الشرك لا في دار الهجرة سواء كان نفاقهم بدعوى الإسلام أو بالولاء والعهد، وقد أركسهم الله وأظهر نفاقهم وشدة حرصهم على ارتداد المسلمين كفارا مثلهم، وأذن بقتلهم أينما وجدوا لأنهم يغدرون بالمسلمين فيوهمونهم أنهم معهم، ويقتلونهم إذا ظفروا بهم، واستثنى منهم من تؤمن غائلتهم بأحد أمرين:
أ. أحدهما: أن يصلوا وينتهوا إلى قوم معاهدين للمسلمين فيدخلوا في عهدهم ويرضوا بحكمهم، فيمتنع قتالهم مثلهم.
ب. وثانيهما: أن يجيئوا المسلمين مسالمين لا يقاتلونهم ولا يقاتلون قومهم معهم بل يكونون على الحياد وهذا هو قوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ أي جاءوكم قد ضاقت صدروهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فلا تنشرح لأحد الأمرين، ولا يظهر هذا ظهورا بينا لا تكلف فيه إلا على قول محمد عبده أن نفاقهم كان بالولاء، فهم لا يقاتلون المسلمين حفظا للعهد ولا يقاتلون قومهم لأنهم قومهم، وقبول عذر الفريقين موافق للأصل الذي تقدم في سورة البقرة ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ البقرة: 190] فيا لله ما أعدل القرآن، وما أكرم أصول الإسلام.
4. ولما كان الكف عن هؤلاء مما قد يثقل على المسلمين لما جرت عليه عادة العرب من الشدة في أمر المعاهدين والمحالفين وتكليفهم قتال كل أحد يقاتل مخالفيهم ولو كانوا من الأهل والأقربين قال تعالى مخففا ذلك عنهم ومؤكدا أمر منع قتال المسلمين: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ أي إن من رحمته تعالى بكم أن كف عنكم بأس هاتين الفئتين وصرفهم عن قتالكم ولو شاء أن يسلطهم عليكم لسلطهم فلقاتلوكم، وذلك بأن يسوق إليهم من الأخبار ويلهمهم من الآراء ما يرجحون به ذلك، ولكنه بتوفيقه ونظامه في الأسباب والمسببات، وسننه في الأفراد وحال الاجتماع، جعل الناس في ذلك العصر أزواجا ثلاثة:
أ. السليم والفطرة الأقوياء الاستقلال وهم الذين سارعوا إلى الإيمان.
ب. المتوسطون وهم الذين رجحوا مسالمة المسلمين فلم يكونوا معهم من أول وهلة ولا أشداء عليهم.
ج. الموغلون في الضلال والشرك والراسخون في التقليد والمحافظة على القديم وهم المحاربون.
5. وإذا كان وجود هؤلاء المسالمين بمشيئة الموافقة لحكمه وسننه فلا يثقل عليكم اتباع أمره بترك قتالهم ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ أي فإن اعتزلكم أولئك الذين يمتون إليكم بإحدى تينك الطريقتين فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم أي أعطوكم زمام أمرهم في المسالمة بحيث وثقتم بها وثوق المرء بما يلقى إليه، فما جعل الله لكم طريقا تسلكونها إلى الاعتداء عليهم، فإن أصل شرعه الذي هداكم إليه أن لا تقاتلوا إلا من يقاتلوكم، ولا تعتدوا إلا على من اعتدى عليكم.
6. وفي الآية من الأحكام (على قول من قالوا إنهم كانوا مسلمين أو مظهرين للإسلام ثم ارتدوا) أن المرتدين لا يقتلون إذ كانوا مسالمين لا يقاتلون، ولا يوجد في القرآن نص بقتل المرتد فيجعل ناسخا لقوله: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ الخ نعم ثبت في الحديث الصحيح الأمر بقتل من بدّل دينه وعليه الجمهور، وفي نسخ القرآن بالسنة الخلاف المشهور، ويؤيد الحديث عمل الصحابة.
7. وقد يقال إن قتالهم للمرتدين في أول خلافة أبي بكر كان بالاجتهاد فإنهم قاتلوا من تركوا الدين بالمرة كطي وأسد، وقاتلوا من منع الزكاة من تميم وهوازن، لأن الذين ارتدوا صاروا إلى عادة الجاهلية حربا لكل أحد لم يعاهدوه على ترك الحرب، والذين منعوا الزكاة كانوا مفرقين لجماعة الإسلام ناثرين لنظامهم، والرجل الواحد إذا منع الزكاة لا يقتل عند الجمهور.
8. أما قول من قال: المراد بالمنافقين هنا العرنيون، ففيه أن قتل العرنيين كان لمخادعتهم وغدرهم وقتلهم راعي الإبل التي أعطاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتمثيلهم به، على أن هذا القول واه جدا لأن العرنيين لا يأتي فيهم التفصيل الذي في الآيات، ولكن من هم هؤلاء؟ روى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال لما ظهر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة بلغني أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي من بني مدلج فأتيته فقلت أنشدك النعمة، فقالوا مه، فقال) دعوه، ما تريد؟) قلت بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن توادعهم فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيد خالد فقال: (اذهب معه فافعل ما يريد) فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ومن وصل إليهم من الناس كان له مثل عهدهم، فأنزل الله تعالى ﴿وَدُّوا﴾ حتى بلغ ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم، اه من لباب النقول وعزا الآلوسي هذه الرواية إلى ابن أبي شيبة، وروى ابن جرير عن عكرمة أنه قال نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف اه من تفسيره، وعزا السيوطي هذه الرواية في اللباب إلى ابن أبي حاتم فقط، ثم قال: وأخرج أيضا عن مجاهد أنها أنزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وكان بينه وبين المسلمين عهد وقصده ناس من قومه فكره أن يقاتل المسلمين وكره أن يقاتل قومه، وقال الرازي تبعا للكشاف أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعصيه ولا يعين عليه، وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه من الجوار مثل ما لهلال.
9. وهذه الروايات كلها ترد ما ذكره السيوطي في أسباب نزول الآية الأولى صحيحة السند وضعيفة وتؤيد ما قاله محمد عبده في كون المنافقين في هذا السياق هم المنافقين في العهد والولاء.
10. ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ [النساء: 90] معطوف على الذين يصلون، والتقدير أو الذين جاءوكم قد حصرت صدروهم، وقرئ في الشذوذ (حصرت صدورهم) وعندي أنه تفسير للجملة بالحال لا قراءة.
11. وقد فسر بعضهم ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ﴾ بصلة النسب، ورده المحققون قائلين إن كفار قريش الذين يتصل نسبهم بنسب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يمتنع قتالهم بل كان أشد القتال منهم وعليهم فكيف يمتنع قتال من اتصل بالمعاهدين بالنسب؟ ويريد من قال ذلك القول أن يفتح به بابا أغلقه الإسلام، وقد سرى سمه حتى إلى بعض من رد هذا القول فجعله بشرى لمن لا بشارة لهم فيه.
__________
(1) تفسير المنار: 5/265.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. استثنى الله تعالى من المنافقين من تؤمن غائلتهم بأحد أمرين:
أ. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ أي إلا الذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين فيدخلون في عهدهم ويرضون بحكمهم فيمتنع قتالهم مثلهم.
ب. ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ أي أو جاءوكم قد ضاقت صدورهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فلا تنشرح لأحد الأمرين.
2. وخلاصة ذلك ـ أن يجيئوا المسلمين مسالمين لا يقاتلونهم ولا يقاتلون قومهم معهم بل يكونون على الحياد، فهم لا يقاتلون المسلمين حفظا للعهد ولا يقاتلون قومهم، لأنهم قومهم، وقبول معذرة الفريقين موافق لما بنى عليه الإسلام من التسامح والسماحة وعدم الاعتداء كما قال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾
3. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ أي إن الله تعالى رحمكم بأن كف بأس هاتين الفئتين وصرفهم عن قتالكم وقذف الرعب في قلوبهم، ولو شاء لسلطهم عليكم بأن يلهمهم من الآراء ويسوق إليهم من الأخبار ما به يرجحون ذلك فيقاتلوكم، ولكنه بتوفيقه ونظامه في الأسباب والمسببات، وسننه في الأفراد والجماعات، جعل الناس في ذلك العصر أصنافا ثلاثة:
أ. سليمو الفطرة الذين حصفت آراؤهم فسارعوا إلى الإيمان واستناروا بنور الإسلام.
ب. المسالمون الذين رجحوا أن يكونوا على الحياد لا مع المشركين ولا مع المؤمنين.
ج. الموغلون في الضلال والشرك والمحافظون على القديم وهم المحاربون.
4. ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ أي فإن اعتزلتكم إحدى هاتين الفئتين ولم تقاتلكم بل ألقت إليكم السلم وأعطتكم زمام أمرها، فما جعل الله لكم من سبيل تسلكونها للاعتداء عليها، إذ من قواعد ديننا ألا نعتدى إلا على من يعتدى علينا ولا نقاتل إلا من قاتلنا.
__________
(1) تفسير المراغي 5/119.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. استثنى الله تعالى من هذا الحكم ـ حكم الأسر والقتل ـ لهذا الصنف من المنافقين، الذين يعينون أعداء المسلمين ـ من يلجئون إلى معسكر بينه وبين الجماعة الإسلامية عهد ـ عهد مهادنة أو عهد ذمة ـ ففي هذه الحالة يأخذون حكم المعسكر الذي يلتجئون إليه، ويتصلون به: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾..
2. ويبدو في هذا الحكم اختيار الإسلام للسلم، حيثما وجد مجالا للسلم لا يتعارض مع منهجه الأساسي، من حرية الإبلاغ وحرية الاختيار؛ وعدم الوقوف في وجه الدعوة، بالقوة مع كفالة الأمن للمسلمين؛ وعدم تعريضهم للفتنة، أو تعريض الدعوة الإسلامية ذاتها للتجميد والخطر، ومن ثم يجعل كل من يلجأ ويتصل ويعيش بين قوم معاهدين ـ عهد ذمة أو عهد هدنة ـ شأنه شأن القوم المعاهدين، يعامل معاملتهم، ويسالم مسالمتهم، وهي روح سلمية واضحة المعالم في مثل هذه الأحكام.
3. كذلك يستثني من الأسر والقتل جماعة أخرى، هي الأفراد أو القبائل أو المجموعات التي تريد أن تقف على الحياد، فيما بين قومهم وبين المسلمين من قتال، إذ تضيق صدورهم أن يقاتلوا المسلمين مع قومهم، كما تضيق صدورهم أن يقاتلوا قومهم مع المسلمين، فيكفوا أيديهم عن الفريقين بسبب هذا التحرج من المساس بهؤلاء أو هؤلاء: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾..
4. وواضح كذلك في هذا الحكم الرغبة السلمية في اجتناب القتال؛ حيثما كف الآخرون عن التعرض للمسلمين ودعوتهم؛ واختاروا الحياد بينهم وبين المحاربين لهم، وهؤلاء الذين يتحرجون أن يحاربوا المسلمين أو يحاربوا قومهم.. كانوا موجودين في الجزيرة؛ وفي قريش نفسها؛ ولم يلزمهم الإسلام أن يكونوا معه أو عليه، فقد كان حسبه ألا يكونوا عليه.. كما أنه كان المرجو من أمرهم أن ينحازوا إلى الإسلام، حينما تزول الملابسات التي تحرجهم من الدخول فيه؛ كما وقع بالفعل.
5. ويحبب الله المسلمين في انتهاج هذه الخطة مع المحايدين المتحرجين، فيكشف لهم عن الفرض الثاني الممكن في الموقف! فلقد كان من الممكن ـ بدل أن يقفوا هكذا على الحياد متحرجين ـ أن يسلطهم الله على المسلمين فيقاتلوهم مع أعدائهم المحاربين! فأما وقد كفهم الله عنهم على هذا النحو، فالسلم أولى، وتركهم وشأنهم هو السبيل: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾..
6. وهكذا يلمس المنهج التربوي الحكيم نفوس المسلمين المتحمسين، الذين قد لا يرضون هذا الموقف من هذا الفريق، يلمسه بما في هذا الموقف من فضل الله وتدبيره؛ ومن كف لجانب من العداء والأذى كان سيضاعف العبء على عاتق المسلمين، ويعلمهم أن يأخذوا الخير الذي يعرض فلا يرفضوه، ويجتنبوا الشر الذي يأخذ طريقه بعيدا عنهم، فلا يناوشوه.. طالما أن ليس في هذا كله تفريط في شيء من دينهم، ولا تمييع لشيء من عقيدتهم؛ ولا رضى بالدنية في طلب السلم الرخيصة! لقد نهاهم عن السلم الرخيصة، لأنه ليس الكف عن القتال بأي ثمن هو غاية الإسلام.. إنما غاية الإسلام: السلم التي لا تتحيف حقا من حقوق الدعوة، ولا من حقوق المسلمين.. لا حقوق أشخاصهم وذواتهم؛ ولكن حقوق هذا المنهج الذي يحملونه ويسمون به مسلمين.
7. إن من حق هذا المنهج أن تزال العقبات كلها من طريق إبلاغ دعوته وبيانه للناس في كل زاوية من زوايا الأرض، وأن يكون لكل من شاء ـ ممن بلغتهم الدعوة ـ أن يدخل فيه فلا يضار ولا يؤذى في كل زاوية من زوايا الأرض، وأن تكون هناك القوة التي يخشاها كل من يفكر في الوقوف في وجه الدعوة ـ في صورة من الصور ـ أو مضارة من يؤمن بها ـ أي لون من ألوان المضارة ـ وبعد ذلك فالسلم قاعدة، والجهاد ماض إلى يوم القيامة.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/734.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ هو استثناء من تلك المقاطعة التي أوجبها الإسلام على المسلمين في مواجهة المنافقين.. فإنه إذا انحاز هؤلاء المنافقون إلى جماعة ـ غير مؤمنة ـ بينها وبين المؤمنين ميثاق، بالموادعة والمسالمة ـ لم يكن للمؤمنين أن يمدّوا أيديهم بأذى إلى هؤلاء المنافقين، لأنهم صاروا في ذمة تلك الجماعة التي وادعها المسلمون وسالموها! وفي العدوان عليهم عدوان على تلك الجماعة، ونقض للميثاق الذي عقده المسلمون معهم، ووجب عليهم الوفاء به!
2. قوله تعالى: ﴿أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ عطف على المستثنى السابق.. يبيّن حكم جماعة أخرى من المنافقين جاءوا إلى المسلمين يطلبون الموادعة والمسالمة، وهم مقيمون حيث هم في قومهم الذين لم يدخلوا في الإسلام.. فهؤلاء المنافقون، قد كفّوا أيديهم عن المسلمين طلبوا الأمان منهم، وانحازوا جانبا.. لا يقاتلون المسلمين مع قومهم، ولا يقاتلون قومهم مع المسلمين.. فهم ـ والأمر كذلك ـ فتنة نائمة، وشر ساكن.. ومن مصلحة المسلمين ـ وهم في وجه عداوة وحرب ـ ألّا يحركوا هذا الشرّ، وألا يوقظوا تلك الفتنة..
3. قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ يبيّن الحكمة من موادعة هؤلاء المنافقين ومسالمتهم.. إذ كان من المتوقع أن يكونوا حربا على المسلمين مع قومهم، وأما وقد كفّوا أيديهم واعتزلوا الحرب، فلم يكونوا هنا أو هناك، فإن موادعتهم كسب للمسلمين، وإضعاف لقوة عدوّهم، وفتح ثغرة في صفوفهم.. ربما كانت مدخلا يدخل منه كثيرون، ممن يعتزلون حرب المسلمين ويكفون أيديهم عنهم..
4. قوله تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ هو تنبيه للمسلمين إلى أخذ الحذر والحيطة من هؤلاء المنافين، الذين قد يغلب عليهم طبعهم، فلا يمسكون بالعهد الذي عاهدوا المسلمين عليه، والذين ربما لو رأوا كفة قومهم هى الراجحة مالوا إليهم، وقاتلوا معهم، غير ملتفتين إلى عهد أو ميثاق.. ومن هنا كان على المسلمين أن يقيموا عهدهم معهم على هذا المفهوم، وأنه عهد غير مطلق، وإنما يوثقه أو ينقضه ما يكشف عنه واقع الحال من هؤلاء المنافقين، فإن استقاموا استقام لهم المسلمون، وإن نكثوا فلا عهد لهم عند المسلمين ولا ذمّة.
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/860.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ الاستثناء من الأمر في قوله: ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ﴾ أي: إلّا الذين آمنوا ولم هاجروا، أو إلّا الذين ارتدّوا على أدبارهم إلى مكة بعد أن يهاجروا، وهؤلاء يصلون إلى قوم ممّن عاهدوكم، فلا تتعرّضوا لهم بالقتل، لئلّا تنقضوا عهودكم المنعقدة مع قومهم، ومعنى (يصلون) ينتسبون، مثل معنى اتّصل في قول أحد بني نبهان:
çألا بلغا خلّني راشدا...وصنوي قديما إذا ما اتّصلé
أي انتسب، ويحتمل أن يكون بمعنى التحق، أي إلّا الذين يلتحقون بقوم بينكم وبينهم ميثاق، فيدخلون في عهدهم، فعلى الاحتمال الأول هم من المعاهدين أصالة وعلى الاحتمال الثاني هم كالمعاهدين لأنّ معاهد المعاهد كالمعاهد، والمراد ب (الذين يصلون) قوم غير معيّنين، بل كلّ من اتّصل بقوم لهم عهد مع المسلمين، ولذلك قال مجاهد: هؤلاء من القوم الذين نزل فيهم ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ [النساء: 88]
2. أمّا قوله: ﴿إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ فالمراد به القبائل التي كان لهم عهد مع المسلمين، قال مجاهد: لمّا نزلت: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ الآية خاف أولئك الذين نزلت فيهم، فذهبوا ببضائعهم إلى هلال بن عويمر الأسلمي، وكان قد حالف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على: أن لا يعينه ولا يعين عليه، وأنّ من لجأ إلى هلال من قومه وغيرهم فله من الجوار مثل ما له، وقيل: أريد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق خزاعة، وقيل: بنو بكر بن زيد مناءة كانوا في صلح وهدنة مع المسلمين، ولم يكونوا آمنوا يومئذ وقيل: هم بنو مدلج إذ كان سراقة بن مالك المدلجي قد عقد عهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لقومه بني مدلج بعد يوم بدر، على أن لا يعينوا على رسول الله، وأنّهم إن أسلمت قريش أسلموا وإن لم تسلم قريش فهم لا يسلمون، لئلّا تخشن قلوب قريش عليهم، الأولى أنّ جميع هذه القبائل مشمول للآية.
3. معنى ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ أو جاءوا إلى المدينة مهاجرين ولكنّهم شرطوا أن لا يقاتلوا مع المؤمنين قومهم فاقبلوا منهم ذلك، وكان هذا رخصة لهم أوّل الإسلام، إذ كان المسلمون قد هادنوا قبائل من العرب تألّفا لهم، ولمن دخل في عهدهم، فلمّا قوي الإسلام صار الجهاد مع المؤمنين واجبا على كلّ من يدخل في الإسلام، أمّا المسلمون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ومن أسلموا ولم يشترطوا هذا الشرط فلا تشملهم الرخصة، وهم الذين قاتلوا مشركي مكة وغيرها.
4. ﴿حَصِرَتْ﴾ بمعنى ضاقت وحرجت، و﴿أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ مجرور بحذف عن، أي ضاقت عن قتالكم، لأجل أنّهم مؤمنون لا يرضون قتال إخوانهم، وعن قتال قومهم لأنّهم من نسب واحد، فعظم عليهم قتالهم.
5. وقد دلّ قوله: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ على أنّ ذلك عن صدق منهم، وأريد بهؤلاء بنو مدلج: عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على ذلك، وقد عذرهم الله بذلك إذ صدقوا، وبيّن الله تعالى للمؤمنين فائدة هذا التسخير الذي سخّر لهم من قوم قد كانوا أعداء لهم فصاروا سلما يؤدّونهم، ولكنّهم يأبون قتال قومهم فقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾
6. ولذلك أمر المؤمنين بكفّ أيديهم عن هؤلاء إن اعتزلوهم ولم يقاتلوهم، وهو معنى قوله: ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ أي إذنا بعد أذن أمر المؤمنين بقتال غيرهم حيث وجدوهم، والسبيل هنا مستعار لوسيلة المؤاخذة، ولذلك جاء في خبره بحرف الاستعلاء دون حرف الغاية، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ في سورة براءة [91]
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/213.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ الاستثناء هنا منفصل بمعنى (لكن)، وهو من الأمر بالأخذ بالنواصى، والقتل حيثما وجدوا، والمعنى: لكن لا تأخذوا ولا تقتلوا أحدا من هؤلاء الذين يصلون بالانتماء أو الرعوية إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد موثق، لا يصح النكث فيه، ولا الخروج على أحكامه، أو التمرد على مقتضاه، فهؤلاء يعاملون كالدولة التى ينتمون إليها، والأقوام الذين يصلون أمورهم بهم، ولا يصح أن يقتلوا أو يؤسروا؛ لأن قتلهم أو أسرهم نقض للعهد الذى وثق وأكد، والله تعالى يقول: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء]، ويقول: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل]
2. قوله تعالى: ﴿يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، يدخل في مضمونه طائفتان:
أ. أولاهما: طائفة تكون رعية لدولة بينكم وبينهم عهد وميثاق، فإنه لا يشترط لنجاتهم أن يخرجوا إليكم مهاجرين، فإنهم آمنون بمقتضى العهد والميثاق، فإن أعلنوا الإسلام، لا يستراب في أمرهم.
ب. الثانية: من يتصلون بعهد أو ميثاق أو ولاء ممن كان بينكم وبينهم عهد، فإن لهم حكم من يكونون رعية لمعاهديكم، وإن هذا الصنف يصح أن ينطبق على من لا يظهرون الإسلام ولكن يعلنون السلام.
3. هناك صنف لا ينتمى لقوم ذوى عهد، ولكنه لا يقاتل قومه لعذر عنده، ويخرج إلى المؤمنين مخلصا لله الدين أو ملقيا بالسلام، وهم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ هذا فريق آخر ممن يعلنون الإسلام في وسط أقوامهم أو لا يعلنونه ولا يقاتلون مع المؤمنين، وهؤلاء ينتمون إلى قوم يقاتلون المؤمنين، وهم في حال حرب، فهؤلاء يعلنون إسلامهم ويجيئون إلى المسلمين معلنين الإسلام، ولكنهم يكونون في ضيق وحرج، فلا يستطيعون قتال أقوامهم، خشية على ذرياتهم أو ذوى أرحامهم أو أموالهم، ويريدون أن يتذرعوا بالامتناع عن قتال قومهم، فإنه يقبل منهم الاعتزال، ومعنى ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ ضاقت، وقد قال الراغب: (الحصر التضييق، قال الله عزّ وجل: ﴿خُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ﴾ أى ضيقوا عليهم، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء]) وقوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ أى ضاقت)، ويظهر أن مادة (حصر) تكون من باب نصر ومن باب فرح، وإذا كانت من باب نصر تكون دالة على التضييق على الغير تضييقا حسيا، وإن كانت من باب فرح تكون لازمة ودالة على ضيق النفس، والمعنى على هذا أن هؤلاء ضاقت نفوسهم، وصاروا في حرج لا يستطيعون قتال المسلمين، ولا يستطيعون قتال أقوامهم، فهؤلاء مسالمون، لأن الله كفى المؤمنين أمرهم، ولأنهم لا يعدون منافقين.
4. ولقد حرض الله سبحانه المؤمنين على مسالمتهم رغبة في السلام، فقال سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ أى أنه من رحمة الله بكم أن قلل أعداءكم، وأضعف شأن الذين يقاتلونكم، بأن يخرج من بين صفوفهم من يسالمونكم، وإن الله ناصركم في هذا بأمرين: بتقوية جمعكم، وإضعاف شأن عدوكم، ولو شاء سبحانه أن يكونوا جميعا عليكم ولا يخرج منهم من يسالمكم، وجعل أولئك الذين يمدون يد السلام مسلطين عليكم بالقتل والقتال، لكان ذلك، وليس في مصلحتكم، فاختاروا ما أمركم الله به، وهو مسالمة أولئك الذين يسالمونكم، وقد خرجوا من بين أقوامهم.
5. ولقد أكد سبحانه هذا المعنى بقوله تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ أى فاقبلوا من هؤلاء المسالمة، إن اعتزلوا قتالكم، ولم يكونوا مع أعدائكم عليكم، ولم يريدوا أيضا أن يكونوا معكم على أقوامهم، وألقوا إليكم السلام غير معاندين، ولا مخالفين، فاقبلوا ذلك منهم، ولا تحاربوهم؛ لأنهم لا يقاتلونكم ولا يؤلبون عليكم، ولا يعتدون، والله تعالى يقول: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة]، وما داموا لا يقاتلون لا يحل قتالهم، وإلا كنا معتدين، والقتال في الإسلام شرع لدفع الاعتداء، فإذا كانوا كذلك فما جعل الله لكم في شرعه وأحكامه سبيلا لقتالهم.
6. فى النص الكريم إشارتان لفظيتان:
أ. أولاهما: قوله سبحانه: ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾، إذ التعبير ب (عليهم) يومئ إلى أن قتالهم اعتداء عليهم، وما جعل الله لكم حق الاعتداء، فالمعنى: ما جعل الله سبحانه لكم سبيلا للاعتداء ب (عليهم)
ب. الثانية: التعبير بلفظ السلم بدل السلام للإشارة إلى معنى التسليم، لا مجرد الأمن والسلام؛ لأن السلم يفيد معنى التسليم، فهم ألقوا إليكم الأمن وتسليم القيادة لكم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1793.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أمر الله بالتنكيل بأولئك المنافقين الأعداء الألداء استثنى منهم صنفين:
أ. أشار إلى الصنف الأول بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، يريد بهذا جل وعلا أن من يلتجئ من أولئك المنافقين إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد في المهادنة وترك القتال، ان هذا اللاجئ يترك لا يؤسر ولا يقتل، لأنه ـ والحال هذه ـ يكون مسالما للمسلمين، تماما كالذين التجأ اليهم، فيعامل معاملتهم في عدم التعرض له.. ومن المفيد أن ننقل ما قاله الرازي ـ هنا ـ: (اعلم ان هذا يتضمن بشارة عظيمة لأهل الايمان، لأنه تعالى لما رفع السيف عمن التجأ إلى من التجأ إلى المسلمين فبالأولى أن يرفع العذاب في الآخرة عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله)، وليس من شك ان محبة أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هي محبة لله وللرسول، لقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: 23]
ب. وأشار إلى الصنف الثاني بقوله: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾، أي ان الذين يتحرجون أن يحاربوا المسلمين مع قومهم المشركين، أو يحاربوا قومهم مع المسلمين، وجاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يطلبون منه الرضا بالوقوف على الحياد، لا معه ولا عليه، ان هؤلاء يتركون أيضا، لا يقتل ولا يؤسر أحد منهم، لأنهم غير محاربين، وخير مثال يفسر هذه الآية ما جاء في مجمع البيان ان جماعة من أشجع جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقالوا له: ان دارنا قريبة من دارك، وقد كرهنا حربك، وحرب قومنا، وأتينا لنوادعك، فقبل منهم، ووادعهم، فرجعوا إلى بلادهم، ولا شيء أقوى وأصدق من هذا في الدلالة على أن الإسلام سلم لمن سالمه، وحرب على من حاربه.
2. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾، ان الله سبحانه لا يتدخل بمشيئته التكوينية في شيء من أمور الناس، وانما أراد بقوله هذا ان يذكّر المسلمين بفضله عليهم.. وانه كان من الممكن أن ينضم هؤلاء إلى أعداء المسلمين، ولكن الله سبحانه صرفهم عن ذلك بوقوفهم على الحياد، فقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ معناه لجرأهم عليكم، ولم يجعل لكم هيبة في نفوسهم تبعثهم على طلب الموادعة والمتاركة.. وليس هذا من باب المشيئة التكوينية، بل من المشيئة التوفيقية، ان صح التعبير.
3. ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾، ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾.. وأيضا قال عز من قائل: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: 8].. وقال جلت حكمته: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: 62]، إلى غير ذلك من الآيات التي تدعو إلى المحبة والاخوة والمساواة، والتعاون على كل ما فيه صلاح للناس بجهة من الجهات.. وأروع ما في الإسلام انه يعتبر الأعمال الإنسانية من صميم الدين وصلبه، بل يعتبرها السبيل الوحيد إلى الله.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/403.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ استثنى الله سبحانه من قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ﴾ طائفتين:
أ. إحداهما: ﴿الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ أي بينهم وبين بعض أهل الميثاق ما يوصلهم بهم من حلف ونحوه.
ب. الثانية: الذين يتحرجون من مقاتلة المسلمين ومقاتلة قومهم لقتلهم أو لعوامل أخر، فيعتزلون المؤمنين ويلقون إليهم السلم لا للمؤمنين ولا عليهم بوجه، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور.
2. ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ أي ضاقت.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/32.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ ﴿يُصَلُّونَ﴾ عند ﴿قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ عهد على ترك القتال، فإذا وصلوا عندهم مقبلين إليهم فاتركوهم، قيل: إذا وصلوا إليهم لاجئين إليهم، ولعل اشتراط اللجوء مفهوم من حيث أن الذين بينهم وبينهم ميثاق لا يقبلونهم إلا إذا كانوا لاجئين؛ لأنهم ليس لهم أن يؤوا محارباً لله ورسوله، فلا بد أن يكون لاجئاً أو يخرج من بينهم ولا يبقى حكمه حكمهم.
2. ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ فهم مثل الذين يصلون إلى من بينكم وبينهم ميثاق؛ لأنهم جاؤوكم طالبين للسلم لا يريدون قتالكم ولا قتال قومهم ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ ضاقت وانقبضت واحتبست؛ لكراهتهم قتالكم وكراهتهم قتال قومهم، فهم داخلون في الاستثناء من قوله تعالى: ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾
3. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ فلا تخالفوا نهي الله عن قتالهم وكفوا عنهم كما أمركم الله، واشكروا نعمة الله عليكم بإلقاء الرعب في قلوبهم حتى حصرت صدورهم أن يقاتلوكم، فلو شاء قوى قلوبهم ومكنهم من قتالكم وأذهب عنهم الرعب، ولو كان ذلك لقاتلوكم لأنه لم يمنعهم من قتالكم إلا نصر الله لكم بإلقاء الرعب في قلوبهم.
4. ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ هذا زيادة توضيح وتفسير للاستثناء في قوله: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾ المعطوف على المستثنى، وبيان أن المراد بقوله: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾ هو مجيئهم لطلب السلم لا بقاؤهم عند المسلمين فليس شرطاً ولا هو المراد، بل متى طلبوا السلم وانصرفوا عنكم معتزلين لكم في مكان من الأرض لا يقاتلونكم وطلبوا المضى في السلم والبقاء عليه وأبلغوكم أنهم متمسكون بالسلم أو أنهم مسالمون لكم، فلا يجوز قتالهم، ولعل هذا كان قبل نزول (براءة)، هذا ويحتمل: أن قوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾ عطف على قوله تعالى: ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ فالمعنى: إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو قوم جاء وكم حصرت صدورهم.
5. أما قوله تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾ فالراجح ما قلته أولاً: أنه تفسير للاستثناء، فهو راجع إلى المنافقين إلى قوله تعالى: ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ﴾ والمعنى: إلا الذين يصلون إلى معاهدين أو مسالمين، ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾ أي الواصلون إلى معاهدين أو مسالمين ﴿فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ فلا تقتلوهم ولا تأخذوهم وأصل السبيل الطريق، والمعنى ما جعل الله لكم سبيلاً إلى قتلهم أي ليس لكم حجة من الله ولا أذن بقتالهم أو أسرهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/138.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ فإنه يجري عليهم حكم المعاهدين، لأن المعاهدة تفرض عدم الاعتداء عليهم وعلى من يجيرونه من الناس.
2. ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ هؤلاء الذين يعيشون في أنفسهم الضيق النفسي والحرج العملي في قتال المسلمين مع قومهم، أو في قتال قومهم مع المسلمين، فيحبون أن يكونوا حياديين، وقد أراد الإسلام من المسلمين انتهاز الفرصة، فيشجعون هذا النوع من الحياة في المعركة في الفئات المحسوبة على معسكر الأعداء، لأن ذلك سوف يفقد الأعداء قوّة مقاتلة، وذلك لطف من الله بالمسلمين.
3. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ ونفّذوا ذلك بأمانة وصدق، ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ لأن الله لا يريد في هذه المراحل أن يندفع المسلمون إلى قتال الذين يقفون على الحياة في المعركة، حتى لو كانوا كافرين.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/395
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وردت روايات عديدة تفيد أنّ إثنتين من القبائل العربية في زمن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهما قبيلتا (بني ضمرة) و(أشجع) كانت إحداهما وهي قبيلة بني ضمرة قد عقدت مع النّبي اتفاقا بترك النزاع، وكانت القبيلة الثانية حليفة للقبيلة الأولى دون أن تعقد مثل هذا الاتفاق مع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتقول الروايات إن بعض المسلمين أخذوا يشككون في وفاء (بني ضمرة) للمسلمين، واقترحوا على النّبي أن يهاجم هذه القبيلة قبل أن تبادر هي بالهجوم على المسلمين، فرد النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلا: (كلّا، فإنّهم أبر العرب بالوالدين، وأوصلهم للرّحم، وأوفاهم بالعهد)، وبعد فترة علم المسلمون أنّ قبيلة (أشجع) وعلى رأسها (مسعود بن رجيلة) قد وصلت حتى مشارف المدينة، وهي في سبعمائة رجل، فبعث النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وفدا للتعرف على سبب مجيئهم إلى ذلك المكان، فأجابت هذه القبيلة بأنّها جاءت لكي تعقد اتفاقا مع المسلمين مماثلا لاتفاق (بني ضمرة) معهم، وما أن علم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا الأمر حتى أمر أصحابه بأن يأخذوا مقدارا من التمر هدية لهذه القبيلة، ثمّ التقى بهم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبروه بأنّهم لعجزهم عن موازرة المسلمين في قتال الأعداء، ولعدم رغبتهم في المشاركة في قتال ضد المسلمين، لما تربطهم بهم من صلة الجوار، لذلك يرومون عقد اتفاق أو ميثاق مع المسلمين بتحريم العدوان بينهما، فنزلت الآية المذكورة بهذا الشأن وهي تبيّن للمسلمين ما يجب عليهم أن يفعلوه في مثل هذه الحالة.
2. ويقول مفسرون آخرون إنّ قسما من هذه الآية قد نزل في شأن قبيلة (بني مدلج) التي جاءت إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخبرته أنّها تريد الاتفاق معه على عدم اللجوء إلى العدوان فيما بينهما، وذلك لرغبتها في البقاء على الحياد تجاه المسلمين ودعوتهم.
3. بعد أن أمر القرآن الكريم المسلمين في الآيات السابقة باستخدام العنف مع المنافقين الذين يتعاونون مع أعداء الإسلام، تستثني هذه الآية من الحكم المذكور طائفتين:
أ. من كانت لهم عهود ومواثيق مع حلفائكم ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾
ب. من كانت ظروفهم لا تسمح لهم بمحاربة المسلمين، كما أنّ قدرتهم ليست على مستوى التعاون مع المسلمين لمحاربة قبيلتهم ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾
4. من الواضح أنّ أفراد الطائفة الأولى يجب أن يكونوا مستثنين من هذا القانون احتراما للعقود والعهود، وأمّا المجموعة الثانية ـ وإن لم تكن معذورة، بل عليها أن تستجيب للحق بعد معرفته ـ فقد أعلنت حيادها، ولذلك فمجابهتها يتعارض مع مبادئ العدالة والمروءة.
5. ولكي لا يستولي الغرور على المسلمين إزاء كل هذه الانتصارات الباهرة، وكي لا يعتبروا ذلك نتيجة قدرتهم العسكرية وابتكارهم، ولا تستفز مشاعرهم تجاه هذه المجموعات المحايدة تقول الآية: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾، وهذا تذكير للمسلمين بعدم نسيان الله في كل انتصار، وأن يتجنّبوا الغرور والعجب حيال ما لديهم من قوّة، وأن لا يعتبروا العفو عن الضعفاء خسارة أو ضررا لأنفسهم.
6. وتكرر الآية في ختامها التأكيد بأنّ الله لا يسمح للمسلمين بالمساس بقوم عرضوا عليهم الصلح وتجنبوا قتالهم، وإن المسلمين مكلفون بأن يقبلوا دعوة الصلح هذه، ويصافحوا اليد التي امتدت إليهم وهي تريد الصلح والسلام ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾
7. يلفت النظر أنّ القرآن في هذا الموضع ومواضع أخرى يذكر مقترح السلام بعبارة (إلقاء السلام) وقد يكون ذلك إشارة إلى التباعد بين الجانبين المتنازعين قبل الصلح، حتى أنّ أحد الجانبين يطرح اقتراحه باحتياط وعن بعد ليلقيه على الجانب الآخر.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/373
86.المعادون وكيفية التعامل معهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈86⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ [النساء: 91]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ﴾ هم أسد وغطفان، كانوا حاضري المدينة، تكلموا بالإسلام، [وأقروا بالتوحيد] رياء، وهم غير مسلمين، وكان الرجل منهم يقول له قومه: بماذا أسلمت؟ فيقول: آمنت بهذا القرد، وبهذا العقرب، والخنفساء، وإذا لقوا أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا: إنا على دينكم، يريدون بذلك الأمن في الفريقين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾، يقول: كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها، وذلك أن الرجل كان يوجد قد تكلم بالإسلام، فيتقرب إلى العود والحجر وإلى العقرب والخنفساء، فيقول المشركون لذلك المتكلم بالإسلام: قل: هذا ربي، للخنفساء والعقرب(2).
3. روي أنّه قال: كل سلطان في القرآن حجة(3).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٣٥٨.
(2) ابن جرير ٧/٣٠١.
(3) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٠.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾، كلما ابتلوا بها عموا فيها(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٠٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ﴾ الآية، ناس من أهل مكة، كانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش، فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصالحوا(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٠١.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٠٤.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ﴾ الآية، حي كانوا بتهامة، قالوا: يا نبي الله، لا نقاتلك، ولا نقاتل قومنا، وأرادوا أن يأمنوا نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويأمنوا قومهم؛ فأبى الله ذلك عليهم، فقال: ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾، يقول: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٠٢.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ثم ذكر نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان يأمن في المسلمين والمشركين بنقل الحديث بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمشركين، فقال: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٠٢.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ﴾ منهم أسد غطفان، أتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أجئتم مهاجرين؟)، قالوا: بل جئنا مسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم قالوا: آمنا بالعقرب والخنفساء إذ تعود، فقال: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ﴾ يعني: يأمنوا فيكم معشر المؤمنين بأنهم مقرون بالتوحيد، ﴿وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ المشركين؛ لأنهم على دينهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ﴾ في القتال، ﴿وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ يعني: الصلح، ﴿وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ عن قتالكم؛ ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ﴾ يعني: اأسروهم واقتلوهم ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ يعني: أدركتموهم من الأرض في الحل والحرم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، يعني: حجة بينة، ثم صارت منسوخة(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٦.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾:
أ. قيل: كان رجال تكلموا بالإسلام متعوذين؛ ليأمنوا في المسلمين إذا لقوهم، ويأمنوا في قومهم بكفرهم؛ فأمر اللَّه بقتالهم، إلا أن يعتزلوا عن قتالهم.
ب. وقيل: قوله تعالى: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ﴾ غيرهم ممن لا يفي لكم ما كان بينكم وبينهم من العهد.
2. ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ﴾ يقول: يريدون أن يأمنوا فيكم؛ فلا تتعرضوا لهم، ويأمنوا في قومهم بكفرهم؛ فلا يتعرضوا لهم.
3. ثم أخبر عز وجل عن صنيعهم وحالهم، فقال: ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ يعني: الشرك، ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ أي: كلما دُعوا إلى الشرك فرجعوا فيها، فهَؤُلَاءِ أمر اللَّه رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بقتالهم، وعرفه صفتهم، إن لم يعتزلوا ولم يكفوا أيديهم عن قتالكم.
4. ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي: جعلنا لكم عليهم سلطان القتل وحجته، وفي حرف ابن مسعود: (ويكفوا أيديكم عن أن يقاتلوكم) وفي حرفه: (ركسوا فيها)، وفي حرف حفصة: (ركسوا فيها) وفي حرفها: (أن يقاتلوكم ويقاتلوا قومهم)
5. ثم يحتمل نسخ هذه الآية بقوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ بقوله عز وجل: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾؛ لأن الفرض في القتال أول ما كان فرض أنه يقاتل من قاتلنا وبدأنا، ثم إن اللَّه تعالى قال: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ﴾
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٢9٦
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ إلى آخر الآية، أي ستجدون قوماً آخرين يريدون أن يأمنوكم بالنفاق، ويأمنوا إخوانهم وقومهم الكافرين، وهم مع ذلك كلما ردوهم أصحابهم المشركين إلى الفتنة ـ أي الضلالة ـ دخلوا ناكسين فيها، والفتنة أيضاً مع ذلك الحرب، فهم يسالمون مرة، وينافقون ويدخلون مرة أخرى مع إخوانهم ويقاتلون، فإن لم يعتزلوكم ويسالموكم ويلزموا أيديهم فاقتلوهم أينما ظفرتم بهم.
2. ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا﴾ وعلى قتلهم حجة وسلطاناً، وبياناً من الله لسفك دمائهم وبرهاناً.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/247.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ هم قوم كانوا يظهرون لقومهم الموافقة ليأمنوهم وللمسلمين الإسلام ليأمنوهم وهم المنافقون ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ أي كلما ردوا إلى المحنة في إظهار الكفر رجعوا فيه.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/190.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ هم قوم يُظْهِرُونَ لقومهم الموافقة ليأمنوهم، وللمسلمين الإسلام ليأمنوهم، وفيهم أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنهم أهل مكة، وهذا قول مجاهد.
ب. والثاني: أنهم من أهل تهامة، وهذا قول قتادة.
ج. والثالث: قوم من المنافقين، وهذا قول الحسن.
د. والرابع: أنه نعيم بن مسعود الأشجعي، وهذا قول السدي.
2. ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ أي كلما رُدُّوا إلى المحنة في إظهار الكفر رجعواْ فيه، ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا.
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥١٤)
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قيل في الذين نزلت فيهم هذه الآية ثلاثة أقوال:
أ. أحدها ـ قال ابن عباس، ومجاهد: نزلت في ناس كانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش، ويرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا ها هنا وها هنا، فأمر اللَّه بقتالهم إن لم يعتزلوا، ويصلحوا.
ب. الثاني ـ قال قتادة: نزلت في حي كانوا بتهامة قالوا: يا نبي اللَّه لا نقاتلك، ولا نقاتل قومنا، وأرادوا أن يأمنوا قومهم ويأمنوا نبي اللَّه فأبي اللَّه عليهم ذلك، فقال: ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ يعني إلى الكفر ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ يعني وقعوا فيها.
ج. الثالث ـ قال السدي: نزلت في نعيم بن مسعود الاشجعي، وكان يأمن في المسلمين بنقل الحديث بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمشركين، فنزلت هذه الآية، وقال مقاتل: نزلت في أسد وغطفان.
2. ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ قال أبو العالية معنى قوله: ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ يعني كلما ابتلوا بها عموا فيها، وقال قتادة: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه، والفتنة في اللغة هي الاختبار، والإركاس: الرجوع، فمعني الكلام كلما ردوا إلى الاختبار، ليرجعوا إلى الكفر والشرك رجعوا إليه.
3. ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ معناه وان لم يعتزلوكم أيها المؤمنون هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وهم كلما دعوا إلى الشرك أجابوا إليه.
4. ﴿وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ يعني ولم يستسلموا لكم فيعطوكم المقادة ويصالحوكم ويكفوا أيديهم عن قتالكم ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ يعني حيث أصبتموهم، ثم قال: ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ يعني حجة ظاهرة، وقال السدي، وعكرمة: السلطان الحجة.
5. قال أبو علي: نزلت في قوم كانوا يظهرون الإسلام، فإذا اجتمعوا مع قريش أظهروا لهم الكفر، وهو قوله: ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ يعني الكفر ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ بمعني وقعوا فيها، فما داموا مظهرين للإسلام وكافين عن قتال المسلمين، فلا يتعرض لهم، ومتى لم يظهروا الإسلام، وجب قتالهم على ما ذكره اللَّه، ثم قال قوم: الآية منسوخة وان من لم يحارب مع المؤمنين، وجب قتاله، واختار هو أنها غير منسوخة، قال: لأنه لا دليل على ذلك.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/288
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الأمن ضد الخوف.
ب. الفتنة أصلها الامتحان، يقال: فتنت الذهب بالنار امتحنتها، ثم يستعمل لمعان.
ج. الإركاس: الرد إلى ما كان.
د. ثقفت فلانًا في الحرب أدركته، قال الشاعر:
çفإِمَّا تَثْقَفُوني فَاقْتُلُونِي... فَإِنْ أُثقَفْ فَسَوْفَ تَرَوْنَ بَالِيé
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في قوم من أهل مكة أسلموا بها، عن مجاهد.
ب. وقيل: هم من أهل تهامة قالوا: يا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا، فأنزل الله تعالى فيهم [هذه الآية]، عن قتادة.
ج. وقيل: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، وكل من ينقل الحديث بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين الكفار، عن السدي،
د. وقيل: هم قوم من المنافقين، عن الحسن.
هـ. وقيل: نزلت في أسد وغطفان، وكانوا حاضري المدينة، وكانوا ينافقون، إذا لقوا المسلمين قالوا: آمنا، وإذا لقوا المشركين رجعوا إلى الكفر، عن ابن عباس رواه عنه أبو صالح.
و. وقيل: هم بنو عبد الدار، وكانوا بهذه الصفة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس.
3. بَيَّنَ الله تعالى طائفة أخرى، وأمر بقتالهم وبين صفتهم، فقال سبحانه ﴿سَتَجِدُونَ﴾ أيها المؤمنون ﴿آخَرِينَ﴾ أي قومًا آخرين:
أ. قيل: هم من المنافقين.
ب. وقيل: من الكفار، وقال أبو مسلم: هم المتأخرون بلا عذر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعن نصرته، ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾
ج. وقيل: يظهرون الإسلام ليأمنوا المسلمين من القتل، وهم مع قومهم كفار ليأمنوهم أيضًا فغرضهم إرضاء الفريقين ليأمنوا الجانبين.
4. ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ يعني كل وقت ردوا إلى الفتنة:
أ. قيل: الفتنة: الشرك، تقديره: كلما دعوا إلى الشرك رجعوا إليه وعادوا فيه مصرين عليه.
ب. وقيل: كلما ردوا إلى الامتحان والاختبار أظهروا الكفر ورجعوا إليه.
5. معنى ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾، قيل: يرتكسون إلى الكفر، ويرجعون إليه ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ﴾ يعني فإن لم يعتزلوا قتالكم، ولم يطلبوا الصلح منكم، ولم يكفوا أيديهم عن قتالكم ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ أينما ظفرتم بهم أَسْرًا ﴿وَاقْتُلُوهُمْ﴾:
أ. أين وجدتموهم في الحل والحرم.
ب. وقيل: في أي موضع من الأرض.
6. ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ حيث أدركتموهم ووجدتموهم، وأولئكم جعل الله أيها المؤمنون عليهم ﴿سُلْطَانًا﴾:
أ. قيل: حجة، عن عكرمة والسدي.
ب. وقيل: نصرة وغلبة عند لقائهم.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُبِينًا﴾:
أ. قيل: مظهرا للحق في تسلطكم عليهم.
ب. وقيل: حجة ظاهرة في قتلهم وسبيهم، وما يفعل بهم.
8. تدل الآية الكريمة على:
أ. وجوب محاربة أهل النفاق إذا ظهر كفرهم، وقد ذهب جماعة إلى أنها منسوخة، وأنه إن لم يحارب مَنْ هذه صفته، وجنب على المؤمنين البراءة والمحاربة، وأنكر نسخها آخرون، منهم أبو علي والأصم، وقالوا: بل يجب أن يكف عنهم، قال أبو علي: هذا حكم منصوص لا دليل على نسخه، وكذلك الآيتان قبله.
ب. وجوب الكف عنهم إن عملوا في المسالمة.
9. ﴿تُلْقُوا﴾ جزم؛ لأنه معطوف على قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ﴾، ويكفوا) عطف على ﴿تُلْقُوا﴾
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/12
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في من عني بهذه الآية:
أ. قيل: نزلت في أناس كانوا يأتون النبي، فيسلمون رئاء، ثم يرجعون إلى قريش، فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا قومهم، ويأمنوا نبي الله، فأبى الله ذلك عليهم، عن ابن عباس، ومجاهد.
ب. وقيل: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، كان ينقل الحديث بين النبي وبين المشركين، عن السدي.
ج. وقيل: نزلت في أسد، وغطفان، عن مقاتل.
د. وقيل: نزلت في عيينة بن حصين الفزاري، وذلك أنه أجدبت بلادهم، فجاء إلى رسول الله، ووادعه على أن يقيم ببطن نخل، ولا يتعرض له، وكان منافقا ملعونا، وهو الذي سماه رسول الله الأحمق المطاع في قومه، وهو المروي عن الصادق.
2. بين الله تعالى طائفة أخرى منهم فقال: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ﴾ يعني: قوما آخرين غير الذين وصفتهم قبل ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ﴾ فيظهرون الاسلام ﴿وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ فيظهرون لهم الموافقة في دينهم ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ المراد بالفتنة هنا: الشرك، أي كلما دعوا إلى الكفر، أجابوا ورجعوا إليه، والفتنة في اللغة: الاختبار، والإركاس: الرد، قال الزجاج: أركسوا فيها: انتكسوا في عقدهم، فالمعنى كلما ردوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر، رجعوا إليه.
3. ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ﴾ أيها المؤمنون: أي فإن لم يعتزل قتالكم هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم، ويأمنوا قومهم، ﴿وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ يعني: ولم يستسلموا لكم، فيعطوكم المقادة، ويصالحوكم ولم ﴿يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ عن قتالكم ﴿فَخُذُوهُمْ﴾: أي فأسروهم ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾: أي وجدتموهم، وأصبتموهم ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾:
أ. قيل: أي حجة ظاهرة.
ب. وقيل: عذرا بينا في القتال، وسميت الحجة: سلطانا، لأنه يتسلط بها على الخصم، كما يتسلط بالسلطان.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/136.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلفوا فيمن نزل قوله تعالى: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ﴾ على أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنّها نزلت في أسد وغطفان، كانوا قد تكلّموا بالإسلام ليأمنوا المؤمنين بكلمتهم، ويأمنوا قومهم بكفرهم، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنّها نزلت في بني عبد الدّار، رواه الضّحّاك، عن ابن عباس.
ج. الثالث: أنها نزلت في قوم أرادوا أخذ الأمان من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقالوا: لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا، قاله قتادة.
د. الرابع: أنّها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعيّ، كان يأمن في المسلمين والمشركين، فينقل الحديث بين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وبينهم، ثم أسلم نعيم، هذا قول السّدّيّ.
2. معنى الآية: ستجدون قوما يظهرون الموافقة لكم ولقومهم، ليأمنوا الفريقين، كلما دعوا إلى الشّرك، عادوا فيه، فإن لم يعتزلوكم في القتال، ويلقوا إليكم الصّلح، ويكفوا أيديهم عن قتالكم، فخذوهم، أي: ائسروهم، واقتلوهم حيث أدركتموهم، وأولائكم جعلنا لكم عليهم حجّة بيّنة في قتلهم.
3. قال أهل التفسير: والكفّ عن هؤلاء المذكورين في هذه الآية منسوخ بآية السّيف.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/447
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ قال المفسرون: هم قوم من أسد وغطفان، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا، وغرضهم أن يأمنوا المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ أي ردوا مغلوبين منكوسين فيها، وهذا استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين لأن من وقع في شيء منكوسا يتعذر خروجه منه.
2. ثم قال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾، والمعنى: فان لم يعتزلوا قتالكم ولم يطلبوا الصلح منكم ولم يكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم، قال الأكثرون: وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ﴾ [الممتحنة: 8]، وقوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190] فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا، واعلم أن هذا الكلام مبني على أن المعلق بكلمة (إن) على الشرط عدم عند عدم الشرط، وقد شرحنا الحال فيه في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [النساء: 31]
3. في السلطان المبين في قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ وجهان:
أ. الأول: أنه ظهر على جواز قتل هؤلاء حجة واضحة ظاهرة، وهي ظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام.
ب. الثاني: أن السلطان المبين هو إذن اللَّه تعالى للمسلمين في قتل هؤلاء الكفار.
__________
(1) التفسير الكبير: 10/174
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ معناها معنى الآية الأولى، قال قتادة: نزلت في قوم من تهامة طلبوا الأمان من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليأمنوا عنده وعند قومهم، مجاهد: هي في قوم من أهل مكة، وقال السدي: نزلت في نعيم ابن مسعود كان يأمن المسلمين والمشركين، وقال الحسن: هذا في قوم من المنافقين، وقيل: نزلت في أسد وغطفان قدموا المدينة فأسلموا ثم رجعوا إلى ديارهم فأظهروا الكفر.
2. ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ قرأ يحيى بن وثاب والأعمش ﴿رُدُّوا﴾ بكسر الراء، لأن الأصل (رددوا) فأدغم وقلبت الكسرة على الراء، ﴿إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ أي الكفر ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾، وقيل: أي ستجدون من يظهر لكم الصلح ليأمنوكم، وإذا سنحت لهم فتنة كان مع أهلها عليكم.
3. معنى ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ أي انتكسوا عن عهدهم الذين عاهدوا، وقيل: أي إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/311.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ فيظهرون لكم الإسلام، ويظهرون لقومهم الكفر، ليأمنوا من كلا الطائفتين، وهم قوم من أهل تهامة، طلبوا الأمان من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليأمنوا عنده وعند قومهم، وقيل: هي في قوم من أهل مكة، وقيل: في نعيم بن مسعود فإنه كان يأمن المسلمين والمشركين: وقيل في قوم من المنافقين؛ وقيل: في أسد وغطفان.
2. ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ أي: دعاهم قومهم إليها وطلبوا منهم قتال المسلمين ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ أي: قلبوا فيها، فرجعوا إلى قومهم، وقاتلوا المسلمين، ومعنى الارتكاس: الانتكاس.
3. ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ﴾ يعني: هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ﴿وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ أي: يستسلمون لكم ويدخلون في عهدكم وصلحكم وينسلخون عن قومهم ﴿وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ عن قتالكم.
4. ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي: حيث وجدتموهم وتمكنتم منهم ﴿وَأُولَئِكُمْ﴾ الموصوفون بتلك الصفات ﴿جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي: حجة واضحة، تتسلطون بها عليهم، وتقهرونهم بها، بسبب ما في قلوبهم من المرض، وما في صدورهم من الدغل، وارتكاسهم في الفتنة بأيسر عمل وأقلّ سعي.
__________
(1) فتح القدير: 1/574.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ﴾ هم أَسَدٌ وغطَفان وبنو عبد الدار، كانوا حول المدينة تكلَّموا بالإسلام نفاقًا ورياء، يقول لهم قومهم: بم آمنتم؟ فيقولون: بهذا القرد والعقرب والخنفساء، وإذا لقوا الصحابة قالوا: إنَّا على دينكم، والسين للاستقبال؛ لأنَّهم لم يطَّلعوا عليهم إلَّا بعد نزول قوله تعالى: ﴿سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ﴾؛ فلا حاجة إلى أن يقال: هي للاستمرار، أو للاستقبال في استمرار الفعل لا في ابتدائه، وقيل: الآية في المنافقين.
2. ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَّامَنُوكُمْ﴾ لا يخافوا من قتالكم بإظهار الإسلام لكم ﴿وَيَامَنُواْ قَوْمَهُمْ﴾ بالكفر المتحقَّق في قلوبهم، ﴿كُلَّ مَا رُدُّواْ﴾ طلبهم المشركون بقتال المؤمنين وعبادة الأصنام، ﴿إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ قتال المسلمين أو الشرك ﴿أُرْكِسُواْ﴾ قُلبوا أقبح قلب، كقلب على الرأس لا ما دونه، كَردٍّ لجانب أو وراء ﴿فِيهَا﴾ أركسهم اللهُ فيها بالخذلان، والشيطانُ بالوسوسة.
3. ﴿فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ﴾ لم يتركوا التعرُّض لكم بسوء، كإعانة العدوِّ، ودلالتِهِ على ما يضرُّكم، ومدُّه بمال ﴿وَيُلْقُواْ﴾ لم يلقوا ﴿إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ﴾ ولم يكفُّوا ﴿أَيْدِيَهُمْ﴾ عن قتالكم ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ بالأسر والسبي والغنم ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أدركتموهم ﴿وَأُوْلَئِكَمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا﴾ تسلُّطًا بإغرائنا لكم عليهم، وتقويتنا لكم ﴿مُّبِينًا﴾ ظاهرًا إن باشرتم قتالهم أو حجَّة ظاهرة، حيث علَّقنا قتالكم إيَّاهم وسبْيَهم وغنمهم وأَسْرَهم بالغدر إن صدر منهم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/249.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَتَجِدُونَ﴾ أقواما ﴿آخَرِينَ يُرِيدُونَ﴾ بإظهار الإسلام لكم ﴿أَنْ يَأْمَنُوكُمْ﴾ أي: على أنفسهم ﴿وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ بإظهار الكفر ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ أي: دعوا إلى الارتداد والشرك ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ أي: رجعوا إليها منكوسين على رؤوسهم.
2. ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ﴾ أي يتنحوا عنكم جانبا، بأن لم يكونوا معكم ولا عليكم، ﴿وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ أي: ولم يلقوا الانقياد ﴿وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ أي: عن قتالكم ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ أي: اتّسروهم ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي: وجدتموهم في داركم أو دارهم ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي: حجة واضحة في الإيقاع بهم قتلا وسبيا، لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام، أو تسلطا ظاهرا، حيث أذنّا لكم في أخذهم وقتلهم.
3. قال ابن كثير: هؤلاء الآخرون، في الصورة الظاهرة، كمن تقدمهم، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ولأصحابه الإسلام، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريّهم، ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون، ليأمنوا بذلك عندهم، وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ [البقرة: 14] الآية، وحكى ابن جرير عن مجاهد؛ أنها نزلت في قوم من أهل مكة، كانوا يأتون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.
4. قال الرازيّ: قال الأكثرون: في الآية دلالة على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا، لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ﴾ [الممتحنة: 8]، وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190]، فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/256
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ هؤلاء فريق من الذين لم يهتدوا بالإسلام، ولم يتصدوا إلى مجالدة أهله بحد الحسام، فكانوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين، لا يهمهم إلا سلامة أبدانهم، والأمن على أرواحهم وأموالهم، فهم يظهرون لكل من المتحاربين أنهم منهم أو معهم، روى ابن جرير عن مجاهد أنهم ناس كانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيسلمون رياء فيرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يؤمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.. وروي عن ابن عباس أنه قال: كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها وذلك أن الرجل منهم كان يوجد قد تكلم بالإسلام فيقرّب إلى العود والحجر وإلى العقرب والخنفساء فيقول المشركون له قل) هذا ربي) للخنفساء والعقرب.. وروي عن قتادة أنهم حي كانوا بتهامة قالوا: يا نبي الله لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا،وأرادوا أن يأمنوا نبي الله ويأمنوا قومهم فأبى الله ذلك عليهم فقال ﴿كلما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها﴾، يقول كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه.. وروي عن السدي أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمن في المسلمين والمشركين ينقل الحديث بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمشركين، ولا يبعد أن يكون كل من ذكر من هذا الفريق وأن يكون منهم غير من ذكر.
2. ونزيد في بيان معنى قوله: ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ أنهم كانوا يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين إما بإظهار الإسلام وإما بالعهد على السلم وترك القتال ومساعدة الكفار على المؤمنين ثم يفتنهم المشركون أي يحملونهم على الشرك أو على مساعدتهم على قتال المسلمين وهو الإركاس، فيرتكسون أي فيتحولون شر التحول معهم، ثم يعودون إلى ذلك النفاق والارتكاس المرة بعد المرة، أي فهم قد مردوا على النفاق فلا ينبغي أن يختلف المؤمنون في شأنهم.
3. وقد بين الله حكمهم بقوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي فإن لم يعتزلوكم بترككم وشأنكم والتزامهم الحياد، ويلقوا إليكم السلم أي زمام المسالمة بالصفة التي تثقون بها حتى كأن زمامها في أيديكم، وفسره بعضهم بالصلح ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين أو عن الدسائس، إن لم يفعلوا ذلك ويؤمن به غدرهم وشرهم فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، إذ ثبت بالاختبار أنه لا علاج لهم غير ذلك، فقد قامت الحجة لكم على ذلك.
4. وذلك قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي جعلنا لكم حجة واضحة وبرهانا ظاهرا على قتالهم، فقد روي عن غير واحد أن السلطان في كتاب الله تعالى هو الحجة، وهذا يقابل قوله تعالى في من اعتزلوا وألقوا السلم ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ وكل من العبارتين تؤيد الأخرى في بيان كون القتال لم يشرع في الإسلام إلا للضرورة، وأن هذه الضرورة تقدر بقدرها في كل حال.
5. قال الرازي: (قال الأكثرون وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن قتالنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ﴾ [الممتحنة: 8] وقوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ [البقرة: 190] فخص الأمر بالقتال بمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا)، والظاهر أنه يعني بمقابل الأكثرين من يقول إن في الآيات نسخا، ولا يظهر النسخ فيها إلا بتكلف فما وجه الحرص على هذا التكلف؟ ويأتي في هذه الآية ما ذكرناه عقب التي قبلها في قتل المرتدين وغيرهم.
__________
(1) تفسير المنار: 5/267.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين سبحانه حال جماعة آخرين وبالغ في ذمهم فقال: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ هؤلاء فريق ممن لم يهتدوا بالإسلام ولم يتصدوا إلى مجالدة أهله وقتالهم فكانوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين، فهم قد غلت عليهم أرواحهم، ورخصت عليهم عقولهم، يظهرون لكل من الفئتين أنهم منهم أو معهم؛ وقد روى عن مجاهد أن ناسا كانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.
2. ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ أي كلما دعوا إلى الشرك (كما روى عن السدى) أركسوا فيه وتحولوا إليه أقبح تحول، فهم يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين، إما بإظهار الإسلام، وإما بالعهد على السلم وترك القتال ثم يفتنهم المشركون أي: يحملونهم على الشرك أو على مساعدتهم على قتال المسلمين، فيرتكسون ويتحولون شر التحول معهم، وهكذا يفعلون ذلك المرة بعد المرة، فهم قد مردوا على النفاق.
3. وقد بين الله حكمهم بقوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي فإن لم يعتزلوكم ويتركوكم وشأنكم ويلتزموا الحياد ويلقوا إليكم السلم: أي زمام المسالمة على الطريق التي ترونها نافعة لكم، ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين أو عن الدسائس ـ فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم فلا علاج لهم غير ذلك كما ثبت بالتجارب والاختبار.
4. ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي وأولئكم جعلنا لكم عليهم حجة واضحة، وبرهانا ظاهرا على قتالهم، قال الرازي: قال الأكثرون وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن قتالنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم، ونظيره قوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ إذ خص فيها الأمر بقتال من يقاتلنا دون من لم يقاتلنا.
__________
(1) تفسير المراغي 5/119.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هناك طائفة أخرى، لا يتسامح معها الإسلام هذا التسامح، لأنها طائفة منافقة شريرة كالطائفة الأولى، وليست مرتبطة بميثاق ولا متصلة بقوم لهم ميثاق، فالإسلام إزاءها إذن طليق، يأخذها بما أخذ به طائفة المنافقين الأولى: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾.. حكى ابن جرير عن مجاهد، أنها نزلت في قوم من أهل مكة، كانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيسلمون رياء؛ ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا، وهاهنا، فأمر بقتلهم ـ إن لم يعتزلوا ويصلحوا ـ ولهذا قال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ (المهادنة والصلح) ﴿وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ (أي عن القتال) ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ (أسراء) ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ (أي حيث وجدتموهم) ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾
2. وهكذا نرى صفحة من حسم الإسلام وجديته، إلى جانب سماحته ونغاضيه.. هذه في موضعها، وتلك في موضعها، وطبيعة الموقف، وحقيقة الواقعة، هي التي تحدد هذه وتلك.. ورؤية هاتين الصفحتين ـ على هذا النحو ـ كفيلة بأن تنشئ التوازن في شعور المسلم؛ كما تنشئ التوازن في النظام الإسلامي ـ السمة الأساسية الأصيلة ـ فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون الأمر كله عنفا وحماسة وشدة واندفاعا فليس هذا هو الإسلام! وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهاد في الإسلام، كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير! فيجعلون الأمر كله سماحة وسلما وإغضاء وعفوا؛ ومجرد دفاع عن الوطن الإسلامي وعن جماعة المسلمين ـ وليس دفعا عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة، وليس تأمينا لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة، وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله، من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء.. فأما حينئذ فليس هذا هو الإسلام، وفي هذه الطائفة من أحكام المعاملات الدولية بلاغ وبيان..
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/735.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها﴾ بيان لما تكشف عنه التجربة من أمر هؤلاء المنافقين، وأن جماعة منهم، ركبها النفاق، وغلب عليها حكمه، فلم تكن موادعتها للمسلمين إلا ضربا من ضروب النفاق، تريد به أن تضمن السلامة والعافية، وأنه إذا انتصر المسلمون على قومهم، كانوا هم بمأمن مما يجرى على قومهم من حكم الإسلام فيهم، من قتل، وسبي، ومغنم.. وإذا انتصر قومهم، كان لهم من صلتهم بهم وقرابتهم لهم، ما يدفع عنهم بأسهم، وضرهم.
2. فهذه الجماعة من المنافقين إن لم تتحرر من نفاقها، وإن لم تقم أمرها على وجه واحد مع المسلمين، كان على المسلمين أن يأخذوهم بما يأخذون به أعداءهم، لأنهم مخادعون، مضللون، يتخذون من خداعهم وتضليلهم جنّة يدفعون بها ما يتوقع من المسلمين من نصر، وما وراء هذا النصر من بأساء وضراء تحيط بهم!
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/861.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ هؤلاء فريق آخر لا سعي لهم إلّا في خويصتهم، ولا يعبئون بغيرهم، فهم يظهرون المودّة للمسلمين ليأمنوا غزوهم، ويظهرون الودّ لقومهم ليأمنوا غائلتهم، وما هم بمخلصين الودّ لأحد الفريقين، ولذلك وصفوا بإرادة أن يأمنوا من المؤمنين ومن قومهم، فلا همّ لهم إلّا حظوظ أنفسهم، يلتحقون بالمسلمين في قضاء لبانات لهم فيظهرون الإيمان ثم يرجعون إلى قومهم فيرتدّون إلى الكفر، وهو معنى قوله: ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ [النساء: 91]
2. مر بيان معنى (أركسوا) قريبا، وهؤلاء هم غطفان وبنو أسد ممن كانوا حول المدينة قبل أن يخلص إسلامهم، وبنو عبد الدار من أهل مكة، كانوا يأتون المدينة فيظهرون الإسلام ويرجعون إلى مكة فيعبدون الأصنام.
3. أمر الله المؤمنين في معاملة هؤلاء ومعاملة الفريق المتقدّم في قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ [النساء: 90] أمر واحد، وهو تركهم إذا تركوا المؤمنين وسالموهم، وقتالهم إذا ناصبوهم العداء، إلّا أنّ الله تعالى جعل الشرط المفروض بالنسبة إلى الأوّلين: أنّهم يعتزلون المسلمين، ويلقون إليهم السلم، ولا يقاتلونهم، وجعل الشرط المفروض بالنسبة إلى هؤلاء أنّهم لا يعتزلون المسلمين، ولا يلقون إليهم السلم، ولا يكفّون أيديهم عنهم، نظرا إلى الحالة المترقبة من كلّ فريق من المذكورين، وهو افتنان بديع لم يبق معه اختلاف في الحكم ولكن صرّح باختلاف الحالين، وبوصف ما في ضمير الفريقين.
4. الوجدان في قوله: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ﴾ بمعنى العثور والاطّلاع، أي ستطّلعون على قوم آخرين، وهو من استعمال وجد، ويتعدّى إلى مفعول واحد، فقوله: ﴿يُرِيدُونَ﴾ جملة في موضع الحال، وسيأتي بيان تصاريف استعمال الوجدان في كلامهم عند قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ في سورة المائدة [82]
5. جيء باسم الإشارة في قوله: ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ لزيادة تمييزهم، (والسلطان المبين) هو الحجّة الواضحة الدالّة على نفاقهم، فلا يخشى أن ينسب المسلمون في قتالهم إلى اعتداء وتفريق الجامعة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/215.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
هناك صنف آخر غير هؤلاء المسالمين، وهم قوم يخادعون، لا يكفون عن القتال، وقد قال سبحانه فيهم: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ هذا صنف أخير يتجه إلى أن يأمن قومه، فلا يقاتلهم، ويأمن المؤمنين حتى لا يقتلوه، ولكنه لا يمد يد الأمان، ولا يسلم القياد، وهؤلاء إذا دعوا إلى القتال، ولم يعترضوا منفردين لأذى المؤمنين، استجابوا للقتال في صفوف المشركين، فهم يظهرون الأمان، أو يظهرون الإسلام، ليأمنوا جانب المؤمنين، فإن لاحت لهم فرصة الانضمام لأعداء الله قاتلوا معهم، وهذا مرمى قوله تعالى: ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾، أى كلما ردوا إلى قومهم مفتونين بعصبيتهم وكفرهم، قلبت نفوسهم أقبح قلب، فأركسوا في فتنة الكفر والعصبية، وهؤلاء أوجب الإسلام قتالهم إذا لم يعتزلوا أقوامهم ويكفوا أيديهم عن قتال المسلمين.
ولذا قال سبحانه: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، أى إن لم يعتزلوا قتالكم، ويمتنعوا عن حربكم، ويلقوا إليكم بالأمان مع تسليم أنفسهم منقادين، ويكفوا أيديهم عن القتال، فقد حل دمهم، وزالت عصمتهم، فخذوهم بالنواصى أسرى، واقتلوهم حيث وجدتموهم؛ فمعنى ﴿ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ وجدتموهم، وعبر عن الامتناع عن القتال بقوله: ﴿وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾؛ لأن اليد هى الأداة الأولى للقتال؛ وإن الله بهذا قد جعل للمسلمين سلطانا أى سيطرة تمكنهم من قتالهم.
وهذا معنى قوله: ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أى أولئك بأوصافهم من الغدر، وقتالهم للمؤمنين، وفتنتهم، جعل الله لكم عليهم سلطانا مسوغا لقتالهم، واضحا بينا لا شك فيه، فقاتلوهم من غير استرابة ولا شك ولا تلكؤ، اللهم أعز الإسلام وانصرنا على القوم الكافرين.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1796.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عرضت الآيات السابقة صورا متنوعة للذين لاقى منهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ألوانا من المكر والخبث والتمرد على الله ورسوله.. وهذه الآية تعرض صورة أخرى لفريق هم أكثر الناس عددا في كل زمان ومكان، أعني المتميعين المذبذبين الذين لا واقع لهم الا التقلب والتردد، يؤمنون بالقيم حينا، وحينا بها يكفرون..
2. نحن لا ننكر ان الإنسان يتأثر بظروفه، وانه كثيرا ما يتغير بحسبها، بل أثبتنا ذلك عند تفسير الآية 143 من سورة البقرة، فقرة (تغير الأخلاق والأفكار)، ومع هذا فانّا نعتقد ـ استنادا إلى العيان ـ ان لبعض الأشخاص ذاتا تتذبذب بطبيعتها، وتنتقل من حال إلى حال، حتى ولو اتحدت ظروفها.
3. ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾، المراد بالرد الدعوة، وبالفتنة الكفر، وبالارتكاس الرجوع والتحول، والمعنى أن هذا الفريق كلما دعوا إلى الكفر والارتداد رجعوا اليه، وكانوا أقبح من كل كافر ثبت على كفره، وخير ما قيل في تصويرهم ما حكاه بعض المفسرين: انهم كانوا إذا رجعوا إلى قومهم يقال لأحدهم: قل: الخنفساء ربي، والقرد ربي، فيقولها، ويقال لأمثال، هؤلاء: إمعون جمع إمع، أي اني معك من باب النحت.
4. ومهما بلغت الحال بهؤلاء من الانحطاط وانعدام الشخصية والذبذبة بين الكفر والإيمان فإن الإسلام يدعهم وشأنهم ما لم يعتدوا ويقاتلوا.. فإن اعتدوا وقاتلوا فالإسلام يأمر بردعهم وقتلهم أينما وجدوا إذا أصروا على الحرب والقتال.. وهذا ما أراده الله بقوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾
5. وهذا دليل من عشرات الأدلة التي يقدمها القرآن الكريم، والسنة النبوية على أن الخط الأساسي لدين الإسلام ان لا قتل ولا قتال إلا لردع من قاتل وسعى فسادا في الأرض: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190].. ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: 193].. اذن، الإسلام سوّغ القتال، حيث سوغته جميع الشرائع قديما وحديثا، وأوجبته جميع العقول.. ورغم هذه الأدلة وغيرها فإن أعداء الإسلام أبوا إلا أن يقولوا: انه دين السيف والقتال، تماما كالذي قال: عنزة وإن طارت.
انظر تفسير الآية السابقة 90: ﴿وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾، وقارن بينها وبين قوله تعالى في الآية التي نفسرها 91: ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، فان كلا منهما تؤيد الأخرى في ان القتال لم يشرع في الإسلام إلا دفاعا عن النفس، ودرءا للفساد، وانه يقدر بهما وجودا وعدما، وكما وكيفا.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/404.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ﴾ إخبار بأنه سيواجهكم قوم آخرون ربما شابهوا الطائفة الثانية من الطائفتين المستثناتين حيث إنهم يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم غير أن الله سبحانه يخبر أنهم منافقون غير مأمونين في مواعدتهم وموادعتهم، ولذا بدل الشرطين المثبتين في حق غيرهم أعني قوله: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ بالشرط المنفي أعني قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ وهذا في معنى تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم ومعنى الآية ظاهر.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/32.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَتَجِدُونَ﴾ قوماً ﴿آخَرِينَ﴾ غير المذكورين في الآية السابقة يخادعونكم، فيظهرون لكم: أنهم يريدون الإسلام، أو أنهم مسلمون أو يطلبون منكم أماناً إذا جاءوكم لسبب من الأسباب ﴿يُرِيدُونَ﴾ بذلك ﴿أَنْ يَأْمَنُوكُمْ﴾ ثم يرجعون إلى قومهم، فيظهرون لهم أنهم لا يتحولون عن دين المشركين ويدفعون توهم قومهم أنهم أسلموا أو أنهم يريدون الإسلام ليأمنوا قومهم.
2. ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ إلى اختبار قومهم لهم أنهم باقون على الشرك كأن يأمروهم بالسجود للصنم أو التقريب له أو يأمروهم بمعاونة الكفار على المسلمين ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ في الفتنة وفعلوا ما طَلَب منهم قومُهم فسجدوا للصنم مثلاً فلا هم مسلمون ولا قريبون من الإسلام.
وقوله: ﴿أُرْكِسُوا﴾ مثل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ فهي من المتشابه، والركس: الرجس، وهو نجس الشرك، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة:28] وفي حديث ابن مسعود: (أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال إنها ركس)، وفي (الصحاح): (والركس ـ بالكسر ـ: الرجس) والأقرب: أنهم إذا جاءوا المسلمين، أظهروا لهم أنهم يريدون السلم وإذا رجعوا إلى قومهم فهم منهم، وكلما اختبرهم قومهم إذا شكُّوا فيهم بسبب ذهابهم إلى المسلمين فعلوا ما اختبروهم به، فهم كفار غير مظهرين للإسلام.
3. ولذلك قال تعالى فيهم: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ فلو كانوا مسلمين ما أمروا باعتزال المسلمين، وليس في الآية أنهم يسلمون ثم يرتدون، بل ظاهرها: أنهم يريدون أن يجتمع لهم أمن المسلمين وأمن قومهم، وذلك لا يكون بالإسلام تارة والردة تارة؛ لأنهم إذا أسلموا خافوا قومهم، وإذا ارتدوا خافوا المسلمين، فالأقرب: أنهم يتوسلون بغير الإسلام إلى أمن المسلمين ليأمنوا المسلمين مع أمنهم قومهم.
4. ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ﴾ فلا يدخلوا بلدكم ﴿وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ بإبلاغكم أنهم مسالمون لكم ﴿وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ تصديقاً لإلقائهم السلم حتى يذهب الخداع ويكونوا على أمر واضح، لا بد من اجتماع هذه الثلاث الخصال، وإلا ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ﴾ الأخذ: الإمساك والأسر ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ حيث ظفرتم بهم ﴿وَأُولَئِكُمْ﴾ الأعداء المخادعون ﴿جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ حجة واضحة وتسليطاً بيناً لقتلهم وأسرهم، وهو تسليط بحكم الله عليهم بذلك، وبنصر المسلمين عليهم نصراً عزيزاً.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/140.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هناك جماعة أخرى قريبة من هذه الجماعة، ولكنها تختلف عنها في بعض الخصائص ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ وهؤلاء هم الذين يريدون أن يحصلوا على الأمن من كلا الطرفين، ولكن لا عن ضيق أو حرج في نفوسهم من القتال، بل عن حب للحياة مع العمل على أن يأخذوا الحرية لأنفسهم في التحرك في الفتنة، من خلال أجواء الأمان الممنوحة لهم.
2. ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾، فهم يخضعون لنوازع الفتنة، ويستسلمون لعواملها ومؤثراتها؛ فإذا حصلت لهم الظروف المساعدة، وقعوا فيها، وقد حكم الإسلام على هؤلاء بأن يقدّموا للمسلمين الدليل العملي الصادق على طبيعة الأمان التي يطلبونها في ممارساتهم تجاه المسلمين، باعتزال القتال وإلقاء السّلام إليهم وكف الأيدي عنهم، وإذا تمرّدوا على ذلك وحاولوا أن يعاملوهم وينافقوا بعيدا عن وضوح الموقف وصراحته، كان للمسلمين أن يعاملوهم معاملة المشركين، لوحدة الموقع في المعركة مع اختلاف في الأسلوب.
3. ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي أينما وجدتموهم ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ وحقا ثابتا من أجل الدفاع عن الإسلام والمسلمين ودحر الكفر والكافرين.
4. قد نستوحي من هذه الآية الكريمة أن ندرس حالة الحياديين، فنميّز بين الذين يحملون الحياد كموقف ينطلق من قناعاتهم النفسية، فنحترم حيادهم تبعا لمصلحة الإسلام والمسلمين في حالة الصراع بيننا وبين الفئات المعادية؛ وبين الذين يلعبون بالحياد كورقة يحصلون فيها على امتيازات من حيث الأمن، ويمنحهم حرية الحركة في اللعب على أكثر من حبل ـ من أجل الحصول على مكاسب مادية ـ أو في إيقاد نار الفتنة من أجل الوصول إلى أهداف عدوانية لمصلحة الكفر والكافرين، فنأخذ جانب الحيطة في موقفنا منهم، بالتأكيد على إلغاء الفرص التي تسمح لهم باللعب، وتقييد حريتهم بالوسائل العملية الواقعية؛ لنحفظ الساحة من كل دعاة الفتنة والضلال.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/396
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد ذكروا أسبابا مختلفة لنزول هذه الآية، وأشهرها هو أنّ نفرا من أهل مكّة كانوا حين يحضرون عند النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يتظاهرون بالإسلام كذبا وخداعا، وما أن يرجعوا إلى قريش يعودون لعبادة الأصنام، وقد انتخب هؤلاء هذا النوع من السلوك درءا لخطر المسلمين وخطر قريش عن أنفسهم، بالإضافة إلى سعيهم لإمرار مصالحهم لدى الطرفين، فنزلت هذه الآية وأمرت المسلمين بالتعامل مع هؤلاء بعنف وشدّة.
2. إنّ هذه الآية تصور لنا طائفة من الناس نقيض تلك الطائفة التي تحدثت عنها الآية السابقة وأمرت بقبول الصلح منها، والطائفة تتشكل من أفراد نفعيين انتهازيين، همّهم الوحيد تحقيق مصالحهم والتحرك بحرية تامّة لدى المسلمين، وقريش عن طريق الرياء والخيانة والخداع، والتظاهر بتأييد واتباع الجانبين والتعاون معهما، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾
3. وهؤلاء حين تسنح لهم الفرصة ينقلبون على أعقابهم وينغمسون في الفتنة والشرك نكسا على رؤوسهم ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾
4. وعمل هؤلاء وسلوكهم على عكس سلوك الطائفة السابقة التي أرادت أن تبقى على الحياد فقد تجنبت الفئة السابقة إيذاء المسلمين، أمّا هذه الأخيرة فقد انطوت سريرتها على إيذاء المسلمين والوقوف ضدهم.
5. وقد اشترط القرآن الكريم على هذه الطائفة ثلاثة شروط من أجل أن تبقى في مأمن من انتقام المسلمين، وهذه الشروط هي: اعتزال المسلمين، أو مصالحتهم، أو الكف عن إيذائهم حيث تقول الآية الكريمة: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾
6. وإذا رفضت هذه الطائفة الشروط المذكورة وأصرت على العصيان والتمرد، فالمسلمون مكلّفون عند ذلك بإلقاء القبض على أفرادها وقتلهم أينما وجدوا، كما تقول الآية: ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾
7. ولما كانت الحجّة قد تمّت على هؤلاء، تقول الآية في الخاتمة: ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، وقد يكون هذا التسلط في مجال الكلام والمنطق إذا تغلب منطق المسلمين على منطق المشركين والكافرين، وقد يكون سلطانا ماديا ظاهريا عليهم لأنّ الآية نزلت في وقت كان المسلمون يتمتعون فيه بقدر كاف من القوّة.
8. تشير عبارة ﴿ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ الواردة في الآية إلى احتياج المسلمين إلى الدقة والمهارة في التعرف على هذه الفئة المنافقة الخطيرة، لما لها من قابلية عجيبة على التلون والخداع والانفلات من العقاب، فعبارة (ثقفتموهم) مشتقة من المصدر (ثقافة) الذي يعني الحصول على شيء باستخدام الدقّة والمهارة، بينما الفعل (وجد) يعني الحصول على الشيء بصورة مطلقة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/377
87. القتل الخطأ وأحكامه
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈87⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ [النساء: 92]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: في الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون، وعشرون بنات مخاض(1).
2. روي أنّه قال: في قتل الخطأ مائة من الإبل أخماسا؛ خمس جذاع، وخمس حقاق، وخمس بنات لبون، وخمس بنات مخاض، وخمس بنو مخاض(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٢٤.
(2) ابن جرير ٧/٣٢٥.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: في الخطأ شبه العمد ثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل(1)، عامها، وفي الخطأ: خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات مخاض، وخمس وعشرون بنات لبون(2).
__________
(1) البازل من الإبل: الذي تم له ثماني سنين، ودخل في التاسعة.
(2) ابن جرير ٧/٣٢٣.
مسروق:
روي عن مسروق بن الأجدع (ت 62 هـ) أنه سئل عن الآية التي في سورة النساء ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾: صيام الشهرين عن الرقبة وحدها، أو عن الدية والرقبة؟ قال: من لم يجد فهو عن الدية والرقبة(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة في مصنفه ٧/٥٨٦.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾، يعني بالمؤمنة: من قد عقل الإيمان وصام وصلى، وكل رقبة في القرآن لم تسم مؤمنة فإنه يجوز المولود فما فوقه ممن ليس به زمانة(1).. وفي قوله: ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾، قال عليه الدية مسلمة، إلا أن يتصدق بها عليه(2).
__________
(1) الزمانة: الآفة والعاهة.
(2) ابن جرير ٧/٣١١.
السجاد:
ذكر الإمام السجاد (ت 94 هـ) أنّه قال: من أوجه الصوم الواجب العشرة: صيام شهرين متتابعين ـ يعني: في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق ـ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ الآية(1).
__________
(1) أبو نعيم في حلية الأولياء ٣/١٤١.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾، يعني: ما ينبغي لمؤمن(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾، فمن لم يجد رقبة، ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٠.
(2) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٥.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الخطأ: أن يريد الشيء، فيصيب غيره(1).
2. روي أنّه قال: يعني في قوله: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾، قال إذا قتل المسلم، فهذا له ولورثته المسلمين(2).
3. روي أنّه قال: ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة فلا يجزي إلا من صام وصلى، وما كان في القرآن من رقبة ليست مؤمنة فالصبي يجزئ(3).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٢٣.
(2) ابن أبي شيبة في مصنفه ١٤/٣٣٣.
(3) ابن جرير ٧/٣١١.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾، الصيام لمن لا يجد رقبة، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شيء(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٣٤.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾، قد صلت(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣١٠ بلفظ: قد صلت وعرفت الإيمان، وابن أبي حاتم ٣/١٠٣١.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾، عياش بن أبي ربيعة قتل رجلا مؤمنا كان يعذبه هو وأبو جهل ـ وهو أخوه لأمه ـ في اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعياش يحسب أن ذلك الرجل كافر كما هو، وكان عياش هاجر إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مؤمنا، فجاءه أبو جهل ـ وهو أخوه لأمه ـ فقال: إن أمك تناشدك رحمها وحقها أن ترجع إليها، وهي أسماء بنت مخرمة، فأقبل معه، فربطه أبو جهل حتى قدم به مكة، فلما رآه الكفار زادهم كفرا وافتتانا، فقالوا: إن أبا جهل ليقدر من محمد على ما يشاء، ويأخذ أصحابه فيربطهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾، من لم يجد عتقا في قتل مؤمن خطأ، قال وأنزلت في عياش بن أبي ربيعة، قتل مؤمنا خطأ(2).
3. روي أنّه سئل عن: ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾، فقال: لا يفطر فيها، ولا يقطع صيامها، فإن فعل من غير مرض ولا عذر استقبل صيامها جميعا، فإن عرض له مرض أو عذر صام ما بقي منهما، فإن مات ولم يصم أطعم عنه ستون مسكينا، لكل مسكين مد(3).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٠٦.
(2) ابن جرير ٧/٣٣٥.
(3) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٦.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان الحارث بن يزيد بن نبيشة ـ من بني عامر بن لؤي ـ يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج مهاجرا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلقيه عياش بالحرة، فعلاه بالسيف، وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره؛ فنزلت: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ الآية، فقرأها عليه، ثم قال له: (قم فحرر(1).
2. روي أنّه قال: إذا كان ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ فالأول والأول(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٠٧.
(2) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٥.
القاسم:
روي عن القاسم بن محمد (ت 106 هـ) أن الحارث بن يزيد كان شديدا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجاء وهو يريد الإسلام، وعياش لا يشعر، فلقيه عياش بن أبي ربيعة، فحمل عليه، فقتله، فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾(1).
__________
(1) ابن المنذر (٢١٠٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ من قد عقل الإيمان، وصلى، وصام(1).
2. روي أنّه قال: كل شيء في كتاب الله ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ فمن صام، وصلى، وعقل، وإذا قال فتحرير رقبة: فما شاء(2).
__________
(1) ذكره عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ١٠٨.
(2) ابن جرير ٧/٣١١.
عطاء:
روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: يجزئ من الرقبة المؤمنة من ولد في الإسلام ولم يكن صلى(1).
2. روي أنّه قال: قال كل رقبة ولدت في الإسلام فهي تجزئ(2).
__________
(1) ذكره عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ١٠٧.
(2) ابن جرير ٧/٣١٢.
مكحول:
1. روي أنّه قال: كانت الدية ترتفع وتنخفض، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهي ثمانمائة دينار، فخشي عمر من بعده، فجعلها اثني عشر ألف درهم، أو ألف دينار(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٢٨.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾، يقول: ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه من عهد الله الذي عهد إليه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أن الرقبة المؤمنة عنده من قد صلى، وكان يكره أن يعتق في هذا الطفل الذي لم يصل، ولم يبلغ ذلك(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٠٥.
(2) ابن جرير ٧/٣١١.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ الآية، نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، كان قد أسلم وهاجر إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان عياش أخا أبي جهل والحارث بن هشام لأمهما، وكان أحب ولدها إليها، فلما لحق بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شق ذلك عليها، فحلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه، فأقبل أبو جهل والحارث حتى قدما المدينة، فأخبرا عياشا بما لقيت أمه، وسألاه أن يرجع معهما فتنظر إليه، ولا يمنعاه أن يرجع، وأعطياه موثقا أن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه، فانطلق معهما، حتى إذا خرجا من المدينة عمدا إليه، فشداه وثاقا، وجلداه نحوا من مائة جلدة، وأعانهما على ذلك رجل من بني كنانة، فحلف عياش ليقتلن الكناني إن قدر عليه، فقدما به مكة، فلم يزل محبوسا حتى فتح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مكة، فخرج عياش، فلقي الكناني وقد أسلم، وعياش لا يعلم بإسلام الكناني، فضربه عياش حتى قتله؛ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ يقول: وهو لا يعلم أنه مؤمن، ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ فيتركوا الدية(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾، قال المؤمن لا يقتل مؤمنا(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٠٨.
(2) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣١.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي أسلم، وخاف أن يظهر إسلامه، فخرج هاربا إلى المدينة، فقدمها، ثم أتى أطما(1)، من آطامها، فتحصن فيه، فجزعت أمه جزعا شديدا، وقالت لابنيها أبي جهل والحارث ابن هشام ـ وهما لأمه ـ: لا يظلني سقف بيت، ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتوني به، فخرجا في طلبه، وخرج معهم الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أتوا المدينة، فأتوا عياشا وهو في الأطم، فقالا له: انزل، فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك، وقد حلفت لا تأكل طعاما ولا شرابا حتى ترجع إليها، ولك الله علينا أن لا نكرهك على شيء، ولا نحول بينك وبين دينك، فلما ذكرا له جزع أمه، وأوثقا له؛ نزل إليهم، فأخرجوه من المدينة، وأوثقوه بنسع(2).. وجلده كل واحد منهم مائة جلدة، ثم قدموا به على أمه، فقالت: والله، لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به، ثم تركوه موثقا في الشمس، وأعطاهم بعض الذي أرادوا، فأتاه الحارث بن يزيد، وقال: يا عياش والله، لئن كان الذي كنت عليه هدى لقد تركت الهدى، وإن كان ضلالة لقد كنت عليها، فغضب عياش من مقالته، وقال: والله، لا ألقاك خاليا إلا قتلتك، ثم إن عياشا أسلم بعد ذلك، وهاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة، ثم إن الحارث بن يزيد أسلم، وهاجر إلى المدينة، وليس عياش يومئذ حاضرا، ولم يشعر بإسلامه، فبينا هو يسير بظهر قباء إذ لقي الحارث بن يزيد، فلما رآه حمل عليه فقتله، فقال الناس: أي شيء صنعت؟ إنه قد أسلم، فرجع عياش إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا رسول الله، كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، وإني لم أشعر بإسلامه حين قتلته، فنزل عليه جبريل عليه السلام بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾(3).
__________
(1) الأطم: البناء المرتفع، النهاية (أطم).
(2) النسع ـ بضم النون وإسكان السين، وبكسر النون وفتح السين ـ: سير مضفور يجعل زمامًا للبعير وغيره.
(3) أسباب النزول للواحدي ص ٣٠٩.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن الرجل يظاهر من امرأته، يجوز عتق المولود في الكفارة؟ فقال: كل العتق يجوز فيه المولود إلا في كفارة القتل، فإن الله عز وجل يقول: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ يعني بذلك مقرة قد بلغت الحنث(1).
2. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كل عتق يجوز له المولود إلا في كفارة القتل، فإن الله تعالى يقول: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ يعني بذلك مقرة قد بلغت الحنث، ويجزي في الظهار صبي ممن ولد في الإسلام، وفي كفارة اليمين ثوب يواري عورته، وقال: ثوبان(2).
3. روي أنّه قال في قول الله عز وجل: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ يعني مقرة(3).
4. روي أنّه قال: في قتل الخطأ: مائة من الإبل، أو ألف من الغنم، أو عشرة آلاف درهم، أو ألف دينار، فإن كانت الإبل فخمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، والدية المغلظة في الخطأ الذي يشبه العمد الذي يضرب بالحجر أو بالعصا الضربة والضربتين لا يريد قتله، فهي أثلاث: ثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ثنية، كلها خلفة طروقة الفحل، فإن كان من الغنم فألف كبش، والعمد: هو القود أو رضا ولي المقتول(4).
5. روي أنّه قال: الدية عشرة آلاف درهم، أو ألف دينار)، قال جميل: قال الإمام الصادق: (الدية مائة من الإبل(5).
6. روي أنه قيل له: ما تقول في الرجل يصوم شعبان وشهر رمضان؟ فقال: هما الشهران اللذان قال الله تبارك وتعالى: ﴿شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ﴾ قيل: فلا يفصل بينهما؟ قال: إذا أفطر من الليل فهو فصل، وإنما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا وصال في صيام، يعني لا يصوم الرجل يومين متواليين من غير إفطار، وقد يستحب للعبد [أن لا يدع] السحور(6).
__________
(1) الكافي 7/462.
(2) التهذيب 8/320.
(3) التهذيب 8/249.
(4) الكافي 7/282.
(5) الكافي 7/281.
(6) الكافي 4/92.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾، أي: التي قد صلت لله، وحدت الله(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٦.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: نزلت في رجل قتله أبو الدرداء، كانوا في سرية، فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له، فوجد رجلا من القوم في غنم له، فحمل عليه السيف، فقال: لا إله إلا الله، فضربه، ثم جاء بغنمه إلى القوم، ثم وجد في نفسه شيئا، فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكر ذلك له، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا شققت عن قلبه؟)، فقال: ما عسيت أجد!؟ هل هو يا رسول الله إلا دم أو ماء؟ قال: فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه!)، قال كيف بي يا رسول الله؟ قال: فكيف بلا إله إلا الله!؟)، قال فكيف بي يا رسول الله؟ قال: فكيف بلا إله إلا الله!؟)، حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي، قال ونزل القرآن: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ حتى بلغ: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾، قال إلا أن يضعوها(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٠٩.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾، ثم قال: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ أراد عز وجل بتحرير رقبة: تكفيرا للخطية، ومحوا للسيئة؛ فجعل فيه تحرير رقبة بعد الدية، ثم قال في آخر الآية: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ﴾؛ فأوجب الصيام لشهرين متتابعين، فمن لم يجد الرقبة، ولم يطق أن يصوم ـ فعليه أن يطلب الرقبة، ويجتهد فيها، وتكون في رقبته دينا، حتى يفيدها، أو يمكنه الصيام من قبل المقدرة على الرقبة، فيصوم إن كان تركه أولا؛ لعلة عرضت عليه.
2. وقلت: هل يحكم على العاقلة بالدية؟، وكذلك يفعل بهم، والدية عليهم.. وقلت: فإن لم يكن له عاقلة، وله مال: هل يخرج من ماله؟.. فقد قيل: إن عاقلته ـ إذ لا عاقلة له ـ المسلمون؛ لأنهم ورثته؛ إذ لا ورثة له، وإن كان الإمام ظاهرا ـ وداه من بيت مال المسلمين؛ لأنهم ورثته؛ إذ لا ورثة له.
3. وسألت عن رجل قتل مسلما عمدا: هل يجب عليه عتق رقبة؟ ولم يذكر الله في كتابه، وإنما يلزمه القتل؛ فإن عفي عنه، وقبلت الدية ـ فقد أحسن في ذلك، ومنوا بنفسه عليه، وعليه أن يؤديها كما قال الله سبحانه: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 178]، ويستحب له أن يكفر بعتق رقبة؛ فهو أفضل له، فأما أن يكون محكوما به عليه ـ فليس ذلك بلازم له.
4. وقلت: فإن قتل قوم رجلا خطأ، هل تجزيهم كفارة واحدة، مثل: قوم دفعوا جدارا ليطرحوه، ولم يعلموا بما خلفه، فقتلوا رجلا؟ فعلى كل واحد منهم كفارة.. وقلت: إن قتل قوم رجلا مؤمنا عمدا؟ فالجواب في ذلك: أنهم كلهم يقتلون به، وأنه إذا عفي عن بعضهم فإن القتل قد زاح عن كلهم، ولا قتل عليهم؛ لأنهم جميعهم بمنزلة رجل واحد، وإذا صفح عنه أحد الأولياء ـ لم يجز قتله للآخرين، ويجب على كل هؤلاء القاتلين إذا عفي عن بعضهم وسقط القتل عنهم دية دية، يخرجونها لأولياء المقتول؛ فإن كانوا خمسة أخرجوا خمسة آلاف، وإن كانوا عشرة أخرجوا عشرة آلاف، وإن كانوا أقل أو أكثر فعلى حساب ذلك، وقد قال قوم ممن لا علم عندهم، ولا تمييز لهم: إنه إذا قتل جماعة رجلا عمدا ساهم بينهم الولي، فقتل منهم واحدا، وهذا عين الظلم والمحال، وأقبح شيء من الحكم والأفعال: أن يكونوا كلهم قاتلين معا، ثم يقتل ولي المقتول منهم واحدا، فيجمع ذنوبهم كلها في رقبته، ويخرجوا سالمين مما دخلوا فيه معه؛ هذا قول مدخول، لا يقبله إلا كل عقل فاسد مخبول، وقد سئل عن هذه المسألة أمير المؤمنين الإمام علي صلوات الله عليه، فقال: (نعم، لو قتله أهل صنعاء كلهم لقتلتهم به)، وقد يروى أن المسألة وردت عليه من صنعاء، ويذكر أنّه قال: لو قتله أهل منى لقتلتهم به.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/253.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ اختلف فيه:
أ. عن ابن عَبَّاسٍ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾: أي: لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا بغير حق عمدا، إلا خطئًا فيما لا يملكه.
ب. وقيل: ﴿إِلَّا﴾ بموضع الواو، كأنه قال: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا متعمدًا ولا خطأ، وذلك. جائز في اللغة.
ج. وقيل: وما كان ينبغي لمؤمن أن يترك قتله إذا قتل آخر عمدا إلا خطأ، فإنه يترك قتله ولا يقتل به؛ وهو قول أبي بكر الكسائي.
د. وقيل: وما كان ينبغي لمؤمن أن يترك حكم قتله إلا خطأ، قال أبو بكر الكسائي: حكم القتل ما ذكرنا من القصاص والقود، أو كلام نحو هذا.
هـ. ويحتمل قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾ قط بعد ما سبق من اللَّه بيانه في غير آي من القرآن، نحو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾، وغيرها من الآيات، ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ فإنه لم يسبق منه الحكم فيه إلا في هذه الآية.
و. وقيل: وليس لمؤمن أن يقتل مؤمنًا على كل حال إلا أن يقتله مخطئًا؛ فعليه ما في القرآن. وهو قريب مما ذكرنا.
2. ثم الخطأ ـ عندنا ـ على وجهين، خطأ قصد، وخطأ دين:
أ. فخطأ القصد: هو أن يقصد أحدًا فيصيب غيره.
ب. وخطأ الدِّين: هو أن يعرفه مشركًا كافرًا من قبل حلال الدم؛ فيقتله على ما عرفه من قبل، وهو للحال مسلم.
3. سؤال وإشكال: إِنْ قِيلَ: كيف لزمه في قتل الخطأ ما لزمه من الكفارة؛ وقد أخبر اللَّه عز وجل أنه لا يؤاخذه له، وأن لا حرج عليه في ذلك؛ بقوله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، وقال في آية أخرى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، وغيرها من الآيات؟ والجواب:
أ. قيل: إن الفعل فعل مأثم، وإن كان لم يوجد منه القصد فيه، فما أُوجِبَ إنما أُوجِبَ؛ لما الفعل فعل مأثم.
ب. والثاني: يجوز أن يكون اللَّه يكلفنا بترك القتل والفعل في حال السهو والغفلة، قال: ﴿لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، والخطأ نقيض الصواب؛ فلا يجوز أن يؤمر بطلب الصواب ولا ينهى عن إتيان ضده؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ الآية.
4. ثم اختلف في المعنى الذي أوجب عليه رقبة مؤمنة:
أ. قيل: لأنه أتلف نفسًا خلقها اللَّه تعالى لعبادته؛ فأوجب مكانها نفسًا مؤمنة؛ لتعبد اللَّه على ما عبدت تلك، لكن التأويل لو كان هذا لكان يجب في العمد ما وجب في الخطأ؛ لأنه وجد ذلك المعنى، لكن أوجب لا لذلك المعنى ولكن تغليظًا وتشديدًا عليه لما أتلف نفسًا محظورًا لم يؤذن له في ذلك؛ لئلا يقدم على مثله، ولله أن يوجب على من شاء بما شاء لما شاء، من غير أن يقال: لم؟ وكيف؟ وأين؟
ب. والثاني: أوجب عليه رقبة مؤمنة؛ لأنه أبقى له نفسًا مؤمنة؛ فعلى ما أبقى له نفسًا مؤمنة أوجب عليه مثلها رقبة مؤمنة.
5. اختلف في تأويل ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾؛ فمنهم من يقول بإضمار: وما كان بمتروك لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ، ويخرج معنى (بمتروك) على وجهين:
أ. أحدهما: ما قاله أبو بكر الملقب بالأصم: أي بمتروك له في القصاص إلا أن يقتله خطأ، ولكن هذا يوجب منع العفو لما به الترك، ومعلوم أنه أمر رغب فيه؛ حتى دعا رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ولي القتيل إلى العفو، ثم إلى أخذ الدية، ثم لما أبت نفسه عن ذلك أذن له في القصاص؛ ويدل على ذلك قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا﴾، إلى قوله: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ الآية، إلا أن يرجع في قوله: (بمتروك له) إلى الوجوب، أي: لا يدفع عنه إيجاب القصاص إلا من قتل مؤمنًا خطأ؛ فإنه ليس عليه القصاص.
ب. والثاني: أنه ما كان بمتروك له من التأنيب والتوبيخ والتعيير بسوء صنيعه بأخيه وتعديه حد اللَّه وبمعونة ولي القتيل؛ إذ قال: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾، فحق ذلك على الناس أن يظهروا له النكير عليه، ويقوموا بالنصر لوليه إلا أن يكون خطأ؛ فلا يتلقونه بشيء مما ذكرت، بل يقومون بالشفاعة له، والمعونة في احتمال ما لزمه؛ ولذلك جعل أمر العقل على ما به من إبقاء الألفة، ودفع الضغينة، واجتماع التالم في المصيبة.
ج. ومنهم من يقول في تأويل الآية: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ أي: حرام عليه ذلك الفعل بما حرم اللَّه، وبما بينهما من الأخوة في الدِّين، وبما هو شقيقه وجنسه، يتألم بما يتألم به الآخر، ويتأذى بما يتأذى الآخر، والنفس عن مثله تنتهي، والطبع ينفر، فما كان له بعد هذا أن يقتل.
6. وقوله عز وجل: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ قيل فيه بوجوه:
أ. أحدها: أن يقع ذلك منه على الخطأ؛ فيكون على ما لا يلحقه اللائمة التي ذكرنا، ولا وصف التعدي الذي وصفنا.
ب. والثاني: أن يكون الأمر في موضع الابتداء؛ لما بين له من الحكم بمعنى: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنَا ألبتَّة، لكن من قتل مؤمنَا خطأ فتحرير رقبة؛ كقوله: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا﴾، بمعنى: لا يسمعون فيها لغوَا ألبتَّة، لكن الذي يسمعون: يسمعون سلامًا.
ج. وقيل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾: إلا ألا يعلمه أنه مؤمن، وكان عرفه كافرًا، له قتله بما روي من الإذن في البيات وقتل عيون الكفرة بما سبق من ظهور كفرهم، وإن احتمل إيمانهم فيما بين الوقتين؛ فيكون بمعنى: حرام عليهم إلا مَنْ هذا وصفُهُ.
د. ويجوز: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ أي: أليس، لمؤمن ذلك قط إلا أن يقتل خطأ؛ فإنه ليس فيمن يقال كان له أو لا؛ لما يقع به إلا أن يفعله هو في التحقيق؛ إذ حقيقة الفعل أن يقع بإرادة ويخرج عليها، وهذا لا يقع بها، ولا يخرج عليها.
7. وقوله عز وجل: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ فلم يذكر في القاتل أنه مؤمن عند ذكر قتله، لكنه رجع إليه بوجهين:
أ. أحدهما: أن الآية في بيان قتل يكون من المؤمن، وعليها جرى تفسير الحكم عند الوقوع.
ب. والثاني: قوله: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ والتوبة بالتحرير تكون للمؤمن لا غيره، على أنه حق الشرع من العبادات؛ فلا يحتمل قصد الكافر به، وأيد ذلك المذكور من الصيام، وهو لا يقوم إلا بالإيمان.
8. ثم جعل الإيمان شرطا من حيث الذكر، وتأكده بأوجه ثلاثة:
أ. أحدها: بالتأكيد، يذكر كل قتيل على اختلاف أهل القتيل، وفي ذلك دليل أن ذلك جعل عليه لمكان أمر يدخل على دينه مما عليه من الحق أن يحفظ حرمته، وبحرمته يتقي قتل من ذكر؛ إذ حرم دينه عليه؛ فيصير في قتله مُضَيعًا، فالزم ما ذكرت في كل أنواع القتيل لرجوع أمر ذلك كله إلى تضييع من حق دينه، ولذلك قيل: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ وذلك يخرج على وجهين:
• أحدهما: أن تحقيق معنى التوبة في فعل اللَّه، وذلك يخرج على وجهين:
● أحدهما: على ما تجاوز منه؛ إذ لم يأخذه بالخطأ؛ فيكون بحق جعل ذلك شكرا من العبد بما لم يؤاخذه بالخطأ؛ فيكون معنى التوبة منه أنه لم يؤاخذه بالخطأ، لا إن في الإعتاق ذلك، والإعتاق للشكر له فيما لم يكن أخذه، وقد يجوز أن يؤاخذه لما بالجهد في التحفظ قد يؤمن ذلك، فلما لم يكلفه وتجاوز عما كان على الخطأ؛ يأمر بالشكر لذلك.
● والثاني: قبولا منه ذلك في حق التوبة عن غير القتل من الزلات؛ فيكون فيه قيام بما أمر توخيه في حكمة العفو عن مثله، بجعل ذلك من العبد مقبولا بحق التوبة من الزلات، أو نُسب إلى التوبة منه إذا كان على التوفيق لفعله، وذلك تسمية اللَّه (توابًا) على التوفيق والتجاوز.
• والثاني: يرجع إلى فعل العبد؛ فتكون توبة من اللَّه على عبده القاتل بأن يتوب بإعتاق رقبة مؤمنة، وذلك يخرج على وجهين:
● أحدهما: أن يكون الفعل فعل مأثم، ولله تعالى مؤاخذته عليه؛ لأنه بالجهد يمكن اتقاء ذلك؛ ولذلك تعبد بقوله: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ وإذا كان كذلك؛ فيكون ذلك منه توبة إلى اللَّه؛ ليحفظ عن مثله في أمر الدِّين.
● والثاني: أن يكون عليه حفظ دينه عما يقع فيه من التضييع الذي يبلى بإنساء الشيطان، أو بفرط غفلة، أو نحو ذلك؛ فيلزم جبر ذلك بما ذكر وإن لم يعلم؛ إذ قد يجوز وقوع النقصان في ذي الحرمات من وجه لا إثم يلحقه نحو المذكور في المتأذي، وفي أمر السهو في ذلك: فيؤمر به؛ لينجبر ذلك، وذلك نحو ما قد يفسد بأمور من وجه لا يعلم به، فكذلك أمر النقصان؛ فيؤمر بالتوبة إلى اللَّه عز وجل عن ذلك بما يمتحن اللَّه به من الأمور مع ما قد يتصل بالقتل ما له حكم الخطأ يأثم المرء عليه ويحرج؛ فجائز أن يرجع حرف التوبة من اللَّه إلى ذلك، وهو سمى خطأ العمد.
ب. والثاني: مما يدل على جعل الإيمان شرطًا: أنه جعل لما وقع في حق الدِّين من التضييع إذا تعلقت الحرمة بالدِّين من الوجه الذي بينا، ولا فرق بين عبادة يشار إليها يقع فيها تضييع في حد منها يبرئ تلك بكفارة وبين جملة من العبادات يعتقدها الإنسان وضمن الوفاء بما يقع في حد منها تضييع أن مقدار حدها من الفرض لا يعلمه إلا من يعلم حد التضييع من الأصل، ولا يعلم حده غير الذي جعل الحدود؛ فيكون في ذلك بيان المبرئ، وبدونه لعله لا ينجبر؛ فألزم بالاحتياط ذلك، وعلى ذلك أمر الحدود للإجرام.
ج. والثالث: متفق القول على موقع الشرط أنه بحق اللزوم، وعلى ذلك شرط في التتابع في الصيام له هذا المعنى والأول جميعًا، وعلى هذا الاتفاق جعل قوم أمر هذا أصلا لغيره من الكفارات، ونحن لا نجعلها؛ لوجهين:
• أَحَدُهما: لما لم يجعل ذكر التتابع في هذا أصلا لكل ما لم يذكر فيه التتابع.
• والثاني: لما بينا من محل كل من أصل ذلك أنه إنما يعلم من علم ما حد ذا من الأصل؟ ومعلوم الاختلاف في الكل؛ لذلك لم يجب هذا، لكن يطلق المطلق ويقيد المقيد بالذكر، وأيد ذلك أن اللَّه تعالى قد ذكر في كل قتل، ولو كان بالذي يحتمل درك الحد بالتدبير لكان ترك الذكر في هذا لإفهام الحكم في نوع المذكور أقرب منه في غير نوعه، فبين لوجهين:
● أحدهما: للتنبيه على لزوم الرجوع في هذا إلى الذكر.
● والثاني: للتنبيه أنه لم يجعل لمكان القتيل، لكن لما وقع في الدِّين من التضييع.
د. وجائز أن يكون شرط الإيمان بما سبق منه تضييع حد من الحدود الذي اقتضى إيجابه عليه الإيمان، فأمر بإعتاق من يسلم له الرقبة؛ لحفظ ما ألزمه حق الإيمان من الشغل عنه بحق الرق فيه لغيره.
هـ. ويجوز أن يكون إنما أبقيت به نفسه وهي مؤمنة لله تعالى، فأمر أن يشكر لله تعالى بإبقاء نفس مؤمنة؛ إذ بالعتق إحياء.
9. وعلى ما ذكر من اختلاف الحدود وما له حدود في حق الشرع لم يقس الطعام على الصيام عند العجز عنه، على ما قضى به في حق الظهار والفطر، مع ما في الظهار حق لها لم يكن له التأخير إلى القدرة عليه أو ملك الرقبة، وليس هاهنا، وأمر الفطر هو في بعض صيام قد جعل لأصله من الطعام عوضًا عرف حده بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ الآية، فعلى ذلك أمر عوض التعدي فيه، وليس في أمر القتل ذلك.
10. ودلت الآية بذكر الإيمان على أن له حدا يعرف موقعه، ثم الذي يبين فيها آية التصديق خاصة ما جمع بين المؤمن الذي يحتمل أن يكون منه سائر الشرائع، والذي لا يحتمل سوى نفس الإيمان: وهو المؤمن الذي من قوم عدو لنا؛ إذ قد يؤمن في دار الحرب بما في العقل دليله، ولا يعلم به غيره من العبادات التي لها حق الشرائع.
11. وقد يجوز أن يكون في الإبلاع في وصف ما يكفر به إبلاع في التحذير عن الغفلة التي لديها خوف وقوع ما ذكر، وعلى ما ذكرت من تضييع حق ألزمه دينه لزم التعوذ كل واحد منهم الكفارة على التمام؛ لما انفرد كل بما لزمه من الحق بدينه في التضييع؛ وعلى هذا قولهم في المحرمين يقتلون الصيد: إن كل واحد منهم جنى على إحرامه الذي لم يتصل إحرامه بإحرام غيره، على أن النفس إذ هي لا تحتمل التجزئة؛ لم يتجزأ المجعول لها، وعلى ذلك أمر القصاص، والدية، لم تجب في الحقيقة للنفس؛ إذ هي قد تجب لما دونها فيما يحتمل التجزئة أكثر مما يجب للنفس، وإذا بلغت النفس فسقط بعض ما له منها حكم الوجوب، ولما هي ترجع إلى غير الجاني.
12. ومحال أخذ الكل ممن يرجع إليه بالكل بما يكون في طلب التخفيف الإجحاف وإهلاك الخلق، ولما كان حق النفس من حيث القتل في المال يختلف، ومن حيث القصاص والكفارة لا تثبت أن المرجع في هذين إلى أحوال في نفس القاتلين من دين يضيع حقه أو امتناع عن احتمال التجزئة أو إحياء أريد بالموضوع، ولو لم يجعل في الجماعة لذهب فائدة الإحياء؛ إذ الوجود بالآحاد غير فيبطل الإحياء في أبلغ أحوال الحاجة إليه، ثم إذا رجع أمر الكفارة إلى من تولى قتله وقد سبق عليه أمر الدية، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ بمعنى: عليه تحرير ما ذكر، وقد أوجب عليه، وعلى ذلك جميع ما في القرآن من الأمر على إثر الأسباب.
13. ثم نسق على ذلك بقوله: ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ فحقها أن تكون عليه والخبر الوارد عن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم في أمر العقل الذي توارثته الأمة إلى يومنا هذا، بل الأمم، حتى كان قد ظهر عن أمر الرسل السالفة بحق التواتر في المؤمنين بهم والمنكرين لهم؛ فكان ذلك بحق التعاون؛ ولذلك قال أصحابنا (2) في الذين لا عاقلة لهم: تجب الدية في أموالهم. وعلى ذلك فيما يظهر بأقاويلهم دون البينات وهو الحق؛ إذ فيما يجب فيه القصاص أنفسهم تتلف، فعلى ذلك الدية، والأصل في ذلك: أن معنى القصاص معقول أيد الذي ذكره اللَّه تعالى في القرآن من قوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، فلا معنى لصرف ذلك إلى غير المتولي؛ لما يذهب الحياة، وجائز شرع ذلك بحق العقل؛ لينزجر الناس به، ولتسلم لهم الحياة التي هي ألذ الأشياء؛ إذ بها تعرف اللذات كلها، وذلك المعنى ليس نفس القتيل أحق من غيره من أن يجعل القصاص لحقه، بل الأولى أن يجعل لا محالة للردع والزجر؛ مع ما كان معلومًا أن نفس القتيل لا تنتفع بالقصاص، بل إنما نفعها في أن يبقى؛ لخوف القصاص ممن يروم قتله؛ إشفاقًا على نفسه، وليس ذلك المعنى في أمر الدية بشيء، وإنما تُوجَبُ بعد الوفاة، ولم تجب من وجه يتولد منه الغضاضة والعداوة التي لديها سفك الدماء على حق تخصيص الدماء لما هي تجب بالخطأ من وجه يعلم عذر من منه ذلك، لكن اللَّه تعالى بفضله بما جعل للمتصلين معونة في حياته، وشرفا في كثرة الأقوام، ونباهة في الدنيا، مع ما يقع بها التناصر والتدافع الذي بمثله الدوام والقوام؛ فيعظم في مثله مصيبة العقل وبخاصة من وجه لعله تسبق إليهم الأفعال في التلبيس على أهله بالخطأ، وأن ذلك ليس بحق؛ فيخاف وقوع الشر بينهم والعداوة التي تولد الفساد؛ فجعل اللَّه ـ بمنهِ وفضله ـ لهم ما تطيب بمثله أنفسهم، ويسكن المعنى الذي يخاف من حدوث الشر بينهم، مع ما له جعل ما للخلق له ابتداء المحنة بما ذكر بلا سبب يسبق، فهو بالسبب أحق، وإذا جعل بهذا من الوجه الذي له حق الابتداء، فله وضع ذلك في أموالهم، مَنَّ بإبقاء نفس القاتل لهم ما ذكرت من المنافع على ما جعل في ذلك، وإن لم يرجع منفعة الواجب في ذلك إلى القتيل بما لا يعلم أنه يقتل؛ ليجعل ذلك لوجه يتزود به لمعاده، وإن حرم ذلك في دنياه؛ فيصير المجعول في ذلك فيمن لهم وعليهم بالذي ذكرت من دفع الفساد، والقيام بحق الإحسان.
14. ثم الأصل في إتلاف الأموال: أن منافعها عند القيام ومضارها عند الإتلاف ترجع إلى أربابها خاصة، والأنفس يرجع ما لها في ذلك إلى العشائر والمتصلين؛ فعلى ذلك المجعول فيها مع ما كانت الأموال تملك؛ فيصير من ضمنه كأنه اشتراه، وكل مشترى بالتسليم إليه الخروج منه؛ فلا يحتمل أن يضمن من لم يكن منه الجناية لما يسقط لو ضمن بعقد التسليم، ولا على ذلك أمر جنابات الأنفس؛ فجائز في حق الشرع الموضوع على غير من يتولى الخروج؛ إذ على غير التسليم إلى أحد يستوجب بدله.
15. ثم وقوع الخطأ يكون من وجهين:
أ. أحدهما: من جهة دينه: نحو أن ظنه القاتل كافرًا بما كان عرفه كذلك، أو بما عليه سيماء الكفرة.
ب. ومن جهة نفسه في أن يرمي غيره فيصيبه، والحكم في وجهي الخطأ واحد.
ج. والخطأ الثالث، وهو الذي لم يقتضه حق هذه الآية، وهو عند الضرب قد يقع ذلك فيما أخطأ الدِّين وفيما تعمد أو النفس جميعًا.
16. وقوله عز وجل: ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ لم يبين من أهله؛ وقال في موضع آخر: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾، ولم يبين من وليه؟ فكأن الأهل والولي هم ورثته، على ما جاء في الخبر: أنه ورَّث امرأة أَشْيَم من دية زوجها، وإن كانت الدية لأهل العصبة منهم من قتل، ولأن هذه الدية إنما وجبت لمكان ما لهم من المنافع من القتيل في حال حياته، دون غيرهم فإذا قتل فذهب منافعه عنهم، أوجب ذلك لهم؛ لأنهم هم المنتفعون في حياته دون غيرهم:
أ. وقيل: إن القتل يوجب الضغائن فيما بين أولياء القتيل وأولياء القاتل؛ فيحمل ذلك على الفساد والإهلاك، فإذًا وجبت هذه الدية لتطيب أنفسهم بذلك، ولا يحمل ذلك على الضغائن والحقد.
ب. وقيل: أوجبت هذه الدية؛ لئلا يدعي الخطأ؛ فيسقط القصاص عن نفسه بدعوى الخطأ؛ فأوجب الدية لما إذا ادعى الخطأ ـ أخذ بالدية.
17. وقد ذكرنا أن الخطأ على وجهين:
أ. وهو أن يقصد شيئًا، فيصيب إنسانًا، فهو خطأ؛ لأنه أصاب غير الذي قصده بالضربة.
ب. والثاني: خطأ الدين، وهو إن عرفه كافرًا، فقتله على ذلك، قاصدا له، فهو خطأ.
ج. وللخطأ وجه آخر: وهو أن يضرب الرجلُ الرجل قاصدًا لذلك؛ بغير حديدة، فإن كان الذي ضربه به حجرًا صغيرًا، أو عصًا صغيرة، فحكمه حكم الخطأ، وإن كان حجرًا كبيرًا مثله يَقْتُل، أو عصًا عظيمة ـ فإن أصحابنا رحمهم الله اختلفوا في ذلك، قال أبو حنيفة: لا قود في ذلك، وعلى عاقلته الدية مغلظة، وقال مُحَمَّد: يقتل به إذا كان مِنْ مِثْلِهِ لَا يُنْجَى، وقد رُوي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يبين أن العمد ما كان بحديد؛ فهو حجة لأبي حنيفة في الحجر العظيم؛ ودليل على أن القصد بالضرب قد يكون خطأ، وروي عن النعمان بن بشير، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (كُلُّ شَيءٍ خَطَأٌ إِلا الحَديدَ والسيفَ) وسنذكر هذه المسألة في باب شبه العمد، إن شاء اللَّه تعالى.
18. ثم أجمع أهل العلم على أن الرقبة على القاتل، لا على العاقلة، وأما الدية فلم يذكر على من تجب:
أ. فقال أكثر السلف: الدية تجب على العاقلة، وعلى ذلك تواترت الآثار عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقال بعض الناس: الدية ـ أيضًا ـ على القاتل كالرقبة؛ فيقال له: إن الصيام بدل عن الدية، أو عن العتق؛ فإن قال: لا، بل بدل عن العتق؛ قيل له: فذلك يدل على أن الذي يجب على القاتل هو العتق؛ الذي إن لم يجده صام مكانه، ويدل على أن الدية ليست عليه، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه جعل الدية على العاقلة: عن مقسم عن ابن عَبَّاسٍ قال: كتب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كتابًا بين المهاجرين والأنصار: أن يعقلوا معاقلهم، ويفدوا غائبهم بالمعروف، والإصلاح بين المسلمين، وعن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى في الجنين: عبدًا أو أمة على العاقلة. والتي ضربت ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها، فقضى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بديتها على عصبة القاتلة، وفيما في بطنها غرة، فقال أعرابي: يا نبي اللَّه، أتغرمني من لا طعم، ولا شرب، ولا صاح ولا استهل، فمثل ذلك يطلّ. فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرابِ!؟ اغْرَمْ؛ فَإِنَّ الديَةَ عَلَى العَاقِلَةِ، والميراثَ لِأهْلِ الفَرائِضِ) وعمود الفسطاط مما يقتل مثله، ولم يوجب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على التي ضربت ضرتها به فقتلتها القصاصَ؛ فذلك حجة لأبي حنيفة في قوله: إن الخشبة العظيمة والصغيرة سواء، ولا قصاص فيه، والأخبار فيه كثيرة.
19. وقوله عز وجل أيضا ـ: ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ ذكر مسلمة إلى أهله؛ على الحث والترغيب في التسليم، والنهي عن التعاسر الذي عنه توهم حدوث الشر والفساد الذي يوقع مثله جعل العوض في قتل الخطأ، وعلى ذلك قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾، وقد بينا من يسلم، ثم بين التسليم إلى أهل القتيل، ولم يبين مَنْ أهله؟ وقد أجمع السلفُ على أن أهله: ورثته، والأصل في ذلك: أن الدية جُعلت بدلا لنفس القتيل؛ فتصير متروكة عنه، وعلى ذلك لو كانت منه الوصايا أو عليه دين ينفذ منها، فصارت فيما قال اللَّه تعالى: ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ﴾، الآيات التي فيها بيان من يرث من بعد الوصية والدَّين، فذلك لهم؛ فيصير أهله بعد وفاته من ينتفع بتركته؛ إذ كذلك وصف الأهل في الحياة أنه يرجع إلى المتصلين به، وبمنافعه مع ما كان اسم الأهل في الزوجة غير ممتنع استعماله على كل حال؛ فيجب دخولها في ذلك، وغيرها من الورثة أحق، وقد روي في مثل ذلك مرفوعًا في توريث امرأة أَشْيَم الضَّبَّابي، وعمل به عمر بحضرة الصحابة والذين لهم سائر الولايات سوى ولاية الميراث مع ولاية الميراث أحق.
20. وقوله عز وجل: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ فالثنيا من الدية؛ لأنه لا حق لأحد في العتق حتى يحتمل التصدق، وهو كقوله تعالى في القصاص: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾، وذكر التصدق على ما عليه الترغيب في الديون من قوله: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، ثم الأصل: أن التصدق من المعروف إلى ذوي الحاجات، والعقل إنما وضع أصله على الأغنياء، لكن يخرج على وجهين:
أ. أحدهما: أن الآية جاءت بذكر القاتل، ووجود الدية المسلمة كلها لكل قاتل عسير؛ فكان الترغيب على ذلك.
ب. والثاني: أنه معروف في الديون، وكذلك حكم الصدقات؛ إذ لا يقع له الثواب في الدنيا ربما يقع لغير المعروفين؛ فيكون فعلهم ـ في الحقيقة ـ للَّهِ، لا لابتغاء الجزاء، فسمي صدقة؛ إذ هو اسم لما يقع من المعروف للَّهِ مع ما يتمكن في ذلك أن العقل ليس شرطه الغناء الذي له يجب الزكوات، وغير ذلك النوع من الغناء لا يخرج أهله عن احتمال الصدقة، بل جعل على أهل الديوان، وهم الذين أموالهم هي التي تخرج بحق العطايا يؤخذ لوقت الخروج، لا بعد الوقوع بالملك، وتمام شرط الغناء له، وفي هذا صرف الثنيا إلى الذي يلي من الكلام دون الذي تقدم، وحمله على بعض الكلام دون الكلام؛ ليعلم أن موقع الفهم عن الحكم على ما يقتضيه حق الحكمة دون الذي ينتهي إليه حق اللسان.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٢98
(2) يقصد الحنفية
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ هذه الآية نزلت في عباس بن ربيعة المخزومي فكان أخاً لأبي جهل لأمه قتله الحارث بن يزيد بن عامر بن لؤي لأنه كان يعرف عباساً مع أبي جهل قبل قتله بالحرة بعد هجرته إلى المدينة وهو لا يعلم بإسلامه.. وتفسير الآية: ما أذن الله لمؤمن أن يقتل مؤمناً ثم قال: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ أي أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ وليس مما جعل الله عز وجل له وهذا من الاستثناء المنقطع كما قال جرير: من البيض لم تطعن بعيداً ولم تطأ... على الأرض إلا ربط برد مرحل.. يعني ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ على ذيل البرد من الأرض.
2. ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ إذا كانت كبيرة فليس تجزي إلا أن تكون موحدة مصلية صائمة وإن كانت لم تبلغ أجزت لأن إيمانها صحيح ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ والدية مجملة أخذ بيانها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يجعل الله الرقبة تكفير للقاتل من ماله والدية بدلاً من نفس المقتول على عاقلته.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/190.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية على قولين:
أ. أحدهما: أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وكان أخا أبي جهل لأمه قتل الحارث بن زيد من بني عامر بن لؤي، لأنه كان يعذب عياشاً مع أبي جهل واختلف أين قتله، فقال عكرمة ومجاهد: قتله بالحرّة بعد هجرته إلى المدينة وهو لا يعلم بإسلامه، وقال السدي: قتله يوم الفتح وقد خرج من مكة وهو لا يعلم بإسلامه.
ب. الثاني: أنها نزلت في أبي الدرداء حين قتل رجلاً بالشعب فحمل عليه بالسيف، فقال: لا إله إلا الله، فبدر فضربه ثم وجد في نفسه فأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر له، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أّلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ) وهذا قول ابن زيد، فأنزل الله تعالى الآية الكريمة.
2. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ يعني وما أّذِنَ الله لمؤمن أن يقتل مؤمناً، ثم قال: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ يعني أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ وليس مما جعله الله له، وهذا من الاستثناء الذي يسميه أهل العربية: الاستثناء المنقطع، ومنه قول جرير:
çمن البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ … على الأرض إلاّ ريْط بُردٍ مرحّلِé
يعني ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد وليس البرد من الأرض.
3. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها لا يجزىء عتقها في الكفارة إلا أن تكون مؤمنة بالغة قد صلت وصامت، وهذا قول ابن عباس، والشعبي، والحسن، وقتادة، وإبراهيم.
ب. الثاني: أن الصغيرة المولودة من أبوين مسلمين تكون مؤمنة تجزىء في الكفارة، وهذا قول عطاء، والشافعي.
4. ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ في الدية وجهان:
أ. أحدهما: أنها مجملة أخذ بيانها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. والثاني: أنها معهودة تقدم العمل بها ثم توجه الخطاب إليها فجعل الله الرقبة تكفيراً للقاتل في ماله والدية بدلاً من نفس المقتول على عاقلته.
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥١٧)
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ معناه لم يأذن اللَّه، ولا أباح لمؤمن أن يقتل مؤمناً فيما عهده إليه، لأنه لو أباحه وأذن فيه ما كان خطأ، والتقدير إلا أن يقتله خطأ، فان حكمه هكذا على ما ذكر، فذهب إلى هذا قتادة وغيره.
2. اختلف في الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾:
أ. قيل: الاستثناء منقطع ـ في قول أكثر المفسرين ـ وتقديره إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن من خطأ، وليس ذلك مما جعل اللَّه له، ومثله قول الشاعر:
çمن البيض لم تظعن بعيداً ولم...تطأ على الأرض إلا ريط برد مرجلé
والمعنى لم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد، وليس ذيل البرد من الأرض، وقد ذكرنا لذلك نظائر فيما مضى، ولا نطول بإعادتها، وتقدير الآية: إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ وليس ذلك مما جعل اللَّه له.
ب. وقال قوم: الاستثناء متصل والمعنى: لم يكن للمؤمن أن يقتل متعمداً مؤمناً، ومتى قتله متعمداً لم يكن مؤمناً فان ذلك يخرجه من الايمان، ثم قال: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ ومعناه إن قتله له خطأ لا يخرجه من الايمان.
3. ثم أخبر تعالى بحكم من قتل من المؤمنين مؤمناً خطأ، فقال: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾، ومعناه فعليه تحرير رقبة مؤمنة، يعني مظهرة للايمان وظاهر ذلك يقتضي أن تكون بالغة ليحكم لها بالايمان وذلك في ماله خاصة.
4. ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ تؤديها عنه عاقلته إلى أولياء المقتول إلا أن يصدق أولياء المقتول حينئذ تسقط عنهم، وموضع (أن) من قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ نصب، لأن المعنى فعليه ذلك إلا أن يصدقوا.
5. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: إن الآية نزلت في عياش ابن أبي ربيعة المخزومي: أخي أبي جهل، لأنه كان أسلم، وكان قد قتل رجلا مسلماً بعد إسلامه، وهو لا يعلم بإسلامه، وهذا قول مجاهد، وابن جريج، وعكرمة، والسدي، وقالوا: المقتول هو الحارث بن يزيد بن أبي نبشية العامري، ولم يعلم أنه اسلم، وكان أحد من رده عن الهجرة، وكان يعذب عياشاً مع أبي جهل، قتله بالحرة بعد الهجرة، وقيل: قتله بعد الفتح وقد خرج من مكة وهو لا يعلم بإسلامه، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام.
ب. وقال ابن زيد: نزلت في رجل قتله أبو الدرداء، كان في سرية فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة، فوجد رجلا من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف فقال: لا إله إلا اللَّه! فبدر فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئاً فأتي رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر ذلك له، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألا شققت عن قلبه فقال: ما عسيت أن أجد! هل هو إلا دم أو ماء؟ فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه قال كيف بي يا رسول اللَّه؟ قال: فكيف بلا إله إلا اللَّه؟ قال فكيف بي يا رسول اللَّه؟ قال: وكيف بلا إله إلا اللَّه!؟ حتى تمنيت أن يكون ذلك اليوم مبتدأ إيماني، ثم نزلت هذه الآية
ج. والذي ينبغي أن يعول عليه ان ما تضمنته الآية حكم من قتل خطأ ويجوز في سبب نزول الآية كل واحد مما قيل.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾:
أ. قال ابن عباس، والشعبي، وابراهيم، والحسن، وقتادة: الرقبة المؤمنة لا تكون إلا بالغة قد آمنت وصامت وصلت، فأما الطفل فانه لا يجزي ولا الكافر.
ب. قال عطاء: كل رقبة ولدت في الإسلام فهي تجزي.
7. الأول أقوى، لأن المؤمن على الحقيقة لان يطلق إلا على بالغ عاقل مظهر للايمان ملتزم لوجوب الصوم والصلاة، إلا أنه لا خلاف أن المولود بين مؤمنين يحكم له بالايمان، فبهذا الإجماع ينبغي أن يجزي في كفارة قتل الخطأ، وأما الكافرة والمولود بين كافرين فانه لا يجزي بحال.
8. الدية المسلمة الى أهل القتيل هي المدفوعة إليهم موفرة غير منتقصة حقوق أهلها منها ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ معناه يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد لقرب مخرجها وفي قراءة أبي (إلا أن يتصدقوا)
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/290
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الخطأ خلاف الصواب، يقال منه: أخطأ، والخطأ: الذنب، يقال: أخطأ خَطَأً: أذنب، يقال: أخطأت عن الأمر، والخطأ يستعمل على وجهين: أحدهما: أن يقصد شيئًا فيصيب غيره، وأصله ما وقع من غير قصد إليه بعينه، والثاني: إذا أتى بذنب.
ب. القتل: نقض البنية التي يعقبها زهوق الروح، والقتل فيه موت، والموت لا قتل فيه، وفي القتل ثلاثة أشياء:
• انتقاض البنية بالجروح، وهو فعل العبد، وفيه القصاص، والدية، والكفارة.
• الثاني: خروج الروح، وهو النفس المتفرق في الأعضاء، وذلك مفوض إلى الملك، وقد أعطاهم الله آلة يتمكنون بها من إخراج ذلك من بدن الإنسان.
• الثالث: الموت وهو فعل الله تعالى لا يقدر عليه غيره، وهذا على قول من يقول: الموت معنى.
ومن قال: ليس بمعنى قال: هو إبطال الحياة، والقتل مصدر قتلت قتلاً، وقتلته قتلة السوء، ومَقَاتل الإنسان: المواضع التي إذا أصيبت قَتَلَتْهُ، والقِتْل بكسر القاف: العدو، وقَتَلْتُ الخمرَ بالماءِ: مزجته، كأنه قتله به.
ج. الحر خلاف العبد، وطين حر: لا رمل فيه، وحر الرجلُ يَحَرُّ، والتحرير تفعيل من الحرية، وهو إخراِج العبد من الرق إلى الحرية، يقال: حرره تحريرًا، نحو عظمه تعظيمًا، وحركه تحريكَا.
د. الدية: ما يُؤَدَّى عن القتيل، يقال: وَدَيْتُ القتيل: أَدَّيتُ دِيَتَهُ.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي حين قتل الحارث بن زيد العامري خطَأً، عن مجاهد وعكرمة والسدي، وذلك أن عياشًا أسلم قبل أن يهاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وخاف أهل مكة إظهار الإسلام، فخرج إلى المدينة، وتحصن في أطم من آطامها، فجزعت أمه من إسلامه، وأمرت ابنيها أبا جهل والحارث أن يأتياها به، وكانا أخويه لأمه، وحلفت لا يظلها سقف ولا تذوق طعامًا حتى يأتيا به أمه، فخرجا وحلفا له لا يصيبانه بمكروه، فنزل وشداه وجاءا به أمه موثقًا، فحلفت لا تحله من وثاقه حتى يكفر بالذي آمن به، فأعطاهم ما أرادوا، فأتاه الحارث بن زيد، وقال: يا عياش إن كان الذي كنت عليه هدى فقد تركته، وإن كان ضلالة فقد دخلت فيه، فغضب عياش وحلف إن لقيه خاليًا قتله، ثم أسلم عياش، وهاجر إلى المدينة، ولقي الحارث، وقد أسلم وعياش لا يعلم بإسلامه، فقتله، فأخبر بإسلامه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخبره به، فنزلت الآية.
ب. وقيل: كان الرجل يسلم ويأتي قومه وهم مشركون، فيغزوهم جيش من المسلمين، فيقتل الرجل فيمن يقتل، فنزلت الآية فيهم، عن عطاء.
ج. وقيل: نزلت في أبي الدرداء حين قتل الراعي خطأ، عن ابن زيد، وذلك أن أبا الدرداء كان في سرية، فعدل إلى شعب لحاجة له، فوجد رجلاً في غنمه، فحمل عليه بالسيف، فقال: لا إله إلا الله، فبدر فضربه، ثم جاء بغنمه إلى قومه، ثم وجد في نفسه شيئًا، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ألا شَقَقْتَ عن قلبه، وقد أخبرك بلسانه، فلم تصدقه)، وندم أبو الدرداء، فنزلت الآية.
3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: إنه تعالى فيما تقدم قبلها بين حال الكافر والمنافق، وأمره بقتلهم، وحرض عليهم، وبين حال المؤمن، وحظر قتله، وذكر في هذه الآية قتل المؤمن وما فيه، استثنى الخطأ، فأوجب فيه الدية، وصنف القتل ثلاثة أصناف، وبَيَّنَ حكم كل واحد، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: ذكر الكفار وأمر بقتالهم، ثم ذكر من كان بيننا وبينهم عهد، ومنع عن قتلهم، ثم ذكر من نافق وسلط على قتلهم، ثم بَيَّنَ قتل المؤمنين، وبالغ في الزجر عنه، واتصل به ذكر أحكامه عن دية وغيرها.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾:
أ. قيل: ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه، من عهد الله الذي عهد إليه، عن قتادة.
ب. وقيل: ما كان له سبب جواز قتله.
ج. وقيل: ما كان له كما ليس له.
5. إلّا ﴿أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾، أي ليس له قتل المؤمن ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ معنى: ولكن إن وقع القتل خطأ، وفي قوله تعالى: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ ثلاثة أقوال:
أ. الأول، قال بعضهم: إنه عطف، وليس باستثناء، و﴿إِلَّا﴾ بمعنى الواو، وتقديره: ما كان له أن يقتله عمدًا ولا خطَأً، ونظيره ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أي ولا للذين ظلموا، وقال الشاعر:
çمَا بِالْمَدينةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدةٍ... دَارُ الخليفةِ إلَّا دَارَ مَرْوَاناé
يعني: ولا دار مروان.
ب. الثاني: أنه استثناء صحيح كالاستثناء الحقيقي، متصل بما قبله، ثم اختلفوا في تقدير الكلام:
• فالأحسن ما قاله أبو هاشم: ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا فيبقى مؤمنًا، إلا أن يقتله خطأ، فيبقى حينئذ مؤمنا، والمراد أن قتل المؤمن للمؤمن يخرجه من كونه مؤمنًا إلا أن يكون خطأ، فلا يخرج من كونه مؤمنًا، وروي نحوه عن السدي.
• وقيل: تقديره: ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا عمدًا، فإن قتله عمدًا فقد أتى ما يستحق به الإثم، واسم الفسق، إلا أن يكون القتل خطَأً فلا يستحق ذلك، عن أبي علي.
• وقيل: تقديره: ليس قتل المؤمن بمتروك لا يقتص منه، إلا أن يكون قتله خطأ، عن الأصم، وذكر علي بن موسى القمي ـ رحمه الله ـ في تقديره: ليس له قتل المؤمن، إلا أن يتوهمه مشركًا في دار الحرب، فيقتله خطَأً.
ج. الثالث: أن الاستثناء منقطع من غير جنسه، بمعنى ﴿لَكِنِ﴾، ومعنى ﴿مَا كَانَ﴾: ما يحل له ويحرم عليه، وقد جاء نحوه في القرآن وأشعار العرب كثير، فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ واللمم ليس من الكبائر، وقال تعالى: ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وقال النابغة: (وَمَا بِالَّربْع مِنْ أَحَدٍ إِلَّا الأَوَارِيَّ)، وقال آخر:
çوَبلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ... إلا اليَعَافِيرُ وإلَّا العِيسُé
6. ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي فعليه تحرير رقبة مؤمنة، وهو أن يعتق عبدًا مؤمنًا أو أمة مؤمنة:
أ. وقيل: لا يجزي إلا البالغ، عن الحسن والشعبي والنخعي وقتادة، ويُروَى نحوه عن ابن عباس.
ب. وقيل: يجزي كل رقبة له حكم المسلم، عن عطاء وجماعة من الفقهاء، والاعتبار بما يظهر من الإيمان؛ لأن ما في القلب لا طريق لنا إليه، وهذا العتق كفارة، ويكون في ماله.
7. ﴿وَدِيَةٌ﴾ أي: وعليه دية، وتتحملها العاقلة في ثلاث سنين، وليس ذلك بعقوبة، ولكن مواساة من أهل نصرته وقرابته ﴿مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾:
أ. قيل: سالمة من النقص.
ب. وقيل: موفرة على أربابها.
ج. وقيل: مدفوعه إلى أوليائه.
8. ﴿إِلَى أَهْلِهِ﴾ يعني تدفع الدية إلى أهل القتيل، فتقسم بينهم على حسب الميراث ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ يعني إلا أن يتصدق أولياء القتيل بالدية على عاقلة القاتل، ويتركوها عليهم، ويعفوا.
9. تدل الآية الكريمة على المنع من قتل المؤمنين، ولا شبهة أنه إذا وقع عمدًا كان كبيرة، وقد ورد فيه الوعيد العظيم، فأما الخطأ فلا وعيد فيه، وإنما فيه الكفارة والدية.
10. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿تَحْرِيرُ﴾ رفع لأنه خبر ابتداء محذوف يدل الكلام عليه، أي عليه تحرير رقبة.
ب. ﴿ودية مُسَلَّمَة﴾: عطف على تحرير رقبة، ومسلمة صفة الدية.
ج. موضع ﴿أَنْ﴾ في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ نصب؛ لأن المعنى فعليه ذلك إلا أن يصدقوا، أي إلا على أن يصدقوا، ثم سقط ﴿عَلَى﴾، ويعمل فيه ما قبله على معنى الحال، وهو مصدر وقع موقع الحال.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/14
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الخطأ: خلاف الصواب، والفعل منه خطأ، وأخطأ في الامر: أي لم يصب الصواب، والخطأ والخطاء بالفتح فيهما، والخطأ والخطأة بالتسكين فيهما، والخاطئة: الذنب والفعل منه خطأ يخطأ: إذا أذنب.
ب. التحرير: تفعيل من الحرية، وهو اخراج العبد من الرق إلى الحرية.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، أخي أبي جهل لامه، لأنه كان أسلم، وقتل بعد إسلامه رجلا مسلما، وهو لا يعلم إسلامه، والمقتول: الحارث بن يزيد بن أنسة العامري، عن مجاهد، وعكرمة، والسدي، قال: قتله بالحرة بعد الهجرة، وكان من أحد من رده عن الهجرة، وكان يعذب عياشا مع أبي جهل، وهو المروي عن أبي جعفر.
ب. وقيل: نزلت في رجل قتله أبو الدرداء، كان في سرية، فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة، فوجد رجلا من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف، فقال: لا إله إلا الله، فبدر فضربه، ثم جاء بغنمه إلى القوم، ثم وجد في نفسه شيئا، فأتى رسول الله، فذكر ذلك له، فقال رسول الله: ألا شققت عن قلبه، وقد أخبرك بلسانه، فلم تصدقه!؟ قال: كيف بي يا رسول الله؟ فقال: فكيف بلا إله إلا الله؟ قال أبو الدرداء: فتمنيت أن ذلك اليوم مبتدأ إيماني، فنزلت الآية، عن ابن زيد.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾:
أ. قيل: معناه: ما أذن الله، ولا أباح لمؤمن، فيما عهد إليه، أن يقتل مؤمنا إلا أن يقتله خطأ، عن قتادة، وغيره.
ب. وقيل: معناه ما كان له كما ليس له الآن، قتل مؤمن، إلا أن يقع القتل خطأ.
ج. وقيل: تقديره وما كان مؤمن ليقتل مؤمنا، إلا خطأ كقوله: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ معناه: ما كان الله ليتخذ ولدا، وقوله: ﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾: أي ما كنتم لتنبتوا شجرها، وإنما قلنا: إن معناه ما ذكرنا، لان الله لا يلحقه الأمر والنهي، وإنبات الشجر لا يدخل تحت قدرة العبد، فلا يصح النهي عنه.
4. معنى الآية على ما وصفناه: ليس من صفة المؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، وعلى هذا يكون الاستثناء متصلا، ومن قال: إن الاستثناء منقطع، قال: قد تم الكلام عند قوله: ﴿أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾ ثم قال: فإن كان القتل خطأ، فحكمه كذا، وإنما لم يحمل قوله إلا خطأ على حقيقة الاستثناء، لان ذلك يؤدي إلى الامر بقتل الخطأ، أو إباحته، ولا يجوز واحد منهما.
5. الخطأ: هو أن يريد شيئا فيصيب غيره، مثل أن يرمي إلى غرض، أو إلى صيد، فيصيب إنسانا فيقتله، وكذلك لو قتل رجلا ظنه كافرا، كما ظن عياش بن أبي ربيعة، وأبو الدرداء، على ما قلناه قبل.
6. ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي: فعليه إعتاق رقبة مؤمنة في ماله، خاصة على وجه الكفارة، حقا لله، والرقبة المؤمنة:
أ. قيل: هي البالغة التي آمنت وصلت وصامت، فلا يجزي في كفارة القتل الطفل، ولا الكافر، عن ابن عباس، والشعبي، وإبراهيم، والحسن، وقتادة.
ب. وقيل: تجزي كل رقبة ولدت على الاسلام، عن عطاء.
ج. والأول أقوى، لان لفظ المؤمن لا يطلق إلا على البالغ الملتزم للفرائض، إلا أن من ولد بين مؤمنين، فلا خلاف أنه يحكم له بالايمان.
7. ﴿وَدِيَةٌ﴾ أي: وعليه وعلى عاقلته دية ﴿مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ أي: إلى أهل القتيل، والمسلمة: هي المدفوعة إليهم، موفرة غير منقصة حقوق أهلها منها، تدفع إلى أهل القتيل، والمسلمة: هي المدفوعة إليهم فتقسم بينهم على حسب حساب الميراث ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ يعني: إلا أن يتصدق أولياء القتيل بالدية على عاقلة القاتل، ويتركوها عليهم.
8. مسائل لغوية ونحوية:
أ. أجمع المحققون من النحويين على أن قوله: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ استثناء منقطع من الأول على معنى ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة، إلا أن يخطأ المؤمن، ومثله قول الشاعر:
çمن البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ... على الأرض إلا ريط برد مرجلé
ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ريط البرد، إذ ليس ريط البرد من الأرض، وقد مر ذكر ما قيل في مثله في سورة البقرة عند قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ وقال بعضهم: إن الاستثناء متصل، والمعنى لم يكن لمؤمن أن يقتل مؤمنا متعمدا، ومتى قتله متعمدا لم يكن مؤمنا، فإن ذلك يخرجه من الايمان، ثم قال: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾: أي فإن قتله له خطأ، لا يخرجه من الايمان.
ب. ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾: مبتدأ محذوف الخبر لدلالة الكلام عليه.
ج. موضع ﴿إِنَّ﴾ في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ نصب لان المعنى: فعليه ذلك إلا أن يصدقوا: أي إلا على أن يصدقوا، ثم تسقط على، ويعمل فيه ما قبله على معنى الحال، فهو مصدر وقع موقع الحال، وأصل يصدقوا: يتصدقوا، فأدغمت التاء في الصاد، لقرب مخرجهما، وقيل إن في قراءة أبي (إلا أن يتصدقوا توبة من الله) كقولهم فعلت ذلك حذر الشر، عن الزجاج، فيكون مفعولا له، وقيل: إنه بمعنى تاب الله بذلك عليكم توبة، فيكون مصدرا مثل كتاب الله عليكم، وقد مر ذكره.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/136.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنّ عيّاش بن أبي ربيعة أسلم بمكّة قبل هجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثمّ خاف أن يظهر إسلامه لقومه، فخرج إلى المدينة فقالت أمّه لابنيها أبي جهل، والحارث ابني هشام، وهما أخواه لأمّه: والله لا يظلّني سقف، ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتياني به، فخرجا في طلبه، ومعهما الحارث بن زيد، حتى أتوا عيّاشا وهو متحصّن في أطم، فقالوا له: انزل فإنّ أمّك لم يؤوها سقف، ولم تذق طعاما، ولا شرابا، ولك علينا أن لا نحول بينك وبين دينك، فنزل، فأوثقوه، وجلده كلّ واحد منهم مائة جلدة، فقدموا به على أمّه، فقالت: والله لا أحلّك من وثاقك حتى تكفر، فطرح موثقا في الشمس حتى أعطاهم ما أرادوا، فقال له الحارث بن زيد: يا عيّاش لئن كان ما كنت عليه هدى لقد تركته، وإن كان ضلالا لقد ركبته فغضب، وقال: والله لا ألقاك خاليا إلا قتلتك، ثم أفلت عيّاش بعد ذلك؛ وهاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة، ثم أسلم الحارث بعده وهاجر، ولم يعلم عيّاش، فلقيه يوما فقتله، فقيل له: إنه قد أسلم، فجاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره بما كان، وقال: لم أشعر بإسلامه، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن جبير، والسّدّيّ، والجمهور.
ب. الثاني: أنّ أبا الدّرداء قتل رجلا قال لا إله إلا الله في بعض السّرايا، ثم أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكر له ما صنع، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن زيد.
2. قال الزجّاج: معنى الآية: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتّة، والاستثناء ليس من الأوّل، وإنما المعنى: إلا أن يخطئ المؤمن، روى أبو عبيدة، عن يونس: أنه سأل رؤبة عن هذه الآية، فقال: ليس له أن يقتله عمدا ولا خطأ، ولكنّه أقام (إلا) مقام (الواو) قال الشاعر:
çوكلّ أخ مفارقه أخوه...لعمر أبيك إلّا الفرقدانé
أراد: والفرقدان، وقال بعض أهل المعاني: تقدير الآية: لكن قد يقتله خطأ، وليس ذلك فيما جعل الله له، لأن الخطأ لا تصح فيه الإباحة، ولا النّهي، وقيل: إنما وقع الاستثناء على ما تضمّنته الآية من استحقاق الإثم، وإيجاب القتل.
3. ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ قال سعيد بن جبير: عتق الرّقبة واجب على القاتل في ماله، واختلفوا في عتق الغلام الذي لا يصح منه فعل الصّلاة والصّيام، فروي عن أحمد جوازه، وكذلك روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهذا قول عطاء، ومجاهد، وروي عن أحمد: لا يجزئ إلا من صام وصلّى، وهو قول ابن عباس في رواية، والحسن، والشّعبيّ، وإبراهيم، وقتادة.
4. ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ قال القاضي أبو يعلى: ليس في هذه الآية بيان من تلزمه هذه الدّية، واتّفق الفقهاء على أنها عاقلة القاتل، تحملها عنه على طريق المواساة، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين، كلّ سنة ثلثها، والعاقلة: العصبات من ذوي الأنساب، ولا يلزم الجاني منها شيء، وقال أبو حنيفة: هو كواحد من العاقلة، وللنّفس ستة أبدال: من الذّهب ألف دينار، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم، ومن الإبل مائة، ومن البقرة مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، وفي الحلل روايتان عن أحمد، إحداهما: أنها أصل، فتكون مائتا حلّة، فهذه دية الذّكر الحرّ المسلم، ودية الحرّة المسلمة على النّصف من ذلك.
5. ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ قال سعيد بن جبير: إلا أن يتصدّق أولياء المقتول بالدّية على القاتل.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/448
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما رغب الله تعالى في مقاتلة الكفار، وحرض عليها ذكر بعد ذلك بعض ما يتعلق بهذه المحاربة، فمنها أنه تعالى لما أذن في قتل الكفار فلا شك أنه قد يتفق أن يرى الرجل رجلا يظنه كافرا حربيا فيقتله، ثم يتبين انه كان مسلما، فذكر اللَّه تعالى حكم هذه الواقعة في هذه الآية.
2. ذكروا في سبب النزول وجوها:
أ. الأول: روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان كان مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار، فأخذوه وضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول: انه أبي فلم يفهموا قوله إلا بعد أن قتلوه، فقال حذيفة: يغفر اللَّه لكم وهو أرحم الراحمين، فلما سمع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك ازداد وقع حذيفة عنده، فنزلت هذه الآية.
ب. الثاني: أن الآية نزلت في أبي الدرداء، وذلك لأنه كان في سرية فعدل إلى شعب لحاجة له فوجد رجلا في غنم له فحمل عليه بالسيف، فقال الرجل: لا إله إلا اللَّه، فقتله وساق غنمه ثم وجد في نفسه شيئا، فذكر الواقعة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (هلا شققت عن قلبه) وندم أبو الدرداء فنزلت الآية.
ج. الثالث: روي أن عياش بن أبي ربيعة، وكان أخا لأبي جهل من أمه، أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة، وذلك قبل هجرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع، فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه وطولا في الأحاديث، فقال أبو جهل: أليس أن محمدا يأمرك ببر الأم فانصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك فرجع، فلما دنوا من مكة قيدوا يديه ورجليه، وجلده أبو جهل مائة جلدة، وجلده الحرث مائة أخرى، فقال للحرث: هذا أخي فمن أنت يا حرث، للَّه علي إن وجدتك خالي أن أقتلك، وروي أن الحرث قال لعياش حين رجع: ان كان دينك الأول هدى فقد تركته وان كان ضلالا فقد دخلت الآن فيه، فشق ذلك على عياش وحلف أن يقتله، فلما دخل على أمه حلفت أمه لا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول ففعل، ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحرث أيضا وهاجر، فلقيه عياش خاليا ولم يشعر بإسلامه فقتله، فلما أخبر بأنه كان مسلما ندم على فعله وأتى رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه، فنزلت هذه الآية.
3. في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ﴾ وجهان:
أ. الأول: أي وما كان فيما أتاه من ربه وعهد إليه.
ب. الثاني: ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك، والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف.
4. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ قولان:
أ. الأول: أنه استثناء متصل، والذاهبون إلى هذا القول ذكروا وجوها:
• الأول: ان هذا الاستثناء ورد على طريق المعنى، لأن قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ معناه أنه يؤاخذ الإنسان على القتل إلا إذا كان القتل قتل خطأ فانه لا يؤاخذ به.
• الثاني: أن الاستثناء صحيح أيضا على ظاهر اللفظ، والمعنى أنه ليس لمؤمن أن يقتل مؤمنا ألبتة إلا عند الخطأ وهو ما إذا رأى عليه شعار الكفار، أو وجده في عسكرهم فظنه مشركا، فههنا يجوز قتله، ولا شك أن هذا خطأ، فانه ظن أنه كافر مع أنه ما كان كافر.
• الثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، والتقدير: وما كان مؤمن ليقتل مؤمنا إلا خطأ، ومثله قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ [مريم: 35] تأويله: ما كان اللَّه ليتخذ من ولد، لأنه تعالى لا يحرم عليه شيء، إنما ينفي عنه ما لا يليق به، وأيضا قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾ [النمل: 60] معناه ما كنتم لتنبتوا، لأنه تعالى لم يحرم عليهم أن ينبتوا الشجر، إنما نفى عنهم أن يمكنهم إنباتها، فانه تعالى هو القادر على إنبات الشجر.
• الرابع: أن وجه الأشكال في حمل هذا الاستثناء على الاستثناء المتصل، وهو أن يقال: الاستثناء من النفي إثبات، وهذا يقتضي الإطلاق في قتل المؤمن في بعض الأحوال، وذلك محال، إلا أن هذا الأشكال إنما يلزم إذا سلمنا أن الاستثناء من النفي إثبات، وذلك مختلف فيه بين الأصوليين، والصحيح أنه لا يقتضيه لأن الاستثناء يقتضي صرف الحكم عن المستثنى لا صرف المحكوم به عنه، وإذا كان تأثير الاستثناء في صرف الحكم فقط بقي المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالإثبات، وحينئذ يندفع الأشكال، ومما يدل على أن الاستثناء من النفي ليس بإثبات قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا صلاة الا بطهور ولا نكاح الا بولي) ويقال: لا ملك الا بالرجال ولا رجال الا بالمال، والاستثناء في جملة هذه الصور لا يفيد أن يكون الحكم المستثنى من النفي إثباتا.
• الخامس: قال أبو هاشم وهو أحد رؤساء المعتزلة: تقدير الآية: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيبقى مؤمنا، الا أن يقتله خطأ فيبقى حينئذ مؤمنا، قال: والمراد أن قتل المؤمن للمؤمن يخرجه عن كونه مؤمنا، الا أن يكون خطأ فانه لا يخرجه عن كونه مؤمنا، واعلم أن هذا الكلام بناء على أن الفاسق ليس بمؤمن، وهو أصل باطل،.
ب. الثاني: أن هذا الاستثناء منقطع بمعنى لكن، ونظيره في القرآن كثير، قال تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً﴾ [النساء: 29] وقال: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ [النجم: 53] وقال: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا﴾ [الواقعة: 25، 26]
5. في انتصاب قوله تعالى: ﴿خَطَأً﴾ وجوه:
أ. الأول: أنه مفعوله له، والتقدير ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل، إلا لكونه خطأ.
ب. الثاني: أنه حال، والتقدير: لا يقتله ألبتة إلا حال كونه خطأ.
ج. الثالث: أنه صفة للمصدر والتقدير: إلا قتلا خطأ.
﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾:
أ. قال الشافعي: القتل على ثلاثة أقسام: عمد، وخطأ، وشبه عمد:
• أما العمد: فهو أن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان ذلك جارحا أو لم يكن، وهذا قول الشافعي.
• وأما الخطأ فضربان: أحدهما: أن يقصد رمي المشرك أو الطائر فأصاب مسلما، والثاني: أن يظنه مشركا بأن كان عليه شعار الكفار، والأول خطأ في الفعل، والثاني خطأ في القصد.
• أما شبه العمد: فهو أن يضربه بعصا خفيفة لا تقتل غالبا فيموت منه، قال الشافعي: هذا خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب.
ب. قال أبو حنيفة: القتل بالمثقل ليس بعمد محض، بل هو خطأ وشبه عمد، فيكون داخلا تحت هذه الآية فتجب فيه الدية والكفارة، ولا يجب فيه القصاص، وقال الشافعي: إنه عمد محض يجب فيه القصاص، أما بيان أنه قتل فيدل عليه القرآن والخبر:
• أما القرآن فهو أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه وكز القبطي فقضى عليه، ثم إن ذلك الواكز يسمى بالقتل، بدليل أنه حكى أن القبطي قال في اليوم الثاني: ﴿أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ﴾ [القصص: 19] وكان الصادر عن موسى عليه السلام بالأمس ليس إلا الوكز، فثبت أن القبطي سماه قتلا، وأيضا ان موسى صلوات اللَّه عليه سماه قتلا حيث قال: ﴿رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ [القصص: 33] وأجمع المفسرون على أن المراد منه قتل ذلك القبطي بذلك الوكز، وأيضا ان اللَّه تعالى سماه قتلا حيث قال: ﴿وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ [طه: 40] فثبت أن الوكز قتل بقول القبطي وبقول موسى وبقول اللَّه تعالى، وأما الخبر فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل) فسماه قتلا، فثبت بهذين الدليلين أنه حصل القتل، وأما أنه عمد فالشاك فيه داخل في السفسطة فان من ضرب رأس إنسان بحجر الرحا، أو صلبه أو غرقه، أو خنقه ثم قال: ما قصدت به قتله كان ذلك إما كاذبا أو مجنونا، وأما أنه عدوان فلا ينازع فيه مسلم، فثبت أنه قتل عمد عدوان، فوجب أن يجب القصاص بالنص والمعقول.
• أما النص: فهو جميع الآيات الدالة على وجوب القصاص، كقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: 178] ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45] ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: 33] ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40] ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]
• وأما المعقول: فهو أن المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الإهدار، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: 179] وإذا كان المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الإهدار، والإهدار من المثقل كهو في المحدد كانت الحاجة إلى شرع الزاجر في إحدى الصورتين كالحاجة إليه في الصورة الأخرى، ولا تفاوت بين الصورتين في نفس الإهدار، إنما التفاوت حاصل في آلة الإهدار، والعلم الضروري حاصل بأن ذلك غير معتبر، والكلام في الفقهيات إذا وصل إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في التحقيق لمن ترك التقليد.
6. احتج الحنفية بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل)، وهو عام سواء كان السوط والعصا صغيرا أو كبيرا، والجواب: أن قوله: (قتيل الخطأ) يدل على أنه لا بد وأن يكون معنى الخطأ حاصلا فيه، وقد بينا أن من خنق إنسانا أو ضرب رأسه بحجر الرحا، ثم قال: ما كنت أقصد قتله، فان كل عاقل ببديهة عقله يعلم أنه كاذب في هذا المقال، فوجب حمل هذا الضرب على الضرب بالعصا الصغيرة حتى يبقى معنى الخطأ فيه.
7. اختلف في القتل العمد، وهل يوجب الكفارة:
أ. قال أبو حنيفة: القتل العمد لا يوجب الكفارة.. واحتج بهذه الآية، فقال قوله: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ شرط لوجوب الكفارة وعند انتفاء الشرط لا يحصل المشروط.
ب. وقال الشافعي: يوجب، ذلك أنه تعالى قال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 25] فقوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ﴾ ما كان شرطا لجواز نكاح الأمة على قولكم، فكذلك هاهنا، ثم نقول: الذي يدل على وجوب الكفارة في القتل العمد الخبر والقياس:
• أما الخبر فهو ما روى واثلة ابن الأسقع قال: أتينا رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم في صاحب لنا أوجب النار بالقتل، فقال: أعتقوا عنه يعتق اللَّه بكل عضو منه عضوا منه من النار.
• وأما القياس: فهو أن الغرض من إعتاق العبد هو أن يعتقه اللَّه من النار، والحاجة إلى هذا المعنى في القتل العمد أتم، فكانت الحاجة فيه إلى إيجاب الكفارة أتم.
• وذكر الشافعي حجة أخرى من قياس الشبه فقال: لما وجبت الكفارة في قتل الصيد في الإحرام سوينا بين العامد وبين الخاطئ إلا في الإثم، فكذا في قتل المؤمن، ولهذا الكلام تأكيد آخر وهو أن يقال: نص اللَّه تعالى هناك في العامد، وأوجبنا على الخاطئ فههنا نص على الخاطئ، فبأن نوجبه على العامد مع أن احتياج العامد إلى الاعتاق المخلص له عن النار أشد كان ذلك أولى.
8. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالدية، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.
9. اختلف في وجوب الدية على القاتل:
أ. قال أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج: الدية واجبة على القاتل، ويدل عليه وجوه:
• الأول: أن قوله: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ لا شك أنه إيجاب لهذا التحرير، والإيجاب لا بد فيه من شخص يجب عليه ذلك الفعل، والمذكور قبل هذه الآية هو القاتل، وهو قوله: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ فهذا الترتيب يوجب القطع بأن هذا التحرير إنما أوجبه اللَّه تعالى عليه لا على غيره.
• الثاني: أن هذه الجناية صدرت منه، والمعقول هو أن الضمان لا يجب إلا على المتلف، أقصى ما في الباب أن هذا الفعل صدر عنه على سبيل الخطأ، ولكن الفعل الخطأ قائم في قيم المتلفات وأروش الجنايات، مع أن تلك الضمانات لا تجب إلى على المتلف، فكذا هاهنا.
• الثالث: أنه تعالى أوجب في هذه الآية شيئين: تحرير الرقبة المؤمنة، وتسليم الدية الكاملة، ثم انعقد الإجماع على أن التحرير واجب على الجاني، فكذا الدية يجب أن تكون واجبة على القاتل، ضرورة أن اللفظ واحد في الموضعين.
• الرابع: أن العاقلة لم يصدر عنهم جناية ولا ما يشبه الجناية، فوجب أن لا يلزمهم شيء للقرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى:﴿لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: 164]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا﴾ [الأنعام: 164] وقال: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286] وأما الخبر فما روي أن أبا رمثة دخل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعه ابنه فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: من هذا فقال ابني، قال انه لا يجني عليك ولا تجني عليه، ومعلوم أنه ليس المقصود منه الاخبار عن نفس الجناية إنما المقصود بيان أن أثر جنايتك لا يتعدى إلى ولدك وبالعكس، وكل ذلك يدل على أن إيجاب الدية على الجاني أولى من إيجابها على الغير.
• الخامس: أن النصوص تدل على أن مال الإنسان معصوم وأنه لا سبيل لأحد أن يأخذه منه، قال تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً﴾ [النساء: 29] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كل امرئ أحق بكسبه) وقال: (حرمة مال المسلم كحرمة دمه) وقال: (لا يحل مال المسلم إلا بطيبة من نفسه) تركنا العمل بهذه العمومات في الأشياء التي عرفنا بنص القرآن كونها موجبة لجواز الأخذ كما قلنا في الزكوات، وكما قلنا في أخذ الضمانات، وأما في إيجاب الدية على العاقلة فالمعتمد فيه على خبر الواحد، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز، لأن القرآن معلوم، وخبر الواحد مظنون، وتقديم المظنون على المعلوم غير جائز، ولأن هذا خبر واحد ورد/ فيما تعم به البلوى فيرد، ولأنه خبر واحد ورد على مخالفة جميع أصول الشرائع، فوجب رده.
10. أما الفقهاء فقد تمسكوا فيه بالخبر والأثر والآية:
أ. أما الخبر: فما روى المغيرة أن امرأة ضربت بطن امرأة أخرى فألقت جنينا ميتا، فقضى رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم على عاقلة الضاربة بالغرة، فقام حمل بن مالك فقال: كيف ندى من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهل، ومثل ذلك بطل، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: هذا من سجع الجاهلية.
ب. وأما الأثر: فهو أن عمر قضى على علي بأن يعقل عن مولى صفية بنت عبد المطلب حين جنى مولاها، وعلي كان ابن أخي صفية، وقضى للزبير بميراثها، فهذا يدل على أن الدية إنما تجب على العاقلة.
11. اختلف في دية المرأة:
أ. مذهب أكثر الفقهاء أن دية المرأة نصف دية الرجل.. حجة الفقهاء أن عليا وعمر وابن مسعود قضوا بذلك، ولأن المرأة في الميراث والشهادة على النصف من الرجل، فكذلك في الدية.
ب. وقال الأصم وابن عطية: ديتها مثل دية الرجل.. وحجة الأصم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ وأجمعوا على أن هذه الآية دخل فيها حكم الرجل والمرأة، فوجب أن يكون الحكم فيها ثابتا بالسوية.
12. ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ معناه فعليه تحرير رقبة، والتحرير عبارة عن جعله حرا، والحر هو الخالص، ولما كان الإنسان في أصل الخلقة خلق ليكون مالكا للأشياء كما قال تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29] فكونه مملوكا يكون صفة تكدر مقتضى الانسانية وتشوشها، فلا جرم سميت إزالة الملك تحريرا، أي تخليصا لذلك الإنسان عما يكدر إنسانيته، والرقبة عبارة عن النسمة كما قد يجعل الرأس أيضا عبارة عن نسمة في قولهم: فلان يملك كذا رأسا من الرقيق، والمراد برقبة مؤمنة كل رقبة كانت على حكم الإسلام عند الفقهاء، وعند ابن عباس لا تجزي إلا رقبة قد صلت وصامت، وقد ذكرنا هذه المسألة.
13. ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ قال الواحدي: الدية من الودي كالشية من الوشي، والأصل ودية فحذفت الواو يقال: ودى فلان فلانا، أي أدى ديته إلى وليه، ثم ان الشرع خصص هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس دون ما يؤدى في بدل المتلفات، ودون ما يؤدى في بدل الأطراف والأعضاء.
14. ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ أصله يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد، ومعنى التصدق الإعطاء قال اللَّه تعالى: ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ [يوسف: 88] والمعنى: إلا أن يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية، قال صاحب (الكشاف): وتقدير الآية، ويجب عليه الدية وتسليمها إلى حين يتصدقون عليه، وعلى هذا فقوله: ﴿أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ في محل النصب على الظرف، ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى إلا متصدقين.
__________
(1) التفسير الكبير: 10/175
ابن حمزة:
ذكر الإمام عبد الله بن حمزة (ت 614 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾: هل (إلا) هنا بمعنى: (ولا)؛ فكيف يصح أن يقال فيه: له أن يفعله أو ليس له أن يفعله؟ وإن كانت (إلا) حرف استثناء؛ فكيف يصح الاستثناء لشيء لم يدخل تحت المستثنى منه؟ وما معنى قوله في آخر الآية ﴿تَوْبَةً مِنَ اللهِ﴾؟ والجواب: الكلام في ذلك، ومن الله نستمد التوفيق والمعونة:
أ. أن الله تعالى أخبرنا بمصالح ديننا، ومراشد أمرنا، وبين لنا الأحكام، وبين الحلال من الحرام، فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾، فنفى جواز قتل المؤمن، وأكد حرمته من المؤمن؛ لاشتراكهما في الإيمان والأخوة الدينية، وإن كان الكافر لا يجوز له قتل المؤمن أيضا، وإنما خص المؤمن بالذكر؛ ليعظم حرمة الإيمان، العاصمة لمن عقلها عن ارتكاب العظائم، واقتراف المآثم.
ب. ثم قال تعالى: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾، فاستثنى من القتل لا من الجواز، ومعلوم أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ، وهما في حالة الإيمان على سواء؛ فالاستثناء مما يمكن وقوعه، ومعلوم أن ذلك لا يمتنع ولا يستحيل؛ بل قد وقع، وقد أخرج الاستثناء بعض ما يصح؛ لأن القتل على نوعين، فحظر على المؤمن أحدهما، وعقبه بالوعيد، وجرى الثاني مجرى المباح؛ لخروجه عن باب التكليف؛ لأن الله تعالى لا يجوز أن يكلف عبده ما لا يعلم؛ لأن ذلك قبيح، والله لا يفعل، ووكده تعالى بالتوبة في آخر الآية؛ قابل به توبة العبد، فحد اللفظ باللفظ، وأصل التوبة الرجوع، ثم صار بالعرف رجوعا مخصوصا، ثم نقله الشرع الشريف ـ على مقتضى الأصول ـ إلى: الندم على ما ارتكب من المعاصي، والعزم أن لا يعود إليها؛ لأجل قبحها، وهي من من الله على من تاب، وفي القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12]، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [التوبة: 118]، رجع إليهم ليرجعوا، وقوله: ﴿تَوْبَةً﴾ ـ والله أعلم ـ: رجعة.
ج. أما الآية في سورة النساء فقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾، وليس للمؤمن قتل المؤمن خطأ ولا غير خطأ، فمعنى الآية: أن قتل المؤمن حرام على المؤمن، وإن قتله خطأ، فكأن الاستثناء لزوال الإثم لا غير؛ فمعنى الآية والله أعلم: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا ويجب به القود، إلا أن يقتله خطأ، ثم بين تعالى حكم قاتل الخطأ، فقال: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: 92]، قال: فسماه عز وجل مؤمنا، مع أنه من قوم عدو لنا، وأوجب على قتله الكفارة دون الدية، وهذا إذا قتله وهو يظن أنه كافر)، إلى آخر قوله: (ولا شك أن حكمه ذلك)، فإن كان المؤمن المقتول خطأ من قوم مؤمنين دفعت الدية إلى أهله، وإن كان من قوم عدو لنا وهم الكفار فعلينا فيه تحرير رقبة، ولا دية؛ لأن أهله لا يستحقون علينا الدم؛ لمكان جرمهم؛ والتعليل: أنه قتل وهو يظن أنه كافر، فقتل الخطأ لا تنحصر صوره؛ ولكن حكمه هذا متى وقع.. فأما قوله: (ولا يعقل من هذا إلا أنه مؤمن بين كفار؛ إذ لو كان مؤمنا بين مؤمنين لوجب على من قتله القصاص إن كان القتل عمدا، أو الدية والكفارة إن كان خطأ بالإجماع، وهذا مقصود إيراده، وما بعده فرع عليه)، والكلام في ذلك: أما قوله: (إنه لا يعقل إلا أنه مؤمن بين كفار)، فهذا لا يتوجه الكلام على هذه الصورة؛ بل إن قتل خطأ وورثته من أعدائنا فلا يلزمنا نسلم الدية إليهم؛ لكفرهم، والدية لا تكون إلا إلى ولي المقتول، وذلك لا يوجب أن يكون مؤمنا بين كفار، وإن قطع على أنه بين كفار فهو معذور؛ لئلا تتناقض الأدلة، فعندنا: أنه يجوز أن يكون المؤمن مؤمنا، مع كونه بين الكفار، إن كان معذورا أو ممنوعا، وأما أنهم أعداء، وغيرهم أعداء، فلا شك أن الحكم يختلف، فإن كان القوم أعداء فلا دية إليهم، وإن كان بيننا وبينهم ميثاق لزمتنا لهم الدية.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/255.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ هذه آية من أمهات الأحكام، والمعنى ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، فقوله: ﴿وَمَا كَانَ﴾ ليس على النفي وإنما هو على التحريم والنهي، كقوله: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ﴾ ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط، لأن ما نفاه الله فلا يجوز وجوده، كقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾، فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها أبدا، وقال قتادة: المعنى ما كان له ذلك في عهد الله، وقيل: ما كان له ذلك فيما سلف، كما ليس له الآن ذلك بوجه.
2. ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول وهو الذي يكون فيه ﴿إِلَّا﴾ بمعنى ﴿لَكِنِ﴾ والتقدير ما كان له أن يقتله ألبتة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا، هذا قول سيبويه والزجاج، ومن الاستثناء المنقطع قوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾، وقال النابغة:
çوقفت فيها أصيلانا أسائلها...عيت جوابا وما بالربع من أحد
إلا الأواري لأيا ما أبينها...والنوى كالحوض بالمظلومة الجلدé
فلما لم تكن (الأواري) من جنس أحد حقيقة لم تدخل في لفظه، ومثله قول الآخر:
çأمسى سقام خلاء لا أنيس به...إلا السباع ومر الريح بالغرفé
وقال آخر:
çوبلدة ليس بها أنيس...إلا اليعافير وإلا العيسé
وقال آخر:
çوبعض الرجال نخلة لا جنى لها...ولا ظل إلا أن تعد من النخلé
أنشده سيبويه، ومثله كثير، ومن أبدعه قول جرير:
çمن البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ...على الأرض إلا ذيل مرط مرحلé
كأنه قال: لم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد.
3. نزلت الآية بسبب قتل عياش ابن أبي ربيعة الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة العامري لحنة كانت بينهما، فلما هاجر الحارث مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر بإسلامه، فلما أخبر أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله، إنه قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، ولم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت الآية.
4. قيل ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾: هو استثناء متصل، أي وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ولا يقتص منه إلا أن يكون خطأ، فلا يقتص منه، ولكن فيه كذا وكذا، ووجه آخر وهو أن يقدر كان بمعنى استقر ووجد، كأنه قال: وما وجد وما تقرر وما ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحيانا، فيجيء الاستثناء على هذين التأويلين غير منقطع، وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد وبشاعة شأنه، كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيا؟ إعظاما للعمد والقصد مع حظر الكلام به ألبتة، وقيل: المعنى ولا خطأ، قال النحاس: ولا يجوز أن تكون ﴿إِلَّا﴾ بمعنى الواو، ولا يعرف ذلك في كلام العرب ولا يصح في المعنى، لأن الخطأ لا يحظر، ولا يفهم من دليل خطابه جواز قتل الكافر المسلم فإن المسلم محترم الدم، وإنما خص المؤمن بالذكر تأكيدا لحنانه وأخوته وشفقته وعقيدته.
5. ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ وجوه الخطأ كثيرة لا تحصى يربطها عدم القصد، مثل أن يرمي صفوف المشركين فيصيب مسلما، أو يسعى بين يديه من يستحق القتل من زان أو محارب أو مرتد فطلبه ليقتله فلقي غيره فظنه هو فقتله فذلك خطأ، أو يرمي إلى غرض فيصيب إنسانا أو ما جرى مجراه، وهذا مما لا خلاف فيه، والخطأ اسم من أخطأ خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمد، فالخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء، ويقال لمن أراد شيئا ففعل غيره: أخطأ، ولمن فعل غير الصواب: أخطأ.
6. قال ابن المنذر: قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ إلى قوله تعالى ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ فحكم الله جل ثناؤه في المؤمن يقتل خطأ بالدية، وثبتت السنة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على ذلك وأجمع أهل العلم على القول به.
7. ذهب داوود إلى القصاص بين الحر والعبد في النفس، وفي كل ما يستطاع القصاص فيه من الأعضاء، تمسكا بقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) فلم يفرق بين حر وعبد، وهو قول ابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في النفس فيقتل الحر بالعبد، كما يقتل العبد بالحر، ولا قصاص بينهما في شي من الجراح والأعضاء.
8. أجمع العلماء على أن قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ أنه لم يدخل فيه العبيد، وإنما أريد به الأحرار دون العبيد، فكذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) أريد به الأحرار خاصة، والجمهور على ذلك وإذا لم يكن قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس فالنفس أحرى بذلك.
9. ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾أي فعليه تحرير رقبة، هذه الكفارة التي أوجبها الله تعالى في كفارة القتل والظهار أيضا على ما يأتي، واختلف العلماء فيما يجزئ منها، فقال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم: الرقبة المؤمنة هي التي صلت وعقلت الإيمان، لا تجزئ في ذلك الصغيرة، وهو الصحيح في هذا الباب قال عطاء بن أبي رباح: يجزئ الصغير المولود بين مسلمين، وقال جماعة منهم مالك والشافعي: يجزئ كل من حكم له بحكم في الصلاة عليه إن مات ودفنه، وقال مالك: ومن صلى وصام أحب إلي، ولا يجزئ في قول كافة العلماء أعمى ولا مقعد ولا مقطوع اليدين أو الرجلين ولا أشلهما، ويجزئ عند أكثرهم الأعرج والأعور، قال مالك: إلا أن يكون عرجا شديدا، ولا يجزئ عند مالك والشافعي وأكثر العلماء أقطع إحدى اليدين أو إحدى الرجلين، ويجزئ عند أبي حنيفة وأصحابه، ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون المطبق ولا يجزئ عند مالك الذي يجن ويفيق، ويجزئ عند الشافعي، ولا يجزئ عند مالك المعتق إلى سنين، ويجزئ عند الشافعي، ولا يجزئ المدبر عند مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي، ويجزئ في قول الشافعي وأبي ثور، واختاره ابن المنذر، وقال مالك: لا يصح من أعتق بعضه، لقوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾، ومن أعتق البعض لا يقال حرر رقبة وإنما حرر بعضها.
10. اختلفوا أيضا في معناها فقيل: أوجبت تمحيصا وطهورا لذنب القاتل، وذنبه ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم، وقيل: أوجبت بدلا من تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل، فإنه كان له في نفسه حق وهو التنعم بالحياة والتصرف فيما أحل له تصرف الأحياء، وكان لله سبحانه فيه حق، وهو أنه كان عبدا من عباده يجب له من أمر العبودية صغيرا كان أو كبيرا حرا كان أو عبدا مسلما كان أو ذميا ما يتميز به عن البهائم والدواب، ويرتجى مع ذلك أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه، فلم يخل قاتله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا، والمعنى الذي وصفنا، فلذلك ضمن الكفارة، وأي واحد من هذين المعنيين كان، ففيه بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ فالقاتل عمدا مثله، بل أولى بوجوب الكفارة عليه منه، على ما يأتي بيانه.
11. ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ﴾ الدية ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه، ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ مدفوعة مؤداة، ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدية، وإنما في الآية إيجاب الدية مطلقا، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل، وإنما أخذ ذلك من السنة، ولا شك أن إيجاب المواساة على العاقلة خلاف قياس الأصول في الغرامات وضمان المتلفات، والذي وجب على العاقلة لم يجب تغليظا، ولا أن وزر القاتل عليهم ولكنه مواساة محضة، واعتقد أبو حنيفة أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل ديوانه.
12. ثبتت الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن الدية مائة من الإبل، ووداها صلّى الله عليه وآله وسلّم في عبد الله بن سهل المقتول بخيبر لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن، فكان ذلك بيانا على لسان نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم لمجمل كتابه، وأجمع أهل العلم عل أن على أهل الإبل مائة من الإبل، واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإبل، فقالت طائفة: على أهل الذهب ألف دينار، وهم أهل الشام ومصر والمغرب، هذا قول مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه، في القديم، وروي هذا عن عمر وعروة بن الزبير وقتادة، وأما أهل الورق فاثنا عشر ألف درهم، وهم أهل العراق وفارس وخراسان، هذا مذهب مالك على ما بلغه عن عمر أنه قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وقال المزني: قال الشافعي الدية الإبل، فإن أعوزت فقيمتها بالدراهم والدنانير على ما قومها عمر، ألف دينار على أهل الذهب واثنا عشر ألف درهم على أهل الورق، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: الدية من الورق عشرة آلاف درهم، رواه الشعبي عن عبيدة عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألف شاة، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، قال أبو عمر: في هذا الحديث ما يدل على أن الدنانير والدراهم صنف من أصناف الدية لا على وجه البدل والقيمة، وهو الظاهر من الحديث عن عثمان وعلي وابن عباس، وخالف أبو حنيفة ما رواه عن عمر في البقر والشاء والحلل، وبه قال عطاء وطاوس وطائفة من التابعين، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين، قال ابن المنذر: وقالت طائفة دية الحر المسلم مائة من الإبل لا دية غيرها كما فرض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، هذا قول الشافعي وبه قال طاوس، قال ابن المنذر: دية الحر المسلم مائة من الإبل في كل زمان، كما فرض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، واختلفت الروايات عن عمر في أعداد الدراهم وما منها شي يصح عنه لأنها مراسيل، وقد عرفتك مذهب الشافعي وبه ونقول.
13. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالديات، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.
14. ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ أصله (أن يتصدقوا) فأدغمت التاء في الصاد، والتصدق الإعطاء، يعني إلا أن يبرئ الأولياء ورثة المقتول [القاتلين] مما أوجب الله لهم من الدية عليهم، فهو استثناء ليس من الأول، وقرأ أبو عبد الرحمن ونبيح إلا أن تصدقوا) بتخفيف الصاد والتاء، وكذلك قرأ أبو عمرو، إلا أنه شدد الصاد، القراءة حذف التاء الثانية، ولا يجوز حذفها على قراءة الياء، وفي حر أبي وابن مسعود إلا أن يتصدقوا)، وأما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم، لأنه أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه، فعليه أن يخلص آخر لعبادة ربه وإنما تسقط الدية التي هي حق لهم، وتجب الكفارة في مال الجاني ولا تتحمل.
15. ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ هذه مسألة المؤمن يقتل في بلاد الكفار أو في حروبهم على أنه من الكفار، والمعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وعكرمة ومجاهد والنخعي: فإن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة ﴿عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ فلا دية فيه، وإنما كفارته تحرير الرقبة، وهو المشهور من قول مالك، وبه قال أبو حنيفة، وسقطت الدية لوجهين:
أ. أحدهما: أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقووا بها.
ب. الثاني: أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة، فلا دية، لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
16. وقالت طائفة: بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط، فسواء كان القتل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ولم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه كفارته التحرير ولا دية فيه، إذ لا يصح دفعها إلى الكفار، ولو وجبت الدية لو جبت لبيت المال على بيت المال، فلا تجب الدية في هذا الموضع وإن جرى القتل في بلاد الإسلام، هذا قول الشافعي وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو ثور.
17. على القول الأول إن قتل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة.. ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذ كرته للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أقال لا إله إلا الله وقتلته)! قال: قلت يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟)، فلم يحكم عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم بقصاص ولا دية، وروي عن أسامة أنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم استغفر لي بعد ثلاث مرات، وقال: أعتق رقبة) ولم يحكم بقصاص ولا دية، فقال علماؤنا: أما سقوط القصاص فواضح إذ لم يكن القتل عدوانا، وأما سقوط الدية فلا وجه ثلاثة:
أ. الأول: لأنه كان أذن له في أصل القتال فكان عنه إتلاف نفس محترمة غلطا كالخاتن والطبيب.
ب. الثاني: لكونه من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين تكون له ديته، لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ كما ذكرنا.
ج. الثالث: أن أسامة اعترف بالقتل ولم تقم بذلك بينة ولا تعقل العاقلة اعترافا، ولعل أسامة لم يكن له مال تكون فيه الدية.
18. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة، قاله ابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي، واختاره الطبري قال: إلا أن الله تعالى أبهمه ولم يقل وهو مؤمن، كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب، وإطلاقه ما قيد قبل يدل على أنه خلافه، وقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم أيضا: المعنى وإن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم، فكفارته التحرير وأداء الدية، وقرأها الحسن: وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن)، قال الحسن: إذا قتل المسلم الذمي فلا كفارة عليه، قال أبو عمر: وأما الآية فمعناها عند أهل الحجاز مردود على قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ ثم قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ﴾ يريد ذلك المؤمن، قال ابن العربي: (والذي عندي أن الجملة محمولة حمل المطلق على المقيد)، وهذا معنى ما قال الحسن وحكاه أبو عمر عن أهل الحجاز، وقوله: ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ﴾ على لفظ النكرة ليس يقتضي دية بعينها، وقيل: هذا في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عهد على أن يسلموا أو يؤذنوا بحرب إلى أجل معلوم: فمن قتل منهم وجبت فيه الدية والكفارة ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
أجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، قال أبو عمر: إنما صارت ديتها ـ والله أعلم ـ على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل، وشهادة امرأتين بشهادة رجل، وهذا إنما هو في دية الخطأ، وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله تعالى: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، و﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾
19. اختلف العلماء من هذا الباب في تفصيل دية أهل الكتاب، فقال مالك وأصحابه: هي على النصف من دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، ودية نسائهم على النصف من ذلك، روي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وعمرو ابن شعيب وقال به أحمد بن حنبل، وهذا المعنى قد روى فيه سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن ابن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل دية اليهودي والنصراني على النصف من دية المسلم، وعبد الرحمن هذا قد روى عنه الثوري أيضا، وقال ابن عباس والشعبي والنخعي: المقتول من أهل العهد خطأ لا تبالي مؤمنا كان أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم، وهو قول أبي حنيفة والثوى وعثمان البتي والحسن بن حي، جعلوا الديات كلها سواء، المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي، وهو قول عطاء والزهري وسعيد بن المسيب، وحجتهم قوله تعالى: ﴿فِدْيَةٌ﴾ وذلك يقتضي الدية كاملة كدية المسلم، وعضدوا هذا بما رواه محمد بن إسحاق عن داوود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس في قصة بني قريظة والنضير أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل ديتهم سواء دية كاملة، قال أبو عمر: هذا حديث فيه لين وليس في مثله حجة، وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، وحجته أن ذلك أقل ما قيل في ذلك، والذمة بريئة إلا بيقين أو حجة، وروي هذا القول عن عمر وعثمان، وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وأبو ثور وإسحاق.
20. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها، ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾ أي فعليه صيام شهرين، ﴿مُتَتَابِعَيْنِ﴾ حتى لو أفطر يوما استأنف، هذا قول الجمهور، وقال مكي عن الشعبي: إن صيام الشهرين يجزئ عن الدية والعتق لمن لم يجد، قال ابن عطية: وهذا القول وهم، لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل، والطبري حكى هذا القول عن مسروق.
21. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللهِ﴾ نصب على المصدر، ومعناه رجوعا، وإنما مست حاجة المخطئ إلى التوبة لأنه لم يتحرز وكان من حقه أن يتحفظ، وقيل: أي فليأت بالصيام تخفيفا من الله تعالى عليه بقبول الصوم بدلا عن الرقبة، ومنه قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾، أي خفف، وقوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾
22. ﴿وَكَانَ اللهُ﴾ أي في أزله وأبده، ﴿عَلِيمًا﴾ بجميع المعلومات، ﴿حَكِيمًا﴾ فيما حكم وأبرم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/311.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ هذا النفي هو بمعنى النهي المقتضي للتحريم، كقوله: ﴿وما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾ ولو كان هذا النفي على معناه لكان خبرا، وهو يستلزم صدقه، فلا يوجد مؤمن قتل مؤمنا قط؛ وقيل: المعنى ما كان له ذلك في عهد الله، وقيل: ما كان له ذلك فيما سلف، كما ليس له الآن ذلك بوجه، ثم استثنى منه استثناء منقطعا فقال: إلّا خطأ، أي: ما كان له أن يقتله ألبتة، لكن إن قتله خطأ فعليه كذا، هذا قول سيبويه والزجاج؛ وقيل: هو استثناء متصل؛ والمعنى: وما تبت، ولا وجد، ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلّا خطأ؛ إذ هو مغلوب حينئذ؛ وقيل المعنى: ولا خطأ، قال النحاس: ولا يعرف ذلك في كلام العرب، ولا يصح في المعنى، لأن الخطأ لا يحظر؛ وقيل: إن المعنى: ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل إلّا للخطأ وحده، فيكون قوله: خطأ، منتصبا بأنه مفعول له، ويجوز أن ينتصب على الحال، والتقدير: لا يقتله في حال من الأحوال إلّا في حال الخطأ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، أي: إلّا قتلا خطأ، ووجوه الخطأ كثيرة، ويضبطها عدم القصد، والخطأ: الاسم من أخطأ خطأ: إذا لم يتعمد.
﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي: فعليه تحرير رقبة مؤمنة يعتقها كفارة عن قتل الخطأ، وعبر بالرقبة عن جميع الذات، واختلف العلماء في تفسير الرقبة المؤمنة، فقيل: هي التي صلّت وعقلت الإيمان فلا تجزئ الصغيرة، وبه قال ابن عباس، والحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وغيرهم، وقال عطاء بن أبي رباح: إنها تجزئ الصغيرة المولودة بين مسلمين، وقال جماعة منهم مالك والشافعي: يجزئ كل من حكم له بوجوب الصلاة عليه إن مات ولا يجزئ في قول جمهور العلماء أعمى، ولا مقعد، ولا أشلّ، ويجزئ عند الأكثر الأعرج والأعور، قال مالك: إلّا أن يكون عرجا شديدا، ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون، وفي المقام تفاصيل طويلة مذكورة في علم الفروع.
1. ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ الدية: ما تعطى عوضا عن دم المقتول إلى ورثته، والمسلّمة: المدفوعة المؤداة، والأهل: المراد بهم الورثة، وأجناس الدية وتفاصيلها قد بينتها السنة المطهرة.
2. ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ أي: إلّا أن يتصدّق أهل المقتول على القاتل بالدية، سمى العفو عنها: صدقة، ترغيبا فيه، وقرأ أبيّ: إلّا أن يتصدقوا، وهذه الجملة المستثناة متعلقة بقوله: ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ﴾ أي: فعليه دية مسلمة إلّا أن يقع العفو من الورثة عنها.
__________
(1) فتح القدير: 1/578.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِمُومِنٍ﴾ ما ثبت له شرعًا ولا عقلاً؛ وإذا كان كذلك فما ينبغي له ﴿أَنْ يَّقتُلَ مُومِنًا﴾ موحِّدًا ولا ذِمِّـيًّا، أو معاهدًا، أو مستجارًا، أو من لم يُدعَ إلى الإسلام بغير حقٍّ، أمَّا إذ كان بحقٍّ كما إذا قُتِلَ لِقَتْلِهِ من يُقتَل به، أو لقطع الطريق، أو لبغيه، أو رُجِمَ لإحصانه مع الزنى، أو نحو ذلك فحقٌّ، ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ إِلَّا قتلَ خَطَإٍ، أو خاطئًا، أو للخطأ، أو لكن الخطأ إن وقع، فعليه التحرير أو الصوم.
2. والخطأ: الفعل مع عدم القصد إليه أو إلى الشخص، أو لا يُقصَد به القتل في المعتاد، كضرب بيد أو عصًا، أو لا يُقصَد به محظورٌ كضربةٍ إلى صيد وقعت على غيره، وكرمي مسلم في صفِّ الكفَّار بلا علم به، وقد حضر معهم أسيرًا وليس يُقاتل، وقَتْلِ طفلٍ أو مجنون لغيره، وقائم وساقط على غيره، وسكران حيث يُعذَر في سكره.
3. والآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي أخي أبي جهل لأمِّه، إذ قَتَل الحارث بن زيد في طريقه، ولم يَدْر أنَّه أسلم، وبَسْطُ ذلك أنَّ عياشًا أسلم وحلفت أمُّه لا يظلُّها سقف حتَّى تراه، فأخذه أبو جهل، والحارث بن هشام من المدينة لتراه بعهد موثَّق أن يخلياه بعد، فجلداه في الطريق مائة، وأعانهما رجل من كنانة، فحلف عياش أن يقتله، وقتله بعد إسلامه ولم يدرِ عيَّاش بإسلامه.
4. ﴿وَمَن قَتَلَ مُومِنًا﴾ موحِّدًا، ويلتحق به الذِّمِّيُّ، ومن قُتِلَ قبل دعاء إلى الإسلام، أو مستجارًا، أو معاهدًا ﴿خَطَأً﴾، ومثلُهُ شبه العمد، وهو كالخطأ في العاقلة والأجل، وقد يدخل [أي شبه العمد] في الخطأ، وهو الضرب بما لا يَقتُل غالبًا عمدًا، بلا قصد قتل، ﴿فَتَحْرِيرُ﴾ فعليه تحرير، أو فالواجب عليه تحرير، أو وجب عليه تحرير، وهو جعْلُه حرًّا ﴿رَقَبَةٍ﴾ أمَة أو عبد ﴿مُّومِنَةٍ﴾، وأجاز بعض غير المؤمنة، وتردُّه الآية، كما زعم بعض أنَّه يجزي إعتاق كتابيٍّ صغير، أو مجوسيٍّ كبير، وتسمية الإنسان رقبةً تسميةٌ بالجزء، وقد صار ذلك حقيقة عرفيَّة، كما يعبَّر عنه بالوجه، وكما يعبَّر عن المركوب بالرأس والظهر ﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ اِلَى أَهْلِهِ﴾ ورثته.
5. والدِّيَة مصدر (وَدَيَ) كوعد عِدَة، ثمَّ أُطلق على المال المأخوذ في القتل وما دونه من الجناية في البدن، وإنَّما كان المعنى أنَّ عليه الدية مع أنَّها على عاقلته لأنَّه يجمعها منها، ولكن لا يعطي معهم على ما في الفروع، وفي قول: يعطي منابَه ولا يجمعها، ولأنَّه السبب، وإن شئت فلا تقدِّر لفظ (عليه)، بل قل: فالواجب تحرير رقبة مؤمنة، أي: في ماله؛ ودية مسلَّمة إلى أهله، أي: على العاقلة.
6. وتخلَّصُ منها ديون القتيل ووصيَّته، أو تُردُّ للثلث والباقي للورثة كميراثهم حتَّى الأزواج والكلاليُّون، وكذلك في العمد، قال الضحَّاك بن سفيان الكلابيُّ: كتب إليَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها، وقال أبو محمَّد: لا تأخذ الزوجة من دية زوجها المقتول عمدًا، ولا تعقل العاقلة إلَّا الخطأ، وإن لم تكن العاقلة فبيت المال، وإن لم يكن فالقاتل، وقيل: لا تُقضَى الديون والوصيَّة من الدية، بل هي للورثة، وليس كذلك، وتجزي الرقبة ولو غير بالغة، فيقوم بما لَا بُدَّ لها منه حتَّى تبلغ، وقيل: لا يُجزِي عتق الصبيِّ أو الصبيَّة.
7. ﴿إِلَّآ أَنْ يَّصَّدَّقُواْ﴾ يتصدَّقوا بترك الدية أو بعضها، والاستثناء منقطع، أي: لكنَّ تصدُّقَهم خير لهم، وأمَّا أن يُجعَلَ المصدر ظرف زمان على معنى: إِلَّا وقتَ تصدُّقهم، فلا يجوز؛ لأنَّ المصدر النائب عن الزمان هو المصدر الصريح، أو المؤوَّل بـ (مَا) المصدريَّة لا بـ (أَنْ)
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/250.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ أي ما جاز ولا صح ولا لاق لمؤمن قتل أخيه المؤمن، فإن الإيمان زاجر عن ذلك، إلا على وجه الخطأ، فإنه ربما يقع لعدم دخول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية، قال الزمخشريّ: فإن قلت: بم انتصب خطأ؟ قلت: بأنه مفعول له، أي: ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده، ويجوز أن يكون حالا، بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، وأن يكون صفة للمصدر: إلا قتلا خطأ، والمعنى: إن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء، البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد، بأن يرمي كافرا فيصيب مسلما، أو يرمي شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم.
2. ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ أي: بما ذكرنا، فهو، وإن عفي عنه، لكنه لا يخلو عن تقصير في حق الله، ولا يهدر دم المؤمن بالكلية ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي: فالواجب عليه، لحق الله، إعتاق نفس محكوم عليها بالإيمان، ولو صغيرة، ليعتق الله عنه بكل جزء منها جزءا منه من النار، وقد روى الإمام أحمد عن رجل من الأنصار؛ أنه جاء بأمة سوداء، فقال: يا رسول الله! إن عليّ عتق رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم، قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم، قال: أعتقها، وهذا إسناد صحيح، وجهالة الصحابيّ لا تضرّه، وفي موطأ مالك ومسند الشافعيّ وأحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائيّ عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء، قال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: أعتقها فإنها مؤمنة، أفاده ابن كثير.
3. قال الزمخشريّ: التحرير: الإعتاق، والحر والعتيق: الكريم، لأن الكرم في الأحرار، كما أن اللؤم في العبيد، ومنه عتاق الخليل وعتاق الطير لكرامها، وحرّ الوجه أكرم موضع منه، وقولهم للئيم: عبد، وفلان عبد الفعل، أي: لئيم الفعل، والرقبة عبارة عن النسمة، كما عبر عنها بالرأس في قولهم: فلان يملك كذا رأسا من الرقيق.
4. قيل في حكمة الإعتاق: إنه لما أخرج نفسا مؤمنة من جملة الأحياء، لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها، من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات، إذ الرق من آثار الكفر، والكفر موت حكما: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: 122]، ولهذا منع من تصرف الأحرار، وهذا مشكل، إذ لو كان كذلك لوجب في العمد أيضا، لكن يحتمل أن يقال: إنما وجب عليه ذلك، لأن الله تعالى أبقى للقتال نفسا مؤمنة حيث لم يوجب القصاص، فأوجب عليه مثلها رقبة مؤمنة، أفاده النسفيّ.
5. ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ أي: والواجب عليه أيضا، لحق ورثة المقتول، عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم، دية مؤداة إلى ورثته، يقتسمونها اقتسام الميراث، وقد بيّنت السنة مقدارها، وذلك فيما رواه النسائيّ وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كتب إلى أهل اليمن كتابا، وفيه: إن في النفس الدية، مائة من الإبل، وفيه: وعلى أهل الذهب ألف دينار، وروى أبو داود عن جابر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ أنه فرض في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب قوّم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل، لا في ماله، قال الشافعيّ: لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بالدية على العاقلة، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها، وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقضى أن دية جنينها غرة: عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، ورواه أبو داود عن جابر بلفظ: أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دية المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، قال فقال عاقلة القاتلة: ميراثها لنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا، ميراثها لزوجها وولدها.
6. و(العاقلة) القرابات من قبل الأب وهم عصبته، وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب وليّ المقتول، وسميت الدية عقلا تسمية بالمصدر، لأن الإبل كانت تعقل بفناء وليّ المقتول، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية، ولو لم تكن إبلا، وتضمين العاقلة مخالف لظاهر قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [فاطر: 18]، فتكون الأحاديث القاضية بتضمين العاقلة مخصصة لعموم الآية، لما في ذلك من المصلحة، لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله، لأن تتابع الخطأ لا يؤمن، ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول، كذا في (نيل الأوطار)، قال المهايميّ: تجب الدية على كل عاقلة القاتل، وهم عصبته غير الأصول والفروع، لأنه لما عفي عن القاتل فلا وجه للأخذ منه، وأصوله وفروعه أجزاؤه، فالأخذ منهم أخذ منه، ولا وجه لإهدار دم المؤمن، فيؤخذ من عاقلته الذين يرثونه بأقوى الجهات وهي العصبية، لأن الغرم بالغنم، فإن لم يكن له عاقلة، أو كانوا فقراء، فعلى بيت المال.
7. وقد خالف أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج، فأوجبوا الدية على القاتل لا على عاقلته، واحتجوا بوجوه خمسة عقلية، ساقها الفخر الرازيّ، هنا، وكلها مما لا يساوي فلسا، إذ هي من معارضة النص النبويّ بالرأي المحض، اللهم: إنا نبرأ إليك من ذلك، وقد غفلوا عن حكمة المشروعية على العاقلة التي بيّناها.
çدعوا كل قول عند قول محمد...فما آمن في دينه كمخاطرé
8. يشتمل قوله تعالى ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ﴾ تسليمها حالّة ومؤجلة، إلا أن الإجماع قد وقع على أن دية الخطأ مؤجلة على العاقلة، ولكن اختلفوا في مقدار الأجل، فذهب الأكثر إلى أن الأجل ثلاث سنين، وقال ربيعة: إلى خمس، وحكى في (البحر) عن بعض الناس بعد حكايته للإجماع السابق: أنها تكون حالّة، إذ لم يرو عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم تأجيلها، قال في (البحر) قلنا: روي عن عليّ أنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، وقاله عمر وابن عباس، ولم ينكر، قال الشافعيّ في (المختصر): لا أعلم مخالفا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، قال الرافعيّ: تكلم أصحابنا في ورود الخبر بذلك، فمنهم من قال: ورد، ونسبه إلى رواية عليّ عليه السلام، ومنهم من قال: ورد أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بالدية على العاقلة، وأما التأجيل فلم يرد به الخبر، وأخذ ذلك من إجماع الصحابة، وقال ابن المنذر: ما ذكره الشافعيّ لا نعرفه أصلا من كتاب ولا سنة، وقد سئل عن ذلك أحمد بن حنبل فقال: لا نعرف فيه شيئا، فقيل: إن أبا عبد الله، يعني الشافعيّ، رواه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: لعله سمعه من ذلك المدنيّ، فإنه كان حسن الظن به، يعني إبراهيم بن أبي يحيى، وتعقبه ابن الرفعة: بأن من عرف حجة على من لم يعرف، وروى البيهقيّ من طريق ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: من السنة أن تنجّم الدية في ثلاث سنين، وقد وافق الشافعيّ، على نقل الإجماع، الترمذيّ في (جامعه) وابن المنذر، فحكى كل واحد منهما الإجماع، كذا في (نيل الأوطار)
9. ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ أي: إلا أن يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل فلا تجب عليه، وسمي العفو عنها صدقة حثّا عليه وتنبيها على فضله، قال السيوطيّ في (الإكليل): فيها (أي: هذه الآية) تعظيم قتل المؤمن والإثم فيه، ونفيه عن الخطأ، وأن في قتل الخطأ كفارة ودية، لا قصاص، وأن الدية مسلمة إلى أهل المقتول، إلا أن يصدقوا بها، أي: يبرءوا منها، ففيه جواز الإبراء من أهل الدية، مع أنها مجهولة، وفي قوله (مسلمة) دون (يسلمها) إشارة إلى أنها على عاقلة القاتل، ذكره سعيد بن جبير، أخرجه ابن أبي حاتم واستدل بقوله: ﴿إِلَى أَهْلِهِ﴾، على أن الزوجة ترث منها، لأنها من جملة الأهل خلافا للظاهرية، واحتج بها من أجاز إرث القاتل منها، لأنه من أهله.
10. احتج الظاهرية بقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ على أن المقتول ليس له العفو عن الدية، لأن الله جعل ذلك لأهله خاصة، وعموم الآية شامل للإمام إذا قتل خطأ، خلافا لمن قال: لا شيء عليه ولا على عاقلته، واستدل بعمومها أيضا من قال: إن في قتل العبد الدية والكفارة، وإن على الصبيّ والمجنون، إذا قتلا، الكفارة، وإن المشارك في القتل عليه كفارة كاملة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/257
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بين الله تعالى أحكام قتل المنافقين الذين يظهرون الإسلام مخادعة ويسرون الكفر ويعينون أهله على قتال المؤمنين، والذين يعاهدون المسلمين على السلم ويحالفونهم على الولاء والنصر، ثم يغدرون ويكونون عونا لأعدائهم عليهم، ناسب أن يذكر أحكام قتل من لا يحل قتله من مؤمن ومعاهد وذمي وما يقع من ذلك خطأ فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾ بينا في غير موضع أن هذا الضرب من النفي نفي للشأن وهو أبلغ من نفي الفعل أي ما كان من شأن المؤمن من حيث هو مؤمن ولا من خلقه وعمله أن يقتل أحدا من أهل الإيمان وهو صاحب السلطان على نفسه والحاكم على إرادته المصرفة لعمله هو الذي يمنعه من هذا القتل أن يجترحه عمدا ولكنه قد يقع منه ذلك خطأ فقوله تعالى: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ منقطع معناه ما ذكرنا من الاستدراك، وقيل هو متصل معناه: ما ثبت ولا وجد قتل المؤمن للمؤمن إلا خطأ، وهو نفي بمعنى النهي للمبالغة.
2. ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ بأن ظنه كافرا محاربا والكافر الحربي غير المعاهد والمستأمن والذمي من إذا لم تقتله قتلك إذا قدر على قتلك، أو أراد رمي صيد أو غرض فأصاب المؤمن، أو ضربه بما لا يقتل عادة كالصفع باليد أو الضرب بالعصا فمات، وهو لم يكن يقصد قتله.
3. ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي فعليه من الكفارة على عدم تثبته تحرير رقبة مؤمنة أي عتق رقبة نسمة من أهل الإيمان من الرق، لأنه لما أعدم نفسا من المؤمنين كان كفارته أن يوجد نفسا، والعتق كالإيجاد، كما أن الرق كالعدم، عبر بالرقبة عن الذات لأن الرقيق يحني رقبته دائما لمولاه، كلما أمره ونهاه، أو يكون مسخرا له كالثور الذي يوضع النير على رقبته لأجل الحرث، ولهذا قال جمهور العلماء لا يجزئ عتق الأشلّ ولا المقعد لأنهما لا يكونان مسخرين ذلك التسخير الشديد في الخدمة الذي يحب الشارع إبطاله وتكريم البشر بتركه، ومثلهما الأعمى والمجنون الذي قلما يصلح للخدمة وقلما يشعر بذل الرق، وروي عن مالك أنه لا يجزئ عتق الأعرج الشديد العرج والأكثرون على أنه يجزئ كالأعور، وتفصيل هذه الأحكام في كتب الفقه، والحر والعتيق في أصل اللغة كريم الطباع، ويقولون الكرم في الأحرار واللؤم في العبيد، وإنما يكونون لؤماء لأنهم يساسون بالظلم، ويسامون الذل، والتحرير جعل العبد حرا.
4. واختلفوا في تحديد معنى المؤمنة هنا فروي عن ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم من مفسري السلف وفقهائهم أنها التي صلت وعقلت الإيمان ويظهر هذا في الكافر الذي يسلم دون من نشأ في الإسلام، وقال آخرون من فقهاء الأمصار منهم مالك والشافعي أن كل من يصلى عليه إذا مات يجوز عتقه في الكفارة، وهذا هو التعريف المناسب لزمنهم الذي كثر فيه الأرقاء الناشئون في الإسلام، وروى ابن جرير في سبب نزول هذه الآية عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ثم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره فنزلت الآية فقرأها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم قال له (قم فحرر) ورواه ابن جرير وابن المنذر عن السدي بأطول من هذا، وروي عن ابن زيد أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء في سرية حمل عليه بالسيف قال لا إله إلا الله، فضربه.
5. ثم قال: ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ أي وعليه من الجزاء مع عتق الرقبة دية يدفعها إلى أهل المقتول، فالكفارة حق الله، والدية ما يعطى إلى ورثة المقتول عوضا عن دمه أو عن حقهم فيه، وهي مصدر ودي القتيل يديه وديا ودية (كعدة وزنة من الوعد والوزن) ويعرفها الفقهاء بأنها المال الواجب بالجناية على الحر في نفس أو فيما دونها، وقد أطلق الكتاب الدية وذكرها نكرة فظاهر ذلك أنه يجزئ منها ما يرضي أهل المقتول وهم ورثته قلّ أو كثر، ولكن السنة بينت ذلك وحددته على الوجه الذي كان معروفا مقبولا عند العرب، وأجمع الفقهاء على أن دية الحر المسلم الذكر المعصوم (أي المعصوم دمه بعدم ما يوجب إهداره) مئة بعير مختلفة في السن، وتفصيلها في كتب الفقه، وقالوا يجوز العدول عن الإبل إلى قيمتها والعدول عن أنواعها في السن بالتراضي بين الدافع والمستحق، وإذا فقدت وجبت قيمتها، ودية المرأة ومثلها الخنثى نصف دية الرجل، والأصل في ذلك أن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أكبر من المنفعة التي تفوت بفقد الأنثى فقدرت بحسب الإرث، وظاهر الآية أنه لا فرق بين الذكر والأنثى، وفي حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان في كتابه (أن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياؤه المقتول، وإن في النفس الدية مئة من الإبل) إلى أن قال بعد ذكر قود الأعضاء (وعلى أهل الذهب ألف دينار) وهذا يدل على أن دية الإبل على أهلها التي هي رأس مالهم، وأن على أهل الذهب الدية من الذهب، وظاهر الحديث أن الدية على الذين يتعاملون بالنقد كأهل المدن تكون من الذهب والفضة وأن هذا أصل لا قيمة للإبل، وسيأتي مزيد لبحث الدية في دية الكافر، والحديث روي مرسلا عند أبي داود والنسائي وموصولا عند غيرهما واختلف فيه وعمل به الجماهير، والاعتباط القتل بغير سبب شرعي من اعتبط الناقة إذا ذبحها لغير علة، والقود (بالتحريك) القصاص أي يقتل به إلا إذا عفا عنه أولياء المقتول.
6. وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ معناه أن الدية تجب على قاتل الخطأ لأهل المقتول إلا أن يعفوا عنها ويسقطوها باختيارهم فلا تجب حينئذ لأنها إنما فرضت لهم تطيبا لقلوبهم وتعويضا عما فاتهم من المنفعة بقتل صاحبهم وإرضاء لأنفسهم عن القاتل حتى لا تقع العداوة والبغضاء بينهم، فإذا طابت نفوسهم بالعفو عنها حصل المقصود، وانتفى المحذور، لأنهم يرون أنفسهم بذلك أصحاب فضل ويرى القاتل لهم ذلك، وهذا النوع من الفضل والمنة لا يثقل على النفس حمله كما يثقل عليها حمل منة الصدقة بالمال، وقد عبر عنه بالتصدق للترغيب فيه.
7. ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أي فإن كان المقتول من أعدائكم والحال أنه هو مؤمن كالحارث بن يزيد كان من قريش وهم أعداء للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين يحاربونهم وقد آمن ولم يعلم المسلمون بإيمانه لأنه لم يهاجر وإنما قتله عياش في حال خروجه مهاجرا لأنه لم يعلم بذلك، ومثله كل من آمن في دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه إذا قتل ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي فالواجب على قاتله عتق رقبة من أهل الإيمان فقط ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء محاربون فلا يعطون من أموال المسلمين ما يستعينون به على عداوتهم وقتالهم وقيل أن ديته واجبة لبيت المال، ولو صح هذا لما سكت عنه الكتاب في معرض البيان.
8. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ وهم المعاهدون لكم على السلم لا يقاتلونكم ولا تقاتلونهم كما عليه الدول في هذا العصر كلهم معاهدون قد أعطى كل منهم للآخرين ميثاقا على ذلك وهو ما يعبر عنه بالمعاهدات وحقوق الدول، ومثلهم أهل الذمة بعموم الميثاق أو بقياس الأولى.
9. ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي فالواجب في قتل المعاهد والذمي هو كالواجب في قتل المؤمن: دية إلى أهله تكون عوضا عن حقهم، وعتق رقبة مؤمنة كفارة عن حق الله تعالى الذي حرم قتل الذميين والمعاهدين، كما حرم قتل المؤمنين، وقد نكر الدية هنا كما نكرها هناك وظاهره أنه يجزئ كل ما يحصل به التراضي وإن للعرف العام والخاص حكمه في ذلك ولا سيما إذا ذكر في عقد الميثاق أن من قتل تكون ديته كذا وكذا فإن هذا النص أجدر بالتراضي وأقطع لعرق النزاع، وسيأتي ما ورد من الروايات المرفوعة والآثار في ذلك.
10. وقد قدم هنا ذكر الدية وأخر ذكر الكفارة وعكس في قتل المؤمن، ولعل النكتة في ذلك الإشعار بأن حق الله تعالى في معاملة المؤمنين مقدم على حقوق الناس ولذلك استثنى هنالك في أمر الدية فقال: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ لأن من شأن المؤمن العفو والسماح، والله يرغبهم فيما يليق بكرامتهم ومكارم أخلاقهم، ولم يستثن هنا لأن من شأن المعاهدين المشاحة والتشديد في حقوقهم، وليسوا مذعنين لهداية الإسلام فيرغبهم كتابه في الفضائل والمكارم، وثم نكتة أخرى وهو أن في سماح المعاهد للمؤمن بالدية منة عليه والكتاب العزيز الذي وصف المؤمنين بالعزة لا يفتح لهم باب هذه المنة، ومن محاسن نظم الكلام وتأليفه أن يؤخر المعطوف الذي له متعلق على ما ليس له متعلق وما متعلقاته أكثر على ما متعلقاته أقل وهذه نكتة لفظية لتأخير ذكر الدية في حق المؤمن إذا تعلق بها الوصف وهو قوله: ﴿مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ والاستثناء وهو قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾
11. ثم إنه لم يقل هنا في الدية ﴿مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ ويدل ذلك على أن القاتل لا يكلف أن يوصل الدية إلى أهل المقتول ألبتة وهم في غير حكم المسلمين إذ ربما يتعذر أو يتعسر عليه ذلك، ولأنها حق لهم فعليهم أن يحضروا لطلبه وأخذه، وقد يكون من شروط العهد أن تعطى إلى رؤساء قوم المقتول وحكامهم الذين يتولون عقد العهود والمواثيق أو إلى من ينيبونه عنهم في دار الإسلام، فوسع الله في ذلك، هذا ما ظاهر لي في هذه الإطلاقات والقيود ونكتها ولم أر من بينها.
12. هذا هو الذي تعطيه الآية في دية غير المسلم إذا لم يكن محاربا وناهيك به عدلا، وقد اختلف الفقهاء في دية غير المسلمين لاختلاف الرواية وعمل الصدر الأول فيه، ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (عقل الكافر نصف دية المسلم) رواه أحمد والترمذي وحسنه، وفي لفظ (قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه مقال معروف والجمهور على قوله، والمراد بالعقل الدية لأن الأصل فيها عند العرب الإبل تعقل في فناء دار أهل المقتول، ولفظ الكافر في الحديث عام يشمل الكتابي وغيره ورواية أهل الكتابين لا تصلح لتخصيصه ولا لتقييده فإنها صادقة في نفسها ومفهوم اللقب ليس بحجة، وفي رواية أخرى للحديث (كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثمان مئة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم، قال وكان كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت، قال ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق (الفضة) اثني عشر ألفا (أي من الدراهم) وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألف شاة وعلى أهل الحلل مئتي حلة، قال وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية، رواه أبو داود، وروى الشافعي والدارقطني والبيهقي وابن حزم عن سعيد بن المسيب قال كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف والمجوسي ثمان مئة، وفي إسناده ابن لهيعة ضعيف، والمراد أربعة آلاف درهم وثمان مئة درهم، والأربعة الآلاف هي نصف دية المسلم على ما كان عليه العمل في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وثلثها بحسب تعديل عمر ولذلك قال الشافعية إن دية الذمي ثلث دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم، واحتجوا بأثر عمر وهو ضعيف ومعارض للحديث المرفوع، ولو صح لما وجدنا له مخرجا إلا فهم عمر وغيره من الصحابة أن ما كان على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن حتما، وأنهم علموا منه أن الأمر في الدية اجتهادي ومداره على التراضي كما أشرنا إلى ذلك في بيان ظاهر عبارة الآية.
13. وذهب الزهري والثوري وزيد بن عليّ وأبو حنيفة إلى أن دية الذمي كدية المسلم، وروي عن أحمد أن ديته كدية المسلم إن قتل عمدا وإلا فنصف ديته، واحتج القائلون بالمساواة بظاهر إطلاق الآية في أهل الميثاق وهم المعاهدون وأهل الذمة ونوزعوا في هذا الاحتجاج، وبما رواه الترمذي عن ابن عباس وقال غريب أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ودى العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري وكان لهما عهد من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يشعر به عمرو بدية المسلمين، وثم روايات أخرى عنه في ذلك وبما أخرجه البيهقي عن الزهري أن دية اليهودي والنصراني كانت في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مثل دية المسلم وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان فلما كان معاوية أعطى أهل المقتول النصف في بيت المال، ثم قضى عمر بن العزيز بالنصف وألغى ما كان جعل معاوية، وأجيب بأن حديث ابن عباس في إسناده أبو سعيد البقال وهو سعيد المرزبان ولا يحتج بحديثه، وحديث الزهري مرسل ومراسيله لا يحتج بها لأنه لسعة حفظه لا يرسله إلا لعلة، على أن هذا في المعاهد وحق الذمي أقوى من حق المعاهد لخضوعه لأحكامنا.
14. وجملة القول إن الروايات القولية والعملية مختلفة متعارضة ولذلك اختلف فيها الفقهاء وظاهر الآية أن أمر الدية منوط بالعرف وبالتراضي والأقرب أن اختلاف السلف في العمل كان لأجل هذا.
15. هذا وإن ظاهر الآية أن الدية على القاتل ولكن بينت السنة أن العاقلة هم الذين يدفعون الدية عنه سواء كانت إبلا أو نقدا، وهم عصبته وعشيرته الأقربون (وتسمى العاقلة الآن العائلة بالهمزة وهو من تحريف العامة) وإنما جعلت السنة الدية على العاقلة لا على القاتل لأن الخطأ قد يتكرر فيذهب بمال الرجل كله ولأجل تقرير التضامن بين الأقربين وإذا عجزت العاقلة من عصبة النسب ثم السبب عن دفعها جعلت في بيت المال.
16. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ الرقبة التي يعتقها كأن انقطع الرقيق كما هو مقصد الإسلام، وهذه العبارة تشعر بهذا المقصد أو لم يجد المال الذي يشتريها به من مالكها ليحررها من رقه وحذف المفعول يدل على الأمرين معا ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ أي فعليه صيام شهرين قمريين متتابعين لا يفصل بين يومين من أيامهما إفطار في النهار فإن أفطر يوما بغير عذر شرعي استأنف وكان ما صامه قبله كأن لم يكن، ولم يفرض على من لا يستطيع الصيام إطعام ستين مسكينا كما فرضه في كفارة الظهار، وبعض الفقهاء يقيس هذه الكفارة على تلك ومنهم من لا يقيس كالشافعي وهو الظاهر، وما يدرينا أن هذا فرض قبل ذاك فلم يخطر في بال أحد ممن نزل في عهدهم أن للصيام بدلا على من عجز عنه وهو إطعام مسكين عن كل يوم.
17. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي شرع الله لكم ما ذكر توبة منه عليكم فهو يريد به أن يتوب عليكم لتتوبوا وتطهر نفوسكم من التهاون وقلة التحري التي تفضي إلى قتل الخطأ ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي عليما بأحوال نفوسكم وما يصلحها من التأديب حكيما فيما يشرعه لكم من الأحكام، ويهديكم إليه من الآداب، فإذا أطعتموه فيه صلحت نفوسكم وتزكت وصارت أهلا لسعادة الدنيا والآخرة.
18. بعد هذا أذكر ما عندي في الآية عن محمد عبده وهو بيان لروح الهداية فيها لا لأحكامها ومدلول ألفاظها فإنه استغنى عن هذا بشرح ما قاله الجلال فيه، قال ما مثاله: هذه الآية جاءت بعد أن ورد ما ورد في المذبذبين الذين أذن الله بقتلهم إلا من استثنى للتناسب وتتميم أحكام القتل فذكر هنا أن من شأن المؤمن أن لا يقتل مؤمنا لأن الإيمان مانع ذلك وبيانه من وجهين:
أ. أحدهما: أن المؤمن إنما يصح إيمانه ويكمل إذا كان يشعر بحقوق الإيمان عليه وهي حقوق لله وحقوق للعباد، ومن حدود حقوق المؤمنين أن في القصاص حياة لما فيه من الزجر عن القتل، فالمؤمن الصادق يشعر بهذا الحق وهذه الحياة وإنه إذا أخل بحقوق الدماء فقد استهزأ بحياة الأمة ومن استهزأ بحياة الأمة ولم يحترم أكبر حقوقها ولم يبال بما يقع فيه المؤمنون من الخطر فأمره معلوم فإنه باعتدائه على مؤمن قد هدم ركنا من أركان قوة الإيمان وحزبه وذلك آية عدم المبالاة بقوة الإيمان وقوامه، والمؤمن غيور على الإيمان فلا يصدر منه ذلك أي ليس من شأنه أن يصدر عنه، ويؤيد ما قاله الأستاذ قوله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 35]
ب. ثم ذكر سبب العقوبة على الخطأ في الأمور العظيمة كأمر القتل، وهو أن الخطأ فيه لا يخلو من التهاون وعدم العناية بالاحتياط، ومثل الخطأ في هذا الأمر النسيان، ولولا أن من شأنهما أن يعاقب الله عليهما لما أمرنا تعالى بالدعاء بأن لا يؤاخذنا عليهما بقوله في آخر سورة البقرة ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286] ولم يخبرنا أنه رفع عنا المؤاخذة عليهما في الدنيا والآخرة، وقد ثبت بنص القرآن أن آدم نسي ومع ذلك سميت مخالفته معصية وعوقب عليها، ولكن ورد في الحديث (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وهو معقول ولا ينافي ما قلناه، فإن عقاب قتل الخطأ ليس هو عقاب قتل العمد وهو ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45] وأما في الآخرة فلا يؤاخذنا بما نفعله مخالفا لأمره إذا نسينا أو أخطانا فيرجى أن يستجيب الله دعاءنا.
19. الحديث الذي ذكره ورد هكذا في كتب الفقه والأصول ولا يعرف بهذا اللفظ في كتب الحديث وقد رواه ابن ماجه وابن أبي عاصم بلفظ (وضع الله عن هذه الأمة ثلاثا الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه) وقد وثقوا رواته وصححه ابن حبان.
__________
(1) تفسير المنار: 5/270.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين سبحانه أحكام قتال المنافقين الذين يظهرون الإسلام خداعا ويسرّون الكفر ويساعدون أهله على قتال المؤمنين، والذين يعاهدون المسلمين على السلم ويحالفونهم على الولاء والنصر، ثم يغدرون ويكونون عونا لأعدائهم عليهم ـ ذكر هنا قتل من لا يحل قتله من المؤمنين والمعاهدين والذميين وما يقع منهم من ذلك عمدا أو خطأ.
2. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ أي ليس من شأن المؤمن ولا من خلقه أن يقتل أحدا من المؤمنين، إذ الإيمان وهو صاحب السلطان على النفس والحاكم على الإرادة والمصرّف لها يمنعه أن يجترح هذه الكبيرة عمدا، لكنه قد يفعل ذلك خطأ (والخطأ ما لا يقارنه قصد إلى الفعل أو الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا)، ذلك أنه لا يكمل إيمان المؤمن إلا إذا شعر بحقوق الإيمان عليه وهي حقوق لله وحقوق للعباد؛ ومن الثانية القصاص لما في ذلك من الزجر عن القتل، ولما في تركه من الاستهزاء بحقوق الدماء، ومن استهزأ بها كان قد انتهك أكبر حق من حقوق الأمة، وهدّ ركنا من أركان الإيمان يرشد إلى ذلك قوله: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾
3. سبب العقوبة على الفعل الخطأ كالقتل أن الخطأ لا يخلو من التهاون وعدم العناية ومثله النسيان، إذ من شأنهما أن يعاقب الله عليهما، ومن ثم أمرنا الله تعالى أن ندعوه ألا يؤاخذنا عليهما بقوله: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ كما ثبت بنص القرآن أن آدم نسى وسمى مخالفته معصية وعوقب عليها لكن ورد في السنة قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (وضع الله عن هذه الأمة ثلاثا: الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه) رواه ابن ماجه.
4. ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ تحرير الرقبة عتقها من الرقّ: أي ومن قتل مؤمنا خطأ بأن أراد رمى صيد أو غرض فأصاب مؤمنا، أو ضربه بما لا يقتل عادة كأن صفعه باليد أو ضربه بعصا فمات وهو لم يكن يقصد قتله، فعليه عتق رقبة من أهل الإيمان لأنه لما أعدم نفسا مؤمنة كان كفارته أن يوجد نفسا (والعتق كالإيجاد من العدم)
5. ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ الدية: هي المال الواجب بالجناية على الحر في النفس أو فيما دونها ويعطى إلى ورثة المقتول عوضا عن دمه: أي وعليه من الجزاء مع عتق الرقبة دية يدفعها إلى أهل المقتول، وقد بينتها السنة وحددتها على الوجه الذي كان مقبولا عند العرب وهي مائة بعير مختلفة في السن أو قيمتها إذا حصل التراضي بين الدافع والمستحق، ودية المرأة نصف دية الرجل، لأن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أعظم من المنفعة التي تفوت بفقدها، قد روى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كتب إلى أهل اليمن كتابا جاء فيه (إن من اعتبط (قتل بغير سبب شرعي مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود (أي قصاص يقتل به) إلا أن يرضى أولياء المقتول ـ وإن في النفس الدية مائة من الإبل ـ ثم قال وعلى أهل الذهب ألف دينار) وفى هذا دليل على أن دية الإبل على أهلها إذا كانت هي رأس أموالهم، وأن الذين يتعاملون بالذهب كأهل المدن تكون من الذهب أو الفضة، وعلى أن هذا أصل لا قيمة للإبل.
6. ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ أي إن الدية تجب على القاتل قتلا خطأ لأهل المقتول إلا أن يعفوا عنها ويسقطوها باختيارهم، لأنها إنما وجدت تطييبا لقلوبهم حتى لا تقع عداوة ولا بغضاء بينهم وبين القاتل، وتعويضا عما يفوتهم من المنفعة بقتله، فإذا هم عفوا فقد طابت نفوسهم وانتفى المحذور وكانوا هم ذوى الفضل على القاتل، وقد سمى الله هذا العفو تصدقا ترغيبا فيه.
__________
(1) تفسير المراغي 5/120.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذلك في علاقات المسلمين مع المعسكرات الأخرى، فأما في علاقات المسلمين بعضهم ببعض، مهما اختلفت الديار ـ وفي ذلك الوقت كما في كل وقت كان هناك مسلمون في شتى الديار ـ فلا قتل ولا قتال.. لا قتل إلا في حد أو قصاص.. فإنه لا يوجد سبب يبلغ من ضخامته أن يفوق ما بين المسلم والمسلم من وشيجة العقيدة، ومن ثم لا يقتل المسلم المسلم أبدا، وقد ربطت بينهما هذه الرابطة الوثيقة، اللهم إلا أن يكون ذلك خطأ..
2. وللقتل الخطأ توضع التشريعات والأحكام، فأما القتل العمد فلا كفارة له، لأنه وراء الحسبان! ووراء حدود الإسلام!
3. وهذه الأحكام تتناول أربع حالات: ثلاث منها من حالات القتل الخطأ ـ وهو الأمر المحتمل وقوعه بين المسلمين في دار واحدة ـ دار الإسلام ـ أو في ديار مختلفة بين شتى الأقوام ـ والحالة الرابعة حالة القتل العمد، وهي التي يستبعد السياق القرآني وقوعها ابتداء، فليس من شأنها أن تقع، إذ ليس في هذه الحياة الدنيا كلها ما يساوي دم مسلم يريقه مسلم عمدا، وليس في ملابسات هذه الحياة الدنيا كلها ما من شأنه أن يوهن من علاقة المسلم بالمسلم إلى حد أن يقتله عمدا، وهذه العلاقة التي أنشأها الإسلام بين المسلم والمسلم من المتانة والعمق والضخامة والغلاوة والإعزاز بحيث لا يفترض الإسلام أن تخدش هذا الخدش الخطير أبدا، ومن ثم يبدأ حديثه عن أحكام القتل الخطأ.
4. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾.. هذا هو الاحتمال الوحيد في الحس الإسلامي.. وهو الاحتمال الحقيقي في الواقع.. فإن وجود مسلم إلى جوار مسلم مسألة كبيرة، كبيرة جدا، ونعمة عظيمة، عظيمة جدا، ومن العسير تصور أن يقدم مسلم على إزالة هذه النعمة عن نفسه؛ والإقدام على هذه الكبيرة عن عمد وقصد.. إن هذا العنصر.. المسلم.. عنصر عزيز في هذه الأرض.. وأشد الناس شعورا بإعزاز هذا العنصر هو المسلم مثله.. فمن العسير أن يقدم على إعدامه بقتله.. وهذا أمر يعرفه أصحابه، يعرفونه في نفوسهم ومشاعرهم، وقد علمهم الله إياه بهذه العقيدة، وبهذه الوشيجة، وبهذه القرابة التي تجمعهم في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم ترتقي فتجمعهم في الله سبحانه الذي ألف بين قلوبهم، ذلك التأليف الرباني العجيب.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/736.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الدماء، والأموال، والأعراض، من الحرمات التي قامت رسالة الإسلام على حمايتها من كل عدوان، وحياطتها من كل بغى.. إذ كانت ملاك أمر الإنسان كله، وقوام وجوده، وضمان حياته.. فلا حياة لإنسان مهدر الدم، مستباح المال، مهتوك العرض.. وكيف يحيا من حياته في يد غيره؟ وكيف يعيش من ماله ليد السلب والنهب والاغتصاب؟ وكيف يصحّ من تعرّض عرضه للبغى والعدوان؟ وما ذا يبقى للإنسان إن أريق دمه، وأزهقت روحه؟ وما ذا يبقى من الإنسان إن سلب ماله، أو هتك عرضه؟ لهذا جاءت شريعة السماء، وقامت قوانين الأرض، لتحمى هذه الحرمات، وتصونها، وتأخذ من الإنسان ما تشاء أن تأخذ، لتحتفظ له بتلك المقدسات، وتحمى له هذه الحرمات، التي إن تهدمت تهدم الإنسان، وانهار المجتمع، وتحول إلى عالم الحيوان، تحكمه شريعة الغاب، وتتحكم فيه غريزة الوحوش.. ودم الإنسان ـ أي إنسان ـ في الإسلام، كريم عزيز، لا تستباح قطرة منه بغير حق، ولا تزهق روح بغير قصاص.. ودم المؤمن أعز وأكرم عند الله من كل دم عزيز كريم، لأن المؤمن أقرب إلى الله، وأدخل في حماه، ممن كفر بالله أو أشرك به!
2. قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ استبعاد لقتل المؤمن، واستنكار للعدوان عليه، من مؤمن مثله، يأخذ مأخذه في الولاء للّه، وفي الإيمان به، والاعتصام بحبله! فإذا عمد المؤمن إلى قتل مؤمن، فإنه ـ مع عدوانه على الأخوّة الإنسانية ـ قد اعتدى على ولىّ من أولياء الله، واستباح دم جندى من جنوده! أمّا أن يقتل مؤمن مؤمنا خطأ، فذلك مما تجاوز الله عنه، إذ كان أمرا لم يؤامر المؤمن نفسه عليه، ولم يستدع إرادته له.. ومع هذا، فإن دم مؤمن قد أريق، وروح مؤمن قد أزهقت! ولن يضيع هذا الدم هدرا، ولن تذهب تلك الروح هباء!
3. ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾، فهذا هو الرأب للصدع الذي حدث، والقصاص للدم الذي أريق بغير قصد! إن لهذا الدم وليّين: الله سبحانه وتعالى، وأهل القتيل.. فالله سبحانه، ولىّ تلك النفس المؤمنة.. وأهل القتيل هم أولياء هذا الدم المراق.. وحقّ الله على القاتل أن يحيى هذه النفس الميتة..!
4. وإذ كان ذلك أمرا غير مستطاع من القاتل، فإنه يحال إلى أمر مستطاع، وهو أن يحرّر رقبة مؤمنة، وأن يحيى نفسا أماتتها العبودية، وأزهق روحها الاستعباد! وفي هذا حياة نفس مؤمنة بنفس مؤمنة.. وكأنّ القتيل قد عاد في شخص هذا الإنسان المستعبد، الذي ولد ميلادا جديدا، بعتقه وتحرير رقبته! وأولياء دم القتيل من أهله، لا يرضيهم إلا أن يقتل هذا القاتل، أو يغرم من ماله ما هو أشبه في الغرم بقتله! وإذ كان القاتل لم تتجه نيته إلى القتل، ولم يحمله على القتل حقد أو ضغينة، فقد كان من الحكة والعدل ألا يقتل بيد النقمة والضغينة.. وليكن في الدية التي يقدّمها لولىّ الدم عزاء عن مصيبة جاءت قضاء وقدرا..
5. ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ دعوة كريمة من ربّ كريم، إلى أولياء الدم أن يعفوا ويصفحوا، وأن يتصدقوا بهذا الحق الذي لهم في مال القاتل على القاتل.. وحسبه ما وقع في نفسه من ألم وحسرة، لما جنت يده المخطئة عليه، بقتل نفس مؤمنة لم يرد بها شرّا، ولم يضمر لها سوءا.
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/862.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. انتقال الغرض يعيد نشاط السامع بتفنّن الأغراض، فانتقل من تحديد أعمال المسلمين مع العدوّ إلى أحكام معاملة المسلمين بعضهم مع بعض: من وجوب كفّ عدوان بعضهم على بعض، والمناسبة بين الغرض المنتقل منه والمنتقل إليه: أنّه قد كان الكلام في قتال المتظاهرين بالإسلام الذين ظهر نفاقهم، فلا جرم أن تتشوف النفس إلى حكم قتل المؤمنين الخلّص.
2. وقد روي أنّه حدث حادث قتل مؤمن خطأ بالمدينة ناشئ عن حزازات أيّام القتال في الشرك أخطأ فيه القاتل إذ ظنّ المقتول كافرا، وحادث قتل مؤمن عمدا ممّن كان يظهر الإيمان والحادث المشار إليه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ [النساء: 94] وأنّ هذه الآيات نزلت في ذلك، فتزداد المناسبة وضوحا لأنّ هذه الآية تصير كالمقدمة لما ورد بعدها من الأحكام في القتل.
3. هوّل الله تعالى أمر قتل المسلم أخاه المسلم، وجعله في حيّز ما لا يكون، فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ فجاء بصيغة المبالغة في النفي، وهي صيغة الجحود، أي ما وجد لمؤمن أن يقتل مؤمنا في حال من الأحوال إلّا في حال الخطأ، أو أن يقتل قتلا من القتل إلّا قتل الخطأ، فكان الكلام حصرا وهو حصر ادّعائي مراد به المبالغة كأنّ صفة الإيمان في القاتل والمقتول تنافي الاجتماع مع القتل في نفس الأمر منافاة الضدّين لقصد الإيذان بأنّ المؤمن إذا قتل مؤمنا فقد سلب عنه الإيمان وما هو بمؤمن، على نحو (ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) فتكون هذه الجملة مستقلّة عمّا بعدها، غير مراد بها التشريع، بل هي كالمقدّمة للتشريع، لقصد تفظيع حال قتل المؤمنِ المؤمنَ قتلا غير خطأ وتكون خبرية لفظا ومعنى، ويكون الاستثناء حقيقيّا من عموم الأحوال، أي ينتفي قتل المؤمن مؤمنا في كلّ حال إلّا في حال عدم القصد، وهذا أحسن ما يبدو في معنى الآية.
4. ولك أن تجعل قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ خبرا مرادا به النهي، استعمل المركّب في لازم معناه على طريقة المجاز المرسل التمثيلي، وتجعل قوله: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ ترشيحا للمجاز: على نحو ما قرّرناه في الوجه الأوّل، فيحصل التنبيه على أنّ صورة الخطأ لا يتعلّق بها النهي، إذ قد علم كلّ أحد أنّ الخطأ لا يتعلّق به أمر ولا نهي، يعني إن كان نوع من قتل المؤمن مأذونا فيه للمؤمن، فهو قتل الخطأ، وقد علم أنّ المخطئ لا يأتي فعله قاصدا امتثالا ولا عصيانا، فرجع الكلام إلى معنى: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا قتلا تتعلّق به الإرادة والقصد بحال أبدا، فتكون الجملة مبدأ التشريع، وما بعدها كالتفصيل لها.
5. وعلى هذين الوجهين لا يشكل الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾، وذهب المفسّرون إلى أنّ ﴿ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً﴾ مراد به النهي، أي خبر في معنى الإنشاء فالتجئوا إلى أنّ الاستثناء منقطع بمعنى (لكن) فرارا من اقتضاء مفهوم الاستثناء إباحة أن يقتل مؤمن مؤمنا خطأ، وقد فهمت أنّه غير متوهّم هنا، وإنّما جيء بالقيد في قوله: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ لأنّ قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ مراد به ادّعاء الحصر أو النهي كما علمت، ولو كان الخبر على حقيقته لاستغنى عن القيد لانحصار قتل المؤمن بمقتضاه في قتل الخطأ، فيستغنى عن تقييده به.
6. ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ الفاء رابطة لجواب الشرط، و(تحرير) مرفوع على الخبرية لمبتدإ محذوف من جملة الجواب: لظهور أنّ المعنى: فحكمه أو فشأنه تحرير رقبة كقوله: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [يوسف: 18]، والتحرير تفعيل من الحريّة، أي جعل الرقبة حرّة، والرقبة أطلقت على الذات من إطلاق البعض على الكلّ، كما يقولون، الجزية على الرؤوس على كل رأس أربعة دنانير.
7. من أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة، فإنّ الله لمّا بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشّية في البشر، وأقيمت عليها ثروات كثيرة، وكانت أسبابها متكاثرة: وهي الأسر في الحروب، والتصيير في الديوان، والتخطّف في الغارات، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهم، والرهائن في الخوف، والتداين، فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر، وأبقى الأسر لمصلحة تشجيع الأبطال، وتخويف أهل الدعارة من الخروج على المسلمين، لأنّ العربي ما كان يتقي شيئا من عواقب الحروب مثل الأسر، قال النابغة:
çحذارا على أن لا تنال مقادتي...ولا نسوتي حتّى يمتن حرائراé
ثم داوى تلك الجراح البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمّة: منها واجبة، ومنها مندوب إليها، ومن الأسباب الواجبة كفّارة القتل المذكورة هنا.
8. جعلت كفّارة قتل الخطأ أمرين:
أ. أحدهما تحرير رقبة مؤمنة، وقد جعل هذا التحرير بدلا من تعطيل حقّ الله في ذات القتيل، فإنّ القتيل عبد من عباد الله ويرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه، فلم يخل القاتل من أن يكون فوّت بقتله هذا الوصف، وقد نبهت الشريعة بهذا على أنّ الحرية حياة، وأنّ العبودية موت؛ فمن تسبّب في موت نفس حيّة كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستعبدة، وسنزيد هذا بيانا عند قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾ في سورة المائدة [20]، فإنّ تأويله أنّ الله أنقذهم من استعباد الفراعنة فصاروا كالملوك لا يحكمهم غيرهم.
ب. وثانيهما الدية، والدية مال يدفع لأهل القتيل خطأ، جبرا لمصيبة أهله فيه من حيوان أو نقدين أو نحوهما، كما سيأتي، والدية معروفة عند العرب بمعناها ومقاديرها فلذلك لم يفصّلها القرآن، وقد كان العرب جعلوا الدية على كيفيات مختلفة، فكانت عوضا عن دم القتيل في العمد وفي الخطأ، فأمّا في العمد فكانوا يتعيّرون بأخذها، قال الحماسي:
çفلو أنّ حيّا يقبل المال فدية...لسقنا لهم سيبا من المال مفعما
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم...رضى العار فاختاروا على اللبن الدّماé
وإذا رضى أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدروها بما يتراضون عليه، قال زهير:
çتعفّى الكلوم بالمئين فأصبحت...ينجّمها من ليس فيها بمجرمé
وأمّا في الخطأ فكانوا لا يأبون أخذ الدية، قيل: إنّها كانت عشرة من الإبل وأنّ أوّل من جعلها مائة من الإبل عبد المطلب بن هاشم، إذ فدى ولده عبد الله بعد أن نذر ذبحه للكعبة بمائة من الإبل، فجرت في قريش كذلك، ثمّ تبعهم العرب، وقيل: أوّل من جعل الدية مائة من الإبل أبو سيارة عميلة العدواني، وكانت دية الملك ألفا من الإبل، ودية السادة مائتين من الإبل، ودية الحليف نصف دية الصّميم، وأوّل من ودي بالإبل هو زيد بن بكر بن هوازن، إذ قتله أخوه معاوية جدّ بني عامر بن صعصعة.
9. أكثر ما ورد في السنّة من تقدير الدية من مائة من الإبل مخمسة أخماسا: عشرون حقّة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، ودية العمد، إذا رضي أولياء القتيل بالدية، مربّعة: خمس وعشرون من كلّ صنف من الأصناف الأربعة الأوّل، وتغلّظ الدية على أحد الأبوين تغليظا بالصنف لا بالعدد، إذا قتل ابنه خطأ: ثلاثون جذعة، وثلاثون حقة، وأربعون خلفة، أي نوقا في بطونها أجنّتها، وإذا كان أهل القتيل غير أهل إبل نقلت الدية إلى قيمة الإبل تقريبا فجعلت على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنّه جعل الدية على أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الغنم ألفي شاة، وفي حديث أبي داوود أنّ الدية على أهل الحلل، أي أهل النسيج مثل أهل اليمن، مائة حلّة، والحلّة ثوبان من نوع واحد، ومعيار تقدير الديات، باختلاف الأعصار والأقطار، الرجوع إلى قيمة مقدارها من الإبل المعيّن في السّنّة، ودية المرأة القتيلة على النصف من دية الرجل، ودية الكتابي على النصف من دية المسلم، ودية المرأة الكتابية على النصف من دية الرجل الكتابي، وتدفع الدية منجّمة في ثلاث سنين بعد كلّ سنة نجم، وابتداء تلك النجوم من وقت القضاء في شأن القتل أو التراوض بين أولياء القتيل وعاقلة القاتل.
10. والدية بتخفيف الياء مصدر ودي، أي أعطى، مثل رمى، ومصدره ودي مثل وعد، حذفت فاء الكلمة تخفيفا، لأنّ الواو ثقيلة، كما حذفت في عدّة، وعوّض عنها الهاء في آخر الكلمة مثل شية من الوشي.
11. أشار قوله: ﴿مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ إلى أنّ الدية ترضية لأهل القتيل، وذكر الأهل مجملا فعلم أنّ أحقّ الناس بها أقرب الناس إلى القتيل، فإنّ الأهل هو القريب، والأحقّ بها الأقرب، وهي في حكم الإسلام يأخذها ورثة القتيل على حسب الميراث إلّا أنّ القاتل خطأ إذا كان وارثا للقتيل لا يرث من ديته، وهي بمنزلة تعويض المتلفات، جعلت عوضا لحياة الذي تسبّب القاتل في قتله، وربما كان هذا المعنى هو المقصود من عهد الجاهلية، ولذلك قالوا: تكايل الدّماء، وقالوا: هما بواء، أي كفآن في الدم وزادوا في دية سادتهم، وجعل عفو أهل القتيل عن أخذ الدية صدقة منهم ترغيبا في العفو، وقد أجمل القرآن من يجب عليه دفع الدية وبيّنته السنّة بأنّهم العاقلة، وذلك تقرير لما كان عليه الأمر قبل الإسلام، والعاقلة: القرابة من القبيلة، تجب على الأقرب فالأقرب بحسب التقدّم في التعصيب.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/216.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان الكلام في الآيات السابقة في المنافقين الذين يعملون على نقض بناء الدولة الإسلامية، ويعملون على إلقاء الريب في قلوب أهل الايمان، وفى وجوب قتل الكافرين الذين ينقضون العهد والميثاق، والذين يظهرون الإيمان بين قبائلهم، ولا يعملون عملا للإسلام، فإنهم منافقون يريدون أن يتخذوا من مظهر الإيمان وقاية لهم، إن اشتدت الشديدة على أقوامهم! وإنه لا يحمى دم هؤلاء في القتال إلا إذا كانوا قد ألقوا السلام، واعتزلوا القتال مع أقوامهم، أو كانوا يصلون إلى قوم قد ارتبط المسلمون معهم بميثاق عدم اعتداء، وإن التفرقة بين هذه العناصر قد يقع معها الخطأ، ولذا ذكر القرآن الكريم الخطأ في هذه الأحوال الثلاث: وهى قتل المؤمن الخطأ لمؤمن قائم مع المؤمنين، وقتل الخطأ لمؤمن من قوم أعداء، وقتل الخطأ من قوم لهم ميثاق، حتى إذا وقع الخطأ كان الحكم بينا.
ولذا قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ (ما كان) النفى هنا ليس لنفى الوقوع، أى نفى أن يقع قتل خطأ، وإلا ما وقع ذلك أبدا، لكنه يقع، بل النفى بمعنى عدم الجواز والنهى عنه، مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا﴾ [الأحزاب]، ومثل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب]، والمعنى على ذلك ما ساغ ولا جاز ولا أبيح أن يقتل مؤمن مؤمنا قط، فإن ذلك أمر محرم تحريما قاطعا، لكن إن كان خطأ، فإن ذلك قد يكون معذرة يعتذر بها؛ لأن الله تعالى رفع عن أمة محمد إثم الخطأ، إذ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وليس على المؤمن إثم القتل إن قتل خطأ، وإن كان يجب الاحتراز من الخطأ، وإن التقصير لا يخلو من مؤاخذة، ولذلك قال الزيلعى من فقهاء الحنفية: (وبهذا النوع من القتل (أى الخطأ) لا يأثم إثم القتل، وإنما يأثم إثم ترك التحرز، والمبالغة في التثبت؛ لأن الأفعال المباحة لا تجوز مباشرتها إلا بشرط ألا تؤذى أحدا، فإذا آذى أحدا فقد تحقق ترك التحرز)، والقتل الخطأ يتصور في ثلاث صور:
أ. أولاها ـ أن يرمى هدفا، فيصيب إنسانا معصوم الدم، بأن تنحرف الرمية.
ب. الثانية ـ أن يقصد هدفا معينا، على أنه حيوان مفترس مثلا، فيتبين أنه إنسان معصوم الدم.
ج. الثالثة ـ أن يقتل إنسانا على أنه من الأعداء، فيتبين أنه معصوم الدم، تحت هذه الصور صور كثيرة: منها أن يقتل من قال: لا إله إلا الله، زاعما أنه قالها تحت حد السيف، وغير ذلك من أخطاء القتال.
2. سواء أصح هذا سببا للنزول(2) أم لم يصح، فإن الآية عامة تعم كل قتل خطأ، والقتل الخطأ يوجب كفارة، ويوجب دية تسلم إلى أهله، أى أنه يجب تعويض أهل الإيمان، إن أمكن، ويجب تعويض أسرة القتيل، وتعويض أهل الإيمان يكون بإعتاق رقبة مؤمنة، وتعويض أسرة القتيل، إن كانت غير منتمية لقوم عدو للمؤمنين يكون بالدية، وقد ذكرت أحوال ثلاثة للدية، تجب في حالين، ولا تجب في حال أخرى: أما الحالان اللتان تجب فيهما، فهما إذا كان القتل حدث على رجل مؤمن يعيش بين المؤمنين، والثانية إذا كان المقتول من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق عدم اعتداء.
3. وقد ذكر سبحانه الحال الأولى في قوله تعالت كلماته: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ التحرير جعله حرا طليقا لوجه الله تعالى، بعد أن كان عبدا رقيقا، والتعبير عن العتق بالتحرير، للإشارة إلى أن الحرية مقصد من مقاصد الشارع الإسلامى، وأن العقوبة ليس المقصود بها إيذاء القاتل، إنما المقصود بها نفع العبد، وكذلك كل عقوبة تكون بعتق رقبة لا يقصد بها الإيلام، إنما يقصد بها تحرير الرقاب، وقد أخطأ بعض الفقهاء فأشار على ملك من ملوك المسلمين قد جامع في رمضان بأن يصوم شهرين متتابعين، مع أن النص يقرر أن الصيام إنما هو بالنسبة لمن لا يملك رقابا، وكان خطؤه من ناحيتين:
أ. إحداهما: أنه أعمل الرأى في موضع النص، وذلك لا يجوز،
ب. الثانية: أنه لم يفهم مقصود الشارع ابتداء، وهو نفع العبيد بالإعتاق.
4. عبر عن نفس الحر بكلمة الرقبة، للإشارة إلى أن الرق غل معنوى في الرقاب، وأن المؤمن الصادق لا يجوز له أن يغل رقاب العباد، إلا لضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، ولذلك عبر سبحانه وتعالى عن العتق بفك الرقبة في آية أخرى، فقال سبحانه وجلت كلماته: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد]
5. الدية التى قدرها النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم هى مائة من الإبل لمن يملك إبلا، وألف دينار من الذهب لمن لا يملك إبلا، وعشرة آلاف درهم لمن يملك فضة، وقيل اثنا عشر ألف درهم: وقال الشافعى: إن الدية في الأصل مائة من الإبل، ومن لا يجد مائة من الإبل تكون عليه قيمتها من الذهب أو الفضة، بالغة ما بلغت، قليلة كانت أو كبيرة.
6. وإن الدية تسلم إلى ورثة المقتول، وقد كان رأي عمر: لا تسلم الدية إلا إلى عصبته، فلا يسلم جزء منها لزوجته مع أنها وارثة، فيروى أنه قضى بدية المقتول، فجاءت امرأته تطلب ميراثها، فقال: لا أعلم لك شيئا إنما الدية للعصبة، فقام الضحاك بن سفيان الكلابى وقال: (كتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يأمرنى أن أورث امرأة أشيم الضبابى من عقل (أى دية) زوجها أشيم) فورثها عمر بعد أن علم بقضاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذا، وما كان له أن يخالفه.
7. الدية عند الأكثرين تجب على عصبة القاتل، ليكون ذلك دليلا على تضافر الأسرة كلها، وإذا كان فقيرا وأسرته فقيرة، فإن دية المقتول تكون على بيت مال المسلمين؛ لأنه وارث من لا وارث له، فيجب عليه ما كان يجب على الوارث؛ ولأنه لا يطل دم في الإسلام، ولأنه إذا كانت الأسرة الصغرى قد عجزت عن دفع الدية، فإنها تجب على أسرته الكبرى، وهى الأمة.
8. هنا بحثان لفظيان:
أ. أولهما: التعبير عن أداء الدية بقوله: ﴿مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾، فإن هذا التعبير يومئ إلى وجوب حسن الأداء، بألا يكلفوا أسرة المقتول شطط التقاضى والمطالبة، فيجمعوا عليها ألم الفقد، ومضاضة الشكوى والتظلم، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة]
ب. الثاني: قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾، أى إلا أن يتبرع أهل القتيل، وفى التعبير بكلمة ﴿يَصَّدَّقُوا﴾ إشارة إلى أن ذلك أمر مرغوب فيه محبب، وأنه صدقة لها ثوابها، إذا كان أولياء القاتل وعصبته يرهقون بأدائها، أو كان العطاء من بيت المال فيتركونها صدقة لجماعة المسلمين، وإن ذلك يكون إذا كانوا هم في ثروة لا يحتاجون معها إلى هذه الدية، وفى الجملة يكون لها كل أحكام الصدقة، ولا صدقة إلا عن ظهر غنى.
9. سؤال وإشكال: ما الحكمة في هذه العقوبة؟ ولماذا كانت العقوبة أولا؟ ولماذا كانت بهذا الشكل!؟ والجواب:
أ. أما عن شرعية العقوبة، فحكمتها واضحة وهى تربية الناس على الاحتراز وصيانة الأنفس، وحسبك مثلا في عصرنا أننا نرى استهانة سائقى السيارات بالأنفس لنقص العقوبة على جريمة القتل الخطأ، فكان التقصير في تحرزهم واضحا، ولأن من المقررات الشرعية ألا يذهب دم في الأرض الإسلامية هدرا، وقد قال في ذلك الزيلعى من فقهاء الحنفية: الضمان في الخطأ بضرورة صون الدم من الإهدار، ولولا ذلك لتخاطأ كثير من الناس، وأدى إلى التفانى، ولأن النفس محترمة، فلا تسقط بعذر التخاطؤ، فيجب المال صيانة لها من الإهدار.
ب. وأما السبب في كون العقوبة على هذا النحو، فقد أشرنا من قبل إلى أنه قد اعتدى على الجماعة بتقصيره في التحرز، فوجب عليه أن يعوض الجماعة الإسلامية عما فقدت، واعتدى على الأسرة فثكلت عائلها أو وليها، فكان لا بد من تعويضهما، فأما تعويض الجماعة فبإعتاق رقبة مؤمنة؛ لأن تحرير العبد كأنه إحياء له، إذ الحرية هى الحياة، ولأنه أفقد الجماعة عنصرا عاملا فيها، فكان لا بد من تعويضها بعنصر عامل لها، والعبد عمله لسيده، أما الحر فعمله لجماعته، واعتداؤه على الأسرة كان تعويضها عنه ذلك المال المدفوع.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1797.
(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. القتل على أنواع ثلاثة:
أ. عمد محض، وهو أن يتعمد العاقل البالغ قتل غيره مباشرة، كالذبح والخنق، أو تسبيبا، كدس السم بالطعام، أو منعه عن الطعام، حتى مات جوعا، فإذا تحققت المساواة بين القاتل والمقتول في الدين والحرية، ولم يكن القاتل أبا للمقتول كان الخيار لولي المقتول بين ان يقتل القاتل قصاصا، وبين أن يأخذ منه الدية، ان رضي القاتل بإعطائها، فالخيار بين القصاص والدية للولي في قتل العمد، فان اختار الدية كان الخيار للقاتل بين أن يقدم نفسه للقتل، أو يدفع الدية، فلا الولي يجبر القاتل على دفع الدية، ولا القاتل يجبر الولي على أخذها، والدية الشرعية ألف دينار، وتبلغ 3 كيلوات ونصفا و29 غراما من الذهب.
ب. شبه العمد، وهو أن يكون القاتل عامدا في فعله، مخطئا في قصده، كمن ضرب صبيا للتأديب فمات، وهذا النوع من القتل يوجب الدية، دون القصاص، وهي ألف دينار تماما كدية العمد.
ج. خطأ محض، وهو أن يكون القاتل مخطئا في فعله وقصده، كمن رمى حيوانا فأصاب إنسانا فقتله، فان الإنسان غير مقصود، لا بالرمي، ولا بالقتل، وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾، وقد دل الكتاب والسنة مجتمعين على أن من قتل مسلما متعمدا فعليه أن يكفّر بعتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين، واطعام ستين مسكينا، فيجمع بين هذه الأصناف الثلاثة، وتسمى هذه بكفارة الجمع، وان كان القتل خطأ، أو شبه عمد فيكفّر بعتق نسمة، فان عجز صام شهرين متتابعين، فان عجز أطعم ستين مسكينا.
2. أما دية الخطأ فتتحملها العاقلة، وهم البالغون العقلاء الأغنياء من الذين يتقربون إلى القاتل بالأب، كالاخوة والأعمام وأولادهم الذكور دون الإناث، ومقدار الدية الف دينار، والدية حق لأولياء المقتول، ان شاءوا طالبوا بها، وان شاءوا أسقطوها عن القاتل، والى هذا أشار تعالى بقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾، وقال الفقهاء: وجبت الكفارة على من قتل خطأ زجرا له عن التقصير، وحثا على الحذر في جميع الأمور، ووجبت الدية على العاقلة رفقا بمن أخطأ، ووجب القصاص في قتل العمد تأديبا له على تعمد الحرام.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/407.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ الخطأ بفتحتين من غير مد، ومع المد على فعال: خلاف الصواب، والمراد به هنا ما يقابل التعمد لمقابلته بما في الآية التالية ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾
2. المراد بالنفي في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾ نفي الاقتضاء أي ليس ولا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الإيمان وحماه اقتضاء لقتل مؤمن هو مثله في ذلك أي قتل كان إلا قتل الخطإ، والاستثناء متصل فيعود معنى الكلام إلى أن المؤمن لا يريد قتل المؤمن بما هو مؤمن بأن يقصد قتله مع العلم بأنه مؤمن، ونظير هذه الجملة في سوقها لنفي الاقتضاء قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ﴾ [الشورى: 51]، وقوله: ﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾ [النمل: 60]، وقوله: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾ [يونس: 74] إلى غير ذلك.
3. الآية مع ذلك مسوقة كناية عن التكليف بالنهي التشريعي بمعنى أن الله تعالى لم يبح قط، ولا يبيح أبدا أن يقتل مؤمن مؤمنا وحرم ذلك إلا في قتل الخطإ فإنه لما لم يقصد هناك قتل المؤمن إما لكون القتل غير مقصود أصلا أو قصد ولكن بزعم أن المقتول كافر جائز القتل مثلا فلا حرمة مجعولة هناك.
4. ذكر جمع من المفسرين: أن الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ منقطع، قالوا: وإنما لم يحمل قوله: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ على حقيقة الاستثناء لأن ذلك يؤدي إلى الأمر بقتل الخطإ أو إباحته، وقد عرفت أن ذلك لا يؤدي إلا إلى رفع الحرمة عن قتل الخطإ، أو عدم وضع الحرمة فيه، ولا محذور فيه قطعا، فالحق أن الاستثناء متصل.
5. ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ إلى قوله: ﴿يَصَّدَّقُوا﴾ التحرير جعل المملوك حرا، والرقبة هي العنق شاع استعمالها في النفس المملوكة مجازا! والدية ما يعطى من المال عوضا عن النفس أو العضو أو غيرهما، والمعنى: ومن قتل مؤمنا بقتل الخطإ وجب عليه تحرير نفس مملوكة مؤمنة، وإعطاء دية يسلمها إلى أهل المقتول إلا أن يتصدق أولياء القتيل الدية على معطيها ويعفوا عنها فلا تجب الدية.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/39.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ ما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله، أي أن إيمانه يحجزه عن قتل المؤمن إلا خطأً؛ لأن الإيمان بالله واليوم الآخر يأمر بتقوى الله واجتناب سخطه خوفاً من عذابه، ولذلك قال تعالى في أهل الكتاب المدعين للإيمان بما أنزل عليهم: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:93] وهذا تهكم بهم وتسجيل عليهم بكذبهم في دعوى الإيمان؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين ما قتلوا أنبياء الله، فهو كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة:81]
2. وقد تكرر في القرآن مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ قال تعالى حاكياً عن الرسل: ﴿وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم:11] فليس المراد أن ذلك لا يجوز لنا، وإنما المراد أنه لا يليق بحالنا؛ لأنا لا نقدر عليه إلا بإذن الله الذي يظهر الآيات على أيدينا، وكذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي﴾ [يونس:15]، وقول يوسف عليه السلام: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي﴾ إلى قوله: ﴿مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [يوسف:38] أي لا يليق بحالنا لمعرفتنا بالله ووحدانيته وخوفنا منه وعلمنا بقبح الشرك إلى غير ذلك من موانع الشرك.
3. ولهذا فالاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ متصلٌ ولا حاجة لجعله منقطعاً، والخطأ: ما ليس بعمد، كأن يرمي طيراً فيصيب مؤمناً وهو لا يريد أن يصيبه، أو يضرب رجلاً بعصى وهو لا يريد قتله ولا يظن ذلك، ومن الخطأ وكْزُ موسى عليه السلام للقبطي لأنه لم يرد أن يقتله.
4. ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ تحرير رقبة: إعتاق رقبة، أي عبد، أو جارية مؤمنة، فلا يجزي الكافر، والمنافق المعلوم نفاقه، ولا الصبي الذي لم يبلغ حد التكليف والإيمان، والدية معروفة عند العرب مائة ناقة، وفي الشرع: قال الإمام الهادي عليه السلام: (دية الرجل من الذَّهب في أصحاب الذهب ألف مثقال ـ ثم بين أصحاب الذهب من أهل البلدان ـ ثم قال ـ: والدية في أهل الدراهم عشرة آلاف درهم ـ ثم قال ـ: وفي أهل البوادي من العرب وغيرهم مائة من الإبل ـ ثم قال ـ: وفي أهل البقر مائتا بقرة، وفي أصحاب الشاء: ألفا شاة)
5. ﴿مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ أي أهل المؤمن القتيل، وهم ورثته، والراجح أنها لهم جبر لمصيبتهم وتطييب لأنفسهم وصلاح لذات البين بين المؤمنين، فأما القتيل فعوضه في الآخرة، وقد سميت الدية ميراثاً، والأقرب: أنها لم تسم ميراثاً في الكتاب ولا في السنة، وإنما وقعت تسميتها ميراثاً في لفظ بعض الرواة فالتعبير منهم لاعتقادهم أنها ميراث، وإذا لم تكن ميراثاً فلا يقضى منها دين الميت إلا بإذن الورثة، فلهم أن يفعلوا ذلك، كما لهم أن يصّدقوا بها على القاتل فيتنازلوا عن الدية أو بعضها.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/141.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد أعطى الإسلام للإنسان أهمية كبيرة في مفاهيمه وتشريعاته، فاعتبر الحياة الإنسانية قيمة عظيمة في وعي الإنسان المسلم ووجدانه، مما ولّد في داخله شعورا باحترامها على مستوى وجوب الاحتياط في حفظها وسلامتها، لكونها ملكا للَّه الذي لا يبيح لأحد التصرف فيها بالقتل إلا بإذن اللَّه، في ما وضعه الله من حدود في حالات السلم والحرب؛ فلا حرية للإنسان في التصرّف في حياة الناس حسب رغباته ومزاحه بل لا بد له من أن يجعل مزاجه تابعا لإرادة اللَّه، وقد بلغ الأمر بالإسلام أن جعل حفظ الحياة واجبا على كل مسلم، في الموارد التي يحترم فيها التشريع الحياة، بحيث إن الأمر إذا دار بين أن ينتهك الإنسان حدود بعض المحرمات وترك بعض الواجبات، وبين أن يترك إنقاذ المؤمن؛ فإن التشريع الإسلامي يبيح ارتكاب الحرام لمصلحة حفظ حياة المؤمن، لأنها أكثر أهمية لدى الشرع، وإذا دار الأمر بين ترك المهم والأهم تقدم الأهم.
2. وقد انطلق التشريع في هذا الاتجاه من أجل حفظ التوازن في حركة الحياة في العالم، على أساس أن يشعر الناس بروح السّلام في حياتهم الاجتماعية، مما يبعث في مشاعرهم الثقة والاطمئنان في نطاق حدود اللَّه، فلا يخاف الإنسان على نفسه إزاء أي تصرف انفعالي يحدث له، ولا يخشى من ردود الفعل الشديدة التي تهدد حياته، في ما لا يجيز الإسلام معه ذلك.
3. وعلى هذا الأساس تكون المعادلة الإسلامية التشريعية أن الإنسان كلما ازداد إيمانا، كلما ازداد بعدا عن الاعتداء على أرواح الناس واحتراما لحياتهم؛ مما يجعل من الإيمان عنصر ضمان للحياة العامة، كما هو عنصر ضمان للحياة الخاصة.
4. وعلى هدى هذا الاتجاه، جاءت هاتان الآيتان لتحدّدا جزاء قتل المؤمن لدى اللَّه، في ما يكون خطأ، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ كما إذا أطلق إنسان النار على حيوان مثلا فأصاب إنسانا على سبيل الخطأ لعدم توفر عنصر القصد لذلك؛ وجزاء قتل العمد.
5. ففي حالة قتل الخطأ تحدثت الآية الأولى عن حالات ثلاث؛ ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ فإن كان القتيل مؤمنا من أهل مؤمنين، فلا بد من أن يدفع إلى أهله الدية المقدّرة في الفقه بعدة تقديرات، ويقوم بتحرير رقبة مؤمنة، فكأن الدية تمثل التعويض المادي عما فات أهله من الانتفاع بوجوده، ولو بشكل جزئي، بينما تكون عملية عتق العبد المؤمن بمثابة إحياء لنفس أماتتها العبودية في مقابل نفس أماتها القتل.
6. لا بد أن نشير إلى ما أشارت إليه الآية في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ وهو أن لأهل القتيل أن يعفوا عن الدية، باعتبار أنها حق لهم، فيكون حالها حال أيّ حق من حقوق الناس التي يملكون أمر إسقاطها، كما يملكون أمر استيفائها.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/402
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكروا أنّ مشركا من أهل مكّة وهو (الحارث بن زيد) كان يعذب أحد المسلمين ـ ولفترة طويلة ـ بالتعاون مع أبي جهل، وكان اسم هذا المسلم (عياش بن أبي ربيعة) ولم يكن تعذيبه بسبب جرم اقترفه، بل كان يعذب لمجرّد أنّه آمن بالإسلام، وبعد هجرة المسلمين إلى المدينة هاجر (عياش) إليها، فصادف يوما (الحارث بن زيد) في إحدى طرقات المدينة فقتله ظنّا منه أنّه ما زال عدوا للمسلمين، ولم يكن على علم بأن الحارث كان قد تاب وأسلم، فعلم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا الحادث، فنزلت الآية الشّريفة وهي تبيّن حكم مثل هذا القتل الناتج عن الخطأ.
2. لقد أطلقت الآية السابقة أيدي المسلمين في المنافقين الذين كانوا يشكلون خطرا كبيرا على الإسلام، وسمحت لهم حتى بقتل أمثال هؤلاء المنافقين، ولكن تفاديا لاستغلال هذا الحكم استغلالا سيئا، ولسد الطريق أمام الأغراض الشخصية التي قد تدفع صاحبها إلى قتل إنسان بتهمة أنّه منافق، وأمام أي تساهل في سفك دماء الأبرياء، بيّنت هذه الآية والتي تليها أحكام قتل الخطأ وقتل العمد، لكي يكون المسلمون على غاية الدقّة والحذر في مسألة الدّماء التي تحظى باهتمام بالغ في الإسلام، تقول الآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾
3. هذه الآية تقرر في الواقع حقيقة من الحقائق، فالمؤمن لا يسمح لنفسه إطلاقا أن يسفك دما بريئا، لأنّ المشاعر الإيمانية تجعل من الجماعة المؤمنة أعضاء جسد واحد، وهل يقدم عضو في جسد على قطع عضو آخر إلّا خطأ! من هذه الحقيقة يتّضح أنّ مرتكب جريمة القتل متهم أوّلا في إيمانه.
4. عبارة ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ لا تعني السماح بارتكاب قتل الخطأ! لأنّ مثل هذا القتل لا يكون عن قرار مسبق، ولا يكون مرتكبه حين الارتكاب على علم بخطئه أنّها ـ إذن ـ تقرير لحقيقة عدم ارتكاب المؤمن مثل هذه الجريمة إلّا عن خطأ.
5. ثمّ تبيّن الآية الكريمة غرامة قتل الخطأ، وتقسمها إلى ثلاثة أنواع:
أ. فالنّوع الأوّل: هو أن يحرر القاتل عبدا مسلما، ويدفع الدية عن دم القتيل إلى أهله إذا كان القتيل ينتمي إلى عائلة مسلمة ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ فإذا وهب أهل القتيل الدية وتصدقوا بها له فلبس على القاتل أن يدفع شيئا: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾
ب. والنّوع الثّاني: من غرامة قتل الخطأ يكون في حالة ما إذا كان القتيل مسلما، ولكن من عائلة معادية للإسلام ويجب في هذه الحالة عتق عبد مسلم ولا تدفع الدية إلى أهل القتيل، لأنّ الإسلام يرفض تعزيز الحالة المالية لأعدائه، بالإضافة إلى ذلك فإنّ الإسلام قد قطع الصلة بين هذا الفرد وعائلته المعادية للإسلام، فلا معنى إذن لجبران الخسارة.
ج. أما النّوع الثّالث: من غرامة القتل الناتج عن الخطأ، فيكون في حالة كون القتيل من عائلة غير مسلمة لكن بينها وبين المسلمين عهدا وميثاقا، في مثل هذه الحالة أمر بدفع دية القتيل إلى أهله، كما أمر ـ أيضا ـ بتحرير عبد من العبيد المسلمين احتراما للعهود والمواثيق تقول الآية: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾
6. اختلف المفسّرون في قتيل الحالة الثالثة، هل يجب أن يكون من المسلمين، أم أن الحكم يشمل غيرهم من الكفار الذميين؟ وظاهر الآية والروايات التي وردت في تفسيرها تدل على أنّ المقصود فيها هو القتيل (المسلم)، كما اختلف المفسّرون في جواز دفع الدية إلى أهل القتيل غير المسلمين، حيث أنّ الدية تعتبر جزءا من الإرث، والكافر لا يرث المسلم، ولكن ظاهر الآية يدل على وجوب دفع الدية إلى أهل مثل هذا القتيل، وذلك تأكيدا من الإسلام لاحترامه للعهود والمواثيق، وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الدية تدفع في هذه الحالة إلى المسلمين من ورثة القتيل دون الكافرين منهم معتمدين على أنّ الكافر لا يرث المسلم وأنّ الدية هي جزء من الإرث، وقد وردت إشارات إلى هذا المعنى في بعض الروايات أيضا، بينما ظاهر الآية يدل على أن الورثة ليسوا من المسلمين، وذلك حين تقول: ﴿مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ لأن العهود والمواثيق كانت في ذلك الزمان بين المسلمين وبين غيرهم، ولم تكن بين المسلمين أنفسهم ـ حينذاك ـ عهود أو مواثيق، (وهنا يجب الإمعان والتدقيق كثيرا من الأمر)
7. وتستطرد الآية في بيان الحكم فتتطرق إلى أولئك النفر من المسلمين الذين يرتكبون القتل عن خطأ، ولا يسعهم ـ لفقرهم ـ دفع المال دية عن القتيل، كما لا يسعهم شراء عبد لتحرير رقبته غرامة عن ارتكابهم للقتل الخطأ، وتبيّن حكم هؤلاء، وتعلن أنهم يجب أن يصوموا شهرين متتابعين غرامة عن القتل الخطأ الذي ارتكبوه، بدلا من الدية وتحرير الرقبة، وقد اعتبرت ذلك نوعا من تخفيف الجزاء على الذين لا يطيقون الغرامة المالية وتوبة منهم إلى الله، علما أنّ جميع أنواع الغرامات التي ذكرت في الآية عن القتل الخطأ، إنما هي توبة وكفارة للذنب المرتكب في هذا المجال، والله يعلم بخفايا الأمور وقد أحاط علمه بكل شيء حيث تقول الآية: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾
8. لقد وردت في الآية ـ موضوع البحث ـ أمور عديدة يجدر الانتباه إليها وهي:
أ. ذكرت الآية ثلاثة أنواع من التعويض عند حصول قتل عن خطأ، وكل نوع في حدّ ذاته تعويض عن الخسارة الناجمة عن هذا القتل، فتحرير رقبة عبد مسلم يعتبر تعويضا عن خسارة اجتماعية ناتجة عن القتل الواقع على إنسان مسلم، إذ بعد أن خسر المجتمع فردا نافعا من أفراده بسبب وقوع القتل عليه، حصل على تعويض مماثل وذلك بدخول إنسان نافع آخر بين أفراده عن طريق التحرير، وأمّا التعويض المادي (الدية) فهو مقابل الخسارة المادية اللاحقة بأهل القتيل نتيجة فقدهم إياه، والحقيقة أن الدية ليست ثمنا لدم القتيل المسلم البريء، لأن دمه لا تعادله قيمة، بل هي ـ وكما أسلفنا ـ نوع من التعويض عن خسارة مادية لاحقة بذوي القتيل بسبب فقدانه، وأمّا الخيار الثّالث الوارد في حالة تعذر تقديم التعويض المادي، فيتمثل في صيام شهرين متتابعين يقوم به القاتل، فهو تعويض أخلاقي ومعنوي لخسارة معنوية لحقت بالقاتل نفسه بسبب ارتكابه لحادث قتل، فالكفارة تتحقق في الدرجة الأولى في تحرير رقبة مؤمنة، فإن عجز القاتل فصيام شهرين متتابعين ـ ويجب الانتباه هنا إلى أن تحرير العبيد يعتبر بحدّ ذاته عبادة، لما له من أثر معنوي على العبد الذي يتحرر من قيود الرق.
ب. ورود عبارة ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ بالنسبة إلى أهل القتيل الذين هم من المسلمين، أي أن يتنازلوا عن (دية) قتيلهم، حيث لم ترد هذه العبارة بالنسبة لغير المسلمين ـ وسبب ذلك واضح، وهو لأن الأرضية للصفح والعفو متوفرة لدى المسلمين حيال أمثالهم، بينما لا تتوفر مثل هذه الأرضية لدى غير المسلمين تجاه المسلمين، كما أن المسلم يجب أن لا يقبل معروفا أو منّة من غير المسلم في هذه الحالات.
ج. وممّا يجلب الانتباه أنّ الحالة الثالثة الواردة في آية موضوع البحث، قد قدمت كفارة الدية على كفارة التحرير، وهذه الحالة تتناول مسألة القتل الخطأ الواقع على شخص لا ينتمي أهله إلى الإسلام، بينما الحالة الأولى ـ التي كان القتيل فيها من عائلة إسلامية ـ تقدمت فيها كفارة التحرير على كفارة الدية، ويمكن الاستنتاج من هذا التقديم والتأخير أن مسألة دفع الدية في موعد متأخر بالنسبة للمسلمين فيما بينهم، لا تترك أثرا سلبيا عليهم ـ في الغالب ـ بينما لو كان أهل القتيل من غير المسلمين لوجب التعجيل في دفع الدية ـ أوّلا ـ اتقاء للفتنة، ولكي لا يفسّر أهل القتيل وقومه مسألة القتل الحاصلة بأنّها نقض للعهد من جانب المسلمين.
د. لم تحدد الآية الكريمة مقدار الدية أو مبلغها في أي من الحالات الثلاثة المذكورة، ويستنتج من هذا أن مسألة التحديد هذه إنّما أوكلت إلى السنة التي عينت بالفعل مقدارها الكامل بألف مثقال من الذهب، أو بمائة بعير، أو مائتين من البقر، ويمكن أن يكون ثمن هذه الأنواع مالا إذا حصل اتفاق بين طرفي القضية، (وبديهي أن تخصيص الذهب أو نوع من أنواع الماشية دية عن القتل، إنما هو سنة إسلامية تستند مبرراتها على الأمور الطبيعية لا الوضعية المتغيرة بتغير الزمان)
هـ. قد يرد هذا الوهم لدى البعض بأنّ القتل الواقع خطأ، يجب أن لا يكون بإزائه غرامة أو عقوبة، لأن القاتل لم يرتكب جريمة عن عمد أو سبق إصرار وإن الخطأ لا عقوبة أو غرامة مالية عليه، وجواب هذا ـ أو توضيحه ـ هو أن القتل، دون سواه من الجرائم، تدخل فيه قضية بالغة الأهمية وهي قضية الدم المراق فيها والحياة الإنسانية التي تسلب عضو من أعضاء المجتمع.. ولكي يبيّن الإسلام اهتمامه الكبير بحياة الأفراد، ويدفع معتنقيه إلى التزام الحيطة والحذر الدقيقين لعدم التورط في ارتكاب مثل هذه الأخطاء، شدد في مسألة الغرامة والعقوبة حرصا منه على حياة أفراد المجتمع، ولكي لا يصبح الخطأ عذرا يتوسل به من شاء في إهدار دماء الأبرياء من الناس.
9. والعبارة الأخيرة من الآية الكريمة التي هي ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ قد تكون إشارة إلى أنّ وقوع الخطأ يكون غالبا بسبب التهاون وقلة الحذر، وان الخطأ إذا كان كبيرا كالقتل ـ يجب التعويض عنه أوّلا وإرضاء أهل القتيل لكي تشمل القاتل أو الخاطئ بعد ذلك التوبة الإلهية.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/379
88. القتل الخطأ والأعداء والمعاهدون
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈88⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 92]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
عمر:
روي عن عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) أنّه قال: دية أهل الكتاب أربعة آلاف درهم، ودية المجوس ثمانمائة(1).
__________
(1) الشافعي ٢/٢١٤.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه كان يجعل دية أهل الكتاب إذا كانوا أهل ذمة كدية المسلمين(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٢٩.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾، فعلى قاتله الدية مسلمة إلى أهله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، يقول: إذا كان كافرا في ذمتكم فقتل فعلى قاتله الدية مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، كان الرجل يكون معاهدا، وقومه أهل عهد، فيسلم إليهم ديته، ويعتق الذي أصابه رقبة(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، عهد(4).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٥.
(2) ابن جرير ٧/٣١٧.
(3) ابن أبي شيبة ٩/٤٤٤.
(4) ابن جرير ٧/٣٢٢.
السجاد:
روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) أنّه قال: صيام شهرين متتابعين من قتل الخطأ ـ لمن لم يجد العتق ـ واجب، قال الله: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ... فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ﴾(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/266.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾، لأهل المقتول من أهل العهد من مشركي العرب(1).
2. روي أنّه قال: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللهِ﴾ يعني: تجاوزا من الله لهذه الأمة حين جعل في قتل الخطأ كفارة ودية، ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ يعني: حكم الكفارة لمن قتل خطأ(2).
3. روي أنّه قال: ثم صارت دية في العهد، والموادعة لمشركي العرب منسوخة، نسختها الآية التي في براءة: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يتوراث أهل ملتين(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٥.
(2) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٦.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: دية اليهودي والنصراني والمجوسي من أهل العهد كدية المسلم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، هذا الرجل المسلم وقومه مشركون، وبينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عقد، فيقتل، فيكون ميراثه للمسلمين، وتكون ديته لقومه، لأنهم يعقلون عنه(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٣١.
(2) سعيد بن منصور (٢٨٢٨.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، هو كافر(1).
__________
(1) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.
ابن عبد العزيز:
روي عن عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ) أنّه قال: دية المعاهد على النصف من دية المسلم(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٣٢.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: دية اليهودي والنصراني والمجوسي مثل دية الحر المسلم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، من أهل العهد وليس بمؤمن(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٣٠.
(2) ابن أبي شيبة ٩/٤٤٤.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: دية المجوسي ثمانمائة، ودية اليهودي والنصراني أربعة آلاف.. وقال الشعبي: ديتهم واحدة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، كلهم مؤمن(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٣١.
(2) ابن جرير ٧/٣٢٠.
أبي المليح:
روي عن أبي المليح (ت 112 هـ): أن رجلا من قومه رمى يهوديا أو نصرانيا بسهم، فقتله، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأغرمه ديته أربعة آلاف(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٣٣.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ بقتله، أي: بالذي أصاب من أهل ذمته وعهده(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣١٩.
ابن شعيب:
روي عن عمرو بن شعيب (ت 118 هـ)، عن أبيه، عن جده، قال كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثمانمائة دينار، أو ثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين، وكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر بن الخطاب، فقام خطيبا، فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية(1).
__________
(1) أبو داود ٦/٦٠١.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: دية اليهودي والنصراني والمجوسي وكل ذمي مثل دية المسلم.. وقال: وكذلك كانت على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وحتى كان معاوية، فجعل في بيت المال نصفها، وأعطى أهل المقتول نصفا.. وثم قضى عمر بن عبد العزيز بنصف الدية، فألغى الذي جعله معاوية في بيت المال، قال وأحسب عمر رأى ذلك النصف الذي جعله معاوية في بيت المال ظلما منه، قال الزهري: فلم يقض لي أن أذاكر ذلك عمر بن عبد العزيز، فأخبره أن قد كانت الدية تامة لأهل الذمة.. وقلت للزهري: إنه بلغني أن ابن المسيب قال ديته أربعة آلاف، فقال: إن خير الأمور ما عرض على كتاب الله، قال الله تعالى: ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ فإذا أعطيته ثلث الدية فقد سلمتها إليه(1).
2. روي أنّه قال: إن أبا بكر، وعثمان بن عفان كانا يجعلان دية اليهودي والنصراني إذا كانا معاهدين كدية المسلم(2).
3. روي أنّه قال: دية الذمي دية المسلم(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾، بلغنا: أن دية المعاهد كانت كدية المسلم، ثم نقصت بعد في آخر الزمان، فجعلت مثل نصف دية المسلم، وإن الله أمر بتسليم دية المعاهد إلى أهله، وجعل معها تحرير رقبة مؤمنة(4).
__________
(1) عبد الرزاق في مصنفه ١٠/٩٥.
(2) ابن جرير ٧/٣٢٩.
(3) ابن جرير ٧/٣٣٠.
(4) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٥.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال في رجل مسلم كان في أرض الشرك فقتله المسلمون ثم علم به الإمام بعد، فقال: يعتق مكانه رقبة مؤمنة، وذلك قول الله عز وجل: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾، ثم قال: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾(1).
__________
(1) التهذيب 10/315.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، يقول: إن كان المؤمن الذي قتل ليس له ذرية في المسلمين، وله ذرية في المشركين من أهل عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيمن بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ميثاق، يقول: ادفعوا الدية إلى ورثته(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ أي: إلى أهل المقتول، يعني: إلى ورثته بمكة، وكان بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين أهل مكة يومئذ عهد، ﴿و﴾ عليه ﴿تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ﴾ هذا المقتول وكان ورثته ﴿مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾(1).
3. روي أنّه قال: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللهِ﴾ تلك الكفارة تجاوز من الله في قتل الخطأ لهذه الأمة؛ لأن المؤمن كان يقتل بالخطأ في التوراة على عهد موسى عليه السلام، ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ حكم الكفارة والرقبة(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٦.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾، يقول: فأدوا إليهم الدية بالميثاق، قال وأهل الذمة يدخلون في هذا، ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٢٠.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عز وجل: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾:
أ. عن ابن عَبَّاسٍ قال: يكون الرجل مؤمنًا وأهله كفار في دار الحرب، فيقتله مسلم، فلا دية عليه، ولكن عليه عتق رقبة مؤمنة.
ب. وعنه ـ أيضًا ـ قال: كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومَهُ فيقيم فيهم، ثم يمر بهم الجيش من المسلمين؛ فيصاب فيمن يصاب؛ فأنزل اللَّه تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾
2. قَالَ بَعْضُهُمْ: كيف يكون للمؤمن المقيم في دار الحرب دية؛ وأولياؤه حرب لنا؟ فهل يجوز أن تعطى لهم الدية ونحن نغتنم أموالهم؟ فَإِنْ قِيلَ: تكون الدية لبيت المال، قيل له: إنما يجوز أن تكون لبيت المال من لو كان حيًّا ـ كان له في بيت المال حق، فأما المسلم المقيم في دار الحرب فلا حق له في بيت المال؛ لأن حكمنا لا يجري على داره، فكيف يستحق بيت المال ديته!؟ وبعد: فإن المسلم في دارهم لم يصر بالإسلام محرزا نفسه وماله؛ لأن دار الحرب ليست بدار يحرز بها الدماء والأموال، فإذا كان كذلك فلم يكن للأنفس والأموال هنالك بدل؛ لذلك لم تجب الدية، ألا ترى أنَّ من أتلف مال ذلك المسلم لم يغرم بَدَلَهُ؟ فعلى ذلك لم يغرم بدل نفسه؛ لأن حرمتهما سواء في دار الإسلام.
3. ثم اختلف في تأويل قوله ـ أيضًا ـ: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ الآية، على الاتفاق أن لا دية فيه لكن الاختلاف في أنه: من يخرج على ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن ذلك فيما يقتل على الإغارة، نحو أن يغار على أهل الحرب وفيهم مسلم: فإنه لا دية فيه؛ لما أبيحت الإغارة؛ فيجب على هذا أمران:
• أحدهما: أن يكون دفع الكفارة في ذلك أحق من دفع الدية، ومن حيث كانت الكفارة حق اللَّه بمعنى العبادة أو القربة، فإذا وقعت الإباحة من عنده فهي في السقوط أحق من الدية التي هي حق العباد، ولم يرد ممن هي له الإباحة، فلما أوجبت هي فالدية أحق أن ثجب، فإذ لم تجب بأن أنه ليس على ما قدروا.
• والثاني: أن يكون لو كان كذلك، فيجيء أن يكون ذلك فيمن كان من قوم عدو لنا أو لا سواء جُعل من حيث الإغارة، بل إذا صارت الإغارة مباحة، وإن كان فيهم مسلم ذهب حق النفس من الأمرين جميعًا: من الدية، والكفارة، وكذلك الجواب في قوم تترسوا بالمؤمنين أنه إذا أبيح الرمي فيستوي الأمران جميعًا من الدية والكفارة، وعلى ذلك اختلف فيمن له القصاص فيما دون النفس؛ فمات من الاقتصاص: أن لا كفارة في ذلك، وقد اختلف في الدية، وعلى ذلك من يقتله ممن لا يحتمل العلم، وما أوجب من العقل في الوجود بلا دية يوجب أن تكون الدية أحق في الإيجاب من الكفارة؛ فإذ لم تجب بأن أن ليس دفع الدية لما ظنوا.
ب. الثاني: ذهبوا إلى القتيل الذي قومه أهل الحرب أنه لا تجب فيه الدية؛ يقوله: ﴿مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾. ويؤيد ذلك قوله: ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ وأهله عدو لا يحتمل التسليم إليهم بما لنا أخذ أموالهم؛ فيصير بذلك لنا، وأما الكفارة فهي بين العبد وبين اللَّه، فتلزمه؛ إذ هي في حق التوبة والكفارة؛ لما في ذلك من معنى الإثم؛ فيدخل على ذلك ـ أيضًا ـ أمران:
• أحدهما: إبطال الدية عن كل نفس لا وارث لها إذا قتل من أهل دار الإسلام في دار الإسلام؛ إذ لا أهل لها، وعدم الأهل أكثر من كون الأهل وهم أعداء له، بل يغرم الذي قتله وقومه لبيت المال، فعلى ذلك الأول لو كان يجب، ولكن لم يجب لا لهذا؛ إذ قد رأينا الوجوب مع ما هو أعظم في العدة من هَؤُلَاءِ، وأيد ذلك الإيجاب في المؤمن الذي قومه من أهل الميثاق، أو الكافر الذي هو من أهل الميثاق، والعداوة لم تكن انقطعت بالميثاق.
• والوجه الثاني: أنه لا توارث يجري بين المسلم وأهل الكفر ليبطل حق الدية بوجوبها لهم، بل يتحول الميراث بالإسلام إلى أهل الإسلام، وإن لم يكن له خصوص أهل، وعلى ذلك جميع تركته؛ فبان أنه لا لهذا لم يوجب.
ج. والقول الثالث: أن الآية فيمن أسلم في دار الحرب ولم يخرج إلينا حتى يقتله مؤمن خطأ أن عليه تحرير رقبة، ولا دية فيه؛ فيكون المعنى ﴿مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾: هو من قوم في الظاهر عند القاتل لم يخرجوا بعد عن إظهار المعاداة، ثم يكون قتله الخطأ من وجهين:
• أحدهما: بما كان عرف كفره، ولم يظهر انتقاله عما كان عليه في الظاهر، لا بخروجه إلى دار الإسلام ولا سيما يظهر، وذلك ظاهر الوجود، وفي مثله نزل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ الآية، وقد أخبر أنهم كانوا كذلك يكتمون دينهم حتى مَن اللَّه عليهم بالإظهار؛ فيكون هذا بين أظهرهم على الأمر الأول، ولا على ذلك شأن المسلمين الذين دخلوا تلك الدار بالأمان، ولا يحتمل أن يلحقه هذا النوع من قتل الخطأ؛ فلزم في نفسه البدل على كل حال.
• والثاني: أن يرمي غيره فيصيبه على ما يكون خطأ أهل هذه الدار، ولم تجب له الدية؛ لما يقع فيه الخطأ من الوجه الذي على الآمر يفعل على ما بينت؛ فلا يحتمل أن يجعل لنفسه بدل.
4. والأصل في ذلك: أن دإر الحرب هي دار الحرب، وفي الحرب سفك الدماء وإتلاف الأموال؛ فلا يقع بها إحراز الدماء والأموال؛ فلذلك لم يجب فيها البدل، وليس كدار الإسلام؛ لأنها دار سلم وأمن حتى جعلت تحرز بها الدماء والأموال على ما كان أنفس الأعداء إذا دخلت بالميثاق إلينا استوجبت حق الأعراض ولزوم البدل، وإن كانوا من قوم عدو لنا؛ إذ هي الدار دار سلم وإحراز، ولا يشبه الذي أسلم، ولم يخرج، الذي خرج من هذه الدار مسلمًا لما كان يخرج بأمان، وفي الأمان لزوم حفظ الأمر الأول، وليس في الأول ذلك على أن أحد الأمرين في ابتداء الإيجاب، والآخر في البقاء على ما وجب، ومعلوم تفاضل هذين في الأصول، واختلاف الأمر بينهما، وقد كان في إبقاء بعض ما يستوجب بالدِّين لترك الهجرة؛ كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾، وقد نسخت تلك الهجرة، ولم تنسخ الهجرة إلى دار الإسلام، وإن نسخت إلى المدينة، فلم يكن لنا من ولايتهم من شيء، وإنما حق بذل الأنفس لمن يبقى عنه من الأولياء والأهل، وقد بقي ذلك؛ فلذلك لم يجب.
5. وعلى هذا يخرج قولنا فيه: لو قتل عمدًا ألَّا يجب القصاص ولا الدية؛ لأن الله تعالى ـ قال: ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾، وقد بقي فيما نحن فيه الولاية؛ لذلك بطل السلطان، وفي بطلانه بطلان البدل، ويجوز معه بقاء الحق الذي بينه وبين اللَّه؛ لثبات تلك الحرمة.
6. ووجه آخر في تأويل قوله: ﴿مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ أي: في قوم مظهري العداوة؛ دليل ذلك: أنه وإن خرج إلى هذه الدار فهم قومه، لكنه ليس يرجع إلى مؤمن آمن وهو يعد فيهم أن لا شيء، فإذا خرج إن عاد وإلا فله حكم نازله لم يقتضه حق الآية؛ فيجب فيه الذي يجب على حسب الدليل الموجب.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾:
أ. قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك القتيل معاهد؛ من قوم بيننا وبينهم ميثاق؛ فاحتج بعض أصحابنا (2) بهذه الآية الكريمة، في إيجاب الدية في قتل المعاهد: دية مسلمة، وهي مثل دية المسلم؛ لأن اللَّه تعالى قال فيهما جميعًا: ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ﴾، فهما سواء. وقد روي ذلك عن ابن عَبَّاسٍ.
ب. والآية تحتمل غير هذا؛ لأن اللَّه تعالى قال في أول الآية: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ فيحتمل: أن يكون معناه: وإن كان المقتول المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فاكتفى بذكر الإيمان في القتيلين الأولين عن إعادة ذكر الإيمان في القتيل الثالث، ولم يكتف بذكر الإيمان في القتيل الأول عن إعادته في الثاني؛ لأنه لو قال اللَّه تعالى:، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾، ولم يزد على هذا ـ كنا نوجب الدية في قتل كل مؤمن؛ فذكر الإيمان في الثاني للتفريق بينهما، وأما ذكر الإيمان في الثاني أغنى عن ذكره في الثالث؛ لأنه لا تفرقة بينهما؛ لذلك كان ما ذكرنا.
ج. وعن الحسن: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ قال: مؤمن.
8. استدل من ذهب إلى أن المقتول مسلم بأن اللَّه تعالى قال: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ ولا تجب الكفارة على قاتل المعاهد إذا لم تكن ذمة، ألا ترى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فدى قتيلي عمرو بن أمية، وكان لهما عهد، ولم يبلغنا أنه أمر بالكفارة، فيقال: إن الكفارة واجبة على قاتل المعاهد المستأمن بظاهر الآية بقوله: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، وقال أيضا: ومما يدل أن المقتول معاهد: أنه لو كان مسلمًا لم يجب لأهله من المعاهدين الدية؛ لأنهم لا يرثونه، وإنما يرثونه إذا كان معاهدًا، وهذا يؤيد قول أصحابنا في وجوب كمال دية المسلم على قاتل المعاهد، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه ودى ذميًّا دية مسلم، وحديث عمرو بن أمية: أنه كان ببعض الطريق، فأقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان معهما عهد من رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يعلم به عمرو، وقد علم أنهما من بني عامر، فلما ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه أصاب منهما ثأره من بني عامر، فلما قدم عمرو على رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لقد قتلت قتيلين لأدينهما. فوداهما رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومعلوم أن الدية كانت تامة وإن لم تسم؛ لأن العرب كانت لا ترضى أن تنتقص دياتها عن ديات المسلمين، وعن ابن عَبَّاسٍ: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل دية العامِرِيَّينِ دية الْحُرَّيْنِ المسلمين، وعن ابن مسعود قال: دية أهل الكتاب مثل دية المسلم.
9. سؤال وإشكال: فَإِنْ قِيلَ: روي عن عمر قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. عن عثمان مثله، والجواب: يحتمل هذا ما روي عن عمر: أنه قوَّم الإبل فبلغت قيمتها أربعة آلاف درهم، ثم قومها ثانيًا فبلغت ستة آلاف، إلى أن بلغت عشرة آلاف، أو ما ذكر، فيحتمل أنه لما قوَّمها فبلغت أربعة آلاف كان ذلك في دية يهودي أو نصراني؛ فظن الراوي أنه إنما أوجب أربعة آلاف؛ لأنه دية النصراني أو اليهودي، فروي على ذلك مع ما رُوي عن عمر وعثمان بعشرة آلاف، وروي أن أبا بكر وعمر وعثمان قالوا: دية المعاهد دية الحر المسلم، فهذا يوهن قولهما الأول، أو يحتمل أن يكون على الاصطلاح:
10. سؤال وإشكال: فَإِنْ قِيلَ: روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (دِيَةُ الكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ) والجواب: إن كلا الفريقين تركوا العمل بهذا الخبر؛ لأن من يقول بأربعة آلاف لم يأخذ به؛ لأن أربعة آلاف ثلث دية المسلم، على قوله؛ لأن دية المسلم الحر اثنا عشر ألفا عنده، ومن يقول بعشرة آلاف لم يأخذ به؛ فقد أجمعوا على ترك العمل به؛ وذلك لما لم يثبت عندهم مع ما وصفنا في باب: قتل المسلم بالكافر ما يدل على أن ذلك واجب، فإذن وجب قتل المسلم بالذي وجب أن تكون ديتهما سواء، ألا ترى أن الكفارة على قاتلهما سواء.
11. قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، اختلف في تأويل هذا الحرف من وجهين:
أ. أحدهما: أن الآية في المؤمنين خاصة، لكنهم على أقسام ثلاثة:
• أحدها: على النشوء على الإيمان.
• والآخر: على إحداث الإيمان في دار الحرب من أهل الحرب.
• والثالث: على إحداث الإيمان من أهل الميثاق في دار العهد.
ب. والآخر من وجهي الآية: بيان جميع ما يجب في نفسه حق إذا قتل خطأ من مؤمن قد أحرز دمه بالإيمان، أو بالإيمان والدار، أو بالعهد، وفي ذلك إنما قطع الحق عن كثير ممن ينهى عن قتلهم إذا لم تتضمنهم هذه الآية، من نحو نساء أهل الحرب والذراري، فلم تجب الدية بما لم تحرز دماؤهم بدار الحرب، ولم تجب الكفارة بارتفاع الميثاق، وإن كنا لا نقتلهم.
12. فإن كان تأويل الآية هذا ـ فكان في الآية ـ أيضًا ـ على تخصيص القتيل المؤمن من أهل الحرب أن لا دية فيه، وعنها كان فَهْمُ الإجماع أن اللَّه لو أراد الجمع بين القتيل لكان يخرج الأمر على الإبلاغ على ما في الكفارة وما فيها من صفة الإيمان، أو على الإيجاز والتدريج فيها بالمعنى، فالذكر في قتيل واحد كان، فلما ذكر في قتيلين ولم يذكر في الواحد ـ دل أنه على التفريق، وأيد ذلك أمر الصيام أنه ذكر مرة، والحكم به يأتي على الكل، أوعلى ذلك، حق الدية مع ما بين الذي هو وصفه.
13. وإن كان تأويل الآية الأولى فأوجب في المعاهد بالمروي عن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنه قضى في عامريَّينِ دخلا بأمانٍ فَقُتِلَا ـ بدية حُرَّينِ مسلمَين، وفي ذلك بيان أن الدية لم تكن وجبت بالنهي عن القتل؛ إذ هو في الذراري والنساء قائم، ولم تجب، لكن بالعهد، فإذا كان على الاتفاق في الدِّين والنهي فرق بينهما بالعهد؛ فعلى ذلك أمر المسلمين على الاتفاق في الدِّين والنهي يفرق بينهما بمكان العهد والإحراز.
14. وأيد التأويل الثاني شرط الإيمان في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ فلولا أن الذكر يقتضي القتيل من العدو، لم يكن ليحتاج إلى ذكر المؤمن، وقد سبق بيان المقصود في ابتداء الآية في النهي والثنيا جميعًا، فإذا لم يذكر في أهل الميثاق فصار متروكًا على ما يقتضيه، وأيد ذلك الذي هو وصفه أن ذكر النوعين يدل على التفريق إذ ليس على حق الاقتضاء بالمعنى، ولا على حق الإبلاغ في البيان، وجميع الكل يخرج على ذانك النوعين في حق الحكمة؛ لذلك صار إلى حق التفريق.
15. ثم الظاهر قد يضمن الخطاب بأمرين:
أ. أحدهما: في حق هتك الحرمة.
ب. والآخر: في حق العوض من غير تفريق في وزن الملفوظ، وجاء البيان للواجد، وهي دية المؤمن؛ فيصير كأن البيان في الآية، ومعلوم أنه لو كان ـ لكان يأخذ الكل، إلا أن يجيء التفريق على ما ذكر من أمر الصيام وحق التوبة، وأن ذكر الآحاد في حق بيان التضمين كذلك في الكل الدية على حد واحد مع ما استوى أمر الكفارة فيما له حق البيان التام أو بيان الكفاية، فعلى ذلك الأول، وأيد ذلك وجهان:
• أحدهما: أن الدية بمبلغها كانت في الجاهلية فأقرت على ذلك في الإسلام، وكذلك حق القسامة، وكانت كذلك في أهل الكفر عند الأمان، فعلى ذلك اليوم، أو يلزم الذي عرف حتى يظهر؛ ولذلك لم يجز في الأمر البيان؛ لأنه كان على معروف، وأيد ذلك جميع الأمور المنقسمة، من نحو الحدود بين العبيد والأحرار في التفريق، والديات بين الذكور والإناث؛ أنه يجب ذلك الانقسام في أهل الكفر، فعلى ذلك حد الجملة والنصف.
• والثاني: خبر ابن عَبَّاسٍ في العامريَّين، وعلى ذلك جاء عن عمر، وعلى ما وما روي عن عمر فهو في الوقت الذي بلغت قيمة الإبل أربعة آلاف، وسنذكر ذلك.
16. ثم الأصل: أن البدل حق المتلف، والإسلام والكفر أمران يرجعان إلى الدِّين والمذاهب، والناس لا يملكون الزيادة والنقصان من الأبدال لأنفسهم؛ لأنه لا بهم جعلت الدية، لكن بالشرع؛ فبه يُعرف التفريق والجمع، فما لم يثبت التفريق والمعنى في كل نفس من المنافع وإليها ما في غيرها لزم الجمع حتى يجيء علم التفريق.
17. والأصل: أن البدل أمر يرجع إلى منافع تقع للمجني عليه مكان ما ذهب منه، أو لغيره فيما يدخل عليهم من النقصان بفوت نفسه، ثم كل أمر مجعول للمنافع فالنظر فيها إلى قدر المنافع عند أهلها، وأهل الذمة أحق بالزيادة؛ لتعجيل المنفعة لهم في الدنيا؛ إذ لا حظ لهم في الآخرة.
18. وقد زعم الشافعي أن العبد لو بيع على أنه كافر فوجده مسلمًا أنه عيب يرد منه؛ فيصير الإسلام عيبًا في قيمته؛ فلا يجيء أن يكون الحر منهم أقل قيمة من الحر منا، ومحل الدِّين ما ذكرت، فهذا ـ وإن كان القول به منه شنيعًا ـ لا يجوز أن يحتج به، فهو في موضع التنبيه، وقوله يلزمه، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، فحاجهم بالذي عند أئمتهم، فعلى ذلك يحاجُّ بالذي عنده، ولا قوة إلا باللَّه، وقد حاج بنفي الإلهية بما لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر، وإن كان وجود ما انتفي لا يوجب القول به،
19. ثم القتل على أقسام ثلاثة:
أ. عمد، وهو ينقسم إلى قسمين:
• أحدهما: أن يتعمد نفس القتيل.
• والثاني: أن يتعمد دينه فيقتل لأجل دينه.
ب. وخطأ، وهو ـ أيضًا ـ على قسمين:
• أحدهما: أن يقع بأحد الجناية عن غير قصده.
• والثاني: أن يقع له على قصده، لكن على ظن لزومه الدِّين الذي استوجب القتل به.
20. وبين الخطأ والعمد قتل آخر سمي: خطأ العمد، أو شبه العمد: مما لم يبين حكمه في منصوص القرآن، ولا هو مما يحتمل معرفة حقيقته بالعيان؛ لأنه ليس في العين جناية تقع من حيث الوقوع إلا عن عمد أو خطأ؛ فصار ذلك معروفا حكمه بالشرع، وللَّه أن يشرع في حقيقة الخطأ والعمد شرعا واحدا؛ على ما عليه أمر شرعه في جميع الأمور، وقد جاء الخبر فيه، واتفاق الصحابة على إيجاب الدية في ذلك، وليس في ذلك ذكر الكفارة، فلما ثبت إلحاقه بالذي هو خطأ في الحكم قيس عليه أمر الكفارة؛ مع ما كان لذلك أوجه تقدر:
أ. أحدها: أن في العمد ما هو لنفسه كفارة وهو القصاص، وقد دفع ذلك في شبه العمد، والدية تلزم العاقلة، فلا بد من وضع كفارة في ذلك؛ كالذي ذكر في الخطأ فيه.
ب. والثاني: أنه ذكر في الكفارة توبة من اللَّه، والتوبة من اللَّه تخرج على أوجه ثلاثة:
• على التوفيق لفعله.
• أو على التجاوز لما كان من الزلة.
• أو على جعل ذلك الفعل منه توبة عن زلته.
21. وأي هذه الوجوه الثلاثة كان ففي ذلك معنى يحق وصف التوبة؛ فيكون في ذلك مما قد يتوجه إلى عمد يلحق وصف الزلة، أو أمر تجوز الكلفة به؛ فيقع العدول عنه؛ إذ قال: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، فإن جعل في ذا توبة فهو في وجه فيه جناح؛ فيدخل في ذلك قتل فيه جناح، ويكون له حكم الخطأ يبينه الخبر.
22. والثالث: اتفاق أهل الفتوى على القول به، وأيضًا أن الذي يقع الخطأ فيه لدينه فقد تعمد قتله، وأوجبت عليه الكفارة، فقد وجدت كفارة مع تعمد فيما لا بدل لنفسه، فإذا كان شبه العمد يجب فيه البدل فهو لوجوب الكفارة أحق.
23. وأما العمد الذي فيه القصاص ففيه أوجه ثلاثة:
أ. أحدها: أن اللَّه تعالى بين ما فيه من الحق على نحو ما بين في الخطأ، وإنما يجب طلب العلم بالحكم فيما لم يُبَيَّن منصوصًا من النوازل التي يعلم أن للَّهِ تعالى فيها حكمًا؛ إذ لم ينص عليه، فقد جعله مبينا بالتضمن لا بالتصريح، فإذا بين سقطت الحاجة وبطل الاجتهاد والتعرف به، وعلى مثل ذلك يجاب لقتل الصيد عمدا أن الحكم فيه لم يبين بالتصريح، فهو متروك للتضمين.
ب. والثاني: أن الكفارة في حق الزجر عنه، والتكفير لفعله، وفي السيف ذلك والزيادة فيه؛ فلذلك لم يضم إليه غيره، ثم معلوم أن الكفارة إنما جُعلت بما معه الإبقاء حتى يصوم شهرين، وفيما فيه القصاص لا مهلة له يستوجب به بقاء النفس؛ لتقوم بالكفارة؛ فلذلك لم تجب.
ج. والثالث: الاتفاق أن الذي يقتص لا يلزمه الكفارة، فمن وجب له حكم العمد لم تجب عليه الكفارة، ولو أوجبنا الكفارة على القاتل جعلناها حقا لله من حيث النفس لا من حيث معنى في الجناية له تجب، وذلك المعنى في نفس القاتل والقتيل سواء؛ فيكون ولي القتيل آخذًا الذي له وقع القصاص والذي ليس له القصاص، لكن له الكفارة فتلزمه، فإذ لم تجب، بأن أنها تجب بحال في النفس والجناية، فلم تجب فيما عدمت تلك الحالة.
24. والأصل: أنها لم تجعل للحظر ولا لنفس الحرمة؛ إذ قد يوجد قتل نفس محظورة ولم تجعل فيها الكفارة، نحو الذراري والنساء من أهل الشرك، بل لو كان كذلك كان الخطأ من أبعد ما يجعل له الكفارة؛ فثبت أنها لم تجعل لذلك، ومن يقس ـ يقس بذلك؛ فبطل.
25. وقوله عز وجل: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ اختلف فيه:
أ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يجزئ إلا من صام وصلى.
ب. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: الرقبة المؤمنة: كل مولود ولد في الإسلام، صغيرًا كان أو كبيرًا.
26. والأشبه أن يجزئ الصغير من المسلمين، ألا ترى أنهم أجمعوا أن على قاتل الصغير من المؤمنين مثل ما كان على قاتل الكبير منهم!؟ فيجب أن يجزئ الصغير من المؤمنين على ما يجزئ عنه الكبير منهم؛ إذ كان حكم الصغير من المؤمنين حكم الكبير منهم، ومما يدل على ذلك ـ أيضًا ـ أن حكم الصغير من المؤمنين، وميراثه، وتزويجه، وطلاق الرجل الزوجة الصغيرة ـ حكم الكبير، فهم مؤمنون في الحكم وإن كانوا صغارًا، ولكن لسنا نذكر عن أصحابنا رواية منصوصة في جوازه، والقياس ما ذكرنا.
27. وقوله عز وجل: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ وصف اللَّه تعالى الشهرين بالتتابع، ووصف الرقبة بالإيمان، فهو يحتمل أن يكون على التغليظ والتشديد؛ لما يجوز أن يجاوز جرم حكم الخطأ جرم غيره من الأشياء، نحو أن يقتله بعصًا، أو بسوط، ونحوه، قاصدًا له، ولا شك أن جرمه أعظم من جرم غيره من الأفعال التي توجب الكفارة من الأيمان والظهار وغيره؛ فغلظ فيه ما لم يغلظ في غيره بالإيمان في الرقبة والتتابع في الصيام، وهذا كما يقولون: إن ضرب التعزير أشد من ضرب حد الزنا وحد شرب الخمر وغيره؛ لأن جرم فعل التعزير ربما يبلغ جرم الزنا أو يجاوز، وهو أن يخنق آخر مرة أو مرتين، لا شك أن حرمته أعظم من حرمة من قذف آخر، أو شرب قطرة من خمر؛ فغلظ فيه وشدد؛ لما ذكرنا، فعلى ذلك شرط الإيمان في العتاق في كفارة القتل، والتتابع في الصوم؛ تغليظًا وتشديدًا للمعنى الذي ذكرنا، وهو أن يقتله قتل شبه العمد؛ أي: عمد القصد، خطأ الحكم، ألا ترى أنه غلظ في الدية في شبه العمد ولم يغلظ في غيره، وروي أعن ابن عمر، أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (قتيلُ السَّوطِ والعَصَا فيه الديةُ مُغلَّظة)، وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كُلُّ شَيء خَطَأٌ إِلا السيفَ وَالْحَدِيدَ، وَلِكُل خَطَأ أَرْشٌ)
28. ذكر اللَّه تعالى قتل الخطأ والعمد، فبين حكمهما، ولم يذكر غيرهما في كتابه، لكنا عرفنا قبلُ شبه العمد والحكم فيه بما روينا من خبر ابن عمر عن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحديث النعمان عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث قال: (أَلَا إِنَّ قَتيلَ خَطَإ الْعَمدِ قَتِيلُ السوْطِ والعَصَا، ففيه الدية مُغَلَّظة: ثَلاثُونَ جَذَعةً، وثَلاثُونَ حِقَّةً، وَأَرْبَعُونَ ما بَينَ ثَنيَّةٍ إِلَىْ بَازِل عَامِهَا، كلُّها خَلِفَة)، واختلف الصحابة:
أ. روي عن عمر ما ذكرنا من الخبر المرفوع أثلاثًا.
ب. وعن علي قريبًا منه أثلاثا.
ج. وعن أبي موسى الأشعري والمغيرة ما روينا من الخبر المرفوع أثلاثًا.
د. وعن ابن مسعود في شبه العمد أرباعًا: خمسة وعشرين حقة، وخمسة وعشرين جذعة، وخمسة وعشرين بنات لبون، وخمسة وعشرين بنات مخاض.
29. ثم لا يحتمل أن يكون الصحابة قالوا ذلك رأيًا من أنفسهم؛ لأن هذا باب ما لا يوقف إلا بالسمع والخبر من اللَّه تعالى فيجعل كأنهم جميعًا سمعوا ذلك من رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم في وقت واحد؛ فدل أنه في وقتين مختلفين، فهو على التناسخ، فلم يظهر الأول منهما من الآخر؛ فأوجب الأخف باليقين، ولم يوجب الأغلظ بالشك، وهذا قول أبي حنيفة حيث قال في شبه العمد بالأرباع، وأما مُحَمَّد فإنه ذهب إلى ظاهر الخبر المرفوع بالأثلاث.
30. ثم اختلف أصحابنا فيمن رمى آخر في بحر فغرق فمات:
أ. قال أبو حنيفة: لا يُقتل به.
ب. وقال فيمن أحرق آخر بالنار: قُتل به، وكان يفرق بينهما بوجهين:
• أحدهما: أن يكون الرامي في الماء حسب أنه يحسن أن يسبح، وذلك موجود في كثير من الناس؛ فصار ذلك شبهة يزول بها القصاص عن الرامي، وأما الذي رمى صاحبه في النار ليس له أن يدعى مثل تلك الشبهة؛ لذلك لم يزل عنه القصاص.
• والثاني: أن النار جارحة؛ ألا ترى أنها تستعمل في موضع السلاح، ويحارب بها!؟ وهي من أشد السلاح، ولا كذلك الماء؛ لذلك افترقا.
31. ثم القول في مبلغ الدية من الإبل ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه ودى رجلا بمائة من الإبل ورُوي أن الكتاب الذي كتبه رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمرو بن حزم في العقول في النفس مائة من الإبل، وما روينا من خبر ابن عمر قال: خطب رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: (ألا إنَّ قَتيلَ خَطَإ العَمْد فيه الديةُ مُغَلَّطظةَ مِائة مِنَ الإبِلِ)
32. ثم القول في أسنان الإبل في الدية ما رُويَ عن عبد اللَّه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: دِيةُ الخَطَإ أخْماسٌ، وكذلك رُوي عن عبد اللَّه بالأخماس، وعن عمر كذلك، وعلي بن أبي طالب في الخطأ أرباع، وكان أبو حنيفة يذهب إلى ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلى ما روي عن عمر وعبد اللَّه ما ويجعل دية الخطأ أخماسًا من الإبل، وفي شبه العمد أرباعا؛ لما ذكرنا، ومُحَمَّد يذهب إلى ما رُويَ عن عليٍّ بالأرباع في الخطأ، وفي شبه العمد بالأثلاث؛ بالخبر المرفوع، والوجه فيه ما ذكرنا.
33. ثم المسألة في مبلغ الدية من الورق، رُوي في بعض الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قضى بالدية اثني عشر ألفًا، وعن ابن عَبَّاسٍ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل الدية اثني عشر ألفًا، وروي عن عبيدة السلماني قال: وضع عمر بن الخطاب الديات: فوضع على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورِق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشياة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، ثم رُويَ عن عمر أنه قال: قَوِّموا الإبل؛ فقوَّموها أوقية، ثم غلت الإبل؛ فقال: قوِّموا؛ فقُوِّمت أوقية ونصفًا، ثم غلت؛ حتى قُوِّمت عشرة آلاف درهم، فلو علم عمر أن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بالدراهم، لم يحتج إلى أن يقوِّموا الإبل، ومحال أن يخفى على عمر وغيره من الصحابة سنةُ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى يضطروا إلى تقويم الإبل؛ فدل أن الخبر في اثني عشر غير ثابت، ثم الاختلاف أن الدية من الدنانير ألف دينار؛ فوجب أن تكون الدية من الورِق عشرة آلاف؛ لأنه رُوي عن عمر أنه جعل قيمة كل دينار عشرة، ورُوي أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن تؤخذ الجزية من أهل الورق أربعين درهمًا، ومن أهل الذهب أربعة دنانير، وعن علي أنه قال: لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم.
34. دل ما ذكرنا من قول الصحابة أن قيمة كل دينار عشرة دراهم؛ فلما أجمعوا في أن الدية من الذهب ألف دينار ـ وجب أن تكون من الورق عشرة آلاف؛ ألا ترى أنه يؤخذ في الزكاة من مائتي درهم خمسة دراهم، وفي عشرين دينارًا: نصف دينار!؟ دل على أن الدية عشرة آلاف، ثم يحتمل الخبر ـ إن ثبت ـ أن الدية اثنا عشر ألفًا، وزن ستة؛ لأن الدية كان أصلها الإبل، فقومت الإبل دراهم؛ فبلغت اثني عشر ألفًا من وزن ستة، ثم رُدَّت الأوزان إلى وزن سبعة؛ فكانت اثني عشر ألفا، وكسر وزن سبعة، ألقوا الكسر؛ لأن القيم لا تُعرف منصوصًا؛ وإنما تُعرف بالاجتهاد، وقد تزداد وتنقص، ويكون بين القيمتين الشيء اليسير؛ فتركوا ذلك الكسر؛ لما وصفنا، ولأنه لم يكن في الدية في أصلها كسر، وهذا وجه محتمل؛ فأخذ أصحابنا رحمهم الله بآخر التقديرين؛ لأن الأوزان استقرت على وزن سبعة، وبطل وزن ستة، ولا شك أن وزن سبعة هي الآخرة؛ لاستقرارها في الناس على ذلك.
35. وقوله عز وجل: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ قد ذكرنا معنى التتابع في ذلك. وفي قوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ عند الجميع من جميع من ذكر من القائلين في هذه الآية.
36. ثم قوله تعالى: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾، قال بعض أهل العلم: ندامة من اللَّه تعالى وقد يندم الرجل على أفعل يفعله، خطأ، لكن عندنا على حقيقة التوبة؛ لأن الفعل فعلُ مأثم وإن كان خطأ، ولأنه يجوز أن يكلف الإنسان وينهى في حال الخطأ؛ لما لا يتأمل في ذلك ولا ينظر؛ لئلا يترك التأمل في ذلك والنظر؛ فتكون التوبة على الحقيقة؛ لما ذكرنا.
37. وفي قوله أيضًا: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ قد بينا الوجه في ذلك، وقال بعض أهل التأويل: التوبة ـ في الحقيقة: هي الندامة على الأمر، وكل من يتولد من فعله قتل أحد؛ فهو يندم على ذلك الفعل الذي حدث منه الذي ذكر، ويحزن عليه؛ فيكون ـ على هذا التقدير ـ معنى التوبة من اللَّه: إلقاء ذلك الحزن في قلبه، أو رجوعه بالتأسف إلى اللَّه بالإعتاق والصيام.
38. وقوله عز وجل: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ لمن قتله خطأ ولم يقصد، ومن قصده، أو ﴿عَلِيمًا﴾ بما حكم عليكم من الدية والكفارة، أو ﴿عَلِيمًا﴾ بآجالكم، ﴿حَكِيمًا﴾ في قضائه وحكمه؛ حيث وضع كل شيء موضعه، واللَّه أعلم به.
39. وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ يخرج ذلك عند ذكر هذه الآية، وهو كذلك بذاته على أوجه:
أ. أحدها: أنه عليم بالذي عليه خرج حقيقة فعل ذلك القاتل من القصد وغير القصد، وهو حكيم بما حكم علينا الذي ذكر بظاهر أحوال القتيل، وإن لم يُعْرف حقيقة الأمر في ذلك؛ إذ الذي له حكم العمد والخطأ لا يظهر لغيره.
ب. والثاني: وكان اللَّه لم يزل عليمًا بالذي يكون من عباده، وبالذي به المصالح بينهم؛ فحكم بما فيه المصالح، فيما علم من وقوع الجنايات.
ج. والثالث: يبين أنه لا عن جهل يقع الخلاف لأمره ولما لم يرض به من خلقه، ولا عن خطأ في التدبير، أي: عليم بالذي يكون من الخلق، لا عن جهل بهم خرج أمرهم، وحكيم في التدبير، أي: لا يلحقه الخطأ في تدبير الخلائق، على ما يكون منهم من الفساد والشر؛ إذ بمثله من غيره يعلم الخطأ والجهل؛ لما في ذلك ضرر يقع به، واللَّه يتعالى عن هذا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/311
(2) يقصد الحنفية
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ ليس يريد عز وجل أن المؤمن عدو للمؤمنين، وإنما المعنى في ذلك أن الرجل ربما أسلم وهو يريد الهجرة وهو من العدو في النسب، وليس منهم في الكفر، فيلقاه المسلمون ولم يعلموا بعد بتوبته وإسلامه، فيقتلونه ثم يعلمون بعد ذلك أنه قد تاب ورجع إلى الله وأناب فتجب التوبة على من قتله.
2. معنى قوله عز وجل: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللهِ﴾، أي جعله للكفارة، وهي توبة من الله على المؤمنين، وفايدة ورحمة منه بالتفضل على المسلمين.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/248.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أي كان قومه كفاراً وهو مؤمن ففي قتله تحرير رقبة مؤمنة وليس فيه دية لأن الدية مما تقوي العدو وتحتمل الآية وجهاً آخر وهو وإن كان من قوم عدو لكم يعني أهل الحرب إذا كان فيهم مؤمن فقتل من غير علم بإيمانه ففيه الكفارة دون الدية سواء كان وارثه مسلماً أم كافراً، ومعنى قوله من قوم أي في قوم.
2. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ وهذه الآية في كل من دخل إلينا بأمان أو ذمة أو عهد من الحرب أو الذمة فقتل ففيه الكفارة والدية ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ والصوم بدل من الرقبة.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/191.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أي إن كان قومه كفاراً وهو مؤمن ففي قتله تحرير رقبة مؤمنة وليس فيه ديةُ، وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، وابن زيد. قال ابن زيد: لا تؤدى إليهم لأنهم يَتَقوُّونَ بها.
ب. والثاني: معناه فإن كان من قومٍ عدو لكم يعني أهل حرب إذا كان فيهم مؤمن فَقُتِلَ من غير علم بإيمانه ففيه الكفارة دون الدية سواء كان وارثه مسلماً أو كافراً وهذا قول الشافعي، ويكون معنى قوله: ﴿مِنْ قَوْمٍ﴾، وعلى القول الأول هي مستعملة على حقيقتها.
2. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: هم أهل الذمة من أهل الكتاب، وهو قول ابن عباس، يجب في قتلهم الدية والكفارة.
ب. والثاني: هم أهل عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من العرب خاصة، وهذا قول الحسن.
ج. والثالث: هم كل من له أمان بذمة أو عهد فيجب في قتله الدية والكفارة، وهو قول الشافعي.
3. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن الصوم بدل من الرقبة وحدها إذا عدمها دون الدية، وهذا قول الجمهور.
ب. والثاني: أنه بدل من الرقبة والدية جميعاً عند عدمها، وهذا قول مسروقٍ.
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥١٩)
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ يعني إن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن من خطأ من قوم هم أعداء لكم مشركون وهو مؤمن، فعلى قاتله تحرير رقبة مؤمنة، واختلفوا في معناه:
أ. فقال قوم: إذا كان القتيل في عداد قوم أعداء وهو مؤمن بين أظهرهم لم يهاجر، فمن قتله فلا دية له، وعليه تحرير رقبة مؤمنة، لأن الدية ميراث، وأهله كفار لا يرثونه، هذا قول ابراهيم، وابن عباس، والسدي، وقتادة، وابن زيد، وابن عياض.
ب. وقال آخرون: بل عنى به أهل الحرب من يقدم دار الإسلام فيسلم ثم يرجع إلى دار الحرب إذا مر بهم جيش من أهل الإسلام فهرب قومه وأقام ذلك المسلم فيهم فقتله المسلمون، وهم يحسبونه كافراً، ذكر ذلك عن ابن عباس في رواية أخرى.
2. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ ومعناه إن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم بينكم وبينهم أيها المؤمنون ميثاق أي عهد وذمة وليسوا أهل حرب لكم، ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ تلزم عاقلة قاتله، وتحرير رقبة على القاتل كفارة لقتله.
3. اختلفوا في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق أهو مؤمن أم كافر؟
أ. فقال قوم: هو كافر إلا أنه يلزم قاتله دية، لأن له ولقومه عهداً، ذهب إليه ابن عباس، والزهري، والشعبي، وابراهيم النخعي، وقتادة، وابن زيد.
ب. وقال آخرون: بل هو مؤمن، فعلى قاتله دية يؤديها إلى قومه من المشركين، لأنهم أهل ذمة، روي ذلك أيضاً عن ابراهيم والحسن، وهو المروي في أخبارنا (2)، إلا أنهم قالوا: يعطي ديته ورثته المسلمين دون الكفار.
4. الميثاق هو العهد، وقد بيناه فيما مضى، والمراد هاهنا الذمة، وغيرها من العهود وبه قال السدي والزهري، وابن عباس والخطأ هو ان تريد شيئاً فتصيب غيره، وهو قول ابراهيم، وأكثر الفقهاء.
5. الدية الواجبة في قتل الخطأ مائة من الإبل ان كانت العاقلة من أهل الإبل ـ بلا خلاف ـ وان اختلفوا في أسنانها:
أ. فقائل يقول، هي أرباع: خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون ابنة مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، روي ذلك عن علي عليه السلام.
ب. وقال آخرون: هي أخماس: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت لبون، وعشرون بنو لبون، وعشرون بنت مخاض، وينسب ذلك إلى ابن مسعود، وروي الأمرين معا أصحابنا.
ج. وقال قوم: هي أرباع غير أنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنو لبون، روي ذلك عن عثمان وزيد بن ثابت.
د. قال الطبري: هذه الروايات متكائة، والاولى التخيير، ولا يحمل على العاقلة صلح، ولا اقرار، ولا ما كان دون الموضحة.
6. أما الدية من الذهب فألف دينار، ومن الورق عشرة آلاف درهم، وقال بعضهم: اثني عشر ألفاً والاول عندنا هو الأصح.
7. دية عمد الخطأ مائة من الإبل مغلظة اثلاثاً ـ وروي أرباعاً ـ ثلث بنت لبون، وثلث حقة، وثلث جذعة، وتستأدى في سنين، ودية الخطأ في ثلاث سنين، ودية العمد إذا تراضوا بها في سنة.
8. أما دية أهل الذمة:
أ. فقال قوم: هي دية المسلم سواء، ذهب إليه أبو بكر، وعثمان، وابن مسعود، وابراهيم، ومجاهد، والزهري، وعامر الشعبي، واختاره الطبري، وأبو حنيفة وأصحابه.
ب. وقال قوم: على النصف من دية المسلم، ذهب إليه عمرو بن شعيب رواه عن عمر بن الخطاب وبه قال عمر بن عبد العزيز.
ج. وقال قوم: هي على الثلث من دية المسلم ذهب إليه سعيد بن المسيب، والشافعي غير أنها أربعة آلاف واختلاف الفقهاء قد ذكرناه في الخلاف.
9. أما دية المجوسي فلا خلاف أنها ثمانمائة وكذلك عندنا دية اليهودي والنصراني.
10. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ يعني فمن لم يجد الرقبة المؤمنة كفارة عن قتله المؤمن لاعتباره فعليه صيام شهرين متتابعين، واختلفوا في معناه:
أ. فقال قوم: مثل ما قلناه ذهب إليه مجاهد.
ب. وقال آخرون: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ الدية فعليه، صوم الشهرين عن الدية والرقبة، وتأويل الآية فمن لم يجد رقبة مؤمنة ولا دية يسلمها إلى أهلها فعليه صوم شهرين متتابعين، ذهب إليه مسروق.
11. الاول هو الصحيح، لأن دية قتل الخطأ على العاقلة، والكفارة على القاتل بإجماع الأمة على ذلك.
12. صفة التتابع في الصوم أن يتابع الشهرين لا يفصل بينهما بإفطار يوم، وقال أصحابنا: إذا صام شهراً وزيادة ثم أفطر اخطأ وجاز له البناء.
13. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ نصب على القطع، ومعناه رجعة من اللَّه لكم إلى التيسير عليكم بتخفيفه عنكم ما خفف عنكم من فرض تحرير الرقبة المؤمنة بإيجاب صوم الشهرين المتتابعين توبة.
14. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ معناه لم يزل اللَّه عليما بما يصلح عبادة فيما يكلفهم من فرائضه حكيماً بما يقضي فيهم، ويدبره، وقال الجبائي انما قال: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ تعالى بهذه الكفارة التي يلتزمها بدرء عقاب القاتل، وذمه لأنه يجوز أن يكون عاصياً في السبب، وإن لم يكن عاصياً في القتل من حيث أنه رمى في موضع هو منهي عنه بأن يكون رجمة، وإن لم يقصد القتل وهذا ليس بشيء لأن الآية عامة في كل قاتل خطأ، وما ذكره ربما اتفق في الآحاد، والزام دية قتل الخطأ العاقلة ليس هو مؤاخذة البريء بالسقيم، لأن ذلك ليس بعقوبة بل هو حكم شرعي تابع للمصلحة، ولو خلينا والعقل ما أوجبناه، وقيل: إن ذلك على وجه المواساة والمعاونة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/292
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾:
أ. قيل: يعني: إن كان القتيل من جملة قوم هم أعداؤكم في الدين ناصبوكم الحرب، وهو في نفسه مؤمن، ولم يعلم قاتله أنه مؤمن، فقتله وهو يظنه مشركًا فعليه تحرير رقية: عتق رقبة مؤمنة كفارة له، وليس فيه دية، عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وإبراهيم، قال ابن زيد: لا يؤدى إليهم دية فينفقونها عليكم.
ب. وقيل: هو الرجل يسلم في دار الحرب، فيقتل فيها، وفيه الكفارة، ولا دية فيها.
2. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ يعني إن كان القتيل خطأ من أهل الذمة، وليس من أهل الحرب؛ لأن الميثاق هو العهد ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ وهي دية الذمي، واختلفوا في قدره وسنه من ذلك، وتتحمله عاقلته، ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾:
أ. يعني في قتل الذمي خطأ الكفارة والدية عن ابن عباس والزهري والشعبي وقتادة، وهو ظاهر الكتاب، وعليه الفقهاء.
ب. وقيل: إنه في مؤمن أهله ذمة عن الحسن وإبراهيم وجابر بن زيد وأبي مسلم، واختلفوا في هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بيننا وبينهم ميثاق، فقيل: أهل الذمة من أهل الكتاب، عن ابن عباس وجماعة من أهل العلم.
ج. وقيل: هم أهل عقد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من مشركي العرب خاصة، عن الحسن.
3. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ يعني لا يقدر على عتق العبد بألا يجد العبد ولا ثمنه ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾ فعليه صيام شهرين ﴿مُتَتَابِعَيْنِ﴾، واختلفوا أنه بدل عن ماذا:
أ. فقيل: عن الرقبة للكفارة دون الدية، عن مجاهد، وعليه الفقهاء.
ب. وقيل: عنهما، عن مسروق.
4. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللهِ﴾ يعني جعل الله ذلك للتوبة:
أ. قال أبو علي: لأنه في سبب القتل عاص وإن لم يقصد القتل.
ب. وقيل: إن المؤمن يندم، ويتمنى أنه لم يكن جرى ذلك على يده.
ج. وقيل: هو في شبه العمد، وهو فيه عاص بلا شك.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾:
أ. قيل: يعني عليم بما يصلح عباده، حكيم بما يقضي فيهم.
ب. وقيل: عليم بما يأتون، حكيم فيما فرض عليهم.
ج. وقيل: عليم بأعمالكم، حكيم في مجازاتكم.
6. تدل الآية الكريمة على:
أ. أنه إذا أسلم في دار الحرب، فقتله من لا يعلم ففيه الكفارة ولا دية.
ب. أن في الذمي الدية والكفارة.
ج. أن الصوم بدل العتق، وقد أجمعوا أن هذه الأقسام الثلاثة متغايرة على ما بينا، غير أبي مسلم، فإنه ذكر في الأقسام الثلاثة القتيل مؤمن إلا أنه في الأول: مسلم في دار الإسلام، والثاني: مسلم في دار الحرب، والثالث: مسلم في دار أهل الذمة، وسنبين أحكام القتل والدية والكفارة بعد هذا على سبيل الجملة.
7. نصب ﴿تَوْبَةً﴾:
أ. قيل: كقولهم: فعلت ذلك حذر الشر، عن الزجاج.
ب. وقيل: جعل الله ذلك توبة للقاتل.
ج. وقيل: نصبه بمعنى ما تقدم، كأنه قيل: اعملوا بما أوجبه الله للتوبة من الله، أي يتقبل الله توبتكم فيما اقترفتموه من ذنوبكم.
د. وقيل: تاب الله عليكم توبة.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/19
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾:
أ. قيل: معناه: فإن كان القتيل من جملة قوم هم أعداء لكم يناصبونكم الحرب، وهو في نفسه مؤمن، ولم يعلم قاتله أنه مؤمن، فقتله وهو يظنه مشركا ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ أي: فعلى قاتله تحرير رقبة ﴿مُؤْمِنَةً﴾ كفارة، وليس فيه دية، عن ابن عباس.
ب. وقيل: إن معناه إذا كان القتيل في عداد قوم أعداء، وهو مؤمن بين أظهرهم، ولم يهاجر، فمن قتله، فلا دية له، وعليه تحرير رقبة مؤمنة فقط، لان الدية ميراث، وأهله كفار لا يرثونه، عن ابن عباس في رواية أخرى، وإبراهيم، والسدي، وقتادة، وابن زيد.
2. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها: قيل: إنه تعالى ذكر الكفار، وأمر بقتلهم، ثم ذكر من كان بينهم وبين المسلمين عهد ومنع من قتلهم، ثم ذكر من نافق، وحكم قتلهم، ثم ذكر قتل المؤمن، ووصل به ذكر أحكامه، من دية، وغيرها.
3. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ أي: عهد وذمة، وليسوا أهل حرب لكم ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ تلزم عاقلة قاتله ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي: يلزم قاتله كفارة لقتله، وهو المروي عن الصادق عليه السلام.
4. اختلف في صفة هذا القتيل، أهو مؤمن أم كافر؟
أ. فقيل: إنه كافر، إلا أنه يلزم قاتله ديته بسبب العهد، عن ابن عباس، والزهري، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وابن زيد.
ب. وقيل: بل هو مؤمن يلزم قاتله الدية، يؤديها إلى قومه المشركين، لأنهم أهل ذمة، عن الحسن، وإبراهيم، ورواه أصحابنا أيضا، إلا أنهم قالوا: تعطى ديته ورثته المسلمين، دون الكفار ولفظ الميثاق: يقع على الذمة والعهد جميعا.
5. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾: أي لم يقدر على عتق الرقبة، بأن لا يجد العبد، ولا ثمنه، ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾: أي فعليه صيام شهرين، ﴿مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾:
أ. قيل: أي ليتوب الله به عليكم، فتكون التوبة من فعل الله.
ب. وقيل: إن المراد بالتوبة هنا: التخفيف من الله، لان الله إنما جوز للقاتل العدول إلى الصيام، تخفيفا عليه، ويكون كقوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾
6. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾: أي لم يزل عليما بكل شئ ﴿حَكِيمًا﴾ فيما يأمر به وينهى عنه.
7. أما الدية الواجبة في قتل الخطأ فمائة من الإبل، إن كانت العاقلة من أهل الإبل، بلا خلاف، وإن اختلفوا في أسنانها:
أ. فقيل: هي أرباع: عشرون بنت مخاض، وعشرون ابن لبون ذكر، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وروي ذلك عن عثمان، وزيد بن ثابت، ورواه أصحابنا أيضا، وقد روي أيضا في أخبارنا خمس وعشرون، بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة وبه قال الحسن، والشعبي.
ب. وقيل: إنها أخماس: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض، وهذا قول ابن مسعود، وابن عباس، والزهري، والثوري، وإليه ذهب الشافعي.
ج. وقال أبو حنيفة: هي أخماس أيضا، إلا أنه جعل مكان ابن لبون ابن مخاض، وبه قال النخعي، ورووه أيضا عن ابن مسعود.
د. قال الطبري: هذه الروايات متكافئة، والأولى التخيير.
8. فأما الدية من الذهب، فألف دينار، ومن الورق عشرة آلاف درهم، وهو الأصح، وقيل: اثنا عشر ألفا، ودية الخطأ تتأدى في ثلاث سنين، ولو خلينا وظاهر الآية، لقلنا: إن دية الخطأ على القاتل، لكن علمنا بسنة الرسول والاجماع، أن الدية في الخطأ على العاقلة، وهم الإخوة، وبنو الإخوة، والأعمام، وبنو الأعمام، وأعمام الأب، وأبناؤهم، والموالي، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة: يدخل الوالد والولد فيها، ويعقل القاتل، وقد روى ابن مسعود عن النبي أنه قال: (لا يؤخذ الرجل بجريرة ابنه، ولا الابن بجريرة أبيه)، وليس إلزام الدية للعاقلة على سبيل مؤاخذة البرئ بالسقيم، لان ذلك ليس بعقوبة، بل هو حكم شرعي تابع للمصلحة، وقد قيل: إن ذلك على سبيل المؤاساة والمعاونة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/138.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنّ معناه: وإن كان المقتول خطأ من قوم كفّار، ففيه تحرير رقبة من غير دية، لأنّ أهل ميراثه كفّار.
ب. الثاني: وإن كان مقيما بين قومه، فقتله من لا يعلم بإيمانه، فعليه تحرير رقبة ولا دية، لأنه ضيّع نفسه بإقامته مع الكفّار.
2. القولان مرويّان عن ابن عباس، وبالأول قال النّخعيّ، وبالثاني سعيد بن جبير، وعلى الأول تكون (من) للتبعيض، وعلى الثاني تكون بمعنى في.
3. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه الرجل من أهل الذّمّة يقتل خطأ، فيجب على قاتله الدّية، والكفّارة، هذا قول ابن عباس، والشّعبيّ، وقتادة، والزّهريّ، ولأبي حنيفة، والشّافعيّ، ولأصحابنا تفصيل في مقدار ما يجب من الدّية.
ب. الثاني: أنه المؤمن يقتل، وقومه مشركون، ولهم عقد، فديته لقومه، وميراثه للمسلمين، هذا قول النّخعيّ.
4. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ اختلفوا هل هذا الصّيام بدل من الرّقبة وحدها إذا عدمها، أو بدل من الرّقبة والدّية؟ فقال الجمهور: عن الرّقبة وحدها، وقال مسروق، ومجاهد، وابن سيرين: عنهما، واتّفق العلماء على أنه إذا تخلّل صوم الشهرين إفطار لغير عذر، فعليه الابتداء، فأمّا إذا تخلّلها المرض، أو الحيض، فعندنا لا ينقطع التّتابع، وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة: المرض يقطع! والحيض لا يقطع، وفرّق بينهما بأنه يمكن في العادة صوم شهرين بلا مرض، ولا يمكن ذلك في الحيض، وعندنا أنها معذورة في الموضعين.
5. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ قال الزجّاج: معناه: فعل الله ذلك توبة منه، قوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ أي: لم يزل عليما بما يصلح خلقه من التّكليف ﴿حَكِيمًا﴾ فيما يقضي بينهم، ويدبّره في أمورهم.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/450
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر الله تعالى في الآية الأولى: أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا فعليه تحرير الرقبة وتسليم الدية، وذكر في هذه الآية ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا من قوم عدو لنا فعليه تحرير الرقبة وسكت عن ذكر الدية، ثم ذكر بعد أن المقتول إن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وجبت الدية، والسكوت عن إيجاب الدية في هذه الآية مع ذكرها فيما قبل هذه الآية، وفيما بعدها يدل على أن الدية غير واجبة في هذه الصورة.
2. كلمة (من) في قوله: ﴿مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ إما أن يكون المراد منها كون هذا المقتول من سكان دار الحرب، أو المراد كونه ذا نسب منهم، والثاني باطل لانعقاد الإجماع على أن المسلم الساكن في دار الإسلام، وجميع أقاربه يكونون كفارا، فإذا قتل على سبيل الخطأ وجبت الدية في قتله، ولما بطل هذا القسم تعين الأول فيكون المراد: وإن كان المقتول خطأ من سكان دار الحرب وهو مؤمن، فالواجب بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو تحرير الرقبة، فأما وجوب الدية فلا، قال الشافعي: وكما دلت هذه الآية على هذا المعنى فالقياس يقويه، أما أنه لا تجب الدية فلأنا لو أوجبنا الدية في قتل المسلم الساكن في دار الحرب لاحتاج من يريد غزو دار الحرب إلى أن يبحث عن كل أحد أنه هل هو من المسلمين أم لا، وذلك مما يصعب ويشق فيفضي ذلك إلى احتراز الناس عن الغزو، فالأولى سقوط الدية عن قاتله لأنه هو الذي أهدر دم نفسه بسبب اختياره السكنى في دار الحرب، وأما الكفارة فإنها حق اللَّه تعالى، لأنه لما صار ذلك الإنسان مقتولا فقد هلك إنسان كان مواظبا على عبادة اللَّه تعالى، والرقيق لا يمكنه المواظبة على عبادة اللَّه، فإذا أعتقه فقد أقامه مقام ذلك المقتول في المواظبة على العبادات، فظهر أن القياس يقتضي سقوط الدية، ويقتضي بقاء الكفارة.
3. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ قولان:
أ. الأول: أن المراد منه المسلم، وذلك لأنه تعالى ذكر أولا حال المسلم القاتل خطأ ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل الحرب، ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل العهد وأهل الذمة ولا شك ان هذا ترتيب حسن فكان حمل اللفظ عليه جائزا، والذي يؤكد صحة هذا القول أن قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ﴾ لا بد من إسناده إلى شيء جرى ذكره فيما تقدم، والذي جرى ذكره فيما تقدم هو المؤمن المقتول خطأ فوجب حمل اللفظ عليه.
ب. الثاني: أن المراد منه الذمي، والتقدير: وان كان المقتول من قوم بينكم وبينهم ميثاق ومعنى كون المقتول منهم أنه على دينهم ومذهبهم، والقائلون بهذا القول طعنوا في القول الأول من وجوه:
• الأول: أن المسلم المقتول خطأ سواء كان من أهل الحرب أو كان من أهل الذمة فهو داخل تحت قوله: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ فلو كان المراد من هذه الآية هو المؤمن لكان هذا عطفا للشيء على نفسه وانه لا يجوز، بخلاف ما إذا كان المؤمن المقتول خطأ من سكان دار الحرب، فانه تعالى إنما أعاده لبيان أنه لا تجب الدية في قتله، وأما في هذه الآية فقد أوجب الدية والكفارة، فلو كان المراد منه هو المؤمن لكان هذا إعادة وتكرارا من غير فائدة وإنه لا يجوز.
• الثاني: أنه لو كان المراد منه ما ذكرتم لما كانت الدية مسلمة إلى أهله لأن أهله كفار لا يرثونه.
• الثالث: ان قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ يقتضي أن يكونوا من ذلك القوم في الوصف الذي وقع التنصيص عليه وهو حصول الميثاق بينهما، فان كونه منهم مجمل لا يدرى أنه منهم في أي الأمور، وإذا حملناه على كونه منهم في ذلك الوصف زال الإجمال فكان ذلك أولى، وإذا دلت الآية على أنه منهم في كونه معاهدا وجب أن يكون ذميا أو معاهدا مثلهم.
4. يمكن أن يجاب عن الوجوه التي ذكرها القائلون أن المراد منه الذمي بما يلي:
أ. أما الأول: فجوابه أنه تعالى ذكر حكم المؤمن المقتول على سبيل الخطأ، ثم ذكر أحد قسميه وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان دار الحرب، فبين أن الدية لا تجب في قتله، وذكر القسم الثاني وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان مواضع أهل الذمة، وبين وجوب الدية والكفارة في قتله، والغرض منه اظهار الفرق بين هذا القسم وبين ما قبله.
ب. وأما الثاني: فجوابه أن أهله هم المسلمون الذين تصرف ديته إليهم.
ج. وأما الثالث: فجوابه أن كلمة (من) صارت مفسرة في الآية السابقة بكلمة (في) يعني في قوم عدو لكم، فكذا هاهنا يجب أن يكون المعنى ذلك لا غير.
5. فائدة هذا البحث تظهر في مسألة شرعية، وهي أن مذهب أبي حنيفة أن دية الذمي مثل دية المسلم، وقال الشافعي تعالى: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المجوسي، ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم:
أ. احتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ المراد به الذمي، ثم قال: ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ فأوجب تعالى فيهم تمام الدية.
ب. ونحن نقول: إنا بينا أن الآية نازلة في حق المؤمنين لا في حق أهل الذمة فسقط الاستدلال، وأيضا بتقدير أن يثبت لهم أنها نازلة في أهل الذمة لم تدل على مقصودهم، لأنه تعالى أوجب في هذه الآية دية مسلمة، فهذا يقتضي إيجاب شيء من الأشياء التي تسمى دية، فلم قلتم إن الدية التي أوجبها في حق الذمي هي الدية التي أوجبها في حق المسلم؟ ولم لا يجوز أن تكون دية المسلم مقدارا معينا، ودية الذمي مقدارا آخر، فان الدية لا معنى لها إلا المال الذي يؤدى في مقابلة النفس، فان ادعيتم أن مقدار الدية في حق المسلم وفي حق الذمي واحد فهو ممنوع، والنزاع ما وقع إلا فيه، فسقط هذا الاحتجاج.
6. سؤال وإشكال: لم قدم تحرير الرقبة على الدية في الآية الأولى وهاهنا عكس هذا الترتيب؟ والجواب: لو أفاده لتوجه الطعن في إحدى الآيتين فصار هذا كقوله:﴿ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ [البقرة: 58] وفي آية أخرى ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ﴾ [الأعراف: 161]
7. في هؤلاء الذين بيننا وبينهم ميثاق قولان:
أ. الأول: قال ابن عباس: هم أهل الذمة من أهل الكتاب.
ب. الثاني: قال الحسن: هم المعاهدون من الكفار.
8. ثم قال تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ أي فعليه ذلك بدلا عن الرقبة إذا كان فقيرا، وقال مسروق إنه بدل عن مجموع الكفارة والدية، والتتابع واجب حتى لو أفطر يوما وجب الاستئناف إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس.
9. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ انتصب بمعنى صيام ما تقدم، كأنه قيل: اعملوا بما أوجب اللَّه عليكم لأجل التوبة من اللَّه، أي ليقبل اللَّه توبتكم، وهو كما يقال: فعلت كذا حذر الشر.
10. سؤال وإشكال: قتل الخطأ لا يكون معصية، فما معنى قوله: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾، والجواب: فيه وجوه:
أ. الأول: أن فيه نوعين من التقصير، فان الظاهر أنه لو بالغ في الاحتياط لم يصدر عنه ذلك الفعل، ألا ترى أن من قتل مسلما على ظن أنه كافر حربي، فلو أنه بالغ في الاحتياط/ والاستكشاف فالظاهر أنه لا يقع فيه، ومن رمى إلى صيد فأخطأ وأصاب إنسانا فلو احتاط فلا يرمي إلا في موضع يقطع بأنه ليس هناك إنسان فانه لا يقطع في تلك الواقعة، فقوله: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ تنبيه على أنه كان مقصرا في ترك الاحتياط.
ب. الثاني: أن قوله: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ راجع إلى أنه تعالى أذن له في إقامة الصوم مقام الاعتاق عند العجز عنه، وذلك لأن اللَّه تعالى إذا تاب على المذنب فقد خفف عنه، فلما كان التخفيف من لوازم التوبة أطلق لفظ التوبة لا رادة التخفيف إطلاقا لا سم الملزوم على اللازم.
ج. الثالث: أن المؤمن إذا اتفق له مثل هذا الخطأ فانه يندم ويتمنى أن لا يكون ذلك مما وقع فسمى اللَّه تعالى ذلك الندم وذلك التمني توبة.
11. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ المعنى أنه تعالى عليم بأنه لم يقصد ولم يتعمد حكيم في أنه ما يؤاخذه بذلك الفعل الخطأ، فان الحكمة تقتضي أن لا يؤاخذ الإنسان إلا بما يختار ويتعمد:
أ. أهل السنة لما اعتقدوا أن أفعال اللَّه تعالى غير معللة برعاية المصالح قالوا: معنى كونه تعالى حكيما كونه عالما بعواقب الأمور.
ب. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: هذه الآية تبطل هذا القول لأنه تعالى عطف الحكيم على العليم، فلو كان الحكيم هو العليم لكان هذا عطفا للشيء على نفسه وهو محال، والجواب: أن في كل موضع من القرآن ورد فيه لفظ الحكيم معطوفا على العليم كان المراد من الحكيم كونه محكما في أفعاله، فالأحكام والأعلام عائدان إلى كيفية الفعل.
__________
(1) التفسير الكبير: 10/181
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ أي: فإن كان المقتول من قوم عدوّ لكم، وهم الكفار الحربيون، وهذه مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم، ثم أسلم ولم يهاجر، وهم يظنون أنه لم يسلم، وأنه باق على دين قومه، فلا دية على قاتله بل عليه تحرير رقبة مؤمنة، واختلفوا في وجه سقوط الدية، فقيل: وجهه: أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدّية؛ وقيل: وجهه: أن هذا الذي آمن ولم يهاجر حرمته قليلة، لقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ وقال بعض أهل العلم: إن ديته واجبة لبيت المال.
2. ﴿وإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ﴾ أي: مؤقت أو مؤبد، وقرأ الحسن: وهو مؤمن فدية مسلّمة إلى أهله أي: فعلى قاتله دية مؤداة إلى أهله من أهل الإسلام، وهم ورثته ﴿وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ كما تقدم.
3. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ أي: الرقبة، ولا اتسع ماله لشرائها ﴿فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ﴾ أي: فعليه صيام شهرين متتابعين، لم يفصل بين يومين من أيام صومهما إفطار في نهار، فلو أفطر استأنف، هذا قول الجمهور، وأما الإفطار لعذر شرعي كالحيض ونحوه فلا يوجب الاستئناف، واختلف في الإفطار لعرض المرض.
4. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ منصوب على أنه مفعول له، أي: شرع ذلك لكم توبة، أي: قبولا لتوبتكم، أو منصوب على المصدرية، أي: تاب عليكم توبة، وقيل: منصوب على الحال، أي: حال كونه ذا توبة كائنة من الله.
__________
(1) فتح القدير: 1/578.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ﴾ مشركين أو موحِّدين حلَّ قتالهم لبغيهم أو نحوه ﴿وَهُوَ مُومِنٌ﴾ كان في المشركين نَسَبًا وسكنى، أو سكنى أسلم ولم يهاجر، ولم يجعل لنفسه علامة ولا خبرًا، أو دخل من خارج كذلك، وقتله من لم يعلم بإسلامه، ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّومِنَةٍ﴾ موحِّدة.
2. ولا دية له، لأنَّه هدر دمه بكونه فيهم، بحيث يعدُّ أنَّه منهم، ولا سيما إن أسلم ولم يهاجر قبل نسخ الهجرة، فإنَّ ذلك من موانع الإرث، وقال أبو حنيفة: له الدية إن دخل إلى المشركين لأمر مُهمٍّ، لقوله تعالى: ﴿وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ﴾، ولم يقل: (فيهم)
3. ﴿وَإِن كَانَ﴾ المقتول ﴿مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ﴾ عهد كأهل ذمَّتكم، والمعاهد لمدَّة، وفي معنى ذلك المستأمن والمستجير ﴿فَـ﴾ على القاتل ﴿دِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ اِلَى أَهْلِهِ﴾ وهم أهل شرك، وهي ثلث دية المسلم إن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا أو صابئًا، وثمانمائة درهم إن كان مجوسيًّا، ثلثا عُشُر دية المسلم، والوثنيُّ وغيره من المشركين ستُّ مائة، وقال مالك والشافعيُّ: دية الكتابيِّ نصف دية المسلم، وقال الشافعيُّ: دية المجوسيِّ ثلثا عُشُر دية المسلم، ودية المؤمن المقتول لأهله المشركين على أنَّها غير إرث، ومن نزَّلها كالإرث قال: لبيت المال.
4. ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّومِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ في تلك المسائل رقبة مؤمنة بشراء ولا إرث ولا هبة، ولا بِعِوَضٍ ما، أو وجدها ولم يجد ما يشتريها به فاضلاً عن نفقته ونفقة عياله وسائر حوائجه الضروريَّة، من المسكن ونحوه، ﴿فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ فإن اختلَّ التتابع ولو بأمر ضروريٍّ كخوف الموت بالجوع، أو بنيَّة صوم آخر استأنف، إلَّا إن أفطرت بحيض أو نفاس فلا تستأنف [أي لا تعيد ما مضى]، وقيل في كلِّ ما لا يمكن التحرُّز عنه كموت بجوع، وقتل جبَّارٍ ومرض إنَّه لا يخلُّ بالتتابع، وإن لم يستطع الصوم فلا إطعام عليه عندنا وفي أصحِّ الشافعيِّ، وله قول بالإطعام إذا لم يستطع الصوم، حملاً لهذا الإطلاق على التقييد في الظِّهار، والذي عندي أنَّ الحمل في الأوصاف لموصوف واحد لا في الأصول، وهنا الأصول، إذ ما هنا قَتْلٌ، وما هنالك ظِهَارٌ، وأصحابنا اعتبروا الصِّفة وجعلوا الموصوف الكفَّارة، فحملوا العتق في الظهار على العتق في القتل، فخصُّوه بالمؤمنة كما في القتل، بقي أنَّه إذا لم يستطع الصوم نواه وأوصى به، أو أخبر عليه، ولا كفَّارة في العمد، والشافعيُّ يقول: هو أولى بها من الخطأ، وعن الضحَّاك: الصيام لمن لم يجد رقبة، وأمَّا الدية فلا يبطلها شيء.
5. ﴿تَوبَةً مِّنَ اللهِ﴾ الأصل: تاب الله عليه توبة من الأثقل وهو التحرير إلى الأخفِّ وهو الصوم، أو تاب الله عليكم توبة، بمعنى: قَبِلَ الله توبتكم، بمعنى أنَّه ساهلكم بالأيسر، وإلَّا فالخطأ لا ذنب فيه فيتاب منه، أو عدَّ إهمال الحذر ذنبًا يتاب منه، أو شرع الله ذلك توبة منه، أو عدَّ ندم الخاطئ توبة جائية من الله له، ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا﴾ بحاله أنَّه لم يتعمَّد ﴿حَكِيمًا﴾ في قضائه وقدره إذ لم يعاقبه عقاب المتعمِّد، متقنًا لأمره لكمال علمه.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/254.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ كَانَ﴾ أي: المقتول خطأ ﴿مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ أي: محاربين ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ فلم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه، بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم، أو بأن أتاهم بعد ما فارقهم لمهمّ من المهمات ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي: فعلى قاتله الكفارة، لحق الله دون الدية، فإنها ساقطة، إذ لا إرث بينه وبين أهله، لأنهم محاربون، وقال الإمام زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام: لا تؤدى الدية إليهم لأنهم يتقوّون بها، ومعلوم أن سقوط الدية لمن هذه حاله أخذا من إيجاب الله تعالى على قاتله الكفارة، ولم يذكر الدية كما ذكرها في أول الآية وآخرها، وقد روى الحاكم وغيره عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان الرجل يأتي النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم يرجع إلى قومه وهم مشركون: فيصيبه المسلمون في سرية أو غزاة، فيعتق الذي يصيبه رقبة.
2. ﴿وَإِنْ كَانَ﴾ أي: المقتول خطأ ﴿مِنْ قَوْمٍ﴾ أي: كفرة ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ أي: عهد من هدنة أو أمان، أي: كان على دينهم ومذهبهم ﴿فِدْيَةٌ﴾ أي: فعلى قاتله دية ﴿مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ إذ هم كالمسلمين في الحقوق ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ لحق الله تعالى، وتقديم الدية هاهنا مع تأخيرها فيما سلف، للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشيا عن توهم نقض الميثاق، قال السيوطيّ: روى الحاكم وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ﴾ إلخ: هو الرجل يكون معاهدا، ويكون قومه أهل عهد، فتسلم إليهم الدية ويعتق الذي أصابه رقبة، قال السيوطيّ: ففيه أن المقتول إذا كان من أهل الذمة والعهد ففيه دية مسلمة إلى أهله مع الكفارة، وفيه رد على من قال: لا كفارة في قتل الذميّ، والذين قالوا ذلك قالوا: إن الآية في المؤمن الذي أهله أهل عهد، وقالوا: إنهم أحق بديته لأجل عهدهم، ويرده تفسير ابن عباس المذكور، وأنه تعالى لم يقل فيه: وهو مؤمن، كما قال في الذي قبله.
3. استدل بالآية من قال: إن دية المعاهد حربيا أو كتابيا، كالمسلم، لأنه تعالى ذكر في كل منهما الكفارة والدية، فوجب أن تكون ديتهما سواء كما أن الكفارة عنهما سواء، إذ إطلاق الدية يفيد أنها الدية المعهودة، وهي دية المسلم، وقد أخرج الترمذيّ عن ابن عباس وقال: غريب؛ أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ودى العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمريّ، وكان لهما عهد من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يشعر به عمرو، بدية المسلمين، وأخرج البيهقيّ عن الزهريّ أنها كانت دية اليهوديّ والنصرانيّ في زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مثل دية المسلم، وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان، فلما كان معاوية، أعطى أهل المقتول النصف وألقى النصف في بيت المال، قال: ثم قضى عمر بن عبد العزيز بالنصف وألقى ما كان جعل معاوية، وأخرج أيضا عن ابن عمر أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ودى ذميّا دية مسلم، وفي أثري البيهقيّ المذكورين مقال، إذ علل الأول بالإرسال، والثاني بأن في إسناده أبا كرز، وهو متروك، وروى أحمد والنسائيّ والترمذيّ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: عقل الكافر نصف دية المسلم، وأخرج أبو داود عنه بلفظ: دية المعاهد نصف دية الحر، وفي لفظ: قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين: وهم اليهود والنصارى، رواه أحمد والنسائيّ وابن ماجة.
4. وعندي: لا تنافي بين هذه الروايات المذكورة، لأن الظاهر أن الفرض في دية الكافر إنما هو النصف، ولا حرج في الزيادة عليه، إلى أن يبلغ دية المسلم تبرعا وتفضلا، وبه يحصل الجمع بين الروايات، والاستدلال بالآية على تماثل ديتي المسلم والكافر المتقدم ـ غير ظاهر، لما في الدية من الإجمال المرجوع في بيانه إلى السنة، وقد بيّنته وصح فيها أنه النصف فرضا، والله أعلم ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ أي: رقبة ليحررها، بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ أي: فعليه صيام شهرين متواصلين لا إفطار بينهما، بحيث لو صام تسعة وخمسين، وتعمد بإفطار يوم، استأنف الجميع، لأن الخطأ إنما نشأ من كدورة النفس، وهذا القدر يزيلها ويفيد التزكية، قاله المهايميّ، ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي: قبولا من الله ورحمة منه، من (تاب عليه): إذا قبل توبته، (فتوبة) منصوب على أنه مفعول له، أي: شرع لكم ذلك توبة منه، أو مصدر مؤكد لمحذوف، أي: تاب عليكم توبة منه.
5. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بجميع الأشياء التي منها مقدار كدورة هذا الخطأ العظيم ﴿حَكِيمًا﴾ في دواء إزالتها، قال المهايميّ: وإذا كان للخطأ هذه الكدورة مع العفو عنه، فأين كدورة العمد؟ أي: وهي التي ذكرت في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/261
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم بين تعالى حكم قتل المؤمن تعمدا بما يوافق مفهوم هذه الآية من كونه ليس من شأنه أن يقع من مؤمن فلم يذكر له كفارة بل جعل عقابه أشد عقاب توعد به الكافرين فقال: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾. قال محمد عبده: هذا فرع عن كون القتل ليس من شأن المؤمن مع المؤمن لأنه ينافي الإيمان، وقال ابن عباس هذه الآية آخر آية نزلت في عقاب القتل، وقال بعض الصحابة إن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ النساء: 48] نزل قبل هذه الآية بستة أشهر فهذه الآية مخصصة له وقد قلنا من قبل إن قوله تعالى: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فيه مع تغليظ أمر الشرك أن كل شيء بمشيئته تعالى فلو شاء أن يخصص أحدا بالمغفرة فلا مردّ لمشيئته، وقد يقال إنه أخرج من هذه المشيئة من يقتل مؤمنا متعمدا فآية: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ نزلت ترغيبا للمشركين الذين آذوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الإيمان، وهم الذين نزل فيهم: ﴿إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 8] وقد نقل عن ابن عباس أن قاتل العمد لا توبة له وقالوا إن آية الفرقان نزلت في المشركين والتوبة فيها متعلقة بعدة أعمال منها القتل ومنها الشرك، ويعني بآية الفرقان قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: 70] بعد أن ذكر من صفات عباد الرحمن أنهم لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون، وتوعد على ذلك كله بمضاعفة العذاب والخلود فيه.
2. سؤال وإشكال: قد يقال كيف تقبل التوبة من المشرك القاتل الزاني ولا تقبل من المؤمن الذي ارتكب القتل وحده؟ والجواب: يمكن أن يُجاب من القائلين بعدم توبة القاتل بأن المشرك الذي لم يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور له شبه عذر لأنه كان متبعا لهواه بالكفر وما يتبعه ولم يكن ظهر له صدق النبوة وما يتبع ذلك، فلما ظهر له الدليل على أن ما كان عليه هو كفر وضلال تاب وأناب وآمن وعمل الصالحات، فهو جدير بالعفو وإن كان في إجرامه السابق مقصرا في النظر والاستدلال، وأما المؤمن الموقن بصحة النبوة وتحريم الله للقتل وجعل قاتل النفس البريئة كقاتل الناس جميعا فلا عذر له، بل لا يعقل أن يرجح هواه على إيمانه مع أنه لم يطرأ على إيمانه من الشك الاضطراري ما يكون له شبه عذر، أما إذا طرأ عليه ذلك فإن حكمه حكم القاتل الكافر، وذلك أن الكافر الذي بلغته الدعوة ولم يؤمن لم يعرض عن الإيمان إلا لأن الدليل لم يظهر له على صحة النبوة، وهو يعاقب على التقصير في النظر وتصحيح الاستدلال حتى يخلد في النار، وإذا أحسن النظر وتبين له الهدى فآمن واهتدى يغفر له ما قد سلف في زمن الكفر، لأنه كان عملا مرتبا على الكفر، والكفر نفسه كان خطأ منه فأشبه قتله قتل الخطأ، ومثله من أخطأ في الدليل بعد التسليم به لشبهة عرضت على إيثاره لهواه على ما عند الله، أما القاتل المؤمن فأمره على غير ذلك فإنه مؤمن بالله وبرسوله وبما جاء به إيمان يقين وإذعان لما جاء به الدين من تعظيم أمر الدماء، وهو يعلم أن المؤمن أخ له ونصير بحكم الإيمان فكيف يعمد بعد هذا إلى الاستهانة بأمر الله وحكمه، وحل ما عقده وتوهين أمر دينه بهدم أركان قوته وتجرئة الناس على مثل ذلك حتى يهن المسلمون ويضعفوا ويكون بأسهم بينهم شديدا، لا جرم أن عقابه يكون شديدا بحيث لا تقبل توبته.
3. ومن نظر إلى انحلال أمر الإسلام والمسلمين بعدما أقدم بعضهم على سفك دم بعض من زمن طويل يظهر له وجه هذا وأن القاتل لا يعذر بهذه الجراءة على هذه الجريمة وهو لم تعرض له شبهة في أمر الله، إذ لا رائحة للعذر في عمله بل هو مرجح للغضب وحب الانتقام وشهوة النفس على أمر الله تعالى، ومن فضل شهوة نفسه الخسيسة الضارة على نظر الله وعلى كتابه ودينه ومصلحة المؤمنين بغير شبهة ما فهو جدير بالخلود في النار والغضب واللعنة، ويدل على هذا قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 134] وتأمل قوله: ﴿يَعْلَمُونَ﴾ ولو سمح الله أن يفضل أحد شهوته أو حميته وغضبه على الله ورسوله وكتابه ودينه والمؤمنين، ووعده بالمغفرة، لتجرأ الناس على كل شيء ولم يكن للدين ولا للشرع حرمة في قلوبهم، فهذا تقرير قول من قالوا إن القاتل لا تقبل توبته ولابد من عقابه والروايات فيه عن الصحابة والسلف كثيرة تراجع في تفسير ابن جرير.
4. هذا ما عندنا عن محمد عبده في الآية وهو من خير ما يبين به وجه ما ذهب إليه المشددون في هذه الجناية، وقال الزمخشري في الكشاف: (هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد، والإبراق والإرعاد، أمر عظيم، وخطب غليظ)، ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة، وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا لا توبة له، وذلك محمول منهم على سنة الله في التغليظ والتشديد وإلا فكل ذنب ممحوّ بالتوبة وناهيك بمحو الشرك دليلا، وفي الحديث: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم) وفيه: (لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لأشرك في دمه) وفيه (إن هذا الإنسان بنيان الله ملعون من هدم بنيانه) وفيه (من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله)، والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث وقول ابن عباس بمنع التوبة ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مناهم، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]
5. وقد استنكر الجمهور خلود القاتل في النار وأوّله بعضهم بطول المكث فيها وهذا يفتح باب التأويل لخلود الكفار فيقال إن المراد به طول المكث أيضا، وقال بعضهم إن هذا جزاؤه الذي يستحقه إن جازاه الله تعالى وقد يعفو عنه فلا يجازيه، رواه ابن جرير عن أبي مجلز، وفيه أن الأصل في كل جزاء أن يقع لاستحالة كذب الوعيد كالوعد وأن العفو والتجاوز قد يقع عن بعض الأفراد لأسباب يعلمها الله تعالى، فليس في هذا التأويل تفص من خلود بعض القاتلين في النار، والظاهر أنهم يكونون الأكثرين، لأن الاستثناء إنما يكون في الغالب للأقلين، وقال بعضهم إن هذا الوعيد مقيد بقيد الاستحلال والمعنى ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله مستحلا له فجزاؤه جهنم خالدا فيها الخ، وفيه أن الآية ليس فيها هذا القيد ولو أراده الله تعالى لذكره كما ذكر قيد العمد، وأن الاستحلال كفر فيكون الجزاء متعلقا به لا بالقتل، والسياق يأبى هذا، وقال بعضهم إن هذا نزل في رجل بعينه فهو خاص به، وهذا أضعف التأويلات، لا لأن العبرة بعموم اللفظ دون خصوص السبب فقط بل لأن نص الآية على مجيئه بصيغة العموم(من) الشرطية جاء بفعل الاستقبال فقال: (ومن يقتل) ولم يقل: (ومن قتل)، وقال آخرون إن هذا الجزاء حتم إلا من تاب وعمل من الصالحات ما يستحق به العفو عن هذا الجزاء كله أو بعضه، وفيه أنه اعتراف بخلود غير التائب المقبول التوبة في النار، ولعل أظهر هذه التأويلات قول من قال إن المراد بالخلود طول المكث لأن أهل اللغة استعملوا لفظ الخلود وهم لا يعتقدون أن شيئا يدوم دواما لا نهاية له، وكون حياة الآخرة لا نهاية لها لم يؤخذ من هذا اللفظ وحده بل من نصوص أخرى.
6. إن ابن عباس كان يقول: إن قاتل المؤمن عمدا لا توبة له كما ذكرنا ذلك في عبارة شيخنا وعبارة الكاشف، ونقل ابن جرير القول بقبول توبته عن مجاهد وهو تلميذ ابن عباس، وذكر روايات كثيرة عن ابن عباس في عدم قبول توبته منها رواية سالم ابن أبي الجعد قال كنا عند ابن عباس بعدما كف بصره فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ فقال أفرأيت فإن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه، وأنى له التوبة؟ فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (ثكلته أمه رجل قتل رجلا متعمدا جاء يوم القيامة آخذا بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دما من قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بيده الأخرى يقول: سل هذا فيم قتلني) والذي نفس عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسخها من آية أخرى حتى قبض نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم وما نزل بعدها من برهان، وفي رواية أخرى: فما جاء نبي بعد نبيكم ولا نزل كتاب بعد كتابكم، وروى ابن جرير أيضا عن سعيد بن جبير أن عبد الرحمن بن أبزى أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين اللتين في النساء ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ إلى آخر الآية، والتي في الفرقان: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ إلى ﴿وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾ [الفرقان: 69]، قال ابن عباس إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره ثم قتل مؤمنا متعمدا فلا توبة له، وأما التي في الفرقان فإنها لما نزلت قال المشركون من أهل مكة: فقد عدلنا بالله (أي أشركنا) وقتلنا النفس التي حرم الله بغير الحق فما ينفعنا الإسلام؟ قال فنزلت: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ وفي رواية أخرى قال إنها نزلت في أهل الشرك، وروي عنه أنه قال: إن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بسنة، وفي رواية أخرى بثماني سنين، وهذه أقرب فإن سورة الفرقان مكية حتما وسورة النساء مدنية نزل أكثرها بعد غزوة أحد كما تقدم وأما الرواية التي ذكرها محمد عبده وهي أنها نزلت بعدها بستة أشهر فقد رواها ابن جرير عن زيد بن ثابت، وروي عن ابن مسعود أن الآية محكمة وما تزداد إلا شدة، وعن الضحاك أنه ما نسخها شيء وأنه ليس له توبة.
7. وقد بين محمد عبده الفرق بين قبول توبة المشرك من الشرك وما يتبعه من الجرائم وعدم قبول توبة المؤمن من القتل على قول ابن عباس، وهو فرق واضح معقول من وجه وغير معقول من وجه آخر، وهو أنه لا ينطبق على قاعدتنا في حكمة الله في الجزاء على الشرك والذنوب وعلى الإيمان والأعمال الصالحة وقد بيناها مرارا كثيرة، وهي أن الجزاء تابع لتأثير الاعتقاد والعمل في تزكية النفس أو تدسيتها.
8. نعم إن إقدام المرء بعد الإيمان ومعرفة ما عظم الله تعالى من تحريم الدماء وما شدد من الجزاء على جريمة القتل يكاد يكون ردة عن الإسلام وهو أولى بما ورد في الصحيح (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الخ وقد تقدم في بحث التوبة في تفسير هذه السورة، فإن القتل أكبر إثما وأشد جرما من الزنا والسرقة وشرب الخمر التي ورد بها الحديث، ولكن لا نسلم ما قاله شيخنا من أنه ليس لفاعله شبهة عذر بعد الإسلام، وإذا سلمنا ذلك وحكمنا بأن نفس القاتل قد صارت بالقتل شر النفوس وأشدها رجسا، وأبعدها عن موجبات الرحمة، وهو معنى ما في الآية من اللعنة، فلا نستطيع أن نحكم بأن صلاحها بالتوبة النصوح والمواظبة على الأعمال الصالحة متعذر ولا متعسر.
9. أما شبهة العذر أو شبهه فقد يظهر فيمن كان شديد الغضب حديد المزاج، إذا رأى من خصمه ما يثير غضبه وينسيه ربه، فقد يندفع إلى القتل لا يملك فيه نفسه، إلا أن يقال إن هذا القتل لا يعد من العمد أو التعمد الذي هو أبلغ من العمد لما في صيغة التفعل من الدلالة على معنى التربص أو التروي في الشيء، وقد ذكروا أن الضرب بما لا يقتل في الغالب إذا أفضى إلى القتل لا يسمى عمدا بل شبه عمد كالضرب بالعصا، وإنما العمد ما كان بمحدد وما في معناه مما جرت العادة بكونه يقتل كبندق الرصاص المستعمل في هذا الزمان بآلاته الجديدة كالبندقية والمسدس، واشترطوا فيه أن يقصد به القتل فإنه قد يطلق الرصاص عليه بقصد الإرهاب وهو ينوي أن لا يصيبه فيصيبه بدون قصد، ولفظ التعمد يدل على هذا وعلى أكثر منه كما قلنا آنفا.
10. وأما كون القاتل قد تصلح نفسه وتتزكى بالتوبة النصوح فهو معقول في نفسه وواقع ويدخل في عموم ما ورد في التوبة، ولا نعرف نفسا غير قابلة للصلاح، إلا نفس من أحاطت به خطيئته وران على قلبه ما كان يكسب من الأوزار، بطول الممارسة والتكرار، إذ يألف بذلك الشر ويأنس به حتى لا تتوجه نفسه إلى حقيقة التوبة بكراهة ما كان عليه ومقته والرجوع عنه، لا أنه يتوب ولا يقبل الله توبته، فمن وقعت منه جريمة القتل فأدرك عقبها أنه تعرض بذلك للخلود في النار، واستحق لعنة الله تعالى والطرد من رحمته، وباء بغضبه وتهول في عذابه العظيم، فعظم عليه ذنبه، وضاقت عليه نفسه، فندم أشد الندم، فأناب واستغفر، وعزم على أن لا يعود إلى هذا الحنث العظيم، ولا إلى غيره من المعاصي والأوزار، وأقبل على المكفرات، وواظب على الباقيات الصالحات، إلى أن أدركه الممات، وهو على هذه الحال، فهو ولا شك في محل الرجاء، وحاش لله أن يخلد مثله في النار.
11. نعم إن أمراء الجور الذين يسفكون دماء من يخالفون أهواءهم، وزعماء السياسة الذين يجعلون من قوانين جمعياتهم اغتيال من يعارضهم في سياستهم، وكبراء اللصوص الذين يقتلون المؤمن وغير المؤمن بغير الحق لأجل التمتع بماله، كل أولئك الفجار، الذين يقتلون مع التعمد وسبق الإصرار، جديرون بأن ينالوا الجزاء الذي توعدت به الآية من الخلود في النار، ولعنة الله وغضبه وعذابه العظيم الذي لا يعرف كنهه سواه عز وجل، لأنهم وإن كان فيهم من يعدون في كتب تقويم البلدان ودفاتر الإحصاء وسجلات الحكومة من المسلمين ليسوا في الحقيقة من المؤمنين بالله وبصدق كتابه ورسوله فيما أخبرا به من وعيده على القتل وغيره، فهم لا يراقبون الله في عمل، ولا يخافون عقابه على ذنب، وقلما يوجد فيهم من يذكر التوبة بقلبه أو لسانه، إلا ما يذكر عن بعض عوام اللصوص من حركة اللسان ببعض الألفاظ التي لا يعقلون حقيقة معناها، ومنها: أستغفر الله وأتوب إليه، وهو يكذب في ذلك عليه.
__________
(1) تفسير المنار: 5/276.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي فإن كان المقتول من أعدائكم وهو مؤمن كالحارث بن يزيد كان من قريش وهم أعداء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنون في حرب معهم ولم يعلم المسلمون إيمانه لأنه لم يهاجر وقد قتله عياش حين خروجه مهاجرا وهو لم يعلم بذلك، ومثله كل من آمن في دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه حين قتله ـ فالواجب على قاتله عتق رقبة من أهل الإيمان فقط، ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء يحاربون المسلمين فلا يعطون من أموالهم ما يستعينون به على قتالهم والتنكيل بهم.
2. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ وهم الذين عاهدوكم على السلم لا يقاتلونكم ولا تقاتلونهم كما هو حال الدول في العصر الحاضر يعقد بعضهم معاهدات ومواثيق مع بعض آخر ألا يقاتلوهم ولا يساعدوا عليهم عدوا.
3. ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي فالواجب في قتل المعاهد كالواجب في قتل المؤمن دية إلى أهله تكون عوضا عن حقهم، وعتق رقبة مؤمنة تكون كفارة عن حق الله الذي حرم قتل المعاهد كما حرم قتل المؤمن، ولم يعين هذه الدية للإشارة إلى أن للعرف العام والخاص حكمه ولا سيما إذا ذكر ذلك في عقد الميثاق الذي بينهما، لأن هذا النص يكون أقطع لعرق النزاع وأجدر بالتراضي.
4. اختلف الفقهاء في دية غير المسلمين لاختلاف الرواية في ذلك، روى أحمد والترمذي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (عقل (دية) الكافر نصف دية المسلم) وروى عن أحمد (أن ديته كدية المسلم إن قتل عمدا وإلا فنصف ديته) وذهب الزهري وأبو حنيفة إلى أن ديته كدية المسلم لظاهر الآية في أهل الميثاق وهم المعاهدون وأهل الذمة؛ وعلى الجملة فالروايات متعارضة ومن ثم اختلف فيها الفقهاء.
5. ظاهر الآية يدل على أن الدية على القاتل ولكن السنة بينت أن العاقلة (العائلة) وهم عصبته الأقربون هم الذين يدفعون الدية، وحكمة هذا تقرير التضامن بين الأقربين، وإذا عجزت العاقلة عن دفعها جعلت في بيت المال (وزارة المالية)
6. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ أي فمن لم يجد رقبة يعتقها بأن لم يجد مالا يشتريها به من مالكها ليحررها من الرق، أو لم يجد رقيقا (وهذا مقصد من مقاصد الإسلام) فعليه صيام شهرين متتابعين قمريين لا يفصل بين يومين منهما إفطار في النهار، فإن أفطر يوما بغير عذر شرعي استأنفه وكان ما صامه قبل كأن لم يكن.
7. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي قد شرعها لكم، ليتوب عليكم ويطهر نفوسكم من التهاون وقلة التحري التي تفضى إلى القتل الخطأ.
8. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي وكان الله عليما بأحوال النفوس وما يطهرها، حكيما فيما شرعه من الأحكام والآداب التي بها هدايتكم وإرشادكم إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) تفسير المراغي 5/122.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إذا وقع القتل خطأ فهناك تلك الحالات الثلاث، التي يبين السياق أحكامها هنا:
أ. الأولى: أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام، ويجب في هذه الحالة تحرير رقبة مؤمنة، ودية تسلم إلى أهله.. فأما تحرير الرقبة المؤمنة، فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس مؤمنة باستحياء نفس مؤمنة، وكذلك هو تحرير الرقاب في حس الإسلام، وأما الدية فتسكين لثائرة النفوس، وشراء لخواطر المفجوعين، وتعويض لهم عن بعض ما فقدوا من نفع المقتول.. ومع هذا يلوح الإسلام لأهل القتيل بالعفو ـ إذا اطمأنت نفوسهم إليه ـ لأنه أقرب إلى جو التعاطف والتسامح في المجتمع المسلم، ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾..
ب. الثانية: أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب.. وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت، وفقدها الإسلام، ولكن لا يجوز أداء دية لقومه المحاربين، يستعينون بها على قتال المسلمين! ولا مكان هنا لاسترضاء أهل القتيل وكسب مودتهم، فهم محاربون، وهم عدو للمسلمين.
ج. الثالثة: أن يقع القتل على مؤمن قومه معاهدون ـ عهد هدنة أو عهد ذمة ـ ولم ينص على كون المقتول مؤمنا في هذه الحالة، مما جعل بعض المفسرين والفقهاء يرى النص على إطلاقه، ويرى الحكم بتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ـ المعاهدين ـ ولو لم يكن مؤمنا، لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين.
2. لكن الذي يظهر لنا أن الكلام ابتداء منصب على قتل المؤمن، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾.. ثم بيان للحالات المتنوعة التي يكون فيها القتيل مؤمنا، وإذا كان قد نص في الحالة الثانية فقال: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ فقد كان هذا الاحتراز مرة أخرى بسبب ملابسة أنه من قوم عدو، ويؤيد هذا الفهم النص على تحرير رقبة مؤمنة في هذه الحالة الثالثة، مما يوحي بأن القتيل مؤمن فأعتقت رقبة مؤمنة تعويضا عنه، وإلا لكفى عتق رقبة إطلاقا دون شرط الإيمان.. وقد ورد أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ودى بعض القتلى من المعاهدين: ولكن لم يرد عتق رقاب مؤمنة بعددهم، مما يدل على أن الواجب في هذه الحالة هو الدية، وأن هذا ثبت بعمل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا بهذه الآية، وأن الحالات التي تتناولها هذه الآية كلها هي حالات وقوع القتل على مؤمن، سواء كان من قوم مؤمنين في دار الإسلام، أو من قوم محاربين عدو للمسلمين في دار الحرب، أو من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.. ميثاق هدنة أو ذمة.. وهذا هو الأظهر في السياق.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/740.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي أن جبر دم القتيل المؤمن بيد الخطأ، هو تحرير رقبة مؤمنة، ولا دية لأولياء الدم، لأنهم في حرب مع المؤمنين، وفي أخذ هذا المال من المسلمين تقوية لأعدائهم وإضعاف للمؤمنين.. وحسب المؤمنين أن فقدوا عضوا منهم بهذا القتيل المؤمن، فلا يجمع عليهم بين قتله، وتوجيه ديته إلى الجبهة المحاربة للمؤمنين..
2. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ ذلك أن الوفاء بالعهد الذي بين المؤمنين، ومن عقدوا العهد معهم، أمر أوجبه الإسلام على المسلمين، ولم يحلّهم منه لأى سبب، حتى ولو كان العهد مع من لم يدخلوا في دين الله! ولهذا قدم تقديم الدّية هنا على تحرير الرقبة، لأن العهد في ذمة المسلمين جميعا، لا تبرأ ذمتهم إلا بالوفاء به، إن لم يسعه مال القاتل خرج من بيت مال المسلمين.. أما تحرير الرقبة، فهو في ذمة القاتل وحده، له فيه فسحة من الوقت ونظرة إلى ميسرة!
3. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ أي فإن كان القاتل معسرا، لا يستطيع أن يحرر رقبة، أو يقدم دية، فليصم شهرين متتابعين، حتى يغسل من نفسه مشاعر الحسرة والألم لهذا الدم المسفوك!
4. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي أن صيام هذين الشهرين لأجل التوبة المتنزلة على القاتل من الله، والرحمة به، من أن يقتل نفسه أسفا وندما.. إذ علم الله أنه لم يعمد إلى القتل، فاقتضت حكمته تعالى، أن يرحم هذا القاتل، ويجعل له من همه فرجا، ومن ضيقه مخرجا.
5. سؤال وإشكال: ماذا عن قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 5]، هذا القول الذي يرفع اللوم والمؤاخذة عن الأفعال التي تقع من الإنسان عن غير قصد وعمد؟ ثم ماذا عن قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رفع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).. وقد جاء مقررا هذا المعنى الذي تضمنته الآية الكريمة، ومؤكدا له؟ ما تأويل هذا؟ مع ما أوجبه الله سبحانه وتعالى على القاتل خطأ، من تحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهل القتيل.. فإن لم يجد ما يحرر به رقبة، ويقدّم به دية، فصيام شهرين متتابعين؟ أليس في هذا مؤاخذة وقصاصا؟ فكيف التوفيق بين هذين الحكمين، اللذين يدفع أحدهما المؤاخذة عن فعل الخطأ، بينما يوجّه الآخر المؤاخذة إليه؟ والجواب: على هذا ـ والله أعلم ـ هو أن هناك روحا أزهقت، ونفسا قتلت، وأن من شأن هذا الحدث أن يثير هياجا في المشاعر، واضطرابا في العواطف، وألما في النفوس.. يبدأ ذلك من خاصة أهل القتيل، من آباء، وأبناء، وإخوة، وأعمام، وأبناء أعمام.. ثم يمتد إلى أصهار القتيل، وإلى ذوى قرابته من بعيد، وإلى أصدقائه، وأحبّائه ثم إلى المجتمع الذي يعيش فيه، ويتبادل المنافع مع أفراده! إن حادث القتل من أشبع الحوادث التي تقع في محيط الحياة الإنسانية.. والقتل الخطأ، وإن كان يخفف من وقع المصيبة على أهلها، إلا أن ما يبقى منه مع ذلك، هو همّ ثقيل، وبلاء عظيم.. وهل يعيد القتل الخطأ لأهل القتيل صاحبهم إلى الحياة؟ وهل يرى أهله في قتيلهم هذا، غير ما يرونه فيه لو أنه قتل عن عمد وقصد؟ كلا.. فهو في كلا الحالين جثة هامدة بين أيديهم.. كان إلى لحظات قليلة مضت ملء أسماعهم وأبصارهم.. وهو الآن في عالم الأموات، وهو عما قليل صائر إلى حيث يوضع في حفرة، تم يهال عليه التراب.. والنظرة المختلفة هنا، هى التي ينظر بها أهل القتيل إلى القاتل، لا إلى القتيل، الذي لا يختلف نظرهم فيه على أي حال.. فالقاتل خطأ ليس في وجه عداوة ونقمة من أهل القتيل، كالقاتل عن عمد وقصد.. ولكنه مع ذلك بغيض إلى نفوسهم، ينظرون إليه بعيون ملؤها الضيق والألم، إن لم يكن ملؤها الشنآن والنّقمة..
6. بهذه النظرة الفاحصة الحكيمة الشاملة، نظر القرآن إلى هذا الحدث المروّع، نظرة جمعت كل أطرافه، وأمسكت بجميع موارده ومصادره، ونفذت إلى ما يعتمل في المشاعر، وما يضطرب في الصدور منه، ثم جاءت إلى كل أولئك بما يصلح أمرهم، ويقيمهم على نهج قاصد، وطريق سواء! فأهل القتيل، لا بد لهم من مواساة وعزاء في هذا المصاب.. وعزاؤهم ومواساتهم هو في أن يترضّاهم القاتل، ويعتذر إليهم بهذه الدّية التي يقدمها لهم، ويريهم منها أنه ملوم يستحق المؤاخذة ـ وإن كانت حقيقة الأمر ألّا لوم عليه ولا مؤاخذة ـ إذ كان منطق النفوس المهتاجة في تلك الحال غير منطقها المعتاد، في الظروف الطبيعية.. فهذه الدّية ـ في حقيقتها ـ رمز لسلامة نية القاتل.. ولهذا التفت القرآن الكريم إلى أولياء القتيل، فدعاهم في رفق إلى التصدّق بهذه الدية على القاتل نفسه.. رحمة به، وتجاوزا عن فعلة جاءت على غير إرادته.
7. هذا هو الطرف الأول والمهمّ في هذه الواقعة.. وقد أرضاه حكم الإسلام، وطيّب خاطره، وقدم له جميل العزاء، وكرم المواساة.. وهم أولياء القتيل، أما الطرف الثاني، وهو القاتل.. فإنه ـ وقد قتل نفسا مؤمنة، بغير حق ـ يكاد يختنق ضيقا، ويحترق حسرة وألما.. يؤرّقه هذا الدّم لذى أراقه، وتفزّعه هذه الروح التي أزهقها، والتي تصيح به: لم فعلت بي هذا؟ وأي جناية جنيتها عليك حتى تفعل بي ما فعلت؟. وهكذا يعيش القاتل مع ضمير مؤرّق، ونفس معذبة، ووساوس مزعجة، لا تدع له سبيلا إلى السكن والقرار! وهنا يجىء التشريع الإسلامى إلى هذا القاتل، بما فيه العزاء لمصابه، والمواساة في مصيبته! لقد قتل نفسا مؤمنة خطأ، فليحى نفسا مؤمنة ـ عمدا! وبهذا تنقشع من نفسه تلك الغيوم السود المتراكمة، من مشاعر الحرج والإثم..!
8. ومن جهة أخرى، فإن هذا القاتل يرى أهل القتيل وقد جنى عليهم بما جنى، وأن في قلوبهم بغضا له، وفي عيونهم ازورارا عنه ـ وهذا بلاء إلى البلاء الذي يجده بمعزل عن أهل القتيل، وذلك في مواجهة النفس التي قتلها، وفي جنايته عليها.. وإنه لكى يذهب ببعض ما في نفوس أهل القتيل عليه من موجدة وبغضه ـ كانت الدية التي أوجبتها الشريعة عليه، والتي عرفنا شأنها وأثرها عند أولياء الدم! ومن هذا يتضح: أن ما فرض على القاتل من تحرير رقبة، وتقديم دية، كان لحسابه هو، ولعلاج ما أصابه من فعلته، في حياته الروحية والماديّة معا.. وأنه بهذا الذي قدّمه، قد تقاضى به الثمن عاجلا.. فوجد السكينة والأمن مع نفسه المضطربة، كما وجد السلام، والوئام مع المجتمع، ومع أولياء الدم بوجه خاص.. فواقع الأمر ـ كما ترى ـ هو أن القتل الخطأ في ذاته معفوّ عنه، وأن القاتل لم يؤخذ بجرمه، وأن ما وقع عليه من غرم كان أشبه بعملية غسل لهذا الدم البريء الذي أراقه، والذي أصابه من رشاشه ما لطّخ يده وثيابه!
9. وكان من تمام العلاج لهذا الأمر، أن القاتل إذا لم يجد ما يحرر به رقبة مؤمنة، وما يدفع به الدّية إلى أهل القتيل ـ كان عليه صيام شهرين متتابعين.. وحكمة الشهرين، وحكمة اتصال الصوم فيهما.. أن تلك المدة ـ مدة الشهرين ـ التي يفرض فيها القاتل على نفسه هذا الحرمان، هى بمثابة عقاب له، يأخذ به نفسه.. وفي هذا العقاب ما يخفّف من ألوان تلك الصورة القاتمة التي تحوم فوقه، من خيالات القتيل، وأشباحه.. ثم إن في اتصال هذا الموقف، دون أن يدخل عليه شىء من التغيير، إحكاما للتمكين لشعور جديد يقوم مكان هذا الشعور المستولى على القاتل، والمزعج له..
10. ولو ترك القاتل وشأنه بعد أن أدّى هذا المفروض عليه لاستراحت نفسه، وهدأ باله، وسكن وسواسه.. ومع هذا فقد أراد الله أن يعود بفضله عليه، وأن يذهب بكل ما بقي في نفسه من أثر لهذه التجربة القاسية التي مرّ بها.. فجاء قوله تعالى: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ ليعفّى على كل أثر لهذه المأساة، ويعيد إلى هذا الإنسان وجوده، على ما كان عليه من صحة وسلامة.
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/865.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ الآية أي إن كان القتيل مؤمنا وكان أهله كفارا، بينهم وبين المسلمين عداوة، يقتصر في الكفّارة على تحرير الرقبة دون دفع دية لهم، لأنّ الدية: إذا اعتبرناها جبرا لأولياء الدم، فلمّا كانوا أعداء لم تكن حكمة في جبر خواطرهم، وإذا اعتبرناها عوضا عن منافع قتيلهم، مثل قيم المتلفات، يكون منعها من الكفّار؛ لأنّه لا يرث الكافر المسلم، ولأنّا لا نعطيهم مالنا يتقوون به علينا، وهذا الحكم متّفق عليه بين الفقهاء، إن كان القتيل المؤمن باقيا في دار قومه وهم كفّار فأمّا إن كان القتيل في بلاد الإسلام وكان أولياؤه كفّارا، فقال ابن عبّاس، ومالك، وأبو حنيفة: لا تسقط عن القاتل ديته، وتدفع لبيت مال المسلمين، وقال الشافعي، والأوزاعي، والثّوري: تسقط الدية لأنّ سبب سقوطها أنّ مستحقيها كفّار، وظاهر قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ﴾ أنّ العبرة بأهل القتيل لا بمكان إقامته، إذ لا أثر لمكان الإقامة في هذا الحكم ولو كانت إقامته غير معذور فيها.
2. أخبر عن ﴿قَوْمِ﴾ بلفظ ﴿عَدُوٌّ﴾ وهو مفرد، لأنّ فعولا بمعنى فاعل يكثر في كلامهم أن يكون مفردا مذكّرا غير مطابق لموصوفه، كقوله: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [النساء: 101] ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1]، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ﴾ [الأنعام: 112]، وامرأة عدوّ وشذّ قولهم عدوّة، وفي كلام عمر بن الخطاب في (صحيح البخاري) أنّه قال للنسوة اللاتي كنّ بحضرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلمّا دخل عمر ابتدرن الحجاب لمّا رأينه (يا عدوّات أنفسهنّ)، ويجمع بكثرة على أعداء، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ﴾ [فصلت: 19]
3. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ أي إن كان القتيل المؤمن، فجعل للقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق، أيّ عهد من أهل الكفر، دية قتيلهم المؤمن اعتدادا بالعهد الذي بيننا ـ وهذا يؤذن بأنّ الدية جبر لأولياء القتيل، وليست مالا موروثا عن القاتل، إذ لا يرث الكافر المسلم، فلا حاجة إلى تأويل الآية بأن يكون للمقتول المؤمن وارث مؤمن في قوم معاهدين، أو يكون المقتول معاهدا لا مؤمنا، بناء على أنّ الضمير في (كان) عائد على القتيل بدون وصف الإيمان وهو تأويل بعيد لأنّ موضوع الآية فيمن قتل مؤمنا خطأ، ولا يهولنّكم التصريح بالوصف في قوله: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ لأنّ ذلك احتراس ودفع للتوهّم عند الخبر عنه بقوله: ﴿مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ أن يظن أحد أنّه أيضا عدوّ لنا في الدّين، وشرط كون القتيل مؤمنا في هذا لحكم مدلول بحمل مطلقه هنا على المقيّد في قوله هنالك ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، ويكون موضوع هذا التفصيل في القتيل المسلم خطأ لتصدير الآية بقوله: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة، وذهبت طائفة إلى إبقاء المطلق هنا على إطلاقه، وحملوا معنى الآية على الذمّي والمعاهد، يقتل خطأ فتجب الدية وتحرير رقبة، وهو قول ابن عباس، والشعبي، والنخعي، والشافعي، ولكنّهم قالوا: إنّ هذا كان حكما في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين المسلمين صلح إلى أجل، حتّى يسلموا أو يؤذنوا بحرب، وإنّ هذا الحكم نسخ.
4. ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ وصف الشهران بأنّهما متتابعان والمقصود تتابع أيامهما، لأنّ تتابع الأيام يستلزم توالي الشهرين.
5. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ مفعول لأجله على تقدير: شرع الله الصيام توبة منه، والتوبة هنا مصدر تاب بمعنى قبل التوبة بقرينة تعديته ب (من)، لأنّ تاب يطلق على معنى ندم وعلى معنى قبل منه، كما تقدّم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء: 17] في هذه السورة، أي خفّف الله عن القاتل فشرع الصيام ليتوب عليه فيما أخطأ فيه لأنّه أخطأ في عظيم، ولك أن تجعل ﴿تَوْبَةً﴾ مفعولا لأجله راجعا إلى تحرير الرقبة والدية وبدلهما، وهو الصيام، أي شرع الله الجميع توبة منه على القاتل، ولو لم يشرع له ذلك لعاقبه على أسباب الخطأ، وهي ترجع إلى تفريط الحذر والأخذ بالحزم، أو هو حال من (صيام)، أي سبب توبة، فهو حال مجازية عقلية.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/221.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أى أنه إذا كان ينتمى إلى الأعداء، فإن الدية لا تدفع، لأن أموال الأعداء وأرواحهم غير مصونة، ولأن إرسال الدية إلى قومه تقوية لهم على المؤمنين، فلا تعوض أسرة القتيل، ولكن تعوض الجماعة الإسلامية بالحرية التى تمنح لواحد منها تعويضها عما فقدت.
2. إذا كان المقتول من قوم بينهم وبين المؤمنين عهد وميثاق، وفى هذا تدفع الدية إلى أهله، ولذا قال سبحانه: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾، والذين لهم ميثاق فريقان: فريق يعيش بين المؤمنين، وفريق يعيش في دولة أخرى بينها وبين المسلمين عهد:
أ. فأما الفريق الأول فهم الذين لهم ذمة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعهده، وهذا أقوى عهد موثق ومؤكد، وبمقتضى حكم الإسلام لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويسمون ذميين، ولقد قال النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة، ومن خاصمته خصمته)!
ب. وأما الفريق الثاني فإنهم أقوام لهم دولة قائمة، وبينهم وبين المسلمين عهد موثق بعدم الاعتداء وإقامة السلم فيما بينهم وبين المسلمين، وقد يكون بينهم وبين المسلمين حلف على التناصر إذا حصل اعتداء.
3. هنا إشارة بيانية تؤكد حرص الشرع على دفع الدية لأهل المقتول ولو كانوا غير مسلمين، وهي تقديم الدية على الكفارة؛ لأنها نفيت في حال القاتل الذى ينتمى إلى الأعداء، فكان لا بد من توكيدها حتى لا يتردد القاتل في دفعها إلى غير المسلمين، إن كان بينهم وبين المسلمين ميثاق بمنع الاعتداء.
4. قال بعض العلماء، إن الدية ذكرت منكرة ولم تذكر معرفة، فلم يقل تعالت كلماته: الدية تسلم لأهله؛ وهي قد ذكرت منكرة في الحالين اللتين وجبت فيهما، واستنبط من هذا أنها لو ذكرت معرفة لكان تقدير النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم بيانا لمعناها في القرآن، وما جاز تقديرها بغير تقديره، ولا الاتفاق على غيرها، ونحن نؤيد هذا الاستنباط بشرط ألا يكون تفاوت في تقدير الدية من حيث الجنس أو اللون، أو القوة والضعف، أو العلم والجهل، أو التحضر والتبدى، فإن هذا شأن الجاهلية، ولا يقره الإسلام، ولا يصح أن يترك الأمر ليستغل القوى ضعف الضعيف.
5. هنا يجب أن نذكر فرعين:
أ. أحدهما: إذا قتل المؤمن ذميا أو معاهدا غير مسلم، فهل تجب الدية والكفارة؟ والجواب عن ذلك أن الدية واجبة الأداء باتفاق العلماء، أما الكفارة فهى موضع نظر، وأميل إلى وجوبها؛ لأن التحرز عن دم الذمى أو المعاهد كالتحرز من دم المسلم، لأنه معصوم الدم كالمؤمن على سواء، وموجبات الأمن لأهل الدولة الواحدة ثابتة، ولأن الكفارة عبادة، وعتق أهل الإيمان أمر مرغوب فيه.
ب. الثاني: إذا قتل الذمى ذميا، فإن الدية بلا ريب واجبة؛ لأنها تعويض لأسرة القتيل، ولأنها في معنى القصاص من القاتل قتلا خطأ، وأما الكفارة فإنها عبادة، فلا تجب على غير المسلم، وخصوصا أن فيها صوم شهرين متتابعين، والصوم عبادة إسلامية، والأمر فيه بين العبد وربه، والصوم يكون حيث لا توجد الرقبة.
6. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أى فمن لم يجد رقبة مؤمنة يعتقها، فالواجب في الكفارة، حيث تجب، صيام شهرين متصلين في أيامهما، لا يفرق بينها فطر، بحيث لو أفطر يوما فيها استأنف من جديد ابتداء الشهرين، إلا أن يكون إفطار اليوم لعذر كمرض أو سفر مضطر إليه، وخالف في ذلك أبو حنيفة والشافعى، وقررا وجوب الاستئناف من جديد، ولو كان الإفطار لعذر قاهر، والآية تصرح بأن سبب الكفارة هو التوبة والرجوع إلى الله تعالى من تقصير في التقدير، وقد يقال: إذا لم يكن إثم فمن أى شىء تكون التوبة، مع أنه باتفاق العلماء لا إثم في الخطأ؟ ونقول: إن إثم القتل لا يتحقق عند الخطأ كما نقلنا من قبل، ولكن التقصير قد يكون ثابتا، والتوبة إنما هى من هذا التقصير، والحمل على الاحتياط والتحرز في المستقبل، والكفارة مذكر مستمر بالتقصير حتى لا يتكرر من بعد.
7. ذيل الله تعالى النص الكريم بذكر اتصافه بأنه عليم بكل شىء، عليم بالنفوس وحركاتها ومداها، وعليم بما يقع من الأعمال، ويجول في النفوس والخواطر، وهو المدبر لكل شىء بحكمته، والذى يشرع الأحكام على مقتضى المصلحة الإنسانية العالية.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1802.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾، المراد بقوم عدو الكفار المحاربون، وضمير هو يعود على المقتول، والمعنى أن المسلم إذا قتل شخصا باعتقاد انه كافر، ثم تبين انه مسلم يقيم بين قومه الكفار، إذا كان كذلك فلا شيء على القاتل الا عتق نسمة، وتسقط عنه الدية، لأن المفروض ان أهل المقتول كفار، فإذا أعطوها تقووا بها على حرب المسلمين.
2. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾، أي إذا كان المسلم المقتول خطأ من قوم كفرة، ولكنهم غير محاربين، لأن بينهم وبين المسلمين عهد المسالمة، إذا كان كذلك تعطى دية المقتول إلى أهله، وان كانوا كفرة، لأن حكمهم، والحال هذه، تماما كحكم المسلمين، من حيث وجوب الدية، وعلى القاتل أن يكفّر بعتق نسمة، فإن عجز صام شهرين متتابعين، وشرع الله هذه الكفارة على القاتل، لتكون توبة له على ما صدر منه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/409.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ الضمير يرجع إلى المؤمن المقتول، والقوم العدو هم الكفار المحاربون، والمعنى: إن كان المقتول خطأ مؤمنا وأهله كفار محاربون لا يرثون وجب التحرير ولا دية إذ لا يرث الكافر المحارب من المؤمن شيئا.
2. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ الضمير في ﴿كَانَ﴾ يعود إلى المؤمن المقتول أيضا على ما يفيده السياق، والميثاق مطلق العهد أعم من الذمة وكل عهد، والمعنى: وإن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم وبينهم عهد وجبت الدية وتحرير الرقبة، وقد قدم ذكر الدية تأكيدا في مراعاة جانب الميثاق.
3. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ﴾ أي من لم يستطع التحرير ـ لأنه هو الأقرب بحسب اللفظ ـ وجب عليه صيام شهرين متتابعين.
4. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي هذا الحكم وهو إيجاب الصيام توبة وعطف رحمة من الله لفاقد الرقبة، وينطبق على التخفيف فالحكم تخفيف من الله في حق غير المستطيع، ويمكن أن يكون قوله: ﴿تَوْبَةً﴾ قيدا راجعا إلى جميع ما ذكر في الآية من الكفارة أعني قوله: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ والمعنى: أن جعل الكفارة للقاتل خطأ توبة وعناية من الله للقاتل فيما لحقه من درن هذا الفعل قطعا، وليتحفظ على نفسه في عدم المحاباة في المبادرة إلى القتل نظير قوله تعالى ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: 179]، وكذا هو توبة من الله للمجتمع وعناية لهم حيث يزيد به في أحرارهم واحد بعد ما فقدوا واحدا، ويرمم ما ورد على أهل المقتول من الضرر المالي بالدية المسلمة، ومن هنا يظهر أن الإسلام يرى الحرية حياة والاسترقاق نوعا من القتل، ويرى المتوسط من منافع وجود الفرد هو الدية الكاملة، وسنوضح هذا المعنى في ما سيأتي من المباحث.
5. أما تشخيص معنى الخطإ والعمد والتحرير والدية وأهل القتيل والميثاق وغيره المذكورات في الآية فعلى السنة، من أراد الوقوف عليها فليراجع الفقه.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/40.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ يجزي لبراءة ذمة القاتل، ولا تلزمه الدية، وهذا يؤكد أنها ليست ميراثاً حقيقة؛ لأن الميراث إذا عدم الوارث لبيت مال المسلمين، والقوم العدو: هم الكفار.
2. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ ﴿قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ عهد على ترك القتال أي صلح موثق بالعهد ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ لمكان العهد ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ لأنه مؤمن كما يفيده السياق، وهو ظاهر كلام الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام) وهذا يؤكد أن الدية ليست ميراثاً حقيقياً، وإنما هي جبر لأهل الميت، وقام العهد في استحقاق الجبر لأهل الميت هنا مقام اتحاد الملة، وقال الشرفي رحمه الله في (المصابيح): (ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل العهد وأهل الذمة، ولا شك أن هذا ترتيب حسن)
3. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ رقبة؛ لفقره، أو لعدم العبيد والإماء، كما في زماننا ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾ يكفيه بدل التحرير للرقبة، ولا بد من تتابعهما
4. ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ على القاتل؛ لكونه غير متعمد، والتوبة هي الرجوع، فالتوبة من الله هنا الحكم على القاتل بالدية والكفارة، لما في ذلك من الرحمة والتطهير وصلاح الشأن.
5. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بكل شيء ومنه القتل وكونه خطأ ﴿حَكِيمًا﴾ في كل شيء، ومنه حكمه على القاتل خطأ، والعهد المذكور هنا ـ أعني الميثاق ـ ذكر الإمام الهادي عليه السلام أنه نسخ بآيات (براءة) التي أبطلت العهود، هذا معنى كلامه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/143.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن كان القتيل مؤمنا من قوم كافرين ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ فيكتفى بتحرير الرقبة المؤمنة، لأن الكفر يمنع من إرث المؤمن، كما تمنع حالة الحرب مع الكفار من إعانتهم ماديا حتى في مثل هذه الحالة، وإن كان القتيل مؤمنا من قوم معاهدين.
2. ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، فلا بد من دفع الدية إليهم، ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ انطلاقا من احترام عهدهم بالإضافة إلى تحرير الرقبة المؤمنة، لأن حال المعاهدين حال المسلمين من هذه الجهة، فإذا لم يجد القاتل ما لا يستطيع أن يدفع منه الدية، فإن كفارة فعله صيام شهرين متتابعين، وتلك هي التوبة العملية التي يريدها الله من عباده، لأن الإنسان الذي لم يتعمد القتل، بل أخطأ فيه، يحمل بعض المسؤولية في ذلك، لأن عليه التحفظ في ما حوله ومن حوله عند إقدامه على إطلاق الرصاص؛ ولأن مثل هذا التشريع الذي يفرض الخسارة المالية في نطاق الدية والعتق، يؤدّي إلى التدقيق الشديد لدى الإنسان في كل الحالات التي يمكن أن تؤدي إلى الخطأ.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/403
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكروا أنّ (المقيس بن صبابة الكناني) كان قد وجد قاتل أخيه (هشام) في محلة بني النجار، وأخبر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا الأمر، فبعثه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع (قيس بن هلال المهري) إلى زعماء بني النجار يأمرهم أن يسلموا قاتل (هشام) إلى أخيه (المقيس) وإن لم يكن لهم علم به أو بمكانه فليدفعوا إلى (المقيس) دية أخيه القتيل، فدفع بنو النجار الدية لعدم علمهم بمكان القاتل، فأخذ (المقيس) الدية وتوجه إلى المدينة مع (قيس بن هلال المهري) إلّا أنه في الطريق راودته نعرة من نعرات الجاهلية، فظن أنه قد جلب على نفسه العار بقبوله المال بدل دم أخيه، فعمد إلى قتل رفيق سفره، أي قيس بن هلال الذي كان من قبيلة بني النجار، انتقاما لدم أخيه على حسب ظنّه، ثمّ هرب (المقيس) إلى مكّة وارتد عن إسلامه، فاستباح النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دم هذا القاتل، أي (المقيس) لخيانته، وقد نزلت هذه الآية في هذه المناسبة وهي تبيّن عقوبة مرتكب القتل العمد.
2. لقد بيّنت الآية السابقة عقوبة ـ أو غرامة ـ القتل الناتج عن الخطأ، وجاءت الآية الأخيرة عقوبة القتل عن عمد وسبق إصرار، في حالة إذا كان القتيل من المؤمنين، وبما أن جريمة قتل الإنسان من أعظم وأكبر الجرائم وأخطر الذنوب، وان التهاون في مكافحة مثل هذه الجريمة يهدد أمن المجتمع وسلامة أفراده، الأمن الذي يعتبر من أهم متطلبات المجتمع السليم، لذلك فإنّ القرآن الكريم قد تناول هذه القضية في آيات مختلفة بأهمية بالغة، حتى أنّه اعتبر قتل النفس الواحدة قتلا للناس جميعا، إلّا أن يكون القتل عقابا لقتل مثله أو عقابا لجريمة الإفساد في الأرض حيث يقول القرآن في هذا المجال: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/385
89. القتل العمد وجزاؤه
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈89⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، هي محكمة، ولا تزداد إلا شدة(1).
2. روي أنّه قال: لا يزل الرجل في فسحة من دينه ما نقيت كفه من الدم، فإذا أغمس يده في الدم الحرام نزع حياؤه(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٤٨.
(2) سعيد بن منصور (٦٧٦.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: لا تنزلوا العارفين المحدثين الجنة ولا النار، حتى يكون الله هو الذي يقضي فيهم يوم القيامة(1).
__________
(1) يحيى بن سلام ـ كما في تفسير ابن أبي زمنين ١/٣٩٧.
ابن ثابت:
روي عن زيد بن ثابت (ت 45 هـ) أنّه قال: نزلت هذه الآية التي في النساء بعد قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨] بأربعة أشهر(1).
1. روي أنّه قال: نزلت الشديدة بعد الهينة بستة أشهر، يعني: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ بعد: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨](2).
2. روي أنّه قال: نزلت الشديدة بعد الهينة بستة أشهر، قوله: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ بعد قوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ إلى آخر الآية [الفرقان: ٦٨](3).
3. روي أنّه قال: نزلت الآية التي في سورة النساء بعد الآيات التي في سورة الفرقان بستة أشهر(4).
4. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية في الفرقان: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ الآية؛ عجبنا للينها، فلبثنا سبعة أشهر، ثم نزلت التي في النساء: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ الآية(5).
__________
(1) عزاه السيوطي إلى سمويه في فوائده.
(2) عبد الرزاق ١/١٦٨.
(3) سعيد بن منصور (٦٦٧.
(4) أبو داود (٤٢٧٢.
(5) الطبراني (٤٨٦٩.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾، ليس لقاتل المؤمن توبة، ما نسختها آية منذ نزلت(1).
2. روي عن سعيد بن جبير أنّ عبد الرحمن بن أبزى أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين؛ التي في النساء: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ إلى آخر الآية، والتي في الفرقان: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ الآية، قال فسألته، فقال: إذا دخل الرجل في الإسلام، وعلم شرائعه وأمره، ثم قتل مؤمنا متعمدا؛ فجزاؤه جهنم لا توبة له، وأما التي في الفرقان فإنها لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة: فقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرم الله بغير الحق، وأتينا الفواحش، فما نفعنا الإسلام؟ فنزلت: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ الآية، فهي لأولئك(2).
3. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، بعد قوله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [الفرقان: ٦٨] بسنة(3).
4. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ بعد التي في سورة الفرقان بثماني سنين، وهي قوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ إلى قوله: ﴿غَفُورًا رَحِيمًا﴾(3).
5. روي أنّه قال: عيد بن جبير، قال سألت ابن عباس أنّه قال: هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال لا، فقرأت عليه الآية التي في الفرقان: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾، فقال: هذه الآية مكية، نسختها آية مدنية: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ الآية(4).
6. روي عن عيد بن جبير، قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، قال: لا توبة له، وعن قوله ـ جل ذكره ـ: ﴿لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الفرقان: ٦٨]، قال كانت هذه في الجاهلية(5).
7. روي أنّه سئل عن الرجل يقتل مؤمنا متعمدا، فقال: هل تستطيع أن لا تموت؟ هل تستطيع أن تبتغي نفقا في الأرض، أو سلما في السماء، أو تحييه؟(6).
8. روي أنّه قال: هما المبهمتان؛ الشرك، والقتل(7).
9. روي أنّه قال: هي مبهمة، لا يعلم له توبة(8).
10. روي أنّه قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله؛ لأن الله يقول: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾(7).
11. روي عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عباس (ت 68 هـ) عن قوله: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، فقال: إن الرجل إذا عرف الإسلام، وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم، ولا توبة له.. وفذكرت ذلك لمجاهد، فقال: إلا من ندم(9).
12. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾، فقال ليس لقاتل توبة، إلا أن يستغفر الله(3).
13. روي أنه قيل له: ما تقول في رجل قتل مؤمنا متعمدا، ثم تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال فقال: ويحك وأنى له الهدى!؟ وربما قال التوبة(10).
14. روي أنّه كان يقول: لمن قتل مؤمنا توبة، قال فجاءه رجل، فسأله: ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال لا، إلا النار، فلما قام الرجل قال له جلساؤه: ما كنت هكذا تفتينا، كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة، فما شأن هذا اليوم؟ قال إني أظنه رجل يغضب يريد أن يقتل مؤمنا، فبعثوا في أثره، فوجدوه كذلك(11).
15. روي أنّه أتاه رجل، فقال: ملأت حوضي أنتظر ظمئتي(12)، ترد علي، فلم أستيقظ إلا ورجل قد أشرع ناقته، فثلم(13)، الحوض، وسال الماء، فقمت فزعا، فضربته بالسيف، فقتلته، فقال: ليس هذا مثل الذي قال فأمره بالتوبة.. وقال سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، فإذا ابتلي رجل قالوا له: تب(14).
16. روي أنّه قال: أنه كان يقول: جزاؤه جهنم إن جازاه، يعني: للمؤمن وليس للكافر، فإن شاء عفا عن المؤمن، وإن شاء عاقب(15).
17. روي أنّه قال: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، قال هي جزاؤه؛ إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له(8).
18. عن سالم بن أبي الجعد، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: ما تقول في رجل قتل مؤمنا متعمدا، ثم تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال فقال: ويحك، وأنى له الهدى!؟ ـ وربما قال التوبة!؟ ـ(16).
__________
(1) تفسير الثوري ص ٩٦.
(2) البخاري ٥/٤٥.
(3) ابن جرير ٧/٣٤٧.
(4) ابن جرير ١٧/٥١٢.
(5) البخاري ٤/١٧٨٥.
(6) سعيد بن منصور (٦٦٨.
(7) ابن جرير ٧/٣٤٨.
(8) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.
(9) ابن جرير ٧/٣٤٢.
(10) إسحاق البستي في تفسيره، ص ٥٢٠.
(11) النحاس ص ٣٤٩.
(12) الظِّمْءُ: ما بين الوردين، وهو حبس الإبل عن الماء إلى غاية الورد.
(13) ثلم: كسر.
(14) سعيد بن منصور (٦٧٥.
(15) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٨.
(16) إسحاق البستي في تفسيره ص ٥٢٠.
ابن عمير:
روي عن عبيد بن عمير (ت 73 هـ) أنه قال: وأي عمد هو أعمد من أن يضرب رجلا بعصا، ثم لا يقلع عنه حتى يموت؟(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٣٨.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن سعيد بن ميناء قال: كان بين صاحب لي وبين رجل من أهل السوق لجاء، فأخذ صاحبي كرسيا، فضرب به رأس الرجل، فقتله، وندم، وقال: إني سأخرج من مالي، ثم أنطلق فأجعل نفسي حبيسا في سبيل الله، قلت: انطلق بنا إلى ابن عمر نسأله: هل لك من توبة؟ فانطلقنا حتى دخلنا عليه، فقصصت عليه القصة على ما كانت، قلت: هل ترى له من توبة؟ قال كل واشرب، أف، قم عني، قلت: يزعم أنه لم يرد قتله، قال كذب، يعمد أحدكم إلى الخشبة فيضرب بها رأس الرجل المسلم، ثم يقول: لم أرد قتله، كذب، كل واشرب ما استطعت، أف، قم عني، فلم يزدنا على ذلك حتى قمنا(1).
2. عن أبي الضحى قال: كنت مع ابن عمر في فسطاطه، فسأله رجل عن رجل قتل مؤمنا متعمدا، قال فقرأ عليه ابن عمر: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ الآية، فانظر من قتلت(2).
__________
(1) سعيد بن منصور: ٦٧٠.
(2) ابن أبي شيبة في مصنفه ١٤/٢٤٣.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء(1).
2. روي أنّه قال: قال لي عبد الرحمن بن أبزى: سل ابن عباس عن قوله: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، فقال: لم ينسخها شيء، وقال في هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ الآية [الفرقان: ٦٨]، قال نزلت في أهل الشرك(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني، وذلك أنه أسلم وأخوه هشام بن ضبابة، وكانا بالمدينة، فوجد مقيس أخاه هشاما ذات يوم قتيلا في الأنصار في بني النجار، فانطلق إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأخبره بذلك، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رجلا من قريش من بني فهر ومعه مقيس إلى بني النجار ـ ومنازلهم يومئذ بقباء ـ أن (ادفعوا إلى مقيس قاتل أخيه إن علمتم ذلك، وإلا فادفعوا إليه الدية)، فلما جاءهم الرسول قالوا: السمع والطاعة لله وللرسول، والله، ما نعلم له قاتلا، ولكن نؤدي إليه الدية، فدفعوا إلى مقيس مائة من الإبل دية أخيه، فلما انصرف مقيس والفهري راجعين من قباء إلى المدينة وبينهما ساعة، عمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقتله، وارتد عن الإسلام، وركب جملا منها، وساق معه البقية، ولحق بمكة وهو يقول في شعر له: قتلت به فهرا وحملت عقله... سراة بني النجار أرباب فارع وأدركت ثأري واضطجعت موسدا... وكنت إلى الأوثان أول راجع فنزلت فيه ـ بعد قتل النفس، وأخذ الدية، وارتد عن الإسلام ولحق بمكة كافرا ـ: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾(3).
__________
(1) البخاري ٦/٤٧.
(2) البخاري (٤٧٦٦.
(3) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٧.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: العمد ما كان بحديدة، وما كان بدون حديدة فهو شبه العمد، لا قود فيه، وفي لفظ: وشبه العمد ما كان بخشبة، وشبه العمد لا يكون إلا في النفس(1).
2. روي أنّه قال: إذا خنقه بحبل حتى يموت، أو ضربه بخشبة حتى يموت؛ فهو القود(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٣٧.
(2) ابن جرير ٧/٣٣٩.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: بينهما ثماني سنين، التي في النساء بعد التي في الفرقان(1).
2. روي أنّه قال: لأن أتوب من الشرك أحب إلي من أن أتوب من قتل المؤمن(2).
3. روي أنّه قال: ليس لمن قتل مؤمنا توبة، لم ينسخها شيء(3).
__________
(1) عبد الرزاق ١/١٦٧.
(2) عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.
(3) ابن جرير ٧/٣٥٠.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: قتل رجل من الأنصار أخا مقيس بن ضبابة، فأعطاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الدية، فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله، قال ابن جريج: وقال غيره: ضرب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ديته على بني النجار، ثم بعث مقيسا، وبعث معه رجلا من بني فهر في حاجة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فاحتمل مقيس الفهري ـ وكان رجلا أيدا(1)، ـ، فضرب به الأرض، ورضخ رأسه بين حجرين، ثم ألقى يتغنى:
çقتلت به فهرا وحملت عقله... سراة بني النجار أرباب فارعé
فأخبر به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: (أظنه قد أحدث حدثا، أما والله لئن كان فعل لا أومنه في حل ولا حرم، ولا سلم ولا حرب)، فقتل يوم الفتح، قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ الآية(2).
__________
(1) أيِّدًا، أي: قويّا.
(2) ابن جرير ٧/٣٤١.
طاووس:
روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنّه قال: من قتل في عصبية في رميا(1)، يكون منهم بحجارة، أو جلد بالسياط، أو ضرب بالعصي، فهو خطأ ديته دية الخطأ، ومن قتل عمدا فهو قود يديه(2).
__________
(1) رِمِّيّا: مصدر من الرمي، بوزن الهجّيرا، والخصّيصا يراد به المبالغة.
(2) ابن جرير ٧/٣٣٧.
لاحق:
روي عن أبي مجلز لاحق بن حميد (ت 109 هـ) أنّه قال: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، هي جزاؤه، فإن شاء الله أن يتجاوز عن جزائه فعل(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة في مصنفه ١٤/٢٤٧.
ابن سيرين:
روي عن هشام بن حسان، قال كنا عند محمد بن سيرين (ت 110 هـ)، فقال له رجل: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ حتى ختم الآية، فغضب محمد، وقال: أين أنت عن هذه الآية: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾!؟ [النساء: ٤٨] قم عني، اخرج عني، قال: فأخرج(1).
__________
(1) البيهقي في البعث، وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن عبيد بن عمير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والحسن البصري وقتادة، قالوا: ليس له توبة، والآية محكمة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، قد أوجب الله هذا عليك، فانظر من يضع هذا عنك، ومن يعزك يا لكع(2).
__________
(1) علقه ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٧.
(2) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٨.
عون:
روي عن عون بن عبد الله (ت 113 هـ) أنّه قال: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، إن هو جازاه(1).
__________
(1) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.
عطاء:
روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: العمد: السلاح، أو قال الحديد.. وقال: وقال سعيد بن المسيب: هو السلاح(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٣٧.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: انظر في القرآن، فما كان فيه: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ فتلك السائبة التي لا ولاء لأحد من الناس عليها إلا الله، وما كان ولاؤه لله فلله، وما كان ولاؤه لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإن ولاءه للإمام، وجنايته على الإمام، وميراثه له(1).
2. روي أنّه قال: كل ما أريد به ففيه القود، وإنما الخطأ أن يريد الشيء فيصيب غيره(2).
3. روي عن الإمام الصادق، أو الإمام الكاظم، قال: سئل الإمام الباقر عمن قتل مؤمنا، هل له توبة؟ قال: لا، حتى يؤدي ديته إلى أهله، ويعتق رقبة مؤمنة، ويصوم شهرين متتابعين، ويستغفر ربه ويتضرع إليه، فأرجو أن يتاب عليه إذا هو فعل ذلك، قلت: إن لم يكن له ما يؤدي ديته؟ قال: يسأل المسلمين حتى يؤدي ديته إلى أهله(3).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/263.
(2) تفسير العيّاشي 1/264.
(3) تفسير العيّاشي 1/267.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ليس للقاتل توبة إلا أن يقاد منه، أو يعفى عنه، أو تؤخذ منه الدية(1).
__________
(1) عزاه السيوطي إلى عَبد بن حُمَيد.
ابن عبيد:
روي عن عمرو بن عبيد (ت 143 هـ) أنّه قال: يؤتى بي يوم القيامة، فأقام بين يدي الله، فيقول لي: لم قلت: إن القاتل في النار؟ فأقول: أنت قلته، ثم تلا هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، قيل له: أرأيت إن قال لك: فإني قد قلت: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر؟ قال: فما استطاع أن يرد علي شيئا(1).
__________
(1) البيهقي في البعث، وعزاه السيوطي إلى القتبي.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: العمد: كل ما اعتمد شيئا فأصابه بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بوكزة، فهذا كله عمد، والخطأ: من اعتمد شيئا فأصاب غيره(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ من قتل مؤمنا على دينه، فذلك المتعمد الذي قال الله عز وجل في كتابه: ﴿وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ قيل: فالرجل يقع بينه وبين الرجل شيء فيضربه بسيفه فيقتله؟ قال: ليس ذلك المتعمد الذي قال الله عز وجل(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ جزاؤه جهنم إن جازاه(3).
4. روي أنّه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمدا، أله توبة؟ فقال: إن كان قتله لإيمانه فلا توبة له، وإن كان قتله لغضب أو لسبب شيء من أمر الدنيا فإن توبته أن يقاد منه، فإن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول فأقر عندهم بقتل صاحبهم، فإن عفوا عنه ولم يقتلوه أعطاهم الدية، وأعتق نسمة، وصام شهرين متتابعين، وأطعم ستين مسكينا توبة إلى الله(3).
5. روي أنّه قال: كفارة الدم إن قتل الرجل مؤمنا متعمدا فعليه أن يمكن نفسه من أوليائه، فإن قتلوه فقد أدى ما عليه إذا كان نادما على ما كان منه، عازما على ترك العود، وإن عفوا عنه فعليه أن يعتق رقبة، ويصوم شهرين متتابعين، ويطعم ستين مسكينا، وأن يندم على ما كان منه ويعزم على ترك العود ويستغفر الله أبدا ما بقي، وإذا قتل خطأ أدى ديته إلى أوليائه، ثم أعتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا مدا مدا، وكذلك إذا وهبت له دية المقتول فالكفارة عليه فيما بينه وبين ربه لازمة(4).
6. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ قال: إما تحرير رقبة مؤمنة فيما بينه وبين الله، وإما الدية المسلمة إلى أولياء المقتول ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ قال ـ وإن كان من أهل الشرك الذين ليس لهم في الصلح ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ فيما بينه وبين الله، وليس عليه الدية ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فيما بينه وبين الله، ودية مسلمة إلى أهله(5).
7. روي أنّه قال في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾: إذا كان من أهل الشرك ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ فيما بينه وبين الله، وليس عليه دية ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ قال قال: تحرير رقبة مؤمنة فيما بينه وبين الله، ودية مسلمة إلى أهله(6).
8. روي أنّه سئل عن الرجل يظاهر امرأته، يجوز عتق المولود في الكفارة؟ فقال: كل العتق يجوز فيه المولود إلا في كفارة القتل، فإن الله يقول: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ يعني مقرة، وقد بلغت الحنث(6).
9. روي أنّه قال: الخطأ أن تعمده ولا تريد قتله بما لا يقتل مثله، والخطأ الذي ليس فيه شك، أن تعمد شيئا آخر فتصيبه(7).
10. روي عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال سألني الإمام الصادق عن يحيى بن سعيد: (هل يخالف قضاياكم)؟ قلت: نعم، اقتتل غلامان بالرحبة فعض أحدهما على يد الآخر، فرفع المعضوض حجرا فشج يد العاض، فكز من البرد فمات، فرفع إلى يحيى بن سعيد فأقاد من ضارب الحجر، فقال: ابن شبرمة وابن أبي ليلى لعيسى بن موسى: إن هذا أمر لم يكن عندنا، لا يقاد عنه بالحجر، ولا بالسوط، فلم يزالوا حتى وداه عيسى بن موسى، فقال: (إن من عندنا يقيدون بالوكزة)، قلت: يزعمون أنه خطأ، وأن العمد لا يكون إلا بالحديد، فقال: (إنما الخطأ أن يريد شيئا فيصيب غيره، فأما كل شيء قصدت إليه فأصبته فهو العمد)(7)
11. روي أنّه قال: قضى الإمام علي في أبواب الديات في الخطأ شبه العمد إذا قتل بالعصا، أو بالسوط، أو بالحجارة تغلظ ديته، وهي مائة من الإبل: أربعون خلفة بين ثنية إلى بازل عامها، وثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وقال في الخطأ دون العمد: يكون فيه ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون ابن لبون ذكر، وقيمة كل بعير من الورق مائة درهم، وعشرة دنانير، ومن الغنم، إذا لم يكن قيمة ناب الإبل لكل بعير عشرون شاة(8).
12. روي أنّه قال: كان علي عليه السلام يقول في الخطأ خمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وقال في شبه العمد: ثلاث وثلاثون جذعة بين ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة، وأربع وثلاثون ثنية(8).
13. روي أنّه قال: دية الخطأ إذا لم يرد الرجل، مائة من الإبل أو عشرة آلاف من الورق أو ألف من الشاة)، وقال: (دية المغلظة التي شبه العمد وليس بعمد أفضل من دية الخطأ، بأسنان الإبل ثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ثنية كلها طروقة الفحل(9).
14. روي أنّه سئل عن الخطأ الذي فيه الدية والكفارة، أهو الرجل يضرب الرجل ولا يتعمد قتله؟ قال: نعم، قيل: فإذا رمى شيئا فأصاب رجلا؟ قال: ذلك الخطأ الذي لا شك فيه، وعليه الكفارة والدية(9).
15. روي أنّه سئل عن رجل مسلم كان في أرض الشرك فقتله المسلمون، ثم علم به الإمام بعد؟ فقال: يعتق مكانه رقبة مؤمنة، وذلك في قول الله: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾(9).
16. روي أنّه قال: صوم شهر رمضان متتابعين توبة من الله(9).
17. روي أنّه قال: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللهِ﴾ والله، من القتل، والظهار، والكفارة(9).
18. روي أنّه قال: صوم شعبان، وصوم شهر رمضان ﴿تَوْبَةً﴾ والله ﴿مِنَ اللهِ﴾(9).
19. روي عن سماعة، قال: قلت له: قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ قال: المتعمد الذي يقتله على دينه، فذاك التعمد الذي ذكر الله، قال قلت: فرجل جاء إلى رجل فضربه بسيفه حتى قتله، لغضب لا لعيب، على دينه قتله، وهو يقول بقوله؟ قال: (ليس هذا الذي ذكر في الكتاب، ولكن يقاد به ـ قال ـ والدية إن قبلت)، قلت: فله توبة؟ قال: نعم، يعتق رقبة، ويصوم شهرين متتابعين، ويطعم ستين مسكينا، ويتوب ويتضرع فأرجو أن يتاب عليه(10).
20. روي أنّه قال: لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما ـ وقال ـ لا يوفق قاتل المؤمن متعمدا للتوبة(10).
21. روي أنّه قال: العمد أن تعمده فتقتله بما بمثله يقتل(11).
__________
(1) الكافي 7/278.
(2) التهذيب 10/164.
(3) التهذيب 10/165.
(4) التهذيب 8/322.
(5) تفسير العيّاشي 1/262.
(6) تفسير العيّاشي 1/263.
(7) تفسير العيّاشي 1/264.
(8) تفسير العيّاشي 1/265.
(9) تفسير العيّاشي 1/266.
(10) تفسير العيّاشي 1/267.
(11) تفسير العيّاشي 1/268.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا﴾ يعني: الفهري ﴿مُتَعَمِّدًا﴾ لقتله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ وافر الانقطاع له بقتله النفس، وبأخذه الدية(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٩٧.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: عمن سمع سعيد بن المسيب يقول: العمد: الإبرة فما فوقها من السلاح(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٣٨.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: بلغنا أن الذي يقتل متعمدا فكفارته أن يقيد من نفسه، أو أن يعفى عنه، أو تؤخذ منه الدية، فإن فعل به ذلك رجونا أن تكون كفارته، ويستغفر ربه، فإن لم يفعل من ذلك شيئا فهو في مشيئة الله؛ إن شاء غفر له، وإن شاء لم يغفر له، فقال سفيان: فإذا جاءك من لم يقتل فشدد عليه، ولا ترخص له؛ لكي يفرق، وإن كان ممن قتل فسألك فأخبره لعله يتوب، ولا تؤيسه(1).
__________
(1) عزاه السيوطي إلى عَبد بن حُمَيد.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ كيف تعرف المؤمنة؟ قال: على الفطرة(1).
2. روي أنّه سئل عن رجل قتل مملوكه؟ قال: عليه عتق رقبة، وصوم شهرين متتابعين، وإطعام ستين مسكينا، ثم تكون التوبة بعد ذلك(2).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/263.
(2) تفسير العيّاشي 1/268.
الرسّي:
ذكر الإمام القاسم الرسي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ يقول سبحانه: أن يقتله إلا زلة وغلطا؛ فأما وهو يثبته مؤمنا، ويعرفه بالله موقنا، فليس له أن يقتله، وإن قتله أيضا مخطيا، وكان في إيمانه بالله ممتريا؛ إذ كان من قوم عدو للمؤمنين، ولم يكن عند من قتله من المعاهدين ـ كان عليه فيه تحرير رقبة مؤمنة، ولم يكن عليه ما كان عليه في الأول من الدية، وإن كان من قوم بينهم وبين المؤمنين ميثاق، والميثاق هو: الذمة والموادعة والهدنة ـ كان على قاتله فيه تحرير رقبة مؤمنة، وإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وأي ذلك فعل فهو من الله عليه توبة.
2. ومعنى توبة الله عليه: من الله عائدة ورحمة، ولا يقتل ـ رحمك الله ـ ملي بمعاهد ولا ذمي، وإن كان الملي قتله عمدا، إلا أن يكون بقتله في أرضه مفسدا، فيقتل إن رأى ذلك الإمام بفساده، وتمرده في أرض الله وعناده؛ لقول الله سبحانه: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ﴾ [المائدة: 32]، فأحل الله سبحانه من قتل الأنفس بالفساد ـ ما أحل من قتلها بالقصاص بين العباد.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/252.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾، والتعمد هاهنا هو: التعمد بالظلم والإجتراء، على ما نهى الله عنه من سفك الدماء، وإنما يجب ما أوعد الله به من ناره، وغضبه ولعنته على من تعمد قتل مؤمن ظالما له في تعمده، مجتريا على الله في قتله، فأما من تعمد قتله بحق يجب عليه فليس بمعاقب فيه.. وأنا أرى أن من قتل بحق فليس بمؤمن؛ لأن الحق لا يوجب قتل المؤمن، إلا أن يكون مرجوما تاب قبل رجمه، أو قاتل نفس تاب وأخلص التوبة ـ قبل قتله ـ لربه، وأقاد من نفسه؛ لأن القتل إنما يجب بحكم الله على عشرة أصناف:
أ. أولها: قتل أهل الشرك، من بعد الدعاء لهم إلى الله، إذا أبوا أن يجيبوا إلى الاسلام، أو إلى المعاهدة.
ب. الثاني: قتل المرتد عن الاسلام، إذا أبى التوبة.
ج. الثالث: قتل سحرة المسلمين، إذا أبوا التوبة.
د. الرابع: قتل الزنادقة، إذا أبوا التوبة.
هـ. الخامس: ما أمر به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، من: قتل الديوث إذا صحت دياثته من بعد الإستتابة.
و. السادس: قتل الفئة الباغية من المسلمين، إذا بغت وتعدت على المؤمنين، كما أمر الله سبحانه بقتلها، وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله﴾، ومنهم: الذين يدعون ما ليس لهم، ويتأولون بزعمهم: أنهم أئمة، ويعطلون الأحكام، ويهتكون الإسلام، ويخالفون الرحمن، ويجاهرونه بالفسق والعصيان، وهم الذين قال الله فيهم: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾، ثم بين أنهم هم بأعيانهم، فقال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، وأما قوله: ﴿يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ فإنما معناها: بينكم، الذين هم أضر من غيرهم عليكم، ثم كذلك فرض عليكم: أن تقاتلوا الأدنى فالأدنى من العاصين، حتى لا تبقوا على الأرض لي مخالفين، كذلك حروف الصفات، يعاقب بعضها بعضا، فقامت (يلي) مقام (بين)، فكان المعنى: بينكم، فقال: يلونكم، وكل ذلك في العربية سواء، من ذلك قول رب العالمين، فيما حكى من قول فرعون اللعين، حين يقول: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾، فقال: ﴿فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾، وإنما معناها: على جذوع النخل، فقامت (في) مقام (على)، وقال الله سبحانه: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾، وإنما أراد: للنصب، ومن أجلها، فقال: ﴿عَلَى﴾، فقامت مقام اللام؛ وكذلك حروف الصفات كلها يعاقب بعضها بعضا؛ وفي ذلك ما يقول الشاعر:
çشربن بماء البحر ثم ترفعت... لدى لجج خضر لهن نئيجé
فقال: (ترفعت لدى لجج)، وإنما أراد: ترفعت على لجج خضر؛ وإنما يصف السحاب، ويذكر أنها ترتفع فوق لجج البحر.
ز. السابع: فما حكم الله به، من قتل قطاع طريق المسلمين، المحاربين في ذلك لله وللرسول وللمؤمنين، إذا أخذوا أموالهم وقتلوا فيهم؛ وذلك قول الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ﴾
ح. الثامن: هو قتل من قتل مؤمنا متعمدا؛ ففي حكم الله: أن يقتل به، وذلك قول الله عز وجل: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾، والسلطان الذي جعله الله لوليه هو: قتل قاتله به.
ط. التاسع: قتل من سب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وشتمه، واستخف بحقه واطرحه؛ وذلك قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من سبني فاقتلوه)
ي. العاشر: فقتل من زنا بعد إحصان؛ كذلك كان يفعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم به، يرجمه حتى يموت.
2. ثمانية أصناف من هذه العشرة إذا تابوا خلي سبيلهم، ولم يقتلوا، وصنف لابد من قتله تاب أولم يتب، وهو المحصن الزاني، وصنف الأمر فيه إلى أولياء أمره، وهو قاتل النفس؛ فإن أحبوا قتلوه، وإن أحبوا تركوه.. ومن سب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم استتيب، فإن تاب ورجع إلى ما أوجب الله عليه له، فأخلص التوبة من ذلك لربه ـ رأيت أن يطلق، ومن أقام على ذلك قتل؛ وليس سب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأعظم من سب الله، والجحدان له، والكفر به، ومن استحل ذلك في الله سبحانه لم يقتل حتى يستتاب، فان تاب خلي عنه، وإن أبى قتل.
3. فهذه الوجوه العشرة التي يجوز بها سفك دم الإنسان، ومن كان في شيء من هذه العشرة الأصناف ـ وجب عليه من الله حكمها، وانتظمه بفعله لها اسمها؛ وكذلك روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)
4. ومن الدليل على أن ذلك كذلك: حكم الله عليه بالنار والعذاب، ومن كان مؤمنا فليس من أهل العقاب، ولا يجوز أن ينسب إلى العذاب؛ لأن من صح له اسم الايمان فمستوجب من الله الثواب؛ فلذلك قلنا: إن أهل الإجتراء على كبائر العصيان ليسوا عند الله ولا في حكمه من أهل الايمان.. ثم نقول من بعد ذلك: إن الكفر على معنيين:
أ. أحدهما: كفر شرك، وجحدان لله سبحانه، وللنبي وللفرقان؛ فسواء من أنكر الله في ذاته، أو أنكر خلقه لسماواته، أو جحد أنبيائه ورسالاته؛ لأن من أنكر شيئا من فعله فقد أنكره بإنكار صنعه؛ لأن من قال لما فعله الله: (لم يفعله) ـ فقد زعم وأوجب أن غير الله فعله، ومن قال إن غير الله فعل فعل الله فهو منكر في قوله لله؛ لأنه يعبد من لم يفعل ذلك الشيء الذي أنكره، والله سبحانه هو الذي صنعه؛ فقد صح: أن من أنكر فعل الله فقد أنكر الله، ومن لم يقر بصنعه فقد كفر به.
ب. والوجه الثاني هو: كفر النعم؛ بالعصيان للواحد ذي الكرم والإحسان، ومن كفر نعم الله فهو فاسق في دين الله؛ بكفرانه لنعم الله، ومن كانت حاله كذلك كان بعيدا من اسم الايمان، قريبا داخلا مستحقا لاسم الفجور والفسوق والعصيان؛ ألا تسمع كيف ميز الله سبحانه بين المؤمنين والفاسقين، فلم يجمع بينهم بالفعل ولا في الاسم أحكم الحاكمين؛ بل أخبر أنهما شيئان مختلفان، واسمان متضادان متباينان في المعنى والجزاء، فنسب المؤمن إلى ما حكم به من الثواب، ونسب الفاسق إلى ما أعد له من أليم العقاب، فقال فيما نزل من الكتاب: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾، وفي ذلك ما يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾، يقول سبحانه: ﴿تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾، يريد: حكم ربكم لئن شكرتموني، فعملتم بطاعتي، واتبعتم مرضاتي لأزيدنكم من فضلي، ولأضاعفن لكم ثوابي، ولئن كفرتم نعمتي، وعصيتم أمري، وعندتم عن طاعتي لأعذبكم عذابا شديدا.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/258.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عز وجل: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ قيل في بعض القصة: إن رجلا قتل آخر عمدا؛ فلما علم أنه يُقتل به ارتد عن الإسلام، ولحق بدار الحرب؛ فنزل الوعيد.
2. وهذا كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ كانوا يمنعون الزكاة لما كان عندهم أن الزكاة تنقص المال؛ فجحدوا بها رأسًا، وكقوله: ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾. فتركوا الزكاة والصلاة؛ لما يلحقهم بذلك مؤن وأشغال، يشغلهم ذلك كله عما تهوى أنفسهم؛ فانكروا رأسًا؛ لأنهم إن صلوا وأدوا الزكاة لا يكون ذلك صلاة وزكاة؛ إذ كانوا يكذبون بيوم الدِّين؛ فعلى ذلك قاتل المسلم عمدًا إذا علم أنه مقتول به ترك دينه؛ فصار من أهل النار خالدًا مخلدًا فيها.
3. ويحتمل قوله: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ لدينه يقتله عمدا، غير غالط فيه ولا جاهل، عالما بذلك، وإلى قتله لدينه قاصدًا، ومن كان هذه صفته فقد كفر، ووجب له هذا الوعيد الذي ذكره في كتابه الكريم، إلا أن يجدد إيمانا؛ فإن اللَّه تعالى يقبل إيمانه وتوبته.
4. والرابع: أن يكون الوعيد الذي ذكره في كتابه ذلك جزاء، ولله الإفضال عليه بالعفو والمجاوزة؛ إذ ذلك جزاؤه إن لم يكن له حسنات يقابل به، فإما إذا كانت له حسنات يقابل به، يبدل اللَّه بفضله ـ سيئاته حسنات، كقوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾
5. ثم الدليل أن الآية فيمن قتل مسلمًا لدينه، قاصدا لنفسه دون دينه ـ قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾، وإنما يكتب عليهم إذا كان القتل قتل عمد، وأبقى لهم بعد القتل اسم الإيمان، ثم قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾؛ فأبقى لهم اسم الإخوة، ثم قال: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ أطمعه في رحمته عز وجل وبعيد أن يكون له مع هذا خلود في النار؛ فدلت الآية على بقاء اسم الإيمان، وعلى رجاء الرحمة، وهما معنيان ينقضان قول المعتزلة؛ حيث خلدوا صاحب الكبيرة في النار، ولأنه تعالى قال: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ ولم يقل: يجزيه، وله أن يتفضل بالعفو عنه، على ما وصفنا، وبالله التوفيق والنجاة.
6. وروي عن ابن عَبَّاسٍ في تأويل الآية ما يؤيد ما قلنا: روي عنه أنه قال في قوله: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، قال: هي جزاؤه، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: كَانَ فِيمَنْ قَبلَكُم رَجُل قَتلَ تسعًا وَتِسعِينَ نَفْسا، فسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ؟ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ؛ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِني قَتَلْتُ تِسعَة وَتِسعِينَ نَفْسًا بِغَيرِ حَق؛ فَهَلْ لِي مِنْ تَوبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ، ثُمَّ سَألَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَ عَلَى رَجُلٍ، فَأتاهُ فَقَالَ: إِني قَتَلْتُ مِائةَ نَفْسٍ بِغَيرِ حَق؛ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؛ قَالَ: نَعَم، وَمَنْ يَحُولُ بَينَكَ وَبَيّنَ التوبَةِ!؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ فِيهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدْهُ مَعَهُم؛ فَانْطَلَقَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ نِصْفَ الطرِيقِ أَتَاهُ الْمَوتُ، فَاخْتَصَمَ مَلَائِكَةُ الرحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الَعَذابِ، فَأتاهُم مَلَكٌ، فَجَعَلُوهُ حَكَمًا بَينَهُم، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَينَ الْأَرضينِ، أَيهُمَا كَانَ أَدْنَى وَأَقْرَبَ فَهُوَ لَهُ؛ فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى لِلْأَرْضِ التِي أَرَادَ؛ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرحْمَةِ، أفلا ترى أنه لما كان كافرًا، فقتل مائة نفس، فقبلت توبته، ولو كان مسلمًا كانت مظالم المقتولين في عنقه باقية؛ فهذا الحديث يدل على أن التأويل ما ذكرنا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٢٩
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ هذه الآية نزلت في مقيس بن ضبابة وقد كان رجل من فهر قتل أخاه فأعطاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الدية فقبلها وضربها على بني النجار ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مقيس بن ضبابة ومعه الفهري في حاجة فاحتمل مقيس الفهري وكان بدناً فضرب به الأرض ورضخ رأسه بين حجرين ثم أنشأ يقول:
çقتلت به فهراً وحملت عقله... سراة بني النجار أرباب قارعé
فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أظنه أحدث حدثاً والله لأن كان قتل لا أؤمنه في حل ولا حرام) فقتل عام الفتح.
2. ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ روينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سئل عن هذه الآية فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل صالحاً؟ قال: (أنى له التوبة) ونزلت الشديدة بعد الهينة بستة أشهر ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ بعد قوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ الآية [الفرقان: 68]
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/191.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾:
أ. قال ابن جريج: نزلت في مقيس بن صبابة، وقد كان رجل من بني فهر قتل أخاه، فأعطاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الدية وضربها علي بني النجار، فقبلها، ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مقيس بن صبابة ومعه الفهري في حاجة فاحتمل مقيس الفهريَّ وكان أَيِّدا فضرب به الأرض ورضخ رأسه بين حجرين ثم ألقى يغني:
çقتلت به فِهراً وحملت عقله … سراة بني النجار أرباب فارعé
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أَظُنُّهُ أَحْدَثَ حَدَثاً، أَمَا وَاللَّهِ لَئِن كَانَ فَعَلَ لَا أُؤَمِّنْهُ فِي حِلٍ وَلَا حَرمٍ فَقُتِلَ عَامَ الفَتْحِ).
ب. وروى سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وَمَن يَقْتُلْ مَؤْمِناً مُّتَعمِدّاً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ) الآية، فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل صالحاً. قال وأنَّى له التوبة. قال زيد بن ثابت. فنزلت الشديدة بعد الهدنة بستة أشهر، يعني قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ بعد قوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاًءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهَ إِلَاّ بِالْحَقِّ﴾ [الفرقان: 68]
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥٢٠)
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخبر اللَّه تعالى في هذه الآية ان من يقتل مؤمناً متعمداً يعني قاصداً إلى قتله ان جزاؤه جهنم خالداً فيها أي مؤبداً في جهنم وغضب اللَّه عليه، وقد بينا ان غضب اللَّه هو ارادة عقابه، والاستخفاف به، (ولعنه) معناه أبعده من ثوابه ورحمته.
2. ﴿وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ يعني لا يعلمون قدر مبلغه لكثرته.
3. اختلفوا في صفة قتل العمد:
أ. فعندنا (2) أن من قصد قتل غيره بما يقتل مثله في غالب العادة سواء كان بحديدة حادة كالسلاح أو مثقلة من حديد أو خنق أو سم أو إحراق أو تفريق أو موالات ضرب بالعصا حتى يموت أو بحجارة ثقيلة فان جميع ذلك عمد يوجب القود، وبه قال ابراهيم، وعبيد بن عمير، والشافعي، وأصحابه، واختاره الطبري.
ب. وقال قوم: لا يكون قتل العمد إلا ما كان بحديد، ذهب إليه سعيد ابن المسيب، وابراهيم، والشافعي في رواية أخرى، وطاوس وأبو حنيفة وأصحابه غير أن عندنا أنه إذا قتله بغير حديدة فلا يستقاد منه إلا بحديدة، وقال الشافعي يستقاد منه بمثل ما قتل به، فأما القتل شبيه العمد فهو ان يضربه بعصا أو غيرها مما لم تجر العادة بحصول الموت عنده، فإذا مات منه، كان شبيه العمد، وفيه الدية مغلظة في مال القاتل خاصة لا يلزم العاقلة، وقد بينا اختلاف الفقهاء في مسائل الخلاف في هذه المسألة.
4. استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن مرتكب الكبيرة مخلد في نار جهنم، وأنه إذا قتل مؤمناً، فانه يستحق الخلود، ولا يعفى عنه بظاهر اللفظ، ولنا أن نقول: ما أنكرتم أن يكون المراد بالآية للكفار ومن لا ثواب له أصلا، فأما من هو مستحق للثواب، فلا يجوز أن يكون مراداً بالخلود أصلا، لما بيناه فيما مضى من نظائره، وقد روى أصحابنا أن الآية متوجهة إلى من يقتل المؤمن لإيمانه، وذلك لا يكون إلا كافراً، وقال عكرمة، وابن جريج: إن الآية نزلت في انسان بعينه ارتد ثم قتل مسلماً، فانزل اللَّه تعالى فيه الآية، لأنه كان مستحلا لقتله، على أنه قد قيل: إن قوله: ﴿خَالِدًا فِيهَا﴾ لا يفهم من الخلود في اللغة الّا طول اللبث، فأما البقاء ببقاء اللَّه، فلا يعرف في اللغة، ثم لا خلاف أن الآية مخصوصة بمن لا يتوب، لأنه إن تاب فلا بد من العفو عنه إجماعاً، وبه قال مجاهد، وقال ابن عباس: لا توبة له ولا إذا قتله في حال الشرك ثم أسلم وتاب، وبه قال ابن مسعود، وزيد بن ثابت والضحاك.
5. لا يعترض على ما قلناه قول من يقول ان قاتل العمد لا يوفق للتوبة، لأن هذا القول إن صح فإنما يدل على أنه لا يختار التوبة، ولا ينافي ذلك القول بأنها لو حصلت، لا زالت العقاب، وإذا كان لا بد من تخصيص الآية وإخراج التائبين عنها، جاز لنا أن نخرج منها من يتفضل اللَّه عليه بالعفو على أن ظاهر الآية يتضمن أن جزاءه جهنم فمن أين أن ذلك لا بد من حصوله، وان العفو لا يجوز حصوله؟ وهذا قول أبي مجلز وأبي صالح.
6. ولا يدفع ذلك قوله: ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ لأن ذلك اخبار عن انه مستحق لذلك، فمن أين حصوله لا محالة؟ وقال الجبائي: الجزاء عبارة عما يفعل، وما لا يفعل لا يسمى جزاء، ألا ترى أن الأجير إذا استحق الاجرة على من استأجره، لا يقال في الدراهم التي مع المستأجر انها جزاء عمله؟ وانما يسمى بذلك إذا أعطاه إياها، وهذا ليس بشيء لأن الجزاء عبارة عن المستحق سواء فعل، أو لم يفعل الا ترى أنا نقول: جزاء من فعل الجميل أن يقابل عليه بمثله، وان كان ما فعل بعد؟ وانما يراد أنه ينبغي أن يقابل بذلك، ونقول: من استحق عليه القود، أو حد من الحدود إن جزاء هذا أن يقتل، أو يقام عليه الحد، ولو كان الامر على ما قالوه، لوجب ألا يكون الخلود في النار جزاء للكفار، لأنه لم يقع بعد، ولا يصح أن يقع، لأن ما يوجد منه لا يكون إلا متناهياً وانما لم يقل في الدراهم، إنها جزاء لعمله، لأن ما يستحقه الأجير في الذمة لا يتعين في دراهم معينة، وللمستأجر أن يعطيه منها، ومن غيرها، فلذلك لم توصف هذه المعينة بأنها جزاء للعمل، ثم لنا أن نعارض بآيات الغفران، كقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ وقوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾، وإذا تعارضا، وقفا وبقينا على جواز العفو عقلا.
7. قال الجبائي والبلخي: الآية نزلت في أهل الصلاة، لأنه تعالى بين في الآية الأولى حكم قتل الخطأ من الدية، والكفارة، وذلك يختص أهل الصلاة، ثم عقب ذلك بذكر قتل العمد منهم، وهذا ليس بصحيح، لأن لزوم الدية في الخطأ يتناول المسلم، والمعاهد، وأما الكفارات فان عندنا تلزمهم أيضاً لأنهم متعبدون بالشرائع، ولو سلمنا ان الآية الاولى تختص المسلمين، لم يلزم ان تختص الثانية بهم، بل لا يمتنع ان يراد بها الكفار على وجه الخصوص أو الكفار، والمسلمين على وجه العموم، غير انا قد علمنا انه لا يجوز ان يراد بها من هو مستحق الثواب، لأن الثواب دائم، ولا يجوز مع ذلك أن يستحق العقاب الدائم مع ثبوت بطلان الإحباط، لإجماع الآية على خلافه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/295
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. العمد: نقيض الخطأ، يقال: عمدت الشيء، إذا قصدت له، وأصله من الاعتماد، عمد يعمد، إذا قصد، وعمدت الشيء بعماد يعتمد عليه، والعماد: الأبنية الرفيعة.
ب. الغضب والسخط بمعنى، وضده الرضا، وهو يرجع إلى الإرادة؛ لأنه أراد عقوبة المغضوب عليه وإهانته.
ج. اللعن: الإبعاد من الرحمة على جهة العقوبة، وأصله الطرد، ومنه ذئب لعين، ورجل لعين: طريد، ورجل لُعْنَةٌ بسكون العين يلعنه الناس، وبفتحها كثير اللعن.
د. أعد من العدة، وهو ما أعددته للحوادث.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت الآية في مقيس بن صبابة، وجد أخاه هشامًا قتيلاً في بني النجار فكان مسلمًا، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأرسل معه قيس بن هلال الفهري، وقال: قل لبني النجار: إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتص منه، وإن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته، فبلّغ الفهري الرسالة، فأعطوه الدية، فلما انصرف ومعه الفهري، وسوس إليه الشيطان، فقال: ما صنعت شيئًا أخذت دية أخيك، فتكون عليك سُبَّةً، اقتل الذي معك، فيكون نفس بنفس، وفضل الدية، فرماه بصخرة فقتله، وركب بعيرًا، ورجع إلى مكة كافرًا، وأنشأ يقول:
çقَتَلْتُ بِه فِهْرًا وَحمَّلْتُ عَقْلَهُ... سَرَاةَ بِني النَّجَّارِ أَرْبَابَ فارعِ
فأدركْتُ ثَأْرِي واضْطَجَعْتُ مُوَسَّدًا و... كنتُ إلى الأوثانِ أَوَّلَ رَاجعِé
فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا أؤمنه في حل ولا حرم)، فقتل يوم الفتح، ففيه نزلت الآية.
ب. وقيل: نزلت في المستحل لقتل المؤمنين.
ج. وقيل: نزلت في كل قاتل للمؤمنين.
3. لما بَيَّنَ تعالى حكم قتل الخطأ عَقَّبه ببيان حكم العمد، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾:
أ. قيل: العمد كل ما يقصد به إتلاف النفس سيفًا كان أو عصى أو حجرًا عن عبيد بن عمير وإبراهيم.
ب. وقيل: لا عمد إلا بحديد عن سعيد بن المسيب وطاووس وهو قول أبي حنيفة.
4. اختلفوا في المراد بالآية:
أ. قيل: هو المستحل لقتله، فيستحق الخلود لأجل كفره، وهذا لا يصح؛ لأن الوعيد حينئذ يتعلق بالكفر، ولأنه معطوف على قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ دل أن القاتل مؤمن.
ب. وقيل: هو في كل قاتل قصد القتل، وهو الصحيح؛ لأنه علق الوعيد بالقتل.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾:
أ. قيل: يعني جزاء القتل، يعني أن يعاقب بنار جهنم على القطع، عن ابن عباس وابن مسعود، وعليه أكثر أهل العلم.
ب. وقيل: فجزاؤه جهنم إن جازاه، وهذا فاسد؛ لأنه صرف الكلام عن وجهه إلى شرط لا دليل عليه؛ ولأن الجزاء اسم يقع على المفعول، ولأنه لو أراد أن يدل على وعيد القاتل لما زيد على هذا.
6. ﴿خَالِدًا فِيهَا﴾ يعني دائمًا، واختلفوا في قبول توبته:
أ. روي عن ابن عباس أنه لا تقبل.
ب. وسائر الصحابة يقولون بقبول توبته، ويدل عليه قوله عقيب قتل النفس ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾
7. ﴿وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾: أبعده من رحمته وأخزاه ﴿وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ وهو عذاب النار.
8. تدل الآية الكريمة على الوعيد من جهات:
أ. أحدها: قوله: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ وذلك يدل أنه يستحق العقاب، ولا يستحق الثواب لتنافيهما، فإذا ثبت ذلك وجب ألا يوصف بأنه مؤمن على سبيل المدح، ويوصف بأنه فاسق.
ب. تدل على أنه مخلد في النار، وتدل على أنه مغضوب عليه، وأنه تعالى يلعنه.
ج. ويدل قوله: ﴿وَأَعَدَّ لَهُ﴾ أن العذاب معد له، ولا يجوز الخلف في قوله.
9. سؤال وإشكال: هل يشترطون التوبة؟ والجواب: نعم؛ لأن التوبة تزيل العقاب، وللتوبة من القتل شرائط: منها: الندم على ما فعل لقبحه، والعزم على ألا يعود إليه، وتسليم النفس للقود، أو تسليم الدية على ما يوجبه الشرع، فإن كان هناك ورثة، صرفت الدية إليهم، وإن لم يكن فإلى الفقراء، ومنهم من أجاز وضعها في المصالح، واختلفوا هل فيه كفارة، على ما نبينه.
10. أقسام القتل: ذكر محمد بن الحسن الكرخي أن القتل ثلاثة: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وذكر أبو بكر الرازي أن أقسام القتل خمسة: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وشبه خطأ، ونوع خارج من الأنواع الأربعة، ولكل واحد صفة وحكم:
أ. النوع الأول: قتل العمد: هو أن يتعمد الضرب بسلاح أو ما يجري مجرى السلاح في تفريق الأجزاء عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: أن يتعمد الضرب بما يقتل في الغالب، ويتعلق به أحكام:
• أولها: المأثم لأنه محظور بالعقل، وورد بالشرع مؤكدًا لتحريمه، ونطق الكتاب والسنة بالوعيد فيه.
• ثانيها: القود وفيه اتفاق، ثم اختلفوا فقال أصحابنا: موجب العمد القود إلا أن يتراضيا بالعوض، وقال الشافعي: موجبه القود والدية، والخيار إلى الولي.
• ثالثها: هل فيه كفارة؟ قال أصحابنا: لا كفارة فيه، وقال الشافعي: فيه الكفارة.
• رابعها: حرمان الإرث؟ فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا ميراث لقاتل بعد صاحب البقرة.
ب. النوع الثاني: شبه العمد: أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح، ولا يجري مجراه في تفريق الأجزاء عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: أن يتعمد الضرب بآلة لا يقتل مثلها في الغالب، وهو قول الشافعي، وذكر مالك قال: لا أعرف في القتل إلا العمد والخطأ، فأما شبه العمد فلا أعرفه، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا إن قتيل الخطأ العمد، قتيل السوط والعصى فيه مائة من الإبل)، ويتعلق به أحكام:
• أولها: المأثم؛ لأنه قاصد.
• الثاني: أنه لا قصاص فيه.
• الثالث: فيه الدية.
• الرابع: الدية مغلظة، والتغليظ يجري في الإبل فقط.
• خامسها: أن الدية على العاقلة، وكذلك كل دية تجب بنفس القتل، وفيه إجماع إلا ما حكي عن الأصم أنه لا دية على العاقلة، وهو محجوج بالسنة والإجماع.
• سادسها: فيه الكفارة.
• سابعها: يتعلق به حرمان الميراث.
ج. النوع الثالث: الخطأ، وهو على ضربين: إما أن يعمد الرمي إلى شيء فيصيب آدميًّا، أو رأى شخصا وظنه صيدًا فيرميه، فإذا هو آدمي، أو يظنه حربيًّا فإذا هو مسلم، فأحد الأمرين خطأ في الفعل، والآخر خطأ في القصد، ولا مأثم في واحد منهما، وفيه الكفارة والدية بنص القرآن، ولا قود فيه، والدية على العاقلة، ويتعلق به تحريم الميراث.
د. النوع الرابع: شبه الخطأ: فهو النائم يتقلب فيقع على إنسان، فيقتله، لا قصد له، فلا يوصف فعله بالعمد، ولا بالخطإ، إلا أنه كالخطإ في الأحكام التي ذكرنا.
هـ. النوع الخامس: فهو حافر البئر، وواضع الحجر؛ لأنه ليس بمتعمد للقتل، ولا بمخطئ فيه، وفيه الدية على العاقلة، ولا يتعلق به حرمان الميراث، وقد قالوا: إذا ضرب غيره تأديبًا بما لا يقتل غالبًا، فمات فهو خطأ، وقتل الصبي والمجنون خطأ في الشرع.
11. الكلام في الدية في موضعها، وفي أجناسها، وفي مقاديرها:
أ. فأمَّا موضعها: فقد بَيَّنَّا أنها تجب في الأقسام الأربعة، وإنما لا تجب في العمد، وبَيَّنَّا الخلاف فيه، واتفق الفقهاء أنها تجب على العاقلة في ثلاث سنين، وقال الأصم: لا تجب، ثم اختلفوا فمن أصحابنا من قال: تجب عليه أولاً، ثم تتحمله العاقلة، وهي الأولى، ومنهم من قال: تجب على العاقلة ابتداء، فأما العاقلة فأهل الديوان، فإن لم يكن فالعصبات، وعند الشافعي ليس على أهل الديوان عقل.
ب. فأما أجناسها: فلا خلاف أنها مائة من الإبل، واختلفوا في أسنانها، ومن العين ألف دينار، ومن الوَرِق عشرة ألف درهم، هذا لا خلاف فيه، وإنما اختلفوا، فمنهم من قال: الأصل هو الإبل وما سواها بدل وقيمة، إلا أن الشرع قدر ذلك، ومنهم من قال: الدراهم والدنانير أصل في الديات، والأول يحكى عن الشافعي، والثاني مذهب جماعة أصحابنا، ثم اختلفوا، فقال أبو يوسف ومحمد: من البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألف شاة، ومن الحلل مائتا حلة، كل حلة ثوبان: إزار ورداء، وعند أبي حنيفة ليس ذلك من أصول الديات، فأمَّا الدية في شبه العمد: فمغلظة، وفي الخطأ مخففة، ثم اختلفوا، فقال ابن مسعود: دية الخطأ خمسة أنواع: عشرون بنت مخاض، وعشرون ابن مخاض، وعشرون ابنة لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وهو قول أصحابنا، وقال الشافعي: عشرون ابن لبون بدلاً من ابن المخاض، فأما شبه العمد: فأرباع: خمس وعشرون ابنة مخاض، وخمس وعشرون ابنة لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وهو قول ابن مسعود، وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال محمد: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون حقة في بطونها أولادها، وهو مروي عن عمر وزيد، وروي عن علي أنها أثلاث: ثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون حقة في بطونها أولادها.
ج. فأما مقاديرها: فلا خلاف في دية الحر المسلم أنه ما ذكرنا، واختلفوا في دية الذمي، فقيل: مثل دية المسلم، وهو قول أبي بكر وعثمان وابن مسعود والنخعي والشعبي ومجاهد وعطاء والزهري، وهو قول أصحابنا، وقيل: على النصف من دية المسلم، وهو قول عمر والحسن ومالك وأبي علي، وقيل: ثلث دية المسلم، وهو قول عطاء وسليمان بن يسار والشافعي، وقال الشافعي: دية المجوسي ثمانمائة درهم، وأما دية المرأة نصف دية الرجل، فالأكثر على ذلك، وهو قول علي، وروي عن زيد أنه مثل دية الرجل.
د. وأما الكفارة: فعندنا لا كفارة في العمد، وفي الخطأ وشبه العمد الكفارة، ولا خلاف أنه تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وقد بَيَّنَّا الخلاف، وأن منهم من قال: ينبغي أن يكون بالغًا عاقلاً صام وصلى، عن ابن عباس والحسن وإبراهيم ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وأبي علي، ومنهم من قال: يجزي من كان له حكم الإسلام، وهو قول الأكثر، وعليه أكثر الفقهاء، وفي قتل الذمي الكفارة عندنا، وقال مالك: لا كفارة فيه، وتفصيل هذه المسألة يطول، وموضعه كتب الفقه.
12. ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا﴾ نصب على الحال.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/21
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. نزلت في مقيس بن صبابة الكناني، وجد أخاه هشاما قتيلا، في بني النجار، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأرسل معه قيس بن هلال الفهري، وقال له: (قل لبني النجار إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه، ليقتص منه، وإن لم تعلموا، فادفعوا إليه ديته)، فبلغ الفهري الرسالة، فأعطوه الدية، فلما انصرف ومعه الفهري، وسوس إليه الشيطان فقال: ما صنعت شيئا، أخذت دية أخيك، فيكون سبة عليك! اقتل الذي معك، لتكون نفس بنفس، والدية فضل، فرماه بصخرة فقتله، وركب بعيرا، ورجع إلى مكة، كافرا، وأنشد يقول:
çقتلت به فهرا وحملت عقله... سراة بني النجار أرباب فارع
فأدركت ثأري واضطجعت موسدا... وكنت إلى الأوثان أول راجعé
فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا أؤمنه في حل ولا حرم)! فقتل يوم الفتح، رواه الضحاك، وجماعة من المفسرين.
2. لما بين تعالى قتل الخطأ وحكمه، عقبه ببيان قتل العمد وحكمه، فقال: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾:
أ. قيل: أي قاصدا إلى قتله، عالما بإيمانه، وحرمة قتله، وعصمة دمه.
ب. وقيل: معناه مستحلا لقتله، عن عكرمة، وابن جريج، وجماعة.
ج. وقيل: معنى التعمد أن يقتله على دينه، رواه العياشي، بإسناده عن الصادق عليه السلام.
3. ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا﴾ مقيما، ﴿فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ أبعده من الخير، وطرده عنه، على وجه العقوبة، ﴿وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ ظاهر المعنى.
4. صفة قتل العمد:
أ. أن يقصد قتل غيره، بما جرت العادة بأن يقتل مثله سواء كان بحديدة حادة كالسلاح، أو بخنق، أو سم، أو إحراق، أو تغريق، أو موالاة ضرب بالعصا، أو بالحجارة، حتى يموت، فإن جميع ذلك عمد، يوجب القود، وبه قال إبراهيم، والشافعي، وأصحابه.
ب. وقال قوم: لا يكون قتل العمد إلا بالحديد، وبه قال سعيد بن المسيب، وطاووس، وأبو حنيفة، وأصحابه.
5. أما القتل شبيه العمد فهو أن يضرب بعصا، أو غيرها مما لم تجر العادة بحصول الموت عنده، فيموت، ففيه الدية مغلظة تلزم القاتل خاصة في ماله، دون العاقلة.
6. في هذه الآية وعيد شديد لمن قتل مؤمنا متعمدا، حرم الله به قتل المؤمن، وغلظ فيه، وقال جماعة من التابعين: الآية اللينة وهي ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ نزلت بعد الشديدة، وهي: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾، وقال أبو مجلز في قوله: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾: فهي جزاؤه إن جازاه، ويروى هذا أيضا عن أبي صالح، ورواه أيضا العياشي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام، وقد روي أيضا، مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (هو جزاؤه إن جازاه)، وروى عاصم بن أبي النجود، عن ابن عباس في قوله: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ قال: (هي جزاؤه، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)، وروي عن أبي صالح، وبكر بن عبد الله، وغيره أنه كما يقول الانسان لمن يزجره عن أمره، إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب، ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذبا، واعترض على هذا أبو علي الجبائي فقال: ما لا يفعل، لا يسمى جزاء، ألا ترى أن الأجير إذا استحق الأجرة، فالدراهم التي مع مستأجره، لا تسمى بأنها جزاء عمله، وهذا لا يصح، لان الجزاء عبارة عن المستحق سواء فعل ذلك، أو لم يفعل، ولهذا يقال جزاء المحسن الإحسان، وجزاء المسئ الإساءة، وإن لم يتعين المحسن والمسئ، حتى يقال إنه فعل ذلك به، أو لم يفعل، ويقال لمن قتل غيره جزاء هذا أن يقتل، وإنما لا يقال للدراهم إنها جزاء الأجير، لأن الأجير إنما يستحق الأجرة في الذمة، لا في دراهم معينة، فللمستأجر أن يعطيه منها ومن غيرها.
7. من تعلق بهذه الآية من أهل الوعيد، في أن مرتكب الكبيرة لا بد أن يخلد في النار، فإنا نقول له: ما أنكرت أن يكون المراد به من لا ثواب له أصلا، بأن يكون كافرا، أو يكون قتله مستحلا لقتله، أو قتله لإيمانه، فإنه لا خلاف أن هذه صفة من يخلد في النار، ويعضده من الرواية ما تقدم ذكره في سبب نزول الآية، وأقوال الأئمة في معناها،
8. وبعد: فقد وافقنا على أن الآية مخصوصة بمن لا يتوب، وأن التائب خارج من عمومها، وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال: (لا توبة لقاتل المؤمن إلا إذا قتله في حال الشرك ثم أسلم وتاب)، وبه قال ابن مسعود، وزيد بن ثابت، فالأولى أن يكون هذا القول منهم محمولا على سلوك سبيل التغليظ في القتل، كما روي عن سفيان الثوري أنه سئل عن توبة القاتل، فقال: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: (لا توبة له وإذا ابتلي الرجل قالوا له تب) وروى الواحدي بإسناده مرفوعا إلى عطا، عن ابن عباس أن رجلا سأله القاتل المؤمن توبة؟ فقال: لا، وسأله آخر القاتل المؤمن توبة؟ فقال: نعم، فقيل له في ذلك، فقال: جاءني ذلك، ولم يكن قتل، فقلت: لا توبة لك، لكي لا يقتل، وجاءني هذا، وقد قتل، فقد قلت: لك توبة لكي لا يلقي نفسه بيده إلى التهلكة.
9. من قال من أصحابنا: إن قاتل المؤمن لا يوفق للتوبة، لا ينافي ما قلناه، لان هذا القول إن صح، فإنما يدل على أنه لا يختار التوبة مع أنها لو حصلت، لأزالت العقاب، وإذا كان لا بد من تخصيص الآية بالتوبة، جاز أن يختص أيضا بمن تفضل عليه بالعفو، وروى الواحدي بإسناده، مرفوعا إلى الأصمعي، قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء، فقال: يا أبا عمرو! أيخلف الله ما وعده؟ فقال: لا، قال: أفرأيت من أوعده على عمل عقابا، أيخلف الله وعده فيه؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت يا أبا عثمان إن الوعد غير الوعيد: إن العرب لا تعد عارا، ولا خلفا، أن تعد شرا، ثم لا تفعله، يرى ذلك كرما وفضلا، وإنما الخلف في أن تعد خيرا، ثم لا تفعله، قال: فأوجدني هذا في كلام العرب، قال: نعم، سمعت قول الأول:
çوإني إن أوعدته أو وعدته... لمخلف إيعادي ومنجز موعديé
ووجدنا في الدعاء المروي بالرواية الصحيحة، عن الصادقين عليهما السلام: (يا من إذا وعد وفى، وإذا توعد عفا) وهذا يؤيد ما تقدم، وقد أحسن يحيى بن معاذ في هذا المعنى، حيث قال: الوعد حق، والوعيد حق، فالوعد: حق العباد على الله، ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا، ومن أولى بالوفاء من الله، والوعيد: حقه على العباد، قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم، ففعلوا، فإن شاء عفا، وإن شاء عاقب، لأنه حقه، وأولاهما بربنا العفو والكرم، إنه غفور رحيم، وروى إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت قيس بن أنس، يقول: كنت عند عمرو بن عبيد في بيته، فأنشأ يقول: يؤتى بي يوم القيامة، فأقام بين يدي الله، فيقول: قلت إن القاتل في النار؟ فأقول: أنت قلت: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا﴾ الآية، فقلت له، وما في البيت أصغر سنا مني: أرأيت أن لو قال لك: فإني قلت ﴿فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال: فما استطاع أن يرد علي شيئا.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/140.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾: أنّ مقيس بن صبابة وجد أخاه هشام بن صبابة قتيلا في بني النّجّار، وكان مسلما، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر ذلك له، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رسولا من بني فهر، فقال له: ايت بني النّجّار، فأقرئهم مني السّلام، وقل لهم: إنّ رسول الله يأمركم إن علمتم قاتل هشام، فادفعوه إلى مقيس، وإن لم تعلموا له قاتلا، فادفعوا إليه ديته، فأبلغهم الفهريّ ذلك، فقالوا: والله ما نعلم له قاتلا، ولكنّا نعطي ديته، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة، فأتى الشّيطان مقيس بن صبابة، فقال: تقبل دية أخيك، فيكون عليك سبّة ما بقيت، أقتل الذي معك مكان أخيك، وأفضل بالدّية، فرمى الفهريّ بصخرة، فشدخ رأسه، ثم ركب بعيرا منها، وساق بقيّتها راجعا إلى مكّة، وهو يقول:
çقتلت به فهرا وحمّلت عقله...سراة بني النّجّار أرباب فارع
وأدركت ثأري واضطجعت موسّدا...وكنت إلى الأصنام أوّل راجع é
فنزلت هذه الآية، ثم أهدر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم دمه يوم الفتح، فقتل، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
2. في قوله تعالى: ﴿مُتَعَمِّدًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: متعمّدا لأجل أنه مؤمن، قاله سعيد بن جبير.
ب. الثاني: متعمّدا لقتله، ذكره بعض المفسرين.
3. في قوله تعالى: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها جزاؤه قطعا.
ب. الثاني: أنّها جزاؤه إن جازاه.
4. اختلف العلماء هل للمؤمن إذا قتل مؤمنا متعمّدا توبة أم لا؟ فذهب الأكثرون إلى أنّ له توبة، وذهب ابن عباس إلى أنه لا توبة له.
5. اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟
أ. فقال قوم: هي محكمة، واحتجّوا بأنّها خبر، والأخبار لا تحتمل النّسخ، ثم افترق هؤلاء فرقتين:
• إحداهما قالت: هي على ظاهرها، وقاتل المؤمن مخلّد في النار.
• والفرقة الثانية قالت: هي عامّة قد دخلها التّخصيص بدليل أنه لو قتله كافر، ثم أسلم الكافر، انهدرت عنه العقوبة في الدّنيا والآخرة، فإذا ثبت كونها من العامّ المخصّص، فأيّ دليل صلح للتّخصيص وجب العمل به، ومن أسباب التّخصيص أن يكون قتله مستحلّا، فيستحقّ الخلود لاستحلاله.
ب. وقال قوم: هي مخصوصة في حقّ من لم يتب، واستدلّوا بقوله تعالى في (الفرقان): ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾
ج. وقال آخرون: هي منسوخة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/451
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر الله تعالى حكم القتل الخطأ ذكر بعده بيان حكم القتل العمد، وله أحكام مثل وجوب القصاص والدية، وقد ذكر تعالى ذلك في سورة البقرة وهو قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: 178] فلا جرم هاهنا اقتصر على بيان ما فيه من الإثم والوعيد.
2. استدلت الوعيدية بهذه الآية على أمرين:
أ. أحدهما: على القطع بوعيد الفساق.
ب. الثاني: على خلودهم في النار، ووجه الاستدلال أن كلمة (من) في معرض الشرط تفيد الاستغراق.
3. استقصينا في تقرير كلام الوعيدية في سورة البقرة في تفسير قوله: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 81] وبالغنا في الجواب عنها، وزعم الواحدي أن الأصحاب سلكوا في الجواب عن هذه الآية طرقا كثيرة، قال: وأنا لا أرتضي شيئا منها لأن التي ذكروها اما تخصيص، واما معارضة، وإما إضمار، واللفظ لا يدل على شيء من ذلك، قال: والذي أعتمده وجهان:
أ. الأول: إجماع المفسرين على أن الآية نزلت في كافر قتل مؤمنا ثم ذكر تلك القصة.. وهذا الوجه الأول فضعيف، لأنه ثبت في أصول الفقه ان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا ثبت ان اللفظ الدال على الاستغراق حاصل، فنزوله في حق الكفار لا يقدح في ذلك العموم، فيسقط هذا الكلام بالكلية، ثم نقول: كما أن عموم اللفظ يقتضي كونه عاما في كل قاتل موصوف بالصفة المذكورة، فكذا هاهنا وجه آخر يمنع من تخصيص هذه الآية بالكافر، وبيانه من وجوه:
• الأول: انه تعالى أمر المؤمنين بالمجاهدة مع الكفار ثم علمهم ما يحتاجون اليه عند اشتغالهم بالجهاد، فابتدأ بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء: 92] فذكر في هذه الآية ثلاث كفارات: كفارة قتل المسلم في دار الإسلام، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الحرب، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الذمة وأهل العهد، ثم ذكر عقيبه حكم قتل العمد مقرونا بالوعيد، فلما كان بيان حكم قتل الخطأ بيانا لحكم اختص بالمسلمين كان بيان حكم القتل العمد الذي هو كالضد لقتل الخطأ، وجب أن يكون أيضا مختصا بالمؤمنين، فان لم يختص بهم فلا أقل من دخولهم فيه.
• الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: 94] وأجمع المفسرون على أن هذه الآيات إنما نزلت في حق جماعة من المسلمين لقوا قوما فأسلموا فقتلوهم وزعموا أنهم إنما أسلموا من الخوف، وعلى هذا التقدير: فهذه الآية وردت في نهي المؤمنين عن قتل الذين يظهرون الايمان؛ وهذا أيضا يقتضي أن يكون قوله: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ نازلا في نهي المؤمنين عن قتل المؤمنين حتى يحصل التناسب، فثبت بما ذكرنا أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يمنع من كونها مخصوصة بالكفار.
• الثالث: أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، وبهذا الطريق عرفنا أن قوله: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: 38] وقوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا﴾ [النور: 2] الموجب للقطع هو السرقة، والموجب للجلد هو الزنا،/ فكذا هاهنا وجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو هذا القتل العمد، لأن هذا الوصف مناسب لذلك الحكم، فلزم كون ذلك الحكم معللا به، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يقال: أينما ثبت هذا المعنى فانه يحصل هذا الحكم، وبهذا الوجه لا يبقى لقوله: الآية مخصوصة بالكافر وجه.
• الرابع: أن المنشأ لاستحقاق هذا الوعيد إما أن يكون هو الكفر أو هذا القتل المخصوص، فان كان منشأ هذا الوعيد هو الكفر كان الكفر حاصلا قبل هذا القتل، فحينئذ لا يكون لهذا القتل أثر ألبتة في هذا الوعيد، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية جارية مجرى ما يقال: ان من يتعمد قتل نفس فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب اللَّه عليه، لأن القتل العمد لما لم يكن له تأثير في هذا الوعيد جرى مجرى النفس ومجرى سائر الأمور التي لا أثر لها في هذا الوعيد، ومعلوم ان ذلك باطل، وان كان منشأ هذا الوعيد هو كونه قتلا عمدا فحينئذ يلزم أن يقال: أينما حصل القتل يحصل هذا الوعيد، وحينئذ يسقط هذا السؤال، فثبت بما ذكرنا أن هذا الوجه الذي ارتضاه الواحدي ليس بشيء.
ب. الثاني: أن قوله: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ معناه الاستقبال أي انه سيجزى بجهنم، وهذا وعيد قال: وخلف الوعيد كرم، وعندنا أنه يجوز ان يخلف اللَّه وعيد المؤمنين، فهذا حاصل كلامه الذي زعم انه خير مما قاله غيره، وهو في غاية الفساد لأن الوعيد قسم من أقسام الخبر، فإذا جوز على اللَّه الخلف فيه فقد جوز الكذب على اللَّه، وهذا خطأ عظيم، بل يقرب من أن يكون كفرا، فان العقلاء أجمعوا على انه تعالى منزه عن الكذب، ولأنه إذا جوز الكذب على اللَّه في الوعيد لأجل ما قال: إن الخلف في الوعيد كرم، فلم لا يجوز الخلف في القصص والأخبار لغرض المصلحة، ومعلوم أن فتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في القرآن وكل الشريعة فثبت أن كل واحد من هذين الوجهين ليس بشيء.
4. حكى القفال في تفسيره وجها آخر، هو الجواب وقال: الآية تدل على أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر، لكن ليس فيها أنه تعالى يوصل هذا الجزاء إليه أم لا، وقد يقول الرجل لعبده: جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا، إلا أني لا أفعله، وهذا الجواب أيضا ضعيف لأنه ثبت بهذه الآية أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر، وثبت بسائر الآيات أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين، قال تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123] وقال: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [غافر: 17] وقال: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8] بل إنه تعالى ذكر في هذه الآية ما يدل على أنه يوصل إليهم هذا الجزاء وهو قوله: ﴿وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ فان بيان أن هذا جزاؤه حصل بقوله: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ فلو كان قوله: ﴿وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ إخبارا عن الاستحقاق كان تكرارا، فلو حملناه على الاخبار عن أنه تعالى سيفعل لم يلزم التكرار، فكان ذلك أولى، وهذه الآية مخصوصة في موضعين:
• أحدهما: أن يكون القتل العمد غير عدوان كما في القصاص فانه لا يحصل فيه هذا الوعيد ألبتة.
• الثاني: القتل العمد العدوان إذا تاب عنه فانه لا يحصل فيه الوعيد، وإذا ثبت دخول التخصيص فيه في هاتين الصورتين فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48] وأيضا فهذه الآية إحدى عمومات الوعيد، وعمومات الوعد أكثر من عمومات الوعيد، وما ذكره في ترجيح عمومات الوعيد قد أجبنا عنه وبينا أن عمومات الوعد راجحة، وكل ذلك قد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 81]
5. نقل عن ابن عباس أنه قال: توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة، وقال جمهور العلماء: إنها مقبولة، ويدل عليه وجوه:
أ. الأولى: أن الكفر أعظم من هذا القتل فإذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة من هذا القتل أولى بالقبول.
ب. الثانية: قوله تعالى في آخر الفرقان: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ [الفرقان: 68ـ 70] وإذا كانت توبة الآتي بالقتل العمد مع سائر الكبائر المذكورة في هذه الآية مقبولة فبأن تكون توبة الآتي بالقتل العمد وحده مقبولة كان أولى.
ج. الثالثة: قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وعد بالعفو عن كل ما سوى الكفر، فبأن يعفو عنه بعد التوبة أولى.
__________
(1) التفسير الكبير: 10/183
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ﴾ ﴿مِنْ﴾ شرط، وجوابه ﴿فَجَزَاؤُهُ﴾ وسيأتي، واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل، فقال عطاء والنخعي وغيرهما: هو من قتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها، وقالت فرقة: المتعمد كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك، وهذا قول الجمهور.
2. ذكر الله تعالى في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد وقد اختلف العلماء في القول به، فقال ابن المنذر: أنكر ذلك مالك، وقال: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ، وذكره الخطابي أيضا عن مالك وزاد: وأما شبه العمد فلا نعرفه، قال أبو عمر: أنكر مالك والليث بن سعد شبه العمد، فمن قتل عندهما بما لا يقتل مثله غالبا كالعضة واللطمة وضربة السوط والقضيب وشبه ذلك فإنه عمد وفيه القود، قال أبو عمر: وقال بقولهما جماعة من الصحابة والتابعين، وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن هذا كله شبه العمد، وقد ذكر عن مالك وقاله ابن وهب وجماعة من الصحابة والتابعين، قال ابن المنذر: (وشبه العمد يعمل به عندنا، وممن أثبت شبه العمد الشعبي والحكم وحماد والنخعي وقتادة وسفيان الثري وأهل العراق والشافعي، وروينا ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب)، وهو الصحيح، فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها في أهبها، فلا تستباح إلا بأمر بين لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال، لأنه لما كان مترددا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد، فالضرب مقصود والقتل غير مقصود، وإنما وقع بغير القصد فيسقط القود وتغلظ الدية، وبمثل هذا جاءت السنة، روى أبو داوود من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها)، وروى الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (العمد قود اليد والخطأ عقل لا قود فيه ومن قتل في عمية بحجر أو عصا أو سوط فهو دية مغلظة في أسنان الإبل)، وروي أيضا من حديث سليما بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (عقل شبه العمد مغلظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه)، وهذا نص، وقال طاوس في الرجل يصاب في الرميا في القتال بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة، يودى ولا يقتل به من أجل أنه لا يدرى من قاتله، وقال أحمد بن حنبل: العميا هو الأمر الأعمى للعصبية لا تستبين ما وجهه، وقال إسحاق: هذا في تحارج القوم وقتل بعضهم بعضا، فكأن أصله من التعمية وهو التلبيس، ذكره الدارقطني، مسألة ـ واختلف القائلون بشبه العمد في الدية المغلظة، فقال عطاء والشافعي: هي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وقد روي هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري، وهو مذهب مالك حيث يقول بشبه العمد، ومشهور مذهبه أنه لم يقل به إلا في مثل قصة المدلجي بابنه حيث ضربه با لسيف، وقيل: هي مربعة ربع بنات لبون، وربع حقاق، وربع جذاع، وربع بنات مخاض، هذا قول النعمان ويعقوب، وذكره أبو داوود عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي، وقيل: هي مخمسة: عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة، هذا قول أبي ثور، وقيل: أربعون جذعة إلى بازل عامها وثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وروي عن عثمان بن عفان وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهري، وقيل: أربع وثلاثون خلفة إلى بازل عامها، وثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وبه قال الشعبي والنخعي، وذكره أبو داوود عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي.
3. اختلفوا فيمن تلزمه دية شبه العمد، فقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور: هو عليه في ماله، وقال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: هو على العاقلة، قال ابن المنذر: قول الشعبي أصح، لحديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل دية الجنين على عاقلة الضاربة.
4. أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد وأنها في مال الجاني، وقد تقدم ذكرها في البقرة، وقد أجمعوا على أن على القاتل خطأ الكفارة، واختلفوا فيها في قتل العمد، فكان مالك والشافعي يريان على قاتل العمد الكفارة كما في الخطأ، قال الشافعي: إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى، وقال: إذا شرع السجود في السهو فلأن يشرع في العمد أولى، وليس ما ذكره الله تعالى في كفارة العمد بمسقط ما قد وجب في الخطأ، وقد قيل: إن القاتل عمدا إنما تجب عليه الكفارة إذا عفي عنه فلم يقتل، فأما إذا قتل قودا فلا كفارة عليه تؤخذ من ماله، وقيل تجب، ومن قتل نفسه فعليه الكفارة في ماله، وقال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي: لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى، قال ابن المنذر: وكذلك نقول، لأن الكفارات عبادات ولا يجوز التمثيل، وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضا يلزمه عباد الله إلا بكتاب أو سنة أو إجماع، وليس مع من فرض على القاتل عمدا كفارة حجة من حيث ذكرت.
5. اختلفوا في الجماعة يقتلون الرجل خطأ، فقالت طائفة: على كل واحد منهم الكفارة، كذلك قال الحسن وعكرمة والنخعي والحارث العكلي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقالت طائفة: عليهم كلهم كفارة واحدة، هكذا قال أبو ثور، وحكي ذلك عن الأوزاعي، وفرق الزهري بين العتق والصوم، فقال في الجماعة يرمون بالمنجنيق فيقتلون رجلا: عليهم كلهم عتق رقبة، وإن كانوا لا يجدون فعلى كل واحد منهم صوم شهرين متتابعين.
6. روى النسائي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)، وروي عن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء)، وروى إسماعيل بن إسحاق عن نافع بن جبير ابن مطعم عن عبد الله بن عباس أنه سأله سائل فقال: يا أبا العباس، هل للقاتل توبة؟ فقال له ابن عباس كالمتعجب من مسألته: ماذا تقول! مرتين أو ثلاثا، ثم قال ابن عباس: ويحك! أنى له توبة! سمعت نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الأخرى تشخب أو داجة دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله تعالى رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل تعست ويذهب به إلى النار، وعن الحسن قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما نازلت ربي في شي ما نازلته في قتل المؤمن فلم يجبني)
7. اختلف العلماء في قاتل العمد هل له من توبة؟ فروى البخاري عن سعيد ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: (نزلت هذه الآية ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ هي آخر ما نزل وما نسخها شي، وروى النسائي عنه قال: سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا، وقرأت عليه الآية التي في الفرقان: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ قال: هذه آية مكية نسختها آية مدنية ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾، وروي عن زيد بن ثابت نحوه، وإن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر، وفي رواية بثمانية أشهر، ذكرهما النسائي عن زيد بن ثابت.
8. إلى عموم هذه الآية مع هذه الأخبار عن زيد وابن عباس ذهبت المعتزلة وقالوا: هذا مخصص عموم قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ ورأوا أن الوعيد نافذ حتما على كل قاتل، فجمعوا بين الآيتين بأن قالوا: التقدير ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدا.
9. وذهب جماعة من العلماء منهم عبد الله بن عمر ـ وهو أيضا مروي عن زيد وابن عباس ـ إلى أن له توبة، روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ قال: لا، إلا النار، قال: فلما ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة، قال: إني لا حسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا، قال: فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك، وهذا مذهب أهل السنة وهو الصحيح، وإن هذه الآية مخصوصة، ودليل التخصيص آيات وأخبار.
10. وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن ضبابة، وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن ضبابة، فوجد هشاما قتيلا في بني النجار فأخبر بذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه وأرسل معه رجلا من بني فهر، فقال بنو النجار: والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي الدية، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مقيس على الفهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة كافرا مرتدا، وجعل ينشد:
çقتلت به فهرا وحملت عقله...سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به وتري وأدركت ثورتي...وكنت إلى الأوثان أول راجعé
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا أؤمنه في حل ولا حرم)، وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة، وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير وعلماء الدين فلا ينبغي أن يحمل على المسلمين، ثم ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر قوله: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ وقوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، والأخذ بالظاهرين تناقض فلا بد من التخصيص، ثم إن الجمع بين آية الفرقان، وهذه الآية ممكن فلا نسخ ولا تعارض، وذلك أن يحمل مطلق آية النساء على مقيد آية الْفُرْقَانَ فيكون معناه فجزاؤه كذا إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل والموجب وهو التواعد بالعقاب.
11. وأما الأخبار فكثيرة كحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه: (تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفي منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه)، رواه الأئمة أخرجه الصحيحان، وكحديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الذي قتل مائة نفس، أخرجه مسلم في صحيحه وابن ماجه في سننه وغيرهما إلى غير ذلك من الأخبار الثابتة، ثم إنهم قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل، ويقر بأنه قتل عمدا، ويأتي السلطان الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قودا، فهذا غير متبع في الآخرة، والوعيد غير نافذ عليه إجماعا على مقتضى حديث عبادة، فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ ودخله التخصيص بما ذكرنا.
12. وإذا كان كذلك فالوجه أن هذه الآية مخصوصة كما بينا، أو تكون محمولة على ما حكي عن ابن عباس أنه قال: متعمدا معناه مستحلا لقتله، فهذا أيضا يئول إلى الكفر إجماعا، وقالت جماعة: إن القاتل في المشيئة تاب أو لم يتب، قاله أبو حنيفة وأصحابه.
13. سؤال وإشكال: إن قوله تعالى: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ دليل على كفره، لأن الله تعالى لا يغضب إلا على كافر خارج من الإيمان، والجواب:
أ. هذا وعيد، والخلف في الوعيد كرم، كما قال:
çوإني متى أوعدته أو وعدته...لمخلف إيعادي ومنجز موعديé
ب. جواب ثان ـ إن جازاه بذلك، أي هو أهل لذلك ومستحقه لعظيم ذنبه، نص على هذا أبو مجلز لا حق بن حميد وأبو صالح وغيرهما، وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (إذا وعد الله لعبد ثوابا فهو منجزه وإن أو عدله العقوبة فله المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه)، وفي هذين التأويلين دخل، أما الأول: فقال القشيري: وفي هذا نظر، لأن كلام الرب لا يقبل الخلف إلا أن يراد بهذا تخصيص العام، فهو إذا جائز في الكلام، وأما الثاني: وإن روي أنه مرفوع فقال النحاس: وهذا الوجه الغلط فيه بين، وقد قال الله عز وجل: ﴿ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا﴾ ولم يقل أحد: إن جازاهم، وهو خطأ في العربية لأن بعده ﴿وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ﴾ وهو محمول على معنى جازاه.
ج. وجواب ثالث ـ فجزاؤه جهنم إن لم يتب وأصر على الذنب حتى وافى ربه على الكفر بشؤم المعاصي.
د. وذكر هبة الله في كتاب (الناسخ والمنسوخ) أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، وقال: (هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر فإنهما قالا هي محكمة، وفي هذا الذي قال نظر، لأنه موضع عموم وتخصيص لا موضع نسخ، قاله ابن عطية)، وهذا حسن، لأن النسخ لا يدخل الأخبار إنما المعنى فهو يجزيه، وقال النحاس في (معاني القرآن) له: (القول فيه عند العلماء أهل النظر أنه محكم وأنه يجازيه إذا لم يتب، فإن تاب فقد بين أمره بقوله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ﴾ فهذا لا يخرج عنه، والخلود لا يقتضي الدوام، قال الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾ الآية، وقال تعالى: ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾، وقال زهير: (ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا) وهذا كله يدل على أن الخلد يطلق على غير معنى التأبيد، فإن هذا يزول بزوال الدنيا، وكذلك العرب تقول: لأخلدن فلانا في السجن، والسجن ينقطع ويفنى، وكذلك المسجون، ومثله قولهم في الدعاء: خلد الله ملكه وأبد أيامه، وقد تقدم هذا كله لفظا ومعنى.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/329.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بيّن سبحانه حكم القاتل خطأ بين حكم القاتل عمدا، وقد اختلف العلماء في معنى العمد؛ فقال عطاء والنخعي وغيرهما: هو القتل بحديدة، كالسيف، والخنجر، وسنان الرمح، ونحو ذلك من المحدّد، أو بما يعلم أن فيه الموت، من ثقال الحجارة ونحوهما، وقال الجمهور: إنه كل قتل من قاتل قاصد للفعل، بحديدة، أو بحجر، أو بعصا، أو بغير ذلك، وقيده بعض أهل العلم بأن يكون بما يقتل مثله في العادة، وقد ذهب بعض أهل العلم: إلى أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: عمد، وشبه عمد، وخطأ، واستدلوا على ذلك بأدلة ليس هذا مقام بسطها، وذهب آخرون: إلى أنه ينقسم إلى قسمين: عمد وخطأ ولا ثالث لهما، واستدلوا بأنه ليس في القرآن إلّا القسمان، ويجاب عن ذلك: بأن اقتصار القرآن على القسمين لا ينفي ثبوت قسم ثالث بالسنة وقد ثبت ذلك في السنة، وقد جاءت هذه الآية بتغليظ عقوبة القاتل عمدا، فجمع الله له فيها بين كون جهنم جزاء له، أي: يستحقها بسبب هذا الذنب، وبين كونه خالدا فيها، وبين غضب الله عليه، ولعنته له، وإعداده له عذابا عظيما، وليس وراء هذا التشديد تشديد، ولا مثل هذا الوعيد وعيد، وانتصاب خالدا: على الحال، وقوله: وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ معطوف على مقدّر، يدل عليه السياق، أي: جعل جزاءه جهنم، أو حكم عليه، أو جازاه، وغضب عليه، وأعدّ له.
2. وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال اختلف فيها علماء أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية: ﴿ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً﴾ وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء وقد روى النسائي عنه نحو هذا، وروى النسائي عن زيد بن ثابت نحوه، وممن ذهب: إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وأبو سلمة، وعبيد بن عمير، والحسن، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، نقله ابن أبي حاتم عنهم، وذهب الجمهور: إلى أن التوبة منه مقبولة، واستدلوا بمثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ﴾ وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ﴾، وقوله: ﴿ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ﴾، قالوا أيضا: والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان، فيكون معناهما: فجزاؤه جهنم إلّا من تاب، لا سيما وقد اتحد السبب ـ وهو القتل ـ والموجب، وهو التوعد بالعقاب، واستدلوا أيضا: بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ، ثم قال فمن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذّبه) وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره: في الذي قتل مائة نفس، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: إلى أن القاتل عمدا داخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب.
3. والحق: أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدّها تمحوه التوبة إلى الله، ويقبل من صاحبه الخروج منه، والدخول في باب التوبة، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمدا؟ لكن لا بدّ في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل، وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجبا، أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجبا، وكان القاتل غنيا متمكنا من تسليمها أو بعضها، وأما مجرد التوبة من القاتل عمدا، وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد، من دون اعتراف، ولا تسليم نفس، فنحن لا نقطع بقبولها، والله أرحم الراحمين، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
__________
(1) فتح القدير: 1/578.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. روي أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أرسل رجلا من بني فهر إلى بني النجَّار مع قيس بن ضبابة وقد وُجِد أخوه قتيلاً فيهم، وقال أقرئهم السَّلام، وقل لهم: (إنَّ سول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن ضبابة أن تدفعوه إلى أخيه ليقتله، وإلَّا فديته عليكم)، فقالوا: (سمعًا وطاعة لله ورَسُوله، والله لا نعلم له قاتلاً ولكن نؤدِّي ديته)، فأعطوه مائة بعير فرجعا إلى المدينة، فقال: قبول دية أخي عار، ولكن أقتل الفهريَّ نفسًا بنفس والدية زائدة، ففعل، وساق الإبل إلى أن مات مرتدًّا، فنزل قوله تعالى:
2. ﴿وَمَنْ يَّقْتُلْ مُومِنًا﴾ موحِّدا، ولو كان عند الله شقيًّا ﴿مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ﴾ قضى عليه بالشقوة ﴿عَلَيْهِ﴾ عطف فعليَّة على اسميَّة، أو على (حَكَمَ عليه بذلك) مقدَّرا، ﴿وَلَعَنَهُ﴾ أبعده عن رحمته فلا ينالها أبدًا، أو ذمَّه إلى الملائكة ﴿وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ في قبره وحشره وموقفه وضرب الملائكة، والزقُّوم والزمهرير، وذلك كلُّه غير الإحراق بالنار المراد بقوله: ﴿فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، إلَّا إن تاب؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ﴾ [طه: 82]، وقوله تعالى: ﴿اِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا﴾ [الفرقان: 70]، ولأنَّه إذا كان يغفر للمشرك فأولى أن يغفر للقاتل عمدًا إن تاب، ولا يقال قوله: ﴿اِلَّا مَن تَابَ﴾ عائد إلى القاتل خطأ؛ لأنَّ قتل الخطأ ليس ذنبا، فضلا عن أن يتاب عليه، وقوله: ﴿وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ﴾ [الفرقان: 68] شامل للمؤمنة، فالتوبة من قتل النفس المؤمنة مقبولة ولو قتلت عمدًا، ولا يقبل قول غير هذا، روى البيهقيُّ ذلك عن ابن عبَّاس، وروى البخاريُّ ومسلم عنه أنَّه لا تقبل توبته، فإمَّا أن يريد التشديد على من يناسبه هذا التشديد فيَكُفَّ به ولا يـيأس، ويقصِدُ بفتوى القبول من سأله وناسبته، وإمَّا أن يريد بنفي القبول مَنْ قَتَلَهُ استحلالاً كما فسَّر بعض به الآية، إلَّا أنَّ في هذا نظرًا فإنَّ مستحلَّه مرتدٌّ، وتوبته تقبل كما تقبل توبة المشرك، و(خَالِدًا) حال من هاء (جَزَاؤُهُ)؛ لأنَّ المضاف صالح للعمل، وهو مصدر، فيكون عاملُه وعاملُ الخبر واحدًا، وهو (جَزَاءُ) فينتفي الفصل بأجنبيٍّ، أو [حالٌ] من هاء (يجزاها) مقدَّرًا، أي يقدر: يجزاها خالدًا فيها، أو من ضميره المستتر، وقاتل العمد يُقتل ولا كفَّارة عليه، وإن عُفي عنه أو أَعطَى الدية فعليه كفَّارة القتل.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/254.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ لقتله ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ إذ قتل وليّه عمدا ﴿وَلَعَنَهُ﴾ أي أبعده عن الرحمة ﴿وَأَعَدَّ لَهُ﴾ وراء ذلك ﴿عَذَابًا عَظِيمًا﴾ أي: فوق عذاب سائر الكبائر، سوى الشرك.
2. قال ابن كثير: هذا تهديد شديد ووعد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله، في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول سبحانه في سورة (الفرقان): ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الفرقان: 68] الآية، وقال تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [الأنعام: 151] الآية، والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا، فمن ذلك:
أ. ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء.
ب. وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دما حراما، فإذا أصاب دما حراما بلّح.
ج. وفي حديث آخر: لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم، قلت: رواه الترمذيّ والنسائيّ عن ابن عمرو.
د. وفي الحديث الآخر: لو اجتمع أهل السموات وأهل الأرض على قتل رجل مسلم لكبهم الله في النار، رواه الترمذيّ عن أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ: لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله عز وجل في النار
هـ. وفي الحديث الآخر: من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله، رواه ابن ماجة عن أبي هريرة.
3. وقد كان ابن عباس يرى أن لا توبة لقاتل المؤمن عمدا، وقال البخاريّ عن ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، هي آخر ما نزل وما نسخها شيء، وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائيّ من طرق عن شعبة، به، ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن ابن مهديّ عن سفيان الثوريّ عن مغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ فقال: ما نسخها شيء.. وروى ابن جرير أيضا عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام، وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم، ولا توبة له، فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم، وروى الإمام أحمد عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس أن رجلا أتى إليه فقال: أرأيت رجلا قتل رجلا عمدا؟ فقال: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ الآية، قال: لقد نزلت من آخر ما نزل، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأنّى له بالتوبة؟ وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: ثكلته أمه، رجل قتل رجلا متعمدا يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره، أو آخذا رأسه بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه دما قبل العرش يقول: يا رب! سل عبدك فيم قتلني! ورواه النسائيّ وابن ماجة.
4. وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة، وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف، زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبيد ابن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم، نقله ابن أبي حاتم، وفي الباب أحاديث كثيرة، فمن ذلك ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: يجيء المقتول متعلّقا بقاتله يوم القيامة، آخذا رأسه بيده الأخرى، فيقول: يا رب! سل هذا فيم قتلني؟ قال فيقول: قتلته لتكون العزة لك، قال: فإنها لي، قال ويجيء آخر متعلقا بقاتله فيقول: رب! سل هذا فيم قتلني؟ قال فيقول: قتلته لتكون العزة لفلان، قال: فإنها ليست له، بوء بإثمه، قال، فيهوي به في النار سبعين خريفا، ورواه النسائيّ، وأخرج أحمد والنسائيّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا.
5. قال ابن كثير: والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها، أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل، فإن تاب وأناب وخشع وخضع، وعمل عملا صالحا، بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ إلى قوله ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ [الفرقان: 68 ـ 70] الآية، وهذا خبر لا يجوز نسخه، وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين ـ خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل، وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 53] الآية، وهذا عام في جميع الذنوب: من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك، كل من تاب من أيّ ذلك تاب الله عليه، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48 ـ 116]، فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها، لتقوية الرجاء، وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيليّ الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما هل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه، فهاجر إليه فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة، وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة، التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى، لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة، فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ الآية، فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه، وقد رواه ابن مردويه بإسناده مرفوعا، ولكن لا يصح، ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد يكون لذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة والإحباط، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب، وبتقدير دخول القاتل في النار، إما على قول ابن عباس ومن وافقه، أنه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به ـ فليس بمخلد فيها أبدا، بل الخلود هو المكث الطويل، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من الإيمان.
6. ثم قال ابن كثير: وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه من حقوق الآدميين، وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه والمغضوب منه والمغبون والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول، أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك، والله أعلم.
7. وقال النوويّ في (شرح مسلم) في شرح حديث الإسرائيليّ الذي قتل مائة نفس: استدل به على قبول توبة القاتل عمدا، وهو مذهب أهل العلم وإجماعهم، ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس، وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا، فمراد قائله الزجر والتوبة، لا أنه يعتقد بطلان توبته، وهذا الحديث وإن كان شرع من قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف، فليس هذا موضع الخلاف، وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره، فإن ورد كان شرعا لنا بلا شك، وهذا قد ورد شرعنا به، وذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ﴾ إلى قوله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ [الفرقان: 68]، الآية، وأما قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ الآية، فالصواب في معناها: أن جزاءه جهنم، فقد يجازى بذلك وقد يجازى بغيره، وقد لا يجازى بل يعفى عنه، فإن قتل عمدا مستحلّا بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتدّ، يخلد في جهنم بالإجماع، وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص، مرتكب كبيرة، جزاؤها جهنم خالدا فيها، لكن تفضل الله تعالى وأخبر أنه لا يخلد من مات موحدا فيها، فلا يخلد هذا، ولكن قد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلا، وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر عصاة الموحدين، ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد في النار، قال: فهذا هو الصواب في معنى الآية، ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة، أن يتحتم ذلك الجزاء، وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم، وإنما فيها أنها جزاؤه، أي: يستحق أن يجازى بذلك، وقيل: وردت الآية في رجل بعينه، وقيل: المراد بالخلود طول المدة، لا الدوام، وقيل: معناها: هذا جزاؤه، إن جازاه، وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة، لمخالفتها حقيقة لفظ الآية، فالصواب ما قدمناه.
8. وقال علاء الدين الخازن: اختلف العلماء في حكم هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا؟ وهل لمن قتل متعمدا توبة أم لا؟ فروي عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا، فتلوت عليه الآية التي في الفرقان: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الفرقان: 68]، إلى آخر الآية، قال: هذه آية مكية، نسختها آية مدنية: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾، وفي رواية، قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت إلى ابن عباس، فقال: نزلت في آخر ما نزل، ولم ينسخها شيء، وفي رواية أخرى، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالمدينة: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾، فقال المشركون: وما يغني عنا الإسلام، وقد عدلنا بالله، وقد قتلنا النفس التي حرم الله، وأتينا الفواحش؟ فأنزل الله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ [الفرقان: 70]، إلى آخر الآية، زاد في رواية: فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له، أخرجاه في الصحيحين، وروي عن عليّ بن أبي طالب أنه ناظر ابن عباس في هذه الآية فقال: من أين لك أنها محكمة؟ فقال ابن عباس: تكاثف الوعيد فيها، وقال ابن مسعود: إنها محكمة، وما تزداد إلا شدة، وعن خارجة بن زيد قال: سمعت زيد بن ثابت يقول: أنزلت هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾، بعد التي في الفرقان: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾، بستة أشهر، أخرجه أبو داود والنسائيّ، وزاد النسائيّ في رواية: بثمانية أشهر، وقال زيد بن ثابت: لما نزلت هذه الآية في الفرقان: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾، عجبنا من لينها، فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد الليّنة، فنسخت اللينة، وأراد بالغليظة هذه الآية التي في سورة النساء، وباللينة آية الفرقان.
9. وذهب الأكثرون من علماء السلف والخلف إلى أن هذه الآية منسوخة، واختلفوا في ناسخها، فقال بعضهم: نسختها التي في الفرقان، وليس هذا بالقويّ، لأن آية الفرقان نزلت قبل آية النساء، والمتقدم لا ينسخ المتأخر، وذهب جمهور من قال بالنسخ إلى أن ناسخها الآية التي في النساء أيضا، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، وأجاب، من ذهب إلى أنها منسوخة، عن حديث ابن عباس المتقدم المخرّج في الصحيحين: بأن هذه الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل ذلك الأمر المذكور في الآية، والنسخ لا يدخل الأخبار، ولئن سلمنا أنه يدخلها النسخ، لكن الجمع بين الآيتين ممكن بحيث لا يكون بينهما تعارض، وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على تقييد آية الفرقان، فيكون المعنى: فجزاؤه جهنم إلا من تاب، وقال بعضهم: ما ورد عن ابن عباس إنما هو على سبيل التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل، فهو كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال: إن لم يقتل يقال له: لا توبة لك، وإن قتل ثم ندم وجاء تائبا يقال له: لك توبة، وقيل: إنه قد روي عن ابن عباس مثله، وروي عنه أيضا أن توبته تقبل، وهو قول أهل السنة، ويدل عليه الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82]، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 53]، وأما السنة فما روي عن جابر بن عبد الله قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك به شيئا دخل النار، أخرجه مسلم، وروى الشيخان عن عبادة بن الصامت قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مجلس فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، وفي رواية: ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، فبايعناه على ذلك.
10. قال العلامة أبو السعود: تمسّكت الخوارج والمعتزلة بها في خلود من قتل المؤمن عمدا في النار، ولا متمسّك لهم فيها، لا لما قيل من أنها في حق المستحل، كما هو رأي عكرمة وأضرابه، بدليل أنها نزلت في مقيس بن صبابة الكنانيّ المرتد، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، بل لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام، لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم، وما روي عن ابن عباس: أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا، وكذا ما روي عن سفيان: أن أهل العلم كانوا إذا سئلوا قالوا: لا توبة له ـ محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى في التشديد والتغليظ، وعليه يحمل ما روي عن أنس: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة، وقال عون بن عبد الله وبكر بن عبد الله وأبو صالح: المعنى هو جزاؤه إن جازاه، قالوا: قد يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب، ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذبا.
11. قال الواحديّ: والأصل في ذلك أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد، وأن امتنع أن يخلف الوعد، والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل المذكور، لأنه إخبار منه تعالى أن جزاءه ذلك، لا بأنه يجزيه بذلك، كيف لا؟ وقد قال الله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، ولو كان هذا إخبارا بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها، لعارضه قوله تعالى: ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]
12. قال الشوكانيّ في (نيل الأوطار): وأما بيان الجمع بين هذه الآية وما خالفها فنقول: لا نزاع أن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا﴾ من صيغ العموم الشاملة للتائب وغير التائب، بل للمسلم والكافر، والاستثناء لمذكور في آية الفرقان، أعني قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ [الفرقان: 70]، بعد قوله تعالى: ﴿وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الفرقان: 68] ـ مختص بالتائبين فيكون مخصصا لعموم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا﴾، أما على ما هو المذهب الحق من أنه ينبني العامّ على الخاص مطلقا، تقدم أو تأخر أو قارن ـ فظاهر، وأما على مذهب من قال: إن العامّ المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، فإذا سلمنا تأخر قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا﴾، على آية الفرقان، فلا نسلم تأخرها من العمومات القاضية بأن القتل مع التوبة من جملة ما يغفره الله، كقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 53]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116]، ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة، أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه، وما أخرجه الترمذيّ وصححه من حديث صفوان بن عسّال قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: باب من قبل المغرب يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة، خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، مفتوح للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، وأخرج الترمذيّ أيضا عن ابن عمر، أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، وأخرج مسلم من حديث أبي موسى؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، ونحو هذه الأحاديث مما يطول تعداده ـ لا يقال: إن هذه العمومات مخصصة بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ الآية، لأنا نقول: الآية أعم من وجه، وهو شمولها للتائب وغيره، وأخص من وجه، وهو كونها في القاتل، وهذه العمومات أعم من وجه، وهو شمولها لمن كان ذنبه القتل ولمن كان ذنبه غير القتل، وأخص من وجه، وهو كونها في التائب، وإذا تعارض عمومان لم يبق إلا الرجوع إلى الترجيح، ولا شك أن الأدلة القاضية بقبول التوبة مطلقا أرجح لكثرتها وهكذا أيضا يقال: إن الأحاديث بخروج الموحدين من النار وهي متواترة المعنى، كما يعرف ذلك من له إلمام بكتب الحديث، تدل على خروج كل موحد، سواء كان ذنبه القتل أو غيره، والآية القاضية بخروج من قتل نفسا هي أعم من أن يكون القاتل موحدا أو غير موحد، فيتعارض عمومان، وكلاهما ظنّي الدلالة، ولكن عموم آية القتل قد عورض بما سمعته، بخلاف أحاديث خروج الموحدين، فإنها إنما عورضت بما هو أعم منها مطلقا، كآيات الوعيد للعصاة الدالة على الخلود الشاملة للكافر والمسلم، ولا حكم لهذه المعارضة، أو بما هو أخص منها مطلقا، كالأحاديث القاضية بتخليد امرءا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجئت أسألك: هل سمعته يذكر في ذلك شيئا؟ قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفرا أو مسافرين، أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم، فقلت: هل سمعته يذكر في الهوى شيئا؟ قال: نعم، كنا مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في سفر، فبينما نحن عنده إذ ناداه أعرابيّ بصوت له جهوريّ: يا محمد! فأجابه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نحوا من صوته (هاؤم) وقلنا له: ويحك، اغضض من صوتك، فإنك عند النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد نهيت عن هذا، فقال: والله! لا أغضض، قال الأعرابيّ: المرء يحب القوم ولما يلحق بهم، قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم (المرء مع من أحب يوم القيامة)، فما زال يحدثنا حتى ذكر بابا من قبل المغرب مسيرة سبعين عاما، عرضه، أو يسير الراكب في عرضه، أربعين أو سبعين عاما)
13. ويتبيّن لك أيضا أنه لا حجة فيما احتج به ابن عباس من أن آية الفرقان مكية منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ الآية، كما أخرج ذلك عنه البخاريّ ومسلم وغيرهما، وكذلك لا حجة له فيما أخرجه النسائي والترمذيّ عنه: أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: يجيء المقتول متعلقا بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دما، يقول: يا رب! قتلني هذا، حتى يدنيه من العرش، وفي رواية للنسائيّ فيقول: أي رب! سل هذا فيم قتلني؟ لأن غاية ذلك وقوع المنازعة بين يدي الله عز وجل، وذلك لا يستلزم أخذ التائب بذلك الذنب، ولا تخليده في النار، على فرض عدم التوبة، والتوبة النافعة، هاهنا، هي الاعتراف بالقتل عند الوارث، إن كان له وارث، أو السلطان، إن لم يكن له وارث، والندم على ذلك الفعل، والعزم على ترك العود إلى مثله، لا مجرد الندم والعزم، بدون اعتراف، وتسليم للنفس أو الدية إن اختارها مستحقها، لأن حق الآدميّ لا بدّ فيه من أمر زائد على حقوق الله، وهو تسليمه أو تسليم عوضه بعد الاعتراف به، فإن قلت: فعلى ما تحمل حديث أبي هريرة وحديث معاوية المذكورين في أول الباب؟ فإن الأول يقضي بأن القاتل أو المعين على القتل يلقى الله مكتوبا بين عينيه: الإياس من الرحمة، والثاني يقضي بأن ذنب القتل لا يغفره الله ـ قلت هما محمولان على عدم صدور التوبة من القاتل، والدليل على هذا التأويل، ما في الباب من الأدلة القاضية بالقبول عموما وخصوصا، ولو لم يكن من ذلك إلا حديث الرجل القاتل للمائة، الذي تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وحديث عبادة بن الصامت المذكور قبله، فإنهما يلجئان إلى المصير إلى ذلك التأويل، ولا سيما مع ما قدمنا من تأخر تاريخ حديث عبادة، ومع كون الحديثين في الصحيحين، بخلاف حديث أبي هريرة ومعاوية، وأيضا في حديث معاوية نفسه ما يرشد إلى هذا التأويل، فإنه جعل الرجل القاتل عمدا مقترنا بالرجل الذي يموت كافرا، ولا شك أن الذي يموت كافرا مصرّا على ذنبه غير تائب منه، من المخلدين في النار، فيستفاد من هذا التقييد أن التوبة تمحو ذنب الكفر، فيكون ذلك القرين الذي هو القتل أولى بقبولها.
14. وقد قال العلامة الزمخشريّ في (الكشاف): إن هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب غليظ، قال: ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي، من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة، وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد: وإلّا فكل ذنب ممحوّ بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلا، ثم ذكر حديث: لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم، وهو عند النسائيّ من حديث بريدة، وعند ابن ماجة من حديث البراء، وعند النسائيّ أيضا من حديث ابن عمرو، أخرجه أيضا الترمذيّ.
15. قال ابن القيّم في (الجواب الكافي): لما كان الظلم والعدوان منافيين للعدل الذي قامت به السموات والأرض، وأرسل الله سبحانه رسله عليهم الصلاة والسلام وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ـ كان (أي الظلم) من أكبر الكبائر عند الله، وكانت درجته في العظمة بحسب مفسدته في نفسه: وكان قتل الإنسان المؤمن من أقبح الظلم وأشده، ثم قال: ولما كانت مفسدة القتل هذه المفسدة ـ قال الله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32]، ثم قال: وفي صحيح البخاريّ عن سمرة بن جندب قال: أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلا طيبا فليفعل، ومن استطاع أن لا يحول بينه وبن الجنة ملء كف من دم أهرقه فليفعل، وفي جامع الترمذيّ عن نافع قال: نظر عبد الله بن عمر يوما إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة منك، قال الترمذيّ هذا حديث حسن، وفي صحيح البخاريّ أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما، وذكر البخاريّ أيضا عن ابن عمر قال: من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفك الدم الحرام بغير حله، وفي الصحيحين عن أبي هريرة يرفعه: سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر، وفيهما أيضا عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، وفي صحيح البخاريّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما، هذه عقوبة قاتل عدوّ الله، إذا كان معاهدا في عهده وأمانه، فكيف بعقوبة قاتل عبده المؤمن؟ وإذا كانت امرأة قد دخلت النار، في هرة حبستها حتى ماتت جوعا وعطشا، فرآها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها، فكيف عقوبة من حبس مؤمنا حتى مات بغير جرم؟ وفي بعض السنن عن صلّى الله عليه وآله وسلّم: لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق.
16. وقال ابن القيّم أيضا قبل ذلك: وقد جعل الله سبحانه وتعالى جزاء قتل النفس المؤمنة عمدا، الخلود في النار وغضب الجبار ولعنته وإعداد العذاب العظيم له، هذا موجب قتل المؤمن عمدا ما لم يمنع منه مانع، ولا خلاف أن الإسلام الواقع بعد القتل، طوعا واختيارا، مانع من نفوذ ذلك الجزاء، وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه؟ فيه قولان للسلف والخلف، وهما روايتان عن أحمد، والذين قالوا: لا تمنع التوبة من نفوذه رأوا أنه حق لآدميّ لم يستوفه في دار الدنيا وخرج منه بظلامته فلا بد أن يستوفى له في دار العدل، قالوا: فما استوفاه الوارث فإنما استوفى محض حقه الذي خيره الله، من استيفائه والعفو عنه، وما ينفع المقتول من استيفاء وارثه؟ وأي استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه؟ وهذا أصح القولين في المسألة، إن حق المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث، وهي وجهان لأصحاب الشافعيّ وأحمد وغيرهما، ورأت طائفة أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث، فإن التوبة تهدم ما قبلها، والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه حده، قالوا: وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر، وهما أعظم إثما من القتل، فكيف تقصر عن محو أثر القتل؟ وقد قبل الله توبة الكفار الذين قتلوا أولياءهم، وجعلهم من خيار عباده، ودعا الذين أحرقوا أولياءه وفتنوهم عن دينهم ودعاهم إلى التوبة، وقال تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾، وهذا في حق القاتل، وهي تتناول الكفر فيما دونه، قالوا: وكيف يتوب العبد من الذنب ويعاقب عليه بعد التوبة؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه، قالوا: وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه، ولا يمكن تسليمها إلى المقتول، فأقام الشارع وليّه مقامه، وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول، بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه، فإنه يقوم مقام تسليمه للموروث، والتحقيق في المسألة أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق للّه، وحق للمظلوم المقتول، وحق للوليّ، فإذا سلّم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الوليّ، ندما على ما فعل، وخوفا من الله، وتوبة نصوحا ـ فقطع حق الله بالتوبة، وحق الوليّ بالاستيفاء أو الصلح أو العفو، وبقي حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن، ويصلح بينه وبينه، فلا يبطل حق هذا ولا تبطل توبة هذا.
17. من العلماء من اختار التوقف في هذا المقام، منهم الإمام أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليمانيّ، فإنه قال في كتابه (إيثار الحق) في (بحث الوعد والوعيد)، ما نصه: لا شك أن الاستثناء من الوعد والوعيد، وتخصيص العمومات بالأدلة المتصلة والمنفصلة مقبول، إما على جهة الجمع، ولا شك في جوازه وصحته وحسنه، والإجماع على ذلك وكثرة وقوعه من سلف الأمة وخلفها، بل لا شك في تقديمه في الرتبة والبداية بذلك قبل الترجيح، فإن تعذر الجمع فالترجيح، فإن وضح عمل به، فإن لم يتضح وجب الوقف لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36]، ولذلك اخترت الوقف في حكم قاتل المؤمن، بعد الانتصاف منه للمظلوم والقطع على أنه فاسق ملعون، واجب قتله والبراءة منه، والقطع أن جزاءه جهنم خالدا فيها، كما قال تعالى على ما أراد، وإنما وقفت في محل التعارض الذي أوضحته في (العواصم) لا على حسب ما قيل في أن الله تعالى في هذه الآية، هل بيّن جزاءه الذي له أن يفعله إن شاء؟ أو بيّن جزاءه الذي تخيّر له في تنجيزه حين لم يبق إلا حقه بعد استيفاء حق المظلوم المقتول؟ والله سبحانه أعلم، فمن رجح الجمع بين وعيد القاتل وبين قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، وسائر آيات الرجاء وأحاديثه ـ قال بالأول، ومن رجح وعيد القاتل في هذه الآية، وفي الأحاديث المخصصة لقتل المؤمن، بقطع الرجاء، كما أوضحته في (العواصم) ـ رجح وعيد القاتل، ومن تعارضت عليه ولم ير في تنجيز الاعتقاد مصلحة ولا له موجبا ولا إليه ضرورة ـ رجح الوقف، والله عند لسان كل قائل ونيته، ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه، وعليه عمل علماء الإسلام في أدلة الشريعة، ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع، واضطر إلى التحكم والتلوّن من غير حجة بيّنة وقد أجمع من يعتدّ به من المسلمين على تخصيص الصغائر من آيات الوعيد العامة على جميع المعاصي، متى كان أهل الصغائر من المسلمين، ولم يلزم من ذلك خلف في آيات الوعيد ولا كذب ولا تكذيب لشيء منها، فكذلك سائر ما صح من أحاديث الرجاء ليس فيه مناقضة لعمومات آيات الوعيد، ولا يستلزم تجويز الخلف على الله تعالى، وذلك باب واحد، ولذلك اشتهرت أحاديث الرجاء في عصر الصحابة والتابعين، ولم ينكرها أحد، بل رواتها أكابرهم وأئمتهم، وفي (العواصم) من ذلك عن عليّ عليه السلام بضعة عشر أثرا، بل المخصصات للعمومات في ذلك قرآنية، وعمومات الوعد مانعة قبل تخصيص الوعيد من الجزم على وقوع عمومه دون عموم الوعد، على أن الخلف عند جماعات كثيرة لا يكون إلا في عدم الوفاء بالوعد بالخير، وأما الوعيد بالشر فقد اختلف في تركه، وأجمعوا على أنه يسمى عفوا، كما قال كعب بن زهير:
çأنبئت أن رسول الله أوعدني...والعفو عند رسول الله مأمولé
وإنما اختلفوا، مع تسميته عفوا، هل يسمى خلفا أم لا؟ ومن منع من ذلك، منع صحة النقل له لغة، واحتج على امتناعه بأنه لا يصح اجتماع اسم مدح واسم ذم على مسمى واحد.
18. تشرع الكفارة في قتل العمد، لما رواه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع قال: أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم نفر من بني سليم فقالوا: إن صاحبا لنا قد أوجب، قال: فليعتق رقبة، يفدي الله بكل عضو منها عضوا منه في النار، ورواه أيضا بسند آخر عنه، قال: أتينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في صاحب لنا قد أوجب، قال: أعتقوا عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار، وهذا رواه أبو داود والنسائيّ، ولفظ أبي داود: قد أوجب (يعني النار) بالقتل.
19. قال الشوكانيّ في (نيل الأوطار): في حديث واثلة دليل على ثبوت الكفارة في قتل العمد، وهذا إذا عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية، وأما إذا اقتصّ منه فلا كفارة عليه بل القتل كفارته، لحديث عبادة المذكور في الباب، ولما أخرجه أبو نعيم في (المعرفة): أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: القتل كفارة، وهو من حديث خزيمة بن ثابت، وفي إسناده ابن لهيعة، قال الحافظ: لكنه من حديث ابن وهب عنه فيكون حسنا، ورواه الطبرانيّ في الكبير عن الحسن بن عليّ موقوفا عليه.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/263
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لا مانع من تعدد الوقائع قبل نزول الآية(2) لأن مثل هذا من شأنه أن يقع في مثل تلك الحال، وقد أورد الروايات ابن جرير بزيادة تفصيل والآية متصلة بما قبلها والظاهر أنها نزلت معها بعد وقوع تلك الحوادث وأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقرأها على أصحاب كل واقعة فيرون أنهم سبب نزولها.
2. قال محمد عبده: بين الله تعالى في الآية السابقة بعض أحكام المنافقين ومنه نهي المؤمنين أن يتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا ومنها أن الذين يلقون إلى المؤمنين السلم ويعتزلون قتالهم لا يجوز لهم أن يقاتلوهم، فنهى عن قتل من لم يقاتل، ثم ذكر أنه ليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمنا إلا على سبيل الخطأ، وبعد هذا أراد تعالى أن ينبه المؤمنين على ضرب من ضروب قتل الخطأ كان يحصل في ذلك العهد عند السفر إلى أرض المشركين، وذلك أن الإسلام كان قد انتشر ولم يبق مكان في بلاد العرب وقبائلهم يخلو من المسلمين أو ممن يميلون إلى الإسلام ويتربصون الفرص للاتصال بأهله للدخول فيهم فأعلم الله المؤمنين بذلك وأمرهم أن لا يحسبوا كل من يجدونه في دار الكفر كافرا وأن يتبينوا فيمن تظهر منهم علامات الإسلام كالشهادة أو السلام الذي هو تحية المؤمنين وعلامة الأمن والاستئمان، وأن لا يحملوا مثل هذا على المخادعة إذ ربما يكون الإيمان قد طاف على هذه القلوب وألمّ بها إن لم يكن تمكن فيها، وقد أفادت الآية أن ما سبق من قتل من ألقى السلام لشبهة التقية قد مضى على أنه من قتل الخطأ وأن الله تعالى أراد بإنزالها أن يعد ما يقع منه بعد نزولها من قتل العمد لأنه أمر فيها بالتثبت ونهى عن إنكار إسلام من يدعي الإسلام ولو بإلقاء تحيته فكيف بمن ينطق بالشهادتين، ثم ذكر ما من شأنه أن يقوي الشبهة في نفس من يظن أن إظهار الإسلام لأجل التقية وهو ابتغاء عرض الحياة الدنيا، فهدى المؤمن بهذا إلى أن يتهم نفسه ويفتش عن قلبه ولا يبني الظن على ميله وهواه، بل أوجب عليه أن يبني على الظاهر ويقبله حتى يتبن له خلافه.
3. ويزاد على هذا أن إلقاء السلام قد يكون إلقاء للسلم وإيذانا بعدم الحرب، وقرئ في المتواتر (السلم) كما يأتي قريبا وقد علم من الآيات السابقة في هذا السياق نفسه النهي عن قتل الذين يعتزلون القتال ويكفون أيديهم عنه ويلقون السلم إلى المؤمنين فليس الإسلام وحده هو المانع من القتل، إذ ليس الكفر وحده هو الموجب له، وإنما كان الكفار هم الذين بدأوا المسلمين بالحرب وما كان القتال في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا دفاعا حتى في الغزوات التي صورتها صورة المهاجمة وما هي إلا مهاجمة قوم حرب يدعون إلى السلم فلا يجيبون، وما رضوا بالسلم مرة وأباها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى في صلح الحديبية التي ثقلت فيها شروط المشركين على المؤمنين، وكيف يأباها والله تعالى يقول له: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال: 62] وقد أشار شيخ المفسرين ابن جرير الطبري إلى هذا فاشترط فيمن يباح قتله أن يكون حربا للمسلمين، وإننا نذكر عبارته في ذلك، وعليها نعتمد في جل تفسير الآية قال: يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ياأيها الذين صدقوا الله وصدقوا رسوله فيما جاءهم به من عند ربهم: ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إذا سرتم مسيرا لله في جهاد أعدائكم ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ يقول فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينا حربا لكم ولله ولرسوله: ﴿ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم﴾ يقول ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا أي طلبا لمتاعها الذي هو عرض زائل، وما أذن الله لكم في قتال الذين يقاتلونكم لتكونوا مثلهم في أطماعهم الدنيوية بل للدفاع عن الحق وإعلاء كلمته ونشر هدايته ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ من رزقه وفواضل نعمه.
4. هذا ما قاله ابن جرير ذكرناه بلفظه إلا تفسير قوله تعالى: ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ الخ فقد ذكرناه بالمعنى مع زيادة ما، والتبين طلب بيان الأمر، وقرأ حمزة والكسائي (فتثبتوا) في الموضعين من التثبيت في الأمر وهو التأني واجتناب العجلة، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة (السلم) بغير ألف وهو كالسلم بكسر السين ضد الحرب، وبه فسر بعضهم قراءة الباقين (السلام) بالسلم وهو معناه الأصلي والضرب في الأرض ضربها بالأجل في السفر.
5. أما قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ ففيه وجهان:
أ. أحدها: أنكم كنتم كذلك تستخفون بدينكم كما استخفى بدينه من قومه هذا الذي ألقى إليكم السلام فقتلتموه إلى أن لحق بكم، أي فإنه ما بقي يخفي الإسلام بينهم، إلا خوفا على نفسه منهم، وكذلك كان السابقون الأولون وهم خيار المؤمنين يخفون إسلامهم حتى أسلم عمر فأظهر إسلامه وحملهم على إظهار إسلامهم ثم كان من بعدهم إذا أسلم يخفي إسلامه حتى يتيسر له الهجرة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بالهجرة والقوة حتى أظهرتم الإسلام ونصرتموه.
ب. الثاني: أنكم كذلك كنتم كفارا مثل من قتلتم بتهمة الكفر فمن الله عليكم بالهداية إلى الإسلام فمنكم من أسلم لظهور حقية الإسلام له من أول وهلة ومنكم من أسلم تقية أو لسبب آخر ثم حسن إسلامه عندما خبر الإسلام وعرف محاسنه.
6. وقيل معنى: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أنه تفضل عليك بالتوبة من قتل من قتلتموه بهذه التهمة التي كنتم مثله فيها ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أي اطلبوا البيان أو كونوا على بينة من الأمر تقدمون عليه ولا تأخذوا بالظن ولا بالظنة (التهمة)، أو تثبتوا ولا تعجلوا بعد في مثل هذا.
7. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ لا يخفى عليه شيء من نيتكم فيه ومن المرجح له هل هو محض الدفاع عن الحق أم ابتغاء الغنيمة، قال محمد عبده: هذا تأكيد لذلك التنبيه في قوله: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ لأجل التحذير من الوقوع في مثل هذا الخطأ فهو شبيه بالوعيد، ويحتمل أن يكون وعيدا إذا قلنا إن قوله تعالى: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ حكم جديد بأن قتل من ألقى السلام يعدّ من قتل المؤمن عمدا، والمعنى أن الله تعالى خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء من مرجحات الحمل عليها في نفوسكم فإن كان فيه ابتغاء حظ الحياة الدنيا فهو يجازيكم على ذلك فلا تغفلوا، بل تثبتوا وتبينوا، وحكم الآية يعمل به بصرف النظر عن سبب نزولها وهو أن كل من أظهر الإسلام يقبل منه ويعد مسلما ولا يبحث عن الباعث له على ذلك، ولا يتهم في صدقه وإخلاصه.
8. فأين هذا من حرص من لم يهتدوا بكتاب الله في إسلامهم ولا في عملهم بأحكامه على تكفير من يخالف أهواءهم من أهل القبلة بل من أهل العلم الصحيح والدعوة إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم!! فليعتبر المعتبرون.
9. هذا وإن الجاهلين بتاريخ الإسلام، وبأحوال الأمم والدول إلى هذا الزمان، يظنون أن الصحابة كانوا ملومين في أخذ الغنائم ممن يظفرون بهم، وأن بعض أمم الحضارة صارت أرقى في هذا الأمر منهم، وأن قوانينها في الحرب أقرب إلى النزاهة والعدل من أحكام الإسلام، وكيف هذا وقوانين الدول المرتقية كلها تبيح أخذ كل ما تصل إليه اليد من أموال المحاربين؟ لا يصدهم عن ذلك سلاح ولا دين، وقد علمت من هذه الآيات أن الإسلام يمنع قتل من يظهر الإسلام، ومن يلقي السلم أو السلام، ومن بينه وبين المسلمين عهد وميثاق، إما على المناصرة وإما على ترك القتال، ومن اتصل بأهل الميثاق المعاهدين، ومن اعتزل القتال فلم يساعد فيه قومه المقاتلين، وبعد هذا كله رغب عن ابتغاء عرض الدنيا بالقتال، ليكون لمحض رفع البغي والعدوان، وتقرير الحق والإصلاح، ولا هم لجميع الدول والأمم الآن، إلا الربح وجمع الأموال، وهم ينقضون العهد والميثاق مع الضعفاء، ولا يلتزمون حفظ المعاهدات إلا مع الأقوياء، وهو ما شدد الإسلام في حفظه، وحافظ عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في عهده، وحافظ عليه خلفاؤه الراشدون من بعده، فأين أرقى أمم المدنية من أولئك الأئمة المهديين.
__________
(1) تفسير المنار: 5/281.
(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ خالدا فيها أي ماكثا إلى الأبد أو ماكثا مكثا طويلا، غضب الله عليه أي انتقم منه، لعنه: أبعده عن رحمته، أعد له: أي هيأ له، وللعلماء في توبة قاتل المؤمن عمدا آراء ثلاثة:
أ. يرى ابن عباس وفريق من السلف أن قاتل المؤمن عمدا لا تقبل له توبة وهو خالد في النار أبدا، ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد والنسائي عن معاوية قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا)، وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله تعالى)، وروى عن البراء بن عازب أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله من قتل مؤمن، ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله تعالى النار)، وعن ابن عمر أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبّهم الله تعالى على مناخرهم في النار وإن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر به)، وهؤلاء يرون أن التائب من الشرك وقد كان قاتلا زانيا تقبل توبته ولا تقبل توبة المؤمن الذي ارتكب القتل وحده، إذ الأول لم يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور فله شبه عذر إذا هو كان متبعا لهواه بالكفر وما يتبعه ولم يكن ظهر له صدق النبوة فلما ظهر له الدليل على أن ما كان عليه كفر وضلال وتاب وأناب وعمل صالحا كان جديرا بالعفو، وأما المؤمن الموقن بصحة النبوة وحرمة القتل فلا عذر له، إذ هو يعلم أن المؤمن أخ له ونصير، فكيف يعمد بعد هذا إلى الاستهانة بأمر الله وحكمه وتوهين أمر دينه بهدم أركان قوته، ومن ثم يهن المسلمون ويضعفون ويكون بأسهم بينهم شديدا، وإنك لترى أنه ما انحلت الرابطة بين المسلمين وانفصمت عروة الوفاق بينهم إلا بعد أن أقدم بعضهم على سفك دماء بعض ورجحوا شهوة الغضب والانتقام على أمر الله تعالى، ومن رجح شهوات نفسه الضارة على أمر الله وعلى مصلحة المؤمنين بغير شبهة فهو جدير بالخلود في النار والغضب واللعنة، إذ هؤلاء قد تجرءوا على حدود دينه ولم يبق للشرع حرمة في قلوبهم، قال في الكشاف: هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد، والإبراق والإرعاد، أمر عظيم، وخطب جليل، ومن ثم روى عن ابن عباس أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة.. والعجب من قوم يقرءون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث (الأحاديث التي تقدم ذكرها) وقول ابن عباس بمنع التوبة ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم هواهم وما يخيل إليهم منالهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟) اه.
ب. يرى فريق آخر أن المراد بالخلود المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص القاطعة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم، وما في الآية إخبار من الله بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه ذلك كما جاء في قوله عزّ اسمه ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ فإنه لو كان المراد منها أنه سبحانه يجزى كل سيئة بمثلها لعارضه قوله جل شأنه ﴿وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾ ومن ثم روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مرفوعا أنه قال هو جزاؤه إن جازاه، وبهذا قال جمع من العلماء وقالوا هو كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلت فجزاؤك القتل والضرب، وهو إن لم يجازه لم يكن كذابا، وقد روى عن ابن عباس جواز المغفرة بلا توبة أيضا، وقال في الآية هي جزاؤه، فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
ج. ويرى فريق ثالث أن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل، وحكمه مما لا شك فيه، وعكرمة وابن جريج فسرا متعمدا مستحلا في الآية، أي: ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله مستحلا له، فجزاؤه جهنم خالدا فيها أبدا.
__________
(1) تفسير المراغي 5/124.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذلك القتل الخطأ، فأما القتل العمد، فهو الكبيرة التي لا ترتكب مع إيمان؛ والتي لا تكفر عنها دية ولا عتق رقبة؛ وإنما يؤكل جزاؤها إلى عذاب الله: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾.. إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب ـ بغير حق ـ ولكنها كذلك جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة، التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم، إنها تنكر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها.
2. ومن ثم قرنت بالشرك في مواضع كثيرة؛ واتجه بعضهم ـ ومنهم ابن عباس ـ إلى أنه لا توبة منها.. ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.. فرجا للقاتل التائب المغفرة.. وفسر الخلود بأنه الدهر الطويل.
3. والذين تربوا في مدرسة الإسلام الأولى، كانوا يرون قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم، ـ قبل إسلامهم ـ يمشون على الأرض ـ وقد دخلوا في الإسلام ـ فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة، ولكنهم لا يفكرون في قتلهم، لا يفكرون مرة واحدة؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشد الحالات وجدا ولذعا ومرارة، بل إنهم لم يفكروا في إنقاصهم حقا واحدا من حقوقهم التي يخولها لهم الإسلام.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/740.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا هو حكم قاتل المؤمن عمدا.. لا يقبل منه تحرير رقبة مؤمنة، ولا دية مسلّمة إلى أهل القتيل، ولا صيام شهرين متتابعين.. إنه فعلته تلك أكبر من أن يكون في هذه الدنيا ما يقوم لها، ويسوّى حسابها، وليس غير العذاب، والخلود في هذا العذاب، مصحوبا بغضب الله ولعنته ـ ليس غير هذا جزاء وفاقا لهذا الجرم العظيم..
2. وعلى قدر ما كانت رحمة الله وعفوه عن القاتل خطأ، بقدر ما كانت نقمة الله، وغضبه، ولعنته، على القاتل عمدا! ولهذا كان إهلاك هذه النفس المجرمة، والقصاص منها في الدنيا، هو الحكم الذي يؤخذ به قاتل النفس المؤمنة عمدا، وإنه لا وجه لاستبقائه في هذه الحياة، ولا داعية لاستصلاحه، فقد وقع عليه غضب الله ولعنته، منذ أول قطرة دم سفكها من دم هذا المؤمن البريء.. ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ [النساء: 52]
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/869.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس، وإنّما أخّر لتهويل أمره، فابتدأ بذكر قتل الخطأ بعنوان قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء: 92]
2. المتعمّد: القاصد للقتل، مشتقّ من عمد إلى كذا بمعنى قصد وذهب، والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلا لا يفعله أحد بأحد إلّا وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تزهق به الأرواح في متعارف الناس، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء، ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء: القتل نوعان عمد وخطأ، وهو الجاري على وفق الآية، ومن الفقهاء من جعل نوعا ثالثا سمّاه شبه العمد، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية، إن صحّت فتأويلها متعيّن وتحمل على خصوص ما وردت فيه، وذكر ابن جرير والواحدي أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ مقيسا بن صبابة وأخاه هشام جاءا مسلمين مهاجرين فوجد هشام قتيلا في بني النجّار، ولم يعرف قاتله، فأمرهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بإعطاء أخيه مقيس مائة من الإبل، دية أخيه، وأرسل إليهم بذلك مع رجل من فهر فلمّا أخذ مقيس الإبل عدا على الفهري فقتله، واستاق الإبل، وانصرف إلى مكة كافرا، وأنشد في شأن أخيه:
çقتلت به فهرا وحمّلت عقله...سراة بني النجّار أرباب فارع
حللت به وترى وأدركت ثؤرتي...وكنت إلى الأوثان أوّل راجعé
وقد أهدر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دمه يوم فتح مكة، فقتل بسوق مكة.
3. ﴿خَالِدًا فِيهَا﴾ محمله عند جمهور علماء السنّة على طول المكث في النار لأجل قتل المؤمن عمدا، لأنّ قتل النفس ليس كفرا بالله ورسوله، ولا خلود في النار إلّا للكفر، على قول علمائنا من أهل السنّة، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث، وهو استعمال عربي، قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر:
çونحن لديه نسأل الله خلده...يردّ ملكا وللأرض عامراé
ومحمله عند من يكفّر بالكبائر من الخوارج، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر، على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة.
4. وكلا الفريقين متّفقون على أنّ التوبة ترد على جريمة قتل النفس عمدا، كما ترد على غيرها من الكبائر، إلّا أنّ نفرا من أهل السنّة شذّ شذوذا بيّنا في محمل هذه الآية، فروي عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس: أنّ قاتل النفس متعمّدا لا تقبل له توبة، واشتهر ذلك عن ابن عباس وعرف به، أخذا بهذه الآية، وأخرج البخاري أنّ سعيد بن جبير قال: آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس، فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ الآية: هي آخر ما نزل وما نسخها شيء فلم يأخذ بطريق التأويل، وقد اختلف السلف في تأويل كلام ابن عباس، فحمله جماعة على ظاهره، وقالوا: إنّ مستنده أنّ هذه الآية هي آخر ما نزل، فقد نسخت الآيات التي قبلها، التي تقتضي عموم التوبة، مثل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116]، فقاتل النفس ممن لم يشإ الله يغفر له ومثل قوله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82]، ومثل قوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ [الفرقان: 68، 69]، والحقّ أنّ محلّ التأويل ليس هو تقدّم النزول أو تأخّره، ولكنّه في حمل مطلق الآية على الأدلّة التي قيّدت جميع أدلّة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة، فأمّا حكم الخلود فحمله على ظاهره أو على مجازه، وهو طول المدّة في العقاب، مسألة أخرى لا حاجة إلى الخوض فيها حين الخوض في شأن توبة القاتل المتعمّد، وكيف يحرم من قبول التوبة، والتوبة من الكفر، وهو أعظم الذنوب مقبولة، فكيف بما هو دونه من الذنوب، وحمل جماعة مراد ابن عبّاس على قصد التهويل والزجر، لئلّا يجترئ الناس على قتل النفس عمدا، ويرجون التوبة، ويعضدون ذلك بأنّ ابن عباس روي عنه أنّه جاءه رجل فقال: (ألمن قتل مؤمنا متعمّدا توبة) فقال: (لا إلّا النار)، فلمّا ذهب قال له جلساؤه (أهكذا كنت تفتينا فقد كنت تقول إنّ توبته مقبولة) فقال: (إنّي لأحسب السائل رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا)، قل: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك، وكان ابن شهاب إذا سأله عن ذلك من يفهم منه أنّه كان قتل نفسا يقول له: (توبتك مقبولة) وإذا سأله من لم يقتل، وتوسّم من حاله أنّه يحاول قتل نفس، قال له: لا توبة للقاتل.
5. هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسّرين كما علمت، وملاكه أنّ ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ:
أ. فرأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره، دون تأويل، لشدّة تأكيده تأكيدا يمنع من حمل الخلود على المجاز، فيثبت للقاتل الخلود حقيقة، بخلاف بقية آي الوعيد، وكأنّ هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمة أو منسوخة، لأنّهم لم يجدوا ملجأ آخر يأوون إليه في حملها على ما حملت عليه آيات الوعيد من محامل التأويل، أو الجمع بين المتعارضات، فآووا إلى دعوى نسخ نصّها بقوله تعالى في سورة الفرقان [68، 69]: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ لأنّ قوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ إمّا أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمدا أجدر، وإمّا أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمدا مما عدّ معها، ولذا قال ابن عباس لسعيد بن جبير: إنّ آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا، ثم أن يطال وتتناقله الناس وتمرّ عليه القرون، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة، وذهب فريق إلى الجواب بأنّها نسخت بآية: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، بناء على أنّ عموم ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ نسخ خصوص القتل.
ب. وذهب فريق إلى الجواب بأنّ الآية نزلت في مقيس بن صبابة، وهو كافر ـ فالخلود لأجل الكفر، وهو جواب مبني على غلط لأنّ لفظ الآية عامّ إذ هو بصيغة الشرط فتعيّن أنّ (من) شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معيّن؛ إلّا عند من يرى أنّ سبب العامّ يخصّصه بسببه لا غير، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه.
6. وهذه كلّها ملاجئ لا حاجة إليها، لأنّ آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها حتّى الكفر، على أنّ تأكيد الوعيد في الآية إنّما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيدا لا في تعيين المتوعّد به وهو الخلود، إذ المؤكّدات هنا مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّدا لمدلول الآخر بل إنّما أكّدت الغرض، وهو الوعيد، لا أنواعه، وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة، وهو الذي يتعيّن اللجأ إليه، والتعويل عليه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/223.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآية السابقة بين ـ سبحانه وتعالى ـ حكم القتل الخطأ، وفصل القول فيه تفصيلا؛ فذكر الحكم إذا كان المقتول من قوم أعداء للمؤمنين، والحكم إذا كان من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق، والحكم إذا كان المقتول من المؤمنين الذين ينتمون إلى الدولة الإسلامية، وفى هاتين الآيتين يبين سبحانه أمرين: أولهما: حكم قتل المؤمن متعمدا، وثانيهما: وجوب تجنب الخطأ عند الجهاد، فإن الجهاد والضرب في الأرض مظنة قتل غير المقاتل، أو غير المعتدى، وفى حال قتل غير المعتدى يكون القتل عمدا، ولكن على أساس وصف من الأوصاف المسوغة للقتال، فوجب الاحتراز منه، ولأن فيه نوعا من القصد والتعمد، جاء بعد حكم القتل المتعمد، الذى بينه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾
2. تبين تلك الجملة السامية عظم الجرم في القتل المتعمد المقصود، سواء أكان بآلة من شأنها أن تقتل كالرصاصة أو السيف أو السكين، أم كان بآلة ليس من شأنها أن تقتل، ولكن قصد بها القتل، وكان الضرب في مقتل، فإن القتل في كلتا الحالين مقصود متعمد، يعلم الله تعمده وقصده، والتفرقة بين ما يكون بآلة تقتل، وأخرى لا تقتل، هى تفرقة في الأحكام الدنيوية، والآية هنا تبين الحكم الأخروى، وهو الدخول في جهنم، أما الحكم الدنيوى، وهو القصاص الذى ثبت بآية القصاص، وقال فيه سبحانه: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة]، فهو الذى فرق فيه بعض الفقهاء بين القتل الذى يكون بآلة من شأنها أن تقتل، والقتل بآلة لا تقتل، ومع ذلك لم يفرق في الحكم مالك إمام دار الهجرة بين الأمرين، ما دام قد ثبت العدوان والقصد إلى القتل.
3. الجزاء الأخروى صارم قاطع، فهو جهنم والمكث فيها على الدوام، إن كان قد استباح ذلك، ولم يؤمن بحرمته، ولم يتب عن جريمته؛ ولا نجد قاتلا يقتل غيره إلا وهو مستحل لدمه مستبيح له! أفلا يستحق بهذا أن يخلد في النار ما لم يتب ويقدم رقبته، أو يعفو عنه أولياء المقتول؟ والمعتزلة الذين يقولون: إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ويخلد في النار، يستدلون بهذه الآية، ونحن نقول: إن خلوده في النار ليس لمجرد الفعل، بل لاستباحة القتل، وإنكاره التحريم، ولا يوجد قاتل عند ارتكابه تلك الجريمة التى تعد أكبر جريمة في الوجود، لا يستبيح فعله، فكانت العقوبة على الاستباحة، والنبى صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول فيما يروى عنه: (لزوال السموات والأرض أهون عند الله من قتل امرئ مسلم بغير حق)
4. ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ هاتان عقوبتان معنويتان، وثالثة مادية، أما المعنويتان فهما الطرد من رحمته الذى عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله: (ولعنه)، وأى عقوبة أعظم من الطرد من رحمة الله تعالى، ونفحاته القدسية، ووادى رحمته المشرق المنير؟ والعقوبة المعنوية الثانية هى غضب الله تعالى، وغضب الله من أشد عقابه، كما أن رضوانه أعظم ثوابه، وكيف لا يغضب رب العالمين من يهدم ما بناه سبحانه في خلق الإنسان الذى سواه وعدله في أحسن تقويم!؟
5. أما العقوبة المادية، فقد أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾، وهذه إشارة إلى عظم الجريمة؛ لأن العقوبة العظيمة لا تكون إلا لجرم عظيم، وأى جرم أعظم من هدم بناء الإنسان الذى سجد له الملائكة، ولعن من أجله إبليس وطرد من رحمة الله؟ حتى لقد قال بعض العلماء: إن من قتل قتلا عمدا لا تقبل له توبة، ونحن نخالف في ذلك ونقول: تقبل التوبة بحقها، وهي أن يقدم رقبته جزاء جريمته، أو يعفو ولى الدم.
6. أما العذاب العظيم، فهو ما قرره سبحانه وتعالى في الدنيا من قصاص، وفى الآخرة من نيران شديدة، وقد يقال: أليس هذا تكرارا لقوله تعالى: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾؟ ونقول، لا تكرار؛ لأن هذا الجزاء في مقابل جزاء من قتل خطأ وفى هذا الجزء الأخير بين سبحانه أن هذا الجزاء معد بالفعل يوم القيامة، فبين سبحانه وتعالى العقوبة وتنفيذها، وأنها لا هوادة فيها، ولا تسامح بالنسبة لمرتكبها.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1804.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾، أشرنا في صدر الكلام رقم إلى حكم القاتل عمدا، وانه القتل إلا أن يعفو الولي، وذكر الله سبحانه في هذه الآية ان جزاءه في الآخرة الخلود في جهنم، والغضب واللعنة من الله، والعذاب العظيم.
2. هذه العقوبات الأربع كلها تأكيد وعطف تفسير، والقصد التعظيم من اثر هذه الجريمة الشنعاء، وانها من الكبائر التي لا يعادلها الا الكفر، قال بعض الفقهاء: انها من أظهر أفراد الكفر ومعانيه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/409.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ التعمد هو القصد إلى الفعل بعنوانه الذي له، وحيث إن الفعل الاختياري لا يخلو من قصد العنوان وكان من الجائز أن يكون لفعل أكثر من عنوان واحد أمكن أن يكون فعل واحد عمديا من جهة خطائيا من أخرى فالرامي إلى شبح وهو يزعم أنه من الصيد وهو في الواقع إنسان إذا قتله كان متعمدا إلى الصيد خاطئا في قتل الإنسان، وكذا إذا ضرب إنسانا بالعصا قاصدا تأديبه فقتلته الضربة كان القتل قتل خطإ، وعلى هذا فمن يقتل مؤمنا متعمدا هو الذي يقصد بفعله قتل المؤمن عن علم بأنه قتل وأن المقتول مؤمن.
2. وقد أغلظ الله سبحانه وتعالى في وعيد قاتل المؤمن متعمدا بالنار الخالدة غير أنك عرفت في الكلام على قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: 48] أن تلك الآية، وكذا قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 53] تصلحان لتقييد هذه الآية فهذه الآية توعد بالنار الخالدة لكنها ليست بصريحة في الحتم فيمكن العفو بتوبة أو شفاعة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/41.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ ﴿مُتَعَمِّدًا﴾ بأن يوقع به ما هو عالم أنه يقتل في العادة من جرح، أو سقي سم، أو إلقاء من شاهق، ولو لم يكن غرضه قتله بل غرضه البطش به وإيجاعه غير مبالٍ بقتله، وهذا قد يكون في حال الغضب ـ نعوذ بالله منه.
2. ﴿فَجَزَاؤُهُ﴾ عقوبته في الآخرة نار ﴿جَهَنَّمَ خَالِدًا﴾ باقياً لا يموت ﴿فِيهَا﴾ في نار جهنم ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ فلا يفتر عنه العذاب، ولا تنفعه شفاعة، ولا تسمع له شكوى؛ لأن السياق يفيد أن ذكر الغضب للدلالة على غايته وما يؤدي إليه ﴿وَلَعَنَهُ﴾ طرَدَه من رحمته، إما في الآخرة بإبعاده من الرحمة في جهنم تغلق عليه أبوابها، وإما في الدنيا بسلب التوفيق للتوبة، ثم في الآخرة.
3. ﴿وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ إعداد الشيء من المخلوق: تحصيله ليستعمل في المستقبل حين يجيء وقت استعماله، كإعداد القوة للعدو لتستعمل في المستقبل عند القتال، أما إعداد الله سبحانه فيحتمل أن يكون هو الحكم بالشيء وتقديره؛ لأنه قادر على تحصيله في وقته فهو كالموجود وهذا وإن كان مجازاً فهو قريب، ويحتمل: أن إعداد العذاب العظيم إيجاد جهنم كما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحَمْل ذلك على المجاز يحتاج إلى قرينة.
4. سؤال وإشكال: القرينة الدليل العقلي وهو أن الله قادر على إيجادها في وقتها ولا فائدة في تعجيل خلقها قبل وقتها لإعدادها؟ والجواب: بأن نفي الفائدة يحتاج إلى دليل؛ لأن من الممكن أن في خلقها حكمةً لا نعلمها، أعني في إعدادها كما يخلق للإنسان رجلين قبل وقت المشي ويَدَين قبل وقت البطش وغير ذلك، ويمكن أن يكون في ذلك آية لمن يشاهدها من الملائكة وتذكير عظيم يزداد به إيمانهم أو غير ذلك من الحكمة والله أعلم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/144.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أما قتل العمد، فلم تتعرض الآية إلى نتائجه على مستوى الجزاء الدنيوي، لأن ذلك مما تحدث عنه القرآن في سورة البقرة؛ بل تعرضت إلى الجزاء الأخروي.
2. ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ إذ ذاك من الكبائر التي يستحق عليها الخلود في النار، لأن تعمّد قتل المؤمن يدل على نفسية خبيثة حاقدة، لا تحترم الحياة ولا تحترم الإيمان، وقد وردت في السنّة أحاديث تدل على أن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة سبعين مرة، مما يوحي بالفكرة التي قدمناها في بداية الحديث بأنّ قيمة حياة المؤمن عند الله في المستوى الكبير من الأهمية والاحترام.
3. ولكن ذلك لا يمنع من قبول توبة القاتل إذا تاب للَّه وندم على فعله، مع الاحتفاظ بحق أولياء الدم في القصاص أو الدية، فإن الله يغفر الذنوب جميعا ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء ويقبل التوبة عن عباده، حتى أن الشرك يمكن أن يغفره الله لمن تاب عنه ودخل في الإسلام.
4. أما قضية الحديث عن الخلود في النار للقاتل، فإنها تتصل بالاستحقاق كأية معصية كبيرة، ولا تتصل بالفعلية، كأيّ ذنب من الذنوب التي يستحق الإنسان عليها العقاب، ولكن يمكن للعفو الإلهي أن ينال المذنبين إذا تابوا وإذا انفتحت عليهم رحمة اللَّه، وعلى ضوء هذا، فلا بد من تأويل الروايات الدالة على أنه (لا توبة لقاتل المؤمن إلا إذا قتله في حال الشرك ثم أسلم وتاب) كما عن ابن عباس ـ بحملها على عدم سقوط القصاص بتوبته، باعتبار أن ذلك يدخل في حقوق الناس لا في حق الله المجرد، مما يجعل القضية خاضعة لموقف أولياء الدم، وربما تحمل هذه الروايات على سلوك سبيل التغليظ في القتل، كما روي عن سفيان الثوري أنّه سئل عن توبة القاتل، فقال: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وإذا ابتلي الرّجل قالوا له: تب، وروى الواحدي بإسناده مرفوعا إلى عطاء عن ابن عباس أن رجلا سأله: القاتل المؤمن توبة؟ فقال: لا، وسأله آخر: ألقاتل المؤمن توبة؟ فقال: نعم، فقيل له في ذلك، فقال: جاءني ذلك ولم يكن قتل، فقلت: لا توبة لك لكي لا يقتل، وجاءني هذا وقد قتل، فقد قلت: لك توبة لكي لا يلقي نفسه بيده إلى التهلكة، وقد نقل صاحب مجمع البيان عن بعض الإمامية أن قاتل المؤمن لا يوفق للتوبة، بمعنى أنه لا يختار التوبة، ونلاحظ عليه أنّ هذا خلاف الواقع، لأننا نعرف الكثيرين من القتلة تابوا توبة نصوحا، وندموا على ذلك.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/404
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قررت الآية ـ موضوع البحث ـ أربع عقوبات أخروية لمرتكب القتل العمد، وعقوبة أخرى دنيوية هي القصاص، والعقوبات الأخروية هي:
أ. الخلود والبقاء الأبدي في نار جهنم، حيث تقول الآية: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾
ب. احاطة غضب الله وسخطه بالقاتل: ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾
ج. الحرمان من رحمة الله: ﴿وَلَعَنَهُ﴾
د. العذاب العظيم الذي ينتظره يوم القيامة: ﴿وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ والملاحظ هنا أن العقاب الأخروي الذي خصصه الله للقاتل في حالة العمد، هو أشدّ أنواع العذاب والعقاب بحيث لم يذكر القرآن عقابا أشدّ منه في مجال آخر أو لذنب آخر.
أمّا العقاب الدنيوي الذي وردت تفاصيله في الآية من سورة البقرة، فهو القصاص، وقد تطرقنا إليه لدى تفسير هذه الآية في الجزء الأوّل من كتابنا هذا.
2. سؤال وإشكال: يرد سؤال في هذا المجال، وهو أن الخلود في العذاب قد ورد بالنسبة إلى من يموت كافرا، بينما قد يكون مرتكب جريمة القتل العمد مؤمنا، كما يحتمل أن يندم على ما ارتكبه من إثم ويتوب عن ذلك في الدنيا، ويسعى إلى تعويض وتلافي ما حصل بسبب جريمته، فكيف إذن يستحق مثل هذا الإنسان عذابا أبديا وعقابا يخلد فيه؟ والجواب: إنّ جواب هذا السؤال يشتمل على ثلاث حالات هي:
أ. قد يكون المراد بقتل المؤمن ـ الوارد في الآية موضوع البحث ـ هو القتل بسبب إيمان الشخص، أي استباحة دم المؤمن، وواضح من هذا إنّ الذي يعمد إلى ارتكاب جريمة قتل كهذه إنما هو كافر عديم الإيمان، وإلا كيف يمكن لمؤمن أن يستبيح دم أخيه المؤمن، وبناء على هذا يستحق القاتل الخلود في النار ويستحق العذاب والعقاب المؤبد، وقد نقل عن الإمام الصادق عليه السّلام حديث بهذا الفحوى، فقد ورد في كتاب الكافي وتفسير العياشي في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادق عليه السّلام قوله: (إن من قتل مؤمنا على دينه فذلك المتعمد الذي قال الله تعالي في كتابه عنه: ﴿وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾
ب. كما يحتمل أن يموت مرتكب جريمة القتل العمد مسلوب الإيمان بسبب تعمده قتل إنسان مؤمن بريء، فلا يحظى بفرصة للتوبة عن جريمته، فينال في الآخرة العذاب العظيم المؤبد.
ج. ويمكن أيضا ـ أن يكون المراد بعبارة (الخلود) الواردة في الآية هو العذاب الذي يستمر لآماد طويلة وليس العذاب المؤبد.
3. سؤال وإشكال: ويمكن أن يطرح سؤال آخر ـ في هذا المجال ـ وهو هل أنّ جريمة القتل العمد قابلة للتوبة!؟ والجواب: لقد ردّ جمع من المفسّرين بالنفي صريحا على هذا السؤال، وقالوا: أن هذه الجريمة التي ورد ذكرها في الآية موضوع البحث غير قابلة للتوبة مطلقا، حيث أشارت الروايات الواردة في هذا الأمر إلى ذلك، فقد صرحت الروايات بأنّ لا توبة لقاتل المؤمن عمدا، ولكن الذي نستنتجه من روح التعاليم الإسلامية، وروايات الأئمّة عليهم السّلام، وغيرهم من علماء الدين الكبار، وكذلك من فلسفة التوبة القائمة على أساس التربية والوقاية من الوقوع في الذنوب والخطايا في مستقبل الفرد المسلم..
4. المستخلص من ذلك كله هو أنه لا يوجد ذنب غير قابل للتوبة، لكن التوبة من بعض الذنوب تكون مقيدة بشروط قاسية جدا يصعب بل يستحيل أحيانا على الفرد تحقيقها، والدليل على هذا الأمر هو قول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، وقد قلنا في تفسير هذه الآية: إنّها وردت في شأن العفو عن الذنوب بواسطة الشفاعة وما شاكل ذلك، ولكن المعروف أنّه حتى الشرك ـ ذاته ـ يعتبر من الجرائم والذنوب القابلة للتوبة، إذا تخلى الإنسان عنه وعاد فآمن بالله الواحد الأحد وأسلم وجهه للّه، كما حصل للجاهليين الذين تخلوا عن شركهم وقبلوا الإسلام وتابوا إلى الله فعفا عنهم وغفر لهم ذنوبهم السابقة.
5. ويتبيّن من هذا العرض الموجز أنّ كل الذنوب ـ حتى الشرك ـ قابلة للتوبة، وتؤكد على ذلك الآيتان (53 و54) من سورة الزمر حيث يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾، وقد ذكر بعض المفسّرين أن الآيات التي تتحدث عن غفران جميع الذنوب هي آيات عامّة قابلة للتخصيص ـ ولكن لا يمكن الحكم بصحة هذا القول، لأنه يتناقض ومنطق هذه الآية التي اعتبرت التوبة نعمة ومنة من الله على المذنبين، وأكدت ذلك بالقرائن، لذلك لا يمكن تخصيص هذه الآيات، فهي ـ كما في الاصطلاح ـ تأبى التخصيص.
6. إضافة إلى ذلك كلّه فقد يحتمل أن يلجأ مرتكب القتل العمد إلى التوبة، ويخلص الطاعة لله في بقية عمره، ويتجنب ارتكاب الذنوب ولا يعصي الله بعد ذلك، ولا يعمد إلى ارتكاب جريمة قتل مشابهة، فهل يصح أن ييأس التائب ـ في مثل هذه الحالة ـ من رحمة الله وعفوه ومغفرته؟ وهل يجوز القول بأن هذا الشخص مع توبته وندمه وسيبقى مشمولا بعذاب الله المؤبد؟ إن القول برفض توبة إنسان كهذا يكون مخالفا لروح التعاليم الدينية السامية التي جاء بها الأنبياء لتربية البشر وهدايتهم في جميع مراحل التاريخ.
7. الذي نلاحظه في تاريخنا الإسلامي، هو أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد عفا عن أخطر المجرمين من أمثال (وحشي) الذي قتل (حمزة بن عبد المطلب) عم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقبل النّبي توبته، وكذلك لا يمكن القول بأن ارتكاب جريمة القتل في حال الشرك يختلف عنه في حال الإيمان، بحيث يقال باحتمال التغاضي والعفو عن الجريمة في الحالة الأولى، وعدم احتماله في حالة الإيمان، وقد سبق أن علمنا أن ليس هناك ذنب أعظم من الشرك بالله، وعرفنا أنّ هذا الذنب ـ أيضا ـ قابل للتوبة وان الله يعفو عن المشرك إذا تاب عن شركه واعتنق الإسلام.. فكيف ـ والحالة هذه ـ يمكن القول بأنّ جريمة القتل العمد ـ التي لم يذكر القرآن أنّها أعظم الجرائم ليست قابلة للتوبة أو العفو؟
8. إنّ قولنا بأنّ جريمة قتل العمد قابلة للتوبة والعفو لا يقلل من عظم خطورة هذه الجريمة، وقبول التوبة في هذا المجال لا يعني أنّ التوبة متيسرة بسيطة في مثل هذه الحالة، بل أنّها من أصعب الأمور، وهي إن أريد تحقيقها ـ تحتاج إلى بذل وتضحيات كبيرة للتعويض عما خلفته الجريمة من آثار خطيرة وسيئة على المجتمع، والتعويض في هذا المجال ليس بالأمر اليسير.. لكننا أردنا من ذلك أن نبين أن باب التوبة ليست مغلقة على من تاب وآمن وعمل صالحا ثمّ اهتدى، حتى لو كان قد ارتكب في وقت من الأوقات جريمة كالقتل المتعمد.
9. لقد قسم الفقهاء القتل إلى ثلاثة أنواع: كما ورد في كتب القصاص والديات، وقد استندوا في هذا التقسيم على ما استلهموه من الآيات القرآنية والروايات والأحاديث الواردة في هذا المجال.. وهذه الأنواع هي:
أ. القتل العمد هو الذي يحصل باستخدام وسائل القتل مع وجود سبق إصرار على ارتكاب هذه الجريمة، مثل أن يعمد إنسان إلى قتل إنسان آخر مستخدما في ذلك وسائل كالسكين أو العصي أو الحجارة أو غير ذلك من الوسائل القاتلة.
ب. القتل شبه العمد: وهو الذي يكون مسبوقا بإصرار القاتل على إيذاء القتيل دون استهداف قتله، فيؤدي الإيذاء إلى القتل، كأن يضرب شخص شخصا آخر، دون أن يقصد قتله، فيؤدي الضرب إلى قتل المضروب.
ج. والقتل الخطأ وهو القتل الذي يحصل دون أن يكون لدى القاتل سبق إصرار على ارتكاب هذه الجريمة، ولم يكن يهدف إلى إيذاء القتيل، ويحدث هذا ـ مثلا لدى محاولة إنسان اصطياد بعض الحيوانات بنوع من أنواع السلاح، فبدل أن يقع السلاح في الحيوان يقع سهوا على إنسان آخر فيقتله، وقد وردت الأحكام المختلفة لهذه الأنواع الثلاثة من القتل في الكتب الفقهية.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/379
90. الجهاد والتثبت قبل القتل
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈90⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 94]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
مسروق:
روي عن مسروق بن الأجدع (ت 62 هـ) أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾، لم تكونوا مؤمنين(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٤١.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سرية فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله!؟ والله، لأذكرن ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا: يا رسول الله، إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال: (ادعوا لي المقداد)، فقال: (يا مقداد، أقتلت رجلا يقول: لا إله إلا الله!؟ فكيف لك بلا إله إلا الله غدا!؟)، فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾، قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للمقداد: كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه، فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل(1).
2. روي أنّه قال: كان الرجل يتكلم بالإسلام، ويؤمن بالله والرسول، ويكون في قومه، فإذا جاءت سرية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبر بها حيه ـ يعني: قومه ـ وأقام الرجل لا يخاف المؤمنين من أجل أنه على دينهم، حتى يلقاهم فيلقي إليهم السلام، فيقولون: لست مؤمنا، وقد ألقى السلام، فيقتلونه، فقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ إلى: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، يعني: تقتلونه إرادة أن يحل لكم ماله الذي وجدتم معه، وذلك عرض الحياة الدنيا، فإن عندي مغانم كثيرة، فالتمسوا من فضل الله، وهو رجل اسمه مرداس، خلى قومه هاربين من خيل بعثها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليها رجل من بني ليث اسمه قليب، ولم يجامعهم، وإذا فيهم مرداس، فسلم عليهم، فقتلوه، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأهله بديته، ورد إليهم ماله، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك(2).
3. روي أنّه قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يسوق غنما له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه، فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فنزلت الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ الآية(3).
4. روي أنّه قال: لحق ناس من المسلمين رجلا معه غنيمة له، فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا غنيمته؛ فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ إلى قوله: ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، قال تلك الغنيمة(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، قال حرم الله على المؤمنين أن يقولوا لمن يشهد أن لا إله إلا الله: لست مؤمنا، كما حرم عليهم الميتة، فهو آمن على ماله ودمه، فلا تردوا عليه قوله(5).
6. روي أنّه قال: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، يعني: تقتلونه إرادة أن يحل لكم ماله الذي وجد معه، وذلك عرض الدنيا(6).
7. روي أنّه قال: ﴿فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾، فإن عندي مغانم كثيرة، فالتمسوا من فضل الله(6).
__________
(1) البزار في مسنده ١١/٣١٧.
(2) ابن جرير ٧/٣٥٦.
(3) أحمد ٣/٤٦٧.
(4) البخاري ٦/٤٧.
(5) ابن جرير ٧/٣٦١.
(6) ابن أبي حاتم ٣/١٠٤١.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم محلم بن جثامة مبعثا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم إحنة(1)، في الجاهلية، فرماه محلم بسهم، فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليستغفر له، فقال: (لا غفر الله لك)، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت به ساعة حتى مات ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاؤوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكروا ذلك له، فقال: (إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم)، ثم طرحوه في جبل، وألقوا عليه الحجارة؛ فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ الآية(2).
__________
(1) الإحنة: الحقد.
(2) ابن جرير ٧/٣٥٣.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾، هي أحل لكم من هذا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾، تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه، وفي لفظ: تكتمون إيمانكم من المشركين(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ فأظهر الإسلام، فأعلنتم إيمانكم(2).
4. روي أنّه قال: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾، وعيد من الله مرتين(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٤١.
(2) عبد الرزاق ١/١٧٠.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، راعي غنم لقيه نفر من المؤمنين، فقتلوه، وأخذوا ما معه، ولم يقبلوا منه: السلام عليكم، إني مؤمن(1).
__________
(1) ابن جرير ٣/٣٦٠.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾، كنتم كفارا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾، كنتم كفارا حتى من الله عليكم بالإسلام، وهداكم له(1).
__________
(1) عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ﴾ معناه المقادة(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 123.
الكوفي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية، قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة، فلقوا رجلا منهم يدعى: مرداس بن نهيك، معه غنمة له وجمل أحمر، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل، واتبعه أسامة، فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه، ثم أقبل إليهم فقال: السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فشد عليه أسامة، فقتله من أجل جمله وغنيمته، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خيرا، ويسأل عنه أصحابه، فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدثون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقولون: يا رسول الله، لو رأيت أسامة ولقيه رجل، فقال الرجل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فشد عليه فقتله! وهو معرض عنهم، فلما أكثروا عليه رفع رأسه إلى أسامة، فقال: (كيف أنت ولا إله إلا الله!؟)، قال يا رسول الله، إنما قالها متعوذا تعوذ بها، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه!)، قال يا رسول، إنما قلبه بضعة من جسده، فأنزل الله خبر هذا، وأخبر إنما قتله من أجل جمله وغنمه، فذلك حين يقول: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فلما بلغ: ﴿فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾، يقول: تاب الله عليكم، فحلف أسامة ألا يقاتل رجلا يقول: لا إله إلا الله، بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٥٧.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ إذا خرجتم فلا تقتلوا مسلما، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾، فقال أسامة: والله لا أقتل رجلا بعد هذا يقول: لا إله إلا الله(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٠.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ خير من تلك الغنم(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٦٠.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال عز وجل تحذيرا للمؤمنين، وتأكيدا منه عليهم في التحفظ ـ إذا ضربوا في الأرض ـ من قتل المؤمنين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾، فيقال: إن هذه الآية نزلت في أسامة بن زيد، حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أرض غطفان، ولم يكن بالمؤمر على السرية، فبلغ غطفان خبرهم؛ فهربوا، وتخلف رجل من غطفان، يقال له: مرداس بن نهيك، فلما رآهم خافهم، وألجأ غنمه إلى كهف في الجبل، ثم استقبلهم، فسلم عليهم، وشهد بشهادة الحق، فحمل عليه أسامة فطعنه، وأخذ ماله، فنزل جبريل، فأخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خبره؛ فلما قدموا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل صاحب السرية يثني على أسامة، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم معرض، حتى إذا فرغ الرجل قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يا أسامة، قال الرجل: لا إله إلا الله، فقتلته؛ كيف لك بلا إله إلا الله)، فقال: يا رسول الله، إنما قالها تعوذا منا، قالها بلسانه، ولم يكن لها حقيقة في قلبه؛ فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفلا شققت عن قلبه، فنظرت ما فيه)، فقال: إنما قلبه بضعة من جسده.. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها حرمت علي دماؤهم وأموالهم، وحسابهم على الله.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/261.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ الآية:
أ. قيل: إن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث سرية إلى دار الحرب، فسمعوا سرية لرسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم تريدهم؛ فهربوا، وأقام رجل؛ لإسلامه؛ فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من العدو من حرب رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فألجأ غنمه إلى كهف، ثم قام دونها، فسمع التكبير؛ فهبط إليهم وهو يقول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فأتاه رجل من هَؤُلَاءِ، فقتله واستاق غنمه وما معه، ثم رجعوا إلى رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبروه الخبر؛ فقال رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أَقتَلْتُمُوهُ؛ إِرَادَةَ مَا مَعَهُ، وهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلا اللهُ!؟) فقالوا: إنه قال ذلك، متعوذا؛ فقال: (هَلَّا شَقَقْتُم عَنْ قَلْبِهِ!؟)
ب. وعن ابن عَبَّاسٍ أن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث سرية، فلقيهم رجل، فسلم عليهم وحياهم بتحية الإسلام، فحمل عليه رجل من السرية فقتله؛ فلامه أصحابه وقالوا: أقتلت رجلا حيانا بتحية الإسلام!؟ فلما قدموا على رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبره بالذي صنع؛ فقال رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: إِني مُسلِم!؟) فقال: يا رسول اللَّه، إنما قالها متعوذًا؛ قال: (فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِه فَتَعْلَمَ ذلك!؟)؛ فنزل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾
2. فلا ندري كيفما كانت القصة؟ ولكن فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة، والنهي عن الإقدام عندها، وهكذا الواجب على المؤمن الوقف عند اعتراض الشبهة في كل فعل وكل خبر؛ لأن اللَّه تعالى أمر بالتثبت في الأفعال بقوله: ﴿فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، وقال في الخبر: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾، أمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة، كما أمر في الأفعال لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾
3. في الآية دليل فساد قول المعتزلة؛ لأنه نهاهم أن يقولوا لمن قال: إني مسلم: لست مؤمنا، وهم يقولون: صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، وهو يقول ألف مرة على المثل: إني مسلم، فإذا نهى أن يقولوا: ليس بمؤمن؛ أمرهم أن يقولوا: هو مؤمن؛ فيقال لهم: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾، على ما قيل لأُولَئِكَ.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾:
أ. قيل: الغنيمة: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ هذا يحتمل وجهين:
ب. يحتمل قوله: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ أي: أجر عظيم وجزاء كثير.
ج. ويحتمل: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ يعطيها لكم في غير هذا، كقوله تعالى ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ الآية.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ الآية:
أ. قيل: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ ضلالا كفارا؛ ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بالإسلام والهجرة، وهداكم به.
ب. وقيل: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ تخفون إيمانكم من المشركين وتكتمونه؛ ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بإظهار الإسلام وإبدائه.
ج. وقيل: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ تأمنون في قومكم من المؤمنين بـ (لا إله إلا اللَّه)، ولا تخيفوا من قالها؛ ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بالهجرة.
د. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ كفارًا تقاتلون على الدنيا وعرضها.
6. قوله تعالى: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ عاد إلى الأول، وأمر بالتثبت عند الشبهة؛ ألا تري أنه روي في الخبر أنه قال: (الْمُؤْمِنُ وَقَّافٌ وَزَّانٌ): وَقَّافٌ يقف عن الشبهة، ووَزَّانٌ يزن الأعمال فيختار أفضلها.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٣١
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، أي إذا ضربتم في سبيل الله عدوكم، فتبينوا ولا تعجلوا حتى تدعوهم إلى الله قبل أن تقتلوا، ولا تقولوا لمن أقر بالشهادة من عدوكم لست مؤمناً وقد سالمكم، وطرح إليكم قياده وأطاعكم، لأنكم لا تعلمون الغيب، ولا تأمنون أن يكون صادقاً فيما ذكر لكم، وإنما يجب قتل من قاتلكم ومانعكم، وليس يجب ولا يحل لكم قتل من أطاعكم.
2. معنى قوله: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، أي إنما يفعل ذلك من يرغب في الحطام، فيكذب حينئذ من أقر بالإسلام، لتجعل ذلك وطريقاً إلى الحرام، وإلى سفك دماء من حرم قتله من الأنام، وأخذ ماله بالتأويل الكاذب والآثام.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/248.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ هذه الآية نزلت في رجل كانت له غنيمات لقيته سرية لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله فبدر إليه بعضهم فقتله؛ فلما أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لم قتلته وقد أسلم؟) قال إنما قالها تعوذاً، قال: هلا شققت عن قلبه) ثم حمل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ديته إلى أهله ورد عليهم ديته وقاتله أسامة بن زيد، ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ أي كفار مثلهم ﴿فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ بالإسلام.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/192.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ الآية، قيل إنها نزلت في رجل كانت معه غُنَيْمَاتُ لقيته سريَّة لرسول الله صلى الله عليهم وسلم، فقال لهم: السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبدر إليه بعضهم فقتله، فلما أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: (لِمَ قَتَلْتَهُ وَقَدْ أَسْلَمَ) قال: إنما قالها تعوذاً، قال: (هَلَاّ شَقَقْتَ عَن قَلْبِهِ) ثم حمل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ديته إلى أهله وردّ عليهم غنمه.
2. اختلف في قاتله على خمسة أقاويل:
أ. أحدها: أنه أسامة بن زيد، وهو قول السدي.
ب. والثاني: أنه المقداد، وهو قول سعيد ابن جبير.
ج. والثالث: أبو الدرداء، وهو قول ابن زيد.
د. والرابع: عامر بن الأضبط الأشجعي، وهو قول ابن عمر.
هـ. والخامس: هو محلِّم بن جثامة الليثي.
3. يقال إن القاتل لفظته الأرض ثلاث مرات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنَّ الأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌ مِّنهُ وَلَكنَّ اللَّهَ جَعَلهُ لَكُم عِبْرَةً، ثُمَّ أَمَرَ بِأَن تُلْقْى عَلَيهِ الحِجَاَرةُ)
4. ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ أي كفاراً مثلهم. ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ يعني بالإسلام.
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥٢١)
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ أهل المدينة، وابن عباس، وخلف (السلم) بغير الف، الباقون بالف، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما فتثبتوا (بالثاء) من الثبوت في الموضعين هاهنا وفي الحجرات الباقون (فتبينوا) من التبين، وقرئ من طريق النهرواني ليست، مؤمنا ـ بفتح الميم الثانية ـ الباقون بكسرها وبه قرأ أبو جعفر محمد بن علي عليه السلام على ما حكاه البلخي، فمن قرأ بالثاء من الثبوت، فإنما أراد التثبت الذي هو خلاف العجلة، ومن قرأ بالياء والنون، أراد من التبيين الذي هو النظر، والكشف عنه حتى يصح، والمعنيان متقاربان، لأن المثبت متبين، والمتبين مثبت، ومن قرأ (السلم) بلا الف أراد الاستسلام، ومنه قوله: ﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ أي استسلموا، وقوله: ﴿وَرَجُلًا سَلَمًا﴾ أي مستسلماً، وروي أبان عن عاصم بكسر السين، والمعنى خلاف الحرب، ومن قرأ بالف ذهب إلى التحية، ويحتمل أن يكون المراد لا تقولوا لمن اعتزلكم وكف عن قتالكم: لست مؤمناً، قال أبو الحسن: يقولون: انما فلان سلام إذا كان لا يخالط أحداً.
2. خاطب اللَّه تعالى بهذه الآية المؤمنين الذين إذا ضربوا في الأرض بمعنى ساروا فيها للجهاد وأن يتأنوا في قتال من لا يعلمون كفره، ولا إيمانه، وعن قتل من يظهر الايمان وان ظن به الكفر باطناً، ولا يعجلوا حتى يبين لهم أمرهم فإنهم ان بادروا ربما أقدموا على قتل مؤمن، ولا يقتلوا من استسلم لهم، وكف عن قتالهم، واظهر انه اسلم، وألا يقولوا لمن هذه صورته: لست مؤمنا، فيقتلوه طلب عرض ﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ يعني متاع الحياة الدنيا الذي لا بقاء له، فان عند اللَّه مغانم كثيرة وفواضل جسيمة فهو خير لكم ان أطعتم اللَّه فيما أمركم به، وانتهيتم عما نهاكم عنه.
3. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قال عمر بن شبة: نزلت في مرداس رجل من غطفان، غشيتهم خيل المسلمين، فاستعصم قومه في الجبل، وأسهل هو مسلماً مستسلماً، فأظهر لهم إسلامه، فقتلوه، وأخذوا ما معه.
ب. وقال أبو عمر والواقدي، وابن إسحاق، نزلت في عامر بن الأضبط الاشجعي لقيته سرية لأبي قتادة فسلم عليه فشد محلم بن جثامة فقتله لإحنة كانت بينهم، ثم جاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وسأل ان يستغفر له فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا غفر اللَّه لك، وانصرف باكياً فما مضت عليه سبعة أيام حتى هلك فدفن، ثم لفظته الأرض فجاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخبروه فقال عليه السلام: إن الأرض تقبل من هو شر من محلم صاحبكم، لكن اللَّه أراد أن يعظم من حرمتكم، ثم طرحوه بين صد في جبل، والقوا عليه الحجارة، فنزلت الآية.
ج. وقال ابن عباس: لحق ناس رجلا في غنيمة له، فقال السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنمه، فنزلت الآية، قال ابن عباس: فكان الرجل يسلم في قومه، فإذا غزاهم أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهرب أصحابه وقف، وأظهر تحية الإسلام (السلام عليكم) فيكفون عنه، فلما خالف بعضهم، وقتل من أظهر ذلك نزلت فيه الآية وبه قال السدي: وقال الرجل السلام عليكم، أشهد ان لا إله إلا اللَّه، وان محمداً رسول اللَّه، فشد عليه أسامة بن زيد وكان أمير القوم، فقتله، فنزلت الآية، وقال قوم: كان صاحب السرية المقداد، وقال آخرون: ابن مسعود.
4. كل واحد من هذه الأسباب يجوز أن يكون صحيحاً، ولا يقطع بواحد منها بعينه، والذي يستفاد من ذلك أن من اظهر الشهادتين لا يجوز لمؤمن أن يقدم على قتله، ولا إذا أظهر ما يقوم مقامها من تحية الإسلام.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾:
أ. قال قوم: كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما القى إليكم السلام مستخفيا من قومه بدينه خوفاً على نفسه منهم، كنتم أنتم مستخفين باديانكم من قومكم حذراً على أنفسكم فمن اللَّه عليكم، ذهب إليه سعيد بن جبير.
ب. وقال ابن زيد معناه كما كان هذا المقتول كافراً فهداه اللَّه، كذلك كنتم كفاراً، فهداكم اللَّه، وبه قال الجبائي.
ج. وقال المغربي: معناه كذلك كنتم أذلاء آحاداً إذا صار الرجل منكم وحده، خاف أن يختطف.
6. في قوله تعالى: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما ـ قال سعيد بن جبير: فمن اللَّه عليكم بإظهار دينه، وإعزاز أهله حتى أظهرتم الإسلام بعد ما كنتم تكتمونه من اهل الشرك.
ب. وقال السدي: معناه تاب اللَّه عليكم.
7. ﴿فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ معناه انه كان عليماً بما تعملونه قبل أن تعملوه.
8. قال البلخي في الآية دلالة على أن المجتهد لا يضل، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يضلل مقداداً ولا تبرأ منه، ومن قرأ ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ بفتح الميم الثانية، قال: معناه لا تقولوا لمن استسلم لكم لسنا نؤمنك، وهو وجه حسن.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/297
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الضرب في الأرض: السير فيها، وأصله من الضرب باليد، وقيل: الضرب: الإسراع في السير.
ب. ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ يقال: بانَ الشيء اتضح، وأبانه فهو بَيِّنٌ ومبين، والبيان: الكشف عن الشيء، وبَيَّنَ: بمعنى تبين.
ج. العرض: ما يعرض للإنسان من مرض وغيره، ويقال للحياة الدنيا: عرض زائل، فكل شيء يقل لبثه فيها فهو عرض، ومنه قيل للسحاب: عارض، ومنه سمَّى المتكلمون الأعراض؛ لأنه لا يجب له من اللبث ما يجب للأجسام، وسمّى الغنيمة عرضًا لقلة الثبات.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في رجل لقيته سرية لرسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومعه غنيمات له، فقال: السلام عليكم، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فبدر إليه بعضهم فقتله، فلما أخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لم قتلته وقد أسلم؟ قال: إنما قالها متعوذًا، فقال: هلا شَقَقْتَ عن قلبه، ثم حَمَّلَهُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ديته إلى أهله، ورد عليهم غنمه.
ب. واختلفوا في اسم القاتل قيل: محلم بن جثامة الليثي، وكان بعثه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيمن بعثه، فلقيه عامر بن الأضبط الأشجعي، حيّاه بتحية الإسلام، وكان بينهما إحنة، فرماه بسهم فقتله، فلما جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جلس بين يديه، فقال: لا غفر الله لك، فما مضت به سابعة حتى مات ودفنوه، فلفظته الأرض، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الأرض لتقبل من هو شر منه، ولكن أراد الله أن يعظم حرمتكم، فألقوا عليه الحجارة، عن ابن عمر وابن مسعود وابن أبي حدرة، وقيل: القاتل أسامة بن زيد، عن السدي، وقيل: المقداد، عن سعيد بن جبير، وقيل: أبو الدرداء، عن ابن زيد، وقيل: المقتول اسمه مرداس، والقاتل أسامة.
ج. عن ابن عباس وقتادة، وأنه لما نزلت الآية حلف أسامة، لا يقتل رجلاً قال: لا إله إلا الله، وبهذا اعتذر إلى علي كرّم الله وجهه) لما تخلف عنه، وإن كان ذلك عذرًا غير مقبول؛ لأن القتال مع الإمام واجب عند خروج البغاة عليه، فهو وإن كان حلف فكان يجب أن يحارب، ويكفر يمينه، إلا أن أمير المؤمنين أذن له.
3. لما بَيَّنَ الله تعالى أنواع القتل، ومن يجوز قتله ومن لا يجوز أمر عقيبَ جميع ذلك بالتثبت والتأني حتى لا يقع منه ما يعقب الندامة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقوا الله ورسوله ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ وسرتم وسافرتم ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ في الجهاد والغزو ونصرة دينه.
4. ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ يعني ميزوا بين المؤمن والكافر؛ لتعلموا من يستحق القتل، وبالثاء، توقفوا وتأنوا حتى تعلموا ذلك، والمراد بالوجهين: لا تعجلوا في القتل إذا ظهر إسلامه ظنًّا بأنه لا حقيقة لإيمانه، ولكن يتبين في أمره، فإن ظهر منه أنه ليس له حقيقة بألَّا يصلي ولا يصوم، ويدع الإيمان عند الأمن، ولا يعلم منه حقيقة الإيمان فحينئذ فاقتلوه، وإن ثبت على إيمانه فلا تقتلوه.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيكُمُ السَّلَامَ﴾:
أ. قيل: السلم التحية، أي من حياكم بتحية أهل الإسلام.
ب. وقيل: من استسلم لكم فلم يقاتلكم مظهرًا أنه من أهل ملتكم.
ج. وقيل: ألقى إليكم السلم يعني أظهروا الإسلام، عن أبي مسلم.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾:
أ. قيل: يعني ليس لإيمانكم حقيقة، فإنكم أسلمتم خوفًا من القتل.
ب. وقيل: لست بآمن.
7. ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يعني الغنيمة والمال، ﴿فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾:
أ. قيل: فواضل ونعم ورزق هو خير لكم إن أطعتم فيما أمركم به.
ب. وقيل: ثواب كثير لمن ترك قتل المؤمنين.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾:
أ. قيل: كفارًا مثلهم، عن الحسن وابن زيد وأبي علي.
ب. وقيل: مستخفين بدينكم من قومكم كما استخفوا، عن سعيد بن جبير.
ج. وقيل: كنتم تأمنون في قومكم من المؤمنين بلا إله إلا الله قبل الهجرة، فلا تخيفوا من قالها.
9. ﴿فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ أنعم عليكم:
أ. قيل: بالإسلام.
ب. وقيل: فمن الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم.
ج. وقيل: فمن الله عليكم بقبول توبتكم، عن السدي.
د. وقيل: بهجرتكم.
10. ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أعاد ذلك:
أ. قيل: تأكيدًا لما طال الكلام.
ب. وقيل: الأول تبينوا حاله، والثاني تبينوا هذه الفوائد والأحكام بضمائركم واعرفوها واتبعوها.
11. ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ﴾ لم يزل ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾:
أ. قيل: يعني عليمًا بإيمانكم وضمائركم.
ب. وقيل: عليم بالأشياء كلها؛ لأنه عالم لذاته لم يزل على سبيل الوجوب.
12. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن الجهاد عبادة، فلذلك وصف بأنه سبيل الله، ولا خلاف فيه.
ب. أن في الجهاد تحصل الغنائم لذلك قال: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
ج. وجوب التثبت على المجاهد كي لا يقع منه ما لا يحل، فتدل على أن الواجب التثبت في الأمور التي لا يتجلى له الحظر والإباحة؛ كي لا يقدم على محظور؛ ولذلك قلنا: لا يجوز أن يخبر ما لا يأمن كونه كذبًا، وكذلك يجب التثبت في المذاهب والاعتقادات كي لا يعتقد ما لا يجوز، لأن الجميع باب واحد.
د. أن من أظهر الإسلام لا يُكَذَّب بل يقبل منه، وكذلك المداهن، وكل ما لا يطلع عليه إلا من جهته.
هـ. أن من قال: أنا مسلم فقد حقن دمه.
و. أن حقن الدم يتعلق بإظهار الإيمان، لا بحقيقة الإيمان؛ لأن ذلك لا يعلم.
ز. أن التوصل بالسبب المحرم إلى ابتغاء المال محرم؛ لذلك نهى عن القتل ابتغاء المال.
ح. أن متاع الدُّنْيَا عرض قليل في جنب الآخرة، وذلك تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة.
ط. أن الواجب الاتكال في الرزق وسائر الأمور على الله تعالى.
ي. أنه لما بين هذه الأحكام والفوائد أمرنا بالتدبر والتفكر فيه، وقال: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾، فتدل على وجوب التفكر في فوائد القرآن وأحكامه.
13. قراءات ووجوه:
أ. قرأ حمزة والكسائي ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ بالثاء، وكذلك في الحجرات من ثبت ثباتًا، والباقون بالنون من البيان، وقيل: هو الأولى والاختيار؛ لأنه أشد في البيان عن الغرض الذي أمروا لأجله، وإنما التثبيت للتبيين، وهو أيضًا حسن على طريق الأمر بسبب التبيين، فيكون الإرسال يذكر بسبب البيان.
ب. قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة ﴿السَّلْمِ﴾ بغير ألف، وهو الاستسلام، وقرأ الباقون ﴿السَّلَامُ﴾ بألف وهو التحية، واختلفت الرواية عن ابن كثير وعاصم.
14. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ نصب على خبر ليس، والاسم في التاء.
ب. ﴿خَبِيرًا﴾ نصب لأنه خبر كان.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/28
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جميع متاع الدنيا عرض، يقال: إن الدنيا عرض حاضر، ويقال لكل شئ يقل لبثه: عرض، ومنه العرض: الذي هو خلاف الجوهر عند المتكلمين، لأنه ما لا يجب له من اللبث ما يجب للأجسام، والعرض: ما يعرض للانسان من مرض، أو غيره.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في أسامة بن زيد وأصحابه، بعثهم النبي في سرية، فلقوا رجلا قد انحاز بغنم له إلى جبل، وكان قد أسلم، فقال لهم: السلام عليكم، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فبدر إليه أسامة فقتله، واستاقوا غنمه، عن السدي، وروي عن ابن عباس، وقتادة أنه لما نزلت الآية، حلف أسامة أن لا يقتل رجلا، قال لا إله إلا الله، وبهذا اعتذر إلى علي لما تخلف عنه، وإن كان عذره غير مقبول، لأنه قد دل الدليل على وجوب طاعة الامام في محاربة من حاربه من البغاة، لا سيما وقد سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (حربك يا علي حربي، وسلمك سلمي)
ب. وقيل: نزلت في محلم بن جثامة الليثي، وكان بعثه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في سرية، فلقيه عامر بن الأضبط الأشجعي، فحياه بتحية الاسلام، وكان بينهما إحنة، فرماه بسهم فقتله، فلما جاء إلى النبي، جلس بين يديه، وسأله أن يستغفر له، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا غفر الله لك)! فانصرف باكيا، فما مضت عليه سبعة أيام، حتى هلك، فدفن فلفظته الأرض، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أخبر به: (إن الأرض تقبل من هو شر من محلم صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظم من حرمتكم)، ثم طرحوه بين صدفي جبل، وألقوا عليه الحجارة، فنزلت الآية، عن الواقدي، ومحمد بن إسحاق بن يسار، روياه عن ابن عمر، وابن مسعود، وابن حدرد، وقيل: كان صاحب السرية المقداد، عن سعيد بن جبير، وقيل: أبو الدرداء، عن ابن زيد.
3. لما بين تعالى أحكام القتل وأنواعه، عقب ذلك بالأمر بالتثبت والتأني، حتى لا يفعل ما يعقب الندامة، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ أي صرتم، وسافرتم ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ للغزو والجهاد ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أي ميزوا بين الكافر والمؤمن، وبالثاء والتاء، توقفوا وتأنوا، حتى تعلموا من يستحق القتل، والمعنيان متقاربان، والمراد بهما: لا تعجلوا في القتل لمن أظهر السلام، ظنا منكم بأنه لا حقيقة لذلك.
4. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ﴾ أي حياكم بتحية أهل الاسلام، أو من استسلم لكم، فلم يقاتلكم مظهرا أنه من أهل ملتكم: ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ أي ليس لإيمانك حقيقة، وإنما أسلمت خوفا من القتل، أو لست بآمن ﴿تَبْتَغُونَ﴾ أي تطلبون ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يعني الغنيمة، والمال، ومتاع الحياة الدنيا، الذي لا بقاء له ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾:
أ. قيل: أي في مقدوره فواضل، ونعم، ورزق، إن أطعتموه فيما أمركم به.
ب. وقيل: معناه ثواب كثير لمن ترك قتل المؤمن.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾:
أ. قيل: كما كان هذا الذي قتلتموه مستخفيا في قومه بدينه، خوفا على نفسه منهم، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرا على أنفسكم، عن سعيد بن جبير.
ب. وقيل: كما كان هذا المقتول كافرا، فهداه الله، كذلك كنتم كفارا، فهداكم الله، عن ابن زيد، والجبائي.
ج. وقيل: كذلك كنتم أذلاء وآحادا، إذا سار الرجل منكم وحده، خاف أن يختطف عن المغربي.
6. في قوله تعالى: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: فمن الله عليكم بإظهار دينه، وإعزاز أهله، حتى أظهرتم الاسلام بعد ما كنتم تكتمونه من أهل الشرك، عن سعيد بن جبير.
ب. وقيل: معناه فتاب الله عليكم.
7. أعاد هذا اللفظ ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾:
أ. قيل: أعاد هذا اللفظ للتأكيد، بعد ما طال الكلام.
ب. وقيل: الأول معناه تبينوا حاله، والثاني: معناه تبينوا هذه الفوائد بضمائركم، واعرفوها وابتغوها.
8. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ﴾: أي لم يزل، ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾: أي بما تعملونه ﴿خَبِيرًا﴾ عليما قبل أن تعملوه.
9. قراءات ووجوه:
أ. قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (فتثبتوا) هنا في الموضعين بالثاء والتاء، وفي الحجرات، وقرأ الباقون: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ بالتاء والنون في الجميع.. قال أبو علي: من قرأ (فتثبتوا) فحجته أن التثبت خلاف الاقدام، والمراد به التأني، وهو أشد اختصاصا بهذا الموضع، ويبين ذلك قوله: ﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ أي أشد وقفا لهم عما وعظوا، بأن لا يقدموا عليه.. ومن قرأ ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ فحجته أن التبين قد يكون أشد من التثبت، وقد جاء التبين من الله، والعجلة من الشيطان، فمقابلة التبين بالعجلة، دلالة على تقارب التثبت والتبين، قال الشاعر في موضع التوقف والزجر:
çأزيد مناة توعد يا ابن تيم... تبين أين تاه بك الوعيدé
ب. قرأ أهل المدينة، والشام، وحمزة، وخلف: ﴿السَّلْمِ﴾ بغير ألف، وقرئ في بعض الروايات عن عاصم: ﴿السَّلْمِ﴾ بكسر السين وسكون اللام، وقرأ الباقون ﴿السَّلَامُ﴾ بالألف.. من قرأ: السلام احتمل ضربين أحدهما: أن يكون بمعنى التحية، أي ولا تقولوا لمن حياكم بتحية المسلمين إنما قالها تعوذا، ولكن إرفعوا السيف عنه، والآخر: أن يكون المعنى: لا تقولوا لمن لا يقاتلكم لست مؤمنا، قال أبو الحسن: يقال فلان سلام، إذا كان لا يخالط أحدا، ومن قرأ ﴿السَّلْمِ﴾ أراد الانقياد والاستسلام إلى المسلمين، ومنه قوله: ﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾: أي استسلموا لامره، ولما يراد منهم، ومن قرأ ﴿السَّلْمِ﴾ بكسر السين، فمعناه: الاسلام مصدر أسلم: أي صار سلما، وخرج عن أن يكون حربا.
ج. روي عن أبي جعفر القارئ، من بعض الطرق: ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ بفتح الميم الثانية، وحكى أبو القاسم البلخي أنه قراءة محمد بن علي الباقر عليه السلام.. ومن قرأ ﴿مُؤْمِنًا﴾ فإنه من الأمان، ومعناه: لا تقولوا لمن استسلم لكم لسنا نؤمنكم.
10. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿تَبْتَغُونَ﴾: في موضع نصب على الحال من الواو في ﴿تَقُولُوا﴾
ب. الكاف: من ﴿كَذَلِكَ﴾ في موضع نصب، بكونه خبر كان من ﴿كُنْتُمْ﴾
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/144.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث سريّة فيها المقداد بن الأسود، فلمّا أتوا القوم، وجدوهم قد تفرّقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فأهوى إليه المقداد بن الأسود فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا يشهد أن لا إله إلا الله!؟ لأذكرنّ ذلك للنبي، فلما قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا له: يا رسول الله إنّ رجلا شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال: ادعوا لي المقداد، فقال: يا مقداد أقتلت رجلا قال: لا إله إلا الله، فكيف لك ب (لا إله إلا الله غدا)! فنزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للمقداد: كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته؟ وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنّ رجلا من بني سليم مرّ على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعه غنم، فسلّم عليهم، فقالوا: ما سلّم عليكم إلا ليتعوّذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة، عن ابن عباس.
ج. الثالث: أنّ قوما من أهل مكّة سمعوا بسريّة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنها تريدهم فهربوا، وأقام رجل منهم كان قد أسلم، يقال له: مرداس، وكان على السّريّة رجل، يقال له: غالب بن فضالة، فلما رأى مرداس الخيل، كبّر، ونزل إليهم، فسلّم عليهم، فقتله أسامة بن زيد، واستاق غنمه، ورجعوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبروه، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذلك وجدا شديدا، وأنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقال السّدّيّ: كان أسامة أمير السّريّة.
د. الرابع: أن رسول الله بعث أبا حدرد الأسلميّ، وأبا قتادة، ومحلّم بن جثّامة في سريّة إلى إضم، فلقوا عامر بن الأضبط الأشجعيّ، فحيّاهم بتحيّة الإسلام، فحمل عليه محلّم بن جثّامة، فقتله، وسلبه بعيرا وسقاء، فلما قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أخبروه، فقال: أقتلته بعد ما قال آمنت!؟ ونزلت هذه الآية، رواه ابن أبي حدرد، عن أبيه.
2. ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: سرتم وغزوتم، ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ بالنون من التّبيين للأمر قبل الإقدام عليه، وقرأ حمزة والكسائيّ وخلف (فتثّبتوا) بالثاء من الثّبات وترك الاستعجال، وكذلك قرؤوا في (الحجرات)
3. ﴿لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر، وحفص، عن عاصم، والكسائيّ: (السّلام) بالألف مع فتح السين، قال الزجّاج: يجوز أن يكون بمعنى التسليم، ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام، وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، وخلف، وجبلة عن المفضّل عن عاصم: (السّلم) بفتح السين واللام من غير ألف وهو من الاستسلام، وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم بكسر السين وإسكان اللام من غير ألف، و(السّلم): الصّلح، وقرأ الجمهور: لست مؤمنا، بكسر الميم، وقرأ عليّ، وابن عباس، وعكرمة، وأبو العالية، ويحيى بن يعمر وأبو جعفر: بفتح الميم من الأمان.
4. ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ و(عرضها): ما فيها من مال، قلّ أو كثر، قال المفسرون: والمراد به: ما غنموه من الرجل الذي قتلوه.
5. في قوله تعالى: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه ثواب الجنة، قاله مقاتل.
ب. الثاني: أنها أبواب الرّزق في الدنيا، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
6. في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنّ معناه: كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه الكلمة، فلا تخيفوا من قالها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ب. الثاني: كذلك كنتم تخفون إيمانكم بمكّة كما كان هذا يخفي إيمانه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
ج. الثالث: كذلك كنتم من قبل مشركين، قاله مسروق وقتادة وابن زيد.
7. في الذي منّ به في قوله تعالى: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: الهجرة، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: إعلان الإيمان، قاله سعيد بن جبير.
ج. الثالث: الإسلام، قاله قتادة، ومسروق.
د. الرابع: التّوبة على الذي قتل ذلك الرجل، قاله السّدّيّ.
8. قوله تعالى: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ تأكيد للأول.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/453
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين، وأمر المجاهدين بالتثبت فيه لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف، وهذه المبالغة تدل على أن الآية المتقدمة خطاب مع المؤمنين.
2. الأولى: قرأ حمزة والكسائي هنا وكذلك في الحجرات فتثبتوا من ثبت ثباتا، والباقون بالنون من البيان، والمعنيان متقاربان، فمن رجح التثبيت قال: إنه خلاف الإقدام، والمراد في الآية التأني وترك العجلة، ومن رجح التبيين قال المقصود من التثبيت التبيين، فكان التبيين أبلغ وأكمل.
3. الضرب معناه السير فيها بالسفر للتجارة أو الجهاد، وأصله من الضرب باليد، وهو كناية عن الإسراع في السير فإن من ضرب إنسانا كانت حركة يده عند ذلك الضرب سريعة، فجعل الضرب كناية عن الإسراع في السير، قال الزجاج: ومعنى ﴿ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي غزوتم وسرتم إلى الجهاد.
4. ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ أراد الانقياد والاستسلام إلى المسلمين، ومنه قوله: ﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ [النحل: 87] أي استسلموا للأمر، ومن قرأ ﴿السَّلَامُ﴾ بالألف فله معنيان:
أ. أحدها: أن يكون المراد السلام الذي يكون هو تحية المسلمين، أي لا تقولوا لمن حياكم بهذه التحية إنه إنما قالها تعوذا فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا ماله ولكن كفوا واقبلوا منه ما أظهره.
ب. الثاني: أن يكون المعنى: لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقاتلكم لست مؤمنا، وأصل هذا من السلامة لأن المعتزل طالب للسلامة، قال صاحب الكشاف: قرئ مؤمنا بفتح الميم من آمنه أي لا نؤمنك.
5. في سبب نزول هذه الآية روايات:
أ. الأولى: أن مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره، فذهبت سرية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى قومه وأميرهم غالب بن فضالة، فهرب القوم وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل، وقال: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد وساق غنمه، فأخبروا رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم فوجد وجدا شديدا وقال: قتلتموه إرادة ما معه، ثم قرأ الآية على أسامة، فقال أسامة يا رسول اللَّه استغفر لي، فقال: فكيف وقد تلا لا إله إلا اللَّه! قال أسامة فما زال يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي وقال: أعتق رقبة.
ب. الثانية: أن القاتل محلم بن جثامة لقيه عامر بن الأضبط فحياة بتحية الإسلام، وكانت بين محلم وبينه إحنة في الجاهلية فرماه بسهم فقتله، فغضب رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: (لا غفر اللَّه لك) فما مضت به سبعة أيام حتى مات فدفنوه فلفظته الأرض ثلاث مرات، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن اللَّه أراد أن يريكم عظم الذنب عنده) ثم أمر أن تلقى عليه الحجارة.
ج. الثالثة: أن المقداد بن الأسود قد وقعت له مثل واقعة أسامة قال: فقلت يا رسول اللَّه أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ بشجرة، فقال أسلمت للَّه تعالى أفأقتله يا رسول اللَّه بعد ذلك؟ فقال رسول اللَّه لا تقتله، فقلت يا رسول اللَّه إنه قطع يدي، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم (لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك بعد أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال)، وعن أبي عبيدة قال قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا أشرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند نقرة نحره فقال لا إله إلا اللَّه فليرفع عنه الرمح)
د. قال القفال: ولا منافاة بين هذه الروايات فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها، فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته.
6. اختلفوا في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا؟ فالفقهاء قبلوها واحتجوا عليه بوجوه:
أ. الأول: هذه الآية فإنه تعالى لم يفرق في هذه الآية بين الزنديق وبين غيره بل أوجب ذلك في الكل.
ب. الثانية: قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38] وهو عام في جميع أصناف الكفرة.
ج. الثالثة: أن الزنديق لا شك أنه مأمور بالتوبة، والتوبة مقبولة على الإطلاق لقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ [الشورى: 25] وهذا عام في جميع الذنوب وفي جميع أصناف الخلق.
7. إسلام الصبي صحيح عند أبي حنيفة، وقال الشافعي لا يصح، قال أبو حنيفة دلّت هذه الآية على صحة إسلام الصبي لأن قوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ عام في حق الصبي، وفي حق البالغ، قال الشافعي: لو صح الإسلام منه لوجب، لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذنا في الكفر، وهو غير جائز، لكنه غير واجب عليه لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ) الحديث.
8. قال أكثر الفقهاء: لو قال اليهودي أو النصراني: أنا مؤمن أو قال أنا مسلم لا يحكم بهذا القدر بإسلامه، لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام وهو الإيمان، ولو قال لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، فعند قوم لا يحكم بإسلامه، لأن فيهم من يقول: إنه رسول اللَّه إلى العرب لا إلى الكل، ومنهم من يقول: إن محمدا الذي هو الرسول الحق بعد ما جاء؛ وسيجيء بعد ذلك، بل لا بدّ وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل وأن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق.
9. ثم قال تعالى: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ قال أبو عبيدة: جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء، يقال: إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البر والفاجر، والعرض بسكون الراء ما سوى الدراهم والدنانير، وإنما سمي متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير باق ومنه يسمي المتكلمون ما خالف الجوهر من الحوادث عرضا لقلة لبثه، فقوله: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ يعني ثوابا كثيرا، فنبّه تعالى بتسميته عرضا على كونه سريع الفناء قريب الانقضاء، وبقوله: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ على أن ثواب اللَّه موصوف بالدوام والبقاء كما قال: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [مريم: 76]
10. ثم قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ وهذا يقتضي تشبيه هؤلاء المخاطبين بأولئك الذين ألقوا السلم، وليس فيه بيان أن هذا التشبيه فيم وقع، فلهذا ذكر المفسرون فيه وجوها:
أ. الأول: أن المراد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام كما سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة حقنت دماءكم وأموالكم من غير توقيف ذلك على حصول العلم بأن قلبكم موافق لما في لسانكم، فعليكم بأن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر القول، وأن لا تقولوا إن إقدامهم على التكلم بهذه الكلمة لأجل الخوف من السيف، هذا هو الذي اختاره أكثر المفسرين، وفيه إشكال لأن لهم أن يقولوا: ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء، لأنا آمنا عن الطواعية والاختيار، وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف، فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر.
ب. الثاني: قال سعيد بن جبير: المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى هذا الداعي إيمانه عن قومه، ثم منّ اللَّه عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم، فأنتم عاملوهم بمثل هذه المعاملة، وهذا أيضا فيه إشكال لأن إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم.
ج. الثالث: قال مقاتل: المراد كذلك كنتم من قبل الهجرة حين كنتم فيما بين الكفار تأمنون من أصحاب رسول اللَّه بكلمة (لا إله إلا اللَّه) فاقبلوا منهم مثل ذلك، وهذا يتوجه عليه الإشكال الأول.
د. الأقرب عندي أن يقال: إن من ينتقل من دين إلى دين ففي أول الأمر يحدث ميل قليل بسبب ضعيف، ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتوقى إلى أن يكمل ويستحكم ويحصل الانتقال، فكأنه قيل لهم: كنتم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام، ثم من اللَّه عليكم بالإسلام بتقوية ذلك الميل وتأكيد النفرة عن الكفر، فكذلك هؤلاء كما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم هذا الإيمان، فإن اللَّه تعالى يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم ويقوي تلك الرغبة في صدورهم، فهذا ما عندي فيه.
11. في قوله تعالى: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ احتمالان:
أ. الأول: أن يكون هذا متعلقا بقوله: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ يعني إيمانكم كان مثل إيمانهم في أنه إنما عرف منه مجرد القول اللساني دون ما في القلب، أو في أنه كان في ابتداء الأمر حاصلا بسبب ضعيف، ثم منّ اللَّه عليكم حيث قوي نور الإيمان في قلوبكم وأعانكم على العمل به والمحبة له.
ب. الثاني: أن يكون هذا منقطعا عن هذا الموضع، ويكون متعلقا بما قبله، وذلك لأن القوم لما قتلوا من تكلم بلا إله إلا اللَّه، ثم انه تعالى نهاهم عن هذا الفعل وبين لهم أنه من العظائم قال بعد ذلك: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أي من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر.
12. ثم أعاد الأمر بالتبيين فقال: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ وإعادة الأمر بالتبيين تدل على المبالغة في التحذير عن ذلك الفعل.
13. ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ والمراد منه الوعيد والزجر عن الإظهار بخلاف الإضمار.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/190
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ هذا متصل بذكر القتل والجهاد، والضرب: السير في الأرض، تقول العرب: ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره، مقترنة بفي، وتقول: ضربت الأرض، دون ﴿فِي﴾ إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك)، وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين مروا في سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله، فلما ذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شق عليه ونزلت الآية، وأخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس قال قال ابن عباس: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله تعالى ذلك إلى قوله: ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ تلك الغنيمة.
2. اختلف في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة، فالذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنف أبي داوود والاستيعاب لابن عبد البر أن القاتل محلم بن جثامة، والمقتول عامر بن الأضبط فدعا صلّى الله عليه وآله وسلّم على محلم فما عاش بعد ذلك إلا سبعا ثم دفن فلم تقبله الأرض ثم دفن فلم تقبله ثم دفن ثالثة فلم تقبله، فلما رأوا أن الأرض لا تقبله ألقوه في بعض تلك الشعاب، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الأرض لتقبل من هو شر منه)، قال الحسن: أما إنها تحبس من هو شر منه ولكنه وعظ القوم ألا يعودوا، وفي سنن ابن ماجه عن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جيشا من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا، فمنحوهم أكتافهم فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، إني مسلم، فطعنه فقتله، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله، هلكت! قال: وما الذي صنعت؟ مرة أو مرتين، فأخبره بالذي صنع، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه) فقال: يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما في قلبه؟ قال: لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه، فسكت عنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات فدفناه، فأصبح على وجه الأرض، فقلنا: لعل عدوا نبشه، فدفناه ثم أمرنا غلماننا يحرسونه فأصبح على ظهر الأرض، فقلنا: لعل الغلمان نعسوا، فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض، فألقيناه في بعض تلك الشعاب، وقيل: إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس ابن نهيك الغطفاني ثم الفزاري من بني مرة من أهل فدك، وقاله ابن القاسم عن مالك، وقيل: كان مرداس هذا قد أسلم من الليلة وأخبر بذلك أهله، ولما عظم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الأمر على أسامة حلف عند ذلك ألا يقاتل رجلا يقول: لا إله إلا الله، وقد تقدم القول فيه، وقيل: القاتل أبو قتادة، وقيل: أبو الدرداء، ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم الذي ذكرناه، ولعل هذه الأحوال جرت في زمان متقارب فنزلت الآية في الجميع، وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رد على أهل المسلم الغنم والجمل وحمل ديته على طريق الائتلاف، وذكر الثعلبي أن أمير تلك السرية رجل يقال: له غالب بن فضالة الليثي، وقيل: المقداد، حكاه السهيلي.
3. ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أي تأملوا، و﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ قراءة الجماعة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وقالا: من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت، يقال: تبينت الأمر وتبين الأمر بنفسه، فهو متعد ولازم، وقرأ حمزة (فتثبتوا) من التثبت بالثاء مثلثة وبعدها باء بواحدة، و(فتبينوا) في هذا أوكد، لأن الإنسان قد يتثبت ولا يتبين، وفي ﴿إِذَا﴾ معنى الشرط، فلذلك دخلت الفاء في قوله: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾، وقد يجازى بها كما قال: وإذا تصبك خصاصة فتجمل والجيد ألا يجازى بها كما قال الشاعر:
çوالنفس راغبة إذا رغبتها...وإذا ترد إلى قليل تقنعé
والتبين التثبت في القتل واجب حضرا وسفرا ولا خلاف فيه، وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة التي فيها نزلت الآية وقعت في السفر.
4. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ السلم والسلم، والسلام واحد، قاله البخاري، وقرى بها كلها، واختار أبو عبيد القاسم بن سلام ﴿السَّلَامُ﴾، وخالفه أهل النظر فقالوا: ﴿السَّلْمِ﴾ هاهنا أشبه، لأنه بمعنى الانقياد والتسليم، كما قال تعالى: ﴿فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ فالسلم الاستسلام والانقياد، أي لا تقولوا لمن ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم لست مؤمنا، وقيل: السلام قوله السلام عليكم، وهو راجع إلى الأول، لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك، قال الأخفش: يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا، والسلم (بشد السين وكسرها وسكون اللام) الصلح.
5. روي عن أبي جعفر أنه قرأ ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ بفتح الميم الثانية، من آمنته إذا أجرته فهو مؤمن.
ا
6. المسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له جاز له قتله، فإن قال: لا إله إلا الله لم يجز قتله، لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله: فإن قتله بعد ذلك قتل به، وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام وتأولوا أنه قالها متعوذا وخوفا من السلاح، وأن العاصم قولها مطمئنا، فأخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه عاصم كيفما قالها، ولذلك قال لأسامة: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا) أخرجه مسلم، أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب؟ وذلك لا يمكن، فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه، وفي هذا من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر.
7. إن قال: سلام عليكم فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا، لأنه موضع إشكال، وقد قال مالك في الكافر يوجد فيقول: جئت مستأمنا أطلب الأمان: هذه أمور مشكلة، وأرى أن يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الإسلام، لأن الكفر قد ثبت له فلا بد أن يظهر منه ما يدل على قوله، ولا يكفي أن يقول أنا مسلم ولا أنا مؤمن ولا أن يصلي حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الحكم بها عليه في قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)
8. إن صلى أو فعل فعلا من خصائص الإسلام فقد اختلف فيه علماؤنا، فقال ابن العربي: نرى أنه لا يكون بذلك مسلما، أما أنه يقال له: ما وراء هذه الصلاة؟ فإن قال: صلاة مسلم، قيل له: قل لا إله إلا الله، فإن قالها تبين صدقه، وإن أبى علمنا أن ذلك تلاعب، وكانت عند من يرى إسلامه ردة، والصحيح أنه كفر أصلي ليس بردة، وكذلك هذا الذي قال: سلام عليكم، يكلف الكلمة، فإن قالها تحقق رشاده، وإن أبى تبين عناده وقتل، وهذا معنى قوله: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أي الأمر المشكل، أو (تثبتوا) ولا تعجلوا المعنيان سواء، فإن قتله أحد فقد أتى منهيا عنه، فإن قيل: فتغليظ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على محلم، ونبذه من قبره كيف مخرجه؟ قلنا: لأنه علم من نيته أنه لم يبال بإسلامه فقتله متعمدا لأجل الحنة التي كانت بينهما في الجاهلية.
9. ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي تبتغون أخذ ماله: ويسمى متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير ثابت، قال أبو عبيدة: يقال جميع متاع الحياة الدنيا عرض بفتح الراء، ومنه: (الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر)، والعرض بسكون الراء ما سوى الدنانير والدراهم، فكل عرض عرض، وليس كل عرض عرضا، وفي صحيح مسلم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس)، وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه:
çتقنع بما يكفيك واستعمل الرضا...فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال إنما...يكون الغنى والفقر من قبل النفسé
وهذا يصحح قول أبي عبيدة: فإن المال يشمل كل ما يتمول، وفي كتاب العين: العرض ما نيل من الدنيا، ومنه قوله تعالى: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ وجمعه عروض، وفي المجمل لابن فارس: والعرض من يعترض الإنسان من مرض [أو نحوه] وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو كثر، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد، وأعرض الشيء إذا ظهر وأمكن، والعرض خلاف الطول.
10. ﴿فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ عدة من الله تعالى بما يأتي به على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور، أي فلا تتهافتوا، ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ أي كذلك كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم خوفا منكم على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز الدين وغلبة المشركين، فهم الآن كذلك كل واحد منهم في قومه متربص أن يصل إليكم، فلا يصلح إذ وصل إليكم أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره، وقال ابن زيد: المعنى كذلك كنتم كفرة ﴿فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ بأن أسلمتم فلا تنكروا أن يكون هو كذلك ثم يسلم لحينه حين لقيكم فيجب أن تتثبتوا في أمره.
11. استدل بهذه الآية من قال: إن الإيمان هو القول، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، قالوا: ولما منع أن يقال لمن قال لا إله إلا الله لست مؤمنا منع من قتلهم بمجرد القول، ولولا الإيمان الذي هو هذا القول لم يعب قولهم، قلنا: إنما شك القوم في حالة أن يكون هذا القول منه تعوذا فقتلوه، والله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط، ألا ترى أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول وليسوا بمؤمنين حسب ما تقدم بيانه في (البقرة) وقد كشف البيان في هذا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفلا شققت عن قلبه)؟ فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره، وأن حقيقته التصديق بالقلب، ولكن ليس للعبد طريق إليه إلا ما سمع منه فقط، واستدل بهذا أيضا من قال: إن الزنديق تقبل توبته إذا أظهر الإسلام، قال: لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام، وقد مضى القول في هذا في أول البقرة، وفيها رد على القدرية، فإن الله تعالى أخبر أنه من على المؤمنين من بين جميع الخلق بأن خصهم بالتوفيق، والقدرية تقول: خلقهم كلهم للإيمان، ولو كان كما زعموا لما كان لاختصاص المؤمنين بالمنة من بين الخلق معنى.
12. ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أعاد الأمر بالتبيين للتأكيد، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ تحذير عن مخالفة أمر الله، أي احفظوا أنفسكم وجنبوها الزلل الموبق لكم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/336.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ هذا متصل بذكر الجهاد والقتال، والضرب: السير في الأرض، تقول العرب: ضربت في الأرض: إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيرهما، وتقول: ضربت الأرض، بدون في: إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يخرج رجلان يضربان الغائط)
2. ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ من التبين، وهو التأمل، وهي قراءة الجماعة إلّا حمزة، فإنه قرأ: (فثبتوا) من التثبت، واختار القراءة الأولى أبو عبيدة، وأبو حاتم قالا: لأن من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت، وإنما خصّ السفر بالأمر بالتبين، مع أن التبين والتثبت في أمر القتل واجبان حضرا وسفرا بلا خلاف، لأن الحادثة التي هي سبب نزول الآية كانت في السفر كما سيأتي.
3. (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلم) وقرئ ﴿السَّلَامُ﴾، ومعناهما واحد، واختار أبو عبيدة السلام، وخالفه أهل النظر فقالوا: السلم هنا أشبه لأنه بمعنى الانقياد والتسليم، والمراد هنا: لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم: لست مؤمنا، فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام؛ وقيل: هما بمعنى الإسلام، أي: لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام ـ أي: كلمته، وهي الشهادة ـ: لست مؤمنا؛ وقيل: هما بمعنى التسليم، الذي هو تحية أهل الإسلام، أي: لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم ـ فقال: السلام عليكم ـ: لست مؤمنا، والمراد: نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه، ويقولوا: إنه إنما جاء بذلك تعوذا وتقية، وقرأ أبو جعفر: ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ من آمنته: إذا أجرته فهو مؤمن.
4. استدلّ بهذه الآية: على أن من قتل كافرا بعد أن قال لا إله إلّا الله، قتل به، لأنه قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله، وإنما سقط القتل عمن وقع منه ذلك في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنهم تأوّلوا، وظنوا أن من قالها خوفا من السلاح لا يكون مسلما، ولا يصير بها دمه معصوما، وأنه لا بدّ من أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف، وفي حكم التكلم بكلمة الإسلام: إظهار الانقياد، بأن يقول: أنا مسلم، أو: أنا على دينكم، لما عرفت من أن معنى الآية: الاستسلام والانقياد، وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام، من قول أو فعل، ومن جملة ذلك: كلمة الشهادة، وكلمة التسليم، فالقولان الآخران في معنى الآية داخلان تحت القول الأوّل.
5. ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الجملة في محل نصب على الحال، أي: لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة، على أن يكون النهي راجعا إلى القيد والمقيد، لا إلى القيد فقط، وسمي متاع الدنيا عرضا: لأنه عارض زائل غير ثابت، قال أبو عبيدة: يقال جميع متاع الدنيا: عرض، بفتح الراء، وأما العرض بسكون الراء: فهو ما سوى الدنانير والدراهم، فكل عرض بالسكون عرض بالفتح، وليس كل عرض بالفتح عرضا بالسكون، وفي كتاب العين: العرض ما نيل من الدنيا، ومنه قوله تعالى: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ وجمعه عروض، وفي المجمل لابن فارس: والعرض: ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه، وعرض الدنيا: ما كان فيها من مال قلّ أو كثر، والعرض من الأثاث: ما كان غير نقد.
6. ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ هو تعليل للنهي، أي: عند الله مما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور مغانم كثيرة تغتنمونها، وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد، واغتنام ماله.
7. ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: كنتم كفارا، فحقنت دماؤكم لما تكلمتم بكلمة الشهادة، أو كذلك كنتم من قبل، تخفون إيمانكم عن قومكم خوفا على أنفسكم حتى منّ الله عليكم بإعزاز دينه فأظهرتم الإيمان وأعلنتم به، وكرّر الأمر بالتبين للتأكيد عليهم، لكونه واجبا لا فسحة فيه ولا رخصة.
__________
(1) فتح القدير: 1/579.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال ابن عبَّاس : مرَّت سَرِيَّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأميرها غالب بن فضالة الليثي بمرداس بن نهيك من أهل فدك، ونسبه في بني سليم مع بعض قومه، ولم يسلم من قومه سواه، وهربوا وأقام وألجأ غنمه إلى عاقول الجبل، ولَمَّا تلاحقت الخيل سمع تكبيرهم، فعرف أنَّهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فكبرَّ ونزل يقول: (لا إله إلَّا الله محمَّد رسول الله، السَّلام عليكم)، فتركه المقداد، فقتله أسامة بن زيد بسيفه، وساق غنمه، ولَمَّا رجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد سبقهم الخبر فوَجَدَ عليه وجدًا شديدًا، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أقتلتموه إرادة ما معه؟)، وقرأ على أسامة ما نزل في ذلك من قوله تعالى: ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ إلخ فقال: (يا رسول الله إِنَّمَا قالها خوفًا من السلاح وتعوُّذا لغنمه)، فقال: (أفلا شققت على قلبه حتَّى تعلم أقالها لذلك نفاقًا؟) فقال: (اِستغفرْ لي يا رسول الله)، فقال: (كيف أنت بلا إله إلَّا الله! كيف أنت بلا إله إلَّا الله! كيف أنت بلا إله إلَّا الله!) ثلاثًا، قال أسامة: (وددت أنِّي لم أسلم إلَّا يومئذ، ثمَّ استغفَرَ لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقال: (أعتِقْ رقبة، واردُد الغنيمة لأهلها)
2. ونزلت أيضًا في محلم بن جثامة، إذ مَرَّ به رجل على قعود معه مُتَيِّع ووطب من لبن فسلَّم بتحية الإسلام فقتله محلم، وأخذ متيعه، وكان بينه وبين الرجل شيء من العداوة، كما رواه أحمد والطبراني وابن المنذر وغيرهما عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، قال عبد الله بن أبي حدرد: (لَمَّا رجعنا أخبرنا به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت الآية)، وذكر ابن عمر أنَّ محلما قعد في بردين بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليستغفر له، فقال: (لا غفر الله لك)، فقام يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت ساعة حتَّى مات ودفنوه فلفظته الأرض، فأخبروه صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك فقال: (إنَّ الأرض تقبل من هو شرٌّ منه، ولكن أراد الله أن يعظكم بِهِ)، وألقوا عليه الحجارة تحت جبل، وروي أنَّهم أعادوا له قبرًا فلفظه أيضًا، وروي أنَّهم ألقوه بعد ذلك في غار، وروي أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: (أقتلته بعدما قال لا إله إلَّا الله؟) قال: (يا رسول، إِنَّمَا قالها متعوِّذًا)، قال: (أفلا شققت عن قلبه)، قال: (لم يا رسول الله؟)، قال: (لتعلم أصادق هو أو كاذب)، قال: (كنت عالم ذلك يا رسول الله)، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنما كان يُبِينُ عنه لسانُه، إنما كان يُبِينُ عنه لسانُه)، وكان قول لا إله إلَّا الله عنوانًا على الإسلام، ومتضمِّنًا لرسالة سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم على عهده صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لفشوِّ الشرك وتضمُّن هذه الجملة الوحدانيَّة.
3. ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ سافرتم ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ للجهاد ﴿فَتَبَيَّنُواْ﴾ تثبَّتوا حتَّى تعرفوا المؤمن من الكافر، وتعرفوا ما تقدِمون عليه ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَنَ اَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ الانقياد للإيمان ولو تحت السيف ﴿لَسْتَ مُومِنًا﴾ فتقتلوه، تقولون: بل أردتَ بكلمة الشهادة نجاة نفسك ومالك وفي قلبك شرك، فإنَّ الغيبَ لله، وأنَّه قد يقولها لتنجية ذلك، ثمَّ يستمرُّ عليها من بعد، ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ مالها كغنم مرداس، فيتغلَّب عليكم قول: (لست مؤمنا)، ﴿فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ لأنَّ عند الله مغانم كثيرة، تغنيكم عن قتل من لا يستحقُّ القتل لماله، أي: ما يغنم، وأصل المغنم المصدر، أو المكان أو الزمان ثمَّ يطلق على ما يؤخذ من مال العدوِّ قهرًا.
4. ﴿كَذَالِكَ﴾ الرجل الذي ألقى إليكم السلم ﴿كُنتُم مِّن قَبْلُ﴾ تُلقُون السَّلَمَ فيُقبَلُ منكم بظاهره، فتعصم دماؤُكم وأموالكم، ولا تُكلَّفون سرائرَكم، فمنكم مخلص ومنكم غير مخلص ثمَّ أخلص، كما قال: ﴿فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ بالاستقامة، ومنكم من خالف ذلك وحسابه إلى الله، إمَّا أن يفتضح في الدُّنيا أو في الآخرة، أو كذلك كنتم مشركين ثمَّ منَّ الله عليكم بالإسلام، وزيادة إعلان الإسلام بعد خفائه.
5. ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أن تقتلوا مؤمنا، وعاملوا بالظاهر كما عوملتم، فإبقاء أَلْفِ كافِرٍ أهون عند الله مِنْ قَتْلِ مؤمنٍ، وإيمان المكره يصحُّ، وهذا تأكيد للأوَّل، أو تبيَّنوا نعمة الله وتثبَّتوا فيها، فهو تأسيس، وهو أولى، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ لا يفوته جزاؤكم.
6. عن سعيد بن المسيب: مَرَّ المقداد بن الأسود في سريَّة فمَّر برجل في غنيمة له، فقال: إنِّي مسلم، فقتله المقداد وأخذ غنيمته، فذكروا ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (قتلته وهو مسلم!)، فقال المقداد: (ودَّ لو فَرَّ بأهله وماله)، فنزلت الآية.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/255.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. حذر الله تعالى عما يؤدي إلى القتل العمد من قلة المبالاة في الأمور بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ أي: ذهبتم ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلى أرض العدوّ للغزو ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أي: اطلبوا بيان كل ما تأتون وما تذرون، ولا تعجلوا فيه بغير تدبر ورويّة.
2. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ نهي عما هو نتيجة لترك المأمور به، وتعيين لمادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين، أي: لا تقولوا (لمن أظهر الانقياد لدعوتكم فقال: لا إله إلا الله، أو سلّم عليكم فحياكم بتحية الإسلام): لست مؤمنا في الباطن، وإنما قلته باللسان لطلب الأمان، بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه.
3. ﴿تَبْتَغُونَ﴾ أي: تطلبون بقتله ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي: ماله الذي هو سريع النفاد، والجملة حال من فاعل (لا تقولوا) منبئة عما يحملهم على العجلة وترك التأنّي، وقوله تعالى ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ تعليل للنهي عن ابتغاء ماله بما فيه من الوعد الضمنيّ، كأنه قيل: لا تبتغوا ماله، فعند الله مغانم كثيرة يغنمكموها، فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه، أفاده أبو السعود، ثم قال: وقوله تعالى ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾، تعليل للنهي عن القول المذكور، أي: مثل ذلك الذي ألقى إليكم السلام، كنتم أنتم أيضا، في مبادئ إسلامكم، لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم، من تحية الإسلام ونحوها، فمنّ الله عليكم، بأن قبل منكم تلك المرتبة، وعصم بها دماءكم وأموالكم، ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم، والفاء في قوله تعالى ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ فصيحة، أي: إذا كان الأمر كذلك، فاطلبوا بيان هذا الأمر البيّن وقيسوا حاله بحالكم، وافعلوا به ما فعل بكم، في أوائل أموركم، من قبول ظاهر الحال، من غير وقوف على تواطؤ الظاهر والباطن ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.
4. قال ابن كثير: قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾، أي: قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسرّ إيمانه ويخفيه من قومه، كما تقدم في الحديث المرفوع، وكما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: 26] الآية، وهذا وجه آخر في مرجع الإشارة، غير ما سلف، وهو الأدق، وبالقبول أحق.
5. قال الرازيّ: اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين، وأمر المجاهدين بالتثبت فيه، لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف، وفي (الإكليل): استدل بظاهرها على قبول توبة الزنديق إذا أظهر الاستسلام، وعلى أن الكافر يحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي اعتقاده، على قراءة (السلام) وفي الآية وجوب التثبت في الأمور، خصوصا القتل ووجوب الدعوة قبل القتال.
6. وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): في الآية دليل على أن من أظهر شيئا من علامات الإسلام لم يحلّ دمه حتى يختبر أمره، لأن السلام تحية المسلمين، وكان تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك، فكانت هذه علامة، وأما على قراءة (السلم) بفتحتين، أو بكسر فسكون، فالمراد به الانقياد، وهو علامة الإسلام.
7. وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية الكريمة وجوب التثبت والتأني فيما يحتمل الحظر والإباحة، لقوله: فتبيّنوا (بالنون) وهذا قراءة الأكثر، وحمزة والكسائيّ قراءتهما: (فتثبتوا) من (الثبات)، ويدخل في هذا أحكام كثيرة من الاعتقادات والأخبار والأفعال من الأحكام وسائر الأعمال، فهذا حكم، والحكم الثاني أنه يجب الأخذ بالظاهر، فمن أظهر الإسلام أو شيئا من شعائر الإسلام، لا يكذّب بل يقبل منه، ويدخل، في هذا، الملحد والمنافق، وهذا هو مذهبنا والأكثر، ويدخل في هذا قبول توبة المرتدّ، خلافا لأحمد، وقبول توبة الزنديق، وهذا قول عامة الأئمة، وقال مالك: لا تقبل، لأن هذا عين مذهبهم أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون، قال الراضي بالله والإمام يحيى: إن أظهروا ما يعتادون إخفاءه قبلت توبتهم، وإلا فلا، قال علي خليل: تقبل توبتهم، ولو عرفنا من باطنهم خلاف ما أظهروا، كما قبل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من المنافقين، وقد أخبر الله تعالى بكفرهم، وقال أبو مضر: تقبل ما لم يعرف كذبهم، وهذا الخلاف في الظاهر، وأما عند الله، إذا صدق، فهي مقبولة وفاقا، قال الحاكم: وتدل على أن التوصل بالسبب المحرم إلى المال لا يجوز، وقد ذكر العلماء صورا في التوصل إلى المباح بالمحظور، مختلفة، ذكرت في غير هذا الموضع، والحجة هنا من قوله تعالى ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، لأن الذي قصد هنا أخذه، محظور، لأن إظهار الإسلام يحقن النفس والمال، فذلك توصل بمحظور إلى محظور، وقوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، قرئ (السلم) وهذه قراءة نافع وحمزة وابن عامر بغير ألف وهو الاستسلام، وقيل: إظهار الإسلام، وقرأ الباقون: (السلام) بألف وهو التحية.
8. وقال أبو منصور في (التأويلات): فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة، والنهي عن الإقدام عندها، وهكذا الواجب على المؤمن الوقف عند اعتراض الشبهة في كل فعل وكل خبر، لأن الله تعالى أمر بالتثبت في الأعمال بقوله: ﴿فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، وقال في الخبر: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6]، أمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة، كما أمر في الأفعال لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36]، وفي الآية دليل فساد قول المعتزلة، لأنه نهاهم أن يقولوا (لمن قال: إني مسلم) لست مؤمنا، وهم يقولون: صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، وهو يقول ألف مرة (على المثل) أني مسلم، فإذا نهى أن يقولوا: ليس بمؤمن، أمرهم أن يقولوا: هو مؤمن، فيقال لهم: أنتم أعلم أم الله؟ على ما قيل لأولئك.
9. وقال الرازيّ: قال أكثر الفقهاء: لو قال اليهوديّ والنصرانيّ: أنا مؤمن، أو قال: أنا مسلم، لا يحكم بهذا القدر بإسلامه، لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام، وهو الإيمان، ولو قال: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، فعند قوم لا يحكم بإسلامه، لأن فيهم من يقول: إنه رسول الله إلى العرب، لا إلى الكل، ومنهم من يقول: إن محمدا الذي هو الرسول الحق، بعد ما جاء، وسيجيء بعد ذلك، بل لا بد وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل، وأن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق والله أعلم.
10. كل من قال: أنا مؤمن أو أنا مسلم، من المحاربين، مظهرا الانقياد لنا، وأنه من ملتنا، فإنه يحكم بإسلامه، ويكف عن قتله وأخذ ماله، كتابيّا كان أو مشركا، وهذا هو المقصود من الآية، وأما مسألة من أراد الدخول في الإسلام وهو على عقيدة فاسدة، وأنه لا بد في صحة إسلامه من تبرئه عنها، ونبذها ظهريا، وأنه لا يكتفى بقوله: أنا مسلم ـ فذاك بحث آخر مسلّم، لكن ليس مما تشمله الآية، كما أن من أظهر الإسلام وأتى بالشهادتين ولم يدن بشرائع الإسلام وإقامة شعائره، كبعض القبائل البادية الجافية، فإن يجب على الإمام قتالهم، ولا يقال: إن الآية تشملهم لما ذكرنا، وظاهر أن مدار النهي في الآية إنما هو على سفك الدماء ابتغاء عرض الدنيا، لقوله ﴿تَبْتَغُونَ﴾، وهو حال كما أسلفنا، والحال قيد لعاملها، فما ذكره الرازي عن الفقهاء ليس مما تشمله الآية، لأن البحث ليس في القدر الذي يصير به الكافر مسلما، بل في الكف عن قتل المنقاد لنا.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/278
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مضت سنة القرآن في مزج آيات الأحكام العملية بما يرغب في الأعمال الصالحة وينشط عليها، ويحفز الهمم إليها، وينفر من القعود عنها، والتكاسل والتواكل فيها، وعلى هذه السنة جاءت هاتان الآيتان بين آيات أحكام القتال، فهما متصلتان بها أتم الاتصال.
2. ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي عن الجهاد في سبيل الله لتأييد حرية الدين، وصد غارات المشركين، وتطهير الأرض من الفساد، وإقامة دعائم الحق والإصلاح ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ العاجزين عن هذا الجهاد كالأعمى والمقعد والزمِن والمريض ﴿وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ أي لا يكون القاعدون عن الجهاد بأموالهم بخلا بها وحرصا عليها، وبأنفسهم إيثارا للراحة والنعيم على التعب وركوب الصعاب في القتال، مساوين للمجاهدين الذين يبذلون أموالهم في الاستعداد للجهاد بالسلاح والخيل والمؤنة، ويبذلون أنفسهم بتعريضها للقتل في سبيل الحق، لأجل منع القتل في سبيل الطاغوت، لأن المجاهدين هم الذين يحمون أمتهم وبلادهم، والقاعدين الذين لا يأخذون حذرهم، ولا يعدون للدفاع عدتهم، يكونون عرضة لفتك غيرهم بهم، ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 250] بغلبة أهل الطاغوت عليها، وظلمهم لأهلها، وإهلاكهم للحرث والنسل فيها.
3. ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ هذا بيان لمفهوم عدم استواء المجاهدين والقاعدين غير أولي الضرر، وهو أن الله تعالى رفع المجاهدين عليهم درجة وهي درجة العمل الذي يترتب عليه دفع شر الأعداء عن الملة والأمة والبلاد.
4. ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ أي ووعد الله المثوبة الحسنى كلا من الفريقين المجاهدين والقاعدين عن الجهاد عجزا منهم عنه وهم يتمنون لو قدروا عليه فقاموا به، فإن إيمان كل منهما واحد وإخلاصه واحد، قدم مفعول (وعد) الأول وهو لفظ (كلا) لإفادة حصر هذا الوعد الكريم في هذين الفريقين المتساويين في الإيمان والإخلاص، المتفاضلين في العمل، لقدرة أحدهما وعجز الآخر، وفسر قتادة الحسنى بالجنة.
5. ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ﴾ بأموالهم وأنفسهم ﴿عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ من غير أولي الضرر كما قال ابن جريج ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وهو ما يبينه قوله تعالى: ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾
6. من مباحث اللفظ في الآية أن نافعا وابن عامر قرآ ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ بنصب (غير) على الحال أو الاستثناء وقرأها الباقون بالرفع وهي حينئذ صفة للقاعدون، وقرئت بالجر شذوذا على أنها صفة للمؤمنين أو بدل منهم، وقوله: ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ نصب (أجر) على المصدر لأنه بمعنى أجرهم أجرا عظيما، أو على الحال و(درجات) بدل منه.
7. تركت ما ذكروه في تفسير الآية من حديث زيد بن ثابت في كون قوله: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ نزل لأجل ابن أم مكتوم لأن هذا من المشكلات الجديرة بالرد مهما قووا سندها، ولعلنا نفصل القول فيها في مقدمة التفسير.
8. ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ أما الدرجات فقد بينا في غير هذا الموضع ما تدل عليه الآيات المتعددة فيها من تفاوت درجات الناس في الدنيا والآخرة ومنها قوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 21] وبينا أن درجات الآخرة مبنية على درجات الدنيا في الإيمان والفضيلة والعمل النافع، لا في الرزق وعرض الدنيا، وقد حمل بعض المفسرين الدرجات هنا على ما يكون للمجاهد في الدنيا من الفضائل والأعمال فقال قتادة: كان يقال: الإسلام درجة، والإسلام في الهجرة درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتال في الجهاد درجة.
9. جعل بعضهم الجهاد هنا عدة درجات بحسب ما فيه من الأعمال الشاقة فقال ابن زيد: الدرجات هي السبع التي ذكرها الله تعالى في سورة براءة (التوبة) ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [التوبة: 120] يعني أن هذه الأمور السبعة التي يتعرض لها المجاهدون هي الدرجات لأن لكل منها أجرا كما قال تعالى ومجموعها مع المغفرة والرحمة هو الأجر العظيم، والصواب أن المراد هنا درجات الآخرة لأنها تفسير للأجر كما قال ابن جرير، وهي مرتبة على ما ذكر وعلى غيره مما يفضل المجاهدون به القاعدون، وأهمه مصدره من النفس وهو قوة الإيمان بالله وإيثار رضاه على الراحة والنعيم، وترجيح المصلحة العامة على الشهوات الخاصة، والمغفرة المقرونة بهذه الدرجات هي أن يكون لذنوبهم في نفوسهم عند الحساب أثر من الآثار التي قضى عدل الله بأن تكون سبب العقاب لأن ذلك الأثر يتلاشى في تلك الأعمال التي استحقوا بها الدرجات كما يتلاشى الوسخ القليل في الماء الكثير، والرحمة ما يخصهم به الرحمن زيادة على ذلك من فضله وإحسانه، قال البيضاوي: (وقيل الأول ما خولهم الله في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر الثاني ما حصل لهم في الآخرة، وقيل الدرجة ارتفاع منزلتهم عند الله، والدرجات منازلهم في الجنة، وقيل القاعدون الأول الأضراء، والقاعدون الثاني هم الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم، وقيل المجاهدون الأولون من جاهد الكفار، والآخرون من جاهد نفسه، وعليه قول علي عليه السلام: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)
10. ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ وكان شأن الله وصفته أنه غفور لمن يستحق المغفرة، رحيم بمن يتعرض لنفحات الرحمة، فهو ما فضلهم بذلك إلا بما اقتضته صفاته، وما هو شأنه في نفسه، فإذا لا بد من ذلك الأجر العظيم بأنواعه لا مرد له.
__________
(1) تفسير المنار: 5/286.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين عز اسمه في الآيات السابقة أنه ليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمنا إلا على سبيل الخطأ، وأن من قتل مؤمنا متعمدا فلا جزاء له إلا جهنم خالدا فيها أبدا، أراد هنا أن ينبه المؤمنين إلى ضرب من ضروب قتل الخطأ كان يحصل في ذلك العهد عند السفر إلى أرض المشركين حين انتشر الإسلام ولم يبق مكان في بلاد العرب وقبائلهم يخلو من المسلمين أو ممن يميل إلى الإسلام ويتحينون الفرص للاتصال بأهله، فأعلمهم ألا يحسبوا كل من يجدونه في دار الكفر كافرا، وأن يتبينوا من تظهر عليهم علامات الإسلام كالشهادة والسلام الذي هو تحية المؤمنين، وألا يحملوا مثل هذا على الخداع، إذ ربما يكون الإيمان قد طاف على هذه القلوب وألمّ بها إن لم يكن قد تمكن فيها، ومن ثم أمر بالتثبت ونهى عن إنكار إسلام من يدعى الإسلام ولو بإلقاء تحيته، فما بالك بمن ينطق بالشهادتين، وأبان أن الذي يدعوه إلى ظن هذا الظن إنما هو ابتغاء عرض الحياة الدنيا؟ وبهذا أرشد المؤمن إلى أن يتهم نفسه ويفتش عن قلبه ولا يبنى الظن على ميله وهواه، بل عليه أن يتقبل الظاهر حتى يستبين له خلافه.
لا مانع من تعدد الوقائع قبل نزول الآية(2) وأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقروها على أصحاب كل واقعة فيرون أنهم سبب نزولها.
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ أي يا أيها الذين صدقوا الله وصدقوا رسوله واتبعوا الأوامر وتركوا النواهي، إذا سرتم للغزو وجهاد الأعداء رفعة لدينه وإعلاء لكلمته، تأنوا في قتل من اشتبه عليكم أمره فلم تعلموا أمسلم هو أم كافر؟ ولا تعجلوا في قتل أحد إلا إذا علمتم يقينا أنه حرب لكم ولله والرسول ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي ولا تقولوا لمن انقاد لكم واستسلم ولم يقاتلكم وأظهر أنه من أهل ملتكم ـ إنك لست بمؤمن حقا فتقتلوه ابتغاء متاع الدنيا وحطامها الزائل السريع التحول والانتقال، فعند الله أرزاق كثيرة ونعم لا تحصى ولا تعد، يغنّمكموها فيغنيكم إذا شاء.
3. ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أي إنكم أول ما دخلتم في الإسلام حقنت دماؤكم وأموالكم بالنطق بكلمة الشهادة من غير انتظار لمعرفة أن ما في القلب موافق لما في اللسان، ومنّ الله عليكم بذلك، فعليكم أن تعملوا مع الداخلين في الإسلام كما عمل معكم وأن تعتبروا بظاهر القول ولا تقولوا إن إقدامهم على التكلم بهذه الكلمة إنما كان لأجل الخوف من السيف.
4. ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أي فكونوا على بينة من الأمر الذي تقدمون عليه ولا تأخذوا بالظن، بل تدبروا ليظهر لكم أن الإيمان العاصم من حقن الدماء يكفى فيه ظاهر الحال كما كفى معكم من قبل، وفى إعادة التبيين مرة أخرى المبالغة في التحذير من ذلك الفعل والوعيد عليه.
5. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ أي إنه تعالى خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء من البواعث التي حفزتكم على الفعل، فإن كانت ابتغاء حظ الحياة الدنيا فهو يجازيكم على ذلك فلا تفعلوا بل تثبتوا وتبينوا، وإن كان محض الدفاع عن الحق فهو مثيبكم على ذلك، وفى هذا وعيد وتحذير شديد من الوقوع في مثل هذا الخطأ، وكذلك فيه إرشاد إلى ألا نحكم بتكفير من يخالفنا من أهل القبلة والعلم الصحيح والدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله بمجرد المخالفة لنا في رأى أو عقيدة، فإن مثل هذا لا يقدم عليه المسلم جزافا.
6. علينا أن ننظر بعد هذا كله إلى أن الإسلام منع قتل من يلقى السلم ومن بينه وبين المسلمين عهد وميثاق إما على النصر وإما على ترك القتال، ورغب عن ابتغاء عرض الدنيا بالقتال، ليكون لمحض رفع العدوان والبغي وتقرير الحق والإصلاح، وأين هذا مما تفعله الدول الآن من القتال للربح وجمع الأموال وهم ينقضون العهد والميثاق مع الضعفاء ولا يلتزمون حفظ المعاهدات إلا مع الأقوياء؟
__________
(1) تفسير المراغي 5/126.
(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. احتراسا من وقوع القتل ولو كان خطأ؛ وتطهيرا لقلوب المجاهدين حتى ما يكون فيها شيء إلا للّه، وفي سبيل الله.. يأمر الله المسلمين إذا خرجوا غزاة، ألا يبدءوا بقتال أحد أو قتله حتى يتبينوا؛ وأن يكتفوا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان (إذ لا دليل هنا يناقض كلمة اللسان)
2. وقد وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآية: خلاصتها أن سرية من سرايا المسلمين لقيت رجلا معه غنم له، فقال السلام عليكم، يعني أنه مسلم، فاعتبر بعضهم أنها كلمة يقولها لينجو بها، فقتله، ومن ثم نزلت الآية، تحرج على مثل هذا التصرف؛ وتنفض عن قلوب المؤمنين كل شائبة من طمع في الغنيمة؛ أو تسرع في الحكم.. وكلاهما يكرهه الإسلام.
3. إن عرض الحياة الدنيا لا يجوز أن يدخل للمسلمين في حساب؛ إذا خرجوا يجاهدون في سبيل الله، إنه ليس الدافع إلى الجهاد ولا الباعث عليه.. وكذلك التسرع بإهدار دم قبل التبين، وقد يكون دم مسلم عزيز، لا يجوز أن يراق.
4. والله سبحانه يذكر الذين آمنوا بجاهليتهم القريبة وما كان فيها من تسرع ورعونة؛ وما كان فيها من طمع في الغنيمة، ويمن عليهم أن طهر نفوسهم ورفع أهدافهم، فلم يعودوا يغزون ابتغاء عرض الحياة الدنيا كما كانوا في جاهليتهم، ويمن عليهم أن شرع لهم حدودا وجعل لهم نظاما؛ فلا تكون الهيجة الأولى هي الحكم الآخر، كما كانوا في جاهليتهم كذلك.. وقد يتضمن النص إشارة إلى أنهم هم كذلك كانوا يخفون إسلامهم ـ على قومهم ـ من الضعف والخوف، فلا يظهرونه إلا عند الأمن مع المسلمين، وأن ذلك الرجل القتيل كان يخفي إسلامه على قومه، فلما لقي المسلمين أظهر لهم إسلامه وأقرأهم سلام المسلمين.
5. ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾، وهكذا يلمس المنهج القرآني القلوب لتحيا وتتحرج وتتذكر نعمة الله.. وعلى هذه الحساسية والتقوى، يقيم الشرائع والأحكام؛ بعد بيانها وإيضاحها، وهكذا يتناول هذا الدرس تلك الجوانب من قواعد المعاملات الدولية بمثل هذا الوضوح، ومثل هذه النظافة، منذ أربعة عشر قرنا..
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/740.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الضرب في سبيل الله، هو السعى إلى الجهاد، بقوة وعزم، والضرب في الأرض، السعى في وجوهها المختلفة ابتغاء الرزق، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ هو دعوة للمؤمنين، الذين خرجوا من ديارهم يبتغون المثوبة والرضوان من الله ـ دعوة لهم أن يتبيّنوا طريقهم، وأن يتثبّتوا من كل ما يأتون وما يذرون، حتى يتجنبوا الزلل والعثار، وهم في طريقهم إلى الله.. فإن لم يفعلوا، فقد تنحرف أقدامهم عن جادّة الطريق، ويعودون بالإثم من حيث يرجون الثواب، وأكثر ما ينبغى الالتفات إليه هنا هو الدماء، حتى لا تسفك قطرة منها بغير حق.. وقد بينت الآيات السابقة ما للدماء من حرمة عند الله، وما لمستبيحها من جزاء أليم في الدنيا والآخرة..
2. وهنا ـ في هذه الآية ـ دعوة للمؤمنين، المجاهدين في سبيل، أن يتحرّوا مواقع سيوفهم، فلا تقع إلا حيث ينبغى لها أن تقع، ولا تريق دما إلا ما استحق أن يراق.. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، ففي مواطن الحرب ـ والنفوس مهتاجة، والأعصاب متوترة ـ تقع هنا وهناك رميات طائشة، تأخذ البريء بذنب المسيء.. كما قد يستتر بعض الناس بثوب الخديعة، حين يرى الموت دانيا منه، في ضربة سيف أو طعنة رمح، فيدفع ذلك بإظهار الإيمان، وبكلمة لا إله إلا الله، يقولها بفمه.. أو يلقى بتحيّة الإسلام إلى المسلمين، ليريهم أنه منهم.. فهذه وأمثالها صور تقع في مواطن الحرب، وهى في ظاهرها تقيم لصاحبها حرمة يعصم بها دمه من سيوف المسلمين، أما الباطن فلا يعلمه إلا علّام الغيوب.
3. من أجل هذا، كان على المسلمين ألا يتسرعوا في الحكم على باطن هؤلاء الذين يظهرون الإسلام، ويحملون بعض شاراته.. فقد يكون باطنهم كظاهرهم، وقتلهم في تلك الحال جرم عظيم، لأنه قتل نفس مؤمنة.. أما إن كان باطنهم على خلاف ظاهرهم ـ وهذا ما لا يعلمه إلا الله ـ فإن على المسلمين أن يقبلوا هذا الظاهر، وأن يعاملوا أصحابه عليه، وأن يكلوا باطنهم إلى الله.. ومن يدرى؟ فقد ينصلح أمر كثير من هؤلاء الذين وجدوا في الإسلام ـ على نفاقهم معه ـ يدا رحيمة.. دفعت عنهم الموت الذي كاد يختطفهم! إذ لا يمكن أن ينجلى هذا الموقف دون أن يراجع كثير منهم نفسه، ويصحح موقفه من الإسلام.. وفي هذا استنقاذ لهم من الهلاك، وانتفاع بقوة جديدة، تضاف إلى الإسلام، وتعمل من أجله..
4. في قوله تعالى: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ تبغيض للمسلمين من التسرّع في الحكم على من جاءهم في زىّ المسلمين وعلى سمتهم ـ بأنه ليس مسلما، وبهذا يستباح دمه وماله.. وكأنه لأجل المال ـ وهو عرض زائل ـ قد كان هذا الحكم الذي حكم به على هذا الإنسان، وكأن دمه الذي أريق كان من أجل الحصول على ما معه من سلاح أو مال!
5. ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ هو تذكير للمؤمنين بنعمة الله عليهم، إذ أخرجهم من منطقة الظلّ التي كانت تلقى على إسلامهم شيئا من الشّبه، حتى ليختلط أمرهم على المسلمين، فلا يتحقق أحد من إيمانهم، وذلك حين كانوا مستضعفين في مكة، لم يستطيعوا أن يجهروا بإسلامهم، ولم يقدروا أن يهاجرون بدينهم ـ وها هم أولاء الآن قد صاروا إلى جماعة المسلمين، وظهر وجههم واضحا في الإسلام، فليذكروا هذا الذي هم فيه الآن، وما كانوا فيه من قبل، وليجعلوا في حسابهم لهؤلاء الذين يلقونهم في مواطن الكفر بشارات الإسلام، وبلسان المسلمين ـ أنهم كانوا في حال مثل حالهم.. وفي هذا ما يغيّر نظرتهم إليهم، ويوسع لهم في باب التسامح والقبول..
6. ﴿فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ دعوة أخرى، مؤكّدة للتثبث من أمر هؤلاء الذين لم يتضح أمرهم من الإسلام وضوحا كاملا، وأن على المؤمنين أن يحذروا أن يصيبوا قوما بجهالة، فتكون عاقبتهم الحسرة والندامة.. والله سبحانه وتعالى مطلع على الدوافع الخفية التي تدفع إلى التسرع في هذا المقام، وأهمها هو الرغبة في مال القتيل وسلبه.. فإذا عزل المسلم هذا الشعور عن نفسه عزلا تامّا، كان في ذلك وقاية له من أن يأخذ هذا الإنسان، ويستبيح دمه، إلا إذا قامت بين يديه الدلائل القوية على أنه ليس من الإسلام في شىء أبدا.
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/870.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ استئناف ابتدائي خوطب به المؤمنون، استقصاء للتحذير من قتل المؤمن بذكر أحوال قد يتساهل فيها وتعرض فيها شبه، والمناسبة ما رواه البخاري، عن ابن عبّاس(2).
2. مخاطبتهم بـ ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ تلوّح إلى أنّ الباعث على قتل من أظهر الإسلام منهي عنه، ولو كان قصد القاتل الحرص على تحقّق أنّ وصف الإيمان ثابت للمقتول، فإنّ هذا التحقّق غير مراد للشريعة، وقد ناطت صفة الإسلام بقول: (لا إله إلّا الله محمد رسول الله) أو بتحية الإسلام وهي (السلام عليكم)
3. الضرب: السير، وتقدّم عند قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ في سورة آل عمران [156]، وقوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ظرف مستقر هو حال من ضمير ﴿ضَرَبْتُمْ﴾ وليس متعلّقا بـ ﴿ضَرَبْتُمْ﴾ لأنّ الضرب أي السّير لا يكون على سبيل الله إذ سبيل الله لقب للغزو، ألا ترى قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ الآية.
4. التبيّن: شدّة طلب البيان، أي التأمّل القويّ، حسبما تقتضيه صيغة التفعّل، ودخول الفاء على فعل (تبيّنوا) لما في (إذا) من تضمّن معنى الاشتراط غالبا، وقرأ الجمهور: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ ـ بفوقية ثم موحّدة ثم تحتيّة ثم نون ـ من التبيّن وهو تفعّل، أي تثبّتوا واطلبوا بيان الأمور فلا تعجلوا فتتّبعوا الخواطر الخاطفة الخاطئة، وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف: فتثبتوا ـ بفاء فوقية فمثلّثة فموحّدة ففوقيّة ـ بمعنى اطلبوا الثابت، أي الذي لا يتبدّل ولا يحتمل نقيض ما بدا لكم.
5. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ قرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، وخلف (السّلم) ـ بدون ألف بعد اللام ـ وهو ضدّ الحرب، ومعنى ألقى السلم أظهره بينكم كأنّه رماه بينهم، وقرأ البقية (السّلام) ـ بالألف ـ وهو مشترك بين معنى السلم ضدّ الحرب، ومعنى تحية الإسلام، فهي قول: السلام عليكم، أي من خاطبكم بتحية الإسلام علامة على أنّه مسلم.
6. جملة ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ مقول ﴿لَا تَقُولُوا﴾، وقرأ الجمهور: ﴿مُؤْمِنًا﴾ ـ بكسر الميم الثانية: بصيغة اسم الفاعل، أي لا تنفوا عنه الإيمان وهو يظهره لكم، وقرأه ابن وردان عن أبي جعفر ـ بفتح الميم الثانية: بصيغة اسم المفعول، أي لا تقولوا له لست محصّلا تأميننا إياك، أي إنّك مقتولا أو مأسور، و﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ﴾: متاح الحياة، والمراد به الغنيمة فعبّر عنها ب ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ﴾ تحقيرا لها بأنّها نفع عارض زائل.
7. جملة ﴿تَبْتَغُونَ﴾ حالية، أي ناقشتموه في إيمانه خشية أن يكون قصد إحراز ماله، فكان عدم تصديقه آئلا إلى ابتغاء غنيمة ماله، فأوخذوا بالمآل، فالمقصود من هذا القيد زيادة التوبيخ، مع العلم بأنّه لو قال لمن أظهر الإسلام: لست مؤمنا، وقتله غير آخذ منه مالا لكان حكمه أولى ممّن قصد أخذ الغنيمة، والقيد ينظر إلى سبب النزول، والحكم أعمّ من ذلك، وكذلك قوله: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ أي لم يحصر الله مغانمكم في هذه الغنيمة.
8. زاد في التوبيخ قوله: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ أي كنتم كفّارا فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام، فلو أنّ أحدا أبى أن يصدّقكم في إسلامكم أكان يرضيكم ذلك، وهذه تربية عظيمة، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحوالا كان هو عليها تساوي أحوال من يؤاخذه، كمؤاخذة المعلّم التلميذ بسوء إذا لم يقصّر في إعمال جهده، وكذلك هي عظيمة لمن يمتحنون طلبة العلم فيعتادون التشديد عليهم وتطلّب عثراتهم، وكذلك ولاة الأمور وكبار الموظّفين في معاملة من لنظرهم من صغار الموظّفين، وكذلك الآباء مع أبنائهم إذا بلغت بهم الحماقة أن ينتهروهم على اللعب المعتاد أو على الضجر من الآلام.
9. دلّت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بثّ الثقة والأمان بين أفراد الأمّة، وطرح ما من شأنه إدخال الشكّ لأنّه إذا فتح هذا الباب عسر سدّه، وكما يتّهم المتّهم غيره فللغير أن يتّهم من اتّهمه، وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق، إذ قد أصبحت التهمة تظلّ الصادق والمنافق، وانظر معاملة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المنافقين معاملة المسلمين، على أنّ هذا الدين سريع السريان في القلوب فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة، إذ لا يلبثون أن يألفوه، وتخالط بشاشته قلوبهم، فهم يقتحمونه على شكّ وتردّد فيصير إيمانا راسخا، وممّا يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين بهم، ومن أجل ذلك أعاد الله الأمر فقال: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ تأكيدا ل (تبيّنوا) المذكور قبله، وذيّله بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ وهو يجمع وعيدا ووعدا.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/226.
(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن القتل الخطأ الذى بين القرآن الكريم أحكامه في الآيات السابقة، قد يكون سببه أن يقتل محرم الدم، على أساس أنه مباح الدم، كمن يلقى طائفة من الناس في بادية يحسبهم من الأعداء الذين يباح دمهم، لاعتدائهم على المسلمين، فيقتل منهم أحدا، فيكون الخطأ: ولذا نبه سبحانه إلى توقى المجازفة في القتل، فلا يسارع المؤمن إليه؛ لأن الأصل في الدماء أنها محرمة، ولا تباح إلا عند الاعتداء؛ ولذا قال سبحانه بعد الآية السابقة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾
2. بعد أن بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أحكام القتل الخطأ، نبه سبحانه إلى توقى المجازفة في القتل، فلا يسارع المؤمن إليه، لأن الأصل في الدماء أنها محرمة، ولا تباح إلا عند الاعتداء، ولذا قال جل جلاله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ الضرب في الأرض معناه السير فيها، والضرب في سبيل الله معناه السير مجاهدا في سبيله تعالى، وكل جهاد في الإسلام لا يعتبر جهادا إلا إذا كان في سبيل الله تعالى، أى لإعلاء كلمة الحق والدين، ورد المعتدين، فسبيل الله هى سبيل الحق، وكل دعوة إلى الخير هى سبيل الله تعالى ومعنى (تبينوا): تثبتوا، وهناك قراءة نصها: (فتثبتوا)
3. معنى النص الكريم: يا أيها الذين أذعنوا للحق وصدقوا به، وخرجوا مجاهدين في سبيل الله، إذا سرتم في جهادكم، فتعرفوا من يحاربكم ومن يعاديكم، ولا تضعوا السيف في موضع البرء والسقم، في المقاتل وغير المقاتل، في المحارب وغير المحارب، ولا تتعجلوا بالقتل عند الشك في أن من تقتلونه عدو أو ولى، أو عند احتمال ألا يكون عدوا؛ فإن الأصل في الدماء التحريم، وكل شك يمنع القتل؛ إذ القتل إنما هو لدفع الاعتداء، فلا يقتل إنسان إلا عند تأكد الاعتداء منه، أو نيته عنده، ومن لم يتثبت، فقد خالف أمر الله واعتدى.
4. لعل وقائع قد وقعت من هذا الصنف(2)، والقتال شديد، وقد حمى الوطيس، فجاء الأمر الكريم بالتثبت، وليس النطق بالشهادتين فقط هو الذى يحقن الدم، بل إعلان السلام وحده كاف لمنع القتل، ولذا قال سبحانه: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ السلام معناه الأمن، وقد أطلق على اللفظ الذى يدل عليه، وهو تحية الإسلام: (السلام عليكم)، وأطلق على استسلام العبد لربه، و(ألقى السلام)، معناه: قاله، أو قدمه، والنص الكريم جاء للنهى عن قتل من ألقى السلام وقدمه بالاستسلام، سواء أكان مؤمنا، أم غير مؤمن، وسواء أنطق بالشهادتين مع ذلك، أم لم ينطق، والنهى عن القتل بالنهى عن رد الكلام الذى قاله معلنا السلام، ورد الفعل الذى يدل على الاستسلام؛ فمعنى النص الكريم لا تردوا إلقاء السلام وفعله الذى يدل عليه، قائلين: لست مؤمنا، أى لست مصدقا للشهادتين إن نطقت بها، أو لست من صفوف المؤمنين حتى يحرم على أنفسنا قتلك، فمعنى ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ على هذا يشمل أمرين: أحدهما: إنكار الإيمان إذا ادعاه، والثانى أن يقال له مع استسلامه، وإن لم يعلن اسلامه: نقتلك لأنك لست من قومنا، أو من صفوفنا!، وبذلك ينهى الإسلام عن القتل ما دام قد منع الاعتداء.. والإسلام ينهى عن الاعتداء، ولو في القتال، ولذا قال سبحانه: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة]
5. وإن الذين يقتلون من يطلب الأمان مستسلما، أو من يعلن الإسلام مسلما، يخرج قتالهم عن معنى الجهاد في سبيل الله تعالى إلى معنى آخر يجافيه، وهو أن يبتغوا عرض الدنيا بالمال يطلبونه، أو بإعلان قوتهم، وليس ذلك مقصد الإسلام من القتال، إنما مقصده إعلاء كلمة الله تعالى، وبيان كلمة الحق، ولذلك قال سبحانه: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ الابتغاء الطلب الشديد، والرغبة الملحة، وعرض الدنيا، جميع متاعها، وسمى متاع الدنيا عرضا؛ لأنه مهما يكن زائل غير ثابت، فهو عارض لا يدوم، ومنه قول على: (الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر)! ومنه ما روى في صحيح مسلم عن النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) وقد أخذ بعض العلماء الشعراء هذا المعنى، وضمنه بيتين من الشعر فقال:
çتقنع بما يكفيك واستعمل الرضا...فإنك لا تدرى أتصبح أم تمسى
فليس الغنى عن كثرة المال إنما...يكون الغنى والفقر من قبل النفسé
6. معنى النهي في النص السابق مع هذا النص الكريم: لا تنكروا السلام والأمن على من يلقيه إليكم، مبتغين متاع الدنيا؛ لأنكم خرجتم بذلك عن الجهاد في سبيل الله تعالى إلى طلب المال والدنيا، وما لأجل ذلك كان القتال، بل قاتلوا في سبيل الله بالحق، واطلبوا الله بفعالكم، واطلبوا ما عنده سبحانه، فإنه إذا كان ذلك كانت المغانم الحلال، وإنها لكثيرة، ولذا قال سبحانه بعد ذلك النهى: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ والمغانم جمع مغنم، وهو ما يصل إلى الإنسان من طريق حلال، ويطلق في القتال على ما يأخذه المحاربون من أعدائهم، غالبين لهم بهذا الأخذ، فهو يطلق على ما يؤخذ في أثناء القتال، أو في أعقابه، قبل أن تنتهى الحرب، ويتم الصلح أو الغلب النهائى، وهذا وعد من الله تعالى بكثرة المغانم، ولكن وعد الله مشروط بالصدق في القتال، وطلب ما عنده سبحانه.
7. وقد أكد سبحانه وتعالى النهي عن قتل من أعلن الإسلام أو الاستسلام بقوله سبحانه: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾ بهذه الحال التى ترونها في المشركين الآن، من جحود بالحق وكفر به، كنتم من قبل، حتى هداكم الله تعالى، وإذا كنتم كذلك، فتبينوا حال الذين تقاتلونهم، عسى أن يكونوا قد هدى الله بعضهم كما هداكم، وأن يكون قد من عليهم كما من عليكم، فلا تستكثروا على مشرك أن يؤمن، ولو كان ذلك في حومة الوغى، فنور الهداية مفتوح في كل مكان لا يغلق باب دونه، والله يهدى من يشاء بإذنه، وفوق ذلك، فإنه كان يتصور منكم من قبل في الوقت الذى كنتم فيه كافرين أن تعتدوا على المؤمنين، وتضطركم حال القتال، إلى أن تستسلموا طالبين الرحمة، فارحموا من وقع في مثل هذه الحال.
8. وقد كرر الأمر بالتبين؛ لأنه في الأول كان عاما يستدعى التثبت قبل القتال، وفى أثنائه وبعده، فلا يهاجمون إلا من يتأكدون منه الاعتداء، والأمر هنا يتضمن تبين حالهم في الماضى، وحال الكافرين في الحاضر، كما يتضمن التثبت عند الاستسلام، وعند إعلان الإسلام، فالتبين لمعرفة الحال قبل القتال وبعده وفى أثنائه يتضمن الموازنة، ويتضمن التبين عند القتال وبعده فقط فبينهما أمر مشترك، وكلاهما ينفرد بتبين خاص، وفوق ذلك، فإن التبين هنا اقترن بتذكير وإنذار إذا لم يكن.
9. ولذا قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ أى أن الله تعالى متصف بالعلم الدقيق، الذى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فالخبرة هى العلم الدقيق بالأشياء، وقد اقترن ذلك الوصف بأعمال المؤمنين المخاطبين بذلك الخطاب لبيان مراقبة الله تعالى الدائمة لأعمالهم، دقيقها وجليلها، ولأحوال نفوسهم ما ظهر منها وما بطن، وأنه لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض، وقدم سبحانه وتعالى لفظ ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ على الوصف العام، ليراقبوا أنفسهم، فقد علموا أن الله تعالى يراقبهم، وأنهم إذا لم يراقبوه في تصرفاتهم مع خلقه فهو تعالى يراقبهم، اللهم إنا نضرع إليك ألا تمكننا من ظلم أحد من عبادك، إنك على كل شىء قدير.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1807.
(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اتفق المفسرون والمحدثون على أن السبب الموجب لنزول هذه الآية ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أرسل سرية من أصحابه، فالتقت برجل معه مال، كغنم وما اليه، فحسبوه كافرا، فتلفظ بما يدل على إسلامه من تحية الإسلام، أو كلمة الشهادة ونحوها، فاعتبرها بعضهم انها كلمة يقولها لينجو بها من القتل، فقتله، ولما علم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شق ذلك عليه، وأنّب القاتل، فقال: انما تعوذ بها من القتل، فقال له ـ كما في بعض الروايات ـ هلا شققت عن قلبه.
2. ألفاظ الآية لا تأبى هذا المعنى، بل هي صريحة فيه، فإن قوله تعالى: ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ معناه إذا ذهبتم إلى الجهاد فتأنوا، ولا تقدموا على قتل من تشتبهون في دينه وعداوته ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ لأن كل من أظهر الإسلام كان له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، بخاصة فيما يعود إلى حقن الدماء، وحفظ الأموال، أما باطنه فموكول إلى الله وحده.
3. ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾، ويشعر هذا بأن الذي دفع بهم إلى قتل الرجل انما هو الطمع بما لديه من أموال، وهو الذي جعلهم يتخيلون ان إظهاره لكلمة الإسلام كان بقصد الخلاص والنجاة.. فكثيرا ما يتصور الإنسان نفسه على غير حقيقتها، فيكون واقعها شيئا، وانطباعه عنها شيئا آخر، مع العلم بأنه هو هي، وهي هو.. وهذا من خصائص الإنسان وعجائبه.. وعلى أية حال، فان الله قد نبّههم إلى خطئهم هذا، وانهم قد استعجلوا الغنيمة، مع ان مغانم الله ونعمه لا تعد ولا تحصى، فيعوضهم منها عن مال المقتول أضعافا مضاعفة.
4. ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾، هذا رد عليهم، ونقض لفعلهم بمنطق العقل والوجدان، وتقريره انكم كنتم مشركين من قبل، ثم دخلتم في الإسلام بنفس الكلمة التي نطق بها القتيل، وقبلها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منكم، وبها حقنت دماؤكم وأموالكم، فكان عليكم ان تقبلوا من القتيل ما قبله النبي منكم.. وهكذا أكثر الناس، يطلبون من غيرهم الرضا بالنصيب الأدنى، ولا يرضون لأنفسهم إلا النصيب الأوفى.
5. ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بقبول الإسلام، وجعلكم من الصحابة بمجرد كلمة الشهادة، ولم يبحث النبي عما في قلوبكم، فلماذا لم تعاملوا غيركم بما عاملكم به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾، أي لا تفعلوا أي شيء بعد الآن، حتى تكونوا على بينة مما تقدمون عليه، ولا تأخذوا أحدا بالظن والتهمة، فان الله خبير بواقعكم ودوافعكم، ويحاسبكم عليها بما تستحقون.
6. عدّ الفقهاء هذه الآية مع آيات الأحكام واستخرجوا منها حكمين شرعيين:
أ. الأول: وجوب التثبت في كل شيء، بخاصة في الأحكام الشرعية، وبوجه أخص في الدماء والأموال، حيث أوجب الفقهاء فيهما التحفظ والاحتياط، وألحقوا بهما الفروج.
ب. الثاني: ان كل من نطق بكلمة الإسلام، وقال: أنا مسلم فحكمه حكم المسلمين من حيث الزواج والإرث، وما إلى ذلك من الأحكام التي تترتب على مجرد اظهار الإسلام، لا على نفس الإسلام حقيقة وواقعا.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/410.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ الضرب هو السير في الأرض والمسافرة، وتقييده بسبيل الله يدل على أن المراد به هو الخروج للجهاد، والتبين هو التمييز والمراد به التمييز بين المؤمن والكافر بقرينة قوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ والمراد بإلقاء السلام إلقاء التحية تحية أهل الإيمان، وقرئ: (لمن ألقى إليكم السلم) بفتح اللام وهو الاستسلام.
2. والمراد بابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال والغنيمة، وقوله: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ جمع مغنم وهو الغنيمة أي ما عند الله من المغانم أفضل من مغنم الدنيا الذي يريدونه لكثرتها وبقائها فهي التي يجب عليكم أن تؤثروها.
3. ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾ أي على هذا الوصف، وهو ابتغاء عرض الحياة الدنيا ـ كنتم من قبل أن تؤمنوا فمن الله عليكم بالإيمان الصارف لكم عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا إلى ما عند الله من المغانم الكثيرة فإذا كان كذلك فيجب عليكم أن تبينوا، وفي تكرار الأمر بالتبين تأكيد في الحكم.
4. والآية مع اشتمالها على العظة ونوع من التوبيخ لا تصرح بكون هذا القتل الذي ظاهرها وقوعه قتل مؤمن متعمدا، فالظاهر أنه كان قتل خطأ من بعض المؤمنين لبعض من ألقى السلم من المشركين لعدم وثوق القاتل بكونه مؤمنا حقيقة بزعم أنه إنما يظهر الإيمان خوفا على نفسه، والآية توبخه بأن الإسلام إنما يعتبر بالظاهر، ويحل أمر القلوب إلى اللطيف الخبير.
5. وعلى هذا فقوله: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ موضوع في الكلام على اقتضاء الحال، أي حالكم في قتل من يظهر لكم الإيمان من غير اعتناء بأمره وتبين في شأنه حال من يريد المال والغنيمة فيقتل المؤمن المتظاهر بالإيمان بأدنى ما يعتذر به من غير أن يكون من موجه العذر، وهذا هو الحال الذي كان عليه المؤمنون قبل إيمانهم لا يبتغون إلا الدنيا فإذا أنعم الله عليهم بالإيمان، ومن عليهم بالإسلام كان الواجب عليهم أن يتبينوا فيما يصنعون ولا ينقادوا لأخلاق الجاهلية وما بقي فيهم من إثارتها.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/42.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ سافرتم في سبيل الله في الجهاد ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ حذراً من قتل المؤمن.
2. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ﴾ أبلغكم السلم: ترك القتال، أي أبلغكم ما يوجب السلم، وهو كالنطق بالشهادتين، معلناً لكم للكف عن القتال لا تردوا عليه قوله بقولكم له: ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ بقلبك إنما شهدت شهادة الحق لئلا نقتلك فتقتلوه بناءً على أنه كافر، والتبين: الكف عن قتاله حتى ينظر هل تم على إسلامه فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، أو رجع إلى الكفر فيقتل متى رجع إلى الكفر.
3. ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي لا تقتلوه قبل التبين لأجل أخذ ماله غنيمة، وهو يفيد: أن أخذه ميلٌ إلى الحياة الدنيا، وترجيح لمطلبها، فإيثاره بعد نزول هذه الآية لا يكون من مؤمن يأمره إيمانُه بإيثار الآخرة على الدنيا لينجو من النار.
4. والآية تعم من ألقى السلم بذكر عهد بينه وبين الرسول مثلاً أو أمان قد سبق له، فعلى المجاهدين أن يكفوا عنه حتى يظهر ما يدل على صدقه، أو يتبين لهم كذبه فهي عامة، وإن كان قولهم: ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ إنما يكون فيمن نطق بالشهادتين للرد عليه، قال الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام) في (كتاب الديات): ثم قال عزَّ وجل تحذيراً للمؤمنين، وتأكيداً منه في التحفظ إذا ضربوا في الأرض من قتل المؤمنين.. فذكر الإمام الهادي عليه السلام هذه إلى قول الله تعالى: ﴿مَغَانِمَ كَثِيرَةً﴾ ثم قال الإمام الهادي عليه السلام: (فيقال: إن هذه الآية نزلت في أسامة بن زيد حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أرض (غطفان) ولم يكن بالمؤمر على السرية، فبلغ غطفان خبره فهربوا وتخلف رجل من غطفان يقال له مرداس بن نهيك فلما رآهم خافهم فألجأ غنمه إلى كهف في الجبل ثم استقبلهم فسلم عليهم وشهد بشهادة الحق فحمل عليه أسامة فطعنه وأخذ ماله، فنزل جبريل فأخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بخبره فلما قدموا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل صاحب السرية يثني على أسامة ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم معرض حتى إذا فرغ الرجل قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يا أسامة قال الرجل: (لا إله إلا الله) فقتلته؟ كيف لك بـ (لا إله إلا الله)!؟) قال: يا رسول الله إنما قالها تعوّذاً منا قالها بلسانه ولم يكن لها حقيقة في قلبه، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفلا شققت على قلبه فنظرت ما فيه!؟) فقال: إنما قلبه بضعة من جسده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله) فإذا قالوها حرمت علي دماؤهم وأموالهم وحسابهم على الله)
5. ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي تطلبون بذلك عرض الحياة وعرض الحياة المال ونحوه من أغراض الحياة الدنيا؛ ولكون ذلك سبب نزول هذه الآية جاء على طريقة التوبيخ لمن فعل ذلك فلا مفهوم لها، وكما يدل عليه بقية الآية فلا يقال مفهومها إذا كان الغرض دينياً فلا بأس أن يقال: لست مؤمناً.
6. ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ تغنيكم عن مال من قال: (لا إله إلا الله) ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ حين قلتم: (لا إله إلا الله) ولا يعلم الناس ما في قلوبكم ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بقبول إسلامكم في تلك الحال ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ لأن حكم الله قبول الإسلام ممن أسلم ومعاملته على الظاهر، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فلا تخفى عليه سبحانه مخالفتكم لأمره إن خالفتم، وسيجزيكم بما عملتم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/145.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قد تبيّن أجواء الآية بعض الملامح التي توضح طبيعة الممارسة التي قام بها هذا البعض من المؤمنين، بأكثر مما توحيه الروايات المفسّرة؛ فإن الآية توحي بأن الحادثة كانت بسبب الطمع في الغنيمة وما يملكه هذا الرجل من مال، لأن قبول الإسلام منه والعفو عنه في هذه الحال يمنع من التعرّض لماله فيخسرون بذلك حصتهم من الغنيمة؛ وتلك هي إحدى نقاط الضعف الكامنة في شخصية المؤمنين آنذاك، التي كانت تستيقظ في بعض الظروف التي يغفلون فيها عن إيمانهم الذي يحميهم من تأثير نقاط الضعف في حياتهم؛ فكانت هذه الآية من أجل أن تدفعهم إلى التغلب عليها، بالالتفات إلى الخطة التي وضعها الإسلام في قبول الذين يدخلونه بإعلان الشهادتين، من دون محاولة التدقيق في صدق ذلك، فكان يقبل إسلام الذين يدخلون فيه رغبة ورهبة، كما يقبل إسلام الذين يدخلون فيه صدقا وإخلاصا، لأن الهدف من ذلك هو تحييد الكثيرين من الكافرين عن جبهة الكفر، بإدخالهم في الجبهة الإسلامية، في نطاق خطة من الحذر والحيطة، وتطبيق سيطرة الإسلام عليهم، والعمل على العيش في أجواء نظيفة روحية طاهرة، من أجل الوصول إلى النتيجة الحاسمة، وهي تعميق العقيدة في نفوسهم، وتأكيد خط الالتزام في حياتهم، وإبعادهم عن الأجواء النفسية المعقّدة، وقد نجح الإسلام في ذلك، كما دلت عليه هذه الآية في بعض ما نستوحيه منها من أفكار من خلال ما نستعرضه من تفسير هذه الآية بشكل توضيحي.
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي إذا سرتم في الأرض من أجل الجهاد ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ ودققوا في شخصية الأشخاص الذين تقاتلونهم، لتعرفوا هل يجوز لكم قتالهم أم لا، ولا تستسلموا لنوازع العجلة والسرعة في ذلك.
3. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ﴾ بإعلان الشهادتين باعتبارها رمزا للاستعداد للسلام مع المؤمنين، لأن البقاء على الكفر يعني البقاء على حالة الحرب ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، لأنكم لا تملكون الدليل على ذلك، ولا يجوز لكم الاعتماد على الظن فيه، فقد يعيش الإنسان حالة يقظة إيمانية في بعض هذه الحالات.
4. ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ومتاعها الزائل؛ وربما كانت هذه الكلمة إيحاء لهم بأن عليهم أن يفتشوا في داخلهم، ليكتشفوا دوافعهم الخفية اللاشعورية، فيعرفوا أن تصرّفهم في إطلاق الحكم بنفي الإيمان عن هذا الإنسان أو ذاك، لم يكن منبعثا عن إخلاص للإسلام، بل هو منبعث عن طمع في الغنيمة كامن في أعماقهم، الأمر الذي يجعلهم في موقع المحاسب لنفسه قبل أن يقدم على أيّ عمل من أعمال المسؤولية، وقد يكون هذا الاتجاه في دلالة الآية هو الذي يبعد القضية عن أن تكون قتل عند يستوجب القصاص، كما أن الحديث في سبب النزول يشير إلى ذلك.
5. ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ فلا ينبغي للمؤمن أن يفكر بمغانم الدنيا فتضيع عليه الخطوط، بل إن عليه أن يفكر بمغانم الله الكثيرة التي، أعدها للمؤمنين العاملين في سبيل الله بوعي وصدق وإخلاص..
6. ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ مشركين كما كان هؤلاء ونطقتم كلمة الإسلام، وقبلها الرسول منكم من دون تدقيق بما تكنه قلوبكم وما تنطوي عليه ضمائركم، ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ وأصبحتم بنعمته مسلمين في عمق أفكاركم ومشاعركم؛ فلم لا تقبلون من هؤلاء ما قبله الرسول منكم!؟.
7. ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ في ما تقبلون عليه من مواقف جديدة وحاولوا أن لا تقعوا في مثل هذه التجربة الخاطئة التي وقعتم فيها، وراقبوا الله جيدا في أعمالكم من خلال مراقبتكم لدوافعكم الخفية ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة مما ظهر ومما بطن، في واقع الأشياء ودخائل النفوس.
8. قد نستفيد من هذه الآية كيفية تعامل المؤمنين مع الناس الذين قد توحي بعض ظواهرهم بأنهم ينطلقون إلى السير في ركاب الإسلام من موقع الرغبة في بعض المكاسب، أو في التوقي من بعض المشاكل، وذلك عند ما تكون الموجة الإسلامية مندفعة بقوة في حياة الأمة، مما يحقق بعض الامتيازات المادية أو المعنوية لبعض السائرين بركبها.. فقد يكون من المصلحة أن نحذر من هؤلاء، من خلال ما توحيه هذه الظواهر من أسباب للشك الباعث على الحذر، ولكن لا يجوز لنا ـ في الوقت ذاته ـ أن نتصرف معهم تصرفا سلبيا على هذا الأساس، لأنه لا يحلّ للمؤمن أن يؤاخذ الإنسان بغير علم، وهذا هو الخط الذي يحفظ للإسلام مواقعه ويبعده عن حالة الخطر، ويحمي الإنسان المعلن للإسلام من الاعتداء عليه بدون حق؛ فإن من الملاحظ أن الآية لم تنه عن الحذر، بل نهت عن التصرف السلبي بدون تدقيق وتمييز.
9. إن على العاملين للإسلام إفساح المجال لكل الأصوات أن تعلن الإسلام، ليرتفع صوته عاليا في الساحة كجزء من الحملة النفسية ضد كل الأصوات الأخرى المضادة؛ ولكن ذلك لن يتحقق من موقع السذاجة التي تتقبل الأشياء ببساطة من دون تحقيق، بل من موقع الوعي والحذر الذي يعطي لكل شيء دوره وحجمه، ولا يتجاوزه إلى أبعد من المصلحة الحقيقية للإسلام.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/405
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد ذكرت الرّوايات والتفاسير الإسلامية أسباب عدة لنزول هذه الآية، وكلها تتشابه مع بعضها الآخر، ومن ذلك أنّ الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حين عاد من واقعة خيبر بعث أسامة بن زيد مع جمع من المسلمين إلى يهود كانوا يسكنون في قرية فدك، من أجل دعوتهم إلى الإسلام أو الإذعان لشروط الذمّة، مرداس اليهودي، وهو أحد الذين عرفوا بقدوم جيش الإسلام وكان قد أخذ أمواله وأولاده ولجأ بهم إلى أحد الجبال، هبّ لاستقبال المسلمين وهو يشهد بوحدانية الله ورسالة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد ظن أسامة بن زيد أن هذا اليهودي يتظاهر بالإسلام خوفا على نفسه وحفظا لماله وأنه لا يبطن الإسلام في الحقيقة فعمد أسامة إلى قتل هذا اليهودي واستولى على أغنامه، وما إن وصل نبأ هذه الواقعة إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تأثر تأثرا شديدا منها وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم ما معناه إن أسامة لم يكن ليعرف ما في نفس هذا الإنسان فلعله كان قد أسلم حقيقة، عند ذلك نزلت الآية المذكورة فحذرت المسلمين من أن تكون الغنائم الحربية أو أمثالها سببا في رفض إسلام من يظهر الإسلام، مؤكدة ضرورة قبول إسلام مثل هذا الإنسان.
2. بعد أن وردت التأكيدات اللازمة ـ في الآيات السابقة ـ فيما يخص حماية أرواح الأبرياء، ورد في هذه الآية أمر احترازي يدعو إلى حماية أرواح الأبرياء الذين قد يعرضون إلى الاتهام من قبل الآخرين، إذ تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾
3. تأمر هذه الآية المسلمين أن يستقبلوا ـ بكل رحابة صدر ـ أولئك الذين يظهرون الإسلام وأن يتجنبوا إساءة الظن بإيمان أو إسلام هؤلاء، وتؤكد الآية بعد ذلك محذرة وناهية عن أن تكون نعم الدنيا الزائلة سببا في اتهام أفراد أظهروا الإسلام، أو قتلهم على أنّهم من الأعداء والاستيلاء على أموالهم، إذ تقول الآية: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، وتؤكّد على أنّ النعم الخالدة القيمة هي عند الله بقوله: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾
4. العرض كلمة على وزن (مرض) وتعني كل شيء زائل لا دوام له، وعلى هذا الأساس فإن ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ معناه رؤوس الأموال الدنيوية التي يكون مصير جميعها إلى الزوال والفناء لا محالة.
5. تشير الآية أيضا إلى حروب الجاهلية التي كانت تنشب بدوافع مادية مثل السلب والنهب فتقول: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾، وقد ورد في تفسير هذه الآية احتمال آخر، هو أنّها تخاطب المسلمين بأنهم كان لهم نفس الحالة عند إسلامهم، أي أنّهم أقروا بالإسلام بألسنتهم وقبل منهم إسلامهم، وفي حين لم يكن أحد غير الله يعلم بما يخفونه في سرائرهم.
6. وتضيف ـ مخاطبة المسلمين ـ أنّهم في ظل الإسلام ولطف الله وكرمه وفضله قد نجوا من ذلك الوضع السيء مؤكّدة أنّ شكر هذه النعمة الكبيرة يستلزم منهم التحقق والتثبيت من الأمور، إذ تقول الآية: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾
7. الجهاد الإسلامي نفي من البعد المادي: توضح الآية السالفة هذه الحقيقة بصورة جلية، وهي أنّ أي مسلم يجب أن لا يتقدم إلى ساحة الجهاد بأهداف مادية، ولذلك عليه أن يقبل ـ منذ الوهلة الأولى ـ من العدو إظهاره للإيمان ويلبي نداءه للصلح والسلام، حتى لو حرم المسلم بقبوله إيمان العدو الكثير من الغنائم المادية، والسبب في ذلك أن هدف الجهاد في الإسلام ليس التوسع ولا الاستيلاء على الغنائم المادية، بل الهدف من الجهاد الإسلامي هو تحرير البشر من قيود العبودية لغير الله، سواء كان هذا الغير هم الطغاة الجبابرة، أو كانت العبودية للمال وللثروة والجاه، ويجب على كل مسلم أن يسعى إلى هذه الحقيقة كلما برقت له بارقة أمل صوبها، وتذكّر الآية الكريمة المسلمين بعهدهم في الجاهلية، حيث كانوا يحملون الأفكار المادية الدنيئة قبل إسلامهم، فكانوا يتسببون في إراقة سيول من الدماء لأسباب مادية محضة، وقد نجوا اليوم بفضل إسلامهم وإيمانهم من تلك الحروب وتغير أسلوب حياتهم، كما تشير الآية إلى حقيقة أخرى، وهي أنّ المسلمين ساعة إظهارهم الإسلام لم يكن أحد ليعرف حقيقة هذا الإظهار أو حقيقة ما ينويه المظهر للإسلام، وتؤكد لهم ضرورة أن يطبقوا ما كانوا هم عليه عند إسلامهم على من يظهر الإسلام أمامهم من الأعداء.
8. سؤال وإشكال: قد يطرأ على الذهن سؤال، وهو لو أنّ الإسلام قبل دعوى كل من يتظاهر بالإسلام منذ الوهلة الأولى دون التحقيق من حقيقة هذه الدعوى، لأصبح ذلك سببا في إيجاد أرضية النفاق وظهور المنافقين في المحيط الإسلامي، وبهذا الأسلوب يمكن للكثير من الأعداء إساءة استغلال هذه الظاهرة والتستر في ظل الإسلام، ومن خلال ذلك القيام بأعمال عدائية ضد الإسلام؟ والجواب: من الممكن القول أن ليس هناك قانون في العالم لا يمكن إساءة استغلاله أبدا، بل المهم في القانون هو أن يحوي في أغلب جوانبه النفع للعموم، لو رفضنا ـ منذ الوهلة الأولى ـ إسلام من يظهر الإسلام من الأعداء وغيرهم لمجرّد عدم معرفتنا بسريرة هذا الذي يظهر الإسلام، لأدى رفضنا في كثير من الحالات إلى مفاسد لا تحمد عقباها، بل ستكون أكثر ضررا على الإسلام، إذ أنّها تعني سحق المبادئ والعواطف الإنسانية، ويكون ـ هذا الرفض ـ عند ذلك وسيلة بيد كل من يضمر العداء لصاحبه ليتهمه بأنّ إظهاره للإسلام لم يكن إظهارا حقيقيا مخلصا أو مطابقا لما في سريرته، وبهذه الصورة من الممكن أن تراق دماء كثيرة لأناس أبرياء، وفوق كل ذلك فإنّ الكثيرين لدى بدء كل دعوة ممن تكون توجهاتهم لهذه الدّعوة بسيطة وشكيلة وظاهرية، ولكنهم بمرور الزمان واتصالهم الدائم بتلك الدّعوة ـ تتجذر في نفوسهم مبادئ الدعوة وتتأصل وتتعزز، لذلك لا يمكن القبول برفض مثل هؤلاء الضعيفي الصلة بالدّعوة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/393
91. فضل المجاهدين على القاعدين
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈91⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 95 ـ 96]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن ثابت:
روي عن زيد بن ثابت (ت 45 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كنت إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على فخذي، فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم سري عنه، فقال: (اكتب)، فكتبت في كتف: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) إلى آخر الآية، فقال ابن أم مكتوم ـ وكان رجلا أعمى ـ لما سمع فضل المجاهدين: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: (اقرأ، يا زيد)، فقرأت: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اكتب: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ الآية، قال زيد: أنزلها الله وحدها، فألحقتها، والذي نفسي بيده، لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف(1).
2. روي أنّه قال: أملى علي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله)، فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان أعمى؛ فأنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾(2).
__________
(1) أحمد ٣٥/٥١٨.
(2) البخاري ٤/٢٥.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: نزلت في قوم كانت تشغلهم أمراض وأوجاع، فأنزل الله عذرهم من السماء(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ عن بدر، والخارجين إليها(2).
3. روي أنّه قال: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾، أهل العذر(3).
4. روي أنّه قال: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾، هم قوم كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يغزون معه لأسقام وأمراض وأوجاع، وآخرون أصحاء لا يغزون معه، وكان المرضى في عذر من الأصحاء(4).
5. روي أنّه قال: فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة، فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر(5).
6. روي أنّه قال: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ عن بدر، والخارجين إلى بدر، لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش، وابن أم مكتوم: إنا أعميان، يا رسول الله؛ فهل لنا رخصة؟ فنزلت: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾، ﴿وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ درجة، فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر، فضل الله المجاهدين على القاعدين ﴿أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾، على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر(6).
__________
(1) الطبراني في الكبير ١٢/١٦٥.
(2) عبد الرزاق ١/١٧٠.
(3) ابن جرير ٧/٣٧٤.
(4) الطبراني في المعجم الكبير ١٢/١٦٥.
(5) البخاري ٤/١٤٥٦.
(6) البخاري ٥/٧٣.
أنس:
روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) أنّه قال: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾، لقد رأيته في بعض مشاهد المسلمين معه اللواء(1).
__________
(1) الطحاوي في شرح مشكل الآثار ٤/١٥٢.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لا يستوي في الفضل القاعد عن العدو، والمجاهد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ الذين لا عذر لهم ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾(2).
3. روي قيل له: أرأيت قول الله عز وجل: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ كأنه شيء قد مضى؟ قال يعني: أن الله كان غفورا رحيما، يعني: أن الله غفور رحيم(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٤٢.
(2) ابن أبي حاتم ٣/١٠٤٤.
(3) ابن الضريس في فضائل القرآن ص ٢٦.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: نزلت في ابن أم مكتوم أربع آيات: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾، ونزل فيه: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١]، ونزل فيه: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ﴾ الآية [الحج: ١٦]، ونزل فيه: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس: ١]، فدعا به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأدناه، وقربه، وقال: (أنت الذي عاتبني فيك ربي(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى﴾، أي: الجنة، والله يؤتي كل ذي فضل فضله(2).
3. روي أنّه قال: ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾، كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة درجة في الإسلام، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة(2).
__________
(1) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.
(2) ابن جرير ٧/٣٧٦.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: لما نزلت هذه الآية قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، إني أعمى، ولا أطيق الجهاد، فأنزل الله فيه: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير ٣/٣٧٢.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً﴾، على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٧٦.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾، فقال: الدرجات هي السبع التي ذكرها في سورة براءة: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ﴾، فقرأ حتى بلغ: ﴿أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، قال هذه السبع درجات، قال كان أول شيء، فكانت درجة الجهاد مجملة، فكان الذي جاهد بماله له اسم في هذه، فلما جاءت هذه الدرجات بالتفضيل أخرج منها، ولم يكن له منها إلا النفقة، فقرأ: ﴿لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ﴾، وقال: ليس هذا لصاحب النفقة، ثم قرأ: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً﴾، قال وهذه نفقة القاعد(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٧٧.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عز وجل: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾:
أ. قال الحسن: كان هذا في الوقت الذي كان الجهاد تطوعًا؛ لأنه لو كان فرضا لكان لا معنى لقوله: لا يستوي كذا من كذا، وهما غير مستويين: أحدهما فرض عليه، والآخر لا.
ب. قيل له: هذا الذي ذكرت لا يدل على أن الجهاد ليس بفرض في ذلك الوقت؛ ألا ترى أنه قال: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾، وقال: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ﴾ جمع بين متضادين، ثم قال: ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾؛ فعلى ذلك هذا، وهو أولى.
2. قوله عز وجل: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾: استثنى أهل الضرر مجملا في هذه الآية، وبين أمرهم وما زال عنهم من فرض الجهاد في آية أخرى، وهو قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾، وقوله عز وجل: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى﴾ الآية، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم، وأزالوا الحرج عمن كان في مثل حال هَؤُلَاءِ الذين وصفهم اللَّه تعالى وعَذَرَهم في تخلفهم عن الجهاد، وعن ابن عَبَّاسٍ قال: لما ذكر اللَّه تعالى فضيلة المجاهدين على القاعدين رغبهم في الجهاد بقوله: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية ـ أتاه عبد اللَّه بن أم مكتوم الأعمى، فقال: يا رسول اللَّه، ذكر اللَّه فضيلة المجاهدين على القاعدين، وحالنا ما ترى، ونحن نشتهي الجهاد؛ فنزل: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ فجعل لهم من الأجر ما للمجاهدين؛ لزمانتهم. وعلى ذلك أكثر أهل التفسير.
3. ﴿الضَّرَرِ﴾: قال الكسائي: ﴿الضَّرَرِ﴾ مصدر الضرير والمضرور، والضرير: الأعمى، يقال: ضُرَّ بَصَرُهُ، فهو ضرير ومضرور: إذا عمي.
4. قوله عز وجل: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ القاعد والمجاهد ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ قيل: هذا الفضل للمجاهد على القاعد الذي قعد لا لعذر، جعل له الأجر العظيم.
5. ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ على القاعد الذي قعد لعذر؛ لأنه جعل فضيلته عليه بدرجة، وفي الثاني جعل فضيلته عليه بدرجات، لكن قوله: (درجة)، و(درجات) عندنا: واحد؛ ألا ترى أنه تعالى قال: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، ليس هو شيئًا واحدًا؛ ولكنه أشياء، والذي قعد لعذر يستوي في الأجر مع الذي خرج؛ إذا كان يتمنى أن يخرج إن قدر؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان لا معنى للاستثناء.
6. في الآية دلالة أن فرض الجهاد ـ فرضُ كفاية: يسقط عن الباقين بقيام بعضهم، وإن كان الخطاب يعمهم في ذلك، وهو قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾، وفرض الخروج لطلب العلم فرضُ كفاية: إذا خرج بعضهم لطلبه يسقط عن الباقين ذلك؛ فعلى ذلك فرض الجهاد، وإن كان ذلك خلاف ما عاتب اللَّه تعالى عليه الثلاثة الذين خلفوا في سورة) براءة)؛ لأن أُولَئِكَ تخلفوا عن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد قال اللَّه تعالى ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ فإنما عاتب أُولَئِكَ لتخلفهم عن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٣٣
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ أهل المدينة وابن كثير غير أولي الضرر ـ نصباً ـ الباقون بالرفع، فمن رفع جعله نعتاً للقاعدين، ومن نصبه فعلى الاستثناء، وهو اختيار أبي الحسن الأخفش.
2. بين اللَّه بهذه الآية انه ﴿لَا يَسْتَوِي﴾ ومعناه لا يعتدل ﴿الْقَاعِدُونَ﴾ يعني المتخلفون عن الجهاد في سبيل اللَّه من أهل الايمان باللَّه وبرسوله، المؤثرون الدعة والرفاهية على مقاساة الحر والمشقة بلقاء العدو، والجهاد في سبيله إلا أهل الضرر منهم بذهاب أبصارهم، وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها إلى الجهاد للضرار الذي بهم ﴿وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ومنهاج دينه لتكون كلمة اللَّه هي العليا والمستفرغون وسعهم في قتال أعداء اللَّه، وأعداء دينهم (بأموالهم) انفاقاً لها فيما يوهن كيد أعداء أهل الايمان.
3. قال قوم: إن قوله: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ نزل بعد قوله: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.. ﴿وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فجاء عمر بن أم مكتوم، وكان أعمى فقال: يا رسول اللَّه كيف وأنا أعمى، فما برح حتى نزل قوله: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾، وذكر ذلك البراء بن عازب، وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت، وهو يقوي قراءة من قرأ بالنصب.
4. ﴿والقاعدون﴾ رفع بيستوي ويستوي هاهنا يقتضي فاعلين، فصاعداً وقوله: ﴿وَالْمُجَاهِدُونَ﴾ معطوف عليه، والتقدير لا يستوي القاعدون إلا أولي الضرر والمجاهدون، وقال الفراء: الرفع أجود لاتصال (غير) بقوله: ﴿الْقَاعِدُونَ﴾ والاستثناء كان يجب أن يكون بعد تمام الكلام بقوله: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ قال ويجوز خفضه نعتاً للمؤمنين وما قرئ به، والأول أقوى، ويحتمل النصب على الحال كقولك: جاء زيد غير مريب.
5. سؤال وإشكال: إن قيل: أيجوز أن يساوي أهل الضرر المجاهدين على وجه، فإن قلتم: لا، فقد صاروا مثل من ليس من أولي الضرر؟ والجواب: يجوز أن يساووهم بأن يفعلوا طاعات أخر تقوم مقام الجهاد، فيكون ثوابهم عليهم مثل ثواب الجهاد، وليس كذلك من ليس بأولي الضرر، لأنه قعد عن الجهاد، بلا عذر، وظاهر الآية يمنع من مساواته على وجه، وقال ابن عباس لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر، والخارجين الى بدر.
6. ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ قال ابن جريج وغيره معناه فضل اللَّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم درجة على القاعدين من أهل الضرر.
7. ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ يعني وعد اللَّه الحسنى المجاهدين بأموالهم وأنفسهم والقاعدين أولي الضرر، والمراد بالحسنى هاهنا الجنة في قول قتادة وغيره من المفسرين، وبه قال السدي.
8. ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ معناه فضل اللَّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر أجراً عظيماً.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾:
أ. قال قتادة هو كما يقال: الإسلام درجة، والفقه درجة، والهجرة درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة.
ب. وقال عبد اللَّه بن زيد: معنى الدرجات هي التسع درجات التي درجها في سورة براءة، وهي قوله: ﴿ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ومَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ولا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ ولا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا﴾ إلى قوله: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ قال: هذه التسع درجات.
ج. وقال قوم: المراد بالدرجات هاهنا الجنة، واختاره الطبري.
10. ﴿وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ معناه لم يزل اللَّه غفاراً للذنوب صافحاً لعبيده عن العقوبة، رحيماً بهم متفضلا عليهم.
11. سؤال وإشكال: كيف قال في أول الآية ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ ثم قال في آخرها ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ﴾ وهذا ظاهر التناقض؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما ـ أن في أول الآية فضل اللَّه المجاهدين على القاعدين أولي الضرر درجة وفي آخرها فضلهم على القاعدين غير أولي الضرر درجات ولا تناقض في ذلك، لأن قوله: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ يدل على أن القاعدين لم يكونوا عاصين مستخفين، وان كانوا تاركين للفضل.
ب. والثاني ـ قال أبو علي الجبائي: أراد بالدرجة الأولى علو المنزلة وارتفاع القدر على وجه المدح لهم كما يقال: فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان يريدون بذلك أنه أعظم منزلة، وبالثانية أراد الدرجات في الجنة التي تتفاضل بها المؤمنون بعضهم على بعض على قدر استحقاقهم، ولا تنافي بينهما، وقال الحسين بن علي المغربي انما كرر لفظ التفضيل، لأن الاول أراد تفضيلهم في الدنيا على القاعدين والثاني أراد تفضيلهم في الآخرة بدرجات النعيم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/300
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. القاعد: فاعل من قعد يقعد قعودًا، والقَعْدَة: المرة الواحدة، والقَعَدُ القوم لا ديوان لهم، كأنهم قعدوا عن القتال، ومنه سمي قعدة الخوارج، وامرأة قاعدة إذا جلست، وقاعد عن الحيض والأزواج، والجمع القواعد، ومنه ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ﴾، والمجاهد من الجهاد فهو مجاهد.
ب. الحسناء من الحسن، وهو ضد القبح، ورجل حسن، وامرأة حسناء، والمحاسن ضد المساوئ.
ج. الدرجة: المنزلة، وأدرجت الكتاب طويته منزلة بعد منزلة، ودرجْتُهُ إلى كذا: رقيته إليه منزلة بعد منزلة، ودرج الرجل: مضى لسبيله؛ لأنه يقال: صار إلى منزلة في الآخرة، ومنه دب ودرج، أي الأحياء والأموات، ومدارج الأكمة: الطرق المعترضة فيها.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: لما نزلت الآيات في فضل الجهاد جاء ابن أم مكتوم، وعبد الله بن جحش إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقالا: قد أنزل في الجهاد ما علمت، ونحن لا نستطيع الجهاد، فهل لنا من رخصة؟ فأنزل الله تعالى: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾، عن ابن عباس.
ب. وقيل: نزلت ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿وَالْمُجَاهِدُونَ﴾ فقال ابن أم مكتوم: اللهم أنزل عذري، فنزلت ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾، فوضعت عنهما، فكان بعد ذلك يغزو، ويقول: ادفعوا إليّ اللواء، ويقول: أقيموني بين الصفين، فإني لا أستطيع أن أفر، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، سؤال وإشكال: إن قيل: أليس عندكم تأخير البيان عن حال الخطاب لا يصح؟ والجواب: إن ثبت الخبر حملناه على النسخ، لا على البيان.
3. لما حث الله تعالى على الجهاد بين ما فيه من الفضل والثواب، فقال سبحانه وتعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي﴾:
أ. أي لا يعتدل عند الله حكمهم.
ب. وقيل: ليسوا في الدرجة والثواب سواء.
4. ﴿الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني الَّذِينَ قعدوا عن الجهاد إيثارًا للدعة والخفض ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾:
أ. قيل: يعني غير ذوي الأعذار من الزمانة والضعف في البدن والبصر ونحوها.
ب. وقيل: هو مصدر الضرير، يقال: رجل ضرير بَيّن الضرر.
ج. وقيل: أولي العذر، عن ابن عباس.
5. ﴿وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ يعني الَّذِينَ جاهدوا في سبيل الله ونصرة نبيه ﴿فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ أي منزلة ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى﴾ يعني المؤمن القاعد للعذر، والمؤمن المجاهد، والحسنى:
أ. قيل: كل خير وحسنة.
ب. وقيل: الحسنى الجنة.
6. ﴿وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ غير أولي الضرر ﴿أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾:
أ. قيل: منازل بعضها أعلى من بعض من منازل الكرامة؛ لأن النعم على مراتب بعضها أشرف من بعض.
ب. وعن قتادة: هي درجات الأعمال: الإسلام درجة، والهجرة درجة، والجهاد درجة.
ج. وقيل: الدرجات الجنة.
د. وقيل: الدرجات تفضيل بعضهم على بعض.
7. ﴿مِنْهُ﴾ أي تلك الدرجات من الله تعالى: ﴿وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ وفيه بيان عن خلوص النعيم بأنه لا يشوبه غم، بما كان منه من الذنوب، بل غفر له ذلك؛ لأنه غفور، ثم رحمه بأنْ أعطاه النعم، وفضله بالدرجات.
8. سؤال وإشكال: لم قال أولا ﴿دَرَجَةً﴾، وههنا درجات؟ والجواب: فيه وجوه:
أ. قيل: ذكر في الأول صنفًا واحدًا فحسن ذكر درجة واحدة لتشاكل الكلام، وتقابل المعنى، وفي الثاني ذكر أصنافًا فذكر درجات؛ لأنه يذكر مع كل شيء ما يليق به.
ب. وقيل: الدرجة أولا الفضيلة والكرامة، والثاني درجات الجنة، عن أبي علي.
ج. وقيل: فضل الله على أولي الضرر بدرجة، وعلى غير أولي الضرر بدرجات.
د. وقيل: في الدنيا بدرجة وهي الغنيمة، وفي الآخرة بدرجات الجنة.
9. سؤال وإشكال: هل يجوز أن يستوي القاعد ذو الضرر مع المجاهد لمكان الاستثناء؟ والجواب: لا يدل قطعًا، ولكن يدل أنه يجوز أن يساويه، ويجوز ألا يساويه من لا عذر له، وإنما ذكر تعالى غير أولي الضرر بهذه الفوائد، لكن بين الفرق بين المعذور، وغير المعذور في القعود عن الجهاد ليكون حثًّا لغير أولي الضرر، ولكن يُبَيِّنُ إذا ترك الجهاد؛ قد يباح بحال من غير عذر؛ ولذلك قال: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى﴾، وهذه فوائد الاستثناء.
10. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن الجهاد من فروض الكفاية، ولذلك فضل المجاهد على القاعد الذي لا عذر له، ولذلك قال: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى﴾ ولو تعين الفرض وتركه لما صح ذلك.
ب. أن الجهاد يكون بالنفس والمال.
ج. أن الجهاد أفضل من كل قربة يفعلها القاعد؛ لأنه فضله على القاعد مطلقًا.
د. أن ذوي الأعذار يفارق حالهم حال القاعد بغير عذر.
هـ. أن المجاهد يفضل على القاعد بوجهين في الدنيا والآخرة، فلذلك ذكر درجة، وهو الشرف في الدنيا، وذكر درجات في الجنة.
و. استدل بعض الزيدية بالآية على أن زيد بن علي كرّم الله وجهه أفضل أهل زمانه لخروجه وجهاده، وإذا ثبت بالآية كونه أفضل ثبتت إمامته، فيبطل بذلك قول الحشوية في إمامة المروانية، وهو قول الإمامية في ثبوت إمامة أئمتهم.
11. قرأ ﴿غَيْرُ﴾ بالنصب أبو جعفر ونافع والكسائي، والباقون بالرفع، فالنصب على الاستثناء، والرفع على النعت للقاعدين، كأنه قيل: القاعدون غير أولي الضرر، ويجوز النصب على الحال على تقدير: لا يستوي القاعدون في حال صحتهم، ويجوز الكسر صفة للمؤمنين، ومحله خفض بـ ﴿مِنْ﴾ وقيل: الاختيار الرفع؛ لأن الصفة على غير أغلب من الاستثناء، وقيل: النصب أولى لتظاهر الأخبار أنه يدل على معنى الاستثناء، وليس كذلك، لأن ﴿غَيْرُ﴾ وإن كان صفة فيدل على معنى الاستثناء؛ لأنها في كلا الحالين خصصت القاعدين على الجهاد بانتفاء الضرر، وكلا الوجهين حسن، وقراءة ثابتة.
12. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿غَيْرُ﴾ يكون صفة، ويكون استثناء، ففي الاستثناء يوجبه إخراج بعض من كل، نحو: جاءني القوم غَيْرَ زيدٍ، وليست في الصفة كذلك، نحو: جاءني رجل غيرُ زيدٍ.
ب. في نصب ﴿دَرَجَاتٍ﴾ ثلاثة أقوال:
• الأول: البدل من قوله: ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾
• الثاني: التأكيد؛ لأن فَضَّلَهُم أجرًا عظيمًا يدل على الدرجات، ذكر الوجهين الزجاج.
• الثالث: لأنه ترجمة تقوم مقام الصفة؛ إذ كان في ذكر درجات بيان عن الأجر، أي: أي أجر هو؟)، ويجوز في العربية الرفع على تقدير: تلك درجات، كقوله: ﴿إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ﴾ أي ذاك بلاغ.
ج. ﴿دَرَجَاتٍ﴾ نصب على الحال، وكذلك ﴿مَغْفِرَةٌ﴾
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/32
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الضرر: النقصان، وهو كل ما يضرك وينقصك من عمى، ومرض، وعلة.
ب. الدرجة: المنزلة، ودرجته إلى كذا: أي رقيته إليه منزلة بعد منزلة، وأدرجت الكتاب: طويته منزلة بعد منزلة، ودرج الرجل: مضى لسبيله، لأنه صار إلى منزلة الآخرة، ومنه فلان أكذب من دب ودرج: أي أكذب الأحياء والأموات.
2. فضل الله المجاهدين درجات ومغفرة ورحمة.
3. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. نزلت الآية في كعب بن مالك من بني سلمة، ومرارة بن ربيع من بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية من بني واقف، تخلفوا عن رسول الله يوم تبوك، وعذر الله أولي الضرر، وهو عبد الله بن أم مكتوم، رواه أبو حمزة الثمالي في تفسيره.
ب. وقال زيد بن ثابت: كنت عند النبي، حين نزلت عليه (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) ولم يذكر أولي الضرر، فقال ابن أم مكتوم: فكيف وأنا أعمى لا أبصر؟ فتغشى النبي الوحي، ثم سري عنه، فقال: اكتبـ ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ فكتبتها.
4. لما حث سبحانه على الجهاد، عقبه بما فيه من الفضل والثواب، فقال: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: أي لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الايمان بالله وبرسوله، والمؤثرون الدعة والرفاهية، على مقاساة الحرب، والمشقة بلقاء العدو، ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ أي إلا أهل الضرر منهم، بذهاب أبصارهم، وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها إلى الجهاد، للضرر الذي بهم ﴿وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ومنهاج دينه لتكون كلمة الله هي العليا، والمستفرغون جهدهم ووسعهم في قتال أعداء الله، وإعزاز دينه ﴿بِأَمْوَالِهِمْ﴾ إنفاقا لها فيما يوهن كيد الأعداء ﴿وَأَنْفُسِهِمْ﴾ حملا لها على الكفاح في اللقاء.
أ. 5. ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ معناه فضيلة ومنزلة، ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ معناه وكلا الفريقين من المجاهدين والقاعدين عن الجهاد، وعده الله الجنة، عن قتادة وغيره من المفسرين:
ب. قيل: في هذه دلالة على أن الجهاد فرض على الكفاية لأنه لو كان فرضا على الأعيان، لما استحق القاعدون بغير عذر أجرا.
ج. وقيل: لان المراد بالكل هنا المجاهد والقاعد من أولي الضرر، المعذور عن مقاتل.
6. ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ من غير أولي الضرر ﴿أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾:
أ. أي منازل بعضها أعلى من بعض، من منازل الكرامة.
ب. وقيل: هي درجات الاعمال كما يقال الاسلام درجة، والفقه درجة، والهجرة درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة، عن قتادة.
ج. وقيل: معنى الدرجات هي الدرجات التسع التي درجها في سورة براءة في قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [التوبة: 120] فهذه الدرجات التسع عن عبد الله بن زيد ﴿وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ هذا بيان خلوص النعيم، بأنه لا يشوبه غم بما كان منه من الذنوب، بل غفر له ذلك، ثم رحمه بإعطائه النعم والكرامات.
7. ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ لم يزل الله غفارا للذنوب، صفوحا لعبيده من العقوبة عليها ﴿رَحِيمًا﴾ بهم، متفضلا عليهم.
8. سؤال وإشكال: قد يسأل فيقال: كيف قال في أول الآية ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾، ثم قال في آخرها ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ درجات وهذا متناقض الظاهر؟ والجواب: أجيب عنه بجوابين:
أ. أحدهما: أن في أول الآية (فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر) درجة، وفي آخرها (فضلهم على القاعدين غير أولي الضرر) درجات، فلا تناقض لأن قوله: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ يدل على أن القاعدين لم يكونوا عاصين وإن كانوا تاركين للفضل.
ب. والثاني: ما قاله أبو علي الجبائي: وهو أنه أراد بالدرجة الأولى علو المنزلة، وارتفاع القدر، على وجه المدح لهم، كما يقال فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان، يريدون بذلك أنه أعظم منزلة، وبالثانية الدرجات في الجنة، التي يتفاضل بها المؤمنون، بعضهم على بعض، على قدر استحقاقهم.
ج. وقال المغربي: إنما كرر لفظ التفضيل، لان الأول أراد به تفضيلها في الدنيا، وأراد بالثاني تفضيلهم في الآخرة.
د. وجاء في الحديث: (إن الله فضل المجاهدين على القاعدين سبعين درجة، بين كل درجتين مسيرة سبعين خريفا للفرس الجواد المضمر)
9. قرأ أهل المدينة، والشام، والكسائي، وخلف: (غير أولي الضرر) بنصب الراء، والباقون بالرفع، فالرفع على أن يجعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه، وكذلك قال في ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ﴾ عليهم أنه صفة للذين ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ومنه قول لبيد: وإذا جوزيت قرضا فاجزه... إنما يجزي الفتى غير الجمل فغير صفة للفتى، فعلى هذا يكون التقدير: لا يستوي القاعدون الأصحاء والمجاهدون، والنصب على الاستثناء من القاعدين، ويستوي فعل يقتضي فاعلين فصاعدا، فالتقدير لا يستوي القاعدون إلا أولي الضرر، والمجاهدون، قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوبا على الحال، فيكون المعنى: لا يستوي القاعدون في حال صحتهم والمجاهدون، كما تقول جاءني زيد غير مريض، أي صحيحا، ويجوز في غير الجر على أن يكون صفة للمؤمنين، في غير القراءة.
10. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿دَرَجَةً﴾: منصوب على أنه اسم وضع موضع المصدر: أي تفضيلا بدرجة.
ب. ﴿وَكُلًّا﴾: مفعول ﴿وَعَدَ﴾
ج. ﴿الْحُسْنَى﴾: مفعول ثان.
د. ﴿دَرَجَاتٍ﴾: في موضع نصب بدلا من قوله: ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وهو مفسر للأجر، ويجوز أن يكون منصوبا على التأكيد لأجرا عظيما لأن الأجر العظيم هو رفع الدرجات من الله والمغفرة والرحمة، كما تقول: لك علي ألف درهم عرفا مؤكد لقولك: لك علي ألف درهم لأن قولك لك علي ألف درهم، هو اعتراف، فكأنك قلت أعرفها عرفا، وكأنه قيل: غفر الله لهم مغفرة وآجرهم أجرا عظيما، لان قوله: ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ فيه معنى غفر، ورحم، وفضل.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/146.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ﴾ قال أبو سليمان الدّمشقيّ: نزلت هذه الآية من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود، وقال زيد بن ثابت: إني لقاعد إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ غشيته السّكينة، ثم سرّي عنه، فقال: (اكتب) (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون..) الآية، فقام ابن أمّ مكتوم، فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فو الله ما قضى كلامه حتى غشيت رسول الله السّكينة، ثم سرّي عنه، فقال: اقرأ، فقرأت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون)، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ فألحقتها.
2. ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ﴾ يعني عن الجهاد، والمعنى: أنّ المجاهدين أفضل، قال ابن عباس: وأريد بهذا الجهاد غزوة بدر، وقال مقاتل: غزاة تبوك.
3. ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة: (غير) برفع الرّاء، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائيّ، وخلف، والمفضّل: بنصبها، قال أبو عليّ: من رفع الراء، جعل (غير) صفة للقاعدين، ومن نصبها، جعلها استثناء من القاعدين.
4. في (الضّرر) قولان:
أ. أحدهما: أنه العجز بالزّمانة والمرض، ونحوهما، قال ابن عباس: هم قوم كانت تحسبهم عن الغزاة أمراض وأوجاع، وقال ابن جبير، وابن قتيبة: هم أولو الزّمانة، وقال الزجّاج: الضّرر: أن يكون ضريرا أو أعمى أو زمنا.
ب. الثاني: أنه العذر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
5. ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ في هؤلاء القاعدين قولان:
أ. أحدهما: أنهم القاعدون بالضّرر، قاله ابن عباس، ومقاتل.
ب. الثاني: القاعدون من غير ضرر، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
6. قال ابن جرير: والدّرجة: الفضيلة، فأما الحسنى فهي الجنة في قول الجماعة.
7. ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ قال ابن عباس: القاعدون هاهنا: غير أولي الضّرر، وقال سعيد بن جبير: هم الذين لا عذر لهم.
8. ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾ قال الزجّاج: درجات، في موضع نصب بدلا من قوله تعالى: ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾، وهو مفسّر للأجر، وفي المراد بالدّرجات قولان:
أ. أحدهما: أنها درجات الجنة، قال ابن محيريز: الدّرجات: سبعون درجة ما بين كلّ درجتين حضر الفرس الجواد المضمّر سبعين سنة، وإلى نحوه ذهب مقاتل.
ب. الثاني: أن معنى الدّرجات: الفضائل، قاله سعيد بن جبير، قال قتادة: كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة، وقال ابن زيد: الدّرجات: هي السّبع التي ذكرها الله تعالى في براءة حين قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ﴾
9. سؤال وإشكال: ما الحكمة في أنّ الله تعالى ذكر في أول الكلام درجة، وفي آخره درجات؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: أن الدّرجة الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولي الضّرر منزلة، والدّرجات: تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضّرر منازل كثيرة، وهذا معنى قول ابن عباس.
ب. الثاني: أن الدّرجة الأولى درجة المدح والتّعظيم، والدّرجات: منازل الجنة، ذكره القاضي أبو يعلى.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/455
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجوه:
أ. الأول: ما ذكرناه أنه تعالى لما رغب في الجهاد أتبع ذلك ببيان أحكام الجهاد، فالنوع الأول من أحكام الجهاد: تحذير المسلمين عن قتل المسلمين، وبيان الحال في قتلهم على سبيل الخطأ كيف، وعلى سبيل العمد كيف، وعلى سبيل تأويل الخطأ كيف، فلما ذكر ذلك الحكم أتبعه بحكم آخر وهو بيان فضل المجاهد على غيره وهو هذه الآية.
ب. الثاني: لما عاتبهم اللَّه تعالى على ما صدر منهم من قتل من تكلم بكلمة الشهادة، فلعله يقع في قلبهم أن
ج. الأولى الاحتراز عن الجهاد لئلا يقع بسببه في مثل هذا المحذور، فلا جرم ذكر اللَّه تعالى في عقيبه هذه الآية وبيّن فيها فضل المجاهد على غيره إزالة لهذه الشبهة.
د. الثالث: أنه تعالى لما عاتبهم على ما صدر منهم من قتل من تكلم بالشهادة ذكر عقيبه فضيلة الجهاد، كأنه قيل: من أتى بالجهاد فقد فاز بهذه الدرجة العظيمة عند اللَّه تعالى، فليحترز/ صاحبها من تلك الهفوة لئلا يخل منصبه العظيم في الدين بسبب هذه الهفوة، واللَّه أعلم
2. قرئ ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ بالحركات الثلاث في غير:
أ. فالرفع صفة لقوله: ﴿الْقَاعِدُونَ﴾ والمعنى لا يستوي القاعدون المغايرون لأولي الضرر والمجاهدون، ونظيره قوله: ﴿أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ﴾ [النور: 31] وذكرنا جواز أن يكون (غير) صفة المعرفة في قوله: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ﴾ [الفاتحة: 7] قال الزجاج: ويجوز أن يكون ﴿غَيْرُ﴾ رفعا على جهة الاستثناء، والمعنى لا يستوي القاعدون والمجهدون إلا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، أي الذين أقعدهم عن الجهاد الضرر، والكلام في رفع المستثنى بعد النفي قد تقدم في قوله: ﴿مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 66].. وذكر بعضهم أن القراءة بالرفع أولى لأن الأصل في كلمة (غير) أن تكون صفة، ثم أنها وإن كانت صفة فالمقصود والمطلوب من الاستثناء حاصل منها، لأنها في كلتا الحالتين أخرجت أولي الضرر من تلك المفضولية، وإذا كان هذا المقصود حاصلا على كلا التقديرين وكان الأصل في كلمة (غير) أن تكون صفة كانت القراءة بالرفع أولى.
ب. أما القراءة بالنصب ففيها وجهان: الأول: أن يكون استثناء من القاعدين، والمعنى لا يستوي القاعدون إلا أولي الضرر، وهو اختيار الأخفش.. والثاني: أن يكون نصبا على الحال، والمعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم، والمجاهدون، كما تقول: جاءني زيد غير مريض، أي جاءني زيد صحيحا، وهذا قول الزجاج والفرّاء وكقوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ [المائدة: 1].. ثم هاهنا بحث آخر: وهو أن الأخفش قال: القراءة بالنصب على سبيل الاستثناء أولى لأن المقصود منه استثناء قوم لم يقدروا على الخروج، فاستثناهم اللَّه تعالى من جملة القاعدين.
ج. وأما القراءة بالجر فعلى تقدير أن يجعل غير صفة للمؤمنين، فهذا بيان الوجوه في هذه القراءات.
روي في التفسير أنه لما ذكر اللَّه تعالى فضيلة المجاهدين على القاعدين جاء قوم من أولي الضرر فقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: حالتنا كما ترى، ونحن نشتهي الجهاد، فهل لنا من طريق؟ فنزل ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾
3. الضرر النقصان سواء كان بالعمى أو العرج أو المرض، أو كان بسبب عدم الأهبة.
4. حاصل الآية: لا يستوي القاعدون المؤمنون الأصحاء والمجاهدون في سبيل اللَّه، واختلفوا في أن قوله: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ هل يدل على أن المؤمنين القاعدين الاضراء يساوون المجاهدين أم لا؟ قال بعضهم: أنه لا يدل لأنا إن حملنا لفظ (غير) على الصفة وقلنا التخصيص بالصفة لا يدل على نفي الحكم عما عداه لم يلزم ذلك، وإن حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي ليس بإثبات لم يلزم أيضا ذلك، أما إذا حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي إثبات لزم القول بالمساواة، وهذه المساواة في حق الاضراء عند من يقول بها مشروطة بشرط آخر ذكره اللَّه تعالى في سورة التوبة وهو قوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى﴾ إلى قوله: ﴿إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: 91]، والقول بهذه المساواة غير مستبعد، ويدل عليه النقل والعقل:
أ. أما النقل فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عند انصرافه من بعض غزواته: (لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا مرض العبد قال اللَّه عزّ وجلّ اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ)
ب. وذكر بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [التين: 5، 6] أن من صار هرما كتب اللَّه تعالى له أجر ما كان يعمله قبل هرمه غير منقوص من ذلك شيئا، وذكروا في تفسير قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (نية المؤمن خير من عمله) أن ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبدا خير له من عمله الذي أدركه في مدة حياته.
ج. وأما المعقول فهو أن المقصود من جميع الطاعات والعبادات استنارة القلب بنور معرفة اللَّه تعالى، فإن حصل الاستواء فيه للمجاهد والقاعد فقد حصل الاستواء في الثواب، وإن كان القاعد أكثر حظا من هذا الاستغراق كان هو أكثر ثوابا.
5. سؤال وإشكال: إنه تعالى قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ [التوبة: 111] فقدم ذكر النفس على المال، وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله: ﴿الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ قدم ذكر المال على النفس، فما السبب فيه؟ والجواب: إن النفس أشرف من المال، فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد؛ والبائع أخر ذكرها تنبيها على أن المضايقة فيها أشد، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب.
6. ثم إنه تعالى لما بيّن أن المجاهدين والقاعدين لا يستويان ثم أن عدم الاستواء يحتمل الزيادة ويحتمل النقصان، لا جرم كشف تعالى عنه فقال: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ وفي انتصاب قوله ﴿دَرَجَةً﴾ وجوه:
أ. الأول: أنه يحذف الجار، والتقدير بدرجة فلما حذف الجار وصل الفعل فعمل
ب. الثاني: قوله ﴿دَرَجَةً﴾ أي فضيلة، والتقدير: وفضل اللَّه المجاهدين فضيلة كما يقال زيد أكرم عمرا إكراما والفائدة في التنكير التفخيم.
ج. الثالث: قوله: ﴿دَرَجَةً﴾ نصب على التمييز.
7. ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ أي وكلا من القاعدين والمجاهدين فقد وعده اللَّه الحسنى قال الفقهاء: وفيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية، وليس على كل واحد بعينه لأنه تعالى وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين، ولو كان الجهاد واجبا على التعيين لما كان القاعد أهلا لوعد اللَّه تعالى إياه الحسنى.
8. ثم قال تعالى: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، وفي انتصاب قوله: ﴿أَجْرًا﴾ وجهان:
أ. الأول: انتصب بقوله: ﴿وَفَضْلٍ﴾ لأنه في معنى قولهم: آجرهم أجرا، ثم قوله: ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ بدل من قوله: ﴿أَجْرًا﴾
ب. الثاني: انتصب على التمييز و﴿دَرَجَاتٍ﴾ عطف بيان ﴿وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ معطوفان على ﴿دَرَجَاتٍ﴾
9. سؤال وإشكال: إنه تعالى ذكر أولا ﴿دَرَجَةً﴾، وهاهنا ﴿دَرَجَاتٍ﴾، والجواب: من وجوه:
أ. الأول: المراد بالدرجة ليس هو الدرجة الواحدة بالعدد، بل بالجنس، والواحد بالجنس يدخل تحته الكثير بالنوع، وذلك هو الأجر العظيم، والدرجات الرفيعة في الجنة المغفرة والرحمة.
ب. الثاني: أن المجاهد أفضل من القاعد الذي يكون من الاضراء بدرجة، ومن القاعد الذي يكون من الأصحاء بدرجات، وهذا الجواب إنما يتمشى إذا قلنا بأن قوله: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ لا يوجب حصول المساواة بين المجاهدين وبين القاعدين الاضراء.
ج. الثالث: فضل اللَّه المجاهدين في الدنيا بدرجة واحدة وهي الغنيمة، وفي الآخرة بدرجات كثيرة في الجنة بالفضل والرحمة والمغفرة.
د. الرابع: قال في أول الآية ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ ولا يمكن أن يكون المراد من هذا المجاهد هو المجاهد بالمال والنفس فقط، وإلا حصل التكرار، فوجب أن يكون المراد منه من كان مجاهدا على الإطلاق في كل الأمور، أعني في عمل الظاهر، وهو الجهاد بالنفس والمال والقلب وهو أشرف أنواع المجاهدة، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)، وحاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير اللَّه إلى الاستغراق في طاعة اللَّه، ولما كان هذا المقام أعلى مما قبله لا جرم جعل فضيلة الأول درجة، وفضيلة هذا الثاني درجات.
10. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: دلّت الآية على أن نعيم الجنة لا ينال إلا بالعمل لأن التفاوت في العمل لما أوجب التفاوت في الثواب والفضيلة دل ذلك على أن علة الثواب هو العمل، وأيضا لو لم يكن العمل موجبا للثواب لكان الثواب هبة لا أجرا، لكنه تعالى سماه أجرا، فبطل القول بذلك، فيقال لهم: لم لا يجوز أن يقال: العمل علة الثواب لكن لا لذاته، بل بجعل الشارع ذلك العمل موجبا له.
11. قال الشافعية: دلت الآية على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح، لأنا بينا أن الجهاد فرض على الكفاية بدليل قوله: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ ولو كان الجهاد من فروض الأعيان لما كان القاعد عن الجهاد موعودا من عند اللَّه بالحسنى.. فإذا قامت طائفة بالجهاد سقط الفرض عن الباقين، فلو أقدموا عليه كان ذلك من النوافل لا محالة، ثم إن قوله: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ يتناول جميع المجاهدين سواء كان جهاده واجبا أو مندوبا، والمشتغل بالنكاح قاعد عن الجهاد، فثبت أن الاشتغال بالجهاد المندوب أفضل من الاشتغال بالنكاح.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/192
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قال ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها، ثم قال: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ والضرر الزمانة، روى الأئمة واللفظ لأبي داوود عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على فخذي، فما وجدت ثقل شي أثقل من فخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم سري عنه فقال: (اكتب) فكتبت في كتف (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) إلى آخر الآية، فقام ابن أم مكتوم ـ وكان رجلا أعمى ـ لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم السكينة فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (اقرأ يا زيد) فقرأت ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ الآية كلها، قال زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف، وفي البخاري عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث أنه سمع ابن عباس يقول: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ عن بدر والخارجون إلى بدر.
2. ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد، وصح وثبت في الخبر أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ـ وقد قفل من بعض غزواته: (إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر)، فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي، فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويا، وفي فضل الله متسع، وثوابه فضل لا استحقاق، فيثيب على النية الصادقة مالا يثيب على الفعل، وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة، والله أعلم، والقول الأول أصح ـ إن شاء الله ـ للحديث الصحيح في ذلك (إن بالمدينة رجالا) ولحديث أبي كبشة الأنماري قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (إنما الدنيا لأربعة نفر) الحديث وقد تقدم في سورة آل عمران، ومن هذا المعنى ما ورد في الخبر (إذا مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي)
3. تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجرا من أهل التطوع، لأن أهل الديوان لما كانوا متملكين بالعطاء، ويصرفون في الشدائد، وتروعهم البعوث والأوامر، كانوا أعظم من المتطوع، لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها، قال ابن محيريز: أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة لما يروعون، قال مكحول: روعات البعوث تنفي روعات القيامة.
4. تعلق بها أيضا من قال: إن الغنى أفضل من الفقر، لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال، وقد اختلف الناس في هذه المسألة مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم، فذهب قوم إلى تفضيل الغني، لأن الغني مقتدر والفقير عاجز، والقدرة أفضل من العجز، قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة، وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر، لأن الفقير تارك والغني ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها، قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة، وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين بأن يخرج عن حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، وليسلم من مذمة الحالين، قال الماوردي: وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال وأن خير الأمور أوسطها)، ولقد أحسن الشاعر الحكيم حيث قال:
çألا عائذا بالله من عدم الغنى...ومن رغبة يوما إلى غير مرغبé
5. ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ قراءة أهل الكوفة وأبو عمرو ﴿غَيْرُ﴾ بالرفع، قال الأخفش: هو نعت للقاعدين، لأنهم لم يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير، والمعنى لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر، أي لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر، والمعنى لا يستوي القاعدون الأصحاء، قاله الزجاج، وقرأ أبو حياة ﴿غَيْرُ﴾ جعله نعتا للمؤمنين، أي من المؤمنين الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الأصحاء، وقرأ أهل الحرمين ﴿غَيْرُ﴾ بالنصب على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين، أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين، وإن شئت على الحال من القاعدين، أي لا يستوي القاعدون من الأصحاء أي في حال صحتهم، وجازت الحال منهم، لأن لفظهم لفظ المعرفة، وهو كما تقول: جاءني زيد غير مريض، وما ذكرناه من سبب النزول يدل على معنى النصب.
6. ﴿فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ وقد قال بعد هذا: ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد، وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات، قاله ابن جريج والسدي وغيرهما، وقيل: إن معنى درجة علو، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ، فهذا معنى درجة، ودرجات يعني في الجنة، قال ابن محيريز: سبعين درجة بين كل درجتين حضر الفرس الجواد سبعين سنة.
7. ﴿دَرَجَاتٍ﴾ بدل من أجر وتفسير له، ويجوز نصبه أيضا على تقدير الظرف، أي فضلهم بدرجات، ويجوز أن يكون توكيدا لقوله: ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ لأن الأجر العظيم هو الدرجات والمغفرة والرحمة، ويجوز الرفع، أي ذلك درجات، و﴿أَجْرًا﴾ نصب بـ ﴿فَضْلِ﴾ وإن شئت كان مصدرا وهو أحسن، ولا ينتصب بـ ﴿فَضْلِ﴾ لأنه قد استوفى مفعولية وهما قوله: ﴿الْمُجَاهِدِينَ﴾ و﴿عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾، وكذا ﴿دَرَجَةً﴾، فالدرجات منازل بعضها أعلى من بعض، وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين الدرجتين كما بين السماء والأرض،) وكلا وعد الله الحسنى كلا منصوب بـ ﴿وَعَدَ﴾ و﴿الْحُسْنَى﴾ الجنة، أي وعد الله كلا الحسنى، ثم قيل: المراد ﴿بِكُلِّ﴾ المجاهدون خاصة، وقيل: المجاهدون واو لو الضرر.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/341.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. التفاوت بين درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر، ودرجات من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه وإن كان معلوما، لكن أراد سبحانه بهذا الإخبار: تنشيط المجاهدين ليرغبوا، وتبكيت القاعدين ليأنفوا.
2. ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ قرأ أهل الكوفة، وأبو عمرو: بالرفع، على أنه وصف للقاعدين كما قال الأخفش، لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم، فصاروا كالنكرة، فجاز وصفهم بغير، وقرأ أبو حيوة: بكسر الراء، على أنه وصف للمؤمنين، وقرأ أهل الحرمين: بفتح الراء، على الاستثناء من القاعدين، أو من المؤمنين، أي: إلّا أولي الضرر، فإنهم يستوون مع المجاهدين، ويجوز أن يكون: منتصبا، على الحال من القاعدين، أي: لا يستوي القاعدون الأصحاء في حال صحتهم، وجازت الحال منهم: لأن لفظهم لفظ المعرفة، قال العلماء: أهل الضرر: هم أهل الأعذار، لأنها أضرّت بهم حتى منعتهم عن الجهاد، وظاهر النظم القرآني: أن صاحب العذر يعطى مثل أجر المجاهد ـ وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف، فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل المباشرة، قال القرطبي: والأوّل أصحّ إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك: (إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلّا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر)، قال وفي هذا المعنى ما ورد في الخبر: (إذا مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إليّ)
3. ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ هذا بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم الاستواء إجمالا، والمراد هنا: غير أولي الضرر، حملا للمطلق على المقيد، وقال هنا: ﴿دَرَجَةً﴾، وقال فيما بعد: ﴿دَرَجَاتٍ﴾ فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد، وقال آخرون: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر بدرجات، قاله ابن جريج، والسديّ، وغيرهما؛ وقيل: إن معنى درجة: علوّا، أي: أعلى ذكرهم، ورفعهم بالثناء والمدح، ودرجة: منتصبة على التمييز أو المصدرية، لوقوعها موقع المرة من التفضيل، أي: فضل الله تفضيله، أو على نزع الخافض، أو على الحالية من المجاهدين، أي: ذوي درجة.
4. ﴿وَكُلًّا﴾ مفعول أوّل لقوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ قدّم عليه لإفادته القصر، أي: كل واحد من المجاهدين والقاعدين وعده الله الحسنى، أي: المثوبة، وهي الجنة.
5. ﴿أَجْرًا﴾ هو منتصب على التمييز؛ وقيل: على المصدرية، لأن فضل، بمعنى: آجر، فالتقدير: آجرهم أجرا؛ وقيل: مفعول ثان لفضل، لتضمنه معنى الإعطاء؛ وقيل: منصوب بنزع الخافض؛ وقيل: على الحال من درجات مقدّم عليها، وأما انتصاب درجات ومغفرة ورحمة: فهي بدل من أجرا؛ وقيل: إن مغفرة ورحمة ناصبهما أفعال مقدّرة، أي: غفر لهم مغفرة، ورحمهم رحمة.
__________
(1) فتح القدير: 1/581.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ﴾ عن الحرب والمال، أو عن الحرب مع إنفاق المال فيها، كمركوب وسلاح وزادٍ، وفي البخاري: (هم القاعدون عن بدر)، رواه عن ابن عبَّاس، وقيل: المتخلِّفون عن تبوك، إذ تخلَّف عنها كعب بن مالك من بني سلمة، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف، والربيع، وهلال ابن أمية كلاهما من بني واقف، ﴿مِنَ الْمُومِنِينَ غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ﴾ من ضعف أو هرم أو عمًى أو عرج أو قعود مع الوالدين المحتاجين إليه، أو عدم ما يغزون به.
2. لَمَّا رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من غزوة تبوك وَدَنَا من المدينة قال: (إنَّ بالمدينة لأقوامًا ما سرتم من مسير، ولا قطعتم من واد إلَّا كانوا معكم فيه)، قالوا: (يا رسول الله، وهم بالمدينة؟)، قال: (نعم، وهم بالمدينة، حبسهم حابس العذر)، أي: لصحَّة تَعَلُّق نياتهم بالجهاد، كما قال الله تعالى ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ﴾ إلى قوله تعالى ﴿اِذَا نَصَحُوا لِلهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: 91]، كما قال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ إلخ [التين: 5 ـ 6] فمعناه أنَّ من نوى عمل خير فمنعه مانع يُكتَب له أجره، ويقول للملائكة: (اكتبوا له أحسن ما كان يعمل، فأنَا قيَّدته)، وكما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (نيَّة المؤمن خير من عمله)، فله ثواب ألف عام لِمَا نواه نيَّة صحيحة.
3. ﴿وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾ قال زيد بن ثابت: نزلت الآية أوَّلاً هكذا: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله،،،) إلخ بدون ذكر قوله: ﴿غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ﴾، فقال ابن أمِّ مكتوم: فكيف وأنا أعمى يا ربِّ؟ أين عذري يا ربِّ أين عذري؟ بمعنى أنَّه يطلب أن يعذر، فغشيَ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مجلسه الوحيُ، فوقعت فخذُه على فخذي فخشيت أن ترضَّها، أي: تكسرها، ثمَّ سرى عنه، أي: زالت عنه شدَّة الوحي، فقال: (اكتبـ ﴿لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُومِنِينَ غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾ بزيادة ﴿غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ﴾؛ قال زيد بن ثابت: ما جفَّ قلمي وأنا أكتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد قول ابن مكتوم حتَّى قال: (اكتب يا زيد غير أولي الضرر)
4. نفى الله الاستواء بينهم ليَرْغَبَ الناسُ عن القعود، ويَأنَفُوا عن انحطاط رتبهم؛ ومعلوم أنَّ التفاوت برفع المجاهدين عن القاعدين لا بانحطاطهم، لم يقل: والخارجون في سبيل الله، مع أنَّه أنسب بقوله: ﴿لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ﴾ مدحًا لهم وتصريحًا بموجب المزيَّة؛ ولأنَّ القعود كان قعودًا عن الجهاد، وأخَّر ذكر المجاهدين عن القاعدين ليتَّصل التصريح بفضلهم بهم، ووضَّح ذلك تأكيدًا في الترغيب بقوله: ﴿فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ بدل اشتمال على حذف الرابط، أي: درجة لهم، أو تمييز عن المفعول، أي: فضَّل الله درجة المجاهدين، أو مفعول مطلق بمعنى تفضيله، وقدَّر بعض: في درجة، وبعض: بدرجة، وبعض: ذوي درجة.
5. ﴿وَكُلًّا﴾ من القاعدين والمجاهدين ﴿وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَىٰ﴾ الدار الحسنى، أو المثوبة الحسنى، وهي الجنَّة، لإيمانهم مع إخلاص، ومع كون الجهاد على الكفاية في المسألة، إلَّا أنَّ للمجاهدين فضلاً عليهم لمزيد عملهم.
6. ﴿وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ إعرابه كـ (دَرَجَةً)، أو ضُمِّن (فَضَّلَ) معنى أعطى، أي: أعطاهم زيادة على القاعدين أجرًا عظيمًا، وهذا تأكيد آخر دعا إليه ذكر: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى﴾، والأجر العظيم الدرجة المذكورة: ﴿دَرَجَاتٍ مِّنْهُ﴾ هنَّ الدرجة الأولى سماهنَّ أوَّلاً (درجة) لأنَّ الكلَّ مرتبة، كما أنَّ أبعاضه مراتب، وفصلهنَّ ثانيًا جمعًا، كقوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ [مريم: 60 ـ 61] إذا جعلنا الجنَّة عَلَمًا لدار المتَّقين، ولم نجعل (ال) فيه للجنس، أو الدرجة: الغنيمة والظَّفَر والذِّكر الجميل، أو ارتفاع منزلتهم عند الله، والدرجات: ما لهم في الجنَّة، أو القاعدون الأوَّلون: أولو الضرر، فُضِّل المجاهدون عليهم بدرجة، وعلى من أُذن له في التخلُّف بدرجات، أو المجاهدون ثانيًا: من استغرق في أحوال الجهاد، جهاد العدوِّ والنفس، وعمل القلب وسائر الطّاعات، والإعراض عن غير الله، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد النفس)، وعن أبي هريرة عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ في الجنَّة مائة درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)، ويقال: (فضِّلوا على القاعدين بسبعين درجة بين الدرجتين عَدْوُ الفرس الجواد المضمر ستِّين خريفًا)، ويقال: للإسلام درجة، وللهجرة درجة، وللجهاد درجة، وللقتل فيه درجة، ويقال: سبع درجات مذكورة في قوله: ﴿ذَالِكَ بِأَنـَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ إلخ [التوبة: 120]؛ فالدرجات سبع، أو سبعون، أو سبعمائة، ما بين الدرجتين ما بين السماء والأرض، وهو بدل (أجر) أو مفعول مطلق، أو بدل اشتمال إن لم نجعل (أَجْرًا) كذلك.
7. ﴿وَمَغْفِرَةً﴾ لِمَا فرط منهم في شأن الجهاد وغيره، ﴿وَرَحْمَةً﴾ عطفٌ على (دَرَجَاتٍ) إن جُعل بدلاً، أو مفعولٌ مطلق، أي: وغفر لهم مغفرةً ورحمهم رحمةً، ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ بما وعد لهم، وكان ابن أمِّ مكتوم بعد نزول ذلك يغزو، ويقول: (أعطوني اللواء فإنِّي لا أفرُّ)
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/258.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بيان لتفاوت طبقات المؤمنين بحسب تفاوت درجات مساعيهم في الجهاد، بعد ما مر من الأمر به وتحريض المؤمنين عليه، ليأنف القاعد عنه ويترفع بنفسه عن انحطاط رتبته، فيهتزّ له رغبة في ارتفاع طبقته، قاله أبو السعود، وأصله للزمخشريّ حيث قال: فإن قلت: معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، فما فائدة نفي الاستواء؟ قلت: معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت العظيم والبون البعيد، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه، وفي ارتفاع طبقته، ونحوه: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليهاب به إلى التعلّم ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم، والمراد بهم، وقت النزول، القاعدون عن غزوة بدر والخارجون إليها، كما رواه البخاريّ والترمذيّ عن ابن عباس.
2. ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾، مخرج لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد: من العمى والعرج والمرض، عن مساواتهم للقاعدين، فإنهم مساوون المجاهدين بالنية، ولا يعتد بزيادة أجر العمل لهم لعظم أمر النية، كما روى الإمام أحمد والبخاريّ وأبو داود عن أنس؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: وهم بالمدينة؟ يا رسول الله! قال: نعم، حبسهم العذر، وفي هذا المعنى قال الشاعر:
çيا راحلين إلى البيت العتيق لقد...سرتم جسوما، وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر...ومن أقام على عذر كمن راحاé
3. قال أبو السعود: (وإيرادهم، يعني الغزاة، بعنوان المجاهدين، دون الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه، كما وقع في عبارة ابن عباس، وكذا تقييد المجاهدة بكونها في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، لمدحهم بذلك والإشعار بعلة استحقاقهم لعلوّ المرتبة، مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود).. وظاهر أن نفي المساواة يستلزم التفضيل، إلا أنه للاعتناء به، وليتمكن أشد تمكن، لم يكتف بما فهم ضمنا، بل صرح به فقال ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ﴾، لأنهم رجحوا جانبه ﴿بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ أي: غير أولي الضرر ﴿دَرَجَةً﴾ في القرب ممن رجحوا جانبه ﴿وَكُلًّا﴾ أي: كل واحد من القاعدين والمجاهدين ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة، لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم، والجملة اعتراض جيء به تداركا لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ﴾ بالجهاد ﴿عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ أي بغير عذر ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾، أي: ثوابا وافرا في الجنة.
4. ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾ بدل من (أجرا) بدل الكل، مبيّن لكمية التفضيل و(منه) متعلق بمحذوف وقع صفة ل (درجات) دالة على فخامتها وجلالة قدرها، قاله أبو السعود، وعن أبي سعيد الخدريّ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء، والأرض، وقال الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من رمى بسهم فله أجره درجة، فقال رجل: يا رسول الله! وما الدرجة؟ فقال: أما إنها ليست بعتبة أمك: ما بين الدرجتين مائه عام ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ أي: لذنوبهم ﴿وَرَحْمَةً﴾ فوق الأجر ودرجاته ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ تذييل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة.
5. دلت الآية الكريمة على أن الجهاد ليس بفرض عين، إذ لو كان فرضا من فروض الأعيان لم يكن للقاعد فضل، ولكن تفاوت الفضل بينه وبين المجاهد، وقال: وكلا وعد الله الحسنى.
6. دلت أيضا على أن الجهاد أفضل من القرب التي يفعلها القاعد، لأنه فضّله على القاعد مطلقا، ويؤيد هذا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الجهاد سنام الدين، وقد فرّع العلماء على هذا أن رجلا لو وقف ما له على أحسن وجوه البر، أو أوصى أن يصرف في أحسن وجوه البرّ، فإنه يصرف في الجهاد، خلاف ما ذكره أبو عليّ أنه يصرف في طلب العلم، كذا في بعض التفاسير.
7. قال السيوطيّ في (الإكليل): في الآية تفضيل المجاهدين على غيرهم، وأن المعذورين في درجة المجاهدين، واستدل بقوله (بأموالهم) على تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديون أو نحوه.
8. قال أبو السعود: لعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة، وتقييده تارة بدرجة وأخرى بدرجات، مع اتحاد المفضل والمفضل عليه، حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن النظام ـ إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتيّ تمهيدا لسلوك طريق الإبهام، ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [هود: 58]، كأنه قيل: فضل المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادر قدرها، ولا يبلغ كنهها، وحيث كان تحقيق هذا البون البعيد بينهما موهما لحرمان القاعدين، قيل: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾، ثم أريد تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام، بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة، فقيل ما قيل، ولله درّ شأن التنزيل، وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات، على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة، وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر، كما ينبئ عن تقديم الأول وتأخير الثاني، وتوسيط الوعد بالجنة بينهما، كأنه قيل: وفضلهم عليهم، في الدنيا درجة واحدة وفي الآخرة درجات لا تحصى، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود، أعني الوعد بالجنة، توضيحا لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول، والله سبحانه أعلم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/284
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ الخ توفي الشيء أخذه وافيا تاما، وتوفي الملائكة للناس عبارة عن قبض أرواحهم عند الموت، ولفظ (توفاهم) هنا يحتمل أن يكون فعلا ماضيا أي توفتهم الملائكة، وكل من تذكير الفعل وتأنيثه جائز هنا، وعلى هذا تكون العبارة حكاية حال ماضية، ويكون سحب حكمهم على جميع من كانت حاله مثل حالهم بطريق القياس، ويحتمل وهو الأقرب أن يكون فعلا مستقبلا حذفت منه إحدى التاءين فيكون الحكم فيه عاما بنص الخطاب، والمعنى أن الذين تتوفاهم الملائكة بقبض أرواحهم عند انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمي أنفسهم بعدم إقامة دينهم وعدم نصره وتأييده، وبرضاهم بالإقامة في الذل والظلم حيث لا حرية لهم في أعمالهم الدينية.
2. ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ أي تقول لهم الملائكة بعد توفيها لهم (وفيه الالتفات على الوجه المختار): في أي شيء كنتم من أمر دينكم، قال في الكشاف معنى (فيم كنتم) التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، يعني أن الاستفهام يراد به التوبيخ على شيء معلوم، لا حقيقة الاستعلام عن شيء مجهول، ولهذا حسن في جوابه.
3. ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ وهو اعتذار من تقصيرهم الذي وبخوا عليه بالاستضعاف أي إننا لم نستطع أن نكون في شيء يعتد به من أمر ديننا لاستضعاف الكفار لنا، فرد الملائكة هذا العذر عليهم و﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ وتحرروا أنفسكم من رق الذل الذي لا يليق بالمؤمن ولا هو من شأنه، أي إن استضعاف القوم لكم لم يكن هو المانع لكم من الإقامة معهم في دارهم بل كنتم قادرين على الخروج منها مهاجرين إلى حيث تكونون في حرية من أمر دينكم ولم تفعلوا.
4. ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ قيل أن هذا هو خبر ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ وقيل بل خبره قوله: ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ وقيل محذوف، ومعنى الجملة سواء كانت هي الخبر أم لا أن أولئك الذين لم يكونوا على شيء يعتد به من أمر دينهم لإقامتهم بين الكفار الذين يصدونهم عن ذلك مأواهم ومسكنهم في الآخرة نار جهنم ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ أي وقبحت جهنم مأوى ومصيرا لمن يصير إليها لأن كل ما فيها يسوءه لا يسره منه شيء، قيل إنه توعدهم بجهنم كما يتوعد الكفار لأن الهجرة للقادر كانت شرطا لصحة الإسلام، وقيل بل كانوا من المنافقين الذين أظهروا الإسلام ولم يتبطنوه، وهناك وجه آخر هو الذي يلجأ إليه في مثل هذا جمهور الفقهاء وهو أن جهنم تكون لهم مأوى موقتا على قدر تقصيرهم وما فاتهم من الفرائض في الإقامة مع الكفار تحت سلطانهم وما عساهم اقترفوا ثم من المعاصي.
5. قال في الكشاف بعد تفسير الآية: وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة، حقت عليه المهاجرة، ثم ختم الكلام فيها بدعاء أبان فيه أنه إنما هاجر إلى مكة فرارا بدينه ليتمكن من إقامته كما يجب.
6. وهاك ما عندي في الآية عن درس محمد عبده: ذكر تعالى في الآية السابقة فضل المجاهدين في سبيل الله على القاعدين لغير عجز فعلم أن العاجز معذور، ومعنى سبيل الله الطريق الذي يرضيه ويقيم دينه، ثم ذكر حال قوم أخلدوا إلى السكون وقعدوا عن نصر الدين بل وعن إقامته حيث هو، وعذروا أنفسهم بأنهم في أرض الكفر حيث اضطهدهم الكافرون ومنعوهم من إقامة الحق وهم عاجزون عن مقاومتهم، ولكنهم في الحقيقة غير معذورين لأنه كان يجب عليهم الهجرة إلى المؤمنين الذين يعتزون بهم، فهم بحبهم لبلادهم، وإخلادهم إلى أرضهم، وسكونهم إلى أهليهم ومعارفهم، ضعفاء في الحق لا مستضعفون، وهم بضعفهم هذا قد حرموا أنفسهم بترك الهجرة من خير الدنيا بعزة المؤمنين، ومن خير الآخرة بإقامة الحق، فظلمهم لأنفسهم عبارة عن تركهم العمل بالحق خوفا من الأذى وفقد الكرامة عند عشرائهم المبطلين، وهذا الاعتذار هو نحو مما يعتذر به الذين جاروا أهل البدع على بدعهم في هذا العصر وفي كثير من الأعصار، يعتذرون بأنهم يجبّون الغيبة عن أنفسهم ويدارون المبطلين، وهو عذر باطل، فالواجب عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى في سبيل الله أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم، وللفقهاء خلاف في الهجرة هل وجوبها مضى أو هو مستمر في كل زمان؟ والمالكية على الوجوب قال: ولا معنى عندي للخلاف في وجوب الهجرة من الأرض التي يمنع فيها المؤمن من العمل بدينه، أو يؤذى فيه إيذاء لا يقدر على احتماله، وأما المقيم في دار الكافرين ولكنه لا يمنع ولا يؤذى إذا هو عمل بدينه بل يمكنه أن يقيم جميع أحكامه بلا نكير فلا يجب عليه أن يهاجر وذلك كالمسلمين في بلاد الإنكليز لهذا العهد بل ربما كانت الإقامة في دار الكفر سببا لظهور محاسن الإسلام وإقبال الناس عليه اه (أي إذا كان المسلمون المقيمون هنالك على حريتهم يعرفون حقيقة الإسلام ويبينونها للناس بالقول والعمل والأخلاق والآداب)
__________
(1) تفسير المنار: 5/289.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن عاتب الله المؤمنين على ما صدر منهم من قتل من تكلم بالشهادة ـ ذكر فضيلة الجهاد وأن من نصب نفسه له فقد فاز فوزا عظيما، فعليه أن يحترز من الوقوع في الهفوات التي تخلّ بهذا المنصب العظيم.
2. ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ أي لا يكون القاعدون عن الجهاد بأموالهم بخلا بها وحرصا عليها، وبأنفسهم إيثارا للراحة والنعيم على التعب وركوب الأخطار ـ مساوين للمجاهدين الذين يبذلون أموالهم في الاستعداد للجهاد بالسلاح والخيل والمئونة، ويبذلون أنفسهم بتعريضها للقتل في سبيل الحق ومنع تعدى حزب الطاغوت، لأن المجاهدين هم الذين يحمون الأمة والبلاد، والقاعدين لا يأخذون حذرهم ولا يعدّون عدّتهم للدفاع ويكونون عرضة لتعدى غيرهم عليهم كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ أي بغلبة أهل الطاغوت عليها، ولكن النكوص عن الجهاد لا يكون مذمة وبخلا إلا مع القدرة، أما مع العجز والضرر كالعمى والزمانة والمرض فلا تبعة فيه حينئذ.
3. ثم بين ما أجمله أولا من التفاضل الذي بين الفريقين وعدم تساويهما فقال: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ أي إن الله تعالى رفع المجاهدين على القاعدين درجة لا يقدر قدرها ولا يدرك كنهها، وهي ما خوّلهم الله عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل ودفع شر الأعداء عن الأمة والبلاد.
4. ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ أي ووعد الله كلا ممن جاهد وقعد عن الجهاد عجزا منه مع تمنى القدرة عليه المثوبة الحسنى وهي الجنة، فكل منهما كامل الإيمان مخلص لله في العمل.
5. ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولى الضرر أجرا عظيما.
6. ثم بين هذا الأجر العظيم فقال: ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ هذه الدرجات هي ما ادخره الله لعباده من المنازل الرفيعة التي يقصر الحصر عن عدها كما قال تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ ودرجات الآخرة مبنية على درجات الدنيا من قوة الإيمان بالله، وإيثار رضاه على الراحة والنعيم، وترجيح المصلحا العامة على الشهوات الخاصة، والمغفرة المقرونة بهذه الدرجات هي المغفرة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا تكفّرها سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون، والرحمة هي ما يخصهم به الرحمن زيادة على ذلك من فضله وإحسانه، وقد صح من حديث أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال (إن في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه، قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر)
7. ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي وكان شأن الله وصفته الغفران لمن يستحق المغفرة، والرحمة لمن يؤتميه ذلك تفضلا منه وإحسانا.
__________
(1) تفسير المراغي 5/129.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا الدرس وثيق الصلة، شديد اللحمة بالدرس السابق والدرس الذي قبله كذلك، فهو تكملة موضوعية لموضوع الدرسين السابقين، ولولا الرغبة في إقرار مبادئ المعاملات الدولية ـ كما يقررها الإسلام ـ لاعتبرناهما معا مع هذا الدرس درسا واحدا متصلا، إنما هي حلقات في خط واحد.
2. إن موضوعه الأساسي هو الهجرة إلى دار الإسلام؛ والحث على انضمام المسلمين المتخلفين في دار الكفر والحرب إلى الصف المسلم المجاهد في سبيل الله بالنفس والمال، واطراح الراحة النسبية والمصلحة كذلك في البقاء بمكة، إلى جوار الأهل والمال! ولعل هذا هو المقصود بقوله تعالى في مطلع هذا الدرس: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.. فما كان في المدينة قاعدون ـ إلا المنافقين المعوقين الذين تحدث عنهم بلهجة غير هذه اللهجة في الدرس الماضي!
3. وقد تلا هذه الفقرة فقرة أخرى فيها تحذير وتهديد لمن يظلون قاعدين هنالك في دار الكفر ـ وهم قادرون على الهجرة منها بدينهم وعقيدتهم ـ حتى تتوفاهم الملائكة ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾.. ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾.. ثم تلتها فقرة أخرى عن ضمان الله سبحانه لمن يهاجر في سبيله، منذ اللحظة التي يخرج فيها من بيته، قاصدا الهجرة إلى الله خالصة، عالج فيها كل المخاوف التي تهجس في النفس البشرية وهي تقدم على هذه المخاطرة، المحفوفة بالخطر، الكثيرة التكاليف في الوقت ذاته.. فالحديث مطرد عن الجهاد والهجرة إلى دار المجاهدين، وأحكام التعامل بين المسلمين في دار الهجرة وبقية الطوائف خارج هذه الدار ـ بما في ذلك المسلمون الذين لم يهاجروا ـ والحديث موصول.
4. ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.. إن هذا النص القرآني كان يواجه حالة خاصة في المجتمع المسلم وما حوله؛ وكان يعالج حالة خاصة في هذا المجتمع من التراخي ـ من بعض عناصره ـ في النهوض بتكاليف الجهاد بالأموال والأنفس، سواء كان المقصود أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة احتفاظا بأموالهم، إذ لم يكن المشركون يسمحون لمهاجر أن يحمل معه شيئا من ماله؛ أو توفيرا لعناء الهجرة وما فيها من مخاطر، إذ لم يكن المشركون يتركون المسلمين يهاجرون، وكثيرا ما كانوا يحبسونهم ويؤذونهم ـ أو يزيدون في إيذائهم بتعبير أدق ـ إذا عرفوا منهم نية الهجرة.. سواء كان المقصود هم أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة ـ وهو ما نرجحه ـ أو كان المقصود بعض المسلمين في دار الإسلام، الذين لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس ـ من غير المنافقين المبطئين الذين ورد ذكرهم في درس سابق ـ أو كان المقصود هؤلاء وهؤلاء ممن لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس في دار الحرب ودار الإسلام سواء.
5. إن هذا النص كان يواجه هذه الحالة الخاصة؛ ولكن التعبير القرآني يقرر قاعدة عامة؛ يطلقها من قيود الزمان، وملابسات البيئة؛ ويجعلها هي القاعدة التي ينظر الله بها إلى المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان ـ قاعدة عدم الاستواء بين القاعدين من المؤمنين عن الجهاد بالأموال والأنفس ـ غير أولي الضرر الذين يقعدهم العجز عن الجهاد بالنفس، أو يقعدهم الفقر والعجز عن الجهاد بالنفس والمال ـ عدم الاستواء بين هؤلاء القاعدين والآخرين الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم.. قاعدة عامة على الإطلاق: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾.. ولا يتركها هكذا مبهمة، بل يوضحها ويقررها، ويبين طبيعة عدم الاستواء بين الفريقين: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾
6. وهذه الدرجة يمثلها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مقامهم في الجنة، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض).. وقال: (من رمى بسهم فله أجره درجة).. فقال رجل: يا رسول الله، وما الدرجة؟ فقال: (أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام)
7. وهذه المسافات التي يمثل بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، نحسب أننا اليوم أقدر على تصورها؛ بعد الذي عرفناه من بعض أبعاد الكون، حتى إن الضوء ليصل من نجم إلى كوكب في مئات السنين الضوئية! وقد كان الذين يسمعون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصدقونه بما يقول، ولكنا ـ كما قلت ـ ربما كنا أقدر ـ فوق الإيمان ـ على تصور هذه الأبعاد بما عرفناه من بعض أبعاد الكون العجيب!
8. ثم يعود السياق بعد تقرير هذا الفارق في المستوي بين القاعدين من المؤمنين ـ غير أولي الضرر ـ والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم، فيقرر أن الله وعد جميعهم الحسنى: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾.. فللإيمان وزنه وقيمته على كل حال؛ مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان فيما يتعلق بالجهاد بالأموال والأنفس.. وهذا الاستدراك هو الذي نفهم منه أن هؤلاء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين، إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف المسلم ومخلصة؛ ولكنها قصرت في هذا الجانب؛ والقرآن يستحثها لتلافي التقصير؛ والخير مرجو فيها، والأمل قائم في أن تستجيب.
9. فإذا انتهى من هذا الاستدراك عاد لتقرير القاعدة الأولى؛ مؤكدا لها، متوسعا في عرضها؛ ممعنا في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، وهذا التوكيد.. وهذه الوعود.. وهذا التمجيد للمجاهدين.. والتفضيل على القاعدين.. والتلويح بكل ما تهفو له نفس المؤمن من درجات الأجر العظيم.. ومن مغفرة الله ورحمته للذنوب والتقصير..
10. هذا كله يشي بحقيقتين هامتين:
أ. الأولى: هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالات قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا وتعالجها، وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكا لطبيعة النفس البشرية، ولطبيعة الجماعات البشرية، وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في الإيمان والتربية فهي دائما في حاجة إلى علاج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف، وبخاصة تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس، مع خلوص النفس للّه، وفي سبيل الله، وظهور هذه الخصائص البشرية ـ من الضعف والحرص والشح والتقصير ـ لا يدعو لليأس من النفس أو الجماعة، ولا إلى نفض اليد منها، وازدرائها؛ طالما أن عناصر الإخلاص والجد والتعلق بالصف والرغبة في التعامل مع الله موفورة فيها.. ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير؛ والهتاف لها بالانبطاح في السفح، باعتبار أن هذا كله جزء من (واقعها)! بل لا بد لها من الهتاف لتنهض من السفح والحداء لتسير في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة، بكل ألوان الهتاف والحداء.. كما نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم.
ب. الثانية: هي قيمة الجهاد بالأموال والأنفس في ميزان الله واعتبارات هذا الدين وأصالة هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام، لما يعلمه الله ـ سبحانه ـ من طبيعة الطريق؛ وطبيعة البشر؛ وطبيعة المعسكرات المعادية للإسلام في كل حين.
11. إن (الجهاد) ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة، إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة! وليست المسألة ـ كما توهم بعض المخلصين ـ أن الإسلام نشأ في عصر الإمبراطوريات؛ فاندس في تصورات أهله ـ اقتباسا مما حولهم ـ أنه لا بد لهم من قوة قاهرة لحفظ التوازن! هذه المقررات تشهد ـ على الأقل ـ بقلة ملابسة طبيعة الإسلام الأصيلة لنفوس هؤلاء القائلين بهذه التكهنات والظنون.
12. لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله؛ في مثل هذا الأسلوب! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي مثل هذا الأسلوب..
13. لو كان الجهاد ملابسة طارئة ما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق)، ولئن كان صلّى الله عليه وآله وسلّم رد في حالات فردية بعض المجاهدين، لظروف عائلية لهم خاصة، كالذي جاء في الصحيح أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أجاهد، قال: (لك أبوان؟) قال نعم، قال: (ففيهما جاهد).. لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية لا تنقض القاعدة العامة؛ وفرد واحد لا ينقص المجاهدين الكثيرين، ولعله صلّى الله عليه وآله وسلّم على عادته في معرفة كل ظروف جنوده فردا فردا، كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه، ما جعله يوجهه هذا التوجيه..
14. فلا يقولن أحد ـ بسبب ذلك ـ إنما كان الجهاد ملابسة طارئة بسبب ظروف، وقد تغيرت هذه الظروف! وليس ذلك لأن الإسلام يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الرؤوس ولكن لأن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل حين! إن الله ـ سبحانه ـ يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك! ويعلم أن لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه، لأنه طريق غير طريقهم، ومنهج غير منهجهم، ليس بالأمس فقط، ولكن اليوم وغدا، وفي كل أرض، وفي كل جيل! وإن الله ـ سبحانه ـ يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفا، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو ـ مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة! ـ فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان؛ ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة! هذه جبلة! وليست ملابسة وقتية.. هذه فطرة! وليست حالة طارئة..
15. ومن ثم لا بد من الجهاد.. لا بد منه في كل صورة.. ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير، ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود، ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح، ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة.. وإلا كان الأمر انتحارا، أو كان هزلا لا يليق بالمؤمنين! ولا بد من بذل الأموال والأنفس، كما طلب الله من المؤمنين، وكما اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.. فأما أن يقدر لهم الغلب؛ أو يقدر لهم الاستشهاد؛ فذلك شأنه ـ سبحانه ـ وذلك قدره المصحوب بحكمته.. أما هم فلهم إحدى الحسنيين عند ربهم.. والناس كلهم يموتون عندما يحين الأجل.. والشهداء وحدهم هم الذين يستشهدون..
16. هناك نقط ارتكاز أصيلة في هذه العقيدة، وفي منهجها الواقعي، وفي خط سيرها المرسوم، وفي طبيعة هذا الخط وحتمياته الفطرية، التي لا علاقة لها بتغير الظروف، وهذه النقط لا يجوز أن تتميع في حس المؤمنين ـ تحت أي ظرف من الظروف، ومن هذه النقط.. الجهاد.. الذي يتحدث عنه الله سبحانه هذا الحديث.. الجهاد في سبيل الله وحده، وتحت رايته وحدها.. وهذا هو الجهاد الذي يسمى من يقتلون فيه (شهداء) ويتلقاهم الملأ الأعلى بالتكريم.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/740.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إذ ذكر القتل والقتال، فقد استدعى ذلك ذكر الجهاد في سبيل الله، إذ كان أكثر ما يكون القتل وإراقة الدماء في هذا الوطن، حيث يصطدم الحق بالباطل، ويلتقى المسلمون والكافرون بسيوفهم! والجهاد أكرم الطرق إلى الله، وأوسعها إلى مرضاته ورحماته.. ومنازل المسلمين تختلف باختلاف حظوظهم من البذل والتضحية في هذا الموطن.. موطن الجهاد في سبيل الله.. فهناك مجاهدون بأموالهم وأنفسهم، وهناك قاعدون لم يجاهدوا بأموالهم أو أنفسهم.. وهناك ـ بين هؤلاء وأولئك ـ مؤمنون لهم أعذار تحول بينهم وبين الجهاد بالمال أو بالنفس.. بأن كانوا فقراء، أو كانوا ذوى عاهات، تحجزهم عن حمل السيف، ولقاء العدو..
2. في قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ بيان لما بين المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وبين الذين لم يجاهدون بأموالهم وأنفسهم من ذوى الأعذار ـ من تفاوت في الفضل والمنزلة عند الله..
3. فهؤلاء الذين أعطاهم الله المال، وعافاهم في أنفسهم، فلم يفقدوا جارحة من جوارحهم العاملة، ولم يصابوا بمرض مقعد ـ هؤلاء إذا أدوا حقّ الله في هذه النعم التي أنعم بها عليهم في المال وفي النفس، فبذلوا المال في سبيل الله، وقدموا أنفسهم للاستشهاد في سبيل الله ـ فقد استحقوا جزاء المحسنين، واستوفوه كاملا! أما هؤلاء الذين لم يكن لهم مال ينفقونه في سبيل الله، أو قدرة بدنية على الجهاد بأنفسهم في سبيل الله، فهم ـ وإن كانوا ولا لوم عليهم، ولا مؤاخذة ـ لم يكسبوا ما كسبه المجاهدون بأموالهم وأنفسهم، وبهذا سبقهم هؤلاء المجاهدون بأموالهم وأنفسهم، في ميدان الفضل والإحسان، وكانوا أعلى درجة عند الله منهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾، فهؤلاء، وأولئك، قد وعدهم الله الحسنى، وإن كان المجاهدون بأموالهم وأنفسهم أعلى درجة منهم في مقام الإحسان، الذي هو حظ مقسوم بين المسلمين الذين آمنوا بالله، وأدوا لله ما أمرهم به، جهد طاقتهم، وما وسعت أنفسهم.
4. أما الذين آمنوا، ولم يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبين أيديهم المال، ومعهم الصحة والعافية، ولكنهم آثروا السلامة والدّعة، وبخلوا بما آتاهم الله من فضله ـ هؤلاء قد بخسوا دينهم حقّه، ونزلوا عن درجات المؤمنين، على حين ارتفع المجاهدون بأموالهم وأنفسهم درجات.. وبهذا كان البون بين الفريقين شاسعا، والمدى بعيدا.. وهذا ما تضمنه قوله سبحانه: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.. فهذا الأجر العظيم الذي فضّل الله به المجاهدين على القاعدين، هو درجات كثيرة في مقام الإحسان، ومغفرة من الله ورحمة، تشتمل هؤلاء المجاهدين، وتبدل سيئاتهم حسنات: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ﴾
5. لنا مع هذه الآية الكريمة وقفة لا بد منها(2):
أ. فقد أجمع المفسّرون، والفقهاء، وأصحاب الحديث، على أن متنزّل هذه الآية الكريمة، لم يكن على هذه الصورة، أوّل ما نزلت..! يقولون: إن الآية نزلت أولا هكذا: (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)، والذي يتلو الآية الكريمة على هذا الوجه، يجد أنّ بين أولها وآخرها تناقضا لا يمكن رفعه بأى تأويل.. ففي أولها: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ﴾ درجة.. وفي آخرها: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾، فكيف يستقيم هذا مع ذاك؟ وكيف يكون فضل المجاهدين على القاعدين درجة، ثم يكون فضل المجاهدين على القاعدين درجات ومغفرة ورحمة..؟ كيف يقع حكمان مختلفان على أمر واحد، في حال واحدة؟ فإذا تليت الآية الكريمة على ما هى عليه.. هكذا: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ ـ إذا تليت الآية على ما هى عليه، كان لها هذا المفهوم الواضح الذي فهمناها عليه، وكان الحكمان المختلفان واقعين على فريقين من المتخلّفين عن الجهاد: الفريق الأول الذي تخلّف بعذر، ولم ينفق لعذر، والفريق الآخر الذي تخلّف عن الجهاد لا لعذر، ولم ينفق في سبيل الله لا لضيق ذات يد.. بل إيثارا للسلامة، وبخلا بالمال، وضنّا به في هذا الوجه الكريم.. فقوله تعالى: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ ركن متين من أركان هذا البناء العظيم الذي للآية الكريمة، وأن هذا البناء لا يقوم أبدا بغير هذا الركن..
ب. وتسأل: لم جاءت الآية الكريمة أولا دون ذكر لقوله تعالى: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ ملحقا بالآية، آخذا مكانه بين نظمها الذي قامت عليه أول أمرها؟ لم هذا؟ بل كيف هذا؟ والجواب الذي يقدمه المفسرون، والفقهاء والمحدّثون.. هو: أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، حين تلقى الآية الكريمة، دعا من كتّاب الوحى من يكتبها، وكان عبد الله بن أم مكتوم ـ وهو أعمى ـ ممن حضر مجلس رسول الله، هذا، فسأل رسول الله عن موقفه هو وأمثاله ممن لا سبيل لهم إلى الجهاد في سبيل الله! قالوا: فما إن سأل عبد الله بن أم مكتوم هذا السؤال، حتى أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يأخذه من الوحى، فلما سرّى عنه، قال لكاتب وحيه: اكتب: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾،: فكتبها كاتب الوحى، في موضعها من الآية، كما تلقّاها الرسول الكريم وحيا من ربّه! إنها قصة.. تنقصها الحبكة..! ولو استقام للآية وجه على هذا النظم الذي خلا من قوله تعالى: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ كان من المستساغ ـ مع شىء غير قليل من الضيق والحرج ـ قبول هذه الرواية، أو الروايات..
ج. أما ولا يستقيم للآية الكريمة مفهوم بغير قوله تعالى: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ فإنه لا حرج من رفض هذه الرواية أو الروايات رفضا باتا، دون التفات إلى تلك الروايات في جملتها وتفصيلها.. إذ كانت قداسة القرآن الكريم فوق كل اعتبار، وفوق كل مقام! ولعلّ اهتمام القوم بالبحث عن أسباب النزول، والتعرّف عليها، واعتبارها علما من علوم القرآن ـ لعل ذلك هو الذي فتح الطريق إلى مثل هذا القول في الآية الكريمة.. والله أعلم.
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/873.
(2) تقسيم الفروع هنا ليس منهجيا، وإنما من باب التبسيط فقط
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لمّا لام الله بعض المجاهدين على ما صدر منهم من التعمّق في الغاية من الجهاد، عقّب ذلك ببيان فضل المجاهدين كيلا يكون ذلك اللوم موهما انحطاط فضيلتهم في بعض أحوالهم، على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة دفعا لليأس من الرحمة عن أنفس المسلمين.
2. يقول العرب (لا يستوي وليس سواء) بمعنى أنّ أحد المذكورين أفضل من الآخر، ويعتمدون في ذلك على القرينة الدالّة على تعيين المفضّل لأنّ من شأنه أن يكون أفضل، قال السموأل أو غيره: (فليس سواء عالم وجهول) وقال تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ [آل عمران: 113]، وقد يتبعونه بما يصرّح بوجه نفي السوائية: إمّا لخفائه كقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ [الحديد: 10]، وقد يكون التصريح لمجرّد التأكيد كقوله: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر: 20]، وإذ قد كان وجه التفاضل معلوما في أكثر مواقع أمثال هذا التركيب، صار في الغالب أمثال هذا التركيب مستعملة في معنى الكناية، وهو التعريض بالمفضول في تفريطه وزهده فيما هو خير مع المكنة منه، وكذلك هو هنا لظهور أنّ القاعد عن الجهاد لا يساوي المجاهد في فضيلة نصرة الدين، ولا في ثوابه على ذلك، فتعيّن التعريض بالقاعدين وتشنيع حالهم، وبهذا يظهر موقع الاستثناء بقوله: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ كيلا يحسب أصحاب الضرر أنهم مقصودون بالتحريض فيخرجوا مع المسلمين، فيكلّفوهم مئونة نقلهم وحفظهم بلا جدوى، أو يظنّوا أنّهم مقصودون بالتعريض فتنكسر لذلك نفوسهم، زيادة على انكسارها بعجزهم، ولأنّ في استثنائهم إنصافا لهم وعذرا بأنّهم لو كانوا قادرين لما قعدوا، فذلك الظنّ بالمؤمن، ولو كان المقصود صريح المعنى لما كان للاستثناء موقع، فاحفظوا هذا فالاستثناء مقصود، وله موقع من البلاغة لا يضاع، ولو لم يذكر الاستثناء لكان تجاوز التعريض أصحاب الضرر معلومات في سياق الكلام فالاستثناء عدول عن الاعتماد على القرينة إلى التصريح باللفظ، ويدلّ لهذا ما في (الصحيحين)، عن زيد بن ثابت، أنّه قال نزل الوحي على رسول الله وأنا إلى جنبه ثم سريّ عنه فقال: اكتب، فكتبت في كتف (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم)، وخلف النبي ابن أمّ مكتوم فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، فنزلت مكانها ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية، فابن أمّ مكتوم فهم المقصود من نفي الاستواء فظنّ أنّ التعريض يشمله وأمثاله، فإنّه من القاعدين، ولأجل هذا الظنّ عدل عن حراسة المقام إلى صراحة الكلام، وهما حالان متساويان في عرف البلغاء، هما حال مراعاة خطاب الذكي وخطاب الغبي، فلذلك لم تكن زيادة الاستثناء مفيتة مقتضى حال من البلاغة، ولكنها معوّضته بنظيره لأنّ السامعين أصناف كثيرة.
3. الضرر: المرض والعاهة من عمّى أو عرج أو زمانة، لأنّ هذه الصيغة لمصادر الأدواء ونحوها، وأشهر استعماله في العمى، ولذلك يقال للأعمى: ضرير، ولا يقال ذلك للأعرج والزمن، وأحسب أنّ المراد في هذه الآية خصوص العمى وأنّ غيره مقيس عليه، والضرر مصدر ضرر ـ بكسر الراء ـ مثل مرض، وهذه الزنة تجيء في العاهات ونحوها، مثل عمي وعرج وحصر، ومصدرها مفتوح العين مثل العرج، ولأجل خفّته ـ بفتح العين ـ امتنع إدغام المثلين فيه، فقيل: ضرر بالفكّ، وبخلاف الضرّ الذي هو مصدر ضرّه فهو واجب الإدغام إذ لا موجب للفكّ، ولا نعرف في كلام العرب إطلاق الضرر على غير العاهات الضارّة؛ وأمّا ما روي من حديث (لا ضرر ولا ضرار) فهو نادر أو جرى على الاتباع والمزاوجة لاقترانه بلفظ ضرار وهو مفكّك، وزعم الجوهري أنّ ضرر اسم مصدر الضرّ، وفيه نظر؛ ولم يحفظ عن غيره ولا شاهد عليه.
4. ﴿بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ لأنّ الجهاد يقتضي الأمرين: بذل النفس وبذل المال، إلّا أنّ الجهاد على الحقيقة هو بذل النفس في سبيل الله ولو لم يتفق شيئا، بل ولو كان كلّا على المؤمنين، كما أنّ من بذل المال لإعانة الغزاة، ولم يجاهد بنفسه، لا يسمّى مجاهدا وإن كان له أجر عظيم، وكذلك من حبسه العذر وكان يتمنّى زوال عذره واللحاق بالمجاهدين، له فضل عظيم، ولكن فضل الجهاد بالفعل لا يساويه فضل الآخرين.
5. جملة: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ﴾ بيان لجملة: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وحقيقة الدرجة أنّها جزء من مكان يكون أعلى من جزء أخر متّصل به، بحيث تتخطّى القدم إليه بارتقاء من المكان الذي كانت عليه بصعود، وذلك مثل درجة العليّة ودرجة السلّم، والدرجة هنا مستعارة للعلوّ المعنوي كما في قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228] والعلوّ المراد هنا علوّ الفضل ووفرة الأجر.
6. جيء بـ (درجة) بصيغة الإفراد، وليس إفرادها للوحدة، لأنّ درجة هنا جنس معنوي لا أفراد له، ولذلك أعيد التعبير عنها في الجملة التي جاءت بعدها تأكيدا لها بصيغة الجمع بقوله: ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾ لأنّ الجمع أقوى من المفرد، وتنوين ﴿دَرَجَةً﴾ للتعظيم، وهو يساوي مفاد الجمع في قوله الآتي ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾، وانتصب ﴿دَرَجَةً﴾ بالنيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع في فعل ﴿فَضْلِ﴾ إذ الدرجة هنا زيادة في معنى الفضل، فالتقدير: فضل الله المجاهدين فضلا هو درجة، أي درجة فضلا.
7. جملة ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ معترضة، وتنوين (كلا) تنوين عوض عن مضاف إليه، والتقدير: وكلّ المجاهدين والقاعدين، وعطف ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ على جملة ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ﴾، وإن كان معنى الجملتين واحدا باعتبار ما في الجملة الثانية من زيادة ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ فبذلك غايرت الجملة المعطوفة الجملة المعطوف عليها مغايرة سوّغت العطف، مع ما في إعادة معظم ألفاظها من توكيد لها.
8. المراد بقوله: ﴿الْمُجَاهِدِينَ﴾ المجاهدون بأموالهم وأنفسهم فاستغني عن ذكر القيد بما تقدّم من ذكره في نظيره السابق، وانتصب ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ على النيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع لأنّ الأجر هو ذلك التفضيل، ووصف بأنّه عظيم، وانتصب درجات على البدل من قوله: ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾، أو على الحال باعتبار وصف درجات بأنّها ﴿مِنْهُ﴾ أي من الله، وجمع ﴿دَرَجَاتٍ﴾ لإفادة تعظيم الدرجة لأنّ الجمع لما فيه من معنى الكثرة تستعار صيغته لمعنى القوّة، ألا ترى أنّ علقمة لمّا أنشد الحارث بن جبلة ملك غسان قوله يستشفع لأخيه شأس بن عبدة:
çوفي كلّ حي قد خبطت بنعمة...فحقّ لشأس من نداك ذنوبé
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/228.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الجهاد، وتخللت هذه الدعوة آيات في وجوب الحذر من المنافقين، وفى بعض العلاقات الدولية، وأحكام الخطأ إذا كان المقتول معصوم الدم، ثم جاء في السياق قتل المؤمن عمدا، وعظم الجرم فيه، وإنزال العقاب الشديد بمن يرتكب ذلك الجرم، وكان هذا بمثابة التمهيد لوجوب الاحتراس من قتل المؤمن إذا استعرت الحرب واشتد أوارها، فكان على المؤمنين إذا ضربوا في الأرض ألا يضعوا السيف في موضع البرء والسقم، وفى هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه وجوب الخروج للجهاد إن وجدت دواعيه، وأن الأجر العظيم للذين يخرجون مجاهدين، وأنه لا يصح أن يقعد مؤمن عن الجهاد، وهو قادر عليه.
2. ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ الجهاد مصدر جاهد مجاهدة وجهادا، وهو بذل أقصى الجهد في مقابلة من يبذلون أقصى الجهد للاعتداء، فهو مبادلة لارتكاب المشاق، وهو في سبيل الله لا يكون إلا لنصرة الحق وتأييده والدفاع عنه، وأكثر ما يطلق في لغة القرآن والحديث وعرف أهل الإسلام، يكون على القتال في سبيل الدين، والجهاد أعم من القتال، وأخص منه، فبينهما عموم وخصوص من وجه كما يقول المناطقة، فهما يجتمعان في القتال للدفاع عن الحق، والقتال قد يكون في البغي على الحق، ولا يكون الجهاد بمقتضى العرف الإسلامى إلا ردا للاعتداء، والجهاد لا يكون بالقتال وحده، بل يكون ببذل المال في تأييد الحق، وبالبيان في الدعوة إليه، ولذلك يقول النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم: (جاهدوا المشركين بأنفسكم، وأموالكم، وألسنتكم)، ومعنى النص الكريم: لا يستوى الذين قعدوا عن الجهاد لإعلاء كلمة الحق، ولم يخرجوا مناصرين له بأنفسهم وأموالهم، مع الذين قعدوا عن ذلك، من غير ضرر ملازم لهم، كمرض مزمن أو عمى أو شلل أو عرج، أو الذين لا يجدون ما ينفقون منه في إعداد العدة، ولا يوجد من يقدم لهم السيف والزاد والراحلة.
3. وقد بين الله سبحانه وتعالى أولى الضرر في آية أخرى، فقال: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة]، ونجد في هذا النص الكريم أن الإخلاص مع الاستعداد وعدم القدرة على التنفيذ، قد يغنى عن الجهاد، أو على الأقل يسقط المؤاخذة، ولذا قال تعالى: ﴿إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أى أخلصوا، وبذلوا في سبيل الله أقصى ما يستطيعون بذله.
4. ونجد في النص الكريم إشارة إلى أن الجهاد بالمال جهاد، وإلى أن القعود نوعان:
أ. أولهما، قعود مادى حسى، بمعنى ألا يخرج من الدار والعدو متأهب لمنازلة أهل الإسلام، أو غزوهم في عقر دارهم، وما غزى قوم في عقر دارهم، إلا ذلوا، كما قال فارس الإسلام على.
ب. والثاني، قعود عن البذل والإنفاق في سبيل الحرب، وهذا قعود عن الجهاد بالمال، وهو لا يقل خطرا عن القعود والعدو قد أخذ الأهبة، ولذلك عد القرآن الكريم البخل في هذه الحال مؤديا إلى التهلكة، ولذلك قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة]
5. لا شك أن أكمل الجهاد ما كان بالمال والنفس، كما هو الشأن في جهاد كثير من الصحابة، كأبى بكر وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من كبار الصحابة الذين كان لهم مال بذلوه، وكان لهم بلاء في ميدان القتال، فقاتلوا في سبيل الله بأنفسهم.
6. والآية تشير إلى وجوب إعداد الشباب في الأمة للجهاد، بأن يتربوا منذ طفولتهم على أساليب الحرب والنزال، فإنه لا يسوغ استنفار طائفة إن حملت السلاح لا تستطيع الضرب، ولذلك وردت الآثار بتعليم الشباب الرماية، والدربة على القتال، ويعد ذلك ضروريا من ضروريات التعليم الدينى، وإذا كان الإسلام قد منع العكوف في الصوامع للعبادة وحدها، فقد أمر الأمة كلها بالجهاد في سبيله، أو الاستعداد له، وقد قال النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رهبانية أمتى الجهاد في سبيل الله)
7. وإذا كانت المساواة بين القاعد والمجاهد غير سائغة في حكم العقل والشرع، فالفضل في الدرجة للمجاهدين؛ ولذا قال سبحانه: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ وإذا كان التساوى بين المجاهدين والقاعدين من غير ضرر يمنعهم غير مستساغ، فإن الله تعالى فضل المجاهدين بالمال والنفس على القاعدين ذوى الضرر، وجعلهم في درجة أعلى من القاعدين لعذر، والمراد بالدرجة أن يكون لهم فضل أعظم، ومكانتهم عند الله أكرم من ذوى الأعذار؛ وذلك لأن جهاد هؤلاء عملى إيجابى، وموقف ذوى الأضرار سلبى، وهم يعرضون أنفسهم للتلف، وأولئك لم يتعرضوا له، ويقدمون النفيس من المال، وأولئك لم يقدموه، ومع ذلك فإن الله تعالى وعد كلا من الفريقين الحسنى، أى العاقبة الحسنة، حيث لا يكون ثمة عقاب يوم القيامة، بل يكون النعيم المقيم لهما معا، والله تعالى يثيب المرء بمقدار نيته، وقد قال النبى ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: (إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم، أولئك قوم حبسهم العذر)، وقد كان النبى يقيم عبد الله ابن أم مكتوم على المدينة، وهو أعمى، لكى ينتفع بكل القوى، وليكون لذوى الأعذار فضل العمل.
8. وإن تفضيل الدرجة على القاعدين ذوى الضرر لكى يسير القادر ولو نسبيا، فلا يقعد لضرر وهمى، أو عذر غير قهرى، فكثير من الناس يتوهمون أعذارا، حيث لا عذر.
9. هذا فضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين ذوى الضرر، وقد رحم الله الضعفاء، فجعل لهم الحسنى كالمجاهدين، وإن كانوا دونهم فضلا، أما الذين قعدوا من غير عذر، فقد بين سبحانه فضل المجاهدين عليهم بأنه درجات، فقال سبحانه: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، كان التفضيل الأول بالدرجة الواحدة، وذلك النص في تفضيل الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير ضرر، فالمجاهدون بأموالهم وأنفسهم مفضلون عليهم بأجر عظيم، وأنى يكون من قعد بين أهله آمنا في سربه، كمن ارتكب المشقة وترك الأهل والولد!
10. نجد النص الكريم لم يذكر الذين قعدوا بمذمة صريحة، وفى هذا إشارة إلى أن الغزو والخروج للجهاد فرض كفاية، وليس فرض عين، وذلك إذا لم يكن المسلمون في حاجة إلى كل القادرين، ومهما يكن، فالخارجون للجهاد لهم الفضل الأعظم، وقد بين سبحانه عظيم الأجر بأنه يرفع المجاهد درجات عند الله تعالى، فقال سبحانه مبينا ذلك: ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ هذا بيان للأجر العظيم الذى يعلو به المجاهد بنفسه وماله عن القاعد كسلا أو تراخيا، أو لأنه سبقه غيره إلى الجهاد، وهذا الأجر مكون من عناصر ثلاثة:
أ. أولها: أن الله تعالى يرفعه درجات، ويقربه إليه سبحانه منازل يوم القيامة، فيكون في مرتبة الصديقين والأنبياء والصالحين؛ إذ إن الشهداء الذين أخلصوا النية في جهادهم، والمجاهدين الذين تعرضوا لشرف الاستشهاد لهم المنازل العليا، والمقامات الكبرى، ونكرت الدرجات لبيان أنها لا يحدها الحصر، ولا يعينها المقدار، بل هى شرف عظيم لا يناله إلا المقربون الأبرار.
ب. ثانيها: أن الله تعالى يغفر له ما تقدم من ذنبه، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وأى حسنات أعظم من تقديم النفس والنفيس.
ج. ثالثها: الرحمة تنزل بالمجاهد، فإنه يكون مغمورا برحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة: ففى الدنيا براحة الضمير وأداء الواجب، والإحساس بأنه كان سببا للرحمة بالمؤمنين؛ إذ وقاهم شر العدو، ومنعه من أن يتحكم فيهم، ودفع عنهم الفتنة في دينهم، وجعل الدين خالصا لوجهه الكريم، ومنع الفساد في الأرض.
11. وقد ختم الله تعالى النص بأن الغفران والرحمة وصفان دائمان لذاته العلية، لا ينفصلان عنها، وفى ذلك دعوة لكل من يكسل عن الجهاد لأن يعمل، وللعاصى ليتوب، فإن باب المغفرة مفتوح قد فتحه الغفور، وباب الرحمة متسع قد وسعه الرحيم، اللهم اكتبنا في عبادك التائبين، واغفر لنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1813.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾، من تخلف عن الجهاد لعذر مشروع، كالعمى والعرج، وما اليه فهو معذور، بل ومأجور إذا كان مؤمنا مخلصا يحب النصر للدين، والخير وأهله، ويود في واقعه لو كان معافى ليشارك المجاهدين في جهادهم، فقد جاء في الحديث: (المرء مع من أحب) أي من أحب مجاهدا لا لشيء الا لأنه مجاهد فله أجر المجاهدين، ومن أحب صادقا لصدقه فله منزلته، ومن أحب ظالما لظلمه فهو شريكه، ومن أحب كافرا لكفره فهو مثله، هذا حكم القاعدين غير الأصحاء.
1. أما الأصحاء منهم فينظر: فإن قعدوا عن الجهاد الذي وجب عليهم وعلى غيرهم، كما في النفير العام فإنهم غير معذورين، بل ملومين مستحقين للعقاب، لأنهم تمردوا وعصوا، وعليه فلا تصح المفاضلة بينهم وبين المجاهدين بحال، لأن المفاضلة مفاعلة، وهي تقتضي المشاركة، وهؤلاء لا يشاركون المجاهدين في شيء.. وان كان الجهاد فرض كفاية يحصل الغرض منه بفعل البعض، ولا حاجة إلى الكل يكون القاعدون عنه معذورين، مع قيام غيرهم بهذا الواجب، ولكن المجاهدين أفضل من القاعدين، على الرغم من وجود عذرهم المشروع، لأنهم آثروا الكسل على العمل، والاعتزال على النضال.
2. هؤلاء القاعدون هم المقصودون بقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾، وعلى هذا يكون المعنى لا يستوي عند الله القاعدون الأصحاء والمجاهدون الذين لم يجب عليهم الجهاد بالخصوص، بل وجب عليهم وعلى غيرهم كفاية، ولكن هم الذين تصدوا لهذا الواجب، وأدوه على أكمله، وأسقطوه عن الباقين، وهذا المعنى هو الذي أراده الله، وأوضحه بقوله:
3. ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾، بعد أن نفى التسوية بينهم وبين القاعدين بيّن ما امتاز به المجاهدون، وهو تفضيلهم على القاعدين بدرجة، فيكون قوله هذا تفصيلا بعد إجمال، وسر التفضيل ما أشرنا اليه من تحملهم مسؤولية الدفاع منفردين، تماما كما لو هاجم العدو بلدا، فصده عنه فريق دون فريق من أهله، فيمتاز الفريق الأول على الثاني بالبداهة، وان كان الثاني غير مؤاخذ بعد أن قام الأول بالواجب، وحقق الغرض المطلوب، ولذا قال تعالى: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾، ولكنه أعاد مؤكدا ومرغبا في الجهاد بقوله: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وبيّن هذا الأجر العظيم بأنه ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾، ودرجة واحدة عند الله خير من الكون بما فيه، فكيف الدرجات! أما رحمته فلا شيء خير منها الا من هي منه.. وكفى بمغفرته أمانا من عذابه وسخطه.. هذه هي المغفرة والرحمة والدرجة عند الله، من نال واحدة فهو في عليين، فكيف بمن نالها مجتمعة!؟
4. اللهم اني أسألك يسيرا من رحمتك ومغفرتك، وأنت تعلم ان بي فاقة اليه.. وما ذا يكون لو مننت وجبرت مسكنتي!؟ أتخشى نفاد مغفرتك، وكنوز رحمتك؟، أم ماذا يا مولاي!؟ ألا إني مذنب.. أجل، ولكن ألا تعلم بأني أعلم ان لا ملجأ لي منك إلا اليك، وانه يسرني أن تعفو عني وتصفح.. اللهم إن كنت كاذبا فيما قلت فعاملني بما أنا أهله، وان كنت صادقا فيه فعاملني بما أنت أهله.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/413.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَنْفُسِهِمْ﴾ الضرر هو النقصان في الوجود المانع من القيام بأمر الجهاد والقتال كالعمى والعرج والمرض، والمراد بالجهاد بالأموال إنفاقها في سبيل الله للظفر على أعداء الدين، وبالأنفس القتال.
2. ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ يدل على أن المراد بهؤلاء القاعدين هم التاركون للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة إلى خروجهم لخروج غيرهم على حد الكفاية فالكلام مسوق لترغيب الناس وتحريضهم على القيام بأمر الجهاد والتسابق فيه والمسارعة إليه، ومن الدليل على ذلك أن الله سبحانه استثنى أولي الضرر ثم حكم بعدم الاستواء مع أن أولي الضرر كالقاعدين في عدم مساواتهم المجاهدين في سبيل الله وإن قلنا: إن الله سبحانه يتدارك ضررهم بنياتهم الصالحة فلا شك أن الجهاد والشهادة أو الغلبة على عدو الله من الفضائل التي فضل بها المجاهدون في سبيل الله على غيرهم، وبالجملة ففي الكلام تحضيض للمؤمنين وتهييج لهم، وإيقاظ لروح إيمانهم لاستباق الخير والفضيلة.
3. ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ الجملة في مقام التعليل لقوله: ﴿لَا يَسْتَوِي﴾ ولذا لم توصل بعطف ونحوه، والدرجة هي المنزلة، والدرجات المنزلة بعد المنزلة.
4. ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ أي وعد الله كلا من القاعدين والمجاهدين، أو كلا من القاعدين غير أولي الضرر والقاعدين أولي الضرر والمجاهدين الحسنى، والحسنى وصف محذوف الموصوف أي العاقبة الحسنى أو المثوبة الحسنى أو ما يشابه ذلك، والجملة مسوقة لدفع الدخل فإن القاعد من المؤمنين ربما أمكنه أن يتوهم من قوله: ﴿لَا يَسْتَوِي﴾ إلى قوله: ﴿دَرَجَةً﴾ إنه صفر الكف لا فائدة تعود إليه من إيمانه وسائر أعماله فدفع ذلك بقوله: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾
5. ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ هذا التفضيل بمنزلة البيان والشرح لإجمال التفضيل المذكور أولا، ويفيد مع ذلك فائدة أخرى، وهي الإشارة إلى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يقنعوا بالوعد الحسن الذي يتضمنه قوله: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ فيتكاسلوا في الجهاد في سبيل الله والواجب من السعي في إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل فإن فضل المجاهدين على القاعدين بما لا يستهان به من درجات المغفرة والرحمة.
6. أمر الآية في سياقها عجيب:
أ. أما أولا: فلأنها قيدت المجاهدين (أولا) بقوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ و(ثانيا) بقوله: ﴿بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ و(ثالثا) أوردته من غير تقييد، وأما ثانيا: فلأنها ذكرت في التفضيل (أولا) أنها درجة، و(ثانيا) أنها درجات منه، أما الأول فلأن الكلام في الآية مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود، والفضل إنما هو للجهاد إذا كان في سبيل الله لا في سبيل هوى النفس، وبالسماحة والجود بأعز الأشياء عند الإنسان وهو المال، وبما هو أعز منه، وهو النفس، ولذلك قيل أولا: ﴿وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ ليتبين بذلك الأمر كل التبين، ويرتفع به اللبس، ثم لما قيل ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ لم تكن حاجة إلى ذكر القيود من هذه الجهة لأن اللبس قد ارتفع بما تقدمه من البيان غير أن الجملة لما قارنت قوله: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ مست حاجة الكلام إلى بيان سبب الفضل، وهو إنفاق المال وبذل النفس على حبهما فلذا اكتفي بذكرهما قيدا للمجاهدين فقيل: ﴿الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ وأما قوله ثالثا ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ فلم يبق فيه حاجة إلى ذكر القيود أصلا لا جميعها ولا بعضها ولذلك تركت كلا.
ب. وأما الثاني فقوله: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) (دَرَجَةً﴾ منصوب على التمييز، وهو يدل على أن التفضيل من حيث الدرجة والمنزلة من غير أن يعترض أن هذه الدرجة الموجبة للفضيلة واحدة أو أكثر، وقوله: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾ كان لفظة ﴿فَضْلِ﴾ فيه مضمنة معنى الإعطاء أو ما يشابهه، وقوله: ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾ بدل أو عطف بيان لقوله: ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ والمعنى: وأعطى الله المجاهدين أجرا عظيما مفضلا إياهم على القاعدين معطيا أو مثيبا لهم أجرا عظيما وهو الدرجات من الله، فالكلام يبين بأوله أن فضل المجاهدين على القاعدين بالمنزلة من الله مع السكوت عن بيان أن هذه المنزلة واحدة أو كثيرة، ويبين بآخره أن هذه المنزلة ليست منزلة واحدة بل منازل ودرجات كثيرة، وهي الأجر العظيم الذي يثاب به المجاهدون.
7. لعل ما ذكرنا يدفع به ما استشكلوه من إيهام التناقض في قوله أولا ﴿دَرَجَةً﴾ وثانيا ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾ وقد ذكر المفسرون للتخلص من الإشكال وجوها لا يخلو جلها أو كلها من تكلف:
أ. منها: أن المراد بالتفضيل في صدر الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين أولي الضرر بدرجة وفي ذيل الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين غير أولي الضرر بدرجات.
ب. ومنها: أن المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة الدنيوية كالغنيمة وحسن الذكر ونحوهما وبالدرجات في آخر الآية المنازل الأخروية وهي أكثر بالنسبة إلى الدنيا، قال تعالى: ﴿وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ﴾ [الإسراء: 21]
ج. ومنها: أن المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة عند الله، وهي أمر معنوي، وبالدرجات في ذيل الآية منازل الجنة ودرجاتها الرفيعة وهي حسية، وأنت خبير بأن هذه الأقوال لا دليل عليها من جهة اللفظ.
8. الضمير في قوله: ﴿مِنْهُ﴾ لعله راجع إلى الله سبحانه، ويؤيده قوله: ﴿وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ بناء على كونه بيانا للدرجات، والمغفرة والرحمة من الله، ويمكن رجوع الضمير إلى الأجر المذكور قبلا.
9. وقوله: ﴿وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ ظاهره كونه بيانا للدرجات فإن الدرجات وهي المنازل من الله سبحانه أيا ما كانت فهي مصداق المغفرة والرحمة، وقد علمت في بعض المباحث السابقة أن الرحمة ـ وهي الإفاضة الإلهية للنعمة ـ تتوقف على إزالة الحاجب ورفع المانع من التلبس بها، وهي المغفرة، ولازمه أن كل مرتبة من مراتب النعم، وكل درجة ومنزلة رفيعة مغفرة بالنسبة إلى المرتبة التي بعدها، والدرجة التي فوقها، فصح بذلك أن الدرجات الأخروية كائنة ما كانت مغفرة ورحمة من الله سبحانه، وغالب ما تذكر الرحمة وما يشابهها في القرآن تذكر معها المغفرة كقوله: ﴿مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 9]، وقوله: ﴿وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 4]، وقوله: ﴿مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [هود: 11]، وقوله: ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ [الحديد: 20]، وقوله: ﴿وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا﴾ [البقرة: 286] إلى غير ذلك من الآيات.
10. ثم ختم الآية بقوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ومناسبة الاسمين مع مضمون الآية ظاهرة لا سيما بعد قوله في ذيلها ﴿وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/46.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ رجع الكلام إلى الحث على الجهاد، والقاعدون: هم الذين تركوا الجهاد، وسموا قاعدين باعتبار أنهم لم ينفروا بل بقوا في بلدهم وقعدوا عن الجهاد، والقاعد: هو الجالس ليس بقائم ولا مضطجع، فذكرت حالتهم الغالبة في وقت النفر وهي القعود؛ ولعله قد صار عبارة عن البقاء في البلد وترك النفر من غير نظر إلى حالة جلوس أو غيرها.
2. ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ وهم: أهل المرض، والعمى، والعرج، يفهم منه أن من أقعده عن الجهاد الضرر، ولولا الضرر لجاهد، فإنه قد يكون بمنزلة المجاهد.
3. قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي﴾ تقديم لتفسيره بقوله تعالى: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ﴿دَرَجَةً﴾ لأنهم اشتركوا في الإيمان، واختص المجاهدون بفضيلة الجهاد، وذلك في مثل (يوم بدر) حين كان المتخلفون لم يؤمروا بالنفر من المدينة، فأما المتخلفون العصاة المتمردون فليس لهم فضل، وليسوا من المؤمنين؛ لأن شأن المؤمنين أن يجاهدوا في سبيل الله، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات:15]
4. في قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ دلالة على أن المؤمنين القاعدين لهم ثواب الإيمان، و﴿الْحُسْنَى﴾ صفة لموصوف محذوف، فإن كان التقدير: المثوبة الحسنى أو العاقبة الحسنى فهي ثواب الآخرة، وإن كان التقدير: العدة الحسنى فهي وعد الله للمؤمنين في كتابه وعلى لسان رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد قيل: إنها تدل على أن الجهاد فرض كفاية، وفي دلالتها نظر؛ لأنه قد يسقط عن المؤمن لا لأن الجهاد فرض كفاية، بل لحالة عارضة كما في بدر، وكما إذا تخلف لأجل الوالدين العاجزين المضطرين إليه، وكمن لا يجد ما يحمله للسفر وينفق على نفسه ونحو ذلك، والأولى أن الجهاد واجب على كل مؤمن، وإنما يسقط لأعذار في حال الأعذار، والدليل (آية الحجرات) المذكورة، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية [التوبة:111]، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقوله تعالى:﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ [التوبة:123] وغيرها فهذه أوامر عامة لكل مؤمن.
5. ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ لعلهم القاعدون لغير عذر فهم غير مؤمنين، ففضل الله المجاهدين بالجنة وما فيها من الأجر العظيم الذي هو ﴿دَرَجَاتٍ﴾ لأهلها من الله على قدر أعمالهم، وفضل المجاهدين على هؤلاء ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ لذنوبهم ﴿وَرَحْمَةً﴾ بصرف العذاب عنهم، كما قال تعالى: ﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ [الأنعام:16] فلا يناله ضر أبداً ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ لمن آمن وجاهد ولمن أطاعه واتقاه وتاب إليه، فالتفضيل هنا كقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [فصلت:40] وكثيراً يأتي التفضيل بدون مشاركة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/148.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جاء في مجتمع البيان، نزلت الآية في كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن ربيع من بني عمرو بن عوف وهلال بن أمية من بني واقف، تخلّفوا عن رسول الله يوم تبوك، وعذر الله أولي الضرر وهو عبد الله بن أم مكتوم، رواه أبو حمزة الثمالي في تفسيره، وقال زيد بن ثابت: كنت عند النبي حين نزلت عليه: (﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والمجاهدون)، ولم يذكر أولي الضرر، فقال ابن أم مكتوم: فكيف، وأنا أعمى لا أبصر، فتغشى النبي الوحي، ثم سري عنه فقال: اكتب ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾، ونلاحظ على الفقرة الأخيرة ـ في سؤال ابن أم مكتوم وجواب النبي له ـ أن من البعيد جدا أن تنزل الآية مجردة عن قوله ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ لتجتذب سؤال ابن أمّ مكتوم، ليكون رد فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إضافة الكلمة، كما لو كانت الكلمة منه بما توحي به الرواية، لا سيما إذا لا حظنا أن الآية واحدة في مضمونها.
2. لا فضل في الإسلام لأحد على أحد إلا بالعمل في نطاق المسؤولية، وأيّ عمل أفضل من الجهاد في سبيل اللَّه، وقد جاءت هاتان الآيتان لتؤكدا على هذه الحقيقة الإسلامية بشيء من التفصيل؛ ففي حالات التحدي التي يواجهها المسلمون في معركتهم ضد الكفر والشرك والطغيان، قد يقعد بعض الناس بسبب بعض الحالات المرضية التي قد تمنعهم عن القتال؛ وهؤلاء معذورون لا ينقض من أجرهم شيء، لأن الله لم يجعل على المؤمنين من حرج في ما يكلفهم به، وقد يقعد البعض بسبب خوف أو حالة كسل أو استرخاء أو حبّ للدعة والراحة، في الوقت الذي لم تصل فيه الدعوة إلى الجهاد إلى مستوى النفير العام، بل كانت واجبا كفائيا يقوم بمن تسدّ بهم الحاجة، وهؤلاء مأجورون في ما يقومون به من أعمال صالحة على المستوى الفردي والجماعي، ولكنهم يخسرون الكثير الكثير من فرص الثواب الكبير الذي يحصل عليه المجاهدون في الجهاد، الذين رفع الله منزلتهم عن المسلمين القاعدين، وأعطاهم من مغفرته ورحمته الدرجات الرفيعة والأجر العظيم.
3. وقد تحدثت الآية عن المجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللَّه، وعن تفضيلهم على القاعدين بطريقة مؤكدة، وذلك ما يوحي به أسلوب التكرار، فبدأت بقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ لتقرر التفضيل من جانبه السلبي من حيث عدم المساواة بين هذا الفريق وذاك، ثم أوضحت الموضوع بخصوصيته الإيجابية.
4. ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ والظاهر أن المراد من الدرجة ليس الوحدة في الأرقام الحسابية، بل المبدأ من حيث النوع، وذلك ما يوحيه وقوع الكلمة بعد فقرة عدم الاستواء، لبيان أن هذا الفريق أعلى درجة من الفرق الأخرى، فلا يتنافى مع الفقرة المذكورة في الآية التالية.
5. ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾؛ ثم قررت الآية أن القعود لا يمثل خطيئة في ذاته، عند ما لا يكون هناك إلزام بالجهاد ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾؛ فلكل من القاعدين والمجاهدين أجره بحسب عمله.
6. ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ فليست الحسنى التي وعد الله بها المجاهدين، هي نفسها التي وعد الله بها القاعدين، لأن للجهاد مرتبة كبيرة عند اللَّه، مما يجعل أجره في مستوى عظيم لا يرقى إليه أجر أيّ إنسان آخر.
7. ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، فإن الصعوبات التي تواجه المجاهدين، والمتاعب التي يتحملونها، ترفعهم عند اللَّه ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾، لأن علوّ الدرجة يتبع صعوبة المعاناة وروعة التضحية ﴿وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾.. فإن الله يغفر لمن آمن وعمل صالحا، وأيّ عمل صالح أعظم من بذل النفس والمال في سبيل اللَّه، ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، [الأعراف: 56]، وأيّ إحسان أعظم من الذين يضحّون في سبيل الإسلام والمسلمين.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/411
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تناولت الآيات السابقة الحديث عن الجهاد، والآيتان الأخيرتان تبيّنان التمايز بين المجاهدين وغيرهم من القاعدين، فتؤكد عدم التساوي بين من يبذل المال والنفس رخيصين في سبيل الهدف الإلهي السامي، وبين من يقعده عن هذا البذل سبب آخر غير المرض الذي يحول دونه ودون المشاركة في الجهاد، ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾
2. واضح من هذه الآية أنّ المقصود بالقاعدين فيها هم أولئك المؤمنون بالإسلام الذين لم يشاركوا في الجهاد في سبيله بسبب افتقارهم إلى العزم الكافي لذلك، وتبيّن هنا ـ أيضا ـ أنّ الجهاد المقصود لم يكن واجبا عينيا، فلو كان واجبا عينيا لما تحدث القرآن عن هؤلاء التاركين للجهاد بمثل هذه اللهجة المرنة ولم يكن ليوعدهم بالثواب.
3. وعلى هذا الأساس فإنّ فضل المجاهدين على القاعدين لا يمكن إنكاره حتى لو كان الجهاد ليس واجبا عينيا، ولا تشمل الآية بأي حال من الأحوال أولئك الذين أحجموا عن المشاركة في الجهاد نفاقا، وعدوانا ويجب الانتباه ـ أيضا ـ إلى أنّ عبارة ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ لها مفهوم واسع يشمل كل أولئك الذين يعانون من نقص العضو أو المرض أو الضعف الشديد، مما يحرمهم من المشاركة في الجهاد، فهؤلاء مستثنون من ذلك.
4. وتكرر الآية من جديد مسألة التفاضل بشكل أوضح وأكثر صراحة، وتؤكد في نهاية المقارنة، أنّ الله وهب المجاهدين أجرا عظيما، ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾
5. لقد وردت عبارة(درجة) في الآية على صيغة النكرة، وتؤكد كتب الأدب بأن النكرة في مثل هذه الحالات تأتي لبيان العظمة والأهميةـ أي أن درجة المجاهدين من السمو والرفعة بحيث لا يمكن للبشر معرفتها بصورة كاملةـ وهذا شبيه بالعبارة التي تطلق لبيان القيمة العظيمة لشيء يجهل قيمته البشر.
6. لما كان في الجانب المقابل لهؤلاء المجاهدين يقف أولئك الذين لم يكن الجهاد بالنسبة لهم واجبا عينيا أو لم يشاركوا في الجهاد بسبب مرض أو عجز أو علة أخرى أعجزتهم عن هذه المشاركة، فذلك ولأجل أن لا يغفل ما لهؤلاء من نيّة صالحة وإيمانه وأعمال صالحة أخرى فقد وعدوا خيرا حيث تقول الآية الكريمة: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ إلّا أنّه من البديهي أن هناك فرقا شاسعا بين الخير الذي وعد به المجاهدون، وبين ذلك الذي يصيب القاعدين من العاجزين عن المشاركة في الجهاد.
7. وتبيّن الآية القرآنية في هذا المجال: أنّ لكل عمل صالح نصيب محفوظ من الثواب لا يغفل ولا ينسى، خاصّة وهي تتحدث عن قاعدين أحبّوا المشاركة في الجهاد وكانوا يرونه ساميا مقدسا، وبما أن عدم كون هذا الجهاد واجبا عينيا قد حال دون تحقق هذا الهدف السامي المقدس فإن أولئك الذين قعدوا عن المشاركة فيه سينالون من الثواب على قدر رغبتهم في المشاركة، أمّا أولئك الذين عجزوا عن المشاركة بسبب عاهة أو مرض إلّا أنّهم كانوا يرغبون في الاشتراك في الجهاد برغبة جامحة، بل كانوا يعشقون الجهاد، لذلك فإنّ لهم ـ أيضا ـ سهم ونصيب لا ينكر من ثواب المجاهدين، كما جاء في حديث مروي عن الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يخاطب فيه جند الإسلام فيقول: (لقد خلفتم في المدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم، وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وهوت أفئدتهم للجهاد وقد منعهم عن المسير ضرر أو غيره)
8. وبما أنّ أهمية الجهاد في الإسلام بالغة جدا، لذلك تتطرق الآية مرّة أخرى للمجاهدين وتؤكد بأن لهم أجرا عظيما يفوق كثيرا أجر القاعدين عن الجهاد عن عجز، ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
9. وتشرح الآية التالية ـ وهي الآية من سورة النساء ـ نوع هذا الأجر العظيم فقول أنّه: ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ فلو أنّ أفرادا من بين المجاهدين تورطوا في زلة أثناء أدائهم لواجبهم فندموا على تلك الزّلة، فقد وعدهم الله بالمغفرة والعفو، حيث يقول في نهاية الآية: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾
10. نكات مهمة حول المجاهدين:
أ. لقد كررت الآية عبارة المجاهدين ثلاث مرات: في المرّة الأولى ذكر المجاهدون مع الهدف والوسيلة الخاصّة بالجهاد: ﴿الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ﴾، وفي الثّانية: ذكر اسم المجاهدين مقرونا بوسيلة الجهاد، ولم يذكر شيء عن الهدف:﴿الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾، وأمّا في المرحلة الأخيرة فقد جاءت الآية باسم المجاهدين فقط، حيث يدل ذلك بوضح على الأسلوب البلاغي الرفيع في الكلام القرآني، حيث يتعرف السامع شيئا فشيئا بواسطته على الموضوع وتخف قيوده وصفاته لديه، وتصل درجة التعرف إلى مرحلة يفهم السامع بها كل شيء من خلال إشارة واحدة.
ب. لقد ذكرت الآية في البداية تفوق المجاهدين على القاعدين بعبارة مفردة وهي (درجة) بينما في الآية التالية جاءت هذه العبارة بصيغة الجمع (درجات) وجلّى أن لا تناقض بين هاتين العبارتين، لأن القصد من العبارة الأولى تبيان تفوق المجاهدين على غيرهم، ولكن العبارة الثانية تشرح هذا التفوق حين تقترن بذكر عبارات (المغفرة) و(الرحمة)، وبعبارة أخرى فإن الفرق بين هاتين العبارتين (درجة) و(درجات) هو الفرق بين المجمل والمفصل، كما يمكن الاستفادة من عبارة (درجات) على أنّها تعني أن المجاهدين ليسوا كلّهم في درجة أو مستوى واحد، بل تختلف درجاتهم باختلاف درجة إخلاصهم وتفانيهم وتحملهم للمشاق، وتختلف بذلك منزلتهم المعنوية، لأنّه من البديهي أن الذين يجاهدون الأعداء في صف واحد ليسوا جميعا بمستوى جهادي واحد، كلها تختلف درجات الإخلاص لدى كل واحد منهم بالقياس إلى أمثالهم، ولذلك فإنّ لكل واحد منهم ثوابا خاصا به يتناسب مع عمله الجهادي ونيّته في هذا العمل.
11. الأهمية بالبالغة للجهاد: إنّ الجهاد قانون عام في عالم الخليقة، فإنّ كل مخلوق سواء كان من النباتات أو الحيوانات يسعى لإزالة ما يعترض طريقه من موانع بواسطة الجهاد، لكي يستطيع كل واحد منهم بلوغ الكمال المطلوب في التكوين، وعلى سبيل المثال فجذر النبات الذي ينشط للحصول على الغذاء والطاقة بصورة دائمة، لو ترك نشاطه، هذا وكف عن السعي لاستحال عليه إدامة حياته، ولذلك فإن هذا الجذر حين يعترض طريقه مانع في عمق الأرض يحال تخطيه بثقبه، والعجيب هنا أنّ الجذور الرقيقة تعمل في مثل هذه الحالة كالمسمار الفولاذي في ثقب الموانع التي تعترضها، فلو عجزت في هذا المجال لحرفت طريقها واجتازت المانع عن طريق الالتفات حوله، وفي داخل وجود الإنسان أيضا وحتى في ساعات النوم هناك صراع غريب ومستمر ما دام الإنسان حيا، وهو الصراع بين كريات الدم البيضاء والأجسام المعادية المهاجمة، فلو أن هذا الصراع توقف لساعة واحدة وتخلت الكريات البيض عن الدفاع، لتسلطت الجراثيم والمكروبات المتنوعة على كافة أجهزة جسم الإنسان ولعرضت حياته إلى الخطر، إنّ ما هو موجود في أوساط المجتمعات والقوميّات والشعوب في العالم من كفاح من أجل البقاء، هو عين ذلك الكفاح والجهاد الذي لمسناه في النبات وفي جسم الإنسان، وعلى هذا الأساس فإن كل من يواصل (الجهاد) و(المراقبة) تكون الحياة من نصيبه وهو منتصر دائما ـ أما الذين تلهيهم عن الجهاد الأهواء والملذات والشهوات والأنانية وحبّ الذات فلن ينالهم غير الفناء والدمار عاجلا أو آجلا، وسيحل محلهم أناس يمتازون بالحيوية والنشاط والكفاح الدؤوب، وهذا هو الشيء الذي يؤكّد عليه رسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ يقول: (فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلا وفقرا في معيشته، ومحقا في دينه، إنّ الله أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها)، ويقول النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في مناسبة أخرى: (اغزوا تورثوا أبناءكم مجدا)، أمّا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام فهو يقول في مستهل خطبته عن الجهاد (فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنّته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثواب الذّل وشملة البلاء، وديث بالصغار والقماء..)
12. يجب الالتفات إلى أنّ الجهاد لا يقتصر معناه على الحرب أو القتال المسلح، بل هو أيضا كل سعي حثيث وجهد جهيد يبذل من أجل التقدم نحو تحقيق الأهداف المقدسة ـ الإلهية ـ ومن هذا المنطلق فإنّه بالإضافة إلى الحروب الدفاعية أو الهجومية ـ أحيانا ـ فإنّ الكفاح العلمي والمنطقي والاقتصادي والثقافي والسياسي يعتبر نوعا من الجهاد.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/397
92. المستضعفون الظالمون لأنفسهم والهجرة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈92⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيأتي السهم يرمي به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل؛ فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾(1).
2. روي أنّه قال: كان قوم بمكة قد أسلموا، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كرهوا أن يهاجروا وخافوا؛ فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾(2).
3. روي أنّه قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ إلى آخر الآية، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، فخرجوا، فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة؛ فأنزلت فيهم هذه الآية: ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله﴾ [العنكبوت: ١٠]، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فحزنوا وأيسوا من كل خير؛ فنزلت فيهم: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٠]، فكتبوا إليهم بذلك: أن الله قد جعل لكم مخرجا فاخرجوا، فخرجوا، فأدركهم المشركون، فقاتلوهم، حتى نجا من نجا، وقتل من قتل(3).
__________
(1) البخاري ٦/٤٨.
(2) الطبراني في الكبير ١١/٤٤٤.
(3) البزار ـ كما في كشف الأستار ٣/٤٦.
عروة:
روي عن عروة بن الزبير (ت 94 هـ) أنه ذكر قصة بدر، وذكر الأسارى، وفداءهم، وما أنزله الله عز وجل في قسم الغنائم، ثم قال: وأنزل فيمن أصيب ممن يدعى بالإسلام مع العدو بيوم بدر، وفيمن أقام بمكة ممن يطيق الخروج: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾، وآيتين بعدها(1).
__________
(1) البيهقي في دلائل النبوة ٣/١١٩.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾، قالوا: إذا عمل فيها بالمعاصي فاخرجوا(1).
__________
(1) عبد الله بن وهب في الجامع ١/٨٨.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان ناس بمكة قد شهدوا أن لا إله إلا الله، فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم معهم، فقتلوا؛ فنزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿أولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا﴾، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين الذين بمكة، قال: فخرج ناس من المسلمين، حتى إذا كانوا ببعض الطريق طلبهم المشركون، فأدركوهم، فمنهم من أعطى الفتنة؛ فأنزل الله فيهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ﴾ [العنكبوت: ١٠]، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين بمكة، وأنزل الله في أولئك الذين أعطوا الفتنة: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا﴾ إلى ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٠](1).
2. روي أنّه قال: كان ناس بمكة قد أقروا بالإسلام، فلما خرج الناس إلى بدر لم يبق أحد إلا أخرجوه، فقتل أولئك الذين أقروا بالإسلام؛ فنزلت فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾، ﴿حِيلَةً﴾: نهوضا إليها، و﴿سَبِيلًا﴾: طريقا إلى المدينة، فكتب المسلمون الذين كانوا بالمدينة إلى من كان بمكة، فلما كتب إليهم خرج ناس ممن أقروا بالإسلام، فأتبعهم المشركون، فأكرهوهم حتى أعطوهم الفتنة؛ فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦](2).
3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾، قال كان ناس من أهل مكة أسلموا، فمن مات منهم بها هلك، قال الله: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ﴾ إلى قوله: ﴿عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: ٤٣].. وقال ابن عباس: فأنا منهم وأمي منهم.. وكان العباس منهم(3).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٨٥.
(2) ذكره في الإيماء ٧/٤٧١.
(3) ابن جرير ٧/٣٨١.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: قال حدثت أن هذه الآية أنزلت في أناس تكلموا بالإسلام من أهل مكة، فخرجوا مع عدو الله أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، فاعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن يقبل منهم(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٨٦.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للعباس: (افد نفسك، وابن أخيك)، قال: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك، ونشهد شهادتك!؟ قال: يا عباس، إنكم خاصمتم فخصمتم، ثم تلا عليه هذه الآية: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾، فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر، إلا المستضعفين الذين ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٨٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ يعني: ملك الموت وحده ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾... فلما قتل هؤلاء ببدر ﴿قَالُوا﴾ أي: قالت الملائكة لهم، وهو ملك الموت وحده: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ يقول: في أي شيء كنتم؟ ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ يعني: كنا مقهورين بأرض مكة، لا نطيق أن نظهر الإيمان(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قَالُوا﴾ أي: قالت الملائكة لهم: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً﴾ من الضيق، يعني: أرض الله المدينة؛ ﴿فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ يعني: إليها، ثم انقطع الكلام، فقال عز وجل: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ يعني: وبئس المصير صاروا(2).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠١.
(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٢.
الرسّي:
ذكر الإمام محمد بن القاسم الرسي (ت 284 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ عنى تبارك وتعالى بظلمهم أنفسهم: مقامهم مع أهل الجور والمنكر في دارهم ومحلهم؛ قال الله سبحانه مخبرا عن أولئك، ومقامهم مع العصاة والفجار، ورضاهم بمجاورتهم، إذ تقول لهم الملائكة عند قبضهم لأرواحهم: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾، يعنون: ماذا فعلتم من إنكار المنكر على من جاورتهم من أهله؟
2. ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾، فعلمت ملائكة الله أنهم قد صدقوا في الخبر من ضعفهم، واحتجت الملائكة عليهم لله؛ إذ ضعفوا عن مهاجرتهم، و﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾، يقولون: فتنجوا عن أهل المنكر والمعاصي في أرض الله الواسعة، ولا تجاوروهم؛ قال الله سبحانه: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/262.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى ﴿تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ هو: عند حضور الأجل، وانقطاع الأمل، وخروج نفس المتوفى، وما ينزل من الموت لجميع الأحياء، ثم قال: ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾، يقول عز وجل: يتوفى أنفسهم وهم ظالمون لها؛ بما اجترموه من أفعالهم، وكانوا فيه من المخالفة لربهم؛ فأهلكوا أنفسهم، وقد كانوا قادرين على إيصالها إلى الثواب، والنجاة لها من أليم العقاب، فلم يفعلوا، واتبعوا الهوى، وارتكبوا الردى، فكانوا بذلك ظالمين، وبتقصيرهم في أمر الله من الهالكين، ثم أخبر عز وجل عما يعتذرون به في الآخرة من قولهم: ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾، فلم يجعل الله فيما احتجوا به من ذلك لهم حجة ولا عذرا؛ بل كان ذلك عليهم نقمة، وإلى العذاب ذريعة.
2. فهذه الآية فجوابها يطول، ولها معاني يوفق الله لها من قصده من عباده، وهي توجب على الخلق أسبابا لا يقوم بها إلا من امتحن الله قلبه، وشرح بالإيمان صدره؛ والقليل المجزي لمن قبله خير من الكثير الغزير لمن لا ينتفع به، وقد أعطيناك فيها جملة، وهي للهجرة ملزمة، وعن دار الفسق والكفر للعزلة موجبة؛ فنسأل الله التوفيق لما يرضيه، ويقرب من الأمور إليه.
3. وذكرت السكنى مع الظالمين، والكينونة بينهم، وقد أجبنا في هذا بجواب شاف عندك في (كتاب الإيضاح)، والقول واحد لا يختلف، ومعاشرة الظالمين فحرام، ومكاونتهم من أعظم الآثام.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/263.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾:
أ. عن ابن عَبَّاسٍ قال: نزلت هذه الآية في قوم من المنافقين خرجوا مع المشركين إلى بدر، فلما التقى المسلمون والمشركون، أبصروا قلة المسلمين ـ وهم مع المشركين على المؤمنين، فقالوا: ﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾. وأظهروا النفاق، فقتلوا، عامتهم؛ ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، فقالت لهم الملائكة: ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾
ب. وقيل: إنها نزلت في نفر أسلموا بمكة مع رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم أقاموا عن الهجرة، وخرجوا مع المشركين إلى القتال، فلما رأوا قلة المؤمنين شكوا في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: ﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾، فقتلوا، فقالت الملائكة: فيم كنتم؟ قالوا: كذا.
ج. وقيل: نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، وكانت الهجرة يومئذ مفترضة؛ فكفروا بترك الهجرة، وهو كقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾، فلا ندري كيف كانت القصة، وليس لنا إلى معرفة القصة؟ حاجة بعد أن يُعرف ما أصابهم بماذا أصابهم؟.
2. قوله تعالى: ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ يتوجه وجوهًا:
أ. إحدها: مع من كنتم: مع مُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم كنتم وأصحابه أو مع أعدائهم؟
ب. والثاني: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ أي: في دين مَنْ كنتم: في دين مُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أو في دين أعدائه؟
ج. والثالث: (قالوا) بمعنى: (يقولون) أي: يقولون لهم في الآخرة: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾؟ ﴿قَالُوا﴾: كنا كذا.
3. قولهم: ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾: هذا ليس جوابًا لقوله: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾؟ جوابه أن يقال: كنا في كذا، ولكنه كأنه على الإضمار، قالوا لهم: ما الذي منعكم عن الخروج والهجرة إلى مُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ قالوا عند ذلك: ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾: اعتذروا؛ أن كانوا مستضعفين في الأرض، وظاهر هذا: أنْ مُنِعْنا عن الخروج إلى الهجرة، وحالَ المشركون بيننا وبين إظهار الإسلام، فقالوا: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ يعني: المدينة واسعة، آمنة لكم من العدو، فتخرجوا إليها، فتقلبوا بين أظهرهم، فهذا كأنهم اعتذروا في التخلف عن ذلك؛ لما كانوا يتقلبون بين أظهر الكفرة ويتعيشون فيهم.
4. فقالوا: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ قطعوا عليهم، ويحتمل وجهًا آخر: وهو أنهم إن منعوكم عن الإسلام ظاهرًا وحالوا بينكم وبين إظهاره؛ ألستم تقدرون على ادِّيَان الإسلام سرا، لا يعلمون هم بذلك!؟
5. ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾، أخبر أنْ لا عذر لهم في ذلك.
6. في قوله تعالى: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ دلالة إحياء الموتى في القبر والسؤال فيه عما عملوا في الدنيا واللَّه أعلم.
7. وقوله عز وجل: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ بين اللَّه تعالى أهل العذر في ذلك؛ حيث قال: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾، قال ابن عَبَّاسٍ: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
8. ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ و﴿عَسَى﴾ من اللَّه واجب؛ كأنه يقول: فأُولَئِكَ يعفو اللَّه عنهم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٣٥
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ أي إن الذين تأخذهم الملائكة وتلزمهم إما عند الموت وإما عند حسابهم.
2. ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ أي في أي معنى كنتم قبل موتكم، وأي سبب عاقكم عن الهجرة والغضب لربكم، فردوا على الملائكة واعتذروا بضعفهم فقالوا لهم ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾، فلم يقبل الملائكة عذرهم حتى ردوا عليهم وأكذبوهم.
3. ﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾، إذا ضعفتم عن الأمر بالمعروف والغضب لربكم، ولم تطيقوا الخروج إذا لم تقدروا على التغيير عليهم، قال الله عز وجل في هؤلاء بأعيانهم، ومن كان مرخصاً في ترك الهجرة مثلهم، ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/248.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية نزلت في قوم أظهروا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الإسلام بمكة، فلما هاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهاجر أصحابه فتنوهم آباؤهم عن دينهم فافتتنوا وخرجوا مع المشركين يوم بدر فقتلوا كلهم، وقيل: انهم كانوا خمسة نفر، وقال عكرمة: هم قيس بن الفاكة بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن أسد، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاص بن ميتة بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف، وذكر أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام مثله، فانزل اللَّه فيهم الآيات، وقال عليه السلام: ان الذين توفاهم الملائكة يعني قبض أرواحهم.
2. ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ نصب على الحال يعني في حال هم فيها ظالمو نفوسهم بمعني بخسوها حقها من الثواب وأدخلوا عليها العقاب بفعل الكفر، وقالت لهم الملائكة ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ أي في أي شيء كنتم من دينكم على وجه التقرير لهم والتوبيخ لفعلهم ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ يستضعفنا أهل الشرك باللَّه في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم، ويمنعونا من الايمان باللَّه واتباع رسوله على جهة الاعتذار فقالت لهم الملائكة ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ يعني فتخرجوا من أرضكم وداركم وتفارقوا من يمنعكم من الايمان باللَّه وبرسوله إلى أرض يمنعكم أهلها من أهل الشرك، فتوحدوه وتعبدوه وتتبعوا نبيه ثم قال تعالى ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ يعني مسكنهم جهنم ﴿وَسَاءَتْ﴾ يعني جهنم لأهلها الذين صاروا إليها ﴿مَصِيرًا﴾ وسكناً.
3. ﴿تَوَفَّاهُمُ﴾ يحتمل أن يكون فعلا ماضياً ويكون موضعه الفتح لأن الماضي مبني على الفتح، والثاني ان يكون رفعاً والمعنى تتوفاهم وقد حذف أحد التائين.
4. بينا فيما مضي أن (عسى) من اللَّه معناه الوجوب قال المغربي: ذكر (عسى) هاهنا تضعيف لأمر غيرهم كما يقول القائل ليت من أطاع اللَّه سلم، فكيف من عصاه، ومثله قول الشاعر:
çولم تر كافر نعمى نجا...من السوء ليت نجا الشاكرé
5. والتوفي هو الإحصاء قال الشاعر:
çإن بني أدرد ليسوا من أحد...ليسوا إلى قيس وليسوا من أسدé
ولا توفاهم قريش في العدد بمعني أحصاهم، والملائكة تتوفى، وملك الموت يتوفي، واللَّه يتوفي، وما يفعله ملك الموت والملائكة يجوز أن يضاف إلى اللَّه إذا فعلوه بأمره وما تفعله الملائكة جاز أن يضاف إلى ملك الموت، إذا فعلوه بامره.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/303
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التوفي: القبض، وتوفيت الشيء واستوفيته: قبضته، والوفاة: الموت؛ لأنه يقبض روحه.
ب. المأوى: مكان كل شيء، آوى إلى منزله يأوي أويًا، وحكى بعضهم أوى وآويته أنا آوايه إيواءً.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الشرك لقومهم، والإيمان للمسلمين ليسلموا منهم، عن أبي علي.
ب. وقيل: نزلت في قوم من مكة تكلموا بالإسلام، ولم يهاجروا منهم قيس بن الفاكهة بن المغيرة وغيره، وأضمروا الشرك، ثم خرجوا إلى بدر لقتال المسلمين، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: أغر هَؤُلَاءِ دينهم؟، فقتلوا يوم بدر، فقال بعض المسلمين: كان هَؤُلَاءِ أصحابنا أسلموا، وأكرهوا على الخروج، فنزلت الآية ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾
3. أخبر الله تعالى عن حال المنافقين القاعدين عن نصرة الرسول عند الموت، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾:
أ. قيل: تقبض أرواحهم عند الموت، عن أبي علي وغيره، وقد بينا أن الملك يقبض الروح، فأما الحياة والموت فلا يقدر عليها غير الله تعالى.
ب. وقيل: يحشرهم إلى النار عن الحسن، كأنه يقول: تقبضهم لتصيرهم إليها نعوذ بِاللهِ منها.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾:
أ. قيل: ملك الموت.
ب. وقيل: هو وغيره.
5. ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ قيل: بالشرك والنفاق، يعني تقبض أرواحهم وهم مصرون على الكفر لم يسبق منهم توبة، ﴿قَالُوا﴾ يعني قالت الملائكة لهم ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾؟
أ. قيل: هو سؤال توبيخ وتقريع.
ب. وقيل: معناه فيماذا كنتم؟
ج. وقيل: فيمن كنتم؟ في حرب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أو في حرب أعدائه؟
د. وقيل: فيم كنتم من دينكم.
هـ. وقيل: لماذا تركتم الهجرة؟
6. ﴿قَالُوا﴾ يعني المنافقين ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾:
أ. قيل: يعني مقهورين تحت أيدي أهل الشرك في أرضنا وبلادنا.
ب. وقيل: أراد أرض مكة لكثرة الكفار وقلة المؤمنين.
7. ﴿قَالُوا﴾ يعني الملائكة ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ أي تخرجوا إلى موضع يمكنكم أن توحدوا الله وتعبدوه، فأكذبهم الله، وبين أنهم كانوا مستطيعين للهجرة.
8. ثم بَيَّنَ ما أعد لهم، فقال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ مسكنهم جهنم ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾:
أ. قيل: أي بئس المصير إلى جهنم.
ب. وقيل: بئس المسكن والمرجع جهنم لأهلها.
9. تدل الآية الكريمة على:
أ. وجوب الهجرة، وكانت واجبة قبل الفتح؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ ثم نسخ، وقال: لا هجرة بعد الفتح، وقيل: لم ينسخ.
ب. أنه بأي وجه أمكن التخلص من المقام المحظور فواجب، عن سعيد بن المسيب: إذا عُمِلَ بالمعاصي في أرض فاخرج منها، وعن القاسم بن إبراهيم: إذا ظهر الفسق في دار ولا يمكنه الأمر بالمعروف فالهجرة واجبة.
ج. أن كل من خاف على دينه الفتنة في بلد يلزمه التحول، فأما إذا لم يخف وسلم دينه فربما يجب المقام لوجوه أخر، وربما يجب الخروج.
د. أن الوعيد معلق بترك الهجرة، فيبطل قول المرجئة، والآية وردت على سبب، فالمعتبر في الدلالة عموم اللفظ.
10. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿تَوَفَّتْهُمُ﴾ إن شئت جعلته ماضيًا، فيكون في موضع النصب، وقيل: لا موضع له، وإن شئت جعلته مستقبلاً، فيكون موضعه رفعا، والمعنى يتوفاهم عن المبرد والفراء، وأصل توفتهم تتوافاهم بتاءين، أحدهما للتأنيث، وهي علامة الفعل المضارع، كقولك: تفعل هند، والثانية: تاء أصل الفعل، فإن كان الخبر غير مذكر كانت الأولى ياء، كقوله: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ﴾ ونصبـ ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ على الحال، وتقديره: في حال ظلمهم.
ب. ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ فيما كنتم؟ أي في أي شيء كنتم، فحذف الألف من ﴿مَا﴾؛ لأنه استفهام، ﴿فَتُهَاجِرُوا﴾ نصب لأنه جواب الاستفهام في.
ج. ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً﴾ ولو لم يكن نصبًا لقال: فتهاجرون ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ أي ساءت جهنمُ مصيرًا.
د. في خبر ﴿إِنَّ﴾ في الآية وجوه:
• قيل: الخبر قوله: قالوا لهم فيم كنتم؟، فحذف ﴿لَهُمْ﴾ لدلالة الكلام عليه.
• وقيل: الخبر ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ ويكون قالوا لهم) في موضع الصفة لـ ﴿ظَالِمِي﴾، لأنه نكرة.
• وقيل: الخبر محذوف، وهو هلكوا، ثم فسر الهلاك، فقالوا: فيم كنتم؟
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/36
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التوفي: القبض، وتوفيت الشئ، واستوفيته: قبضته، والوفاة: الموت، لان الميت تقبض روحه، والتوفي: الإحصاء، قال الشاعر:
çإن بني أدرم ليسوا من أحد... ليسوا إلى قيس وليسوا من أسدé
ولا توفاهم قريش في العدد
المعنى أحصاهم.
ب. المأوى: المرجع من أوى إلى منزله، يأوي، أويا: إذا رجع إلى منزله.
ج. الاستضعاف: وجدان الشئ ضعيفا، كالاستطراف، ونحوه.
2. في سبب نزول الآية الكريمة: قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أن المشركين يوم بدر، لم يخلفوا، إذ خرجوا أحدا، إلا صبيا، أو شيخا كبيرا، أو مريضا، فخرج معهم ناس ممن تكلم بالاسلام، فلما التقى المشركون، ورسول الله، نظر الذين كانوا قد تكلموا بالاسلام إلى قلة المسلمين، فارتابوا وأصيبوا فيمن أصيب من المشركين، فنزلت فيهم الآية، وهو المروي، عن ابن عباس، والسدي، وقتادة، وقيل: إنهم قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاص بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف، عن عكرمة، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام، قال ابن عباس: كنت أنا من المستضعفين، وكنت غلاما صغيرا، وذكر عنه أيضا أنه قال: (كان أبي من المستضعفين من الرجال، وأمي كانت من المستضعفات من النساء، وكنت أنا من المستضعفين من الولدان)
3. أخبر تعالى عن حال من قعد عن نصرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد الوفاة، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ﴾: أي قبض أرواحهم، أو تقبض أرواحهم ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾: ملك الموت، أو هو وغيره، فإن الملائكة تتوفى، وملك الموت يتوفى، والله يتوفى، وما يفعله ملك الموت، أو الملائكة، يجوز أن يضاف إلى الله إذ فعلوه بأمره، وما تفعله الملائكة جاز أن يضاف إلى ملك الموت، إذ فعلوه بأمره ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾: أي في حال هم فيها ظالموا أنفسهم، إذ بخسوها حقها من الثواب، وأدخلوا عليها العقاب، بفعل الكفر.
4. ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾: أي قالت لهم الملائكة: فيم كنتم؟ أي في أي شئ كنتم من دينكم، على وجه التقرير لهم، أو التوبيخ لفعلهم، ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا، بكثرة عددهم وقوتهم، ويمنعوننا من الايمان بالله، واتباع رسوله على جهة الاعتذار ﴿قَالُوا﴾ أي قالت الملائكة لهم: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾: أي فتخرجوا من أرضكم ودوركم، وتفارقوا من يمنعكم من الايمان بالله ورسوله، إلى أرض يمنعكم أهلها من أهل الشرك، فتوحدوه، وتعبدوه، وتتبعوا رسوله، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال في معناه: إذا عمل بالمعاصي في أرض، فاخرج منها.
5. ثم قال تعالى ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾: أي مسكنهم جهنم ﴿وَسَاءَتْ﴾ هي: أي جهنم ﴿مَصِيرًا﴾ لأهلها الذين صاروا إليها.
6. روي في الشواذ عن إبراهيم، أنه قرأ (إن الذين توفاهم الملائكة) بضم التاء، قال ابن جني: معنى هذا كقولك إن الذين يعدون على الملائكة: يردون إليهم، يحتسبون عليهم، فهو نحو عن قولك إن المال الذي توفاه أمة الله: أي يدفع إليها، ويحتسب عليها، كأن كل ملك جعل إليه قبض نفس بعض الناس، ثم تمكن من ذلك وتوفاه.
7. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿تَوَفَّاهُمُ﴾: إن شئت كان لفظه ماضيا، فيكون مفتوحا، لان الماضي مبني على الفتح، ويجوز أن يكون مستقبلا، فيكون مرفوعا على معنى تتوفاهم، حذف التاء الثانية، لاجتماع تاءين وقد ذكرناه مشروحا فيما تقدم.
ب. ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾: نصب على الحال، وأصله ظالمين أنفسهم، إلا أن النون حذفت استخفافا، وهي ثابتة في التقدير، كما قال سبحانه ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ أي بالغا الكعبة.
ج. ﴿فِيمَ﴾ حذفت الألف من ما الاستفهام، وهو في موضع جر بفي والجار مع المجرور، في موضع نصب لأنه خبر كان، وخبر إن قوله (قالوا فيما كنتم): أي قالوا لهم: فحذف لهم لدلالة الكلام عليه.
د. يقال خبر ﴿إِنَّ﴾ قوله: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ ويكون (قالوا لهم) في موضع نصب بكونه صفة (لظالمي أنفسهم) لأنه نكرة.
هـ. ﴿الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾: نصب على الاستثناء من قوله (مأواهم جهنم إلا المستضعفين) ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾: في موضع نصب على الحال من ﴿الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/148.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن أناسا كانوا بمكّة قد أقرّوا بالإسلام، فلمّا خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بدر لم تدع قريش أحدا إلا أخرجوه معهم، فقتل أولئك الذين أقرّوا بالإسلام، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس، وقال قتادة: نزلت في أناس تكلّموا بالإسلام، فخرجوا مع أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، واعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن يقبل منهم.
ب. الثاني: أن قوما نافقوا يوم بدر، وارتابوا، وقالوا: غرّ هؤلاء دينهم وأقاموا مع المشركين حتى قتلوا، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ج. الثالث: أنها نزلت في قوم تخلّفوا عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبيّ، ضربت الملائكة وجهه ودبره، رواه العوفيّ عن ابن عباس.
2. في (التّوفّي) قولان:
أ. أحدهما: أنه قبض الأرواح بالموت، قاله ابن عباس، ومقاتل.
ب. الثاني: الحشر إلى النار، قاله الحسن.
3. ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾ قال مقاتل: والمراد بالملائكة ملك الموت وحده، وقال في موضع آخر: ملك الموت وأعوانه، وهم ستة، ثلاثة يلون أرواح المؤمنين، وثلاثة يلون أرواح الكفّار.
4. ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ قال الزجّاج: نصب على الحال، والمعنى: تتوفّاهم في حال ظلمهم أنفسهم، والأصل ظالمين، لأن النون حذفت استخفافا، فأمّا ظلمهم لأنفسهم، فيحتمل على ما ذكر في قصتهم أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه ترك الهجرة.
ب. الثاني: رجوعهم إلى الكفر.
ج. الثالث: الشّكّ بعد اليقين.
د. الرابع: إعانة المشركين.
5. ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ قال الزجّاج: هو سؤال توبيخ، والمعنى: كنتم في المشركين أو في المسلمين، ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ قال مقاتل: كنا مقهورين في أرض مكّة، لا نستطيع أن نذكر الإيمان، قالت الملائكة: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً﴾ يعني المدينة ﴿فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ يعني: إليها، وقول الملائكة لهم يدلّ على أنهم كانوا يستطيعون الهجرة.
__________
(1) زاد المسير فى علم التفسير: 1/458
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر الله تعالى ثواب من أقدم على الجهاد أتبعه بعقاب من قعد عنه ورضي بالسكون في دار الكفر.
2. ﴿تَوَفَّاهُمُ﴾: قال الفرّاء: إن شئت جعلت ﴿تَوَفَّاهُمُ﴾ ماضيا ولم تضم تاء مع التاء، مثل قوله: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: 70] وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخبارا عن حال أقوام معينين انقرضوا ومضوا، وإن شئت جعلته مستقبلا، والتقدير: إن الذين تتوفاهم الملائكة، وعلى هذا التقدير تكون الآية عامة في حق كل من كان بهذه الصفة.
3. في هذا التوفي ﴿تَوَفَّاهُمُ﴾ قولان:
أ. الأول: وهو قول الجمهور معناه تقبض أرواحهم عند الموت، سؤال وإشكال: فعلى هذا القول كيف الجمع بينه وبين قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: 42] ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ [الملك: 2] ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: 28] وبين قوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: 11]، والجواب: خالق الموت هو اللَّه تعالى، والرئيس المفوض إليه هذا العمل هو ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه.
ب. الثاني: ﴿تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ يعني يحشرونهم إلى النار، وهو قول الحسن.
4. في خبر (إن) وجوه:
أ. الأول: أنه هو قوله: قالوا لهم فيم كنتم، فحذف (لهم) لدلالة الكلام عليه.
ب. الثاني: أن الخبر هو قوله: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ فيكون (قالوا لهم) في موضع ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾، لأنه نكرة.
ج. الثالث: أن الخبر محذوف وهو هلكوا، ثم فسّر الهلاك بقوله: ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾
5. ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ في محل النصب على الحال، والمعنى تتوفاهم الملائكة في حال ظلمهم أنفسهم، وهو وإن أضيف إلى المعرفة إلا أنه نكرة في الحقيقة، لأن المعنى على الانفصال، كأنه قيل ظالمين أنفسهم، إلا أنهم حذفوا النون طلبا للخفة، واسم الفاعل سواء أريد به الحال أو الاستقبال فقد يكون مفصولا في المعنى وإن كان موصولا في اللفظ، وهو كقوله تعالى: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: 24]، ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: 95]، ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ [الحج: 9] فالإضافة في هذه المواضع كلها لفظية لا معنوية.
6. الظلم قد يراد به الكفر قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13] وقد يراد به المعصية ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: 32] وفي المراد بالظلم في هذه قولان:
أ. الأول: أن المراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك، ولم يهاجروا إلى دار الإسلام.
ب. الثاني: أنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفا، فإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولم يهاجروا إلى المدينة، فبيّن اللَّه تعالى بهذه الآية أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة.
7. في قوله تعالى: ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ وجوه:
أ. أحدها: فيم كنتم من أمر دينكم.
ب. ثانيها: فيم كنتم في حرب محمد أو في حرب أعدائه.
ج. ثالثها: لم تركتم الجهاد ولم رضيتم بالسكون في ديار الكفار؟
8. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ جواب عن قولهم ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا، أو لم نكن في شيء، والجواب: أن معنى ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارا عما وبخوا به، واعتلالا بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة، ثم إن الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر بل ردوه عليهم فقالوا: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، فبقيتم بين الكفار لا للعجز عن مفارقتهم، بل مع القدرة على هذه المفارقة، فلا جرم ذكر اللَّه تعالى وعيدهم فقال: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾
__________
(1) التفسير الكبير: 11/196
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المراد بها جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الإيمان به، فلما هاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أقاموا مع قومهم وفتن منهم جماعة فافتتنوا، فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار، فنزلت الآية، وقيل: إنهم لما استحقروا عدد المسلمين دخلهم شك في دينهم فارتدوا فقتلوا على الردة، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا على الخروج فاستغفروا لهم، فنزلت الآية، والأول أصح، روى البخاري عن محمد ابن عبد الرحمن قال: قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾
2. ﴿تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ يحتمل أن يكون فعلا ماضيا لم يستند بعلامة تأنيث، إذ تأنيث لفظ الملائكة غير حقيقي، ويحتمل أن يكون فعلا مستقبلا على معنى تتوفاهم، فحذفت إحدى التاءين، وحكى ابن فورك عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار، وقيل: تقبض أرواحهم، وهو أظهر، وقيل: المراد بالملائكة ملك الموت، لقوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾
3. ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ نصب على الحال، أي في حال ظلمهم أنفسهم، والمراد ظالمين أنفسهم فحذف النون استخفافا وأضاف، كما قال تعالى: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾، وقول الملائكة: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ سؤال تقريع وتوبيخ، أي أكنتم في أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أم كنتم مشركين!
4. قول هؤلاء: ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ يعني مكة، اعتذار غير صحيح، إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل، ثم وقفتهم الملائكة على دينهم بقولهم ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً﴾، ويفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرة، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شي من هذا، وإنما أضرب عن ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه، ولعدم تعين أحدهم بالإيمان، واحتمال ردته.
5. ثم استثنى تعالى منهم من الضمير الذي هو الهاء والميم في ﴿مَأْوَاهُمْ﴾ من كان مستضعفا حقيقة من زمنى الرجال وضعفة النساء والولدان، كعياش بن أبي ربيعة وسلمة ابن هشام وغيرهم الذين دعا لهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال ابن عباس: كنت أنا وأمي ممن عنى الله بهذه الآية، وذلك أنه كان من الولدان إذ ذاك، وأمه هي أم الفضل بنت الحارث واسمها لبابة، وهي أخت ميمونة، وأختها الأخرى لبابة الصغرى، وهن تسع أخوات قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهن: (الأخوات مؤمنات) ومنهن سلمى والعصماء وحفيدة ويقال في حفيدة: أم حفيد، واسمها هزيلة، هن ست شقائق وثلاث لأم، وهن سلمى، وسلامة، وأسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، ثم امرأة أبي بكر، ثم امرأة علي.
6. ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ سؤال توبيخ، وقد تقدم، والأصل ﴿فِيمَا﴾ ثم حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر، والوقف عليها لئلا تحذف الألف والحركة، والمراد بقوله: ألم تكن أرض الله واسعة المدينة، أي ألم تكونوا متمكنين قادرين على الهجرة والتباعد ممن كان يستضعفكم! وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي، وقال سعيد بن جبير: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها، وتلا ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليه السلام، ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ أي مثواهم النار، وكانت الهجرة واجبة على كل من أسلم، ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ نصب على التفسير.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/345.
المنصور بالله:
ذكر الإمام القاسم بن محمد (ت 1029 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما يدل على تحريم تسليم الأموال إليهم: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾، ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن المراد بها: الذين أخلوا بالفرائض التي افترضها الله سبحانه وتعالى أو بعضها؛ لكونهم مستضعفين، وهم متمكنون من الهجرة؛ بدليل الوعيد في آخرها، وهو لا يكون إلا لمن أخل بما افترض الله سبحانه من القيام بالواجب، أو ترك القبيح، وهو يتمكن من القيام بهما، كأن يهاجر، ومن جملة ما افترض الله تعالى: تجنب مشاهدة المعاصي، حين تفعل إلا لتغييرها، بدليل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل)، ونحو ذلك؛ فلما ثبت الوعيد لمن لم يتجنب مشاهدة المعاصي ولم يغيرها؛ لأجل الاستضعاف ـ ثبت الوعيد لمن يسلم إليهم الأموال المقوية لهم على سفك الدماء، وشرب الخمور، ونكح الذكور، ولبس الحرير، وغير ذلك من المنكرات؛ لأجل الاستضعاف، ولم يهاجر ـ بطريق الأولى، وكانت دلالة الآية على ذلك أقوى.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/264.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تَوَفَّاهُمُ﴾ يحتمل أن يكون فعلا ماضيا وحذفت منه علامة التأنيث، لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي، ويحتمل أن يكون مستقبلا، والأصل تتوفاهم، فحذفت إحدى التائين وحكى ابن فورك عن الحسن: أن المعنى: تحشرهم إلى النار، وقيل: تقبض أرواحهم، وهو الأظهر، والمراد بالملائكة: ملائكة الموت، لقوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾
2. ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ حال، أي: في حال ظلمهم أنفسهم، وقول الملائكة: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ سؤال توبيخ، أي: في أيّ شيء كنتم من أمور دينكم؟ وقيل: المعنى: أكنتم في أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أم كنتم مشركين؛ وقيل: إن معنى السؤال: التقريع لهم بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين.
3. قولهم: ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ يعني مكة، لأن سبب النزول: من أسلم بها ولم يهاجر، كما سيأتي، ثم أوقفتهم الملائكة على دينهم، وألزمتهم الحجة، وقطعت معذرتهم، فقالوا: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ قيل: المراد بهذه الأرض: المدينة، الأولى: العموم اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو الحق، فيراد بالأرض: كل بقعة من بقاع الأرض تصلح للهجرة إليها، ويراد بالأرض الأولى: كل أرض ينبغي الهجرة منها.
4. ﴿مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ هذه الجملة خبر لأولئك، والجملة خبر إن في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ ودخول الفاء لتضمن اسم إن معنى الشرط ﴿وَسَاءَتْ﴾ أي: جهنم ﴿مَصِيرًا﴾ أي: مكانا يصيرون إليه.
__________
(1) فتح القدير: 1/583.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُم﴾ توفَّتهم كما قرأ بعض، وهم قوم مخصوص انقرضوا، أسلموا ولم يهاجروا حتَّى ماتوا في مكَّة أو في بدر، إذ خرجوا مع المشركين، أو تتوفَّاهم، فهم على العموم الاستمراريِّ الماضويِّ المنزل منزلة الحاضر، بدليل أنَّ الخبر ماض وهو (قَالُوا)، فحذفت إحدى التاءين، ويدلُّ له قراءة النخعيِّ بضمِّ التاء والبناء للمفعول مشدَّد، وُفِّيتُ الشيءَ: أخذتُه، أو المراد: من لا يخرج للجهاد، أو كلُّ ذلك، ﴿الْمَلآئِكَةُ﴾ مَلَك الموت وأعوانه، وقيل: ملك الموت وجُمع تعظيمًا له، وقيل: ثلاثة للمؤمن وثلاثة للكافر.
2. والتوفِّي: القبض للروح بإذن الله تعالى تقبضها الملائكة، وفي أثر بعض أصحابنا: الحكم بكفر من قال إنَّ الملائكة تقبضها، وإنَّما الملائكة تعصرها والله يقبضها، أي: يخرجها، قال الله تعالى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الَانفُسَ﴾ [الزمر: 42]، وقال: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [آل عمران: 156]، وقال: ﴿يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ [الجاثية: 26]، ولاشكَّ أنَّ الله هو خالق الموت والحياة كما نزل، ولا نزاع في ذلك، إلَّا أنَّ إطلاق التوفِّي لا بمعنى قبض الروح جائز لوروده كقوله تعالى: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: 61]، ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ﴾ [السجدة: 11]
3. ﴿ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ﴾ بترك الهجرة، ثمَّ بالخروج إلى بدر مع المشركين والقتال معهم، والردَّة، أخرجهم المشركون معهم إلى بدر غير عالمين بإسلامهم، أو عالمين به قاهرين لهم، أو راضين كقيس بن الفاكه، والحارث بن زمعة، وقيس بن الوليدة، وأبي العاص بن منبِّه، وعليِّ بن أميَّة، ولَمَّا رأوا ضعف المسلمين قالوا: (غرَّ هؤلاء دينُهم)، فارتدُّوا وقاتلوا المسلمين، فقوَّى الله قلوب المؤمنين ومدَّهم بالملائكة، وقيل: المراد من لا يخرج إلى الجهاد معه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقيل: المنافقون.
4. ﴿قَالُواْ﴾ أي: الملائكة توبيخًا لهم ﴿فِيمَ﴾ في أيِّ دين، أو في أيِّ حال من ضعف أو قوَّة ﴿كُنتُمْ قَالُواْ﴾ اعتذارا بالضعف عن مقاومة المشركين والهجرة، وإعلان الدِّين ونصره، ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الَارْضِ﴾ أرض مكَّة وما يليها، فلم نقدر على إظهار الإسلام والعمل به، ولا على ترك الخروج مع المشركين، ومقتضى الظاهر: كنَّا في استضعاف، أو لم نكن في شيء لكن قوي جوابهم بما قال، وطابق قالوا بقالوا، ﴿قَالُواْ﴾ أي: الملائكة تكذيبًا وإفحامًا لهم، أو توبيخًا وتقريرا وتكذيبًا لأنَّهم استطاعوا الحيلة واهتدوا السبيل، ﴿أَلَمْ تكُنَ اَرضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾ إلى المدينة أو الحبشة كما فعل المسلمون، أو إلى موضع آخر يأذن لكم فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، تقيمون فيه دينكم، جواب الملائكة هذا ظاهر في أنَّهم موحِّدون، ظالمون بترك الهجرة، ولو كان المشركون أيضًا مخاطبين بالفروع.
5. ﴿فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾، وخبر (إِنَّ): (قَالُوا) الأوَّل، والرابط محذوف، أي: قالوا لهم، أو [الخبر]: جملة (أُوْلَئِكَ) إلخ، والفاء لشبه (الَّذِينَ) باسم الشرط إذا حملناه على العموم، وتارك الهجرة مشرك ولو أسلم على الصحيح، وقيل: فاسق، والآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يصل فيه الإنسان إلى إقامة دينه، وهذا مِمَّا لا ينسخ، ويندب أن يهاجر ولو أقام دينه بعد نسخ وجوب الهجرة، وتجب الهجرة قيل من أرض الوباء، ﴿وَسَآءَتْ﴾ جهنَّم ﴿مَصِيرًا﴾
6. في الآية جمع بين التمييزِ وفاعلٍ مستترٍ عائدٍ إلى غير التمييز، ولا حاجة إلى جعل فاعل (سَاءَتْ) ضميرًا عائدًا إلى مبهم مفسَّر بالتمييز، وأنِّث مع تذكير التمييز لوقوع التمييز على مؤنَّث، وتقدير المخصوص هكذا: (وساءت مصيرًا جهنَّم)، أي: هو جهنَّم، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من فرَّ بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرًا من الأرض استوجب الجنَّة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيئه محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم )
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/262.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ روى البخاريّ عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين ويكثّرون سواد المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ﴾ الآية، وأخرجه ابن مردويه، وسمى منهم (في روايته) قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا قيس بن الفاكه بن المغيرة، والوليد بن عتبة بن ربيعة، وعمرو ابن أمية بن سفيان، وعليّ بن أمية بن خلف، وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا: غر هؤلاء دينهم، فقتلوا ببدر، وأخرجه ابن أبي حاتم، وزاد: منهم الحارث بن زمعة بن الأسود، والعاص بن منبه بن الحجاج.
2. وأخرج الطبرانيّ عن ابن عباس قال: كان قوم بمكة قد أسلموا، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كرهوا أن يهاجروا، وخافوا، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾، وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة قد أسلموا، وكانوا يخفون الإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين، فأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ الآية، فكتبوا بها إلى من بقي منهم، وإنه لا عذر لهم، فخرجوا، فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا، فنزلت: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: 10]، فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا، فنزلت: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾ [النحل: 110] الآية، فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا، فلحقوهم، فنجا وقتل من قتل، وأخرج ابن جرير من طرق كثيرة نحوه، كذا في (لباب النقول)
3. قال المهايميّ: ولما أوهم ما فهم مما تقدم، من تساوي القاعدين أولي الضرر والمجاهدين، أن من قعد عن الجهاد لكونه في دار الكفر محسوب منهم، وإن عجز عن إظهار دينه، فإن لم يحسب فلا أقل من أن يحسب من القاعدين غير أولي الضرر، الموعود لهم الحسنى ـ أزيل ذلك الوهم بأنهم بترك الهجرة من مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم، مع إمكان الخروج عنه، صاروا ظالمين مستحقين لتوبيخ الملائكة، بل لعذاب جهنم، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة عن مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم مع القدرة عليها وبموافقة الكفار، و(توفاهم) يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ: (توفتهم) ومضارعا بمعنى تتوفاهم، بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها، كذا في (الكشاف)، و(الظلم) قد يراد به الكفر كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، وقد يراد به المعصية كقوله: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: 32]، ويصح إرادة المعنيين هنا كما أشرنا.
4. روى أبو داود عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله، ﴿قَالُوا﴾ أي: الملائكة للمتوفين، تقريرا لهم بتقصيرهم وتوبيخا لهم ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ أي: في أي شيء كنتم من أمور دينكم ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: أرض الأعداء.
5. سؤال وإشكال: كيف صح وقوع قوله ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ جوابا عن قولهم ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ وكان حق الجواب: كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟ والجواب: قال الزمخشريّ: معنى ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به، واعتلالا بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء، فبكتتهم الملائكة بقولهم ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ أرادوا: إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، ومن الهجرة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة، وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب، والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة ـ حقت عليه المهاجرة.
6. ﴿فَأُولَئِكَ﴾ أي: النفر المذكور ﴿مَأْوَاهُمْ﴾ أي: مصيرهم ﴿جَهَنَّمَ﴾ لأنهم الذين ضعّفوا أنفسهم إذ لم يلجئهم الأعداء إلى مساكنة ديارهم ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ أي: جهنم، بدل المصير إلى دار الهجرة.
7. قال السيوطيّ في (الإكليل): استدل بالآية على وجوب الهجرة من دار الكفر، إلّا على من لم يطقها، وعن مالك: الآية تقتضي أن كل من كان في بلد تغيّر فيه السنن، فينبغي أن يخرج منه.
8. قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية وجوب الهجرة من دار الكفر، ولا خلاف أنها كانت واجبة قبل الفتح، ولذلك قال الله تعالى في سورة الأنفال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنفال: 72]، قيل: ونسخت بعد الفتح، والصحيح عدم النسخ، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا هجرة بعد الفتح، معناه من مكة، قال جار الله: وهذا يدل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب، لبعض الأسباب، وعلم أنه في غير بلده أقوم بحق الله، حقت عليه الهجرة، ثم قال: قال في التهذيب: وعن القاسم بن إبراهيم: إذا ظهر الفسق في دار، ولا يمكنه الأمر بالمعروف، فالهجرة واجبة، وهذا بناء على أن الدور ثلاث: دار إسلام، ودار فسق، ودار حرب، وهذا التقسيم هو مذهب الهادي والقاسم، وابن أبي النجم في كتاب (الهجرة والدور) عن الراضي بالله وجعفر بن مبشر وأبي عليّ، وذهب الإخوان وعامة الفقهاء وأكثر المعتزلة إلى النفي لدار الفسق، واعلم أن من حمل على معصية أو ترك واجب أو طالبه الإمام بذلك، فالمذهب وجوب الهجرة مع حصول الشروط المعتبرة، وقد قال الراضي بالله: إن من سكن دار الحرب مستحلّا، كفر، لأن ذلك رد لصريح القرآن، واحتج بهذه، وقد حكى الفقيه حسام الدين حميد بن أحمد عن القاسم والهادي والراضي بالله: التكفير لمن ساكن الكفار في ديارهم، وفي (مذهب الراضي بالله): يكفر إذا جاورهم سنة، قال الفقيه شرف الدين محمد بن يحيى، حاكيا عن الراضي بالله: إنه يكفر بسكنى دار الحرب وإن لم يستحل؛ لأن ذلك منه إظهار الكفر على نفسه، والحكم بالتكفير محتمل هنا، ثم قال: وإنما استثنى تعالى الولدان، وإن كانوا غير داخلين في التكليف، بيانا لعدم حيلتهم، والهجرة إنما تجب على من له حيلة.
9. وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): الهجرة الترك، والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره، وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين:
أ. الأول ـ الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة.
ب. الثاني ـ الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقرّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة، إذ ذاك، تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر، لمن قدر عليه، باقيا.
10. وقد أفصح ابن عمر بالمراد، فيما أخرجه الإسماعيليّ بلفظ: انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار، أي: ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه، وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/288
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآيات في الهجرة نزلت(2) في سياق أحكام القتال لأن بلاد العرب كانت في ذلك العهد قسمين دار هجرة المسلمين ومأمنهم ودار الشرك والحرب، وكان غير المسلم في دار الإسلام حرا في دينه لا يفتن عنه وحرا في نفسه لا يمنع أن يسافر حيث شاء، وأما المسلم في دار الشرك فكان مضطهدا في دينه يفتن ويعذب لأجله ويمنع من الهجرة إن كان مستضعفا لا قوة له ولا أولياء يحمونه، وكانت الهجرة لأجل هذا واجبة على كل من يسلم ليكون حرا في دينه آمنا في نفسه، وليكون وليا ونصيرا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين الذين كان الكفار يهاجمونهم المرة بعد المرة، وليتلقى أحكام الدين عند نزولها، وكان كثير منهم يكتم إيمانه ويخفي إسلامه ليتمكن من الهجرة.
2. وفي مثل هذه الحال ينقسم الناس بالطبع إلى أقسام منهم من ذكرنا ومنهم القوي الشجاع الذي يظهر إيمانه وهجرته وإن عرض نفسه للمقاومة، ومنهم من يؤثر البقاء في وطنه بين أهله لأنه لضعف إيمانه يؤثر مصلحة الدنيا التي هو فيها على الدين، ومنهم الضعيف المستضعف الذي لا يقدر على التفلت من مراقبة المشركين وظلمهم ولا يدري أية حيلة يعمل ولا أي طريق يسلك، وقد بين الله حكم من يترك الهجرة لضعف دينه وظلمه لنفسه مع قدرته عليها لو أرادها، ومن يتركها لعجزه وقلة حيلته وظلم المشركين له.
__________
(1) تفسير المنار: 5/288.
(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ذكر سبحانه في الآية السالفة فضل المجاهدين في سبيل الله على القاعدين بغير عجز ـ ذكر حال قوم أخلدوا إلى السكون وقعدوا عن نصرة الدين، وعذروا أنفسهم بأنهم في أرض الكفر حيث اضطهدهم الكافرون ومنعوهم من إقامة الحق وهم عاجزون عن مقاومتهم، ولكنهم في الحقيقة غير معذورين، لأنه كان يجب عليهم الهجرة إلى المؤمنين الذين يعتزون بهم، إذ هم بحبهم لبلادهم وإخلادهم إلى أرضهم وسكونهم إلى أهليهم ومعارفهم ضعفاء في الحق لا مستضعفون، وهم بضعفهم هذا قد حرموا أنفسهم بترك الهجرة من خير الدنيا مما أفاء الله به على المؤمنين، ومن خير الآخرة بإقامة الحق وإعلاء كلمة الدين.
2. ظلمهم لأنفسهم: هو تركهم العمل بالحق خوفا من الأذى وفقد الكرامة عند ذوى قرابتهم من المبطلين.
3. هذا الاعتذار وما أشبهه مما يعتذر به الذين سايروا أهل البدع على بدعهم في عصرنا الحاضر بحجة دفع الأذى عن أنفسهم بمداراة المبطلين، وذلك عذر لا يعتد به، إذا الواجب عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى في سبيل الله، أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم.
4. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ أي إن الذين تتوفاهم الملائكة وتقبض أرواحهم حين انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمي أنفسهم برضاهم بالإقامة في دار الذل والظلم حيث لا حرية لهم في أعمالهم الدينية، ولا يتمكنون من إقامة دينهم ونصره وتأييده.
5. ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ أي تقول لهم الملائكة بعد توفيها لهم في أيّ شيء كنتم من أمر دينكم؟ أي إنهم لم يكونوا في شيء منه، إذ هم قدروا على الهجرة ولم يهاجروا.
6. ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ هذا اعتذار عن تقصيرهم الذي وبخوا عليه: أي إننا لم نستطع أن نكون في شيء يعتد به من أمر ديننا لاستضعاف الكفار لنا فعجزنا عن القيام بواجبات الدين بين أهل مكة، وهذه حجة لم تتقبلها الملائكة، ومن ثم ردوا عليهم المعذرة فقالوا لهم: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ وترحلوا إلى قطر آخر من الأرض، تقدرون فيه على إقامة الدين وتحرروا أنفسكم من رق الذل الذي لا يليق بالمؤمن، ولا هو من خصاله.
7. ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ أي إن أولئك الذين فصّلت حالهم الفظيعة نسكنهم في الآخرة جهنم لتركهم ما كان مفروضا عليهم، إذ كانت الهجرة واجبة في صدر الإسلام.
8. ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ أي وقبحت جهنم مصيرا لهم، لأن كل ما فيها يسوؤهم وفى هذا إيماء إلى أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة دينه كما يجب لبعض الأسباب، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة وجبت عليه الهجرة، أما المقيم في دار الكفر ولا يمنع ولا يؤذى إذ هو عمل بدينه وأقام أحكامه بلا نكير فلا يجب عليه أن يهاجر، كما هو مشاهد من المسلمين المقيمين في بلاد الإنكليز الآن، إلى أن الإقامة فيها ربما كانت سببا من أسباب ظهور محاسن الإسلام وإقبال الناس عليه.
__________
(1) تفسير المراغي 5/132.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد ذلك يتحدث عن فريق من القاعدين؛ أولئك الذين يظلون قاعدين في دار الكفر لا يهاجرون؛ تمسك بهم أموالهم ومصالحهم، أو يمسك بهم ضعفهم عن مواجهة متاعب الهجرة وآلام الطريق ـ وهم قادرون لو أرادوا واعتزموا التضحية ـ أن يهاجروا.. حتى يحين أجلهم؛ وتأتي الملائكة لتتوفاهم، يتحدث عنهم فيصورهم صورة زرية منكرة؛ تستنهض كل قاعد منهم للفرار بدينه وعقيدته، وبمصيره عند ربه؛ من هذا الموقف الذي يرسمه لهم.
2. لقد كان هذا النص يواجه حالة واقعة في الجزيرة العربية ـ في مكة وغيرها ـ بعد هجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقيام الدولة المسلمة، فقد كان هناك مسلمون لم يهاجروا، حبستهم أموالهم ومصالحهم ـ حيث لم يكن المشركون يدعون مهاجرا يحمل معه شيئا من ماله ـ أو حبسهم إشفاقهم وخوفهم من مشاق الهجرة ـ حيث لم يكن المشركون يدعون مسلما يهاجر حتى يمنعوه ويرصدوا له في الطريق.. وجماعة حبسهم عجزهم الحقيقي، من الشيوخ والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة للهرب ولا يجدون سبيلا للهجرة..
3. وقد اشتد أذى المشركين لهؤلاء الباقين من أفراد المسلمين؛ بعد عجزهم عن إدراك الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وصاحبه، ومنعهما من الهجرة، وبعد قيام الدولة المسلمة، وبعد تعرض الدولة المسلمة لتجارة قريش في بدر، وانتصار المسلمين ذلك الانتصار الحاسم، فأخذ المشركون يسومون هذه البقية المتخلفة ألوانا من العذاب والنكال، ويفتنونهم عن دينهم في غيظ شديد.
4. وقد فتن بعضهم عن دينهم فعلا؛ واضطر بعضهم إلى إظهار الكفر تقية، ومشاركة المشركين عبادتهم.. وكانت هذه التقية جائزة لهم يوم أن لم تكن لهم دولة يهاجرون إليها ـ متى استطاعوا ـ فأما بعد قيام الدولة، ووجود دار الإسلام، فإن الخضوع للفتنة، أو الالتجاء للتقية، وفي الوسع الهجرة والجهر بالإسلام، والحياة في دار الإسلام.. أمر غير مقبول.
5. وهكذا نزلت هذه النصوص؛ تسمي هؤلاء القاعدين محافظة على أموالهم ومصالحهم، أو إشفاقا من مشاق الهجرة ومتاعب الطريق.. حتى يحين أجلهم.. تسميهم: ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾.. بما أنهم حرموها الحياة في دار الإسلام، تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة، وألزموها الحياة في دار الكفر تلك الحياة الذليلة الخانسة الضعيفة المضطهدة، وتوعدهم ﴿جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾.. مما يدل على أنها تعنى الذين فتنوا عن دينهم بالفعل هناك! ولكن التعبير القرآني ـ على أسلوب القرآن ـ يعبر في صورة، ويصور في مشهد حي نابض بالحركة والحوار: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾!؟.
6. إن القرآن يعالج نفوسا بشرية؛ ويهدف إلى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها؛ وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة.. لذلك يرسم هذا المشهد.. إنه يصور حقيقة، ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام، في علاج النفس البشرية.. ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية، وتتحفز لتصور ما فيه، وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافا وتحفزا وحساسية، وهم ـ القاعدون ـ ظلموا أنفسهم، وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم.. ظالمي أنفسهم، وهذا وحده كفيل بتحريك النفس وارتجافها، إذ يكفي أن يتصور المرء نفسه والملائكة تتوفاه وهو ظالم لنفسه؛ وليس أمامه من فرصة أخرى لإنصاف نفسه، فهذه هي اللحظة الأخيرة.
7. ولكن الملائكة لا يتوفونهم ـ ظالمي أنفسهم ـ في صمت، بل يقلبون ماضيهم، ويستنكرون أمرهم! ويسألونهم: فيم أضاعوا أيامهم ولياليهم؟ وما ذا كان شغلهم وهمهم في الدنيا: ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾.. فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع؛ كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع! ويجيب هؤلاء المحتضرون، في لحظة الاحتضار، على هذا الاستنكار، جوابا كله مذلة، ويحسبونه معذرة على ما فيه من مذلة، ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾.. كنا مستضعفين، يستضعفنا الأقوياء، كنا أذلاء في الأرض لا نملك من أمرنا شيئا.
8. وعلى كل ما في هذا الرد من مهانة تدعو إلى الزراية؛ وتنفر كل نفس من أن يكون هذا موقفها في لحظة الاحتضار، بعد أن يكون هذا موقفها طوال الحياة.. فإن الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم، بل يجبهونهم بالحقيقة الواقعة؛ ويؤنبونهم على عدم المحاولة، والفرصة قائمة: ﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾.. إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم ـ إذن ـ على قبول الذل والهوان والاستضعاف، والفتنة عن الإيمان.. إنما كان هناك شيء آخر.. حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر، وهناك دار الإسلام، ويمسكهم في الضيق وهناك أرض الله الواسعة، والهجرة إليها مستطاعة؛ مع احتمال الآلام والتضحيات.
9. وهنا ينهي المشهد المؤثر، بذكر النهاية المخيفة: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/744.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآيات دعوة مشدّدة إلى محاربة الظلم والبغي والعدوان، بأسلوب غير أسلوب القوة، ولقاء العدوان بالعدوان، والشر بالشر، حين يكون الإنسان في وجه قوة عاتية متسلطة، ولا قدرة له على دفعها..
2. إن كرامة الإنسان تفرض عليه أن يدفع عن وجوده الضيم والذل، بكل ما يملك من وسائل مادية وغير مادية، وإلا فقد باع إنسانيّته بثمن بخس، ودرج نفسه في قائمة الخسيس من الحيوان، ولن يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلّان: غير الحىّ والوتد هذا على الخسف مربوط برمّته وذا يشج فلا يرثى له أحد وحين لا يجد الإنسان بين يديه القوة التي يدفع بها يد الظلم المسلّطة عليه، كان إمساك نفسه على هذا المرعى الخبيث وعدم التحول عنه، إقرارا بقبول الظلم، ونزولا على حكم الظالمين.
3. لهذا أوجب الإسلام على المسلم أن يحرك في نفسه كل قواه، لإنكار هذا الظلم، والتصدّى له: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾.. فحيث أمكنت المسلم القوة التي يدفع بها يد الظلم والبغي، وجب عليه أن يستعمل حقه، في الدفاع عن نفسه، وصيانة كرامته وإنسانيته.
4. وسلاح آخر، وضعه الإسلام في يد المسلم حين تخلو يده من سلاح القوة، وهو الهجرة من ديار الظالمين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يجد الإنسان وجوده وإنسانيته.. وبهذا يستنقذ نفسه، ويفوّت على الظالمين إشباع شهوة الظلم والتسلط، فيه، وفي غيره من المستضعفين، حيث فتح لهم الطريق إلى الخلاص مما هم فيه من بلاء، بالهجرة والفرار من وجه الظالمين!
5. وفي هذا الحديث الذي يدور بين الملائكة، وبين أولئك المستضعفين الذي أبوا أن يتحولوا عن مواطن الظلم ـ إيثارا لديارهم وأهليهم على كرامتهم وإنسانيتهم، ومعتقدهم ـ في هذا الحديث مساءلة لهؤلاء الذين استضعفوا فقبلوا هذا الاستضعاف ورضوا به، واتهام لهم بتلك الجناية التي جنوها على أنفسهم، وأذلّوا بها آدميّتهم، ومحاكمة تنتهى بهم إلى عذاب السعير في الآخرة، حيث ضاع إيمانهم فيما ضاع من آدميتهم، تحت سياط الظلم والعسف!
6. وهذا يعنى أن المؤمن لا يصبر أبدا على الظلم، ولا يقبله، وأنه إن قبله، وصبر عليه، لم يكن في المؤمنين.. لأن المؤمن عزيز بالله، كريم على الله.. وطاعم الظلم ومستسيغه لا عزّة له ولا كرامة! فمن وجد القدرة على الهجرة والفرار من وجه الظلم والبغي، ولم يهاجر فهو آثم عند الله.. لأنه في معرض الفتنة في دينه، وهيهات أن يسلم له دين، وهو في هذا الموطن، الذي تنطلق منه شرارات البغي، فتحرق مادياته ومعنوياته جميعا..
7. وليست الهجرة هنا مقصورة على زمن معين، أو مكان معين.. بل الهجرة مفتوحة في كل زمان، وإلى كل مكان، يجد فيه المؤمن متنفسا لمشاعره، ومنطلقا للسانه، ووجوها لسعيه!
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/878.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لمّا جاء ذكر القاعدين عن الجهاد من المؤمنين بعذر وبدونه، في الآية السالفة، كان حال القاعدين عن إظهار إسلامهم من الذين عزموا عليه بمكة، أو اتّبعوه ثمّ صدّهم أهل مكة عنه وفتنوهم حتّى أرجعوهم إلى عبادة الأصنام بعذر وبدونه، بحيث يخطر ببال السامع أن يتساءل عن مصيرهم إن هم استمرّوا على ذلك حتّى ماتوا، فجاءت هذه الآية مجيبة عمّا يجيش بنفوس السّامعين من التساؤل عن مصير أولئك، فكان موقعها استئنافا بيانيا لسائل متردّد، ولذلك فصلت، ولذلك صدّرت بحرف التأكيد، فإنّ حالهم يوجب شكّا في أن يكونوا ملحقين بالكفّار، كيف وهم قد ظهر ميلهم إلى الإسلام، ومنهم من دخل فيه بالفعل ثم صدّ عنه أو فتن لأجله.
2. الموصول هنا في قوّة المعرّف بلام الجنس، وليس المراد شخصا أو طائفة بل جنس من مات ظالما نفسه، ولما في الصلة من الإشعار بعلّة الحكم وهو قوله: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾، أي لأنّهم ظلموا أنفسهم.
3. معنى ﴿تَوَفَّاهُمُ﴾ تميتهم وتقبض أرواحهم، فالمعنى: أنّ الذين يموتون ظالمي أنفسهم، فعدل عن يموتون أو يتوفّون إلى توفّاهم الملائكة ليكون وسيلة لبيان شناعة فتنتهم عند الموت.
4. ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾ جمع أريد به الجنس، فاستوى في إفادة معنى الجنس جمعه، كما هنا، ومفرده كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: 11] فيجوز أن يكون ملك الموت الذي يقبض أرواح الناس واحدا، بقوة منه تصل إلى كلّ هالك، ويجوز أن يكون لكلّ هالك ملك يقبض روحه، وهذا أوضح، ويؤيّده قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾
5. ﴿تَوَفَّاهُمُ﴾ فعل مضي يقال: توفّاه الله، وتوفّاه ملك الموت، وإنّما لم يقرن بعلامة تأنيث فاعل الفعل، لأنّ تأنيث صيغ جموع التكسير تأنيث لفظي لا حقيقي فيجوز لحاق تاء التأنيث لفعلها، تقول: غزت العرب، وغزى العرب.
6. ظلم النفس أن يفعل أحد فعلا يؤول إلى مضرّته، فهو ظالم لنفسه، لأنّه فعل بنفسه ما ليس من شأن العقلاء أن يفعلوه لوخامة عقباه، والظلم هو الشيء الذي لا يحقّ فعله ولا ترضى به النفوس السليمة والشرائع، واشتهر إطلاق ظلم النفس في القرآن على الكفر وعلى المعصية.
7. اختلف في المراد به في هذه الآية:
أ. فقال ابن عباس: المراد به الكفر، وأنّها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا حين كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة، فلمّا هاجر أقاموا مع قومهم بمكة ففتنوهم فارتدّوا، وخرجوا يوم بدر مع المشركين فكثّروا سواد المشركين، فقتلوا ببدر كافرين، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ولكنّهم أكرهوا على الكفر والخروج، فنزلت هذه الآية فيهم، رواه البخاري عن ابن عباس، قالوا: وكان منهم أبو قيس بن الفاكه، والحارث بن زمعة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج؛ فهؤلاء قتلوا، وكان العباس بن عبد المطلب، وعقيل ونوفل ابنا أبي طالب فيمن خرج معهم، ولكن هؤلاء الثلاثة أسروا وفدوا أنفسهم وأسلموا بعد ذلك، وهذا أصحّ الأقوال في هذه الآية.
ب. وقيل: أريد بالظلم عدم الهجرة إذ كان قوم من أهل مكة أسلموا وتقاعسوا عن الهجرة، قال السديّ: كان من أسلم ولم يهاجر يعتبر كافرا حتّى يهاجر، يعني ولو أظهر إسلامه وترك حال الشرك، وقال غيره: بل كانت الهجرة واجبة ولا يكفّر تاركها، فعلى قول السدّي فالظلم مراد به أيضا الكفر لأنّه معتبر من الكفر في نظر الشرع، أي أنّ الشرع لم يكتف بالإيمان إذا لم يهاجر صاحبه مع التمكّن من ذلك، وهذا بعيد فقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ [الأنفال: 72] الآية؛ فأوجب على المسلمين نصرهم في الدين إن استنصروهم، وهذه حالة تخالف حالة الكفّار، وعلى قول غيره: فالظلم المعصية العظيمة، والوعيد الذي في هذه الآية صالح للأمرين، على أنّ المسلمين لم يعدّوا الذين لم يهاجروا قبل فتح مكة في عداد الصحابة، قال ابن عطية: لأنّهم لم يتعيّن الذين ماتوا منهم على الإسلام والذين ماتوا على الكفر فلم يعتدّوا بما عرفوا منهم قبل هجرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
8. جملة: ﴿قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ خبر (إنّ)، والمعنى: قالوا لهم قول توبيخ وتهديد بالوعيد وتمهيد لدحض معذرتهم في قولهم: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، فقالوا لهم ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها﴾، ويجوز أن يكون جملة: ﴿قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ موضع بدل الاشتمال من جملة ﴿تَوَفَّاهُمُ﴾، فإنّ توفّي الملائكة إيّاهم المحكي هنا يشتمل على قولهم لهم ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾
9. أمّا جملة ﴿قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ فهي مفصولة عن العاطف جريا على طريقة المقاولة في المحاورة، على ما بيّناه عند قوله تعالى: ﴿قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها﴾ في سورة البقرة، وكذلك جملة: ﴿قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً﴾، ويكون خبر (إنّ) قوله: ﴿فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وساءَتْ مَصِيراً﴾ على أن يكون دخول الفاء في الخبر لكون اسم إنّ موصولا فإنّه يعامل معاملة أسماء الشروط كثيرا، وقد تقدّمت نظائره.
10. الإتيان بالفاء هنا أولى لطول الفصل بين اسم (إنّ) وخبرها بالمقاولة، بحيث صار الخبر كالنتيجة لتلك المقاولة كما يدلّ عليه أيضا اسم الإشارة، والاستفهام في قوله: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ مستعمل للتقرير والتوبيخ، و(في) للظرفية المجازية، و(ما) استفهام عن حالة كما دلّ عليه (في)، وقد علم المسئول أنّ الحالة المسئولون أنّ الحالة المسئول عنها حالة بقائهم على الكفر أو عدم الهجرة، فقالوا معتذرين ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾
11. والمستضعف: المعدود ضعيفا فلا يعبأ بما يصنع به فليس هو في عزّة تمكّنه من إظهار إسلامه، فلذلك يضطرّ إلى كتمان إسلامه، والأرض هي مكة، أرادوا: كنّا مكرهين على الكفر ما أقمنا في مكة، وهذا جواب صادق إذ لا مطمع في الكذب في عالم الحقيقة وقد حسبوا ذلك عذرا يبيح البقاء على الشرك، أو يبيح التخلّف عن الهجرة، على اختلاف التفسيرين، فلذلك ردّ الملائكة عليهم بقولهم: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها﴾، أي تخرجوا من الأرض التي تستضعفون فيها، فبذلك تظهرون الإيمان أو فقد اتّسعت الأرض فلا تعدمون أرضا تستطيعون الإقامة فيها، وظاهر الآية أنّ الخروج إلى كلّ بلد غير بلد الفتنة يعدّ هجرة، لكن دلّ قوله: ﴿مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [النساء: 100] أنّ المقصود الهجرة إلى المدينة وهي التي كانت واجبة، وأمّا هجرة المؤمنين إلى الحبشة فقد كانت قبل وجوب الهجرة؛ لأنّ النبي وفريقا من المؤمنين، كانوا بعد بمكة، وكانت بإذن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا ردّ مفحم لهم.
12. المهاجرة: الخروج من الوطن وترك القوم، مفاعلة من هجر إذا ترك، وإنّما اشتقّ للخروج عن الوطن اسم المهاجرة لأنها في الغالب تكون عن كراهية بين الراحل والمقيمين، فكلّ فريق يطلب ترك الآخر، ثم شاع إطلاقها على مفارقة الوطن بدون هذا القيد.
13. الفاء في قوله: ﴿فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ﴾ [النساء: 97] تفريع على ما حكى من توبيخ الملائكة إيّاهم وتهديدهم، وجيء باسم الإشارة في قوله: ﴿فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ﴾ للتنبيه على أنّهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة من أجل الصفات المذكورة قبله، لأنّهم كانوا قادرين على التخلّص من فتنة الشرك بالخروج من أرضه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/231.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآيات السابقة ذكر سبحانه خروج المؤمنين مجاهدين، وما يجب أن يكون عليه المجاهد من حذر، فلا يثق بخائن أو منافق، ولا يضع سيفه على من يلقى إليه السلام، وذكر أن الخروج للجهاد واجب، وأن القعود لا يجوز إلا عند عدم الحاجة أو المعذرة، والقعود قسمان: قعود عن الجهاد، وقعود عن الهجرة، وإذا كان القعود الأول فيه ملامة إن لم يكن لمعذرة، فالقعود الثانى فيه ذلة، وفيه إثم الرضا بالذلة.
ولذا قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ معنى توفاهم الملائكة: تتوفاهم فهو فعل ماض أريد به المستقبل لتأكد وقوعه، كقوله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النحل] والمعنى: أن الذين تتوفاهم الملائكة الذين نيط بهم قبض الأرواح، قد توفوا في حال ظلمهم لأنفسهم، بسبب رضاهم بالذل والهوان، باستمرار إقامتهم في أرض لم يستطيعوا إقامة دينهم فيها، أو لم ينضموا إلى أهل الإسلام ليكثر بهم المسلمون، ويعظم جهادهم.
2. وقد روى البخارى أنها نزلت في ناس من المسلمين لم يهاجروا، فكانوا مع المشركين يكثر بهم سوادهم، وكانوا يخرجونهم معهم في القتال، فيصيبهم المسلمون بسهامهم أو سيوفهم، ومهما يكن سبب النزول، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، فإن كل مؤمن يعيش في أرض يستذل فيها، أو لا يستطيع إقامة حق دينه فيها، أو يعامل بغير الأحكام الإسلامية يكون من الواجب عليه أن يهاجر إلى الأرض التى يكثر فيها سواد المسلمين، وقد فهم هذا المعنى العام (الزمخشرى)، فقد قال في ذلك: (وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب، لبعض الأسباب، والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله تعالى، وأدوم على العبادة، حقت عليه المهاجرة، وعن النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم، ونبيه محمد)، وقد ذكر الزمخشرى أنه فعل ذلك صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ جاور بيت الله الحرام، وقال جار الله الزمخشرى داعيا ربه: (اللهم إن كنت تعلم أن هجرتى إليك لم تكن إلا للفرار بدينى، فاجعلها سببا في خاتمة الخير ودرك المرجو من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جوارى لك بعكوفى عند بيتك بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة)
3. هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالإقامة في دار لا تحكم بالإسلام، ولا يكون فيها قوة لأهل الحق ـ تسألهم الملائكة يوم القيامة، فيقولون لهم: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾، ويقول الزمخشرى إن المعنى: في أى شىء كنتم من أمر دينكم؟ والسؤال للتوبيخ، ومؤداه إنكم لم تكونوا مستطيعين إقامة شئون دينكم، فكيف ترضون بذلك؟ وعندى أن معنى النص: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾؟ في أى حال كنتم؟ أكنتم في عزة أم في ذلة؟ وكيف ترضون لأنفسكم الهوان، ولدينكم الدنية؟، والاستفهام للتوبيخ أيضا كما قرر الزمخشرى.
4. وقد أجابوا عن ذلك بما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾، ومعنى مستضعفين أنهم أريد ضعفهم وإذلالهم وعدم تمكينهم من إقامة الحق؛ لأن السين والتاء تدلان على طلب الضعف لهم من غيرهم، فهم يعتذرون بأن أعداء الدين أو المسيطرين عليهم أرادوا بهم هذا الضعف، وألزموهم إياه، فلم يستطيعوا عنه حولا!، وهذا اعتذار غير سليم، لأنهم كانوا في ذات أنفسهم ضعفاء، إذ رضوا بالذل والهوان، ولذلك قالت لهم الملائكة: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ والاستفهام هنا إنكارى أيضا، ومعناه: لقد كانت أرض الله تعالى واسعة، فلماذا لم تهاجروا إلى تلك الأرض الواسعة، حيث العزة، وحيث الجهاد، وحيث يكثر سواد المسلمين، ويعتز أهل الإيمان، ويكون المؤمنون بعضهم لبعض، ويكونون في الجهاد كالبنيان المرصوص المتماسك، كما قال النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا)
5. إن هذا النص الكريم يدل على أن المؤمن محاسب إذا رضى بالذل والدعة والعيش الناعم في غير أرض الإسلام، وأنه خير له أن يعيش في ظل الإسلام وفى خشن العيش مع العزة، من أن يعيش في نعيم مع الذلة، ولذا قال تعالى في عقاب هؤلاء المنقطعين عن الإسلام: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ أى إن هؤلاء الذين رضوا بالذل وظلموا أنفسهم، أو رضوا بأن يكونوا في قوة أعداء الإسلام، ولم يكونوا مع المسلمين، مدعين أن الضعف هو الذى أقعدهم ـ إذا كانوا قد ارتضوا الإقامة في مكان الهوان في الدنيا، فإن مأواهم الذى يأوون إليه في الآخرة هو جهنم، وهي مصيرهم الذى يصيرون إليه، ونهايتهم التى ينتهون إليها، وما أسوأ جهنم مآلا ونهاية ومأوى لمن يسيرون في طريقها، فأولئك جمعوا على أنفسهم هوان الدنيا وعذاب الآخرة!.
6. إن هذا النص يوجب على المؤمن أن يعيش عزيزا كريما، تكون قوته للمؤمنين، وعليه أن يجاهد في ذلك، وإن لم يفعل فقد جنى على نفسه مرتين: إحداهما بهوان الدنيا، الثانية بعذاب الآخرة.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1817.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان للمسلمين في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هجرتان من مكة: إحداهما إلى الحبشة، وكانت لخمس سنين من مبعثه، والثانية إلى المدينة، وكانت بعد ثماني سنين من الأولى، ومن الصحابة من هاجر الهجرتين، كجعفر بن أبي طالب الذي ختم حياته بالشهادة بعد أن قطعت يداه، فأكرمه الله عنهما بجناحين يطير بهما في الجنة، ومن أجلهما سمي الطيار.
2. أما سبب الهجرة فهو الابتعاد عن الوقوع في التهلكة، واللجوء إلى مكان الأمن، وتدبير الخطة للجهاد المنظم، ومصارعة الباطل وصرعه.. وبالهجرة وفضلها انتصر الإسلام على أعدائه، ولولاها لانطفأت شعلته، وتحول إلى رماد تذروه الرياح، ومن هنا كانت الهجرة حينذاك هي الفضيلة العظمى، والمنقبة الأولى التي لا يدانيها شيء.
3. هاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة إلى المدينة، وأمر المسلمين بالهجرة اليها، فاستجاب له كثيرون، وتخلف آخرون تمسكا بأموالهم ومصالحهم، لأن المشركين كانوا لا يدعون مهاجرا يحمل معه شيئا من ماله، ويشددون عليه بالأذى، ويمنعونه من اقامة دينه، وهو عاجز عن الدفاع والمقاومة، ولكنه كان قادرا على الخلاص والتحرر من الاضطهاد، واقامة الدين على أكمل الوجوه بالهجرة من دار الحرب على المسلمين إلى دار الإسلام والأمان، إلى المدينة، حيث النبي والصحابة.
4. لذلك وبخ الله سبحانه الذين آثروا البقاء في دار الكفر والحرب على الدين وأهله، وبخهم وأنبهم بلسان ملائكة الموت قائلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ بترك الجهاد والهجرة إلى دار الإسلام، والرضا بالبقاء في دار الكفر والاذلال والإخلال بواجبات الدين، وتكثير الكافرين وتقليل المؤمنين.
5. ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ أي قال ملائكة الموت للذين تركوا الهجرة: في أي شيء كنتم؟. وليس هذا سؤالا في واقعه، وانما هو تأنيب وتبكيت، وبديهة ان التأنيب يكون على شيء واقع ومعلوم، وهو هنا تخلفهم عن إخوانهم المهاجرين الذين أطاعوا الرسول في تنفيذ خطته لتحطيم الشرك وإعلاء كلمة الله.
6. سؤال وإشكال: هل كان هذا التوبيخ من ملائكة الموت للمتخلفين حين الاحتضار وقبل الموت، أم بعده؟ والجواب: ان علم هذا عند ربي، وقد سكت عنه، فنسكت نحن أيضا عما سكت الله عنه، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ان الله سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها)
7. ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾، هذا اعتذار واعتلال من المتخلفين، ومعناه ان المتخلفين أجابوا الملائكة الذين أنبوهم على التقصير في أمر الدين، أجابوهم: كنا عاجزين في دار الشرك عن القيام بواجبات الدين، لأن المشركين اضطهدونا، ومنعونا من ممارسة ما نعتقد، فرد الملائكة هذا الاعتذار و﴿قَالُوا﴾ ـ لهم مبكتين ـ: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾، أي كنتم قادرين على الهجرة إلى دار الإسلام، حيث تتخلصون من الذل، وتقيمون الدين في حرية، كما فعل غيركم من المسلمين.. وان دل هذا الحوار على شيء فإنما يدل على أن الله سبحانه لا يعذب أحدا الا بعد إتمام الحجة.. بل الا بعد تراكم الحجج عليه، بحيث لا يدع للمذنب ملجأ الا مغفرته تعالى ورحمته التي وسعت كل شيء.. اللهم وأنا شيء فلتسعني رحمتك.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/418.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ لفظ ﴿تَوَفَّاهُمُ﴾ صيغة ماض أو صيغة مستقبل ـ والأصل تتوفاهم حذفت إحدى التاءين من اللفظ تخفيفا ـ نظير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ [النحل: 28]
2. والمراد بالظلم كما تؤيده الآية النظيرة هو ظلمهم لأنفسهم بالإعراض عن دين الله وترك إقامة شعائره من جهة الوقوع في بلاد الشرك والتوسط بين الكافرين حيث لا وسيلة يتوسل بها إلى تعلم معارف الدين، والقيام بما تندب إليه من وظائف العبودية، وهذا هو الذي يدل عليه السياق في قوله: ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ إلى آخر الآيات الثلاث.
3. وقد فسر الله سبحانه الظالمين (إذا أطلق) في قوله: ﴿لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ [الأعراف: 45]، ومحصل الآيتين تفسير الظلم بالإعراض عن دين الله وطلبه عوجا ومحرفا، وينطبق على ما يظهر من الآية التي نحن فيها.
4. ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ أي فيما ذا كنتم من الدين، وكلمة (م) هي ما الاستفهامية حذفت عنها الألف تخفيفا.
5. في الآية دلالة في الجملة على ما تسميه الأخبار بسؤال القبر، وهو سؤال الملائكة عن دين الميت بعد حلول الموت كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا﴾ الآيات [النحل: 30]
6. ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ كان سؤال الملائكة ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ سؤالا عن الحال الذي كانوا يعيشون فيه من الدين، ولم يكن هؤلاء المسئولون على حال يعتد به من جهة الدين فأجابوا بوضع السبب موضع المسبب وهو أنهم كانوا يعيشون في أرض لا يتمكنون فيها من التلبس بالدين لكون أهل الأرض مشركين أقوياء فاستضعفوهم فحالوا بينهم وبين الأخذ بشرائع الدين والعمل بها.
7. ولما كان هذا الذي ذكروه من الاستضعاف ـ لو كانوا صادقين فيه ـ إنما حل بهم من حيث إخلادهم إلى أرض الشرك، وكان استضعافهم من جهة تسلط المشركين على الأرض التي ذكروها، ولم تكن لهم سلطة على غيرها من الأرض فلم يكونوا مستضعفين على أي حال بل في حال لهم أن يغيروه بالخروج والمهاجرة كذبتهم الملائكة في دعوى الاستضعاف بأن الأرض أرض الله كانت أوسع مما وقعوا فيه ولزموه، وكان يمكنهم أن يخرجوا من حومة الاستضعاف بالمهاجرة، فهم لم يكونوا بمستضعفين حقيقة لوجود قدرتهم على الخروج من قيد الاستضعاف، وإنما اختاروا هذا الحال بسوء اختيارهم.
8. ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ الاستفهام فيه للتوبيخ كما في قوله: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ ويمكن أن يكون أول الاستفهامين للتقرير كما هو ظاهر ما مر نقله من آيات سورة النحل لكون السؤال فيها عن الظالمين والمتقين جميعا، وثاني الاستفهامين للتوبيخ على أي حال.
9. وقد أضافت الملائكة الأرض إلى الله، ولا يخلو من إيماء إلى أن الله سبحانه هيأ في أرضه سعة أولا ثم دعاهم إلى الإيمان والعمل كما يشعر به أيضا قوله بعد آيتين ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾
10. ووصف الأرض بالسعة هو الموجب للتعبير عن الهجرة بقوله: ﴿فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ أي تهاجروا من بعضها إلى بعضها، ولولا فرض السعة لكان يقال: فتهاجروا منها.
11. ثم حكم الله في حقهم بعد إيراد المساءلة بقوله: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/49.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هل الضعف الذاتي لدى الإنسان يعتبر مبررا للاستسلام لمخطّطات المستكبرين في العقيدة وفي السلوك، فينحرفون معهم إذا انحرفوا، وينفذون خطط الظلم للآخرين إذا أرادوا ذلك؛ ويمتد بهم الانحراف والضلال، ثم يقفون بعد ذلك أمام الله ليبرروا أعمالهم، بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض، لا يملكون القدرة التي يستطيعون من خلالها الوقوف في وجه المستكبرين!؟.
2. إن هذه الآيات تحدد الاستضعاف الذي يمكن للإنسان أن يجد فيه السبيل للعذر أمام اللَّه، والاستضعاف الذي لا عذر للإنسان معه؛ لأن القضية لا تخضع ـ في ذاتها ـ للحالة الآنية التي يعيشها الإنسان، بل للظروف الموضوعية المحيطة به في حركة الحاضر والمستقبل، والفرص المتنوعة المتاحة له، للخروج من هذا الجو الخانق أو ذاك، والإمكانات المختلفة باختلاف المكان والزمان؛ فإذا كان يملك فرصة مستقبلية لعملية صنع القوة في المستقبل، فعليه أن ينتظر تلك الفرصة، فلا يستسلم تحت ضغط الضعف الحالي إلا بمقدار ما يتمكن من ترتيب عملية القفز نحو المستقبل من مواقعه الحاضرة، وإذا كان هناك مكان جديد يستطيع أن ينمّي قوته فيه، بعيدا عن التحديات الضاغطة؛ فعليه أن يهاجر إليه من أجل التزوّد بالقوة اللازمة للتصدي لمواقع الظلم والطغيان، والعمل على تهديم كيانها، وإضعاف قوتها، بل إزالتها نهائيا، بل إزالة قوتها، وهذا ما عبّرت عنه هذه الآيات في أسلوب يتحدث عن الموضوع من خلال علاقته بالمصير الذي ينتظر الإنسان في الآخرة على أساس سلوكه في الدنيا، وذلك بتقديم أحد النماذج المستسلمة لحالة الاستضعاف مع قدرتها على تجاوزها إلى حالة قوة.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ فقد جاءتهم الملائكة لتتوفاهم يأمر الله الذي أوكل إليهم أمر الموت، وكانوا في حالة الظلم لأنفسهم لأنهم انحرفوا في العقيدة والعمل، وهذا ـ أعني ظلم النفس وهو تعبير قرآني مميز عن الكفر والضلال الذي يؤدي بالإنسان إلى الهلاك، مما يجعل السير في طريقه ظلما للنفس وتعريضا لها للعذاب الأليم.
4. ولم يترك الملائكة هذه الحالة بدون حساب، فقد أوكل الله إليهم أمر التحقيق في أعمال الناس الذين يتوفونهم؛ وبدأت عملية التحقيق ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ ما هي الأجواء التي كنتم تتحركون في داخلها؟ وما هي الأسباب التي أدّت بكم إلى هذا السلوك؟ وما هي مبرراتكم التي تقدمونها بين أيديكم لتدافعوا بها عن أنفسكم؟
5. ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾، فلم تكن لنا قدرة على مواجهة هؤلاء الناس الذين يفرضون علينا العقيدة الباطلة والسلوك المنحرف، ولا يسمحون لنا بالتعرف على العقيدة الحقة، لأنهم يغلقون عنا سبل المعرفة من جميع الجهات، فلا نجد أمامنا إلا الباطل الذي يحيط بنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن يميننا وعن شمالنا، ولا نملك ـ في الوقت ذاته ـ حرية الحركة، في ما نريد أن نقوم به من عمل في نطاق الحق والهدى، لأنهم يحددون لنا الساحة التي نتحرك فيها ويحيطونها بأسلاك شائكة، تمنع النفاذ منها إلى ساحات أخرى.
6. ﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾؟ ولم يقتنع الملائكة بالجواب، بل حاولوا التوسع في التحقيق، لتحديد الحالة التي تخضع لحساب المسؤولية في واقعهم الفكري والعملي؛ فسألوهم عن إمكانيات الفرص البديلة للواقع الذي عاشوه، وعما إذا كانت هناك أرض أخرى حرة، لا يستطير عليها المستكبرون؛ بل تنطلق فيها الحرية الفكرية والعملية بأوسع مداها، مما يتيح لها مجال المعرفة الحرة والسلوك الحر، وكان السكوت هو الرد الذي قابلوا به هذا السؤال، لأنهم لا يملكون الإنكار أمام الحقيقة الحاسمة التي كانت تتمثل في حياتهم؛ فقد كانت لهم مجالات للهجرة إلى المواقع الجديدة التي يخرجون بها من حالة الاستضعاف هذه، ولكنهم استسلموا لحالات الاسترخاء والكسل والخشية من المتاعب الجسدية والمالية ونحوها، وعاشوا في خدمة المستكبرين؛ وبذلك حقّت عليهم كلمة اللَّه، وقامت عليهم الحجة ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾
7. أما إذا كان هذا الإنسان لا يملك الفرصة للهجرة ليتحرّر من ضغط القوى المستكبرة عليه، كما في الكثير من النماذج البشرية المسحوقة التي لا تملك الوسائل المتحركة لاستعمال الحيلة في الخروج من المأزق، ولا تهتدي السبيل للهجرة، لعجز في الطاقة الجسدية، أو لضعف في الإمكانات المادية والمعنوية؛ فهؤلاء قد يجدون بعض العذر عند اللَّه، وهذا ما عبرت عنه هذه الآية بأسلوب الاستثناء من القاعدة السابقة.
8. ربما تحدث المتحدثون ـ ولا سيما الفقهاء منهم ـ عن وجوب الهجرة من كل بلد يضعف فيه الإنسان دينيا مما قد يؤدي به ـ في نهاية المطاف ـ إلى الخروج من الدين، وذلك من خلال الاستيحاء من الآية، لأن مسألة ضغط المستكبرين لا خصوصية له إلا من حيث النتيجة السلبية التي قد تترتب على البقاء في مواقع سلطتهم، فإذا عاش الإنسان في بلد تنطلق فيه قوّة الكفر في امتداد فكره وسيطرة قيمه وأخلاقه وعاداته بالمستوى الذي يضغط فيه على المؤمن وعلى أهله ويحاصره في أوضاعه الخاصة والعامة بحيث لا يملك التخلص من التأثر به ـ ولو بشكل لا شعوري ـ مما قد يؤدّي ـ في نهاية المطاف ـ إلى ما يشبه الكفر إذا لم يؤدّ به إلى الكفر المباشر، وذلك في استسلامه الثقافي لثقافة الكفر وضعفه الروحي أمام روحيته، وانحرافه الأخلاقي أمام أخلاقه، وإذا كان يمكن أن يحفظ نفسه بعض الشيء من سيطرة الواقع الكافر على شخصيته، فإنه لا يملك أن يحفظ أولاده وأهله من ذلك، لأنهم لا يملكون أية مناعة ذاتية ضد السقوط تحت تأثير هذا الواقع الكافر أو الضال، مما يجعل من بقائه في هذا البلد أو ذاك سببا في السقوط الفردي أو العائلي إسلاميا، وانحرافا عن مدلول الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]
9. ولعل هذا هو ما نشاهده في هجرة الكثيرين من المسلمين إلى بلاد الغرب الذي يخضع في حضارته وقيمه وأوضاعه لفكر يختلف كثيرا عن فكر الإسلام، ولعادات وتقاليد ومناهج مضادة للإسلام في المبدأ والتفاصيل وقد انحرف الكثيرون منهم فكريا وأخلاقيا وروحيا بحيث عادوا مسلمين من دون إسلام في واقع الآباء الذي بقي الانتماء حيا في أشخاصهم بطريقة تقليدية، أما الأبناء، فقد ابتعدوا ابتعادا تاما عن الإسلام حتى لم يبق لهم من الإسلام شيء إلا ما يرددونه من بعض الكلمات في دائرتهم العائلية بفعل المجتمع الذي يتحركون فيه، والمدارس التي يتعلمون فيها، والأوضاع التي يعيشون في داخلها ويتأثرون بتفاصيلها.
10. ونحن نوافق هؤلاء الفقهاء على هذا الحكم، لأن قضية الهجرة الواجبة في مورد الآية لا خصوصية لها إلا من خلال الضعف الذي يعيش فيه المستضعفون تحت تأثير المستكبرين بما يؤدي إلى ضلالهم، فتشمل كل حالة مماثلة من حيث العيش في دائرة الاستكبار الثقافي والتربوي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي بما لا يملك الإنسان المؤمن الثبات على دينه في ساحاته، وهذا هو الذي أشار إليه الحديث المأثور: (لا تعرّب بعد الهجرة) باعتبار أن التعرب يمثل حالة البعد عن مصادر الثقافة الإسلامية والقوة الروحية والمجتمع العاصم من الانحراف، فيتحول الإنسان ـ بفعله ـ إلى شخص يشبه الأعراب الجاهليين الذين لا يملكون الوعي الإسلامي الثقافي والالتزام الديني والاستقامة الأخلاقية، مما تمثل الهجرة الخروج منه، وربما كان وجوب الهجرة في صدر الإسلام منطلقا من التخطيط الإسلامي لبناء الشخصية الإسلامية للمسلمين في دائرة المجتمع النظيف الذي يحميهم من كل قذارات الجاهلية، ليكون نموّهم بين المسلمين نموّا طبيعيا يتمثلون فيه فكر الإسلام وقيمه وعاداته وأخلاقياته بشكل دقيق، هذا بالإضافة إلى ما يريده الإسلام في تشريعه الهجرة من مكة إلى المدينة من تقوية المجتمع الإسلامي بتجميع كل أفراده وجماعاته في الموقع الإسلامي الجديد لمواجهة التحديات الكبرى التي يفرضها الشرك على الإسلام وأهله، وقد جاء عن أمير المؤمنين عليه السّلام (والهجرة قائمة على حدّها الأول)، لأن الظروف التي فرضت الهجرة في صدر الإسلام، تفرض الهجرة في المدى الزمني في حياة المسلمين، كما أن القضايا التي أريد تأكيدها وتأصيلها هي نفسها القضايا التي يراد تركيزها في المراحل الإسلامية في حركة الخط الإسلامي في الواقع، وأما الحديث الذي روي عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم (لا هجرة بعد الفتح)، فالظاهر أنه مخصوص بالهجرة من مكة، لأنها تحوّلت إلى بلد إسلامي في مجتمعة وسلطته، فلا مشكلة في البقاء فيه، بل ربما كان ذلك ضرورة في واقعه الجديد.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/417
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ عاصين لله ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ في مكان طاعة لله أم في مكان معصية؟ فإن كنتم في مكان طاعة، فكيف عصيتم ﴿وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ [آل عمران:101]؟ فهناك مكان الطاعة، وإن كنتم في مكان معصية فكيف لم تهاجروا إلى مكان الطاعة لتتمكنوا من طاعة الله!؟
2. ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ جواب غير مطابق للسؤال، كنا مغلوبين على أمرنا لا نستطيع طاعة ربنا ﴿قَالُوا﴾ أي الملائكة ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ لتتمكنوا من عبادة ربكم وتقواه، فليس الاستضعاف عذراً لكم مع تمكنكم من الهجرة ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ لأنهم ماتوا وهم ظالموا أنفسهم بمعصية الله تعالى.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/148.
93. المستضعفون العاجزون
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈93⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: 98 ـ 99]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
أبو هريرة:
روي عن أبي هريرة (ت 58 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو في دبر كل صلاة: اللهم، خلص الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا(1).
2. روي أنّه قال: بينا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي العشاء إذ قال: سمع الله لمن حمده، ثم قال قبل أن يسجد: اللهم، نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم، نج سلمة بن هشام، اللهم، نج الوليد بن الوليد، اللهم، نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم، اشدد وطأتك على مضر، اللهم، اجعلها سنين كسني يوسف(2).
__________
(1) أحمد ١٥/١٦٢.
(2) البخاري ١/١٦٠.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: لما أنزل الله: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ الخروج إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
__________
(1) الطبراني في المعجم الكبير ١٢/٣٨.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾، مؤمنون مستضعفون بمكة، فقال فيهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: هم بمنزلة هؤلاء الذين قتلوا ببدر ضعفاء مع كفار قريش، فأنزل الله فيهم: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٨٩.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾، يعني: الشيخ الكبير، والعجوز، والجواري الصغار، والغلمان(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٨٤.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن المستضعف؟ فقال: هو الذي لا يهتدي حيلة إلى الكفر فيكفر، ولا يهتدي سبيلا إلى الإيمان، لا يستطيع أن يؤمن ولا يستطيع أن يكفر، فهم الصبيان، ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم(1).
2. روي أنّه قال: المستضعفون: الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ـ قال ـ لا يستطيعون حيلة إلى الإيمان ولا يكفرون، الصبيان وأشباه عقول الصبيان من الرجال والنساء(1).
3. روي أنّه سئل عن المستضعف، فقال: هو الذي لا يستطيع حيلة يدفع بها عنه الكفر، ولا يهتدي بها إلى سبيل الإيمان، لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر ـ قال ـ والصبيان ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان(1).
4. روي أنّه سئل عن الدين الذي لا يسع العباد جهله، فقال: الدين واسع، ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم، قيل: جعلت فداك، فأحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: (بلى)، فقيل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، وأتولاكم، وأبرأ من أعدائكم، ومن ركب رقابكم، وتأمر عليكم، وظلمكم حقكم، فقال: (والله ما جهلت شيئا، هو والله الذي نحن عليه)، قيل: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال: (لا، إلا المستضعفون)، قيل: من هم؟ قال: نساؤكم وأولادكم ـ ثم قال ـ أرأيت ام أيمن فإني أشهد أنها من أهل الجنة، وما كانت تعرف ما أنتم عليه(2).
5. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ فقال: هو الذي لا يستطيع الكفر فيكفر، ولا يهتدي إلى سبيل الإيمان فيؤمن، والصبيان، ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم(3).
6. روي أنّه قال في المستضعفين الذين لا ﴿يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾: لا يستطيعون حيلة فيدخلوا في الكفر، ولم يهتدوا فيدخلوا في الإيمان، فليس هم من الكفر والإيمان في شيء(4).
7. عن زرارة، قال: قال الإمام الباقر وأنا أكلمه في المستضعفين: أين أصحاب الأعراف؟ أين المرجون لأمر الله؟ أين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا؟ أين المؤلفة قلوبهم؟ أين أهل تبيان الله؟ أين المستضعفون من الرجال والنساء والولدان ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾(5).
8. روي أنّه سئل عن المستضعفين، فقال: البلهاء في خدرها، والخادمة تقول لها: صلي فتصلي، لا تدري إلا ما قلت لها، والجليب الذي لا يدري إلا ما قلت له، والكبير الفاني، والصبي، والصغير، هؤلاء المستضعفون، فأما رجل شديد العنق، جدل خصم، يتولى الشراء والبيع، لا تستطيع أن تغبنه في شيء تقول: هذا المستضعف؟ لا، ولا كرامة(6).
__________
(1) الكافي 2/297.
(2) الكافي 2/298.
(3) معاني الأخبار: 201/4.
(4) معاني الأخبار: 203/11.
(5) تفسير العيّاشي 1/269.
(6) تفسير العيّاشي 1/270.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾، أي: لا قوة لهم فيخرجون من مكة إلى المدينة(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين ١/٤٠٠.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. عن حمزة بن الطيار، قال: قال لي الإمام الصادق: (الناس على ستة أصناف) قلت له: أتأذن لي أن أكتبها؟ قال: نعم، قلت: وما أكتب؟ قال: اكتب أهل الوعيد من أهل الجنة، وأهل النار، واكتب ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ قلت من هؤلاء؟ قال: وحشي منهم، قال: واكتب ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ قال: واكتب ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ لا يستطيعون حيلة إلى الكفر، ولا يهتدون سبيلا إلى الإيمان ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ قال: واكتب ﴿أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ﴾ قال قلت: وما أصحاب الأعراف؟ قال: قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنة فبرحمته(1).
2. روي أنّه سئل عن المستضعفين، فقال: (هم أهل الولاية)، قيل: أي ولاية؟ فقال: أما إنها ليست بالولاية في الدين، ولكنها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفار، ومنهم المرجون لأمر الله عز وجل(2).
3. روي أنّه قال: من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف(3).
4. روي أنه قيل له: إني ربما ذكرت هؤلاء المستضعفين، فأقول: نحن وهم في منازل الجنة، فقال: لا يفعل الله ذلك بكم أبدا(3).
5. روي أنّه ذكر أن المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضا، ومن لم يكن من أهل القبلة ناصبا فهو مستضعف(4).
6. روي أنّه قال في قول الله عز وجل: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ لا يستطيعون حيلة إلى النصب فينصبوا، ولا يهتدون سبيل أهل الحق فيدخلوا فيه، وهؤلاء يدخلون الجنة بأعمال حسنة، وباجتناب المحارم التي نهى الله عز وجل عنها، ولا ينالون منازل الأبرار(5).
7. روي أنه قيل له: ما حد المستضعف الذي ذكره الله عز وجل؟ فقال: من لا يحسن سورة من سور القرآن، وقد خلقه الله عز وجل خلقة ما ينبغي له أن لا يحسن(6).
8. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ﴾ قال: هم أهل الولاية، قيل: وأي ولاية؟ فقال: أما إنها ليست بولاية في الدين، ولكنها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفار، وهم المرجون لأمر الله عز وجل(7).
9. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ الآية، قال: يا سليمان، في هؤلاء المستضعفين من هو أثخن رقبة منك، المستضعفون قوم يصومون ويصلون، تعف بطونهم وفروجهم ولا يرون أن الحق في غيرنا، آخذين بأغصان الشجرة ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ إذا كانوا آخذين بالأغصان، وإن لم يعرفوا أولئك، فإن عفا عنهم فبرحمته، وإن عذبهم فبضلالتهم عما عرفهم(8).
10. روي أنّه سئل عن المستضعفين، فقال: البلهاء في خدرها، والخادمة تقول لها: صلي، فتصلي لا تدري إلا ما قلت لها، والجليب الذي لا يدري إلا ما قلت له، والكبير الفاني، والصبي الصغير، هؤلاء المستضعفون، فأما رجل شديد العنق جدل خصم، يتولى الشراء والبيع، لا تستطيع أن تغبنه في شيء، تقول: هذا مستضعف؟ لا، ولا كرامة(9).
11. روي أنّه قال: المستضعفون من الرجال والنساء لا ﴿يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ قال ـ لا يستطيعون سبيل أهل الحق فيدخلوا فيه، ولا يستطيعون حيلة أهل النصب فينصبوا ـ قال ـ هؤلاء لا يدخلون الجنة بأعمال حسنة، وباجتناب المحارم التي نهى الله عنها، ولا ينالون منازل الأبرار(10).
12. روي عن زرارة، قال: قيل للإمام الصادق: أتزوج المرجئة أو الحرورية أو القدرية؟ قال: (لا، عليك بالبله من النساء)، قال زرارة: فقلت: ما هو إلا مؤمنة أو كافرة؟ قال: فأين أهل استثناء الله؟ قول الله أصدق من قولك: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ إلى قوله: ﴿سَبِيلًا﴾(11).
13. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ قال: هم أهل الولاية، قيل: أي ولاية؟ فقال: (أما إنها ليست بولاية في الدين، ولكنها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفار، وهم المرجون لأمر الله(11).
14. روي أنّه سئل عن قوله: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ قال: يا سليمان، من هؤلاء المستضعفين من هو أثخن رقبة منك، المستضعفون قوم يصومون ويصلون، تعف بطونهم وفروجهم، لا يرون أن الحق في غيرنا، آخذين بأغصان الشجرة ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ كانوا آخذين بالأغصان ولم يعرفوا أولئك، فإن عفا عنهم فيرحمهم الله، وإن عذبهم فبضلالتهم عما عرفهم(12).
__________
(1) الكافي 2/281.
(2) الكافي 2/297.
(3) الكافي 2/298.
(4) معاني الأخبار: 200/1.
(5) معاني الأخبار: 201/5.
(6) معاني الأخبار: 202/7.
(7) معاني الأخبار: 202/8.
(8) معاني الأخبار: 202/9.
(9) معاني الأخبار: 203/10.
(10) تفسير العيّاشي 1/268.
(11) تفسير العيّاشي 1/269.
(12) تفسير العيّاشي 1/270.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم استثنى أهل العذر، فقال سبحانه: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾؛ فليس مأواهم جهنم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾، يقول: ليس لهم سعة للخروج إلى المدينة(1).
3. روي أنّه قال: ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾، والعسى من الله واجب(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٢.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: لما بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وظهر ونبع الإيمان نبع النفاق معه، فأتى إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رجال، فقالوا: يا رسول الله، لولا أنا نخاف هؤلاء القوم يعذبون ويفعلون ويفعلون لأسلمنا، ولكنا نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فكانوا يقولون ذلك له، فلما كان يوم بدر قام المشركون، فقالوا: لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره، واستبحنا ماله، فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معهم، فقتلت طائفة منهم، وأسرت طائفة، قال فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية كلها، ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم؟ ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾، قال ثم عذر الله أهل الصدق، فقال: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ يتوجهون له، لو خرجوا لهلكوا، قال: ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ إقامتهم بين ظهري المشركين، وقال الذين أسروا: يا رسول الله، إنك تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفا، فقال الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧٠] صنيعكم الذي صنعتم؛ خروجكم مع المشركين على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ﴾: خرجوا مع المشركين؛ ﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ [الأنفال: ٧١](1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ يتوجهون له، لو خرجوا لهلكوا(1).
3. روي أنّه قال: ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ إقامتهم بين ظهري المشركين(1).. (٤/٦٣٩ ـ ٦٤٠)
__________
(1) ابن جرير ٧/٣٨٧.
الرسّي:
ذكر الإمام محمد بن القاسم الرسي (ت 284 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾، يعني: فإن لم يمكنه النقلة، من ضعفة الرجال والنساء والولدان؛ لفقرهم وضعفهم، ثم قال: ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/262.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾، سئل عن هذه الآية جدي القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه، فقال: معنى قوله: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾، يعني: لم يمكنه النقلة والهجرة، عن أهل المعصية الظلمة الفجرة، ثم قال: ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: 99]
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/265.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ دلالة أن إسلام الولدان إذا عقلوا إسلامهم إسلام، وكفرهم كفر؛ لأنه تعالى استثناهم وعذرهم في ترك الهجرة؛ فلو لم يكن إسلامهم إسلامًا، ولا كفرهم كفرًا لكان مقامهم هنالك وخروجهم منها سواءً، ولا معنى للاستثناء في ذلك؛ إذا لم يكن عليهم خروج.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٣7.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم علم الله تعالى بضعف عباده المؤمنين والمؤمنات والأطفال فاستثناهم فقال عز وجل: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ فدل سبحانه بقوله لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً على أن من قدر على الهجرة بحيلة من الحيل، أو بسبب من الأسباب، ثم لم يهاجر فهو مستحق للسخط والعذاب، بريء من الله عدو لرب الأرباب.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/248.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم استثنى من ذلك المستضعفين الذين استضعفهم المشركون ﴿مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ وهم الذين يعجزون عن الهجرة لإعسارهم وقلة حيلتهم ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ يعني في الخلاص من مكة، وقيل معناه لا يهتدون لسوء معرفتهم بالطريق من أرضهم إلى أرض الإسلام استثنوا من جملة من أخبر أن مأواهم جهنم للعذر الذي هم فيه.
2. نصب المستضعفين بالاستثناء من الهاء والميم في قوله: ﴿مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ فقال تعالى ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ يعني لعل اللَّه أن يعفو عنهم لما هم عليه من الفقر ويتفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة من حيث لم يتركوا اختياراً ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ ومعناه لم يزل اللَّه ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده بترك عقوبتهم على معاصيهم (غفوراً) ساتراً عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها.
3. قال ابن عباس كنت أنا وأمي من المستضعفين، قال عكرمة وكان العباس منهم وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو في دبر صلاة الظهر اللهم خلص الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن ربيعة وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وبالجملة التي ذكرناها قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والسدي، وقتادة، والضحاك، وابن وهب، وابن جبير.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/303.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الضعف: نقصان القوة، وهو من الضعيف، يعني إذا ذهب شطرها فصارت ضعفًا، فأما الاستضعاف فوجدان الشيء ضعيفًا، كالاستطراف ونجدانه طريفًا، وقد كثر الضعف حتى صار نقيض القوة.
ب. ﴿عَسَى﴾ قال سيبويه: لعل وعسى طمع وإشفاق، فأما ﴿عَسَى﴾ من الله فقال الحسن: واجب، وقال غيره: وهو على شك في العباد، أي كونوا أنتم على الرجاء والطمع.
ج. ﴿أُولَئِكَ﴾ وأولاء بمعنًى غير أن ﴿أُولَاءِ﴾ لِمَا قرب، و﴿أُولَئِكَ﴾ لما بعد، كما أن ﴿ذَا﴾ لما قرب، و(ذاك) لما بعد، وإنما الكاف للخطاب دخلها معنى البعد؛ لأن ما بعد عن المخاطب يحتاج إلى علامة أنه مخاطب بذكره، ولا يحتاج ما قرب منه لوضوح أمره.
د. (العَفُوّ) فعول من ﴿الْعَفْوَ﴾، وهو لفظ يقع على الوصف بما هو عادة وسنة للموصوف، عن أبي مسلم.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في أناس من مكة تخلفوا عن الهجرة، وأعطوا المشركين المحبة.
ب. وقيل: قوم منهم ببدر على ظاهر الردة، فلم يقبل لهم معذرة، ثم استثنى الَّذِينَ أقعدهم الضعف عن الهجرة وهم مؤمنون، عن ابن عباس والضحاك والسدي وابن زيد وقتادة، قال ابن عباس: كنت أنا وأبي وأمي من الَّذِينَ لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وكنت غلامًا صغيرًا، وذكر الأصم عنه: كان أبي من المستضعفين من الرجال، وكانت أمي من المستضعفين من النساء، وكنت من المستضعفين من الولدان.
3. لما تقدم الوعيد على ترك الهجرة استثنى أهل العذر، فقال تعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ يعني من المؤمنين المقيمين بمكة، الَّذِينَ استضعفهم المشركون ﴿مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ وهم العجزة عن الهجرة بالعسرة وقلة الحيلة، وإنما ذكر الولدان؛ لأن الواجب إخراجهم إذا لحقهم حكم الإسلام، فمن لا يخرجهم كمن لا يخرج بنفسه ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ أي لا يقدرون على حيلة الخروج من قوت ونفقة.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾:
أ. قيل: لا يعرفون طريق الخروج منها.
ب. وقيل: لا يعرفون طريقًا إلى المدينة، عن مجاهد وقتادة وجماعة من المفسرين.
5. ﴿فَأُولَئِكَ﴾ يعني: مَنْ تقدم ذكرهم ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾:
أ. قيل: ﴿عَسَى﴾ من الله واجب عن الحسن.
ب. وقيل: هو من الله بمنزلة الوعد؛ لأنه لا يجوز عليه الشك، ومعناه يعفو عنهم يعني يتفضل عليهم بالعفو عن ترك الهجرة إذا تركوها للعجز.
6. ﴿وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا﴾ ذا صفح عن عباده، ﴿غَفُورًا﴾ يغفر ذنوبهم، ودخلت ﴿كَانَ﴾:
أ. قيل: كان كذلك قبل أن يَخلُق، يعني كان عفوًّا غفورا رحيمًا بعباده قبل خلقهم، عن الحسن.
ب. وقيل: القوم شاهدوا رحمة الله فأعلموا أن ذلك كانت من الله عادة أجراها في خلقه.
ج. وقيل: دخلت لتدل على ما وقع ووجد؛ لأنها لو ذكرت للصفة لجاز أن يتوهم أنها لما لم تقع وإنما المراد ما وقع، ذكر الأوجه الثلاثة أبو إسحاق الزجاج.
7. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن من لم يجد مَخْلَصًا كان معذورًا في ترك الهجرة.
ب. أن كل عبادة عجز عنها فهو معذور في تركها؛ لأن سبيلها سبيل الهجرة.
ج. بطلان قول الْمُجْبِرَةِ؛ لأنه تعالى إذا عذرهم من حيث لم يجدوا الحيلة فبأن يعذرهم إذا لم يقدروا أصلاً أولى، ومن وجه آخر ذكره أبو علي: لأنه خالف بين من يستطيع الهجرة، وبَيْن من لا يستطيع للعذر في سقوط العقاب، وهو خلاف قول الْمُجْبِرَة في أنه يعاقب على ترك الإيمان وإن لم يعطه القدرة، وأيضًا الكل عندهم سواء أنهم لا يستطيعون الهجرة إلا بعد الهجرة فما معنى الفرق؟
د. أنه عفو غفور كثير العفو والمغفرة؛ لأن بناء فعول) ينبئ عن الكثرة.
8. مسائل لغوية ونحوية:
أ. الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ قيل: من قوله: ﴿مَأْوَاهُمْ﴾ من الهاء والميم، وإنما صلح ذلك؛ لأنه في معنى فأولئك في جهنم إلا المستضعفين، ونصبـ ﴿الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ على الاستثناء، وكل استثناء من موجب نصب.
ب. لزمت ﴿عَسَى﴾ ﴿أَنْ﴾، ولم تلزم ﴿لَعَلَّ﴾ لأن ﴿عَسَى﴾ فعل واقع يتعلق بفعل مستقبل، فلزمت ﴿أَنْ﴾ للإنذار بهذا المعنى، وأما ﴿لَعَلَّ﴾ فلم يجب فيها ذلك؛ لأنها حرف على طريقة أخواتها في الدخول على الابتداء والخبر.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/39.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم استثنى من ذلك فقال: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ الذين استضعفهم المشركون ﴿مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ وهم الذين يعجزون عن الهجرة، لإعسارهم، وقلة حيلتهم، وهو قوله: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾:
أ. قيل: في الخلاص من مكة.
ب. وقيل: معناه لا يهتدون لسوء معرفتهم بالطريق، طريق الخروج منها: أي لا يعرفون طريقا إلى المدينة، عن مجاهد، وقتادة، وجماعة من المفسرين.
2. ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ معناه: لعل الله أن يعفو عنهم لما هم عليه من الفقر، ويتفضل عليهم بالصفح عنهم، في تركهم الهجرة من حيث لم يتركوها اختيارا ﴿وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا﴾ أي لم يزل الله ذا صفح بفضله، عن ذنوب عباده، بترك عقوبتهم على معاصيهم، ﴿غَفُورًا﴾ أي: ساترا عليهم ذنوبهم، بعفوه لهم عنها.
3. قال عكرمة: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو عقيب صلاة الظهر: (اللهم خلص الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وضعفة المسلمين، من أيدي المشركين)!
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/150.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ أنّ المسلمين قالوا في حقّ المستضعفين من المسلمين بمكّة: هؤلاء بمنزلة الذين قتلوا ببدر، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
2. ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ قال الزجّاج: (المستضعفين) نصب على الاستثناء من قوله تعالى: ﴿مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾، قال أبو سليمان: (المستضعفون): ذوو الأسنان، والنّساء، والصّبيان.
3. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ أي: لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكّة، ولا على نفقة، ولا قوّة، وفي قوله تعالى: ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم لا يعرفون الطريق إلى المدينة، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد.
ب. الثاني: أنهم لا يعرفون طريقا يتوجّهون إليه، فإن خرجوا هلكوا، قاله ابن زيد.
4. في ﴿عَسَى﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها بمعنى الإيجاب، قاله الحسن.
ب. الثاني: أنها بمعنى التّرجّي، فالمعنى: أنهم يرجون العفو، قاله الزجّاج.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/458.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم استثنى تعالى فقال: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ ونظيره قول الشاعر: (ولقد أمر على اللئيم يسبني) ويجوز أن يكون ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ في موضع الحال، والمعنى لا يقدرون على حيلة ولا نفقة، أو كان بهم مرض، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم من تلك المهاجرة، ثم قال: ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ أي لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلهم على الطريق.
2. روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة فقال جندب بن ضمرة لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، ولا أني لا أهتدي الطريق، والله لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، وكان شيخا كبيرا، فمات في الطريق.
3. سؤال وإشكال: كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد، فإن الاستثناء إنما يحسن لو كانوا مستحقين للوعيد على بعض الوجوه؟ والجواب: سقوط الوعيد إذا كان بسبب العجز، والعجز تارة يحصل بسبب عدم الأهبة وتارة بسبب الصبا، فلا جرم حسن هذا إذا أريد بالولدان الأطفال، ولا يجوز أن يراد المراهقون منهم الذين كملت عقولهم لتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله تعالى، وإن أريد العبيد والإماء البالغون فلا سؤال.
4. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ سؤال، وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة، والعاجز عن الشيء غير مكلف به، وإذا لم يكن مكلفا به لم يكن عليه في تركه عقوبة، فلم قال: ﴿عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ والعفو لا يتصور إلا مع الذنب، وأيضا (عسى) كلمة الإطماع، وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم؟ والجواب:
أ. عن الأول: أن المستضعف قد يكون قادرا على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة شاق ومشتبه، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك، ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزا مع أنه لا يكون كذلك، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام.
ب. عن الثاني: الفائدة في ذكر لفظة ﴿عَسَى﴾ هاهنا الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف الحال في غيره، هذا هو الذي ذكره صاحب (الكشاف) في الجواب عن هذا السؤال، إلا أن الأولى: أن يكون الجواب ما قدمناه، وهو أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزا عنها مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة، فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة ﴿عَسَى﴾ لا بالكلمة الدالة على القطع.
5. ثم قال تعالى: ﴿وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾ ذكر الزجاج في ﴿كَانَ﴾ ثلاثة أوجه:
أ. الأول: كان قبل أن خلق الخلق موصوفا بهذه الصفة.
ب. الثاني: أنه قال ﴿كَانَ﴾ مع أن جميع العباد بهذه الصفة والمقصود بيان أن هذه عادة الله تعالى أجراها في حق خلقه.
ج. الثالث: لو قال إنه تعالى عفو غفور كان هذا إخبارا عن كونه كذلك فقط، ولما قال إنه كان كذلك كان هذا إخبارا وقع مخبره على وفقه فكان ذلك أدل على كونه صدقا وحقا ومبرأ عن الخلف والكذب.
6. احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة فإنه لو لم يحصل هاهنا شيء من الذنب لامتنع حصول العفو والمغفرة فيه، فلما أخبر بالعفو والمغفرة دلّ على حصول الذنب، ثم إنه تعالى وعد بالعفو مطلقا غير مقيد بحال التوبة فيدل على ما ذكرناه.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/198.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي: (1)
1. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص، والسبيل سبيل المدينة، فيما ذكر مجاهد والسدي وغيرهما، والصواب أنه عام في جميع السبل.
2. ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ هذا الذي لا حيلة له في الهجرة لا ذنب له حتى يعفى عنه، ولكن المعنى أنه قد يتوهم أنه يجب تحمل غاية المشقة في الهجرة، حتى إن من لم يتحمل تلك المشقة يعاقب فأزال الله ذلك الوهم، إذ لا يجب تحمل غاية المشقة، بل كان يجوز ترك الهجرة عند فقد الزاد والراحلة، فمعنى الآية: فأولئك لا يستقصى عليهم في المحاسبة، ولهذا قال: ﴿وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ والماضي والمستقبل في حقه تعالى واحد، وقد تقدم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/347.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ هو استثناء من الضمير في مأواهم، وقيل: استثناء منقطع، لعدم دخول المستضعفين في الموصول وضميره، ﴿مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ متعلق بمحذوف، أي: كائنين منهم، والمراد بالمستضعفين من الرجال: الزمنى ونحوهم، والولدان: كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام؛ وإنما ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم لقصد المبالغة في أمر الهجرة، وإيهام أنها تجب لو استطاعها غير المكلف، فكيف من كان مكلفا؛ وقيل: أراد بالولدان: المراهقين والمماليك.
2. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ صفة للمستضعفين، أو: للرجال والنساء والولدان، أو: حال من الضمير في المستضعفين، وقيل: الحيلة: لفظ عام لأنواع أسباب التخلص، أي: لا يجدون حيلة ولا طريقا إلى ذلك، وقيل: السبيل: سبيل المدينة.
3. ﴿فَأُولَئِكَ﴾ إشارة إلى المستضعفين الموصوفين بما ذكر ﴿عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ وجيء بكلمة الإطماع لتأكيد أمر الهجرة، حتى يظن أن تركها ممن لا تجب عليه يكون ذنبا يجب طلب العفو عنه، وقيل: إنما سمي مهاجرا ومراغما: لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم، فسمى خروجه مراغما، وسمي مسيره إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هجرة، والحاصل في معنى الآية: أن المهاجر يجد في الأرض مكانا يسكن فيه على رغم أنف قومه الذين جاورهم، أي: على ذلهم وهوانهم.
4. ﴿وَسَعَةً﴾ أي: في البلاد؛ وقيل: في الرزق، ولا مانع من حمل السعة على ما هو أعمّ من ذلك.
__________
(1) فتح القدير: 1/584.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ الموجودين ضعفاء، أو المعدومين ضعفاء، لعرج أو مرض أو عمًى أو ضعف بدن أو نحو ذلك، أو المقهورين، والاستثناء منقطع، فإنَّ المستضعفين الموتى أو المستضعفين مطلقًا لا يطيقون الهجرة، فلا يكلَّفون بما لا طاقة به، فلم يدخلوا في ﴿الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَآئِكَةُ﴾، ولا في ﴿مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾، ولا سيما الصبيان، وهم المراد بـ (الْوِلْدَانِ)، حتَّى إنَّه لا يُتَوهَّم دخولهم مع أنَّه لا مانع من توهُّم بادئ الرأي دخولهم، فذِكْرُهُم مع عدم توهُّم دخولهم مبالغةٌ في التحذير، أو مراعاةٌ لإشرافهم على وجوب الهجرة بقرب البلوغ، ومراعاةٌ لمن سيبلغ قبل نسخ الهجرة، ومراعاةٌ لهجرة قائمهم بهم، كما خوطب قائموهم بزكاة أموالهم، وبشؤونهم.
2. ﴿مِنَ الرِّجَالِ﴾ كعيَّاش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، ﴿وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ الصبيان، وقد يطلق على الذكور والإناث، وهو المراد في الآية تغليبًا للذكور، ويجوز أن يراد بهم المماليك، ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ يتوصَّلون بها إلى الهجرة، ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾ لا يعرفون طريقًا إلى المدينة، ولا يجدون دليلاً، أو لا يهتدون إلى سبيل، أو لا يهتدي سبيلهم بل يعوجُّ لو خرجوا إليها.
3. ﴿فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَّعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ تأكيد في أمر الهجرة، حتَّى كأنَّها واجبة ولو على الأطفال والضعفاء الذين لا يطيقونها، وكأنَّ تركهم إياها ذنب يُعفى عنه، وهو أيضًا دعاء إلى أن يَهتمَّ بها هؤلاء، ويَطلُبوا لها إمكانا، وأكَّدها بصيغة الإِطماع أيضًا، إذ لم يجزم مع أنَّ إطماع الله جزم.
4. قال ابن عبَّاس: (أنا وأمِّي مِمَّن عفا الله عنهم)، لأنَّه من الولدان، وأمُّه أمُّ الفضل بنت الحارث، واسمها: لبابة، أخت ميمونة، وأختها الأخرى لبابة الصغرى، وهنَّ تسع، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم فِيهِنَّ: (الأخوات مؤمنات)، ومنهنَّ سلمى، وحفيدة أم حفيد واسمها هزيلة، والعصماء، وهنَّ ستُّ شقائق، وثلاث لأمِّ سلمى، وسلامة، وأسماء بنت عميس الخثعميَّة امرأة جعفر بن أبي طالب، وامرأة أبي بكر، وأمُّ علي.
5. ﴿وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ لمن تاب عن ترك الهجرة وغيره.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/264.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم استثنى سبحانه من أهل الوعيد ما بينه بقوله تعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ﴾ لعمى أو عرج أو مرض أو هرم أو فقر ﴿وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ أي: الصبيان فإنهم معذورون في ترك الهجرة لأنهم ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ في الخروج، إذ لا قوة لهم على الخروج ولا نفقة ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ أي: لا يعرفون طريقا إلى دار الهجرة.
2. ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ أي يتجاوز عنهم بترك الهجرة.. قال أبو السعود: جيء بكلمة (الإطماع) ولفظ (العفو) إيذانا بأن الهجرة من تأكيد الوجوب بحيث ينبغي أن يعد تركها، ممن تحقق عدم وجوبها عليه، ذنبا يجب طلب العفو عنه، رجاء وطمعا، لا جزما وقطعا، وقال المهايميّ: فيه إشعار بأن ترك الهجرة أمر خطير، حتى إن المضطر حقه أن يترصد الفرصة ويعلّق قلبه بها، وإن الصبيّ إذا قدر فلا محيص له عنه، وإن قوّامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم، ثم أكد الإطماع لئلا ييأسوا فقال ﴿وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾ وفي إقحام (كان) إشارة إلى اتصافه تعالى بهذه الصفة قبل خلق الخلق، أو أن هذه عادته تعالى، أجراها في حق خلقه، ووعده بالعفو والمغفرة مطلقا مما يدل على أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/293.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ دل الوعيد في الآية السابقة مع الاستثناء في هذه الآية على أن أولئك الذين اعتذروا عن عدم إقامة دينهم وعدم الفرار به هجرة إلى الله ورسوله غير صادقين في اعتذارهم فإن الاستضعاف الحقيقي عذر صحيح ولذلك استثنى أهله من الوعيد بهذه الآية، وقرن الرجال بالنساء والولدان فيها يشعر بأن المراد بالرجال الشيوخ الضعفاء والعجزة الذين هم كمن ذكر معهم.
2. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ أي قد ضاقت بهم الحيل كلها فلم يستطيعوا ركوب واحدة منها، وعميت عليهم الطرق جميعها فلم يهتدوا طريقا منها، إما للزمانة والمرض، وإما للفقر والجهل بمسالك الأرض وأخراتها ومضايقها، قال بعض المفسرين: (بحيث لو خرجوا هلكوا) أي بركوب التعاسيف أو قلة الزاد أو عدم الراحلة، وفسر بعضهم الولدان هنا بالعبيد والإماء، وقال بعضهم: بل هم الأولاد الصغار الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض وروي عن ابن عباس أنه قال: (كنت أنا وأمي من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون إلى الهجرة سبيلا،) واستشكل بأن الأولاد غير مكلفين فلا يتناولهم الوعيد فيحتاج إلى استثنائهم، وأجاب في الكشاف بأنه (يجوز أن يكون المراد المراهقين منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء فيلحقوا بهم في التكليف)، ويجوز أن يكونوا قد ذكروا تبعا لوالديهم، لأنهم يكلفون أن يهاجروا بهم، فإذا كان الوالدان عاجزين عن السير مع الوالدين والولدان عاجزين عن حملهم كان من عذرهما أن يتركا الهجرة ما داما عاجزين ولا يكلفان ترك أولادهم.
3. ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ والإشارة بأولئك إلى من استثناهم ممن توعدهم على ترك الهجرة، أي إن أولئك المستضعفين الذين لم يهاجروا للعجز وتقطع الأسباب والحيل وتعمية السبل يرجى أن يعفو الله عنهم ولا يؤاخذهم بالإقامة في دار الكفر، والوعد بعسى الدالة على الرجاء، أطمعهم تعالى بالعفو ولم يجزم به للإيذان بأن أمر الهجرة مضيق فيه، وأنه لا بد منه، ولو باستعمال دقائق الحيل، والبحث عن مضايق السبل، حتى لا يخدع محب وطنه نفسه ويعد ما ليس بمانع مانعا.
4. صرح كثير من المفسرين بأن صيغة الرجاء من الله تعالى للتحقيق والقطع، وليس هذا الذي قالوه بالتحقيق الذي يقطع به، وإنما الرجاء فيها بالنسبة إلى المخاطب وعلم الله بتحقيق الرجاء أو عدمه قطعي، وقال محمد عبده: قالوا إن (عسى) في كلام الله للتحقيق، ولا يصح على إطلاقه لأنه يسلب الكلمة معناها فكأنه لا محل لها، ونقول فيها ما قلناه في لعل وهو أن معناها الإعداد والتهيئة، والمعنى أنه تعالى يعدهم ويهيئهم لعفوه، والنكتة في اختيار التعبير عن التحقيق بعسى الدالة على الترجي إن صح هي تعظيم أمر ترك الهجرة وتغليظ جرمه.
5. ﴿وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾ أي وكان شأن الله تعالى العفو عن المخالفات التي لها أعذار صحيحة بعدم المؤاخذة عليها، ومغفرتها بسترها في الآخرة وعدم فضيحة صاحبها، لأنه تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها.
__________
(1) تفسير المنار: 5/291.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ أي إن أولئك الذين اعتذروا عن عدم إقامة دينهم وعدم الفرار به هجرة إلى الله ورسوله غير صادقين في اعتذارهم، أما الاستضعاف الحقيقي فهو عذر مقبول كأولئك الشيوخ الضعفاء والعجزة كعياش بن أبى ربيعة وسلمة بن هشام، والنساء كأم الفضل أم عبد الله بن عباس، والولدان كعبد الله المذكور وغيره.
2. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ أي إنهم قد ضاقت بهم الحيل فلم يستطيعوا ركوب واحدة منها، وعمّيت عليهم الطرق فلم يهتدوا طريقا منها، إما للعجز كمرض وزمانة، وإما للفقر، وإما للجهل بمسالك الأرض ومضايقها بحيث لو خرجوا لهلكوا كما قالوا في أمثالهم (قتلت أرض جاهلها) وقد أثر عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال كنت أنا وأمي من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون إلى الهجرة سبيلا، والمراد بالولدان هنا المراهقون الذين قربوا من البلوغ وعقلوا ما يعقل الرجال والنساء فيلحقون بهم في التكليف بوجوب الهجرة معهم، أو أن تكليفهم هو تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر.
3. ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ أي إن أولئك المستضعفين الذين لم يهاجروا للعجز وتقطع الأسباب يرجى أن يعفو الله عنهم ولا يؤاخذهم بالإقامة في دار الكفر، وفى هذا إيماء إلى أن العفو مطموع فيه غير مجزوم به، وإلى أن أمر الهجرة مشدّد فيه ولو باستعمال الحيل والبحث عن مضايق السبل، وبذا لا يخدع أحد ممن يحب وطنه نفسه، فيعدّ ما ليس بمانع مانعا.
4. هذا الرجاء الذي تفيده (عسى) بالنسبة إلى المخاطب، أو إنها هنا للتهيئة والإعداد: أي إنه تعالى يعدّهم ويهيئهم لعفوه، وفى هذا رمز إلى تعظيم أمر الهجرة، وإلى أن تركها جرم عظيم، وإلى أنه ينبغي أن يترصد لها الفرصة السانحة ويعلّق قلبه بها.
5. ﴿وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾ أي وكان شأن الله تعالى العفو عن الذنوب التي لها أعذار صحيحة بعدم المؤاخذة عليها، ومغفرتها بسترها وعدم فضيحة صاحبها في الآخرة.
__________
(1) تفسير المراغي 5/134.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يستثني الله تعالى من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر؛ والتعرض للفتنة في الدين؛ والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ الضعاف، والنساء والأطفال؛ فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته ورحمته، بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾..
2. ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان؛ متجاوزا تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين، وفي بيئة معينة.. يمضي حكما عاما؛ يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض؛ وتمسكه أمواله ومصالحه، أو قراباته وصداقاته؛ أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها، متى كان هناك ـ في الأرض في أي مكان ـ دار للإسلام؛ يأمن فيها على دينه، ويجهر فيها بعقيدته، ويؤدي فيها عباداته؛ ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة الله، ويستمتع بهذا المستوي الرفيع من الحياة..
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/745.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ استثناء وارد على الحكم العام الذي حكم به الله تعالى على المستضعفين الذين سكنوا إلى الظالمين، ولم يهاجروا.. فهؤلاء المستضعفون من الرجال والنساء، والولدان، لا حيلة لهم ولا قدرة معهم على الهجرة، فهم معذرون إذا لم يهاجروا، وقد أعفاهم الله من هذا العقاب الذي أخذ به القادرين على الهجرة، وقعدوا عنها.
2. ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ تحريض لهؤلاء المستضعفين أن يكونوا على نيّة الهجرة دائما، وأن يعملوا لها، وأن يرصدوا أسباب القدرة عليها، فإن أمكنتهم الهجرة هاجروا.. وإلا فإن الله كان غفورا رحيما، يغفر لهم ما يكون منهم من ضعف يمسّ عقيدتهم، رحمة بهم من رب رحيم.
__________
(1) التفسير القرآنى للقرآن: 3/880.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ استثناء من الوعيد، والمعنى إلّا المستضعفين حقّا، أي العاجزين عن الخروج من مكة لقلّة جهد، أو لإكراه المشركين إيّاهم وإيثاقهم على البقاء: مثل عيّاش بن أبي ربيعة المتقدّم خبره في قوله تعالى: ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء: 92]، ومثل سلمة بن هشام، والوليد بن الوليد، وفي (البخاري) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يدعو في صلاة العشاء: (اللهمّ نجّ عيّاش بن أبي ربيعة اللهمّ نجّ الوليد بن الوليد، اللهمّ نجّ سلمة بن هشام اللهمّ نجّ المستضعفين من المؤمنين)، وعن ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
2. التبيين بقوله: ﴿مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ لقصد التعميم، والمقصد التنبيه على أنّ من الرجال مستضعفين، فلذلك ابتدئ بذكرهم ثم ألحق بذكرهم النساء والصبيان لأنّ وجودهم في العائلة يكون عذرا لوليّهم إذا كان لا يجد حيلة، وتقدّم ذكرهم بقوله تعالى: ﴿وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والْوِلْدانِ﴾ [النساء:75]، وإعادة ذكرهم هنا ممّا يؤكّد أن تكون الآيات كلّها نزلت في التهيئة لفتح مكة.
3. جملة: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ حال من المستضعفين موضّحة للاستضعاف ليظهر أنّه غير الاستضعاف الذي يقوله الذين ظلموا أنفسهم ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾، أي لا يستطيعون حيلة في الخروج إمّا لمنع أهل مكة إيّاهم، أو لفقرهم، ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ أي معرفة للطريق كالأعمى.
4. جملة ﴿فَأُولئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ الفاء فيها للفصيحة، والإتيان بالإشارة للتنبيه على أنّهم جديرون بالحكم المذكور من المغفرة، وفعل ﴿عَسَى﴾ في قوله: ﴿فَأُولئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ يقتضي أنّ الله يرجو أن يعفو عنهم، وإذ كان الله هو فاعل العفو وهو عالم بأنّه يعفو عنهم أو عن بعضهم بالتعيين تعيّن أن يكون معنى الرجاء المستفاد من ﴿عَسَى﴾ هنا معنى مجازيا بأنّ عفوه عن ذنبهم عفو عزيز المنال، فمثّل حال العفو عنهم بحال من لا يقطع بحصول العفو عنه، والمقصود من ذلك تضييق تحقق عذرهم، لئلّا يتساهلوا في شروطه اعتمادا على عفو الله، فإنّ عذر الله لهم باستضعافهم رخصة وتوسعة من الله تعالى، لأنّ البقاء على إظهار الشرك أمر عظيم، وكان الواجب العزيمة أن يكلّفوا بإعلان الإيمان بين ظهراني المشركين ولو جلب لهم التعذيب والهلاك، كما فعلت سميّة أمّ عمّار بن ياسر، وهذا الاستعمال هو محمل موارد عَسَى و(لعلّ) إذا أسندا إلى اسم الله تعالى كما تقدّم عند قوله تعالى: ﴿وإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ والْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ في سورة البقرة [53]، وهو معنى قول أبي عبيدة: (عسى من الله إيجاب) وقول كثير من العلماء: أنّ عسى ولعلّ في القرآن لليقين، ومرادهم إذا أسند إلى الله تعالى بخلاف نحو قوله: ﴿وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾ [الكهف: 24]، ومثل هذا ما قالوه في وقوع حرف (إن) الشرطية في كلام الله تعالى، مع أنّ أصلها أن تكون للشرط المشكوك في حصوله.
5. وقد اتّفق العلماء على أنّ حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة لأنّ الهجرة كانت واجبة لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين، وللتمكّن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك، فلمّا صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها، ويؤيّده حديث: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة) فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلّا المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة، وفي الحديث: (اللهمّ امض لأصحابي هجرتهم ولا تردّهم على أعقابهم) قاله بعد أن فتحت مكة.
6. غير أنّ القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظرا في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه، وهذه أحكام يجمعها ستّة أحوال:
أ. الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصّر، فخرجوا على وجوههم في كلّ واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانهم، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة 902 وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة 1016.
ب. الثانية: أن يكون ببلد الكفر غير مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضرّ وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمّى الإقامة ببلد الحرب المفسّرة بأرض العدوّ.
ج. الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلّا أنّهم لم يفتنوا الناس في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنّه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية، وظاهر قول مالك أنّ المقام في مثل ذلك مكروه كراهة شديدة من أجل أنّه تجري عليه أحكام غير المسلمين، وهو ظاهر المدوّنة في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعتبية، كذلك تأوّل قول مالك فقهاء القيروان، وهو ظاهر الرسالة، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته، وارتضاه ابن محرز وعبد الحقّ، وتأوّله سحنون وابن حبيب على الحرمة وكذلك عبد الحميد الصائغ والمازري، وزاد سحنون فقال: إنّ مقامه جرحة في عدالته، ووافقه المازري وعبد الحميد، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحجّ وغيره، وقال البرزلي عن ابن عرفة: إن كان أمير تونس قويّا على النصارى جاز السفر، وإلّا لم يجز، لأنّهم يهينون المسلمين.
د. الرابعة: أن يتغلّب الكفّار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنّهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي، وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم، فإنّ أهلها أقاموا بها مدّة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك، وهاجر فريق منهم فلم يعب المهاجر على القاطن، ولا القاطن على المهاجر.
هـ. الخامسة: أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرّفهم في قومهم، وولاية حكّامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكنّ تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمّى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب، كما وقع في مصر مدّة احتلال جيش الفرنسيس بها، ثم مدّة احتلال الأنقليز، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرانسا، وكما وقع في سوريا والعراق أيّام الانتداب وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها.
و. السادسة: البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلط عملا صالحا وآخر سيّئا ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلّا بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلا وهذه روي عن مالك وجوب الخروج منها، رواه ابن القاسم، غير أنّ ذلك قد حدث في القيروان أيّام بني عبيد فلم يحفظ أنّ أحدا من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة، وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله، وحدث في مصر مدّة الفاطميين أيضا فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين.
7. ودون هذه الأحوال الستّة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنّها مراتب، وإنّ لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/234.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ هذا استثناء من المصير الذى سيئول إليه هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وهؤلاء هم ضعفاء حقا، فقد استضعفهم الأعداء وأرهقوهم، ولم تكن عندهم قوة تمكنهم من الإفلات من بقائهم في أرضهم وخروجهم إلى أرض الإسلام:
أ. أولهم: ضعفاء الرجال من الشيوخ الفانين، والمرضى وذوى العاهات، ونحوهم، ومن هؤلاء من كان لا يرضى بالذلة ولو فنى بالطريق! ويروى أنه لما نزلت هذه الآية بعث بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى مسلمى مكة، فقال ضمرة بن جندب لبنيه: احملونى، فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدى إلى الطريق، والله لا أبيت ليلة بمكة!، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، وكان شيخا كبيرا، فمات في الطريق!.
ب. الثاني: النساء اللائي لا يستطعن الخروج، إما لثقلهن بالأولاد، وإما لخشية أمن الطريق، وإما لعدم وجود زوج يصحبها، ولا ذي رحم محرم يكون معها في الطريق.
ج. والصنف الأخير: الولدان، وقد قال بعض المفسرين: إنهم العبيد ونحوهم، وذلك القول ليس بشيء والأصح أنهم الصبيان، ويقول الزمخشري إنهم الذين تجاوزوا الحلم قريبا، ويصح أن يكون المراد هؤلاء الأولاد الذين يتبعون آباءهم، أو الذين ليس لهم آباء يتبعونهم، وهم بهذا الضعف غير مسئولين، واستثناؤهم لعدم تكليفهم أو لأنهم لا قوة لهم على تفسير الزمخشري إذ إن ضعف الصبا لا يزال بهم، إذا كانوا قد بلغوا الحلم، ولم يدخلوا في دور الرجولة.
2. وقد ذكر سبحانه الوصف الذى استوجب استثناءهم، فقال سبحانه: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾، والحيلة المراد بها التحول من حالهم التي هم عليها إلى غيرها أي لا يستطيعون تحولا ولا انتقالا لعجزهم المطلق بمرض أو زمانة أو شيخوخة، أو يستطيعون التحول، ولكن لا يهتدون إلى الطريق الموصل كالصبيان القريبى العهد بالبلوغ، بحيث لو خرجوا هلكوا.
3. ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾ إن هؤلاء الذين استضعفوا حقا وصدقا بسبب ضعفهم، عسى أن يعفو الله عنهم، أي يرجى أن يكونوا محل عفو الله تعالى، فلا يؤاخذهم برضاهم بالبقاء في أرض الذل، فالفاء هنا هي فاء السببية، أي أن السبب في أنهم محل عفو الله، ورجاء العفو لهم، هو ضعفهم، وهنا بحثان تشير إليهما الآية الكريمة:
أ. أولهما ـ أن الهجرة هي الأمر المفروض الذى لا مناص منه إلا عند العذر الشديد، وإن الأعذار يقدرها أصحابها، ومع وجودها يرجى لهم العفو، ويرجونه، ويقول الزمخشري إن هذا يدل على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى إن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عنى، وهذا كله معناه أن الأصل هو الهجرة.
ب. ثانيهما ـ أن الأمور التي يرخص بها في مقابل واجب مفروض، لا تكون مباحة في ذاتها، بل تكون في مرتبة العفو؛ لأن المباح يكون مطلوبا على وجه التخيير، وهذه لا طلب فيها، بل رخص بها في الترك، والأصل وجوب الهجرة.
4. وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بأنه كثير العفو عن عباده في الرخص التي يرخص لهم بها، كثير المغفرة لمن تاب وأناب، والله سبحانه وتعالى رحيم بعباده.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1821.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن هدد سبحانه وتوعد المتخلفين استثنى منهم المعذورين لمرض أو عدم النفقة، وأسقط عنهم تكليف الهجرة، لأن الله لا يكلف نفسا الا وسعها.
2. سؤال وإشكال: ان استثناء الرجال والنساء المعذورين له وجه معلوم.. فما الوجه لاستثناء الولدان، مع العلم بأنهم ليسوا من أهل التكليف؟ والجواب: أجيب عن هذا السؤال بأن المراد بالولدان هنا العبيد والإماء.. أما نحن فنجيب بأن كثيرا من الولدان يستطيعون الهجرة بخاصة المراهقين، بل ان بعضهم أقدر عليها من الكبار، ومن أجل هذا قد يتوهم متوهم ان الهجرة تجب على من قدر منهم، فدفع الله هذا التوهم، وبيّن ان الهجرة تجب على كل قادر إلا إذا كان من الولدان.
3. استدلّ الفقهاء بهذه الآية على أن المسلم لا يجوز له أن يقيم في بلد الكفر إذا تعذر عليه اقامة الدين فيه، حتى ولو كان وطنه، وله فيه أملاك ومصالح، ولا موضوع اليوم لهذا الحكم، لأن لكل إنسان في كل بلد أن يعبد الله بالشكل الذي يريد، فإذا ترك فهو وحده المسئول.
4. سؤال وإشكال: إذا علم ان إقامته في بلد غير مسلم تؤدي به إلى ترك الفريضة.. لا لأن أحدا يمنعه عنها، بل لضعف الدافع عليها، ووجود الصارف عنها، كالملاهي ونحوها: فهل تجوز له الاقامة في هذا البلد؟ والجواب: إذا علم علما يقينيا ان الذهاب إلى أي مكان كان بلدا أو مجلسا أو سوقا يوقعه حتما في ترك الواجب، أو فعل الحرام وجب عليه الاحجام عنه، وإذا كان مقيما فيه وجب عليه الرحيل عنه، لأن السبب التام الذي يستلزم حتما الحرام فهو حرام.. قال تعالى: ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الانعام: 68]، وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (والهجرة قائمة على حدها الأول) أي لم يزل حكمها الوجوب على من يتعذر عليه القيام بأحكام دينه إلا في بلد مسلم، أما قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا هجرة بعد الفتح) فان المراد به الهجرة من مكة، وتدل عليه لفظة الفتح.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/420.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ الاستثناء منقطع، وفي إطلاق المستضعفين على هؤلاء بالتفسير الذي فسره به دلالة على أن الظالمين المذكورين لم يكونوا مستضعفين لتمكنهم من رفع قيد الاستضعاف عن أنفسهم وإنما الاستضعاف وصف هؤلاء المذكورين في هذه الآية، وفي تفصيل بيانهم بالرجال والنساء والولدان إيضاح للحكم الإلهي ورفع للبس.
2. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ الحيلة كأنها بناء نوع من الحيلولة ثم استعملت استعمال الآلة فهي ما يتوسل به إلى الحيلولة بين شيء وشيء أو حال للحصول على شيء أو حال آخر، وغلب استعماله في ما يكون على خفية وفي الأمور المذمومة، وفي مادتها على أي حال معنى التغير على ما ذكره الراغب في مفرداته، والمعنى: لا يستطيعون ولا يتمكنون أن يحتالوا لصرف ما يتوجه إليهم من استضعاف المشركين عن أنفسهم، ولا يهتدون سبيلا يتخلصون بها عنهم فالمراد من السبيل على ما يفيده السياق أعم من السبيل الحسي كطريق المدينة لمن يريد المهاجرة إليها من مسلمي مكة، والسبيل المعنوي وهو كل ما يخلصهم من أيدي المشركين، واستضعافهم لهم بالعذاب والفتنة.
3. يتبين بالآية أن الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف ليس فيه صنع للإنسان الجاهل كان عذرا عند الله سبحانه، توضيحه: أن الله سبحانه يعد الجهل بالدين وكل ممنوعية عن إقامة شعائر الدين ظلما لا يناله العفو الإلهي، ثم يستثني من ذلك المستضعفين ويقبل منهم معذرتهم بالاستضعاف ثم يعرفهم بما يعمهم وغيرهم من الوصف، وهو عدم تمكنهم مما يدفعون به المحذور عن أنفسهم، وهذا المعنى كما يتحقق فيمن أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقي معارف الدين لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج والهجرة إلى دار الإسلام والالتحاق بالمسلمين لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر مالي ونحو ذلك كذلك يتحقق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينية ولم يهتد فكره إليه مع كونه ممن لا يعاند الحق ولا يستكبر عنه أصلا بل لو ظهر عنده حق اتبعه لكن خفي عنه الحق لشيء من العوامل المختلفة الموجبة لذلك.
4. فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا لا لأنه أعيت به المذاهب بكونه أحيط به من جهة أعداء الحق والدين بالسيف والسوط، بل إنما استضعفته عوامل أخر سلطت عليه الغفلة، ولا قدرة مع الغفلة، ولا سبيل مع هذا الجهل.
5. هذا ما يقتضيه إطلاق البيان في الآية الذي هو في معنى عموم العلة، وهو الذي يدل عليه غيرها من الآيات كقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286] فالأمر المغفول عنه ليس في وسع الإنسان كما أن الممنوع من الأمر بما يمتنع معه ليس في وسع الإنسان.
6. وهذه الآية ـ أعني آية البقرة ـ كما ترفع التكليف بارتفاع الوسع كذلك تعطي ضابطا كليا في تشخيص مورد العذر وتمييزه من غيره، وهو أن لا يستند الفعل إلى اكتساب الإنسان، ولا يكون له في امتناع الأمر الذي امتنع عليه صنع، فالجاهل بالدين جملة أو بشيء من معارفه الحقة إذا استند جهله إلى ما قصر فيه وأساء الاختيار استند إليه الترك وكان معصية، وإذا كان جهله غير مستند إلى تقصيره فيه أو في شيء من مقدماته بل إلى عوامل خارجة عن اختياره أوجبت له الجهل أو الغفلة أو ترك العمل لم يستند الترك إلى اختياره، ولم يعد فاعلا للمعصية، متعمدا في المخالفة، مستكبرا عن الحق جاحدا له، فله ما كسب وعليه ما اكتسب، وإذا لم يكسب فلا له ولا عليه.
7. ومن هنا يظهر أن المستضعف صفر الكف لا شيء له ولا عليه لعدم كسبه أمرا بل أمره إلى ربه كما هو ظاهر قوله تعالى بعد آية المستضعفين: ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [براءة: 106] ورحمته سبقت غضبه.
8. ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ هؤلاء وإن لم يكسبوا سيئة لمعذوريتهم في جهلهم لكنا بينا سابقا أن أمر الإنسان يدور بين السعادة والشقاوة وكفى في شقائه أن لا يجوز لنفسه سعادة، فالإنسان لا غنى له في نفسه عن العفو الإلهي الذي يعفى به أثر الشقاء سواء كان صالحا أو طالحا أو لم يكن، ولذلك ذكر الله سبحانه رجاء عفوهم.
9. إنما اختير ذكر رجاء عفوهم ثم عقب ذلك بقوله: ﴿وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾ اللائح منه شمول العفو لهم لكونهم مذكورين في صورة الاستثناء من الظالمين الذين أوعدوا بأن مأواهم جهنم وساءت مصيرا.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/51.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ استثنى الله المستضعفين الذين ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ لطاعة الله ولا للهجرة ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ للخروج إلى حيث يتخلصون من قبضة المشركين ويطيعون ربهم.
2. ﴿وَالْوِلْدَانِ﴾ الصغار الذين بلغوا حد التكليف ولم يبلغوا حد المعرفة كيف يتخلصون بسبب غفلة الصغر، أو هم العبيد والإماء على الإطلاق، وخصُّوا بالذِكر؛ لأنهم في الغالب يكونون في قبضة ملاكهم مغلوبين على أمرهم.
3. ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾ ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المستضعفون حقيقة وصدقاً ﴿عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ قال الشرفي في (المصابيح): (صرّح الهادي، وابناه ـ أحمد الناصر، ومحمد المرتضىعليه السلام ـ في تفسيرهم لكتاب الله: بأن ﴿عَسَى﴾ من الله واجب، وأنه ليس على وجه الشك)
4. في الآيتين دلالة على وجوب الهجرة على من لم يستطع أن يتم دينه إلا بها، فهي كقوله تعالى: ﴿يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ [العنكبوت:56] ويدخل في عمومها، من يضطر إلى معاونة الظلمة بالمال أو غيره على الظلم، ومن لا يستطيع تعلم دينه إلا بالهجرة، والمرأة التي يحملها زوجها على ترك الصلاة أو الصيام، أو يطأها وهي حائض ولا تستطيع الفرار منه، فلا يعذر إلا من لا يستطيع حيلة للتخلص ولا يهتدي سبيلاً، لا يدري من أين يذهب إلى حيث يتخلص، فأما دليل وجوب الهجرة إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلى إمام الهدى بعده، فهو في أواخر (سورة الأنفال) غير مشروط بظلم المكلف نفسه إن لم يهاجر.
5. ﴿وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾ يفيد: أنه تعالى عفو غفور في الماضي مع الحال، فهو لم يزل عفواً غفوراً منذ خَلَق العباد وكلَّفهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/150.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾ مراعاة لظروفهم الصعبة، وربما كان التعبير بكلمة ﴿عَسَى﴾ التي لا توحي بالجزم، ليظل الإنسان في حالة استنفار دائم لقدراته وإمكاناته، فلا يسترخي أمام حالة العجز بشكل سريع.
2. ﴿وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾ فقد سبقت رحمته غضبه، فيما ينحرف به الناس عن الخط نتيجة هفوة أو ضعف أو عجز.. فإنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو خير الغافرين.
3. لا بد لنا من إيضاح ما أشرنا إليه ضمن حديثنا هذا، وهو أن الاستضعاف قد يكون في العقيدة؛ وذلك في الحالات التي لا يملك فيها الإنسان وسائل المعرفة للانفتاح على ما هناك من أفكار وأديان وشرائع، وقد يكون الاستضعاف في العمل والسلوك، وذلك في المجالات التي تكون فيها إرادته مسحوقة تحت ضغط إرادة أخرى قاهرة؛ وفي كلا الحالين يتحدد العذر بإمكانات التخلّص من الطوق المضروب حول الإنسان بالهجرة إلى أماكن أخرى، أو بالانتظار إلى وقت آخر، أو بغير ذلك من الوسائل العملية للخروج من المأزق، فمع توفرها لا عذر للإنسان بالبقاء في حالة الضعف، أما مع عدم توفرها، فإن الله هو العفوّ الغفور.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/420.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية الكريمة تستثني المستضعفين والعاجزين الحقيقيين لا المزيفين، فتقول: إنّ أولئك الرجال والنساء والأطفال الذين لم يجدوا لأنفسهم مخرجا للهجرة، ولم يتمكنوا من إيجاد وسيلة للنجاة من محيطهم الملوث، فهم مستثنون من حكم العذاب، لأنّ هؤلاء معذورون في الحقيقة، وإنّ الله لا يكلف نفسا ما لا تطيق، ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾
2. الآية الكريمة تبيّن احتمال أن يشمل الله بعفوه هؤلاء، إذ تقول: ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا﴾
3. سؤال وإشكال: لو أن هؤلاء الأشخاص كانوا في الحقيقة معذورين، فلماذا لا تعدهم الآية بعفو إلهي حتمي، بل تبين احتمال أن يشملهم هذا العفو إذ تأتي الآية بعبارة (عسى) لتأكيد احتمالية الأمر؟ والجواب: هو نفس الجواب الذي ذكرناه في ذيل الآية من سورة النساء والذي بيّنا من خلاله أن القصد من استخدام مثل هذه العبارات هو أن الحكم الوارد في الآية مقيد بشروط خاصّة يجب الالتفات إليها، وهنا يكون الشرط هو أن يتبادر هؤلاء المستضعفون حقيقة إلى الهجرة ـ دون تردد ـ حتى ما سنحت لهم فرصة ذلك دون أن يقصروا في هذا الأمر فعند ذلك يشملهم العفو الإلهي.
4. لدى البحث في الآيات القرآنية والأحاديث والروايات يستنتج أن المستضعف هو ذلك الشخص الذي يعاني من ضعف فكري أو بدني أو اقتصادي يمنعه من التعرف على الحق والباطل، أو أنه ذلك الذي يستطيع التعرف على العقيدة الصادقة الحقة، إلّا أنّه ولمعاناته من عجز جسماني أو مالي أو قيود يفرضها عليه المحيط الذي يعيش فيه، يعجز عن أداء واجباته التي كلّف بها بصورة كاملة، كما يعجز عن القيام بالهجرة.
5. عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام أنّه قال: (ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه)، عن الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام أنه حين سئل: أي قوم يقال لهم المستضعفون؟ فأجاب عليه السّلام كتابة: (الضعيف من لم ترفع له حجة، ولم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف) واضح من الروايات المذكورة أنّ المستضعف هو ذلك الذي يعاني من ضعف فكري عقائدي، إلّا أنّ الآية موضوع البحث والآية من نفس هذه السورة التي سبق وأن تحدثنا فيها تدلان على أنّ المستضعف هو ذلك الذي استضعف عمليا، فهو يعرف الحق ويميزه، ولكن الكبت الذي يعاني منه في المحيط الذي يعيش فيه لا يسمح له بالعمل بالحق الذي عرفه.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/404.